الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (المفعول له) وحده وحكمه
* حالات المفعول له من حيث التجرد وعدمه
* شرح الترجمة (المفعول فيه وهو المسمى ظرفاَ) ـ
* حد الظرف وعلامته. وجكم ماأتي صورته
* حكمه ،عامله ، وحكم عامله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
قال الناظم -رحمه الله تعالى-: المَفْعُول لهُ.
وهذا هو الباب الثاني من باب المنصوبات، حيث قدم المفعول المطلق، قلنا: كما سبق أنه أولى المفاعيل بالتقديم، وهنا قدم المفعول له على المفعول فيه، ورتبها كما ذكرناه سابقاً، المفعول به ذكره قيل استطراداً في باب تعدي الفعل ولزومه، ثم عنون للمفعول المطلق، ثم المفعول له، ثم المفعول فيه، ثم المفعول معه، هنا قدم المفعول له على المفعول فيه، هل هو مقصود؟ الظاهر أنه مقصود لأنه أدخلُ منه في المفعولية، يعني: المفعول له من حيث المفعولية وعدمها هو أقرب، بل هو مفعول الفاعل حقيقة؛ لأنه إذا قيل: ضربت زيداً تأديباً، تأديباً هذا فعل من؟ فعل الفاعل وأقرب إليه، وأما المفعول فيه: صمت يوم الخميس، يوم الخميس هذا ليس فعل الفاعل، بل هو ظرف، كذلك: جلست أمامك، أمامك هذا ظرف حينئذٍ هو منفك عن فعل الفاعل، هو ظرف لفعل الفاعل، الحدث الذي وقع فيه، وأما المفعول له لا، مثل: جُدْ شُكْرَاً، الشكر فعل الفاعل نفسه، إذاً هو أدخل إلى المفعولية من المفعول فيه.
لأنه أدخل منه في المفعولية لكونه مفعول الفاعل حقيقة، وأقرب إلى المفعول المطلق بكونه مصدراً، بل قال الزجاج والكوفيون: أنه مفعول مطلق كما سبق؛ يعني المفعول لأجله -المفعول له- هذا مفعول مطلق عند الكوفيين، إذاً ليس بأصل، وإنما هو تابع للمفعول المطلق، حينئذٍ أقرب ما يكون باباً بعد المفعول المطلق، هو المفعول فيه للعلتين المذكورتين.
المَفْعُولُ لَهُ، ويقال: المفعول من أجله، والمفعول لأجله، ثلاثة أسماء، والمسمى واحد.
المَفْعُولُ لَهُ: لَهُ الضمير هذا يعود إلى (أل)، ألـ مفعول له، الضمير يعود على (أل)، إن جعلنا (أل) موصولة، إذا قلنا:(أل) موصولة فالضمير يعود إليها، وإذا قلنا:(أل) ليست موصولة كما هو قول بعضهم، حينئذٍ الضمير لا بد له من مرجع، أين مرجعه؟ موصوف محذوف: الشيء الذي فُعِل له، أو الشيء المفعول، لا نقدر الذي؛ لأنهم لا يرون أنها موصولة، الشيء المفعول له، الضمير عاد على الشيء موصوف محذوف، والصواب الأول أن الضمير يعود إلى (أل) وهي موصولة؛ لأن المفعول هذا مفعول وهو صفة، وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ (ألْ) حينئذٍ نقول: المفعول يعني الذي فُعل له الفعل، وهذا متى؟ هذا قبل جعله علَماً، قبل جعله علماً نبحث في الضمير، وأما بعد جعله علماً حينئذٍ صار الضمير (الهاء) هنا (كالدال) من زيد؛ لأننا أخذنا المفعول له مركب هذا، (له) نقول: المفعول له، (له) هنا هذا نائب فاعل، حينئذٍ نقول: الضمير قبل جعله علَماً هو اسم مستقل، و (اللام) حرف جر، والمفعول هذه كلمتان، ثم نُقل اللفظ نفسه فصار علماً، مثل: تَأَبَّطَ شَرّاً، تَأَبَّطَ شَرّاً نقول: فعل وفاعل ومفعول به، متى؟ قبل جعله علماً، أما بعد جعله علماً فهو لفظ مفرد، لو سمي رجل بـ قام زيد أو زيد قائم، وشاب قرناها، حينئذٍ نقول: هذه قبل جعلها علماً نبحث فيها من حيث الفاعل وعدمه، من حيث مرجع الضمير وعدمه، وأما بعد جعلها علماً، حينئذٍ تمحضت بالعلمية، وسلخ منها معنى الفاعل والمفعول ومرجع الضمير، وكونه كلمتين أو أكثر، كل هذا بعد العلمية ينسلخ منه هذا التركيب.
إذاً: المَفْعُولُ لَهُ نقول: الضمير هنا بعد جعله علماً لا مرجع له؛ لأنه صار كالدال من زيد.
المفعول له ولأجله ومن أجله: حقيقته -من باب التعريف قبل الولوج في الأبيات- نقول: هو المصدر المعلِّل لحدث شاركه وقتاً وفاعلاً، هذه أشبه ما تكون بأركان أو شروط، بمعنى أنه يتحقق بها وجود المفعول له، إن وجدت مجتمعة قلنا: هو مفعول له، وإن فقد بعضها حينئذٍ لا يصح وصفه، بكونه مفعولاً له، وفيه خلاف: هل إذا جر ما زال كونه مفعولاً له أو لا؟ سيأتينا.
إذاً المصدر .. المفعول له هو المصدر، إذاً لا بد أن يكون مصدراً، والمصدر سبق معنا أنه اسم الحدث الجاري على الفعل، فحينئذٍ ما لم يكن مصدراً لا يكون مفعولاً له، فالعلاقة بين المفعول له والمصدر: العموم والخصوص المطلق، فكل مفعول له مصدر من غير عكس، يعني: لا يلزم أن يكون كل مصدر مفعولاً له؛ لأنه يأتي مبتدأ ويأتي خبر .. إلى آخر ما ذكرناه سابقاً، فحينئذٍ إذا كان مفعولاً له لزم أن يكون مصدراً.
المُعَلِّل يعني: الذي يفيد علة الفعل، مفهومه أن ليس كل مصدر يكون معلِّلاً، إذاً المصدر هذا عام، وإذا كان عاماً نحتاج إلى فصل لإخراج بعض أفراده، وهو كون المصدر على نوعين: مصدر معلِّل، يعني: يذكر لبيان علة فعل الشيء: جئتُ إكراماً لك، إكراماً هذا مصدر بيَّن علة المجيء، فنقول: هذا مصدر معلِّل، وإذا لم يكن كذلك حينئذٍ لا يصلح أن يكون مفعولاً له.
المصدر المعلِّل لحدث، الذي هو العامل فيه سواء كان فعلاً أو مصدراً أو وصفاً، شاركه وقتاً وفاعلاً بمعنى أن ذلك المصدر المعلل، شارك الفاعل في الوقت لم يتأخر عنه، بل في وقتٍ واحدٍ، وكذلك الفاعل للحدث هو الفاعل للمصدر المعلل، فاجتمعا في الزمن واجتمعا في الفاعل، وهذا سيأتي في محترازته كلها.
مثاله قوله تعالى: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)) [البقرة:19] حَذَرَ هذا مصدر معلِّل ذُكر لبيان علة جعل أصابعهم في أذانهم، لم جعلوا أصابعهم في أذانهم؟ حَذَرَ الْمَوْتِ، ولذلك ضابط المعلِّل: أن يقع في جواب (لِمَ)، ضبطه الحريري في الملحة:
وَغَالِبُ الأَحوَالِ أَن تَرَاهُ
…
جَوَابَ لِمْ فَعلْتَ مَا تَهوَاهُ
فضابط المصدر المعلل: أنه يصح أن يقع في جواب (لِمَ)، لِمَ يجعلون أصابعهم في آذانهم؟ حذر الموت، جئتُ إكراماً لك، لِمَ جئت؟ إكراماً لك، ضربتُ ابني تأديباً، لِمَ ضربت ابنك؟ تأديباً، إذا وقع في جواب (لِمَ). وَغَالبُ الأَحَوالِ -ليس غالب .. ، لا مفهوم له، بمعنى أنه في غير الغالب يأتي بغير جواب (لِمَ)، وإنما ذكره هكذا، لا مفهوم له-، وَغَالبُ الأَحوَالِ أَن تَرَاهُ -بل في كل الأحوال-، جوَابَ لِمْ فعلْتَ مَا تَهوَاهُ، بإسكان الميم للوزن.
إذاً: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}}، نقول: (((((هذا منصوب على المفعولية، فهو مفعول له -من أجله-، فـ (((((مصدر منصوب ذكر علةً لجعل الأصابع في الأذان، وزمنه -وزمن الجعل واحد-، الزمن واحد، وفاعلهما أيضاً واحد وهم الكافرون، الذين حذروا الموت هم الكافرون، ويجعلون (الواو) هذه؟؟؟ الكافرون، فالفاعل واحد والوقت واحد، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ هل يعني أصابعهم كلها -كل الأصبع يدخل في الأذن أم بعضه؟ هذا من باب إطلاق الكل مراداً به الجزء، عند من يرى المجاز يقول: مجاز مرسل علاقته الكلية والجزئية، يعني: أطلق الكل مراداً به الجزء.
قال الناظم -رحمه الله تعالى-:
يُنْصَبُ مَفْعُولاً لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ
…
أَبَانَ تَعْلِيلاً كَجُدْ شُكْرَاً وَدِنْ
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ
…
وَقْتَاً وَفَاعِلاً وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ .. فَاجْرُرْهُ بِالَّلَامِ –نسختان-.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ
…
مَعَ الشُّرُوطِ كَلِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ
يُنْصَبُ هذا بيان لحكم المفعول له، وأن حكمه النصب، هل ينصب جوازاً مع بقية الشروط .. مع استيفاء الشروط أم أن الشروط لبيان جواز النصب؟ إن توفرت الشروط وجدت حينئذٍ لك اختياراً إن شئت أن تنصبه، وإن شئت أن تجره باللام، نقول: يُنْصَبُ المراد به جوازاً، وأن المفعول له ليس من المنصوبات واجبة النصب، بخلاف المفعول به لا يجوز إلا نصبه إلا إذا دخلت عليه (مِن) حرف جر زائد، وكذلك الحال لا يجوز نصبه إلا على قولٍ: جئت بمبكرٍ، مثل (مِن)، والتمييز في الجملة، فالأصل فيها أن النصب فيها واجب، المفعول به واضح، وكذلك الحال والتمييز بعضه قد يكون مجروراً، وبعضه يكون منصوباً، بعضه واجب النصب، وبعضه جائز النصب.
الحاصل أن قوله: يُنْصَبُ المراد به جوازاً لا وجوباً، ف حينئذٍ الباب كله من أوله إلى آخره البحث فيه في جواز النصب، فإذا استوفى المفعول له شروطه على الوجه المرضي عندهم -خمسة شروط- حينئذٍ نحكم عليه بأنه يجوز نصبه ويجوز جره باللام.
يُنْصَبُ المصدر، يُنْصَبُ هذا فعل مضارع مغير الصيغة، ومَفْعُولاً لَه هذا حال من المصدر، ينصب المصدر حال كونه مفعولاً له، اَلْمَصْدَرُ هذا نائب الفاعل، مَفْعُولاً لَه تقدمت الحال على صاحبها، وهذا جائز، ينصب المصدر حال كونه مفعولاً له، وما الناصب له؟ أطلق الناظم هنا، لم يعين الناصب للمفعول له، فنقول: العامل فيه الفعل قبله؛ إن كان فعل، إن وجد فعل، الفعل قبله على تقدير حرف العلة عند الجمهور من البصريين، الفعل قبله -قبل المفعول له- على تقدير حرف العلة عند جمهور البصريين، فعليه في حقيقته هو من المفعول به بعد نزع الخافض، وكأنه مفعول به، لكن نزع حرف الجر، ضربت ابني تأديباً يعني: لتأديبٍ، هذا الأصل، حذف حرف العلة، ثم انتصب، وسبق أن المجرور إذا حذف حرف الجر حينئذٍ ينتصب ما بعده:
وَعَدِّ لَازِمَاً بِحَرْفِ جَرِّ
نَقْلاً ........
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لْلِمُنْجَرِّ
ومنه هذا الباب باب المفعول له، وهو أنه في الأصل مجرور بحرف علة، حرف الجر وهو حرف تعليل، فلما حذف حرف العلة حينئذٍ انتصب، فحقيقته هو من المفعول به.
وقال الزجاج: ناصبه فعل مقدر من لفظه، والتقدير جئتك، لو قال: جئتك إكراماً، جئتك أكرمك إكراماً، صار من باب المفعول المطلق، ولذلك الزجاج والكوفيين يرون أنه من المفعول المطلق، لماذا؟ لأن العامل فيه ليس هو الفعل المذكور، وإنما هو فعل مقدر من لفظ المصدر المذكور، وإذا كان كذلك صار مثل جلست قعوداً، جلست وقعدت قعوداً، قعدت جلوساً، قعدت وجلست جلوساً، جئت إكراماً لك، جئت أكرمك إكراماً، فحينئذٍ نقدر له فعلاً من لفظ المصدر المذكور، وعليه فهو مفعول مطلق.
وقال الكوفيون: ناصبه الفعل المتقدم عليه؛ لأنه ملاقٍ له في المعنى، مثل قعدت جلوساً، وعليه أيضاً فهو مفعول مطلق عند من أعرب جلوساً في قعدت جلوساً مفعولاً مطلق، على مذهب الكوفيين، هو ما قبله، المصدر الذي قبله؛ لكونه ملاقٍ له في المعنى، الفعل الذي قبله لكونه ملاقٍ له في المعنى، وإذا لاقاه في المعنى حينئذٍ صار من باب قعدت جلوساً، فقعدت جلوساً هذا مفعول مطلق كما سبق، خلافاً لابن مالك الذي قال: وَافْرَحِ الْجَذَلْ يكون من باب النيابة، حينئذٍ يكون كذلك من باب المفعول المطلق، وهذا توجه تأويلهم للباب كله وجعله للباب السابق.
يُنْصَبُ مَفْعُولاً لَه الْمصْدَرُ.
إذاً عرفنا حكمه وعرفنا حقيقته، بيَّن الشروط التي هي داخلة في حقيقة المفعول ل، هـ بحيث إن وجدت حينئذٍ جاز لك أن تنصبه، وإن انتفت أو انتفى واحد منها حينئذٍ امتنع نصبه، فَفَقْدُ الشرط له أثر في المنع، ووجود الشروط مستوفية حينئذٍ ليس له أثر في إيجاب النصب، وإنما له أثر في تجويزه، فهي شروط مجوِّزة لا موجبة بخلاف النفي، فإذا انتفت الشروط كلها أو بعضها، حينئذٍ نقول: سقط النصب، لا يجوز النصب، يمتنع، وأما إذا وجدت حينئذٍ الوجود ليس له تأثير من حيث إيجاب النصب.
(إِنْ) هذا شرط، أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا شرطٌ الأول.
ثم قال: وَهْو بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ شرطٌ ثاني، وَقْتاً وَفَاعِلاً ذكر شرطين.
أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا الثالث، بقي واحد وهو المصدر، الأول أشار إليه بقوله: الْمصْدَرُ ينصب المصدر مفعولاً له، فإن لم يكن مصدراً حينئذٍ لا ينصب على المفعولية.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً، يعني: إن أظهر تعليلاً، يعني بيَّن هذا المصدر علة الحدث الذي وقع، جئت، لم جئت؟ قال: إكراماً، فحينئذٍ نقول: وقع هذا المصدر لبيان علة ذكر الحدث.
هذه الشروط ظاهرها أنها شروط لنصبه، وأنه عند جره يسمى مفعولاً له، لذا قال: إن أبان تعليلاً وعطف ما بعده، ثم قال: وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ، فَاجْرُرْهُ ما هو؟ المفعول له، هذا الظاهر فاقد الشرط، حينئذٍ هل يسمى مفعولاً له مع استيفاء شروطه وجره بلام التعليل، أو لا يسمى إلا إذا كان منصوباً؟
لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ ذا قنع زهداً، زهداً بالنصب لا شك أنه مفعولاً له، لو قال: ذا قنع لزهد مع استيفاء الشروط فجره (باللام) هل هو كذلك يسمى مفعولاً له أم خرج عن المفعولية فصار جاراً ومجروراً؟ نقول: ظاهره أن هذه شروط لنصبه، وأنه عند جره يسمى مفعولاً له كذلك، يعني: بعد جره، والجمهور على أنه حينئذٍ مفعول به إذا جُرَّ بـ (اللام)؛ لأنه رجع إلى أصله، قلنا: هو انتصب على نزع الخافض، فهو في الأصل مفعول به، فإذا جُرَّ بـ (اللام) خرج عن كونه مفعولاً له، فرجع إلى أصله وهو المفعول به، والجمهور على أنه حينئذٍ مفعول به، وعليه هذا الشروط لتحقق ماهية المفعول له.
إذاً هذه الشروط لبيان حقيقة المفعول له، وحينئذٍ إذا جر بـ (اللام) قلنا: رجع إلى أصله وهو أنه مفعول به ولا يسمى مفعولاً له.
وقوله: إِنْ أَبَانَ يعني: أن أظهر، تَعْلِيلاً أي أظهر علة الشيء الذي هو الحدث الذي وقع، أي الباعث على الفعل سواء كان غرضاً، نحو: جئتك جبراً لخاطرك، علة الشيء قد يكون الشيء غرضاً، جئت جبراً لخاطرك، إذاً غرض، شيء في النفس، يعني: إرادة سابقة، أو لا يكون كذلك، لا يكون غرضاً، مثل: قعدت عن الحرب جبناً، هل هو مثل الأول؟ جئت جبراً لخاطرك، يعني: هنا بيَّن الإرادة التي كانت سبباً في المجيء، وأما: قعدت جبناً، الجبن هذا لازم له، لا يكون غرضاً، لا يقصد مثل المجيء، حينئذٍ يكون عاماً للنوعين، فقد يكون المفعول له غرضاً، وذلك فيما إذا كانت الإرادة سابقة للفعل نفسه، جئت جبراً لخاطرك، حينئذٍ الجبر هذا -جبر الخاطر- هو علة في حصول المجيء، فلو لم يكن ما حصل المجيء، وأما الجبن فهو ملازم له، الجبان جبان، لا يكون في وقت جبان وفي وقت آخر ليس بجبان، الشجاعة صفة لازمة، والجبن صفة لازمة، وهي من أفعال السجايا جَبُنَ، ولذلك نقول: فَعُلَ، إذاً هو من أفعال السجايا فهو صفة لازمة، أو لا، كـ: قعدت عن الحرب جبناً.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً فيشترط في المصدر الذي ينصب على المفعولية على أنه مفعول له أن يكون معلِّلاً، لكن يشترط فيه أن يكون مغايراً للفظ عامله، إذ لو كان مطابقاً للفظ عامله لصار مفعولاً مطلقاً، هذا قيد لا بد من زيادته، يشترط أن يكون من غير لفظ الفعل، فإن كان نحو حِيلَ محِيلاً، محيلاً نصب على المصدرية، يعني: صار مفعولاً مطلقاً.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا القيد الثاني، والشرط الثاني.
قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب وهو كونه معلِّلاً، كونه معلِّلاً قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب لماذا؟ إذ إبانة التعليل من حقيقة المفعول له، فليست شرطاً خارجاً عن ماهية المفعول له، فرق بين الركن والشرط، الركن ما كان داخلاً في جزء الماهية، والشرط خارج عنه، حينئذٍ كونه معللاً هو داخل في ماهية المفعول له، وإذا كان كذلك لا يجعل شرطاً؛ لأننا إذا جعلناه شرطاً حكمنا عليه بأنه ليس داخلاً في الماهية:
وَالرُّكنُ جُزءُ الذَّاتِ والشَّرطُ خَرَج، نقول: الطهارة شرط لصحة الصلاة، والفاتحة ركن، فرق بين الطهارة وقراءة الفاتحة، الفاتحة تكون في الماهية داخلة، والشرط يكون خارجاً.
كونه معللاً هل هو ركن أم شرط؟ الظاهر أنه ركن بمعنى أنه داخل في ماهية المفعول له، حينئذٍ كيف نقول: هو شرط؟ قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب؛ إذ إبانة التعليل من حقيقة المفعول له، فالجواب: أن المصدر إن أبان تعليلاً في المعنى ينصب حال كونه في الاصطلاح يسمى بالمفعول له، يعني: ينظر له من جهتين، نحكم عليه أولاً بأنه معلِّلاً، هذا معنى لغوي قبل الدخول في الاصطلاح، فحينئذٍ ننصبه على أنه مفعول له، ويسمى حينئذٍ مفعولاً له في اصطلاح النحاة، إذاً قبل الحكم عليه بأنه منصوب مفعول له ننظر نظر سابق وهو أنه هل هو مفيد للتعليل أم لا؟ فحينئذٍ الشرط هنا شرط لتحقيق الاسم فحسب، ليس شرطاً في إيجاد المفعول له من حيث هو، فنقول: ننظر في المصدر هل أبان تعليلاً أو لا؟ إن أبان تعليلاً حينئذٍ صح أن نحكم عليه في اصطلاح النحاة بأنه مفعول له، فحينئذٍ صار هذا الشرط سابقاً لوجود اصطلاح النحاة وهو المفعول له، صار ممهداً كالتوطئة مثل ما ذكرنا في زيد في التثنية والجمع، قلنا: لا تثنى ولا يجمع الأعلام، بل لا بد أن يكون نكرة، ثم نقول: الذي يجمع هذا الجمع كعامر علم كيف نشترط فيه أنه علم، ثم نقول: لا يجمع العلم؟ قلنا: شرط العلمية توطئة لجمعه، فهو شرط سابق، وأما التنكير فهو شرط بالفعل، كأنه ذاك في الأول شرط بالقوة ليهيئ الكلمة لأن تكون صالحة للجمع، يعني: تنظر في القواميس وتنظر في ما جاء في لسان العرب، هذا جامد هذا علم، حينئذٍ إذا حكمت عليه بأنه علم من أجل أن تُجوِّز لنفسك جمعه ثم تُنَكِّرُهُ، فالتنكير شرط للإقدام، وأما الحكم عليه بكونه علماً، هذا شرط لتهيئة اللفظ من أجل جمعه، هو نفس الكلام هنا.
فالحكم عليه بكونه معلِّلاً شرط لتهيئة اللفظ من أجل صدق مصطلح النحاة وهو مفعول له على هذا اللفظ، إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً.
كَجُدْ شُكْرَاً مثل بمثالين، جُدْ شُكْرَاً، شُكْرَاً هذا مصدر، وقد أبان تعليلاً فإنَّ معناه جد لأجل الشكر، وهو واقع في جواب لِمَ، لِمَ حصل منك الجود؟ شُكْرَاًً.
وَدنْ أي طاعة، هذان مثالان: جُدْ شُكْرَاً مثال، وَدنْ هذا أمر، دان يدين دِن، بمعنى اخضع، حذف مفعوله لدليلٍ، وفيه فائدة أنه يجوز حذف المفعول له لدليلِ، وَدنْ طاعة، فهو مثال ثاني بمعنى اخضع، حذف مفعوله لدليل.
ثم قال:
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ ........
…
وَقْتَاً وَفَاعِلاً وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ
...............................
وَهْوَ أي المصدر المعلِّل، لا تقل: المفعول له، المصدر المعلِّل؛ لأننا ما زلنا نترقى في استيفاء الشروط من أجل النصب، حكمنا عليه بكونه مصدراً، ثم معلِّل، بقي شرطان، وهو كونه متحداً مع الحدث ومشاركاً له وَقْتَاً وَفَاعِلاً.
وَهْوَ أي المصدر المعلِّل، بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ، بِمَا (الباء) بمعنى مع، يعني: مع ما يعمل فيه متحد، مُتَّحِدْ هذا خبر وَهْوَ، وَهْوَ، بإسكان (الهاء) للوزن، وَهْوَ أي المصدر المعلل، متحد بما يعمل فيه، وما الذي يعمل فيه؟ الحدث إما أن يكون في ضمن الفعل أو الوصف أو المصدر، وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ، وَهْوَ أي المصدر المعلل، مُتَّحِدْ مع ما يعمل فيه وَقْتاً يعني في وقتٍ، منصوبٌ على نزع الخافض، وَفَاعِلٍ كذلك منصوب على نزع الخافض، ويحتمل أنهما تمييزان. وَقْتاً وَفَاعِلاً بمعنى أنه يشترط أن يكون وقت إيقاع المصدر هو وقت إيقاع الحدث، العامل فيه، ضربت ابني تأديباً، أن يكون التأديب في زمن الضرب، وأن يكون فاعل التأديب، وفاعل الضرب واحد، فإن انتفيا أو انتفى واحد منهما حينئذٍ انتفى وصف المفعول له، ورجع إلى أصله، وهو من وجوب جره بحرف التعليل.
وَهْو بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ وَقْتاً وَفَاعِلاً .. لم يذكر هنا كونه قلبياً، هذا شرط خامس قد زاده البعض، كونه قلبياً، يعني: المصدر أن يكون قلبياً، احترازاً من أفعال الجوارح، فإذا كان المصدر مبيناً لفعل من أفعال الجوارح، جئتك قراءة للعلم، قراءةً هذا مصدر معلل متحد مع الحدث فاعلاً ووقتاً، وُجِدت فيه الشروط الأربعة، لكن قراءة هذا ليس بعمل قلبي، وإنما هو عمل بالجوارح، قالوا: هذا ليس مصدراً، لا يصح نصبه على أنه مفعول له لماذا؟ لأن القراءة فعل من أفعال الجوارح والحواس، ويشترط في المصدر المنصوب على المفعولية له أن يكون قلبياً، قيل: استغنى عن اشتراط كونه قلبياً لاشتراط اتحاد الوقت، لأن أفعال الجوارح لا تجتمع في الوقت مع الفعل المعلِّل، كأنه اكتفى بقوله: وقتاً، وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ وَقْتاً، هذا يدل على أن المصدر لا يكون إلا قلبياً؛ لأنه لا يجتمع مع الحدث -الفاعل له- في الوقت إلا إذا كان قلبياً، وأما أفعال الجوارح فلا يتصور فيها ذلك الاجتماع في الزمن، فبهذا استغني عن اشتراط كونه قلبياً؛ لأن أفعال الجوارح لا تجتمع في الوقت مع الفعل المعلِّل، فلا يصح حينئذٍ قولك: جئتك قراءة للعلم.
إذاً اشترط بعضهم؛ وهذا منسوب للمتأخرين؛ أنه لا يكون الفعل أو المصدر منصوباً على المفعولية له إلا إذا كان قلبياً؛ لأن العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، هذا تعليل آخر، العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، لماذا جئت؟ المجيء ما وقع إلا من أجل الغرض، والغرض هذا أين محله؟ القلب، ثم هل هو سابق عن الفعل أو مقارن أو لاحق؟ سابق، يوجد أولاً الإرادة، ثم بعد ذلك يوجد الفعل، الإرادة سابقة على الفعل، لا شك في هذا، حينئذٍ نقول: العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، والحامل على الشيء متقدم عليه، وأفعال الجوارح ليست كذلك، وردَّه الرضي -رَدَّ هذا الشرط-؛ بأنه لا يشترط في المصدر أن يكون قلبياً؛ لأنهم اتفقوا على جواز إعراب (إصلاحاً) من قول: جئتك إصلاحاً لأمرك، وضربته تأديباً، التأديب هذا شيء حسي، وإصلاحاً هذا شيء حسي كذلك، واتفقوا على أنهما منصوبان على المفعولية مفعول له، كيف نشترط أن يكون قلبياً، ونحن اتفقنا على جواز جئتك إصلاحاً لأمرك وضربته تأديباً، والأصل عدم التقدير، قد يقال بأنه ضربته لإرادة التأديب، وجئتك لإرادة إصلاح أمرك، فالأصل عدم التقدير، مادام أنه حُكِم عليه بأنه مفعول له فالأصل تنزيل المصطلح على اللفظ لا على المضاف المقدر.
ورَدَّه الرضي بجواز جئتك إصلاحاً لأمرك، وضربته تأديباً، اتفاقاً، حينئذٍ قال تنصيصاً على هذا: المفعول يكون على ضربين - يعني المفعول له-: ما يتقدم وجوده على مضمون عامله، حينئذٍ يكون من أفعال القلوب، نحو: قعدت جُبناً، لا شك أن الجُبْنَ هذا سابق عن القعود، موجود أولاً ثم قعد، ما حمله على القعود إلا الجبن، فهو سابق.
الثاني ما يتقدم على الفعل تصوراً في الذهن فحسب لا في الوجود، ما يتقدم على الفعل تصوراً، أي: يكون غرضاً ولا يلزم كونه فعل القلب، نحو ضربته تقويماً، وجئته إصلاحاً، ضربته تأديباً أو تقويماً وجئته إصلاحاً.
إذاً قد يكون المفعول له ليس فعل قلب، وقد يكون كذلك، وأما اشتراطه مطلقاً في كل مفعول له، فهذا محل نظر.
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ: وَهْوَ أي المصدر المعلل، مُتَّحِدٌ بِمَا يعني مع ما يَعْمَلُ فِيهِ، وَقْتَاً يعني في الوقت، وفي الفاعل، فإن انتفت المصدرية انتفى المفعول له، وإن انتفى التعليل انتفى المفعول له، وإن انتفى كونه متحداً مع ما يعمل فيه في الوقت انتفى المفعول له، والرابع مثله، ولذلك قال: وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ، وَإنْ شَرْطٌ من هذه الشروط المذكورة، فُقِدْ يعني: لم يوجد، فَقدُ الشيء إنما يكون بعد وجوده، هذا الأصل، لكن مراده هنا لم يتوفر من أصله، فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ يعني فاجرره وجوباً، لا يجوز نصبه على أنه مفعول له، بل يجب جره بالحرف، والمراد بالحرف هنا حرف التعليل، وفي بعض النسخ فاجرره بـ (اللام)، المراد بها (لام) التعليل، وأطلقها لأنها هي الأصل في الباب، وما عداها محمول عليها، وإلا فحروف التعليل:(اللام) و (من) و (الباء) و (في) هذه أربعة، وزاد بعضهم:(الكاف)، وزاد بعضهم (على)، لكن المشهور هذه الأربعة التي تدخل على المفعول له أصالةً قبل دخول الحرف.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وجوباً، فاجرره بـ (اللام) وجوباً، وما يقوم مقامها، والظاهر أن النسخة بـ (اللام) هي مراد المصنف؛ لأنه قال بعد ذلك: وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ وقل أن يصحبها ما هي؟؟؟؟ هذا الظاهر والله أعلم، أوله بعضهم: قل أن يصحبها حرف الجر بتأويل الكلمة، يَصْحَبَهَا يعني الكلمة أوَّل حرف، فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ فاجرره بالكلمة، التي هي حرف، فأول الحرف بالكلمة وأعاد الضمير عليها بالتأويل، فهذا فيه بُعد، إذاً فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ أو بـ (اللام) نقول: سيان، لكن الظاهر هي بـ (اللام)، ولذلك هي التي شرح عليها الأشموني بـ (اللام)، وأما التي شرح عليها المكودي بالحرف، على كل هذا وذاك ليس بقرآن.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ، مثال ما فقد المصدرية نحو قوله تعالى:((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)) [البقرة:29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ (اللام) هذه (لامُ) التعليل فتحت من أجلِ -الأصل فيها الكسر، لتأديبٍ مكسورة هذا الأصل فيها،- فتحت هنا من أجل دخولها على الضمير (له)(لك) فحرف الجر هنا يفتح، فإن المخاطبين هم العلة في الخلق، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ)) [البقرة:29] لم خلق؟ لكم، إذاً صح أن يقع في جواب لِمَ، فالخلق هو الحدث، وهو معلل، والعلة هو المخاطبون بهذه الآية، وخفض ضميرهم بـ (اللام)؛ لأنه ليس مصدراً فقال:(لَكُمْ)، إذاً مثال ما انتفى فيه المصدرية قوله تعالى:((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ)) [البقرة:29]، ومثال ما فقد اتحاد الزمن قول الشاعر:
فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا
…
لَدَى السِّتْرِ إِلا لِبْسَةَ الْمُتَفَضِّل
النَّوْمُ هو علة، جِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ، يعني خلعت، لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا، خلع الثياب لمَ؟ لمَ خلعت؟ للنوم، فالنوم علة، إذاً النوم مصدر، وهو معلل، والفاعل واحد، حينئذٍ نقول: ما الذي فقد هنا؟ هو اتحاد الزمن؛ لأن خلع الثياب سابق على النوم، لا يكون مع النوم، حينئذٍ نقول: جئت وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا، لِنَوْمٍ وجب جره بـ (اللام) مع كونه مصدراً معللاً لماذا؟ لفقد شرط اتحاد الوقت، إذ خلع الثياب هذا سابق على النوم مع كون الفاعل واحداً.
ومثال فقد اتحاد الفاعل قول الشاعر:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ
…
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلّلَهُ الْقَطْرُ
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ، الذكرى هي علة عرو الهزة، تذكر فحصلت له هزة، كمثل العصفور إذا جاء عليه مطر ينتفض، هذا مثلها، إذا تذكرها انتفض، سبحان الله! فإن الذكرى هي علة عرو الهزة، وزمنهما واحد، الزمن واحد، ولكن اختلف الفاعل، ففاعل العرو هو الهزة، وفاعل الذكرى هو المتكلم؛ لأن المعنى لذكري إياكِ، فلما اختلف الفاعل وجب جره بـ (اللام).
وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ
…
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ، هل يتصور فقد شرط التعليل؟ لا يتصور، حينئذٍ وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ: المصدرية واتحاد الوقت واتحاد الفاعل، وأما التعليل لا يتصور أن يفقد من هذه الشروط؛ لأنه لا يجب جره بـ (اللام)، كيف يفقد التعليل ثم نوجب جره بحرف تعليل! هذا ممتنع، تناقض هذا، حينئذٍ نقول: وَإنْ شَرْطٌ فُقِدَ إلا التعليل، حينئذٍ لا بد من أن يكون موجوداً، وإلا لما وجب جره بـ (اللام).
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ أو بـ (اللام)، وما يقوم مقامها، وهو:(من) و (في) و (الباء)، سرى زيد للماءِ أو للعشبِ، هذا (اللام)، ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ)) [الحج:22] مِنْ غَمٍّ، (من)، {إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها} ، إذاً: إن فقد شرطاً من هذه الشروط ما عدا التعليل وجب جره بـ (اللام)، أو ما يقوم مقامها.
ثم قال: وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ مَعَ الشُّرُوطِ، ما هو الذي لا يمتنع؟ الجر أو النصب؟ الجر بالحرف -حرف التعليل-، وَلَيْسَ الذي هو: فاجرره بـ (الحرف) أو بـ (اللام)، ليس جره بـ (اللام) يمتنع –ممتنعاً-، متى؟ مع الشروط المذكورة بل يجوز، كقولك: لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ، ذا اسم إشارة، وقَنِعْ فعل ماضي، والفاعل مستتر، لِزُهْدٍ: ذا قنع زهداً، هذا الأصل، فهو مصدر معلل موافق لعامله في الوقت وفي الفاعل، الوقت واحد، القناعة والزهد في وقت واحد، والفاعل واحد، فحينئذٍ نقول: الأصل فيه أنه ينصب على المفعولية، ويجوز جره بـ (اللام)، وفيه جواز تقديم المفعول له على عامله، قال: لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ تقدم على العامل، فدل على جواز تقديم المفعول له على عامله منصوباً كان أو مجروراً، زهداً ذا قنع، ذا قنع زهداً، لزهد ذا قنع، ذا قنع لزهد، هذا أو ذاك، سواء كان منصوباً أو مجروراً يجوز تقديمه، والأصل فيه التأخير.
قال الشارح: المفعول له هو المصدر المفهم علة المشارك لعامله في الوقت والفاعل، نحو: جُدْ شُكْراً، فشكراً مصدر، وهو مفهم للتعليل، وضابط كونه مفهماً للتعليل أن يصح أن يقع في جواب لِمَ فعلت كذا؟
وَغَالِبُ الأَحَوَالِ أَنْ تَرَاهُ
…
جوَابَ لِمْ فَعَلْتَ مَا تَهْوَاهُ
لأن المعنى جد لأجل الشكرِ، ومشاركٌ لعامله، وهو جد في الوقت؛ لأن زمن الشكرِ هو زمن الجود، وفي الفاعل؛ لأن فاعل الجود هو المخاطب، وهو فاعل الشكرِ، كذلك ضربت ابني تأديباً، فتأديباً مصدر وهو مفهم للتعليل، إذ يصح أن يقع في جواب لمَ فعلت الضرب؟ فهو مشاركٌ لضربت في الوقت والفاعل، وحكمه جواز النصب.
إذاً قوله: يُنْصَبُ مَفْعُولاً لَه الْمصْدَرُ جوازاً لا وجوباً، ولو مع استيفاء الشروط، استيفاء الشروط هذه للتجويز لا للإيجاب، إن وجدت فيه هذه الشروط الثلاثة؛ أعني المصدرية وإبانة التعليل واتحاده مع عامله في الوقت والفاعل، جعلهما شرطاً واحداً، ولم يذكر كونه قلبياً، والظاهر أنه يسقطه، فإن فقد شرط من هذه الشروط تعين جره بحرف التعليل، وهو (اللام) أو (من) أو (في) أو (الباء)، فمثال ما عدمت فيه المصدرية قولك: جئتك للسمن، لا يصح أن تقول: جئتك السمن والعسل، يعني: ما جاء بي إلا من أجل السمن، هذا لا يصح لماذا؟ لأن السمن ليس مصدراً، والعسل كذلك ليس مصدراً، ((وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ)) [الرحمن:10]، الأَنَامِ ليس مصدراً.
ومثال ما لم يتحد مع عامله في الوقت: جئتك اليوم للإكرام غداً، جئتك اليوم حصل المجيء اليوم، والإكرام المترتب على المجيء سيكون غداً، إذاً انفصلا في الزمن، ومثله: تأهبتُ السفر، لا يصح، وإنما تقول: تأهبتُ للسفرِ، تأهبتُ السفرَ، السفرَ هو علة للتأهب لكنه سابق عليه، حينئذٍ مثل: نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا.
ومثال ما لم يتحد معامله في الفاعل: جاء زيدا لإكرام عمر له، جاء زيد لإكرام من؟ عمرو له، جئتك محبتك إياي، المحبة وقعت لمن؟ محبتك إياي، جئتك فاعل المجيء أنا، جئتك، محبتك إياي، المحبة ليست مني، لابد أن يقع مدلول المصدر من المتكلم، جد شكراً، جدتُ شكراً، الجود والشكر مني أنا، متحد، وأما هنا جئتك محبتك إياي، وجب جره بـ (اللام)؛ لأن المحبة ليست مني، ليست فعلي أنا، وإنما هو فعل المخاطب، ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ)) [الأنعام:151] ما الذي فقد؟ مِنْ إِمْلاقٍ فقرٍ، هذا مثَّلوا له بفقد كونه قلبياً، بخلاف خَشْيَةِ إِمْلاقٍ، وقد انتفى الاتحادان في قوله:((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) [الإسراء:78] لا الوقت ولا الفاعل، ((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) فدلوك الشمس ليس فاعله مقيم الصلاة، حينئذٍ انتفى فيه شرط اتحاد الوقت والفاعل.
ولا يمتنع الجر بالحرف مع استكمال الشروط نحو: ذا قنع لزهد، وزعم قومٌ أنه لا يشترط في نصبه إلا كونه مصدراً فحسب مع التعليل، وأما اتحاد الوقت واتحاد الفاعل وكونه قلبياً، هذه الشروط كلها محدثة عند المتأخرين، وأما المتقدمون فليس عندهم هذه الشروط، ولذلك نص السيوطي في همع الهوامع على هذا. قال في الهمع: شرط الأعلم والمتأخرون مشاركته لفعله في الوقت والفاعل، ولم يشترط لذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، فجوزوا اختلافهما في الوقت واختلافهما في الفاعل.
إذاً المفعول له على مذهب المتقدمين لا يشترط فيه إلا المصدر المعلل فحسب، وأما عند الأعلم والمتأخرين فلا بد من استيفاء كونه متحداً مع عامله في الوقت والفاعل، ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين فجوزوا اختلافهما في الوقت واختلافهما في الفاعل ((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا)) [الرعد:12] على عدم الاشتراط خوفاً هذا مفعول له، (فبظلم حرمنا)، فبسبب ظلمهم، ((مِنْ إِمْلاقٍ)) [الأنعام:151] سابق حينئذٍ يصير مفعولاً لأجله جر باللام، {في هرة} هذا إذا لم نشترط المصدرية كذلك.
وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ
…
وَالْعَكْسُ فِي مَصْحُوبِ أَلْ وَأنْشَدُوا
لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ
…
وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ
…
وَلَوْ تَوَالَتْ هذا من التضمين، ولذلك إذا أعددت الأبيات تسقط هذا البيت، لا تعده، إذا أعددت الألفية سيأتينا بيتان أو ثلاثة كلها من قبيل التضمين ليست من كلامه، لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ هذا بيت شعر ضمَّنه الألفية، وليس من صنعه، ولذلك لا يعد، تتركه وتسير إلى ما بعده، فانتبه لهذا.
وَقَلَّ قليل، أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ: المفعول له المستكمل للشروط المتقدمة له ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون مجرداً، يعني مجرداً عن الألف واللام والإضافة، ضربت ابني تأديباً، تأديباً مجرد عن (أل) ومجرد عن الإضافة. الثاني: أن يكون محُلىً بـ (أل) ضربت ابني التأديب.
الثالث: أن يكون مضافاً، جئتك ابتغاء الخير، ((حَذَرَ الْمَوْتِ)) [البقرة:19]، هذا مضاف.
حينئذٍ نقول: المستكمل للشروط من المفعول له لا يخرج عن هذه الأحوال الثلاثة، وإذا جوزنا دخول حرف التعليل عليه، حينئذٍ في لسان العرب بالنظر إليه، دخول لام التعليل على هذه الأنواع الثلاثة ليست في مرتبة واحدة، بل دخولها على المجرد قليل، والكثير نصبه دون دخول (اللام) عليه، والمحلى بـ (أل) دخولها عليه كثير، وتجريدها عنه قليل، والمضاف لم يذكره الناظم فدل على أنه مستوي الطرفين، يعني لا يرجح فيه دخول (اللام) أو عدمه، وهذا بالنظر للاستقراء، وأكثر النحاة على هذا؛ أنه إذا كان مجرداً فحينئذٍ نصبه أكثر من جره باللام، وإذا كان محلىً بـ (أل) فجره بـ (اللام) أكثر من نصبه، يعني: إذا جئت به مجرداً من (أل) حينئذٍ أيهما أفصح -كلاهما فصيح-، لكن أيهما أفصح؟ أن تدخل عليه (اللام) أو تتركه كما هو منصوباً؟ لأنه يجوز هذا ويجوز ذاك، أيهما أولى وأفصح وأقرب إلى سعة اللسان العربي؟ أن تجرده من (اللام) فتقول: ضربت ابني تأديباً، أفصح من لتأديبٍ مع جواز الوجهين، والحكم بفصاحة الوجهين كذلك، إلا أن أحدهما أفصح من الآخر، فإذا قلت: ضربت ابني التأديب بـ (أل) حينئذٍ للتأديب أفصح من التأديب فحسب هكذا، لماذا؟ لأن ما وافق الأكثر هو الأفصح، ولذلك سبق معنا أن القياس المطرد في لسان العرب هو الذي يُقَعَّد عليه، وهو الذي يحكم عليه بكونه أفصح أو فصيح، لكن ما لم يكن مطرداً ينظر فيه يعني يوقف معه، هل هو نادر؟ هل هو قليل؟ هل ندورته تخالف الأصل العام؟ ينظر فيه على حسب حاله، وأما الأصل فهو المطرد العام يكون.
وَقَلَّ قليل، أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ: الْمُجَرَّدُ هذا فاعل يَصْحَب، قَلَّ الْمُجَرَّدُ أَنْ يَصْحَبَهَا الضمير يعود إلى اللام أو الحرف لتأويل الكلمة؛ لأن (الهاء) هنا مؤنث، مرجعه لابد أن يكون مؤنثاً، و (اللام) هنا كالأصل إذا قلنا: الحرف مذكر هذا إلا باعتبار كونه كلمة، الحرف كلمة، كما أن الاسم كلمة، والفعل كلمة، حينئذٍ نقول: بتأويل الحرف بكونه كلمة، أرجع الضمير إليه مؤنثاً، وهذا لا إشكال فيه، لكن لو قيل: فَاجْرُرْهُ بـ (اللام) وما يقوم مقامه هذا أحسن، بعضهم يرى أنه لو رجح بالحرف أولى ليعم (من) و (الباء) و (في)، نقول: كذلك يعم غيرها فيحدث في لبس وإيهام؛ لأنه قال: فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ ولم يقيده بكونه حرف تعليل، إذاً حروف الجر كلها دخلت ففيه إيهام أيضاً، حينئذٍ نقول: فَاجْرُرْهُ بـ (اللام) أرجح من هذه الجهة كونه خاصاً، وذكر الأصل والإحالة على الفرع هذا مستقيم، كما يقال: فارفعه بالفعل مثلاً، قد يرفع بالوصف قد يرفع بالمصدر، هذا لا ينفي، وإنما يذكر الأصل، ويحال على الفرع، وهنا ذُكر الأصل فَاجْرُرْهُ بـ (اللام) وأحيل على الفرع، هذا لا إشكال، ويرجحه كذلك أنه إذا قلنا: فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ نقول: هذا لم يقيده بكونه حرف التعليل فيختص بالأربعة الأحرف، وإنما أطلقه، وإذا أطلقه فحينئذٍ نقول: هذا فيه إشكال.
وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل قَلَّ، الْمُجَرَّدُ فاعل يصحب، أَنْ يَصْحَبَهَا أن يصحب المجردُ (اللامَ)، وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ الْمُجَرَّدُ فاعل يصحب، (والهاء) ضمير متصل مفعول به، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل قَلَّ، قلَّ صحبة المجرد لها، هكذا التقدير: قلَّ صحبة المجرد لها، يعني لـ (اللام)، وَالْعَكْسُ ثابت، وهو كثرة صحبتها للمصدر المعلل، أو إن شئت قل: للمفعول له، كثرة صحبتها بمعنى كثر دخول (اللام) على المحلى بـ (أل)؛ لأنه قال: وَالْعَكْسُ فِي مَصْحُوبِ أَلْ، ومصحوب (أل) هو ما بعد (أل)، التأديب، تأديب هو المصدر المعلل دخلت عليه (أل)، حينئذٍ دخول اللام لتعليل (أل) أو مصحوب (أل)؟ مصحوب (أل)، ولو قال: لمَ دخلت عليه (أل) لا يوجد إشكال؛ لأن (أل) هنا تنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا اعتبار لها، حينئذٍ هل هي مُعرِّفة أو لا؟ إذا دخلت أل على تأديباً؟ نقول: نعم الصواب أنها معرِّفة، وذهب بعضهم إلى أنه نكرة، و (أل) زائد، والصحيح أنها معرِّفة، وكذلك يتعرف بالإضافة.
وَالْعَكْسُ فِي مَصْحُوبِ أَلْ يعني: كثُر صحبتها، وقلَّ نصبه، وَأنْشَدُوا: لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ، أنْشَدُوا على أي شيء يريد أن يستدل الآن؟ على عدم دخول (أل) على المحلى بـ (أل) يعني نصب المحل بـ (أل)، أنشدوا، هذا قليل أو كثير؟ قليل، أراد أن يستدل على القليل، وأما الكثير فهو كاسمه كثير موجود، وأما القليل أراد أن يستدل عليه، وأنشدوا عليه الذي هو قلة النصب. لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ الخوف، يعني لأجله، عَنِ الْهَيْجَاءِ بالمد والقصر، وهي الحرب، وَلَوْ تَوَالَتْ تتابعت، زُمَرُ الأَعْدَاءِ جمع عدو، والزمر جمع زمرة، والمراد بها جماعات الأعداء.
لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ لا أقعد لأجلِ الجبنِ، فحينئذٍ الجبن نقول: هذا مصدر معلل متحد مع عامله مشارك له في الوقت والفاعل، نصب على أنه مفعول له، ودخلت عليه (أل)، والأكثر استعمالاً دخول (اللام) عليه، لا أقعد للجبنِ، هذا الأصل، ولكن سمع تجريده من (أل) وهو قليل، فينصب على الأصل، وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ
…
وَالْعَكْسُ .. الْعَكْسُ المراد به العكس اللغوي، وليس العكس الاصطلاحي المنطقي، إنما المراد به العكس اللغوي الذي هو خلاف، يفسر بالخلاف، وَالْعَكْسُ يعني خلاف المذكور السابق، وهو كثرة أَنْ يَصْحَبَهَا، وقلة أن يُنصَب، وَأنْشَدُوا يعني: النحاة، استدلالاً على هذا، لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ، الجبن الخوف، يقال: رجل جبان وامرأة جبان، يتحد فيها النوعان، عَنِ الْهَيْجَاءِ
…
وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ.
قال: كلها الأنواع الثلاثة، وأما المضاف تركه الناظم، فيفهم من كلامه أنه يستوي فيه الأمران؛ لأنه بَيَّن قلة اتصالها بالمجرد، وكثرة اتصالها بالمحلى وسكت عن المضاف فدل على أنه استوى فيه الأمران، ولذلك جئتك ابتغاء الخير، وفهم من كلامه استواء الأمرين في المضاف، وصرح به في التسهيل ((يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ)) [البقرة:265] ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ بالنصب، لم تدخل عليه (اللام)، ((وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) [البقرة:74]، مِنْ هذه من تعليلية، وخَشْيَةِ اللَّهِ هذا في الأصل مفعول له، وهو مضاف، إذاً جُرَّ بالحرف، وكذلك نُصِب، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وسبق ((حَذَرَ الْمَوْتِ)) [البقرة:19]، والأكثر في القرآن النصب، وإن سوَّى بينهما الناظم هنا، وهو المشهور عند النحاة، لكن في القران الأكثر النصب، فإذا كان كذلك؟؟؟
قال: وكلها يجوز أن تجر بحرف التعليل، لكن الأكثر فيما تجرد عن (الألف) و (اللام) والإضافة النصب، المجرد منهما الأكثر فيه النصب، ضربتُ ابني تأديباً، تأديباً هذا مجرد من (أل) ومن الإضافة، ويجوز جره ضربتُ ابني لتأديبٍ، جائز، وزعم الجزولي أنه لا يجوز جره، وهو خلاف ما صرح به النحويون، وما صحب (الألف) و (اللام) بعكس المجرد، فالأكثر جره، ويجوز نصبه ضربت ابني للتأديبِ، أكثر من ضربت ابني التأديبَ، ومما جاء فيه منصوباً ما أنشده المصنف: لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ .. البيت، فالجبن مفعول له، أي لا أقعد لأجلِ الجبنِ، ومثله قوله:
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً إِذَا رَكِبُوا
…
شَنُّوا الإِغَارةَ فُرْسَاناً ورُكْبَانَا
أين الشاهد؟ الإِغَارةَ، دخلت عليه (أل) ومع ذلك نصب.
وأما المضاف فيجوز فيه الأمران: النصب والجر على السواء، ضربتُ ابني تأديبه ولتأديبه، وهذا قد يفهم من كلام المصنف، بل يفهم؛ لأنه لما ذكر أنه يقلُّ جر المجرد ونصب المصاحب (للألف) و (اللام)، علم أن المضاف لا يقلُّ فيه واحد منهما، بل يكثر فيه الأمران، ومما جاء منصوباً قوله تعالى:((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)) [البقرة:19] جاء بالنصب، ومنه قوله:
وأَغْفِرُ عَورَاءَ الكَرِيمِ ادّخارَهُ .. ادّخارَهُ هذا مضاف إلى الهاء
وأُعْرِضُ عَن شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
ادّخارَهُ يعني: لادخاره، هذا مضاف إلى الضمير، إذاً المفعول له هو: المصدر المعلل المشارك لعامله وقتاً وفاعلاً، وكذلك يزاد أن المصدر هناك لا يكون مؤولاً بالصريح، وإنما يكون مصدراً صريحاً، كذلك من أحكامه: أنه لا يجوز تعدده منصوباً أو مخفوضاً، إلا بإبدال أو عطف.
وشروطه خمسة: كونه مصدراً، فلا يجوز: جئتك السمن والعسل، كونه قلبياً عند كثير من المتأخرين، كالرغبة ونحوها، فلا يجوز: جئتك قراءة للعلم، ولا: قتلاً للكافر، القتل من أعمال الجوارح، وأجاز الفارسي: جئتك ضرب زيد، يعني لتضرب زيد، ثالثاً: كونه علة غرضاً كان كالمحبة أو غير غرض، مثل: قعد عن الحرب جبناً، رابعاً: اتحاده بالمعلَّل به وقتاً، فلا يجوز: تأهبتُ السفرَ، خامساً: اتحاده بالمعلَّل به فاعلاً، فلا يجوز: جئتك محبتُك إياي، فهذا لا يجوز أن ينصب على أنه مفعول له.
ثم قال الناظم رحمه الله تعالى: المَفْعُولُ فِيهِ وهُوَ المُسَمَّى ظَرْفاً.
ذكر لنا عنوانين، يعني هذا الذي سيذكره له اصطلاحان: مفعول فيه والظرف، وهذا عند البصريين -يسمى المفعول فيه والظرف-، وكذلك سماه الفراء محلاً، فهو كذلك هو محل، لأن يوم الخميس مثلاً وقع فيه الصوم، والأمام وقع فيه الجلوس فهو محل، والكسائي وأصحابه صفة واشتهر عن الكوفيين مفعولاً فيه، وافقوا البصريين في التسمية الأولى، ونازعوا في تسميته ظرفاً، لهم علل.
وقدمه على المفعول معه هنا، لقربه من المفعول المطلق، لكونه مستلزماً له في الواقع، إذ لا يخلو الحدث عن زمان ومكان، لأن المفعول المطلق قلنا: هو في الأصل حدث، مصدر، ضربت ضرباً، إذاً هذا أقرب إلى الفعل؛ لأنه أحد جزئي الفعل، والحدث يستلزم محلاً يقع فيه إما مكاناً وإما زمناً، بل الفعل يدل على الزمن بدلالة التضمن، ويدل على المكان بدلالة الالتزام، إذاً هو أقرب، يستلزمه الفعل، وما استلزمه الفعل يكون أقرب، لكون مستلزماً له في الواقع، إذ لا يخلو الحدث عن زمان ومكان، ولأن العامل يصل إليه بنفسه لا بواسطة حرف ملفوظ بخلافه، المفعول معه لا يكون هكذا جرداً بين العامل والمعمول، سرت (وو) والنيل لا يجوز حذف الواو هنا، بل بعضهم رأى أن العامل توصل إلى المعمول بواسطة هذه (الواو)، إذاً ما توصل العامل إليه بنفسه، صمت يوم الخميس دون (واو) هذا أقوى مما توصل إليه العامل بحرف سواء كان مذكوراً أو لا، لكن في المفعول معه لا يجوز حذفه.
المَفْعُولُ فِيهِ: يقال في الضمير ما قيل في المفعول له، وهو -أي المفعول له- المسمى والمعنون له عند النحاة البصريين ظرفاً، فيسمى ظرفاً، وأطلق الظرف، ويشمل نوعيه: ظرف الزمان وظرف المكان، والظرف أخص من اسم الزمان، وأخص من اسم المكان، كل منهما أخص؛ لأن اسم الزمان: كل لفظ دل على زمن، واسم المكان: كل لفظ مدلوله المكان، وأما الظرف لا، بل هو اسم زمان مقيد، وظرف المكان: اسم مكان مقيد، حينئذٍ أراد أن يعرِّف الناظم المقيد دون المطلق؛ لأنه لا التفات إلى اسم الزمان من حيث هو، ولذلك نقول: يوم -لوحدها هكذا- هو اسم زمان، قد يكون ظرفاً وقد لا يكون. إذاً يومٌ أعم من كونه ظرفاً، لجواز انفكاكه عنه، إذا قيل: لفظ يوم يجوز أن يكون ظرفاً، مثل: صمت يوم الخميس، ويجوز أن لا يكون ظرفاً كقوله:((إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا)) [الإنسان:10]((وَاتَّقُوا يَوْمًا)) [البقرة:48] ليس بظرف هنا، فحينئذٍ نقول: ما جاز أن يكون ظرفاً وغيره أعم من مما اختص بالظرف.
الظَّرْفُ وَقْتٌ أَوْ مَكَانٌ ضُمِّنَا
…
فِي بِاطِّرَادٍ كَهُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا
اَلظَّرْفُ في اللغة: الوعاء، وهذا مناسب لظرف الزمان وظرف المكان؛ لأن ظرف الزمان وعاء للحدث باعتبار كونه زمناً يقع فيه، وظرف المكان وعاء للحدث باعتباره كونه مكاناً له.
إذاً كل منهما وعاء، مثل الكأس يكون وعاءً للماء، فهذا ظرف (كأس)، والماء مظروف، كذلك الزمن يكون للحدث ظرفاً، فيكون الحدث الذي هو الصوم قد وقع في الزمن، وكذلك يكون قد وقع في المكان مثله، المعنى واحد، ولذلك المعنى اللغوي يكون أعم من المعنى الاصطلاحي.
وأما في الاصطلاح فقال: اَلظَّرْفُ وَقْتٌ يعني اسم وقت، اَلظَّرْفُ مبتدأ، ووَقْتٌ هذا خبره، المراد اسم وقت، أَوْ للتنويع والتقسيم، مَكَانٌ أي اسم مكان، ودائماً قلنا: الجنس يكون أعم من المحدود، ما هو المحدود؟ ظرف، اسم الوقت؟ جنس. إذاً يكون أعم على ما ذكرناه، كل ظرف زمان اسم وقت، ولا عكس، كل ظرف مكان اسم مكان، ولا عكس.
إذاً عندنا أربعة أشياء: اسم زمان، وظرف زمان، اسم مكان، وظرف مكان. ليس كل لفظ دل على زمن يكون ظرف زمان، وليس كل لفظ دل على مكان يكون ظرف مكان، انتبه لهذا، الطلاب يخطئون، فحينئذٍ نقول: اسم الزمان مثل: يوم، يأتيك ((وَاتَّقُوا يَوْمًا)) [البقرة:48] هذا مفعول به «هذا يومٌ مبارك» ((هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ)) [المائدة:119] هذا يوم، جاء خبر، يوم العيد يوم مبارك، هذا جاء مبتدأ، حينئذٍ كيف جاء مبتدأ، والظرف لا يكون إلا منصوباً؟ نقول: هنا ليس بظرف، بل هو اسم زمان وقع مبتدأً، ولا تنافي بينهما، وإنما الذي يتنافى أن يكون ظرف زمان ويقع مبتدأً؛ لأنه لا بد له من متعلق ينصبه، والأصل فيه أن يكون فعلاً، فكيف يكون فعلاً وهو مبتدأ هذا فيه تنافي؟، إذاً َقْتٌ نقول: هذا المراد به اسم وقت، وهو ما دل على زمن، كيوم وساعة وحين ووقت، أَوْ مَكَانٌ أي اسم مكان، و (أَوْ) هنا للتنويع، فدل على أن الظرف ينقسم إلى قسمين: ظرف زمان، وظرف مكان، فأدخل القسمة في الحد، وَقْتٌ أَوْ مَكَانٌ نقول: الكلمتان هاتان شملت الظرف وغير الظرف، فأراد إخراج غير الظرف، اسم الزمان الذي لا يكون ظرفاً، واسم المكان الذي لا يكون ظرف مكان، قال: ضُمِّنَا فِي، يعني ضمن ذلك اسم الزمانِ معنى (فِي)، والمراد بـ (في) الظرفية، والمراد أنه يلاحظ معنى الظرفية، وهي الوعاء، الظرف وعاء، حينئذٍ (في) تدل على الظرفية، ما المراد؟ نقول: الماء في الكوز، الماء في الكأس، دلت (في) هنا على أن الكأس ظرف قد حوى الماء، هنا كذلك إذا دل اسم الزمان واسم المكان باعتبار تضمين معنى (في)، على أن اسم الزمان صار ظرفاً لغيره، واسم المكان صار ظرفاً لغيره صار ظرفاً حينئذٍ، وأما إذا لم يكن كذلك حينئذٍ لا نحكم عليه بكونه ظرف زمان ولا ظرف مكان، إذا استطاع أن يفهم من لفظ اسم الزمان أو اسم المكان معنى الظرفية وملاحظة الظرفية، حينئذٍ نقول: هذا ظرف زمان أو ظرف مكان، وأما إذا لم يكن كذلك فهو باقٍ على أصله، ((اتَّقُوا يَوْمًا)) [البقرة:48] هل اليوم ظرف للتقوى؟ هل هو على معنى (في)؟ لا؛ لأن التقوى لو كانت على معنى (في)، لصار يوماً هنا منصوباً على الظرفية، فصار المراد إيجاد التقوى في ذلك اليوم، فيكون ذلك اليوم وعاءً للتقوى، حينئذٍ خرجت التقوى من الأمر بها في الدنيا، صارت مؤجلة إلى الآخرة، ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ)) [البقرة:281]، وإنما المراد اتقوا نفس اليوم، نفس اليوم هو المتقى.
إذاً ليس على معنى (في)، لكن لو قلت: صمت يوم الخميس، يوم الخميس صار ظرفاً للصوم، كأنه قال: صمت في يوم الخميس، فمعنى الظرفية هنا ملاحظ، لا يشترط التصريح بلفظ (في) حتى نحكم عليه بأنه ظرف زمان أو مكان، لا، وإنما تلاحظ المعنى الذي تدل عليه (في)، وهو الظرفية فحسب سواء أمكن التصريح أو لا، يعني: لا يشترط إذا قلت: صمت يوم الخميس، هل هو ظرف أولا؟ قال: اصبر صمت في يوم الخميس، صح، نقول: لا، لا يشترط فيه، وإنما هل التركيب هنا على معنى الظرفية أو لا؟ هل يوم الخميس وعاء للصوم؟ إن كان نعم فهو ظرف، وإلا فلا.
إذاً قوله: ضُمِّنَا (الألف) هذه نائب فاعل، و (في) .. ضُمِّنَا، فُعِّلَ، هذا مغير الصيغة يتعدى إلى اثنين، الأول هو الذي ناب عن الفاعل، وهو الألف، والثاني (فِي)، فِي حرف قصد لفظه، وإذا قصد لفظه صار علماً، إذاً (فِي) مفعول به، ضُمِّنَا الوقت، اسم الوقتِ، واسم المكان معنى (في)، معنى (في) هو الظرفية، ومعنى تضمنه: معناها إشارته إليه، يعني: اللفظ يشير إلى معنى الظرفية، وهو كونه وعاءً للحدث الذي دل عليه العامل، سيأتي: فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ، يعني: بالحدث الذي وقع فيه، سواء كان هذا الحدث في ضمن فعلٍ أو وصفٍ أو مجرد، فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ، حينئذٍ نقول: معنى (في) هو الظرفية، ومعنى تضمنه معناها إشارته إليه، لكونه في قوة تقديرها، وإن لم يصح التصريح بها في الظروف التي لا تتصرف، كـ (عند)، جئت عند زيد، جئت عند صلاة العصر، نقول:(عند) هنا منصوب على الظرفية، وملاحظ فيه معنى الظرفية، إذا قلت: صمت يوم الخميس، يمكن أن يقال: صمت في يوم الخميس، فتصرح بـ (في)، لكن بعض الظروف التي لا تتصرف، التي ملازمة للظرفية وشبه الظرفية هذه لا يصح التصريح بها أبداً؛ لأنها لا تُجر أصلاً بحرف الجر، وإن جُرَّت فإنما يختص بحروف الجر (من) فحسب، وما عداها فلا، فـ (عند) هذا ملازم للظرفية، جئت عند صلاة العصر، ملاحظٌ أن عند صلاة العصر مضمنٌ معنى (في)، وهو الظرفية وأن المجيء كان في ذلك الزمن، فالزمن الذي هو عند صلاة العصر؛ لأن (عند) تكون اسم زمان واسم مكان باعتبار المضاف إليه مثل (كل)، عند المسجد صارت ظرف مكان، عند صلاة العصر، عند الصباح، عند المساء، صارت ظرف زمان، حينئذٍ جئت عند صلاة العصر، يعني: وقت صلاة العصر صار ظرفاً للمجيء، لكن هل يصح أن يقال: جئت في عند صلاة العصر، كما تقول: صمت في يوم الخميس؟ لا يصح.
إذاً لا يشترط تضمين معنى (في) أن يصرح بها، هذا لم يقل به أحد من النحاة.
ضُمِّنَا معنى (في)، إذاً أخرج كل اسم زمان، واسم مكان ليس بظرف، إذ اسم الزمان واسم المكان، أعم من الظرف.
بِاطِّرَادٍ المراد به أن يكون مطرداً، يعني: في كل تركيب، إن كان في بعض التراكيب دون بعض، نقول: هذا ليس بظرف مكان ولا بظرف زمان، احترازاً عن بعض الألفاظ من أسماء المكان المختصة، سيأتي أنه لا ينصب على الظرفية إلا اسم المكان المُبهَم، وأما المُختَص فلا ينصب على الظرفية، سُمِعَ بعض الألفاظ: دخلت الدارَ، الدارَ هذا اسم مكان، هنا ضمن معنى (في)، لكنه ليس مطرداً في كل تركيب مع سائر الأفعال، بل هو في فعل خاص دخلت، سمع دخل مع الدارِ فقط، سكنت الشامَ، يعني في الشامِ، هذا الأصل، لم يسمع لفظ الشام وهو لفظ اسم مكان مختص منصوب على الظرفية في الظاهر، -وفيه خلاف سيأتي-، أنه متضمن لمعنى (في) إلا مع سكنت، طيب وغير سكنت؟ يرجع إلى أصله، وهو أنه يجر بحرف الجر بحسبه، حينئذٍ نقول: هذه الألفاظ المسموعة في لسان العرب، وهي أسماء مكان، نقول: ليس تضمين معنى (في) معها إلا مع ألفاظ معينة من الأفعال، فحينئذٍ متى يكون ظرف زمان أوظرف مكان؟ إذا ضُمِّن معنى (في) مع كل فعل، وأما إذا اختص ببعض الأفعال دون بعض، نقول: لا هذا خلل خدش في الحكم عليه بكونه ظرف زمان أو ظرف مكان.
إذاً قوله: بِاطِّرَادٍ هذا مراده بأن يتعدى إليه سائر الأفعال، ولذلك قال: واحترز بقوله: بِاطِّرَادٍ من نحو دخلتُ البيتَ، وسكنتُ الدارَ، وذهبتُ الشامَ مما انتصب بالواقع فيه، فإن كل واحد من البيت والدار والشام متضمن معنى (في)، ولكن تضمنه معنى (في) ليس مطرداً لماذا؟ لأنه اسم مكان مختص، واسم مكان مختص لا يتضمن معنى (في) بالأصل، وإنما تكون هذه الألفاظ مسموعة، يعني: تحفظ ولا يقاس عليها.
إذاً قوله: بِاطِّرَادٍ احترز به من هذه الألفاظ، وإذا قيل بأن البيت والدار والشام اسم مكان مختص، حينئذٍ هو ليس بظرف؛ إذ لا يطرد نصبُه مع سائر الأفعال، إذ لا يقال: نمت البيت، على أنه ظرف مكان، وإنما سكنت البيت، سكنت الدار فقط، وإنما نمت الدار، يعني نمت في الدار هذا لا يقال، لماذا لا يقال؟ لأن الأصل فيه المنع، وإنما جُوِّز سكنت الدار لكونه سماعياً فحسب، وإذا كان كذلك حينئذٍ لا يُحترز عنه فلا يقال: نمت البيت، ولا قرأت الدار، وصليت المسجد، يعني: صليت في المسجد، وهذا لا يطرد مع سائر الأفعال، وإنما هو سمع في ألفاظ محدودة فحسب، وعليه لا يحتاج إلى قيد: بِاطِّرَادٍ، فقوله: بِاطِّرَادٍ هذا قيدا لا يُقَيَّدُ به، بل يجب حذفه، فالدار من قوله: دخلت الدار ليس بظرف، وفي نصبه إذا قلنا: ليس بظرف، حينئذٍ ننصبه على ماذا؟ دخلت الدار بالنصب، ظاهره على أنه ظرف مكان، نقول: لا، فيه ثلاثة مذاهب للنحاة:
الأول: أنه انتصب نصب المفعول به بعد إسقاط الخافض على وجه التوسع والمجاز، وهذا مذهب ابن مالك رحمه الله تعالى، أنه مفعول به، انتصب بعد نزع الخافض منه.
الثاني: أنه مفعول به حقيقة، وأنه دخل معه -دخلت الدار- دخل معه متعدٍ بنفسه، وهذا بعيد؛ لأن دخل ليس متعدياً، دخلتُ الدار مفعول به حقيقةً، ودخل هذا متعدي مثل ضربت، هذا بعيد، المذهب الأول أقرب، وهو مذهب ابن مالك رحمه الله، أنه لازم، ولكنه تعدى إلى المفعول بحرف الجر مثل مررت بزيد، ثم حذف حرف الجر من باب التوسع، أسقط فانتصب، وهذا قريب لا إشكال فيه.
الثالث: أنه ظرف، وأُجري مُجرى المبهم من ظرف المكان، إذاً الثالث أنه ظرف وأجري مجرى المبهم من ظرف المكان؛ لأنه اسم مكان مختص، وإذا كان كذلك لا ينتصب على الظرفية.
القول الثالث: أنه ظرف عُومِل معاملة المبهم؛ لأنه لا ينتصب من أسماء المكان إلا المبهم، حينئذٍ على المذاهب الثلاثة هذه، هل قوله: بِاطِّرَادٍ يجري قيداً للاحتراز أم يكون لغواً؟ فأما على الثاني والثالث فلا يحتاج إلى قيد الاطراد على المذهب الثاني، وهو كونه دخل متعدياً بنفسه، وأنه مفعول به حقيقة لا نحتاج إلى الاطراد، لماذا؟ لأنه أخرجه بقوله: ضمِّن معنى (في) والمفعول به لا يتضمن معنى (في)، إذا قلنا بأنه مفعول به حقيقة، فحينئذٍ نقول: لا نحتاج إلى قيد الاطراد، لأن قوله: ضمِّن معنى (في) أخرج المفعول به؛ لأن المفعول به ينتصب لا على معنى (في)، وكذلك على الثالث، وهو أنه ظرف، حينئذٍ دخل معنا بقوله: ضمِّن معنى (في).
إذاً فأما على الثاني والثالث فلا يحتاج إلى قيد الاطراد؛ لأنه إن كان ظرفاً فهو داخل في الظروف، على قوله: معنى (في)، وإن كان مفعولاً به حقيقة فلا يحتاج إلى قيد الاطراد؛ لأنه ليس على معنى (في)، وأما على الأول، وهو رأي الإمام ابن مالك رحمه الله تعالى، فيحتاج إلى قيد الاطراد، وعليه قوله: بِاطِّرَادٍ ليس حشواً -هذا المراد-، ليس حشواً، بل أراد أن يحترز عن هذا النوع دخل البيت؛ لأن ابن عقيل يقول: فيه نظر، والصواب أنه على مذهبه هو، أنت الآن إذا شرحت، إذا كان ثم قيود، والناظم له مذهب، وأنت تخالفه، حينئذٍ (احترازات) لا تنتقدها إلا باعتبار مذهبه المختار عنده، لا تشرح من رأسك هكذا، وتقول: هذا يخرج به كذا وهذا .. إلى آخره، وتعلل، وتضعف، لا، ما مذهبه؟ مذهب ابن مالك في هذه الألفاظ المنصوبة، وهي أسماء مكان مختصة، أنها مُشَبَّهة بالمفعول به، فالأصل فيها أنها على حذف حرف الجر توسعاً فانتصب ما بعده.
وأما على الأول فيحتاج إلى قيد الاطراد، فإن نصبه على التوسع والمجاز حكم اللفظ فلا يخرجه ذلك عن معنى (في)، وهذا هو الذي اعتبر الناظم إلى قيد الاطراد خلافاً إلى ما ذهب إليه الشارح.
اَلظَّرْفُ وقتٌ أَوْ مَكَانٌ ضُمِّنَا
…
فِي بِاطِّرَادٍ دون لفظها لو صُرِّح بـ (في) صمت في يوم الخميس، يوم الخميس ظرف أم اسم زمان؟ فيه خلاف، والصحيح أنه ليس بظرف، شرط الحكم على اسم الزمان أنه ظرف ألا يُصرّح بـ (في)، ألا ينطق بها، وإنما يلاحظ معناها فحسب، فإذا قال: صمت في يوم الخميس نقول: في يوم جار ومجرور متعلق بصمت. ويشترط في اسم الزمان أن يُسقط الحرف فيقول: صمت يوم الخميس؛ لأنه منصوب، نحن الآن نتكلم في باب المفعول فيه وهو منصوب، من باب المنصوبات، فإذا قلت: في يوم الخميس أخرجته عن كونه ظرف زمان.
إذاً (في) ضُمِّن معنى (في) دون لفظها، فإن نطق به فحينئذٍ نقول: خرج عن كونه ظرف زمان.
بِاطِّرَادٍ عرفنا ماذا أراد به، باطراد ما أعرابه؟ ضمِّن معنى (في)، ثم هذا -مضمن معنى (في) - قد يكون في كل تركيب، وقد لا يكون، إذاً متعلق بقوله: ضُمِّنَا، ضمِّن باطراد معنى (في)، فإن ضمن معنى (في) لا باطراد كـ: سكنت الدار، وسكنت الشام نقول: هذا ليس بظرف زمان، وليس بظرف مكان، إذاً المراد هنا بِاطِّرَادٍ متعلق بقوله: ضُمِّنَا، كأنه قال: ضمِّنا باطراد معنى (في) احترازاً مما ضمن معنى في لا باطراد، وهو ما ذكرنا فيه المذاهب الثلاثة.
كَهُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا، امْكُثْ هُنَا، ما إعراب هُنَا؟ ما نوعه؟ هو يريد أن يمثل إلى أي شيء؟ وَبِهُنَا أوْ هاهُنَا أشِرْ، هُنَا قلنا: اسم موضع، إشارة إلى موضع مكان، إذاً اسم مكان، ضمن معنى (في)، يعني (في) هنا، لا تصرح فيها (في هنا)، وإنما يلاحظ فيها معنى الظرفية، فحينئذٍ نقول: هُنَا منصوب على الظرفية المكانية؛ لأنه اسم مكان ثم ضمن معنى (في) وبِاطِّرَادٍ، وجد فيه الحد بكامله.
أَزْمُنَا: أزمناً جمع زمان، والزمان هذا اسم زمان، ولكنه هنا ظرف زمان؛ لأنه اسم زمان ضمن معنى (في) باطراد، مع كل فعل.
امْكُثْ في أزمن، فالزمان باعتبار تعدده هنا يكون محلاً للمُكث، كما أن المكان الموضع يكون محلاً للمُكث، فالمُكث الذي هو فعل الفاعل يكون المكان له وعاء، هنا في هذا الموضع، كذلك الزمان يكون له وعاء.
اَلظَّرْفُ وقتٌ أَوْ مَكَانٌ ضُمِّنَا
…
فِي بِاطِّرَادٍ كَهُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا
هُنَا: هذا اسم مكان، وأَزْمُنَا: اسم زمان انتصبا على الظرفية الزمانية والظرفية المكانية.
قال الشارح: عرَّف المصنف الظرف بأنه زمان أو مكان ضمن معنى (في) باطراد، نحو امكث هنا أزمنا، فـ هُنَا ظرف مكان، وأَزْمُنَا ظرف زمان، وكل منهما تضمن معنى (في)، لأن المعنى امكث في هذا الموضع، وفي أزمن، وإذا قيل: تضمن معنى (في) سبق معنا هناك:
كالشَّبَهِ الْوَضْعِيِّ فِي اسْمَيْ جِئْتَنَا
…
والمَعْنَوِيِّ في مَتَى وَفِي هُنَا
قلنا: الشبه المعنوي أن يتضمن الاسم معنى حرف، فكان موجباً للبناء، وهنا إذا قلت: هُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا تضمن معنى (في) وهو حرف، اسم تضمن معنى حرف، فالأصل فيه أن يكون مبنياً، هل هذا إلزام أما لا؟ إذا قلنا: ضمن معنى (في)، إذاً اسم تضمن معنى الحرف، ومتى الاستفهامية اسم تضمن معنى همزة الاستفهام، ومتى الشرطية اسم تضمن معنى إن الشرطية، وهَلُمَّ جَرًّا، وهنا اسم تضمن معنى (في) الظرفية، وأَزْمُنَا اسم تضمن معنى (في) الظرفية، الجواب: أنَّ تضمن معنى الحرف إنما يكون موجباً للبناء في البناء اللازم، وهذا سبق معنا أن ثَمَّ فرقاً بين اللازم والعارض، العارض كالمبني (يا زيد) نقول: زيد هذا ليس مبنياً في الأصل، وإنما دخلت عليه ياء فبني، إذاً صار منادى، هذا عارض، كذلك سيأتينا في باب الإضافة، أنه قد تبنى بعض الألفاظ باعتبار المضاف إليه فاكتسب البناء منها، مثل حين، سيأتي معنا.
ما كان البناء فيه عارضاً، إذا ضمن معنى الحرف لا يكون موجباً للبناء، وإنما تضمينه معنى الحرف يكون موجباً ومقتضياً للبناء إذا كان البناء فيه لازماً، ولذلك العلل الأربعة السابقة قلنا تلك يُعَلَّل بها المبني اللازم واجب البناء، مطرد في كل لفظ، وأما هنا لا، ليس مطرداً، نحن نقول: أزمن زمان، زمان هذا في كل تركيب يكون زمان مضمن معنى (في)؟ لا، ألا تقول: هذا زمن مبارك، زمن صار خبراً، صمت يوماً، يوماً قلنا: هذا يخرج عن الظرفية، يكون مبتدأ إلى آخره إذا كان مبتدأ هل هو مضمن معنى الحرف؟ ليس مضمناً معنى الحرف، إذاً ما كان بناؤه لازماً وضمن معنى الحرف، صار تضمينُ الحرف له هو علة البناء، وما كان مضمناً لمعنى الحرف في وقت دون وقت، حينئذٍ لا نقول: هذا موجب للبناء، لا، فلا يعارض بين هذا وبين ما سبق، ما كان مضمناً معنى الحرف موجباً للبناء هو البناء اللازم، وأما ما كان مضمناً معنى الحرف في وقت دون وقت كظرف الزمان واسم الزمان، نقول: هذا ليس موجباً للبناء.
لأن المعنى امكث في هذا الموضع في أزمن، نقول: لا يقتضي البناء، إذ المراد أن يكون الحرف منظوراً إليه، لكن الأصل في الوضع ظهوره، هذا تعليل الأشموني، واحترز بقوله: ضمن معنى (في) مما لم يتضمن من أسماء الزمان أو المكان معنى (في)، كما إذا جعل اسم الزمان أو المكان مبتدأً أو خبراً نحو: يوم الجمعة يوم مبارك، يوم مبتدأ، ويوم الثاني خبر، ويوم عرفة يوم مبارك، والدار لزيد، فإنه لا يسمى ظرفاً والحالة هذه، ((وَاتَّقُوا ؤ تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) [البقرة:281] يَوْمًا، كذلك ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:124] حَيْثُ، فإنهما ليس على معنى (في) وانتصابهما على المفعول به، وناصب حَيْثُ يعلم محذوفاً، لأن اسم التفضيل لا ينصب –بالإجماع-، قيل بالإجماع ونوزع فيه، وبمعنى في دون لفظها نحو: سرت في يوم الجمعة، وكذلك ما وقع منهما مجروراً: سرت في يوم الجمعة، وجلست في الدار إذا نطق بها، خرج عن كونه ظرفاً على الصحيح، على أن في هذا ونحوه خلافاً في تسميته ظرفاً في الاصطلاح، والصواب أن الظرف يكون منصوباً، عند، قبل، تحت .. إلى آخره، وإذا خرج عن النصب خرج عن الظرفية، وإذا صرح بـ (في) حينئذٍ صار اسماً مجروراً، تقول: في حرف جر ويوم اسم مجرور بـ (في) والجار والمجرور متعلق بكذا، تعربه كـ لزيدٍ، للدار، ولا تقول: هذا ظرف، وكذلك ما نصب منهما مفعولاً به: بنيت الدار، وشهدت يوم الجمل، وهذا لا يسمى ظرفاً، كذلك لو كان على معنى (في) ولم يكن ما بعده اسم زمان ولا اسم مكان، ((وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ)) [النساء:127] (في)، إذا كان على معنى (في) يعني: في نكاحهن، النكاح ليس اسم زمان ولا اسم مكان، واحترز بقوله: بِاطِّرَادٍ ما ذكرناه سابقاً بأنه يتعدى إليه سائر الأفعال مع بقاء تضمنه لذلك الحرف.
وبعدما شرح كلام الناظم قال: هذا تقرير كلام المصنف وفيه نظر؛ لأنه إذا جُعلت هذه الثلاثة ونحوها منصوبة على التشبيه بالمفعول به لم تكن متضمنة معنى (في)؛ لأن المفعول به غير متضمن معنى (في)، وكذلك ما شُبِّه به، فلا يحتاج إلى قوله: بِاطِّرَادٍ ليخرجها، فإنها خرجت بقوله: ما ضمن معنى (في). هذا الاعتراض أجبنا عنه بما سبق، أن المراد بإسقاط حرف الجر ثم صار الحكم لفظياً لا معنوياً، فاحتجنا إلى الاحتراز فقلنا: بِاطِّرَادٍ، هذا على مذهب الناظم؛ لأنه أعرب (دخلت الدار) مشبه بالمفعول به، حينئذٍ صار الحكم لفظياً؛ لأنه أُسقط الحرف وبقي الأصل على ما هو عليه:
الظَّرْفُ وَقْتٌ أَوْ مَكَانٌ ضُمِّنَا
…
فِي بِاطِّرَادٍ كَهُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا
فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ مُظْهَرَا
…
كَانَ وَإِلَاّ فَانْوِهِ مُقَدَّرَا
فَانْصِبْهُ وجوباً، إذاً يجب نصبه، ولذلك عده من المنصوبات، ما الناصب له؟ قال الناظم: بِالْوَاقِعِ فِيهِ، وما الواقع فيه؟ هو الحدث. إذاً مفهومه أنه لا ينصب إلا بالمصدر، والفعل لا يكون ناصباً له، والوصف لا يكون ناصباً له، هكذا اعتُرض على الناظم؛ لأنه قال: فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ، ما هو الذي وقع فيه؟ المصدر، إذا قلت: صمت يوم الخميس، يوم الخميس هذا ظرف زمان، ما الذي وقع فيه؟ الصوم.
إذاً انصبه بالصوم، والصوم مصدر، هذا ظاهر العبارة، فاعتُرض عليه بأن الفعل يكون ناصباً، والوصف يكون ناصباً، كما أنه يُنصب بالمصدر، والجواب عن هذا أن يقال: إذا قيل: فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ، يعني بالحدث، وهذا لا يلزم منه أن يكون اللفظ دالاً على الحدث بالمطابقة فحسب، بل ما دل على الحدث بالمطابقة وهو المصدر أو بدلالة التضمن وهو الفعل والوصف.
إذاً أراد شيئاً مدلولاً عليه بدلالتين: دلالة المطابقة، وهو الصوم مثلاً، ودلالة التضمن وهو الفعل والوصف. إذاً الجواب سهل.
فَانْصِبْهُ: الضمير في قوله: فَانْصِبْهُ للظرف، وهو اسم الزمان أو المكان، وفِيهِ - بِالْوَاقِعِ فِيهِ- لمدلوله وهو نفس الزمان أو المكان، وأراد بِالْوَاقِعِ فِيهِ: دليله، من فعل وشبهه؛ لأن الواقع هو نفس الحدث، وليس هو الناصب، أراد التأويل؛ لأن كلامه: فَانْصِبْهُ يعود الضمير هنا على الظرف وهو اسم الزمان والمكان، بِالْوَاقِعِ فِيهِ، فِيهِ هذا راجع لمدلوله، وهو نفس الزمان أو المكان، وأراد بِالْوَاقِعِ فِيهِ - فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ- دليله من فعل وشبهه؛ لأن الواقع هو نفس الحدث، وليس هو الناصب، فحينئذٍ نقول: ينصب بما وقع فيه مدلوله، ما هو مدلول الفعل؟ الحدث، ما هو مدلول المصدر؟ الحدث، ما هو مدلول الوصف؟ الحدث، إذاً ينصب بماذا؟ بما وقع فيه -في اسم الزمان أو المكان- مدلوله، وهذا يشمل الفعل وشبهه.
الحاصل أن عبارته فيها نوع ركاكة من جهة الشمول، الفعل والمصدر والوصف معًا، وظاهره أنها خاصة بالمصدر، فأرادوا التأويل.
فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ من فعل وشبهه، مُظْهَرَا كان الواقع فيه، وَإِلَاّ فَانْوِهِ مُقَدَّرَا يعني: يُنصب الظرف بعامل، وهذا العامل قد يكون فعلاً وقد يكون مصدراً وقد يكون وصفاً، ستأتي الأمثلة، ثم قد تكون هذه العوامل مذكورة، وقد تكون محذوفة، ثم إذا كانت محذوفة، إما محذوفة على وجه الجواز، وإما محذوفة على وجه الوجوب، هذه أقسام ثلاثة: مذكور، محذوف جوازاً، محذوف وجوباً.
حكم ما تضمن معنى في من أسماء الزمان والمكان النصب، والناصب له ما وقع فيه وهو المصدر، -هذه ظاهرة عبارة المصنف-، ما وقع فيه وهو المصدر، نحو عجبت من ضربك زيداً يوم الجمعة عند الأمير، عجبتُ: فعل وفاعل، من ضربك: من حرف جر، وضربك: هذا مصدر مضاف إلى الفاعل، ضربك، زيداً: مفعول به لضرب وهو مصدر، يوم الجمعة: يعني في يوم الجمعة منصوب على الظرفية، والعامل فيه المصدر ضربك، ضرب هو العامل في يوم الجمعة على أنه ظرف زمان، عند الأمير منصوب على الظرفية، والعامل فيه المصدر.
أو الفعل: ضربت زيداً يوم المجمعة عند الأمير، ضربت زيداً يوم المجمعة .. في يوم الجمعة، إذاً هو ظرف زمان، والناصب له الفعل ضربت، كذلك عند .. عند الأمير: هذا ظرف مكان، والناصب فيه الفعل.
أو الوصف أنا ضارب زيداً اليوم عندك، اليوم هذا ظرف زمان منصوب بضارب وهو وصف، كذلك عندك ظرف مكان منصوب بالوصف وهو ضارب.
إذاً عمل في الظرف بنوعيه المصدر والفعل والوصف، والناظم خصص الكلام بالمصدر، نقول: مراده مدلول المصدر وهو الحدث، وهذا الحدث يدل عليه المصدر بالمطابقة، والفعل والوصف بدلالة التضمن، فلا اعتراض على الناظم.
وظاهر كلام المصنف أنه لا ينصبه إلا الواقع فيه فقط، وهو المصدر، وليس كذلك، -هذا اعتراض-، وليس كذلك؛ لأن العبارة ظاهرها أنه لا ينصبه إلا المصدر، لكن مادام أمكن تأويله تأويلاً سائغاً حينئذٍ لا يُعترض عليه، بل ينصبه وهو وغيره كالفعل والوصف، والناصب له إما مذكور كما مُثِّل أو محذوف جوازاً، مثلاً يقال: متى جئت؟ يومَ الجمعة، كم سرت؟ فرسخين، وهذا العامل فيه محذوف، فهو جواز، يصح أن تذكره ويصح أن تحذفه.
أو وجوباً، وهذا يكون في ست مسائل، يحذف عامل الظرف بنوعيه وجوباً في ست مواضع:
إذا كان صلة، أو نعتاً، أو حالاً، أو خبراً، سواء كان خبراً في الحال، أو في الأصل، هذه أربعة، الخامس: أن يكون مشغولاً عنه، السادس: ما سُمع في لسان العرب في الأمثال ونحوها، هذه ست مواضع يجب فيها حذف عامل الظرف بنوعيه.
أولاً: صفة، إذا وقع الظرف صفة، مررت برجل عندك، عند بالنصب، ما العامل فيه؟ محذوف، مررت برجل استقرَّ عندك، أو مُستقرٍّ عندك، بالجر -تقدره بالجر-، تقول: برجلٍ، إذا قدرته اسماً تعربه على حسب ما قبله؛ لأنه صفة تقول: برجلٍ مستقرٍّ أو برجلٍ كائنٍ بالجر، عندك، فعند هذا منصوب بالعامل المحذوف سواء كان فعلاً أو اسماً، واجب الحذف، لا يجوز ذكره، كذلك إذا وقع صلة، جاء الذي عندك، جاء الذي، الذي فاعل، وعند صلة الموصول، ما هي؟ أين هي؟ نقول: الظرف هنا:
وَجُمْلَةٌ أَوْ شِبْهُهَا الَّذِى وُصِلْ بِهِ
نقول: هذا صلة الموصول، لكنه متعلق بمحذوف تقديره: استقر، واجب أن يكون فعلاً، ولا يجوز مستقر أو كائن؛ لأن صلة الموصول لا تكون إلا فعلاً.
إذاً: جاء الذي عندك، نقول: واجب الحذف، أو حالاً، مررت بزيدٍ عندك، زيدٍ كائناً -بالنصب- عندك أو استقر عندك، وعامله حينئذٍ يكون محذوفاً وجوباً.
أو خبراً في الحال، أو في الأصل، نقول: زيد عندك، زيد مبتدأ، وعندك خبر، وهو ظرف متعلق بمحذوف واجب الحذف:
وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أوْ بِحَرْفِ جَرْ
…
نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ
كما سبق.
وظننت زيداً عندك، عندك هذا مفعول ثاني يجوز أن تقدره فعلاً أو اسماً، ظننت زيداً استقر عندك، ظننت زيداً مستقراً عندك، مستقراً بالنصب تقدره، لا تقدره مستقرٌ، بعض الطلاب يجعلها: كائنٌ أو استقر، كل ما جاء تقدير يقول: كائن، كائن، سواء كان السابق مجرور أو منصوب، لا، تعربه على حسب ما قبله، هذه أربعة أحوال.
أن يكون مشغولاً عنه يوم الخميس صمت فيه:
إِنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سَابِقٍ فِعْلاً شَغَلْ
…
عَنْهُ بِنَصْبِ لَفْظِهِ أَوِ الْمحَلّ
صمت فيه عمل في ضمير يعود على الاسم المتقدم، يوم الخميس أين العامل؟ صمت يوم الخميس صمت فيه.
السادس: مسموعاً بالحذف، يعني سمع اللفظ هكذا محذوفاً، نحو قولهم: حينئذٍ الآن، الآن هذا ظرف، منصوب على الظرفية أين عامله؟ محذوف وجوباً، لماذا؟ لأنه هكذا سمع، إذا سمع من الأمثال يبقى كما هو، أي كان ذلك حينئذٍ واسمع الآن.
إذاً قوله: فَانْصِبْهُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ، يعني: من فعل وشبهه ومصدرٍ، فيشمل الثلاثة.
مُظْهَرَاً كان الواقع فيه، وَإِلَاّ يعني: وإن لم يكن ظاهراً بل كان محذوفاً من اللفظ جوازاً أو وجوباً، فَانْوِهِ مُقَدَّرَا، فَانْوِهِ يعني: اعتقد أنه مقدر، مقدراً هذا حال من الضمير في: فَانْوِهِ، فَانْوِهِ يعني: العامل، مُقَدَّرَاً حال كونه مقدراً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!