الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (التنازع في العمل) وحد التنازع مع بعض الشروط
* أي العاملين أولى بالعمل في باب التنازع؟
* حكم معمول العامل المهمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمدُ لله رَبِّ العالَمِين، والصلاة والسلام على نبيِّنا مُحمَّد، وعلى آله وصَحبه أجمعين، أمّا بَعدُ:
قال الناظِم -رَحمَه الله تعالى-: (التَّنَازُعُ فِي العَمَل):
البيت في الباب الأخير:
وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا
…
وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزَمَا
وذكرت أن الألف هنا للإطلاق، لا بل هي عِوَضٌ عن التنوين؛ يعني:(كان) ناقِصة، و (حذفُه) هذا اسمها، و (مُلْتَزَماً) هذا خبرها، حينئذٍ تكون هذه الألف بدلاً عن التنوين.
قال الناظِم: (التَّنَازُعُ فِي العَمَل)، لما بيَّن لك الفعل المُتَعَدِّي من الفعل اللازِم؛ حينئذٍ كان الأصل في العامل أن يَطلب معمولاً واحداً، هذا الأصل فيه، فما اقتضَى رَفْع فاعلٍ، أو نَصْبَ مفعولٍ حينئذٍ لا يتعدَّى إلا إلى فاعل، أو مفعول بِه واحد فحَسْب.
والعامل -كما سبق بيانه-: ما أوجب كونَ آخِر الكلمة على وجه مخصوص: من رَفْعٍ، أو نَصْبٍ، أو خَفْضٍ، أو جَزمٍ.
(ما) شيءٌ؛ سواء كان معنوياً، أو لفظياً، (أَوْجَب) بمعنى أنه اقتضَى؛ لأن العامل إنما يعمل لكونه مقتضياً لما بعدَه، فالمعمول يكون متمِّماً لمعناه.
(ما أَوْجَب كون آخر الكلمة على وجهٍ مخصوص)، والمراد بالوجه المخصوص: الرفع، والنصب، والخفض، والجزم، العامل يَقتضِي مَعمولاً، وهو: ما يَظهر فيه أثرُ الإِعراب لفظاً أو تقديراً، والعَمَل: هو الذي يَقتضيه العامل، فالعامِل الذي يَطلب فاعلاً حينئذٍ يقتضي الرفع على الفاعلية، والعامِل الذي يَقتضِي مفعولاً بِه حينئذٍ يَقتضِي النَّصْبَ على المفعولية، هذا الاقتضاء -الذي يعبر عنه بالطلب- هو العمل، العملُ إنما يكون في آخر الكلمة، له ارتباط بالعامل.
إذاً عندنا عامِل، وعندنا معمول، وعندنا عَمَل، فقام زيدٌ، (قام) هذا فعل، وهو العامل، عَمِل الرفع في زيد، لماذا؟ لأن (قام) فعلٌ لازِم، والفعل اللازِم يَطلب فاعِلاً، إذاً طلبُه للفاعل اقتضى رفْع زيدٍ على أنه فاعِل له، هذا هو العمَل، فقام زيد تمَّم معناه، لو قيل:(قام) هكذا لوحده نقول: هذا الكلام ناقص ليس بِتامّ، إذا قيل:(زيد) حينئذٍ نقول: تمَّم معناه، وهذا معنى العمل، معنى العمل: أنه يتمِّم معناه، ولذلك قد يُشكِل على الطالب الجارُ والمجرور متعلق بماذا؟
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ
…
يَختلفون: هذا يَرى أن الجار والمجرور متعلِّق بكذا، وآخَر يقول: متعلِّق بكذا، السبب في الخلاف: هو أن هذا الجار والمجرور .. أيُّ اللفظين يتمِّم معناه أكثر؟ وأي اللفظَين هو مُفتقِر إليه في تمام معناه؟ فما رأيتَه أنه متمِّم لمعناه، وأنه أحوج لئن يتعلَّق به الجار والمجرور؛ حينئذٍ صار معمولاً له، فقل: الجار والمجرور متعلِّق بكذا، فلا يَلتَبِس عليك من حيث المعنى، فتنظر في المعنى: هذا العامل يقتضي الجار والمجرور، أو العامل الثاني، لو علَّقناه بهذا ماذا يكون المعنى؟ ولو عَلَّقناه بما سبق ماذا يكون المعنى؟
حينئذٍ ما كان أنسب من المعاني فهو أولى به؛ لأنه قد يَتنازع عاملان فأكثر في جار ومجرور، أو ظرف، فالمعنى هو الذي يَقتضِي ذلك، حينئذٍ نقول:(قام) اقتضى رفع (زيد) على أنه فاعل له، و (زيد) معمول لـ (قام)، معمول لأنه فاعل، والرفع الذي هو ضَمَّةٌ في آخِر (زيد) هو العمل، دليل العمل على مذهب الكوفيِّين، وهو العمل على مذهب البصريِّين من جَعْل الإعراب لفظياً، وهو دليل العمل من جَعْله معنوياً.
هذا العامل من شروطه: أنه لا يَتعدَّد عاملان على معمول واحد من جهة واحدة، لا يمكن أن يوجد عاملان يَطلبان فاعلاً واحداً من جهة واحدة، حينئذٍ لا يَجتمع عاملان على معمول، ولا يكون معمولٌ لعاملَين البَتَّةَ.
فإذا كان كذلك؛ حينئذٍ ما وجد وظاهره أنه تَسلَّط عاملان على معمولٍ واحدٍ -والأصل المنع- لكن جاء في لسان العرب ما ظاهره أن ثَمّ عاملَين يطلبان معمولاً واحداً، وهذا الاسم الظاهر، أو المعمول الذي يَقتضيه الفعل الأول والفعل الثاني .. لا يمكن أن يجتمعا؛ للقاعدة السابقة: أنّ ما كان مُتمِّماً لفعل لا يكون مُتمِّماً للآخر من الجهة نفسِها، أو من الحيثية نفسِها، وحينئذٍ نقول: إذا اجتمع عاملان على معمول واحدٍ فما العمل؟
هذا الذي عَقَد له النحاةُ باب التنازُع في العمل، حينئذٍ الباب السابق ذَكَر فيه التعدِّي واللزوم، وكل واحد منهما يأخذ نَصيبه من الأسماء الظاهرة، فاللازِم يَطلب فاعلاً واحداً ولا يَطلب فاعِلَين، والفاعل الذي طلبه الفعل اللازم لا يَطلبه فعل آخَر، وكذلك المفعول به إذا نَصبه فعلٌ مُتعدٍّ، حينئذٍ لا يَطلبه فعلٌ آخر، إن وُجِد في لسان العرب ما ظاهره التنازُع والتجاذُب بين العوامل على معمول واحد -والأصل المنع-؛ ماذا نصنع؟ عَقَد النحاة هذا الباب من أجْل حلّ هذه المشكلة، فقالوا: باب التنازُع في العمل، تَنَازُع: تَفاعُل، والمراد به التجاذُب.
إذاً الأصل في الباب أنه على خلاف الأصل؛ لأن الأصل ألا يَتسلط عاملان على معمول واحد، وألا يَقتضي ويَطلب عاملان معمولاً واحداً، هذا هو الأصل، حينئذٍ جاء الباب على خلاف الأصل، ولذلك بعضُهم يرى أن هذا الباب مُولَّد عند النحاة، يعني: ليس له أصل في لسان العرب، لكن ليس الأمر كذلك، هو من حيث الأصل موجود، وأما من حيث التفريعات فهذا فيه بعضُ النظَر.
التنازُع في اللغة: التجاذُب، (التَّنَازُعُ فِي العَمَل) هكذا أطلقه الناظِم، ويسمَّى: بابَ الإِعمال.
تنازُع: تَفاعُل، مأْخُوذ من تَجاذُب، كلٌّ منهما يَجذِب ذلك الاسم ليكون معمولاً له، والآخَر يدخل عليه ويريد أن يكون ذلك الاسم الظاهر معمولاً له، حينئذٍ وقع بينهما نزاع.
(في العَمَل) في اقتضاء كل منهما فاعلاً، أو مفعولاً، أو اقتضاء واحد منهما فاعلاً والآخَر مفعولاً، قد يَتحدُّ من حيث الطلب أن يكون فاعلاً، وقد يَختلف من حيث الأول يَطلب فاعلاً، والثاني يطلب مفعولاً كما سيأتي.
وأما في الاصطلاح: فالمراد به من حيث الحقيقة: أن يَتقدم عاملان على معمولٍ، كلٌّ منهما طالِب له من جهة المعنى.
(أن يتقدَّم) -لا بد من شرط التقدُّم- (يتقدم عاملان على معمول، كلٌّ منهما طالب له من جهة المعنى)، فإذا قلت: قام وقعد زيد، (قام وقعد) عاملان، و (زيد) معمول، (قام) يطلب (زيد) على أنه فاعل له، يَطلبه من جهة المعنى؛ يُريد أن يتمِّم معناه، و (قعد) يطلب (زيد) على أنه معمول له، ولا يمكن أن يجتمعا على معمولٍ واحد، حينئذٍ وقع التجاذُب بين العاملين كلٌّ منهما يطلب (زيد) على أنه فاعل له.
(تقدم عاملان) وهذا شرط في باب التنازع، و (أن يتأخر معمول، كلٌّ من هذين العاملَين طالبٌ لهذا المعمول من جهة المعنى)، فـ (قام) يطلب (زيد) على أنه فاعل له، و (قعد) يطلب (زيد) على أنه فاعل له، إذاً وقع التنازُع بين عاملَين على معمول واحد، ولا يمكن أن يكون (زيد) فاعلاً لهما معاً، هذا متعذِّر، بعيد؛ لماذا؟ لأنه -كما قررنا- أنه لا يجتمع عاملان على معمول واحد.
وعَرَّفه بعضٌهم: بأنه عبارة عن توجه عاملين ليس أحدهما مؤكِّداً للآخَر.
إلى معمولٍ واحد متأخرٍ عنهما، مثل: ضربتُ وأكرمتُ زيداً، هو كالسابق إلا أن السابق طَلبَ المعمول على أنه مرفوع، قام وقعد زيدٌ، ضربتُ وأكرمتُ زيداً، (زيداً) هذا معمول متأخر، تقدَّم عليه ضربتُ وأكرمتُ، كلٌّ منهما يَطلب مفعولاً به، وليس عندنا إلا لفظ واحد، (ضربتُ) تسلَّط عليه؛ يريده أنه مفعول له، و (أكرمتُ) يريده مفعولاً له، لا يمكن أن يجتمعان معاً، فيكون (زيداً) معمولاً لهم، حينئذٍ نقول: هذا وقع فيه التنازُع.
(ليس أحدُهما مؤكِّداً للآخَر) هذا احترازاً من الفعل المؤكِّد؛ لأنه في الحقيقة لا يطلب ما بعده على أنه فاعل له، مثل ما قِيل:
أَتَاَكَ أَتَاكِ اللَاّحِقُونَ
لو قيل: قام قام زيدٌ، (قام) الأول هذا فعل، وهو فعل تامٌّ يطلب فاعلاً، وبعده اسمٌ ظاهر (زيدٌ)، (قام) الثانية هذا فعل، لكنه لا يطلب فاعلاً، حينئذٍ هل وقع تنازع؟ لم يحصل تنازُع؛ لأن الثاني لم يتوجه إلى (زيد) بطلبه فاعلاً له؛ لأن الفعل المؤكِّد خالٍ عن الفاعل؛ كما ذكرناه فيما سبق وأنه لا فاعل له، حينئذٍ (قام) الثانية هذه لم تتسلَّط على (زيد)، لم تطلبه على أنه فاعلٌ له، ولذلك استُثنيَ فقيل: ليس أحدُهما مؤكِّداً للآخَر.
وقال في التَّوضيح في بيان حقيقتِه: (أن يتقدَّم فعلان متصرِّفان، أو اسمان يشبهانِهما، أو فعلٌ واسمٌ يشبهه، ويتأخر عنهما معمول غيرُ سَبَبي مرفوع، وهو مطلوب لكل منهما من حيث المعنى)، هذه شروط وقيود لا بد منها ستأتي معنا في أثناء الشرح.
إذاً حقيقة باب التنازع: أنه يتوجَّه عاملان إلى معمول واحد؛ بشرط أن يَتقدَّم المعمولان، وأن يتأخر المعمول، وهذا كشرح مُوجَز وإلا فالأصل أنه لا يشترط في الأولَّين أن يكون اثنين؛ بل قد يكون عاملان فأكثر، وكذلك المعمول قد يكون معمولاً واحداً فأكثر، وإنما المراد تصوير المسألة فَحَسب.
أن يتقدم عاملان، فإن كان عاملاً واحداً لم يقع تجاذُب، ولم يقع تنازُع، إذاً لا بد من اثنين فأكثر، يتقدَّمان على معمول واحدٍ فأكثر، فحينئذٍ كل واحدٍ من هذه العوامل يَطلب ذلك الاسم الظاهر على أنه معمولٌ له، ويُنازعه الثاني فيطلبه على أنه معمول له، حينئذٍ ماذا نصنع؟ هذا الذي سيأتي معَنا في هذا الباب.
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَملْ
وَاخْتَارَ عَكْسَاً غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ
باب التنازُع يُعتَبَر من الأبواب الصَّعبة، فهو أصعب من باب الاشتغال، فكلاهما فيهما من الصعوبة ما قد؟؟؟.
(إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ)(إن) حرف شَرط، (عاملان) هذا فاعل لفعل محذوف وجوباً يفسره المذكور:(إِنْ اقْتَضَى عَامِلَانِ).
اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ: (عملاً) هذا مفعول به لـ (اقْتَضَى).
(فِي اسْمٍ) هذا جار ومجرور متعلِّق بقوله (عَمَلْ)، عملاً في اسم، وعلَّقه بعضهم بقوله:(اقْتَضَى فِي اسْمٍ)، لكن الأولى أن يعلق بـ (عَمَلْ)، وسبب التوجه هنا من كونه عُلِّق بـ (اقْتَضَيَا) دون (عَمَلْ)؛ لأن (عَمَلْ) هذا مَصْدَر، والمَصدر يكون متعلَّقا للجار والمجرور والظرف، لكن بشرط ألا يتقدَّم المعمول على العامل.
فإذا عُلَّق شيء بالمصدر، أو اسم المصدر، يُشترط في صحَّة إعماله ألا يتقدَّم عليه، ويمتنع أن يتقدّم عليه، وهنا تقدَّم (فِي اسْمٍ) على (عَمَلْ)، لكن من باب الضرورة في النظم فحَسْب، وإلا الأصل أن يقال: عملاً في اسم، (إِنْ اقْتَضَيَا) طلبا عملاً في اسمٍ، (فِي اسْمٍ) هذا جار ومجرور متعلِّق بقوله:(عَمَلْ)؛ لأنه مَصْدر، والأصل فيه ألا يتقدَّم، فإن تقدَّم في مثل هذا التركيب نقول: هذا من قبيل الضرورة.
وأما تعليقُه بـ (اقْتَضَى) هذا فيه ضَعْف من جهة المعنى؛ لأن الاقتضاء ليس للاسم، وإنما الاقتضاء للعمل، ثم العمل يكون في الاسم لا في فعل، ولا في حرف، (فِي اسْمٍ) هذا معلَّق بـ (عَمَلْ) ليس معلَّقاً بـ (اقْتَضَيَا)؛ لأن الاقتضاء الذي هو طلب الفعل يطلب (عملاً)، عملاً .. محَلُّ العمل يكون في الاسم، إذاً صار جاراً ومجروراً متعلِّق بقوله:(عَمَلْ)، و (عَمَلْ) هذا مفعولٌ به وُقِف على السكون على لغة رَبيعة.
(قبلُ) يعني: قبل الاسم، هذا حال، حال كونهما قبل ذلك الاسم.
(إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا) إنِ اقتضَى عاملان حال كونهما قبل ذلك الاسم، فحينئذٍ اشترط الناظم أن يكونا متقدِّمَين، أن يكون العاملان متقدِّمَين، فإن تأخرا، أو توسَّطا، أو توسَّط أحدُهما خرَج عن باب التنازُع، بل لا بدَّ أن يتقدَّما: قام وقَعَد زيدٌ، ضربتُ وأكرمتُ عَمْراً، لا بدَّ أن يَتقدَّما.
فإن قيل: عَمْراً ضربتُ وأَكرمتُ، ليس من باب التنازُع وسيأتي، لو قيل: ضربتُ زيداً وأَكرمتُ؛ توسَّط بينهما الاسم، ليس من باب التنازُع، بل لا بدَّ من أن يَتقدَّم العامِلان، ويتأخر الاسمُ.
(فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ)، فالعمل لواحد منهما، وهذا محل وفاق اتفاق بين النحاة، لا يمكن أن يكون الاسمُ معمولاً للعاملَين، بل لا بدَّ أن يكون واحداً منهما هو الذي يأخذ الاسم الظاهر، والثاني حينئذٍ نُضْمِر له ضميراً: إما مذكوراً، وإما محذوفاً على التفصيل الآتي.
إذاً (فَلِلْوَاحِدِ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، (فالْعَمَلْ) هذا مبتدأ مؤخَّر، (لِلْوَاحِدِ) جار ومجرور متعلِّق بمحذوف خَبر مقدَّم، (مِنْهُمَا) هذا حال من الواحد، حال كونِه منهما لا من غيرِهما، هذا قطعاً؛ لأن التجاذُب إنما حصل بين العاملَين على هذا المعمول، هذا تعريف ابنِ مالك رحمه الله تعالى، وهو واضِح.
(إِنْ عَامِلَانِ) .. (إِنْ اقْتَضَيَا) طَلب، والاقتضاء يفسَّر بمعنى الطلب، (إن اقتضى عاملان عملاً في اسمٍ قبلُ)، يعني: حال كون العاملَين قبلَ الاسم الظاهر، فالعمل للواحد منهما دون الآخر، وهذا مقطوع به باتفاق، إمّا الأول أو الثاني، ولذلك أجمع البصريون والكوفيون على أنه يجوز إعمال أي واحد منهما، أعملتَ الثاني أو أعملتَ الأول كلُّه جائِز، وإنما اختلفوا في الأرجح والأَولى والأَقيس ما هو؟ على قولين.
(وَالثَّانِ أَوْلَى)، (وَالثَّانِي) يعني: إعمال الثاني (أَوْلَى) من إعمال الأولِ عند أهل البصرة .. عند البصريِّين، (وَاخْتَارَ عَكْساً) وهو: إعمال الأول دون الثاني (غَيْرُهُمْ)، وهم طائفتان اثنتان متقابلتان، إذا قال: عند أهل البصرة، ثم قال: غيرُهم؛ تَعيَّن أن يكون المراد بالغير أهلُ الكوفة؛ لأنه لا اعتبار بغيرهم، ولذلك أكثر ما يُذكَر البصريون والكوفيون، وأما الأندلسيون والمِصريون فهذا خلافُهم سهْل.
(وَاخْتَارَ عَكْساً)(اخْتَارَ) هذا فعل ماضي، و (عَكْساً) هذا مفعول بِه، من هذا وهو: أنّ الأول أَولى، (غَيْرُهُمْ) غيرُ البصريين وهم الكوفيون، (ذَا أَسْرَهْ) هذا حال من فاعل (اخْتَارَ)، اختار غيرُهم عكساً، اخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ، اختار غيرُهم عكساً، (غَيْرُهُمْ) هذا فاعل، حالَ كونِهم (ذَا أَسْرَهْ) يعني: صاحِب أَسره، وهو الجماعة القوية، فيها قوة، قيل: لكون الذين اختاروا هذا القول أكثر، وقيل: وصَفَهم بهذا لئلا يُظَنّ بأنه قال: (غَيْرُهُمْ)؛ أنه تضعيف لقولهم؛ لا، هو محتمِل، هذا محتمِل، والأول محتمِل، كلاهما محتملان؛ إلا أن الأرجح هو مذهب البصريين.
(وَالثَّانِ) أي: إعمال الثاني؛ على حذف مضاف، وهو مبتدأ، (أَوْلَى) خبره، (ثَّانِ) مبتدأ، و (أَوْلَى) خبره، (ثَّانِ) على حذف مضاف، يعني: إعمال الثاني؛ لأننا لا نحكم على الثاني من حيث هو، هنا نقول: على تقدير مضاف؛ لأنك لو قلتَ: الثاني مبتدأ؛ حينئذٍ الثاني من حيث هو لا من حيث العمل (أَوْلَى)، ونحن نحكُم عليه من حيث الإعمال، إعمال الثاني أولى من إعمال الأول، لماذا؟ قالوا: لِقُرْبِه، القريب أولى، أكرمتُ وضربتُ زيداً، قالوا:(زيداً) هذا مفعول به للثاني دون الأول، (أكرمتُ وضربتُ) كلاهما تجاذبا في طلب (زيدٍ) على أنه مفعول له، على مذهب البصريين الثاني أولى، وهو (أكرمتُ)، والأول سيأتي أنه يُقدَّر له ثم يُحذَف.
(وَاخْتَارَ عَكْسَاً غَيْرُهُمْ) اختار غيرهم وهم الكوفيون (عَكْسَاً) وهو: إعمال الأول أولى من إعمال الثاني؛ لماذا؟ قالوا لِسَبْقِه؛ لأنه سَبَق، (ضربتُ) نطقتَ به أولاً، إذاً الاسم الظاهر الأولى أن يُقدَّر له، و (أكرمتُ) هذا جاء ثانياً، حينئذٍ الثاني دَخيل على الأول، فإذا جاء الاسم الظاهر (زيداً) فالأول أولى؛ يُعطَى، والثاني -لأنه دخيل- حينئذٍ يُقدَّر له.
إذاً: أكرمتُ وضربتُ زيداً، (زيداً) مفعولٌ لـ (أكرمتُ) الأول على مذهب الكوفيين، ومفعولٌ لـ (ضربتُ) الثاني؛ العامل الثاني على مذهب البصريين.
(إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ) قوله: (إِنْ عَامِلَانِ) قلنا: ليس المراد تحديد الاثنين فَحَسْب، وإنما المراد مفهوم الأقل، يعني: لا يكون واحداً؛ إذْ لو كان واحداً خرج عن باب التنازُع، قام زيدٌ ضربتُ زيداً، ليس فيه تنازُع، وإنما المراد عاملان فأكثر، حينئذٍ يَرِد ثَمّ ثلاثة عوامل قد يطلبوا معمولاً واحداً، قد يكون التنازُع بين أكثر من عاملَين، وقد يتعدد التنازُع فيه؛ ولذلك جاء في الحديث:{تُسَبِّحون، وتَحْمَدون، وتُكَبِّرون دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين} ، تُسبّحون دُبُرَ كل صلاة، تَحمَدون دُبُرَ كلِّ صلاة، تُكَبِّرون دُبُرَ كلّ صلاة، إذاً (دُبُرَ) هذا ظَرف؛ تنازع فيه العوامل الثلاثة السابقة.
كذلك: (ثلاثاً وثلاثين) هذا مفعول مطلق .. نائِب عن مفعول مُطْلَق؛ عَدَدي، تنازعه الثلاثة الماضية، الأفعال الثلاثة: تُسبِحون، وتَحمدون، وتُكبرون.
إذاً؛ وقع التنازُع بين ثلاثة أفعال على معمولَين؛ فوقع ماذا؟ التخالُف بين الاثنين، صار الأول متعدِّداً أكثر من اثنين، وصار الثاني أكثر من اثنين، فقول الناظم:(إِنْ عَامِلَانِ) لا مفهوم له من حيثُ الكَثْرة.
وقوله: (فِي اسْمٍ) أخذ المَكُودِي بأنه لا يكون تنازُعاً إلا في اسم واحدٍ، وليس له سَبْق في ذلك، بل الصواب: أنه لا مفهوم له، فقول الناظم:(فِي اسْمٍ) ليس له مفهوم بأنه إذا كان أكثر من اثنين خرج عن باب التنازُع، نقول: لا، ولذلك جاء في الحديث:{دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ} ، وهما معمولان وقع فيه التنازُع، وهما اسمان ليس اسماً واحداً.
(إِنْ عَامِلَانِ) فأكثر، إذاً لا مفهوم له من حيث الزيادة، وله مفهومٌ من حيث الأقل، يعني: لا يكون أقلَّ من عامِلَين، فإن كان أقل من عاملين خرج من باب التنازع، فإن كان ثلاثة حينئذٍ نقول: هذا من بابٍ أولى؛ التجاذب فيه أعظم.
(إِنْ عَامِلَانِ) المراد به: فعلان، أو اسمان، أو اسمٌ وفعل، بشرط أن يكون فعلاً متصرفاً، أو ما جرى مجراه، فعلاً متصرفاً لا جامداً، أو ما جرى مجراه، إذاً الحرف .. لا يكون التنازع بين حرفين البتة، ولا بين حرف وغيره، ولا بين جامد وغيره، ولا بين جامدين من بابٍ أولى، ولا جامدٍ وحرف، لا يقع التنازع، وإنما المراد بالعاملين هنا: الفعلان المتصرفان، أو الاسمان المُشْبِهان للفعلِ، أو الفعل والاسم.
قد يقع تنازع بين فعل واسم كل منهم يطلب اسماً ظاهراً.
قد يكون العاملان المتنازعان فعلين، ويشترط حينئذٍ أن يكونا متصرفين؛ احترازاً من الجامد، ستأتي العلة، ((آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)) [الكهف:96]، (آتُونِي أُفْرِغْ) عاملان طلبا قِطْراً، (أُفْرِغْ) هذا يتعدى إلى واحد، طلب قطراً على أنه مفعول له، (آتُونِي) يطلب اثنين: الأول: (الياء)، والثاني (قِطْراً)، إذاً تنازع فيه (آتُونِي) و (قِطْراً)، فأُعمل الثاني، وأضمر في الأول.
أْتُونِي هذا فعل وفاعل، ومفعولٌ أول، ويحتاج إلى ثانٍ فسُلِّط على (قِطْراً)، و (أُفْرِغْ) هذا فعل وفاعل يحتاج إلى مفعول، وتأخر عنهما (قِطْراً) وكُلٌّ منهما طالب له، إذاً طلبه (آتُونِي) على أن ينصبه مفعولاً ثانياً له، وطلبه (أُفْرِغْ) على أنه مفعول له، كل منهما طالب له على أنه منصوب له، وإن كانت جهة النصب منفكة؛ لأن ذاك يطلبه على أنه مفعول ثاني (آتُونِي)، و (أُفْرِغْ) يطلبه على أنه مفعول، وليس له إلا مفعولاً واحداً، حينئذٍ الجهة انفكت من حيث نوعية النَّصْب، ومن حيث العمل فهي واحدة.
إذاً تسلط عاملان متصرفان .. فعلان متصرفان، (آتُونِي) متصرف، و (أُفْرِغْ) متصرف.
وقد يكونان اسمين، ويشترط فيهما حينئذٍ أن يكونا جاريين مجرى الفعل، يعني: بمعنى الفعل -ما فيه رائحة الفعل-؛ لأنه سيرفع وينصب، ولا يرفع ولا ينصب إلا المشتقات التي هي فيها معنى الفعل -رائحة الفعل-؛ لأن الأصل في العمل هو للفعل، فحينئذٍ إذا أُعمِل الاسم لا بد وأن يكون فيه معنى الفعل؛ ليصح تعديه، وإلا الأصل أن يكون الفعل هو الذي يختص بالعمل، فحُمل عليه الاسم إذا وجد فيه معنى الفعل، فيقتضي .. يطلب ما يطلبه الفعل.
ولذلك إذا تنازع اسمان حينئذٍ يُشترط فيهما أن يكونا جريا مجرى الفعل، والذي يجري مجرى الفعل هنا في هذا الباب: بأن يكونا اسمي فاعل، يكون الأول اسم فاعل، والثاني اسم فاعل، وكل منهما عامل، وهذا سيأتي باب خاص في إعمال اسم الفاعِل:
(عُهِدْتَ مُغِيثَاً مُغْنِياً مَنْ أَجَرْتَهُ)، (عُهِدْتَ) هذا بالبناء للمجهول وتاء الخطاب، (مُغِيثَاً) هذا اسم فاعل أغاث يغيث فهو مغيث، (مُغْنِياً) هذا أغنى يغني فهو مغني، إذاً هو اسم فاعل، إذاً: مُغِيثَاً مَنْ أَجَرْتَهُ، يطلبه على أنه مفعول له، ومُغْنِياً مَنْ أَجَرْتَهُ يطلبه على أنه مفعول له.
إذاً تنازع اسما فاعل على اسم واحد وهو (مَن أَجَرْتَهُ)، وأعمل الثاني، هنا في هذا التركيب أعمل الثاني، فـ (مَنْ) اسم موصول تنازعه كل من مغيث ومغنٍ.
أو بأن يكونا اسمي مفعول؛ لأن اسم المفعول كذلك يعمل لكن بشرطه، كقول القائل:
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَفّى غَرِيمَهُ
…
وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّىً غَرِيمُهَا
(وَعَزَّةُ): هذا مبتدأ، (مَمْطُولٌ مُعَنَّىً): خبر بعد خبر، (غَرِيمُهَا): نائب فاعل، (مَمْطُولٌ): هذا اسم مفعول يطلب نائب فاعل، و (مُعَنَّىً): هذا اسم مفعول يطلب نائب فاعل، حينئذٍ لا بد من توجه واحد منهما.
الشاهد هنا: أن اسمي مفعولٍ تنازعا في اسم ظاهر، وأعمل الثاني هنا.
أو بأن يكونا مصدرين، الأول والثاني مصدران، والمصدر يعمل لكن بثمانية شروط، ستأتي في محلها -إن شاء الله تعالى-، المصدر يعمل بثمانية شروط، كلما بعد الاسم عن معنى الفعل ازدادت الشروط، ولذلك إعمال اسم الفاعل شروطه أقل، وكذلك اسم المفعول؛ لأنه دال على ذات وعلى وصف، أما المصدر فلا، كقولك:(عجبتُ من حبِّك وتقديرك زيداً)، (حُبِّكَ) حبِّ: هذا مصدر مضاف إلى الفاعل حينئذٍ يطلب مفعولاً به، و (تقديرك) -تقديرك أنت-، مضاف إلى الفاعل، مثل ((لَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ)) [البقرة:251] مثله، ((لَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ))، حبِّك زيداً، تقدِيرك زيداً، إذاً زيدا هذا اسم ظاهر متأخر وتقدم عليه مصدران كل منهما يطلبه على أنه مفعول به له.
إذاً قد يكون العاملان اسمي مصدر.
أو بأن يكون اسمي تفضيل: زيدٌ أضبط الناس وأجمعهم للعلم.
زيدٌ أضبط، أفعل تفضيل، أضبط للعلم، وأجمعهم للعلم، (للعلم) هذا إما أن يتعلق بـ (أجمع)، وإما أن يتعلق بـ (أضبط)، تنازع فيه اسما تفضيل، فأُعمِل الثاني.
أو بأن يكونا صفتين مشبهتين، (زيدٌ حذرٌ وكريمٌ أبوه)، (زيد) مبتدأ و (حذر) خبر و (كريم) هذا معطوف عليه، (حذرٌ) صفة مشبهة ترفع فاعلاً، مثل (حسنٌ وجهه) مثلها، (حذِرٌ) فَعِلٌ و (كريم) فعيل صفة مشبهة، تطلب أبوه على أنه فاعلٌ لها، حينئذٍ تنازع صفتان مشبهتان على اسمٍ ظاهرٍ واحد، حذِرٌ أبوه، كريمٌ أبوه، كل منهما يريده على أنه فاعل له.
أو بأن يكونا مختلفين؛ بأن يكون الأول اسم فعل، والثاني اسم فيه معنى الفعل، أو العكس، فمثال الفعل واسم الفعل: قوله: ((هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ)) [الحاقة:19]، (هَاؤُمُ)(هاء) هذا اسم فعل أمر بمعنى خذ، و (الميم) علامة الجمع (هَاؤُمُ)، والأصل (هاكم)، أبدلت الكاف (واواً) ثم الواو (همزة) فصار (هَاؤُمُ .. اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ).
إذاً (هَاؤُمُ) هذا اسم و (اقْرَؤُوا) هذا فعل تنازع كِتَابِيهْ، كتابي، خذ كتابي، اقرأ كتابي، كل منهما طلبه على أنه مفعول له وأعمل الثاني، فالقرآن من أوله إلى آخره يرجح مذهب البصريين، كل من ورد من أمثلة أعمل فيه الثاني، ولذلك هناك:((أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً))، قطرا مفعول لأفرغ، هنا (كتابي) هذا مفعول لـ (اقْرَؤُوا) ليس للأول.
ومثال الفعل والمصدر: قول القائل:
لَقَدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغيرَةِ أَنَّني لَقِيتُ
…
فَلَمْ أنْكِلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعاً
(مَسْمَعاً) هذا اسم رجل، (لَقِيتُ الضَّرْبِ مَسْمَعاً) الضَّرْبِ هذا مصدر طلب مَسْمَعَاً على أنه مفعولٌ له، ولَقِيتُ طلب مَسْمَعاً على أنه مفعول له، تنازعا كل من الفعل والمصدر، حينئذٍ إذا عرفنا أن مراد الناظم بقوله:(إِنْ عَامِلَانِ) أنهما يكونا فعلين، أو اسمين، أو مختلفين؛ بشرط أن يكون الاسم شبيهاً بالفعل، بمعنى أنه يعمل عمل الفعل، وكل اسم مما ذُكر يُرْجَع إلى بابِه، فنعرف ما شروط إعمال اسم الفاعل، وما شروط إعمال اسم المفعول، وما شروط إعمال اسم التفضيل، والمصدر ونحو ذلك.
وهذه هي الصعوبة في النحو، لا بد أنك إذا أردت أن تُعرب هذه المواضع السابقة أن تستحضر شروط الإعمال في كل الأبواب، وهذا صعب؛ لأنه يحتاج إلى ممارسة، لا تثبت المعلومات إلا بالممارسة، ولذلك قد يُدرس النحو سهل، لكن عند التطبيق تأتي الفضائح، لماذا؟ لأنه إذا أراد أن يُعرِب حينئذٍ لا بد أن يستحضر الأول، يعني الآن لو أردنا أن نُعرب كل ما سبق .. هذا كله لا بد أن يكون مستحضر، يأتيك مبتدأ، يأتيك خبر، يأتيك كان واسمها، وشروط .. تقديم .. تأخير .. وجوب تقديم .. جواز .. أشياء كلها لا بد أن تكون مستحضرة في الذهن، إذا لم تكن لا تستطيع أن تعرب أبداً، وإذا لم تستحضرها -لا على جهة الشرح والإيصال هذا له لغة الخاصة-، وإنما على جهة التطبيق؛ أن تعرف النتيجة الخلاصة، هذه ثمانية شروط .. إلى آخره، لا بد أن تعدها عداً، حينئذٍ يسهل معك النحو، وأما هكذا فبينك وبينه بُعدَ المِشْرقََين.
حينئذٍ نعلم أنه لا تنازع بين حرفين، لا يقع التنازع بين حرفين عند الجمهور .. أكثر النحاة على هذا، وخالف الصبّان قال: لا، قال بل قد يقع تنازع بين حرفين؛ لماذا؟ قالوا: لضعف الحرف، الحرف ضعيف، ولفقد شرط صحة الإضمار في المتنازعين، إذ الحروف لا يضمر فيها؛ لأنه سيأتي إذا أعملنا الثاني أضمرنا في الأول، حينئذٍ إذا أعملنا الحرف الثاني نضمر في الأول، والإضمار لا يكون في الحرف.
إذاً شرط صحة التنازع ليست موجودة بين حرفين، إذاً لا تنازع بين حرفين، وإذا جاء حرفان متكرران حينئذٍ يكون من باب التأكيد:
لَا لَا أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إِنَّهَا
لَا لَا، (لا) الثانية هذه تأكيد للأولى، وليس عندنا أنه طلب ما بعده، إذاً لا تنازع بين حرفين ولا بين حرفٍ وغيره يعني: بين حرف وفعل مثلاً، أو حرف واسم نقول: لا؛ لا تنازع بين حرفين ولا بين حرفٍ وغيره.
ولا بين فعلين جامدين، لا يقع بين نعم وبئس مثلاً، يطلبان ما بعدهما؛ للفصل بين العامل ومعموله بأجنبي، وإذا فُصِل بينهما حينئذٍ ضعُف العامل؛ لأنك إذا أعملت الثاني أضمرت في الأول، حينئذٍ نقول الفصل بين العامل الجامد والآخر الجامد بمعمول هذا يضعفه؛ لأنه هو في نفسه ضعيف.
إذاً؛ ولا بين فعلين جامدين، والعامل الجامد ضعيف، فلا يقوى على العمل وهو مفصول من معموله، ولهذا يلزم من جوَّز تنازع الجامدين أن يعمل الثاني في لفظ المفعول؛ لأنه هو المتصل به، حينئذٍ خَرج من باب التنازع، يعني من جوَّز إعمال الجامدين الفعلين يلزمه إعمال الثاني، فإذا أُلزم بإعمال واحد دون الآخر خَرج من باب التنازع؛ لأن باب التنازع شرطه: أنه يجوز إعمال الأول دون الثاني، أو الثاني دون الأول، إذا ألزم بواحدٍ منهما خرج من باب التنازع، كما ذكرناه في الاشتغال هناك.
إذاً شرط صحة التنازع ألا يتعين الأول، وألا يتعين الثاني، فإن تعين الأول بطل التنازع، وإن تعين الثاني بطُل التنازع، إذا أعملنا الجامدين حينئذٍ يتعين أن يكون الثاني عاملاً في الاسم الظاهر؛ فبطل أنه من باب التنازع.
ولا جامد وغيره؛ متصرف، ولا بين اسمين غير عاملين، ولا بين فعل متصرف وآخر جامد، أو فعل متصرف واسم غير عامل.
إذاً يحصر قوله: (إِنْ عَامِلَانِ) في الفعل وشبه الفعل، ويشترط في الفعل أن يكون متصرفاً.
ويشترط في العاملين شرط آخر وهو: أن يكون بينهما ارتباطٌ، لا بد من ارتباط، لو كانا هكذا مجردين: قام قعد زيدٌ، قام قعد نقول: ليس بينهما ارتباط، ليس بينهما علاقة، لا بد أن يكون ثم علاقة بين قعد قام إما بالعطف وهو أكثر، أو يكون الثاني معمولاً للأول، يعني: الأول عامل للثاني، ((آتُونِي أُفْرِغْ)) (أُفْرِغْ) هذا فعل مضارع مجزوم؛ لوقوعه في جواب طلب وهو:((آتُونِي))، إذاً عمل الأول في الثاني، وإذا عمل فيه صار معمولاً، وصار مرتبطاً به.
الثالث: أن يكون جواباً للأول: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ))، حينئذٍ نقول: هذه الثلاثة وهي: كونه معطوفاً بالواو، أو كونه معمولاً له ولو كان فعلاً، أو كان واقعاً في جوابٍ نقول: حصل ارتباط بين المتنازعين، بين العاملين.
ويشترط في العاملين أيضاً: أن يكون كل واحد منهما موجهاً إلى المعمول من غير فسادٍ في اللفظ، أو في المعنى، فيَخْرُج حينئذٍ ما ذكرناه سابقاً:
أَتَاَكَ، أَتَاَكَ أَتَاكِ اللَاّحِقُونَ احْبِسِ، احْبِسِ
(أَتَاَكَ، أَتَاَكَ) الثاني لا يطلب ما بعده على أنه فاعل له، لأنه مجرد عن الإسناد، ما جيء به من أجل الإسناد، وإنما جيء به من أجل تأكيد المعنى العام للسابق، (أَتَاَكَ أَتَاَكَ) هذه فعلٌ يراد به الإسناد، حينئذٍ إذا أُريد به الإسناد يكون (اللَاّحِقُونَ) فاعلاً له، وأتاك الثاني لا فاعل له، لماذا لا فاعلاً له؟ لأنه لم يطلب فاعلاً، لماذا لم يطلب فاعلاً؟ لأنه ما جيء به من أجل الإسناد والإخبار، وإنما جيء به من أجل تأكيد المعنى السابق.
كذلك خَرَج قول امْرِئ القَيْس:
وَلَو أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي -وَلَمْ أَطْلُبْ- قَلِيلٌ مِن الَمَالِ
كَفَانِي وَلَم أَطْلُبْ .. قَلِيلٌ .. قَلِيلاً، في ظاهره أنه من باب التنازع، كَفَانِي قَلِيلٌ مِن الَمَالِ، طلبه على أنه فاعل له، وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِن الَمَالِ، الظاهر أنه تقدم عاملان وتأخر عنهما اسمٌ ظاهر، كَفَانِي يطلب قليل على أنه فاعل، وَلَمْ أَطْلُبْ يطلبه على أنه مفعول به، نقول هذا ليس من باب التنازع؛ لأننا لو أجريناه على باب التنازع لفسد المعنى، لماذا؟
لأنه قال وَلَو أَنَّ مَا أَسْعَى .. الذي، (ما) ليست نافية، وَلَو أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي قَلِيلٌ مِن الَمَالِ، (لَو) هذه تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، حينئذٍ إذا دخلت على مُثْبَت نفتْه، وإذا دخلت على منفي أثبتته، عكس، امتناع الشيء لامتناع غيره، (وَلَوْ أنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ)، أن الذي أسعى لأدنى معيشة كفاني، هذا منفى أو مثبت؟ قبل دخول (لو) مثبت، بعد (لو) منفي، إذاً نفَى أن يسعى لأدنى معيشة.
(وَلَمْ أَطْلُبْ) هذا منفي، دخلت عليه (لَوْ) أثبتته، أَطْلُبْ قَلِيلاً مِن الَمَالِ، لو جعلناه متنازَع: كفاني وأَطْلُبُ على قَلِيلٌ لحصل التنافي والتضاد؛ لأنه نفى أن يسعى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ، ثم قال: أَطْلُبُ قَلِيلاً مِن الَمَالِ، قليل المال هو أدنى معيشة، حصل تضارب: نفى وأثبت.
إذاً لا بد من القول بأن أَطْلُبُ هنا لا يطلب قَلِيلاً، وإنما هو طالبٌ لمفعولٍ محذوف: ولم أطلب الملك، يعني: الملك هو أعلى معيشةٍ، هذا الذي يطلبه في الدنيا، وأما أدنى معيشة فهو قليل المال هذا، فحينئذٍ لا تنافي بينهما:
وَلَو أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي قَلِيلٌ مِن الَمَالِ .. ولم أطلب الملك، إذاً لا تنافي بينهما، لكن لو جعلنا الأول منفي والثاني مثبت كفاني قليل من المال، ثم نقول: لم أطلب قليلاً من المال، نقول هذا بينهم تعارض.
الحاصل: أنه ليس كل عاملين متقدمين يكون بعدهما اسم ظاهر لا بد من صحة المعنى بتسليط العاملين على الاسم الظاهر، يعني لا نكون ظاهرية، كلما رأينا عاملين واسماً ظاهراً قلنا هذا من باب التنازع، لا انظر للمعنى؛ لأنه لو تسلط العاملان على الاسم الظاهر قد يحصل تناقض وتعارض .. تضارب، فإذا كان كذلك حينئذٍ لا بد من فك التنازع، فيُجعل لأحدهما مفعولاً محذوفاً، ويعلَّق المذكور بأحدهما، فـ (كَفَانِي قَلِيلٌ) قَلِيلٌ فاعل كَفَانِي، وأَطْلُبُ لم يطلب (قَلِيلٌ)، وإنما طلب مفعولاً محذوفاً.
ويشترط في العاملين أن يكونا متقدمين على المعمول، هذا شرط صحة باب التنازع، فإن تأخر أو توسط أحدهما، أو توسط الاسم الظاهر بطل، يعني: خرج عن باب التنازع.
فإن تقدم المعمول؛ فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً، فإن كان مرفوعاً: زيدٌ قام وقعد؛ تقدم اسم ظاهر وتأخر عاملان، كلٌ منهما يطلب فاعلاً، هل يصح أن نجعل قام وقعد مسلطين على زيد المتقدم؟
الجواب: لا، وحينئذٍ نقول: زيدٌ مبتدأ، وقام فعل ماضي، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على زيد، والجملة خبر، وقعد فعلٌ ماضي، وفاعله مستتر، والجملة معطوفة على ما سبق، ليس من باب التنازع، فنرفع الأول على أنه مبتدأ، ثم نُعرب الفعل على أصله، ونقدر فيه الضمير.
فلا عمل لأحد العاملين فيه، بل كل واحد منهما عاملٌ في ضميره، وإن كان منصوباً: زيداً ضربت وأهنت، حينئذٍ يكون (زيداً) مفعولا به لضربت –الأول-، ونقدر للثاني محذوفاً، ولا يكون من باب التنازع، زيدا ًضربت وأهنت، إذاً صح أن يجعل الأول عاملاً في الاسم المتقدم، لماذا؟
لأنه يصح أن يتقدم المفعول به على عامله، لو قلت هكذا ابتداءً: زيداً ضربت صح؟ صح، حينئذٍ نقول: تقدم المفعول به على عامله، فحينئذٍ إذا جاء الاسم منصوباً، ثم جاء بعده عاملان؛ جعلناه معمولاً للعامل الأول، وقدرنا للثاني، زيداً ضربتُ وأهنت؛ فالعامل فيه هو أول العاملين.
وأما إذا توسط: ضربتُ زيداً وأهنتُ، زيداً يكون لأهنت أو لضربت؟
ضربتُ من باب أولى؛ لأننا إذا جعلناه له في قولنا: زيداً ضربتُ وأهنتُ؛ فمن بابٍ أولى أذا تأخر، فضربتُ زيداً هذه جملة، وأهنت يعني أهنت زيداً، أهنته تقدر له ضمير، فيجوز حذفه.
فهو معمول للسابق عليه منهما، وللمتأخر عنه معمول محذوف يدل عليه المذكور.
إذاً (إِنْ عَامِلَانِ) عرفنا ما يتعلق بالعاملين، المهم أن نعرف أنه فعل وفعل أو اسم واسم فيه معنى الفعل، أو فعلٌ متصرف واسمٌ فيه شبه الفعل، هذا أهم شيء.
ثم أن يكونا متقدمين لا متوسط أحدهما ولا متأخرين، فإن كانا كذلك بطل باب التنازع.
(إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا) يعني: طلبا، لو طلب أحدُهما دون الآخر، لو طلب أحدُهما الاسم الظاهر دون الآخر خرج من باب التنازع، مثل ماذا؟
أَتَاكِ، أَتَاكِ الَّلاحِقُونَ، الثاني إذا كان مؤكِّداً للأول حينئذٍ لم يطلب معمولاً: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ، (هَيْهَاتَ) هذا اسم فعل ماضي يطلب فاعلاً، (العَقِيقُ) اسم ظاهر متأخر، نجعله فاعلاً لأي منهما؟ للأول، والثاني توكيد، إذاً ليس من باب التنازع، تقول: ليس من باب التنازع؛ لأن هيهات الثاني لم يؤتَ به من أجل الإسناد، وإنما جيء به من أجل تأكيد معنى الفعل السابق، إذاً لم يقتضِ ما بعده على أنه فاعل له، لم يطلب فاعل، وشرط التنازع أن يكون العاملان كل منهما يطلب ما بعده، يعني: يريده، يريده إما فاعلاً وإما مفعولاً به وإما مجروراً، يعني مفعولاً به منصوباً يعني في اللفظ أو في المحل على قول.
(اقْتَضَيَا) يعني طلبا، خرج به الفعل المؤكِّد؛ لأنه إنما يُذكر لتقرير الأول لا للإسناد فلا يكون مقتضياً للعمل.
(إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ)، (فِي اسْمٍ) يعني اسم ظاهر، أو ضمير منفصلٍ مرفوع، أو منصوب، أو متصلٍ مجرور، في اسم ظاهر يعني: كزيد مثلاً، أو ضمير منفصلٍ مرفوع، أو منصوب أو متصلٍ مجرور، وسواء كان واحداً أو اثنين، وسواء كان مفردا أو مثنى .. عَمِّم، (فِي اسْمٍ) ليس له مفهوم، نعم (فِي اسْمٍ) ليس بحرف، وليس بفعل، وإنما هو اسم المقابل للحرف والفعل، هذا لا إشكال فيه .. واضح، أما هل له من حيث العدد .. نقول: لا مفهوم له، بل في اسم أو اسمين أو أكثر، في اسم ظاهر، أو ضمير؛ سواء كان بارزاً أو متصلاً، سواء كان مرفوعاً أو منصوباً، فالحكم عام، وهناك المكودي قال: ظاهره أنه في اسم واحد، فإن تعدد خرج عن باب التنازع، وهذا ليس بصواب، هذا المفهوم كما قال المَلَّوي: يجب إسقاطه، لا اعتبار له.
(فِي اسْمٍ عَمَلْ)(عَمَلْ) سواء كان العمل متَّفَقا أو مختَلفاً، متَّفِقا متفَقا، مختلِفا مختلَفا، يعني: متفق في ماذا؟
كل منهما يطلب مرفوعاً: قام وقعد أخوك، كل منهما يطلب مرفوعاً، ضربتُ وأكرمتُ زيداً، كلاً منهما يطلب منصوباً، ضربتُ وضربني زيدٌ، ضربتُ يطلب منصوباً، وضربني يطلب فاعلاً، إذاً اختلف أو لا؟
اختلف، إذاً (عَمَلْ) المراد بالعمل هنا سواء كان متفَقاً بين العاملين في كونه رفعاً، أو نصباً، رفعاً كقام وقعد أخوك، أو نصباً نحو ضربت وأكرمت زيداً، أو مختلفين ضربت وضربني زيد، زيد طلبه الأول على أنه مفعول له، والثاني على أنه فاعل، إذاً اختلفا، هذا يريده منصوب، وهذا يريد أن يرفعه، حصل بينهما نزاع.
(إِنْ عَامِلَانِ) فأكثر (اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ): هنا العاملان يشترط فيهما أن يكونا مذكورين، لا بد، أن يكونا مذكورين بمعنى أنهما ملفوظ بهما، فلا تنازع بين محذوفين، لو قال قائل: من ضربتَ وأكرمتَ؟ فقال: زيداً. من ضربتَ وأكرمتَ؟ قال: زيداً، من باب التنازع؟ ليس من باب التنازع لماذا؟
لأن شرط باب التنازع أن يكون العاملان مذكورين، فإذا حذفا خرج من باب التنازع.
فلا تنازع بين محذوفين نحو: زيداً في جواب من ضربتَ وأكرمتَ؛ لأن الجواب على سَنَن السؤال، والأصل: ضربتُ زيداً وأكرمتُ زيداً، فذُكِر مفعول أحد العاملين المقدرين وحُذف مفعول الأخَر؛ من باب دلالة الأوائل على الأواخر أو العكس، لا من باب التنازع، يعني: لو قال في الجواب: زيداً، كيف نُعربه؟
نقول: هذا إما أنه مفعولٌ به للأول ضربت، أو للثاني، والأحسن نجعله للثاني، فحينئذٍ صار مفعولاً لفعلٍ واحدٍ، والعامل الأخر ضربت نقدر له مفعولاً به، حُذف لدلالة الثاني عليه، للعلم به؛ لاتحاد محل الضرب والإكرام، فلما قال: من ضربتَ وأكرمت؟
قال: زيداً، كأنه قال: أكرمت زيداً، وضربت الثانية أين مفعولها؟ محذوف لدلالة المذكور عليه، إذاً لا يكون من باب التنازع.
ولا بين محذوف ومذكور، قسمة ثلاثية: مذكوران، محذوفان، أحدهما محذوف والثاني مذكور، ولا بين محذوف ومذكور، كقولك في جواب هذا السؤال السابق: أكرمتُ زيداً، لو قال: من ضربتَ وأكرمتَ؟
قال: أكرمتُ زيداً، ذكر أحد العاملين وحذف الأخر، حينئذٍ لا يكون من باب التنازع.
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَملْ
إذاً باتفاق أنه يجوزُ إعمال الأول دون الثاني، أو الثاني دون الأول، أنت بالخيار، أنت مخير بين هذا وذاك، ولكن الأولى أن يُجعل الثاني؛ لأنه قريب وكذلك ما ورد في القرآن -وهو أفصح الكلام- جاء فيه إعمال الثاني، ولم يُعمل فيه الأول.
(وَالثَّانِ) يعني: إعمال الثاني (أَوْلَى) من إعمال الأول (عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ)؛ لقربه، لأنه قريب فهو أولى، (وَاخْتَارَ عَكْساً) وهو إعمال الأول دون الثاني (غَيْرُهُمْ) هذا فاعل (اخْتَارَ)، والمراد به الكوفيون.
كذلك مما استدل به البصريون على ترجيح الثاني: أنه لو أُعمل الأول لاحتجنا الإضمار، لو أُعمل الأول لفُصل بين العامل ومعموله بجملةٍ قبل تمامها؛ لأنك إذا قلت: قامَ وقعدَ زيدٌ أعملتَ الأول، قام زيدٌ، فصلت بينهما بجملة قبل تمام الجملة، يعني: عطفت على الأول قبل تمام الجملة، وهذا خلاف الأولى، خلاف القياس، إنما يعطف على الجملة بعد تمامها، قام زيد وقعد عمرو، هذا هو، وأما (قام) ثم تعطف عليه (وقعد)، ثم تأتي بزيد وهو فاعل الأول هذا خلاف القياس.
قال الشارح: التنازع: عبارة عن توجه عاملين إلى معمول واحدٍ، يعني عاملين فأكثر إلى معمول واحد فأكثر، نحو ضربتُ وأكرمتُ زيداً، تنازع عاملان كل منهما يطلب زيداً على أنه مفعول له، فكل واحد من ضربت وأكرمت يطلب زيداً بالمفعولية، وهذا معنى قوله:(إِنْ عَامِلَانِ) إلى آخره، وقوله (قَبْلُ) معناه أن العاملين يكونان قبل المعمول كما مثلنا.
ومقتضاه: أنه لو تأخر العاملان لم تكن المسألة من باب التنازع، وفيه خلاف، لكن أكثر النحاة على أنها ليست من باب التنازع.
وقوله: (فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ) معناه أن أحد العاملين يعمل في ذلك الاسم الظاهر، والآخر يُهمَل عنه، ويعمل في ضميره، كما سيذكره المصنف.
ولا خلاف بين البصريين والكوفيين أنه يجوز إعمال كل واحد من العاملين في ذلك الاسم الظاهر، ولكن اختلفوا في الأولى منهما، وذهب البصريون إلى أن الثاني أولى به لقربه منه، ولعدم الفصل بالجملة، ولعطفه قبل تمام الجملة.
وذهب الكوفيون إلى أن الأول أولى به؛ لتقدمه، وأيضاً لنسلم من الإضمار قبل الذكر؛ لأنك إذا قدرت في الأول: قاما وقعد أخواك؛ وقعنا في مشكلة وهي: أن (قاما) الضمير يعود إلى (أخواك)، حينئذٍ عاد على متأخر في اللفظ والرتبة، لكن هذا مما استثني في باب التنازع كما سبق، لكنه خلاف الأولى، خلاف القياس؛ لأن القياس أن يعود على ما سبق.
إذاً ذهب الكوفيون إلى أن الأول أولى به لتقدمه وسبقه من الإضمار قبل الذكر يعني سلامته.
يشترط في المعمول هنا أربعة شروط، المعمول الاسم الذي يأتي هذا نذكره:
الأول: ألا يكون ضميراً مستتراً.
الثاني: -عند بعضهم- ألا يكون ضميراً متصلاً بعامله، نحو: لقيتُ، وأكرمَك.
الثالث: أن يكون متأخراً عنهما كما ذكرناه.
الرابع: أن يكون هذا الاسم قابلاً للإضمار، فلا تنازع في الحال ولا في التمييز؛ لأن كل واحد منهما لا يكون نكرة، وهذه بعضُها فيها خلاف.
وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا
…
تَنَازَعَاهُ والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا
كَيُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا
…
وَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا
(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ) عندنا عاملان إذا أعملتَ الأول أو الثاني حينئذٍ وجب إضمار الفاعل في المهمل، هنا عندنا المهمل اصطلاح خاص، ليس المهمل يعني مهمل عن العمل، لا، المهمل الذي لم يسلط على الاسم الظاهر، نسميه: مهملاً، ليس المراد أنه لا عمل له، لا، المراد هو الذي لم يعمل في الاسم الظاهر مع توجهه إليه في المعنى، لكنه يعمل، إذا قلت مثلاً قام وقعد أخواك، لو قلنا أخوك ما ظهر الفرق لأنه ضمير مستتر، (قام وقعد أخواك) نمثل بالمثنى والجمع، (قام) هذا يطلب أخواك على أنه فاعل، (قعد) يطلب أخواك على أنه فاعل، نعمل الأول أو الثاني؟
نبدأ بالأول، نُعمل الأول، حينئذٍ نقول: قام أخواك هذا فاعل له، وقعد نضمر فيه ضميراً دالاً على التثنية (قام وقعدا أخواك) أضمرنا، أعملناه في ضمير ما تنازعاه، والذي تنازعاه ما هو؟
أخواك، حينئذٍ قعد يطلب فاعلاً والفاعل لا بد من ذكره لا يحذف، لا يجوز لا يمكن حذفه، خلافاً للكسائي ومن تبعه فحينئذٍ وجب الإضمار في الثاني إضمار ماذا؟
الفاعل، إذاً:(قام وقعدا أخواك)، (قعدا أخواك)، (أخواك) هذا فاعل لقاما، وفاعل قعد (الألف)، أضمرناه من أجل أننا أهملناه يعني فصلناه عن الاسم المذكور الظاهر؛ لأننا قلنا لا يجتمع عاملان على معمول واحدٍ، حل هذه المشكلة أن نجعل الاسم الظاهر لواحد وهو قام، ونجعل للثاني فاعل آخر، إذاً فككنا الجهة فصارت الجهة منفكة.
قعدا بالألف، اعكس، أعمل الثاني، (قاما –بالألف- وقعد أخواك): وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ
سواء كان الأول أو الثاني، أعمله في ماذا؟
فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ، وهذا الظاهر صنيع المصنف أنه يريد به الفاعل؛ لأنه سيأتي: وَلَا تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلَا
…
بِمُضْمَرٍ، ثم قال: بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ، فالظاهر به الفاعل، أو يزاد عليه المنصوب من الثاني.
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!