المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * حالات الحال مع عامله من حيث التقديم والتأخير - شرح ألفية ابن مالك للحازمي - جـ ٦٥

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * حالات الحال مع عامله من حيث التقديم والتأخير

‌عناصر الدرس

* حالات الحال مع عامله من حيث التقديم والتأخير ، وأنواع عامله

* تعدد الحال وصاحبها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى:

وَالْحَالُ إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا

أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا

فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُهُ كَمُسْرِعَا

ذَا رَاحِلٌ وَمُخْلِصًا زَيْدٌ دَعَا

هذان البيتان أراد الناظم رحمه الله تعالى أن يبين علاقة الحال مع عامل الحال، سبق قوله:

وَسَبْقَ حَالٍ مَا بِحَرْفٍ جُرَّ قَدْ

أَبَوْا وَلَا أَمْنَعُهُ فَقَدْ وَرَدْ

ذلك البيت تضمّنَ بيان الحال مع صاحب الحال، ولا يجوزُ إذا كان صاحب الحال مرفوعاً أو منصوباً أن تتقدّم الحال على الصاحب دون العامل، نقول: جاء ضاحكاً زيدٌ، هنا تقدمت الحال على صاحبها وهو مرفوع، وهو جائزٌ باتفاق، فتقول: رأيتُ ضاحكاً زيداً، تقدّمت الحال على صاحبها وهو منصوب، وهو جائز باتفاق، بقيَ حالان، وهما ما إذا كانت الحال مخفوضةً إما بحرف جرّ وإما بإضافة، وما كان مخفوضاً بإضافة إما أن يكون مخفوضاً بإضافةً، وهي التي تُسمى المحضة المعنوية، وإما أن تكون الإضافة لفظية، المعنوية محلّ إجماع أنه لا يجوزُ أن يتقدم الحال على المضاف، ولا أن يتوسّط بين المضاف والمضاف إليه، وأما إذا كانت لفظية ففيها نزاع؛ لأنها على نيّة الانفصال، فالمضاف إليه في نيّة أنه مفعولٌ به، هذا الأصل. وأمّا المجرور بحرف جرّ فهذا قلنا: فيه نزاع، الأكثرُ على المنع، وذهب ابنُ مالك إلى الجواز، وهو الظاهر أنه يجوز، حينئذٍ على رأي الجمهور لا يصحّ أن يُقال: مررتُ ضاحكاً بزيدٍ، مررت بزيدٍ ضاحكاً هذا واجب التأخير، وأما مررتُ ضاحكاً بزيد فهذا ممنوع عند الجمهور، وجائز عند الإمام ابن مالك رحمه الله تعالى وغيره، حينئذٍ نقول: هذا النوع فيه نزاع. وأما صاحب الحال إذا كان مرفوعاً أو منصوباً فهما جائزان باتفاق، هنا الكلام في الحال مع العامل؛ هل يجوزُ أن تتقدّمَ الحال على العامل أو لا؟ هذه الحال مع عاملها على ثلاثة أقسام: واجب التقديم عليه وواجب التأخير عنه وجائزهما، جائزٌ أن يتقدّمَ وجائز أن يتأخّرَ، وهذا هو الأصل؛ لأن الأصل في هذه المسائل هو جواز التقديم والتأخير، لأن الشأن هنا كشأن الخبر مع المبتدأ، وهناك الأصل في الخبر أن يتقدَّمَ على المبتدأ إلا لمانع، حينئذٍ يُلتزَم إما التقديم وإما التأخير، وإلا الأصل هو الجواز.

وهنا أُلحِق الحال بالخبر من حيث التقديم والتأخير، يجبُ تقديمُ الحال فيما إذا كان لها صدرُ الكلام، كيف جاء زيد؟ نقول: هذا واجب ولم يتعرّض له الناظم، إنما ذكرَ التقديم والتأخير، وتركَ القسم الثالث وهو وجوبُ تقديمه، وذلك فيما إذا كان له صدرُ الكلام ككيف، إذا جاءت حالاً، حينئذٍ وجبَ أن تتقدّم، جاء زيد كيف! هذا الأصل، جاء فعل، وزيد فاعل، وكيف حال من الفاعل، لكن لما كانت (كيفَ) لها صدر الكلام وجب تقديمها على عاملها.

ص: 1

إذن هذا أول قسمٍ، وهو وجوب تقديم الحال على العامل، وذلك فيما إذا كان الحال لها صدرُ الكلام، ومثّلَ له بهذا المثال فقط: كيف جاء زيد؟ وأما ما أشارَ إليه هنا الناظم: وَالْحَالُ إِنْ يُنْصَبْ .. إلخ، فالمرادُ به جوازُ الوجهين التقديم والتأخير، لكنه ليسَ على إطلاقه بل مُقيّد بضوابط. وَالْحَالُ إنْ يُنْصَبْ هو لا بد من نصبه، لا يكون إلا منصوباً، لكن أرادَ بهذا أن يمهِّد للفعل للعامل، إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا الألف للإطلاق، أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا الألف للإطلاق، فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُه يعني: تقديمه جائز، جَائِزٌ هذا خبر مقدّم، وتَقْدِيْمُه مُبتدأ مؤخّر. وعلى مذهب الكوفيين جَائِزٌ مبتدأ، وتَقْدِيْمُه فاعل سدَّ مسدَ الخبر. " فَائِزٌ أُولُو الرَّشَدْ" هذا مثله، لكن نقول بالتقديم والتأخير؛ لأنه لم يعتمد على نفيٍ أو استفهام.

إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا، التصريف في الفعل .. إذا كان الفعل متصرفاً هو ما استُعمِلَ منه الماضي والمضارع والأمر، يُقال فيه: فعل مُتصرِّف، الفعل من حيث التصرّف وعدمه ينقسم إلى قسمين: فعل جامد وهو ما لزِمَ لفظَ الماضي يعني: لم يأتِ منه مضارع ولا أمر كنعم وبئسَ وليسَ وعسى، نقول: هذه التزمتْ حالة واحدة وهي كونها ماضي، ولم يُسمَع لها مضارع ولا أمر، نصفُ هذا بكونه جامداً، كذلك أفعل التعجب، وأفعِلْ به، ما أحسن زيداً، هذه غير متصرفة جامدة، والمتصرّف هو ما سُمِع منه المضارع أو الأمر ثم سائر المشتقات، وهذا النوع على نوعين: إما أن يكون مُتصرّفاً تاماً، وإما إن يكون مُتصرّفاً ناقصاً. المتصرّفُ التام في المشهور عندهم ما جاء منه المضارع والأمر، الأفعال الثلاثة، ويُقال فيه: مُتصرّف تام، ثم يُزاد عليه أن يُؤتى منه باسم الفاعل واسم المفعول أفعل التفضيل، الصفة المشبهة .. صيغة المبالغة، كلما زاد من هذه قلنا: هذا زيادة في التصرف، وإذا كان استُعمِل منه الأمر فقط مع الماضي أو المضارع مع الماضي ولم يُستعمَل منه أمرٌ حينئذٍ نقول: هذا مُتصرِّف، لكنه ناقصُ التصرف.

هنا قال: إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا أطلقَ التصريف فيشمل المتصرف تصرفاً تاماً والمتصرف تصرُّفاً ناقصاً. إذن يكون احترزَ به عن الجامد، فالجامدُ لا يجوزُ أن تتقدّمَ الحال على العامل، إذا عمِلَ الفعل الجامد في حال حينئذٍ التزمت التأخير، فلا يجوزُ أن تتقدّم؛ لأنه علق الحكم هنا بالفعل المتصرف ولو تصرّفاً ناقصاً. أَوْ هذا للتنويع، صِفَةٍ معطوف على فعل، بِفِعْلٍ هذا جار ومجرور متعلق بقوله: يُنْصَبْ، وصُرِّفَا هذه الجملة صُرِّفَا مغير الصيغة، والضمير نائب الفاعل مستتر، والجملة في محلّ جرّ صفة لفعل، بِفِعْلٍ مُتصرّفٍ نؤولها بالمفرد، أَوْصِفَةٍ معطوف على فِعْلٍ، يعني: أو بصفة.

ص: 2

كذلك الصفة قال هنا: أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا الألف للإطلاق، يعني: أشبهت الفعلَ المصرفا، يعني: الفعل المتصرف، والصفة التي أشبهت الفعل المتصرّف في هذا المقام هنا وفي غيره يأتي في أبوابه .. المراد بها ما تضمّنَ معنى الفعل وحروفه؛ لأن العاملَ قد يكون عامِلاً لفظياً، وهذا فيما إذا كان في الفرع، يعني: في الفروع. إذا كانت صفة إما أنها تتضمّنَ معنى الفعل وحروفه، وإما أن تتضمّنَ معنى الفعل دونَ حروفه. نوعان الصفة، يعني: ما كان مُتضمّناً، العامل في الحال قد يكون مُتضمّناً لمعنى الفعل دون حروفه، وهذا سيأتي:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

كَتِلْكَ .........................

حُرُوفَهُ .................

...................................

كَتِلْكَ، تلك هند مجرّدةً أو مسرّعةً، نقول: تلك هو العامل في الحال؛ ما نوعه؟ نقول: هذا تضمّنَ معنى الفعل وهو (أشير) دون حروفه، فحينئذٍ العاملُ هنا نقول: في المعنى هو صفة، في المعنى لا في اللفظ؛ لماذا؟ لكونه أشبهَ الفعل، أشبهَ الفعل من أي جهة؟ مِن حيث المعنى، وأما الحروف فلم يتضمّن حروف الفعل. نَزالِ مُسرعاً، نزالِ: اسم فعل، أشبهَ الفعلَ في المعنى وفي اللفظ، لماذا في المعنى؟ لأنه بمعنى انزِل، وكذلك في اللفظ؛ لأنه اشتملَ على حروف فعل الأمر وهو انزل، حينئذٍ نقول: هذا نزالِ أشبهَ الفعلَ في المعنى وفي الحروف. إذن العاملُ قد يكون معنوياً محضاً، والمراد به أنه ما تضمّنَ معنى الفعل دون حروفه، وقد يكون مُتضمِّناً لمعنى الفعل والحروف معاً. هنا أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا يعني أشبهت الفعل المصرفا، وهي ما تضمّنَ معنى الفعل وحروفه، أخرجَ ما تضمّنَ معنى الفعل فقط دون حروفه، وهذا سينصُّ عليه أنه لا يجوزُ أن تتقدّم الحال عليه، زيادة على ذلك أنها دلّت على معنى الفعل ولم تقبل حروفَه .. زيادة على ذلك أنها تقبلُ علامات الفرعية، ويقصدون بعلامات الفرعية هنا يعني الدالة على الفرعية كالتثنية والجمع والتأنيث، هذه فروع ليست أصولاً، التأنيث فرعُ التذكير، والتثنية فرعُ الإفراد، والجمع كذلك فرعُ الإفراد. إذن هذه علامات فرعية، تدلُّ على الفرعية لا على الأصول، وأما الأصلُ فهو التذكير وهو الإفراد سواءٌ كان في التثنية والجمع، والمراد هنا بالقبول أنها تقبلُ قبولاً مطلقاً، يعني: هذه الصفة المشبّهة يُشترَط فيها أمران: الأول أن تكون مُتضمّنة لمعنى الفعل وحروفه، ثانياً: أن تقبلَ علامات الفرعية مُطلقاً، يعني: غير مُقيّدة، لا بوقت دون وقت، وهذا احترازٌ من أفعل التفضيل، أفعل التفضيل لا تقبل علامات الفرعية إلا إذا دخلت عليها (أل) أو أضيفت، وإذا لم تدخل عليها (أل) أو تضف حينئذٍ لزمت الإفراد.

ص: 3

إذن: أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا نقول: هي ما تضمَّنَ معنى الفعل وحروفه وقبِلَ علامات الفرعية مُطلقاً، احترازاً مما قبِلَ علامات الفرعية في وقت دون وقت، وهو أفعلُ التفضيل، إذن أفعل التفضيل لا يجوزُ أن يتقدّمَ عليه الحال إلا فيما سيأتي من الاستثناء، فلا يرِدُ أفعل التفضيل عنده إنما يقبلها إذا عُرِّفَ بـ (أل) أو أضيف، وأما ما عدا ذلك فلا يقبلُ علامات الفرعية.

إذن أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا لا بد من هذين القيدين، هذان القيدان يصدقان على ثلاثة: اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة. هذه هي الصفة التي أشبهت الفعلَ المتصرّف في هذا المقام، وهي ما تضمّن معنى الفعل وحروفه وقبِلَ علامات الفرعية مُطلقاً بدون استثناء، يعني بدون قيد. فَجائِزٌ تَقْدِيْمُه، إذن إن يُنصَب فَجائِزٌ تَقْدِيْمُه علّقَ الحكمَ هنا جواز التقديم بما إذا كان العامل في الحال الفعل المتصرف والصفة التي أشبهت الفعل، والاحتراز بقوله: صُرِّفَا وأَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا مما كان العاملُ فيه فعلاً جامداً، وهذا واضحٌ من قوله: بِفِعْلٍ صُرِّفَا احترازاً من الفعل الجامد، نحو ما أحسنَه مُقبِلاً، مقبلاً: حال من المفعول؛ من الهاء، هل يجوزُ أن تتقدّم (مقبلاً) على (ما أحسن)؟ نقول: لا يجوز، لماذا؟ لأن صيغة التعجب غير متصرفة جامدة، وإذا كانت غير متصرفة فلا يُتصرّف في معمولها، وكلما -هذا مرَّ معنا- كلما قوِيَ العامل تُصرِّف في معموله بالتقديم والتأخير والحذف والذكر، وكلما ضَعُفَ امتنعَ من التصرّف من التقديم والتأخير والحذف، ومن العود عليه، حينئذٍ الفعل .. لذلك الفعل يتقدم عليه عامله دونَ تفصيل، زيداً ضربتُ، لكن أسماء الأفعال .. أسماء المفعولين لا، لا بدّ من شروط وقيود؛ لأنها ضعيفة، وإذا كان كذلك حينئذٍ ما كان على الأصل فيُتصرَّف فيه التصرف التام في معمولاته.

ص: 4

إذن؛ الجامدُ لا تتقدّم عليه الحال، واحترز بقوله: بِفِعْلٍ صُرِّفَا منه. ما أحسنه مقبلاً، (مقبلاً) لا يجوز أن يتقدم على (أحسن)، ولا على (ما)؛ لأنه فعل جامد وهو غير متصرف، فلا يُتصرّف في معموله. أو صفة تشبهُ الجامد أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا، والصفة التي أشبهت الجامد، يعنون بها أفعل التفضيل .. اسم التفضيل، نحو هو أفصحُ الناسِ خطيباً، نقول: خطيباً هذا حال والعامل فيه أفصح، لا يجوزُ أن يتقدّم، مع كون أفصح هذا فيه معنى الفعل وحروفه، فصُحَ حينئذٍ نقول: هذا فيه معنى الفعل وحروفه، مع ذلك لا يتقدم؛ لكونه لم يقبل علامة الفرعية بإطلاق، فوُجِد فيه القيد الأول وهو كونه مُتضمّناً لمعنى الفعل مع حروفه، وبقيَ القيد الثاني وهو عدمُ قبول العلامات الفرعية مطلقاً؛ لأنه لا يقبلُ التأنيث والتثنية والجمع؛ إلا في حالين اثنين، وهما إذا حُلّي بـ (أل) أو أضيف، وما عداه فيلزمُ الإفراد؛ كذلك اسم الفعل، وهذا واضح لأنه قيده بفعل أو صفة، واسم الفعل ليس بفعلٍ ولا صفة، اسم الفعل مثل: نزالِ مسرعاً، نزالِ قلنا: فيه معنى الفعل وحروفه، حينئذٍ نقول: هل تتقدّم الحال عليه؟ هو ينصبُ الحال، ليس الكلام فيما ينصب الحال لا، اسمُ الفعل ينصب الحال، محلّ وفاق، نزالِ مسرعاً يعني: انزِلْ مسرعاً، وحينئذٍ نقول: مسرعاً: حال من الفاعل المستتر وجوباً في نزالِ، وهو اسمُ فعل، هل تتقدّمُ الحال عليه مسرعاً نزالِ؟ الجواب لا، لماذا؟ لأن ما جازَ تقديمه ما كان فعلاً مُتصرّفاً أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا، ونَزالِ اسم فعل ليس بفعل ولا بصفة، وحينئذٍ لا تتقدّم عليه الحال. أو عاملاً معنوياً، وهو ما تضمّنَ معنى الفعل دون حروفه، وهذا سينصُّ عليه الناظم:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

حُرُوفَهُ مُؤَخَّرَاً لَنْ يَعْمَلَا

كَتِلْكَ لَيْتَ وَكَأَنَّ

... .......................................

وهذا كما سيأتي في البيت الآتي.

إذن: الفعلُ الجامد والصفة التي أشبهت الجامد واسم الفعل والعامل المعنوي هذا مما يلزمُ فيه تأخيرُ الحال، وهي ستّ مسائل سيأتي النص عليها.

وَالْحَالُ إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا

أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا

أطلقَ الناظمُ هنا: بِفِعْلٍ صُرِّفَا، أطلقه يعني: كل فعل مُتصرّف جازَ تقديمُ الحال عليه، وهذا ليس بسديد؛ لأنه قد يعرِضُ عليه ما يمنعه من تقديمِ الحال عليه، وذلك كما إذا دخلت عليه لامُ الابتداء أو لامُ القسم أو أن يكون العاملُ صلةً لحرف مصدري، في هذه الأحوال الثلاثة يُعتبَر الفعل المتصرف ممنوعاً من تقدّم الحال عليه.

ص: 5

إذن بِفِعْلٍ صُرِّفَا نقول: هذا ما لم يمنع من تقديم الحال عليه مانِع، وهو واحد من ثلاثة أمور: إما أن تدخل عليه لامُ الابتداء أو لامُ القسم أو أن يكونَ العامل صِلة لحرف مصدري. لامُ الابتداء مثل ماذا؟ مثل قولك: لأصبرُ محتسِباً، ولأقومن طائعاً، لأصبِر محتسباً، محتسباً: حال من فاعل أصبر، وأصبِرُ فعلٌ مُتصرّف، هل يجوزُ أن تتقدّم الحال عليه؟ نقول: لا يجوزُ. كيف والناظمُ يقول: إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُهُ؟ نقول: هنا منعَ منه مانع؛ لأن لامَ الابتداء، ومثلها لام القسم لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلَها، مرَّ معنا هذا، فإذا قلت حينئذٍ: مُحتسِباً لأصبر، حينئذٍ عمِلَ أصبر في المتقدم وهو ممنوع، وكذلك لامُ القسم. لأصومنّ مُعتكفاً، وقولهم: لأصبرنّ محتسباً هذا مثّلَ به للقسم، ولامُ الابتداء نحو إني لأزورُك مُبتهجِاً، هذا المثال أحسنُ .. لام الابتداء، إني لأزورك مُبتهِجاً، مبتهجاً: حال من فاعل أزور، حينئذٍ نقول: لا يجوزُ أن يتقدّم على لام الابتداء لما ذكرناه. وكذلك لام القسم لأصبرنّ مُحتسِباً، لأقومن طائعاً؛ لأن هذين النوعين لا يعملُ ما بعدَهما فيما قبلهما.

كذلك أن يكون العامل صِلة لحرف مصدري، إن لكَ أن تسافرَ راجلاً، راجلاً: العامل فيه تُسافر؛ وهو مدخول (أن) حرف مصدري، وسبقَ أن حرف المصدر لا يُفصل بينه وبين صلته، كذلك لا يتقدّم عليه البتة، حينئذٍ لا يصحُّ أن يقال: إن لك راجلاً أن تسافر، لا يتقدّم عليه لما ذكرناه.

أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا كذلك أطلقهُ الناظم ولا بد من تقييده بأن لا يكون صلة لـ (أل)، أنتَ المصلي فذّاً، فذاً: حال، والعامل فيه مُصلي وهو اسم فاعل، هل يجوزُ أن تتقدّم الحال فذّاً على العامل وهو صفة أشبهت المصرفا؟ الجواب: لا، لماذا؟ والناظمُ يقول: أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا .. فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُه، نقول: هنا لا بدّ من تقييده ما لم يمنع منه مانع، والمانع هنا إذا كان صلة لـ (أل)، لأن (أل) لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلَها، فإذا قلنا: فذاً أنت المصلي، أو أنت فذاً المصلي، حينئذٍ الصلة .. صلة (أل) عملت فيما قبلها، وهذا ممنوع كما سبقَ مراراً.

إذن: إنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا ما لم يمنع منه مانع من كونه مدخولاً للام الابتداء أو لام القسم، أو أن يكون العاملُ صِلة لحرف مصدري. أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا ما لم تكن صلة (أل) فإن كان صلة (أل) حينئذٍ تلزمُ التأخير فلا يجوزُ تقديمه.

ص: 6

فَجائِزٌ تَقْدِيْمُهُ: فَجائِزٌ قلنا: خبر، وتَقْدِيْمُهُ مُبتدأ مؤخّر، فَجائِزٌ تَقْدِيْمُهُ الضمير هنا ما قال: تقديمها على الأفصح؛ لأن لفظَ الحال هنا ذكره بدون تاء مذكر في اللفظ، والحالُ قال: فَجائِزٌ تَقْدِيْمُهُ على ذلك الناصب له، وهذا هو الأصلُ في الحال مع عاملِها، جوازُ التقديم والتأخير، هذا هو الأصل، لكن ما لم يعارضه مُعارِض، فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُهُ هل يشملُ الحكمُ هنا فيما إذا كانت الحال جملة؟ لو قال: جاءَ زيدٌ والشمسُ طالعة، جاء: فعل متصرف، وزيد: فاعل، والشمس طالعة: مبتدأ وخبر، والواو واو الحال. إذن الحال وقعت جملةً؛ هل الحكم عام أم أنه خاصّ بالمفردات؟ هنا قال: وَالْحَالِ أطلقَ الناظم، حينئذٍ الحال، والحالُ تصدُقُ على المفرد وعلى الجملة:

وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ

كَجَاءَ زَيْدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ

إذن يشمل الجملة، وهذا هو الصحيح؛ أنه يصحُّ تقديم الحال ولو كانت جملة، ولو كانت مُصدّرة بالواو؟ نعم؛ ولو كانت مصدرة بالواو، فتقول: والشمسُ طالعةٌ جاءَ زيدٌ، ولو كانت مصدرة بالواو.

إذن؛ والحالُ مطلقاً سواءً كانت مفردة، أو جملة أو ظرفاً، فجائزٌ تقديمه.

كَمُسْرِعَا ذَا رَاحِلٌ، مُسْرِعَا ذَا رَاحِلٌ، ذا راحل مسرعاً، ذَا: اسم إشارة مبتدأ، ورَاحِلٌ: اسم فاعل وهو خبر، وهو رافع لضمير مُستتر رَاحِلٌ هو يعود على ذَا، مُسْرِعَا: حال من فاعل رَاحِلٌ، وهو الخبر، لما كان رَاحِلٌ صفة أشبهت المصرّفا جازَ تقديمه على العامل. إذن أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا مثاله: كَمُسْرِعَا ذَا رَاحِلٌ، وهذا (رَاحِلٌ) اسم فاعل. إذن مُسْرِعَا حال متقدمة، وهذا جائز التقديم، فيجوزُ لك وجهان: أن تقول: ذا راحل مُسرِعاً على الأصل بتأخير الحال، ويجوزُ لك التقديم، ثم التقديم كما ذكرنا له صورتان: إما التقديم مُطلَقاً على المسند إليه في المثال المذكور، وإما على المسند فحسب دونَ المسند إليه، وهنا الناظمُ ذكَرَ تقديمه على المسند إليه، فمن بابٍ أولى أن يتقدَّمَ على المسند فحسب دون المسند إليه، فدخلَت صورتان تحت المثال الأول، مُسرِعاً ذا راحل، هذه صورة، إذا جازت هذه (ذَا مُسْرِعَاً رَاحِلٌ) من باب أولى، كذلك هذا مثال لاسم فاعل، ومجرّداً زيد مضروب، زيد مضروب مجرداً، زيد: مبتدأ، ومضروب: خبر، والضمير مستتر نائب فاعل، ومجردا: حال جازَ تقديمُه على مضروب، وهو صفة أشبهت المصرّفا، وَهَذَا تَحمِلينَ طَلِيقُ، ذا: هذا مبتدأ، وطليق: خبر، وهو صفة مشبهة، تحملين تقدّمَ عليه، طليق هو اسم فاعل، وتحملين: هذا حال منصوبة مُتقدّمة على عاملها، وجوّزَ تقديمَها كونُه صفة أشبهت المصرفا.

إذن: أمثلة ثلاثية لما شملِه قوله: أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا؛ لأنه يشملُ اسم الفاعل، كمُسرعاً ذا راحل، واسم المفعول كمُجرّداً زيد مضروب، والصفة المشبهة كهذا تحملينَ طليقُ، تحملين في موضع نصب على الحال؛ لأنها الجملة، نعم، فعل وفاعل، وعامله طليق وهي صفة مشبّهة.

ص: 7

وَمُخْلِصًا زَيْدٌ دَعَا، زَيْدٌ: مبتدأ، ودَعَا: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو يعود على زيد، والجملة في محلّ رفع خبر المبتدأ، وَمُخْلِصًا هذا حال مِن فاعل دَعَا، وهذا فيه تقديمُ معمول الخبر الفعلي على المبتدأ، وهذا محلّ نزاعٍ عند النحاة؛ إذا كان الخبر فعلاً سواءً كان مضارعاً أو ماضياً أو أمراً مُتعلّق معموله، هل يتقدّم على المبتدأ أو لا؟ يتقدّمُ عليه دون المبتدأ لا إشكال فيه، ولذلك اعتُرِض على الناظم هنا، قيل: لو قال: زيدٌ مخلِصاً دعا لأتى بالمقامين، مثَّلَ لتقديم الحال على العامل زيد مخلصاً دعا، دعا مخلصاً، تقدمت الحال، وجاءَ على قول الجمهور من منعِ تقديم معمول الخبر على المبتدأ، لكن تقديمُه هنا إما أن يُقال أنه من باب الضرورة وإما أن يُقال بأنه رأى جوازَ تقديم معمول الخبر الفعلي على المبتدأ، ومخلِصاً زيدٌ دعا، كذلك هذا يتضمّنُ صورتين، مادام أنه جازَ على رأي من جوّزَ تقديم معمول الخبر الفعلي على المبتدأ حينئذٍ "زيد مخلصاً دعا" من بابٍ أولى وأحرى، ومخلصاً: حال متقدمة، والذي سوّغَ تقديمه .. هو الأصل، لكن جاءَ كونه فعلاً متصرّفاً حينئذٍ لم يمتنع تقديمها.

في البيتين لفٌّ ونشرٌ مُشوشّ؛ لأنه قال: إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا، قدّمَ الفعل المتصرف لأنه الأصل، ثم ثنّى بالصفة؛ لأنها فرع، ثم مثّلَ لماذا؟ للصفة وأخّرَ مثال الفعل، والأصل أن يمثّل للفعل أولاً ثم يأتي بمثال للصفة، وهذا جرى على قوله تعالى:((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ)) بدأ بالثاني، هذا يُسمّى لفّاً ونشراً مُشوّشاً.

وَالْحَالُ إِنْ يُنْصَبْ بِفِعْلٍ صُرِّفَا

أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا

فَجَائِزٌ تَقْدِيْمُهُ كَمُسْرِعَا

ذَا رَاحِلٌ وَمُخْلِصًا زَيْدٌ دَعَا

"خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ"{54/ 7} أي نوع هذا؟ أينَ الفعل؟ خُشّعاً: هذا حال؟ اسم فاعل؟ إذن هو حال خُشّعاً، إذن الحال قد يكون مُفرداً وقد يكون جمعاً. ((خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ)) أينَ صاحب الحال؟ الواو. يخرجون خُشّعاً، أَبْصَارُهُمْ هذا فاعل لاسمِ الفاعل ((خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ)) هنا لم يعتمد فكيف رفعَ؟ أليس هو مثل: فَجائِزٌ تَقْدِيْمُهُ كيف رفعَ خشعاً؟ وهو لم يعتمد على نفي ولا استفهام؟ سيأتي أن اسم الفاعل لا بد من الاعتماد، لكن اعتمادُه في باب المبتدأ على جهة الخصوص، وهو كونُه أن يعتمد على نفي أو استفهام، أما في العمل مُطلَقاً هذا لو كان فاعلاً أو خبراً مُسنداً أو نحو ذلك يجوزُ أن يعملَ مُطلقاً، وهنا اعتمد لأنه مسبوقٌ بـ (يَخْرُجُونَ خُشَّعًا) إذن هو حال. إذا جاءَ اسم الفاعل حالاً عمِلَ، من مسوغات العمل أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً؛ سواءً كان خبراً في الأصل أو خبراً لكان أو خبراً لإن .. إلخ. وهذا سيأتي في اسم الفاعل.

ص: 8

إذن خُشّعاً هنا كونه حالاً صارَ مُعتمداً؛ لأنه لا بدّ من عامل، وهو الآن مُتقدّم حقيقةً أو أن رتبته التأخير؟ إذن هو مُعتمِد يخرجون خشّعاً أبصارهم، هذا هو التركيب، فخشّعاً حال، حينئذٍ يعملُ فيما بعده.

قال الشارح: يجوزُ تقديمُ الحال على ناصبها إن كان فعلاً مُتصرّفاً، أما غير المتصرف فهو ما لزِمَ لفظ الماضي، والمتصرّف ما استُعمِل ماضياً أو مضارعاً وأمراً. أو صفةً تشبه الفعل المتصرف، والمراد بها ما تضمّنَ معنى الفعل وحروفه، وقبِلَ التأنيث مِن غير قيد، ليسَ قبل التأنيث فحسب، لا من غير قيد؛ لأن أفعل التفضيل .. اسم التفضيل يقبل التأنيث، لكن بقيد أن يكون محلى بـ (أل) أو مضافاً، والتثنية والجمع كذلك أفعل التفضيل يقبله لكن بقيد أن يكون محلًى بـ (أل) أو مضافاً، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة؛ فمثال تقديمه على الفعل المتصرف (مُخْلِصًا زَيْدٌ دَعَا)، فدعا: فعل متصرف، وتقدّمت عليه الحال، ومثال تقديمِه على الصفة المشبهة نحو (مُسْرِعَا ذَا رَاحِلٌ)، ذَا رَاحِلٌ صفة مشبهة، إلا إذا قصدَ بها الثبوت، اسم الفاعل إذا قُصِدَ به الثبوت حينئذٍ صحّ أن يُعتبر صفةً مشبهة، على كل هو محتمل؛ ما جاء زنة فاعل إذا قُصِد به الحدوث فهو اسم فاعل، وإذا قُصِد به الثبوت حينئذٍ عُومِل معاملة الصفة المشبهة، لكن ليسَ هو الأصل فيه، رَاحِلٌ يعني ذاهب، وهذا حدوث الظاهر يُنظر فيه.

فإن كان الناصب لها فعلاً غير متصرف لم يجز تقديمُه عليه فتقولُ: ما أحسنَ زيداً ضاحكاً، لا يصحّ التقديم؛ لأن فعلَ التعجب غير مُتصرّف فهو جامد، وما كان غير مُتصرّفٍ لا يُتصرّف في معموله، وكذلك إن كان الناصبُ لها صفة لا تشبه الفعل المتصرف كأفعل التفضيل لم يجز تقديمه عليه؛ لأنه لا يُثنى ولا يُجمع ولا يُؤنث، ليس على إطلاقه، وإنما ما لم يحلى بـ (أل) أو يضف، فلم يتصرّف في نفسه فلا يتصرف في معموله، (زيدٌ ضاحكاً أحسنُ من عمرو)، لا يجوزُ؛ بل يجب تأخير الحال فتقول: زيدٌ أحسنُ من عمرو ضاحكاً، وهذا إلا ما سيأتي استثناؤه:

وَنَحْوُ زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ

عَمْروٍ مُعَاناً .............................

هذا مُستثنى، وأما أفعل التفضيل فالأصل أنه لا يعمل.

قال رحمه الله تعالى:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

حُرُوفَهُ مُؤَخَّراً لَنْ يَعْمَلَا

كَتِلْكَ لَيْتَ وَكَأَنَّ وَنَدَرْ

نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ

ص: 9

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ. إذن العامل المعنوي في هذا الباب المراد به ما ضُمِّنَ معنى الفعل دون حروفه، يُسمّى عاملاً معنوياً، وليسَ هو العامل المعنوي المراد هناك في باب المبتدأ، ما هو العامل المعنوي هناك، ما حقيقته؟ ما ليسَ للسان فيه حظ، ما لا حظَّ للسان؛ يعني: لا يُنطَق به، وهو محصور على الصحيح في اثنين لا ثالثَ لهما، وهما الابتداء والتجرّد، الطلبُ هذا مُحتمِل، يأتي في محله محتمل، "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ"{6/ 151} هذا محتمل، وما عداها لا، فلا نقول، هنا في هذا المقام العامل المعنوي المراد به ما ضُمِّن معنى الفعل دون حروفه، كَتِلْكَ اسم الإشارة، فهي مُضمّنة معنى أشير، ولكن ليس فيها شيئ مِن لفظ أُشير، ولَيْتَ مُتضمّن لمعنى الفعل أتمنى، وليسَ فيه شيئاً من حروف الفعل، وكَأَنَّ فيه معنى الفعل أُشبّه، وليسَ فيه شيء من حروف الفعل. نقول: هذه الكلمات الثلاث وغيرها .. سيأتي أنها فوقَ العشرة .. أنها تضمَّنت معنى الفعل دون حروفه، هل تعملُ في الحال؟ نقول: نعم تعمل، ليسَ البحث في هذا البيت والسابق في ما يعمل في الحال، كلّ ما كان فعلاً أو فيه رائحة الفعل يعملُ في الحال، كلّ ما كان فعلاً سواءً كان مُتعدياً أو لازماً أو فيه رائحةُ الفعل، سواء معنى الفعل مع حروفه أو معنى الفعل دونَ حروفه فهو ينصِب الحال، لا إشكال فيه، ولكن الكلام في تقديم الحال على العامل، إذا كان العاملُ قوياً جازَ. هذا خلاصتها. إذا كان ضعيفاً يعملُ بالفرعية فالأصلُ العدم إلا ما جاء به السماع.

ص: 10

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا حُرُوفَهُ، عَامِلٌ هذا مبتدأ، وسوّغَ الابتداء به وصفُهُ، ضُمِّن فعل ماضي مُغيّر الصيغة، ضُمِّن، ضَمَّنَ هذا الأصل، ضُمِّن هذا فعل ماضي مغير الصيغة، ونائب الفاعل ضمير مستتر يعودُ على العامل، وَعَامِلٌ ضُمِّنَ، مَعْنَى هذا مفعول، وهو مضاف والفعل مضاف إليه، لَا حُرُوفَهُ، لَا عاطفة، ولا العاطفة تعطف ما بعدها على ما قبلها، لَا حُرُوفَهُ، حروفَ بالنصب معطوف على مَعْنَى، مُؤَخَّراً لَنْ يَعْمَلَا مُؤَخَّراً حال أو مفعول به أو مُطلَق أو مفعول لأجله أو منصوب على الظرفية أو اسم إن أو خبر كان؟ أي الأحوال هذه؟ المنصوبات كلّها؟ مُؤَخَّراً هذا حال مُتقدّم من يَعْمَلَا، الألف هذا للإطلاق، والفاعل ضمير مستتر يعود على عَامِلٌ. إذن لَنْ يَعْمَلَا مُؤَخَّراً مفهومُه أنه يعملُ مُتقدّماً، لن يعمل هو في الحال حال كونه مُؤخّراً، إن أُخِّر عن الحال .. وهذا يلزمُ منه أن تتقدّمَ عليه الحال، لن يعمل، فإذا لم يعمل العامل المعنوي في الحال عند تقدمها لا يلزم منه أن لا يعمل عند تأخُّرها، بل الأصل فيه أنه يعمل، وتكون الحال مُتأخِّرة عنه، فإن تقدمت امتنعَ، لماذا؟ لضعفه؛ لأنه عاملٌ ضعيف، العامل الجامد غيرُ المتصرف لا يُتصرَّف في معموله، وكذلك العاملُ الضعيف لا يُتصرَّف في معموله، ولذلك لا يصحُّ أن يتقدّمَ خبر إن على اسمها، فضلاً عن أن يتقدّمَ على (إن)، فلا يُقال: قائمٌ إن زيدا، لكون إن عامل ضعيف. كذلك لا يُقال: إن قائم زيدا؛ لماذا؟ لكون إن عامل ضعيف فلا يُتصرّف فيها، العامل الضعيف لا يُتصرَّف في معموله بالتقديم والتأخير، بل يلزم الأصلُ على ما هو عليه.

إذن لَنْ يَعْمَلَا الألف للإطلاق، مُؤَخَّراً هذا حال مقدمة.

كَتِلْكَ لَيْتَ وَكَأَنَّ، كَتِلْكَ هذا فُهِم من إدخال الكاف على تلك، تي واللام والكاف زائدتان، تي: هذا الأصل، فُهِم منه من دخول الكاف على تلك أنه مُطرد في أسماء الإشارة كلها، فكلّ أسماءِ الإشارة تعملُ في الحال، وكلها عاملٌ معنوي ضعيف، وكلها لا يجوزُ أن تتقدّمَ الحال على اسم الإشارة؛ لكونها عاملاً معنوياً وهو ضعيف.

كَتِلْكَ لَيْتَ: وليتَ على حذف حرف العطف، وَكَأَنَّ.

معنى البيت أن العامل في الحال إذا ضُمّن معنى الفعل دون حروفه لا يتقدّمُ عليه الحال لضعفه، ثم مثّلَ بثلاث كلمات: تلك اسمُ إشارة، وفيها معنى الفعل وهو أُشير، وليسَ فيها حروفَ الفعل الذي يُفهَم منه، وليت حرف تمني، وفيها معنى الفعل (أتمنى) دون حروفه، وكأنّ حرفُ تشبيه وفيها معنى الفعل (أشبّه) دون حروفه.

كَتِلْكَ لَيْتَ وَكَأَنَّ جاء بالكاف تمثيلاً لمدخولها، وليس حصراً لمدخولها، فالكاف تمثيلية ليست استقصائية؛ إذ العاملُ المعنوي يشملُ أسماءَ الإشارة وحروفَ التمني والتشبيه والظرف والجار والمجرور وحرف الترجي كلعل وحرف التنبيه مثل (ها) التنبيه وأدوات الاستفهام الذي يُقصَد به التعجب وأدوات النداء وأمّا هذه عشرة، كلّها نحكم عليها بأنها عامل معنوي، تعملُ في الحال؟ نعم؛ تعمل في الحال، لكن الكلام في أنه لا يجوزُ أن تتقدّم الحال على هذا العامل المعنوي.

ص: 11

إذن المراد بالعامل المعنوي: اللفظ الذي يعملُ بسبب ما يتضمّنهُ من معنى الفعل مثل تلك وما عُطِف عليها.

وَنَدَرْ نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ، نَدَرْ هذا كالاستثناء مما سبقَ، الأصل فيه أنه لا يتقدّمُ الحال على العامل المعنوي، وَنَدَرْ أي قل، وبعضهم قال: شذَّ، وفرق بينهما، إذا قيل: قلَّ بمعنى أنه موجود في لسان العرب، وأنه قليل، ويحتملُ أن يُقاس عليه، القياسُ عليه محتمل، إذا قيل: نادر وقليل، هذا القياسُ عليه محتمل، وأما الشاذّ فلا يُقاسُ عليه. نَدَرْ أي قلّ، وقيل: شذّ، قلَّ ماذا؟ نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ، سَعِيدٌ مبتدأ، فِي هَجَرْ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، مُسْتَقِرّاً حال من الضمير المستتر في هَجَرْ؛ لأن (فِي هَجَرْ) قلنا: هذا جار ومجرور، وهو متعلّق بالاستقرار، لما حُذِف الاستقرار انتقلَ الضمير منه إلى الظرف وإلى الجار والمجرور، حينئذٍ نقول: فِي هَجَرْ فيه ضمير مستكن هو فاعل، يعودُ على سعيد، مُسْتَقِرّاً حال منه، حالٌ من ذلك الضمير الذي يعودُ على سعيد.

إذن ما العامل هنا؟ العاملُ هو فِي هَجَرْ، وهو عاملٌ معنوي، هنا تقدّمَ الحال على الظرف، هذا يُعتبَر استثناءً من القاعدة السابقة:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

حُرُوفَهُ مُؤَخَّراً لَنْ يَعْمَلَا

وهنا عمِلَ (فِي هَجَرْ) في مُسْتَقِرّاً، هل نقول: يُستثنى حرفُ الجرّ وكذلك الظرفُ لكونهما يُتوسَّع فيهما ما لا يُتوسّع في غيرهما، حينئذٍ إذا نصبا الحال جازَ تقديم الحال عليهما أو نقول: هذا شاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه؟ محل نزاع بين النحاة، وهنا عبّرَ بندر يعني أن ما ذُكِر قليل، وَنَدَرْ نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً عندك أو سعيد مُستقرّاً في هجر، ندرَ تقديم الحال على عاملها الظرف والمجرور المخبر بهما، إذا وقعا خبراً عن المبتدأ، وفصلَ هذه المسألة عما قبلها وما بعدها وإن كانت مثلها؛ لأنه قد سُمِع فيه تقديم الحال على عاملها بخلاف السابق، السابق المنعُ حصلَ استنباطاً من النحاة، أنه كتلك وليت وكأنّ وأسماء الإشارة وحروف النداء والتنبيه نقول: هذه كلها استنباط واجتهاد من النحاة أنه لا يتقدّم عليه الحال. أما هذا فقد سُمع حينئذٍ هل يُقاسُ عليه أم لا؟ وندر تقديمُه على عاملها الظرف والمجرور المخبَر بهما. توسّطُ الحال بين صاحبه وعامله إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً مُخبَراً به أجازَه الأخفش بكثرةٍ، يعني: جعلَه مَقيساً عليه كأنه أصل، ولذلك قالَ: بكثرةٍ يعني: عاملَه مُعاملة الأصل، فيجوزُ حينئذٍ كما تتقدّمَ الحال على العامل المتصرّف والصفة المشبهة، حينئذٍ يجوزُ تقديمُ الحال على العامل المعنوي بشرطِ أن يكون ظرفاً أو جارّاً ومجروراً وقعَ خبراً عن مُبتدأ، ليس على إطلاقه.

وَنَدَرْ نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ فما وردَ من ذلك مسمُوعاً قالوا: يُحفَظ ولا يُقاس عليه، ولذلك فسَّر بعضُ الشراح قول ابن مالك هنا نَدَرْ بمعنى شذَّ، وإذا كان شذَّ حينئذٍ يُحفَظ ولا يُقاس عليه، وَنَدَرْ يعني: ما وردَ من ذلك مسموعاً يُحفَظ ولا يُقاس عليه. هذا هو مذهب البصريين؛ أن هذا شاذٌّ يُحفظ ولا يُقاس عليه.

ص: 12

إذن لا استثناء في القاعدة:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

حُرُوفَهُ مُؤَخَّراً لَنْ يَعْمَلَا

سواءً كان ظرفاً أو جاراً ومجروراًَ لا استثناء في القاعدة.

وأجازَ ذلك الفراء والأخفش مُطلقاً، أجازوه مُطلقاً، الإطلاق هنا يُفسَّر بما سيأتي من مذهب الكوفيين، وأجازَه الكوفيون فيما كانت الحال فيه من مُضمَر، إذا كانت الحال فيه من مُضمَر من ضمير جازَ تقديم الحال على الظرف أو الجار والمجرور، أنتَ قائماً في الدار، أنتَ: مبتدأ، في الدار: خبر، قائماً: حالٌ من الضمير المستكن في الدار، جازَ تقديمه على في الدار لكون المسند إليه مُضمَر، يعني: ضمير، أي: من مُضمَر، مرجعه مُضمَر، فقائماً: حال من الضمير المستكن في العامل الذي هو الجار والمجرور، ومرجعُهُ أنت .. أنت قائماً في الدار، وقيل: يجوزُ بقوّة إن كان الحالُ ظرفاً أو حرفَ جرّ، ويضعُفُ إن إن كان غيرهما، وهذا تفصيل، لكنه ليسَ عليه التعويل، ويضعُف إن كان غيرهما وهو مذهبُه في التسهيل، يعني: مذهبَ ابن مالك رحمه الله تعالى، ومحلّ الخلافِ في جواز تقديم الحال على عاملها الظرف إذا توسَّطَ، وأما تقديمه لا، يعني: سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ كونه متوسطا بين المبتدأ والخبر هو محل الخلاف، وأما مستقراً سعيدٌ في هجر فهذا محلّ إجماع لا يجوز، والمشهورُ عند النحاة أنه شاذّ يُحفظ ولا يقاس عليه؛ لأن القاعدة أن العاملَ المعنوي ضعيف، والضعيف لا يَقوى أن يُتصرَّف فيه معموله بالتقديم والتأخير، وما سُمِع قليل لا يصلح أن يكون استثناءً من القاعدة العامة. فإن تقدَّمَ على الجملة نحو (قائماً زيدٌ في الدر) امتنعت المسألة قيل: إجماعاً، وقيلَ في حكاية الإجماع نظر، ليس بصحيح، حيث أجازَ الفراء في قول القائل: فداءً لك أبي وأمّي، جوّزَ الفراء أن يكون فداءً حالاً، والعاملُ فيه: لك، فداءً لك أبي وأمي، أبي: مبتدأ مؤخّر، ولك: خبر مقدم، فداءً: حال من الجار والمجرور، لكَ فداءً، جوّزَ تقديم الحال هنا وهو فداء على لك، وهو يقتضي جواز التقديم على الجملة عنده إذا تقدّمَ الخبر، وأجازَه ابن برهان فيما إذا كان الحال ظرفاً نحو "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ" {18/ 44} فهنالك: ظرفٌ في موضع الحال، والولاية مبتدأ، ولله خبر. إذن هذا خلاف عند النحاة.

وإذا تقدّمَ على المبتدأ قيل بالإجماع المسألة ممتنعة، لكن ذكرنا خلافَ ابن برهان والفراء وغيره.

إذن:

وَعَامِلٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا

حُرُوفَهُ مُؤَخَّراً لَنْ يَعْمَلَا

كَتِلْكَ لَيْتَ وَكَأَنَّ وَنَدَرْ

........................

ص: 13

وَنَدَرْ يعني: قلّ أو شذَّ، وهو الأحسنُ؛ لكن ابن مالك لا يُعبّر بـ (ندر) عن (شذّ) إلا في النادر، وإذا قال: ندر أو قلَّ حينئذٍ يُحمَل على أنه مسموع قليل، ومحتمل للقياس عليه، لكن الظاهر أنه شاذّ، نَحْوُ سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ، مُسْتَقِرّاً قيل: هذه حالٌ مؤكِّدة، وعليه فالمراد بالاستقرار العام، مُسْتَقِرّاً ما المراد بالاستقرار خاص أو عام؟ إذا قيل بأنها حال مؤكِّدة حينئذٍ نقول: المراد بالاستقرار العام، وقال بعضُهم: مُسْتَقِرّاً أي: ثابتاً غير متزلزل، فهو خاصّ إذ لو كان عامّاً لم يظهر. يعني قوله: مُسْتَقِرّاً هل نفسِّره بالاستقرار العام أو الاستقرار الخاص؟ لو كان عامّاً لما ذُكِر، ولذلك نفسّره بالاستقرار الخاص.

إذن نقول: يجبُ تأخيرُ الحال من الأبيات الثلاثة السابقة في ستّ مسائل، يجبُ تأخير الحال، لا يجوزُ أن تتقدّمَ على عاملها في ستّ مسائل، وكلها مأخوذة من الأبيات الثلاثة السابقة:

الأول: أن يكون العاملُ فعلاً جامداً؛ لأنه قيّدَه هنا قال: بِفِعْلٍ صُرِّفَا. إذن الجامد لا يجوزُ أن تتقدم الحال عليها، ما أحسنَه مُقبِلاً.

الثاني: أن يكون صفةً تشبه الفعل الجامد، وهو اسم التفضيل، نحو هذا أفصحُ الناس خطيباً، هنا لا يجوزُ أن تتقدّمَ الحال على العامل وهو اسم التفضيل.

الثالثة: أن يكونَ مصدراً مُقدّراً بالفعل وحرف مصدري، نحو أعجبني اعتكافُ أخيكَ صائماً، أعجبني اعتكاف أخيك أي أن يعتكف هو مؤوّل بالمصدر.

رابعاً: أن يكون اسم فعل نحو نَزالِ مسرعاً، قلنا: هذا فيه معنى الفعل وحروفه، ولكن لا يجوزُ أن يتقدّم، لماذا؟ لأنه ليس فعلاً ولا صفةً.

الخامس: أن يكون لفظاً مُضمّناً معنى الفعل دون حروفه، مثل العشرة التي ذكرناها: اسم الإشارة وما عُطِف عليه، وذكرَ الناظم ثلاثة. ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً)) خَاوِيَةً: حال، والعامل فيها تلك، فهو اسمُ إشارة لا يجوزُ تقديمه على العامل.

السادس: أن يكون عامِلاً، لكن عرَضَ له مانع، يعني: فعلٌ مُتصرّف دخلت عليه لامُ الابتداء أو لامُ القسم، أو كان العامل فيه فعلا دخلَ مع حرف مصدري، والصفة المشبهة أن تكون صلةً لـ (أل). إذن في الأصل أنه يعمل لكن عرَضَ له مانع.

إذن: هذه ستُّ مسائل لا تتقدّم الحال على عاملها.

ص: 14

قال الشارح: وقد ندرَ تقديمُها على عاملها (نحو زيد قائماً عندك)، زيد: مبتدأ، وعندك: خبر، وقائماً: حال من الضمير المستكن في عندك، والجار والمجرور نحو (سَعِيدٌ مُسْتَقِرّاً فِي هَجَرْ)، الجمهور على المنع

جماهير النحاة على المنع للعلة السابقة، وهو كونُ الجار والمجرور والظرف عاملاً معنوياً وهو ضعيف، والضعيفُ لا يُتصرَّف فيه معمولاته، يُستثنى من المضمّن .. عندما قال بأنه مقيس يُستثنى من المضمن معنى الفعل دون حروفه أن يكون ظرفاً أو مجروراً مُخبَراً بهما .. بهذا القيد مخبر بهما، يعني: يقع خبراً، ليسَ مُطلقاً كل ظرف وجار ومجرور، لا، مخبراً بهما. بقلةٍ .. فيجوزُ بقلةٍ، هكذا عبّرَ ابن هشام في الأوضح. إذن عندَه أنه مقيس، ولذلك قال: يجوزُ بقلةٍ، يعني: على قلة. توسُّط الحالِ بين المخبر عنه والمخبر به؛ بخلاف ما إذا تقدّمَ على المخبر عنه فإنه ممتنع، قيل بالإجماع، والجماهيرُ على المنع، واستدلَ المجيز مُطلقاً بقراءة من قرأ -قراءة الحسن- ((وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌٍ بِيَمِينِهِ)) وَالسَّموَاتُ: مبتدأ، بِيَمِينِهِ: خبر، مَطْوِيَّاتٍ: بالكسر على أنه حال؛ جمع مؤنث سالم. إذن وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٍ هذه حال مُتقدّمة على (بِيَمِينِهِ) .. جوّزوا هذا.

"وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا"{6/ 139} خَالِصَةً بالنصب. إذن تقدّمت، مَن أجازه مطلقاً استدل بهاتين القراءتين، وأجازَه الأخفش قياساً.

وَنَحْوُ زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ

عَمْروٍ مُعَاناً مُسْتَجَازٌ لَنْ يَهِنْ

ص: 15

سبقَ أنه قال: أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا قلنا: يشملُ اسمَ التفضيل؛ لأنه صفة، لكنها لم تُشبه الفعلَ المتصرف، وإن كانت فيها معنى الفعل وحروفه، إلا إنها لا تقبلُ علامة الفرعية بإطلاق، وإن قبلتها بقيدٍ. استثناء من ذاك أنه قد يعملُ اسم التفضيل لكن بقيد، وهو الذي ذكرَه الناظمُ هنا، وَنَحْو: هذا مبتدأ، مُسْتَجَازٌ هذا خبره، لَنْ يَهِنْ هذا خبر بعد خبر، زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ عَمْروٍ مُعَاناً هذا المثال، أَنْفَعُ ما نوعها؟ أَنْفَعُ صفة مشبهة؛ اسم فاعل؛ اسم تفضيل؛ أفعل التفضيل؟ أفعل التفضيل زَيْدٌ: مبتدأ، ومُفْرَدٌ: حال، وأَنْفَعُ: خبر، ومِنْ عَمْروٍ: مُتعلّق بأنفع، ومُعَاناً: حالٌ من عَمْروٍ، زَيْدٌ: مبتدأ، مُفْرَداً: حال من الضمير المستكن في أَنْفَعُ، (أَنْفَعُ) فيه ضمير مستكن، مُفْرَداً: حال منه، والعامل إذن في مفرداً؟ ما العامل فيه؟ العامل في صاحب الحال وهو الضمير المستكن هو العامل في الحال، إذن العامل في الضمير المستكن أَنْفَعُ هو نفسه اسم التفضيل، هو عينُه العامل في مُفْرَداً، وهنا تقدّمت الحال على اسم التفضيل، مِنْ عَمْروٍ: هذا مُتعلّق بأنفع، مُعَاناً: حال من عَمْروٍ. أصل التركيب (زيد أنفع في حال كونه مُنفرداً من عمرو في حال كونه مُعانًا)، وإنما كان (أَنْفَعُ) عاملاً في الحالين: لأن صاحبَ الحال الضمير المستكن وعمرو، كلاهما مُتعلّقان بأنفع، كلاهما متعلقان يعني: معمولان بأنفع، حينئذٍ جاءت الحال من صاحبي حالٍ العامل فيهما (أنفعُ)، حينئذٍ يكون العامل صاحب الحال هو العامل في الحال.

إذن اتحدا؛ الحال المتقدمة (مفرداً) والحال المتأخرة (معاناً) اتحدا في كون العامل فيهما هو أنفع، والشاهد هنا ليسَ في معانا؛ لأنه مُتأخّر، هذا جاء على الأصل، الشاهد هنا في مُفرداً، كيف تقدم على (أنفع) وهو اسم تفضيل؟ قيل: استُثنيت هذه الحالة بالضابط الذي ذكره النحاةُ، وهو أن يقع اسمُ التفضيل مُتوسِّطاً بين حالين، أن يقعَ أفعلُ التفضيل مُتوسّطاً بين حالين من اسمين متحدي المعنى أو مختلفين، مُتحدي المعنى أن يكون ثَمَّ تفضيلُ شيئ في حال على نفسه في حال أخرى، زيدٌ قائماً أحسنُ منه قاعداً، هنا التفضيلُ بين شخصين أو بين شخصٍ في حالين؟ الثاني، شخص واحد، زيدٌ قائماً أحسنُ منه قاعداً، فالحالان هنا من زيد في الحقيقة، حينئذٍ نقول: هنا اتحدا من حيث المعنى، وأما (زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ عَمْروٍ مُعَاناً) فنقول: الحالان هنا من شخصين مختلفين.

ص: 16

إذن سواءً وقعَ أفعل التفضيل بين اسمين مُفضّلين أو مُفضّل أحدهما على الآخر، وكان الشخص واحداً مُتحدي المعنى أو كان مُختلفي المعنى. مُفضلٌ أحدهما في حالةٍ على الآخر في أخرى، كلٌّ منهما فضل على الآخر في حالةٍ ليست هي الحال الأولى، فهذا جائِزٌ، أن تتقدّمَ الحال على اسمِ التفضيل على أن اسمَ التفضيل عاملٌ في الحالين معاً المتقدمة والمتأخرة، فيكون ذلك مُستثنى مما تقدّمَ من أنه لا يعملُ في الحال المتقدمة عليه اسم التفضيل، هذا استثناءٌ مما سبقَ، وإنما جازَ ذلك هنا لأن أفعل التفضيل وإن انحطَّ درجةً عن اسم الفاعل والصفة المشبهة بعدمِ قبوله علامات الفرعية، فله مَزيّة على العامل الجامد، نعم لا شك، يعني: إذا قيل بأن أفعل التفضيل أحطُّ درجة من اسم الفاعل لكونه لم يقبل علامة الفرعية مطلقاً إلا إنه أعلى درجة من الجامد لأن فيه معنى وحروف الفعل المتصرِّف. إذن هو أدنى من اسم الفاعل وأعلى درجةً من الجامد. إذن لا يُسوّى بينهما، فله مزيّة على العامل الجامد؛ لأن فيه ما في الجامد من معنى الفعل، ويفوقُهُ بتضمّنِ حروف الفعل ووزنه، فجُعِلَ مُوافِقاً للعامل الجامد في امتناع تقديم الحال عليه إذا لم يُتوسّط بين حالين، نحو: هو أكفؤهم ناصِراً، هنا لا يجوزُ أن يتقدّمَ، عُومِل معاملة الجامد مع كونه فيه معنى الفعل وحروفه، ولكونه لم يقبل علامة الفرعية مُطلَقاً عُومِل معاملة الجامد، وجُعِل موافقاً لاسم الفاعل في جواز التقديم عليه إذا توسّطَ بين حالين.

إذن ما سُمِع في لسان العرب هو المحَكَّم هنا، وهو ما جاء في أفعل التفضيل بين حالين بالاعتبار الذي ذكرناه. ثم استُثني هذا إما أن يُعلّل وإما أن يُجعَل على قياس، ولا بأس أن يُعلَل بأنه أُعطي حكمَ الجامد في ما إذا نصبَ حالاً واحداً، وأما إذا نصبَ حالين بالقيد المذكور يعني: التفضيل باعتبارين حينئذٍ أُعطي حكم اسم الفاعل.

وَنَحْوُ زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ، أنفع قلنا: فيه ضمير عائدٌ على زيد، وأنفعُ قلنا: هنا في هذا المثال خبر، ومفرداً: هذا حال من الضمير في أنفع، مِنْ عَمْروٍ: هذا متعلق بأنفع، مُعَاناً: حال من عمرو، وإنما كان أنفعُ عاملاً في الحالين؛ لأن صاحبَ الحال وهو الضمير المستتر والمجرور بمن معمولان له، والعاملُ في الحال هو العامل في صاحبها. مُسْتَجَازٌ هذا خبر المبتدأ نحو، السين والتاء زائدتان أو للنسبة، أي منسوب إلى الجواز، ومَعدود من الجائز. ثم إن ما جازَ بعدَ الامتناع يجبُ هكذا قال الصبان، ما جاز بعد الامتناع لأنه مُنع أولاً: أَوْ صِفَةٍ أَشْبَهَتِ الْمُصَرَّفَا، مفهومه أنه لا يعمل، ثم جوَّزنا له حالة واحدة، حينئذٍ يجبُ، ولكن الناظم قال: مُسْتَجَازٌ، فلا يُعترَض عليه بأن اللائق التعبير بالوجوب بدل الاستجازة، لكن هذا فيه نظر. لَنْ يَهِنْ يعني: لن يضعُف، وهو خبر بعد خبر.

ص: 17

إذن نَحْوُ هذا المثال مُسْتَجَازٌ يعني: جائز .. السين والتاء زائدة، لَنْ يَهِنْ يعني: لن يضعف بل هو فصيح، ويُقاس عليه بكثرة، ولا نقول: إنه مما ضعُفَ فيه تقديم الحال على اسم التفضيل، وهذا مذهبُ سيبويه والجمهور، سواءً اتحد الاسمان أم اختلفا، اتحد الاسمان يعني الحالان؛ بأن كان صاحبهما واحداً كالمثال الذي ذكرَه ابن عقيل (زيد قائماً أحسن منه قاعداً)، أو مختلفان كمثال الناظم الذي ذكرناه. وهذا قلنا مذهب سيبويه والجمهور، ويجبُ أن تكون حال المفضل مُقدّمة، وحالُ المفضل عليه مُتأخِّرة يعني: زادوا على ما ذكرناه، كما ذكره الناظم: زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ مِنْ عَمْروٍ مُعَانا، تكون حال المفضّل مقدمة، وحال المفضّل عليه مُتأخّرة. هنا زَيْدٌ مُفْرَداً أَنْفَعُ، مُفْرَداً هذا حالٌ من المفضل، ومُعانا حال من المفضل عليه، لا يُعكَس، لا يتقدّمَ هذا على ذاك، فلا يصح أن يُقال:" أنفعُ من عمرو معاناً زيد مفرداً"، أو نقول:" من عمرو معاناً أنفع زيد مفرداً"، التقديم والتأخير هنا ممنوع سواءً كان المفضل عليه مُتعدداً أو شخصين.

وزعم السيرافي أن المنصوبين خبران منصوبان بكان المحذوفة على تقدير: إذ في الماضي وإذا في الاستقبال، يعني: لم يُسلِّم بهذا الاستثناء، وإنما أبقى العمومَ على أصله في كون اسم التفضيل لا يعملُ في حالٍ مُتقدّمة، حينئذٍ مثل هذا التركيب "زيد مفرداً أنفع من عمرو معانا" قال:"زيد إذا كان مُفرداً -فهو خبر لكان المحذوفة مع اسمها- أنفعُ من عمرو إذا كان معاناً"، جعلها خبرين لكان محذوفة مع اسمها، مع إذ في الماضي وإذا في الاستقبال.

ولا يجوزُ تقديمُ هذين الحالين على أفعلِ التفضيل ولا تأخيرُهما عنه، "زيد قائماً قاعداً أحسن منه"، لا يجوز؛ لأنه بهذا التركيب الذي سُمع؛ لأنه لا يُقاس عليه، ما دام أنه خروجٌ عن أصل فيبقى على ما هو عليه، فلا تتقدّمَ الحالان ولا تتأخر، ولا يحصلُ تقديم ولا تأخير.

ثم قال الناظم رحمه الله تعالى:

وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ

لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدِ

صاحبُ الحال قد يتعدَّد، فتتعدّد الحال له، وقد يكون صاحبُ الحال مفرداً وتتعدد الحال له، وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ، الْحَالُ: مبتدأ، وقَدْ يَجِيءُ: خبر المبتدأ، ذَا تَعَدُّدِ، ذَا حالٌ من فاعل يَجِيءُ، ذَا تَعَدُّدِ: صاحب تعدُّد، والمراد بالتعدُّد هنا التكرر، لِمُفْرَدٍ: المفرد المراد به هنا في هذا المقام غير المتكرر.

إذن إذا قيل: الحال مفردة في باب الحال إذن المراد بها غير المتكررة. وَغَيْرِ مُفْرَدِ يعني: صاحب حال غير .. وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ يعني: يجوز تعدّدُ الحال وصاحبها مفرد، لماذا؟ لما ذكرناه مراراً أن باب الحال محمول على باب الخبر والنعت، كما يجوزُ تعدُّدُ الأخبار هناك:

وَأخْبَرُوا بِاثْنَيْنِ أوْ بِأكْثَرا

عَنْ وَاحِدٍ ..........

ص: 18

كذلك جازَ هنا، فالمبتدأ هناك واحد، والأخبار مُتعدّدة، كذلك قد يكون المنعوتُ واحداً والنعوت متعددة. إذن لشبهِ الحال بالخبر والنعت جازَ أن تتعدّدَ الحال وصاحبها يكون مُفرداً؛ لأن الحال شبيهةٌ بالخبر، والخبر يتعدّدُ؛ لأنه محكوم بها على صاحبها. الخبر يتعدد لأنه محكوم بها على صاحبها، كالحكم بالخبر على المبتدأ، فلذلك قولك:"جاء زيد راكباً" هذا في قوة قولك: "زيد راكب"، يعني: المعنى الدقيق الذي يكون فارقاً بينهما، لا يُؤثِّر في أصل الجملة، الإخبار موجود جاء زيد راكباً، أنتَ أخبرت بمجيء زيد بكونه راكباً، وإذا قلت: زيدٌ راكبٌ، كذلك حصلَ، وإن كان في الحال زيادةُ قيد، حينئذٍ وفَّت هذه الجملة زيد راكباً بما وَفّت به الجملة السابقة، وكذلك شبيهة بالنعت من حيث اتصاف صاحبها بصفةٍ خاصّة والنعت يتعدّد، فالحال شبيهة به فكذلك التاء تتعدد.

إذن الحال لشبهها بالخبر والنعت قد يجيءُ. قَدْ تحقيق أو تقليل؟ الظاهر أنه تحقيقُ وليس للتقليل؛ لأنه كثير، حينئذٍ تحقيق المراد أن هذا الحكم محقّق ثابتٌ. قَدْ يَجِيءُ قد للتحقيق، يَجِيءُ أي الحال، ضمير مستتر يعودُ على الحال. ذَا تَعَدُّدِ يعني: صاحب تعدد، فتقول: جاءَ زيدٌ راكباً ضاحكاً، جاء: فعل ماضي، زيد: فاعل، ضاحكاً: حال من زيد، راكباً: حال بعد حال.

ويُشترَط في تعدّد الحال للمفرد أن لا يُفصَل بينهما بعاطف، فإن فُصِل بينهما بعاطف حينئذٍ صارت الحال مُفردة، لو قال: جاءَ زيدٌ ضاحكاً وراكباً، وراكباً الواو حرفُ عطف، وراكباً معطوفاً على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب؛ لأنه لا نقول إنه حال في الإعراب، وإن كان في المعنى حال لكنه في الإعراب لا نقول: حال.

إذن يُشترَط في تعدّد الحال لمفردٍ أن لا يُعطَف بينهما بحرف العطف.

ذَا تَعَدُّدِ قد يكون التعدّد جائزاً وقد يكون واجباً، والوجوب في موضعين اثنينِ لا ثالث لهما عند النحاة، وجوباً بعد (إما) وبعدَ (لا)، بعد (إما) نحو ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) ، شَاكِراً وكَفُوراً: حالان، تعدّدُهما واجب؛ لوقوعهما بعد (إما)، كذلك بعد (لا) مثل "جاء زيد لا خائفاً ولا آسفاً"، نقول: خائفاً وآسفاً: حالان تعددتا لصاحب حال واحد وهو زيد. وما حكم التعدد؟ نقول: واجبٌ. ما عدا هذين الموضعين فهو جائز.

قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ جوازاً ووجوباً، والوجوبُ في مَوضعين، وما عداه يعتبر جائزاً.

ص: 19

لِمُفْرَدٍ يعني لصاحب حال مُفرَد، كالمثال الذي ذكرناه. فَاعْلَمْ: اعلم: فعل أمر، والفاعل ضمير مُستتر تقديره أنت، والجملةُ لا محلّ لها من الإعراب مُعترِضة أو معترَضة يجوزُ فيها الوجهان، والجملة المعترِضة يجوزُ عطفها بالواو والفاء، الأصل أنها لا تُعطَف، الأصل في الجملة المعترضة لا تُعطَف، لكن يجوزُ عطفها بالواو أو الفاء:" قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ"، قلنا:" هُوَ ابْنُ مَالِكِ" يجوزُ أن يكون جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، هناك لم يفصلها بعاطف وهذا هو الأصلُ فيها، لكن هنا فصَلها بعاطف، والعاطفُ في الجملة المعترضة لا يخلو عن اثنين: الفاء والواو فحسب، وما عداه لا، ونبّه على ذلك الصبان عند قوله: هُوَ ابْنُ مَالِكِ، قال: تنبيه؛ يجوز العطف .. إلخ.

ص: 20

فَاعْلَمْ لمَ قال: فَاعْلَمْ؟ أتى بها لردّ قولِ ابن عصفور وهو منعُ تعدّد الحال من المفرد. ابن عصفور النحوي الشهير صاحب الشرح المقرب منعَ تعدّد الحال من مفرد فلا يُقال: "جاء زيد راكباً ضاحكاً". منعَ ابنُ عصفور هذا النوع ما لم يكن العاملُ فيه أفعلَ التفضيل، نحو "هذا بُسراً أطيب منه رطباً"، السابق يعني: المتوسّط بين حالين، والثاني عنده نعت للأول، إذا جاءَ مثل هذا التركيب عنده؛ إذا منعَ التعدد الحال فماذا يقول في "جاء زيد راكباً ضاحكاً"، ضاحكاً ما إعرابه؟ الجمهورُ على أنه حال ثانية، وعنده إما إنه نعتٌ، وإما إنه حال من الضمير المستتر في الحال؛ لأن راكباً الأولى مثلاً اسم فاعل، واسم الفاعل يرفعُ ضِميراً مستتراً. إذن الحالة الثانية ليست حالاً من زيد، جاء زيدٌ ضاحكاً، ضاحكاً: حال لزيد، راكباً: ليس حالاً من زيد، وإنما حال من الضمير المستكن في اسم الفاعل الأول الحالة الأولى، وهذه يُعبَّر عنها .. يجوز عند النحاة يُعبّر عنها بالحال المتداخِلة، متداخلة أن تكون كل حال ممكن تتعدّد إلى عشرة، وكلّ حال تكون حالاً من الضمير المستكن في الحال السابقة، فإذا قال:"جاء زيد ضاحكاً راكباً قائماً نائماً"، فهذه كلها أحوال، الأخير حالٌ من الضمير المستكن في الذي قبله، والذي قبله حالٌ من الضمير المستكن في الذي قبله، وتبقى معنا حالٌ واحدة فقط، وهذا ذهبَ إليه ابن عصفور، وهو جائزٌ عند بعض النحاة على أن يُجعَل الحال الثانية مُتداخلة مع الحالة الأولى، ويُعبّر عنها بما ذكر، لكن قياسه ومنعه فيه نوع فساد. والثاني عنده نعتٌ للأول أو حال من الضمير فيه وعلة المنع .. لمَ منع؟ قال: قاسوا الحال على ظرف الزمان والمكان، وهذا غريب .. الحال أشبهُ ما يكون بالخبر أو النعت، بل التفريق بين الحال والنعت فيه نوعُ صعوبة، حينئذٍ يُعدَل عن تشبيه الحال بما هو أقربُ إليها، بل قد يكون من جنسِها إلى شيء بعيد وهو ظرف المكان، وظرف الزمان هذا فيه بُعد، فكما أن الشيءَ الواحد والشخصُ الواحد لا يكون في مكانين وزمانين، هذا يمتنعُ عقلاً، قالوا: كذلك لا يكون له حالان، وهذا بعيد، وغريب من ابنِ عصفور أن يقول هذا، لماذا؟ لأنه إذا قيل: الحال وصفٌ في المعنى فلا يمنع العقل أن يكون للشخص الواحد مائة وصف، هذا غير ممنوع، لكن كونه في مكانين في زمانين في وقت واحد هذا ممنوع. إذن فرقٌ بين المكان والزمان وبين الوصف.

إذن قوله: فَاعْلَمْ لردّ قول ابن عصفور. وَغَيْرِ مُفْرَدِ ما المراد به هنا؟ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ، وَغَيْرِ معطوف على مفردِ الأول، غَيْرِ مُفْرَدِ يعني: أن يكون التعدّد لصاحب الحال.

ص: 21

إذن قد تكونُ الحال مُتعدّدة، وصاحبها مُفرداً، وقد تكون مُتعدّدة وصاحبها مُتعدّد كذلك، ولذا قال: غَيْرِمُفْرَدِ، وغير المفرد شمِلَ ثلاث صور، يدخلُ تحتَ قوله: غَيْرِمُفْرَدِ ثلاثُ صور: الأولى أن يكون صاحبُ الحال مُتعدِّداً والحال مجتمعة، مثل قوله تعالى:"وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ"{14/ 33} الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .. دائبةً دائباً، هذا الأصل، فإذا اتحدَ لفظُ الحال ومعناها وجبت التثنية والجمع، إذا قلتَ: رأيتُ زيداً راكباً راكباً، راكباً: حال من زيد، راكباً الثانية: حال من الفاعل، إذن تعدّدَ صاحبُ الحال، لكونه فاعلاً ومفعولاً، وتعدّدت الحال، اتحدت في اللفظ والمعنى، وهنا لا يصحُّ أن يُقال: راكباً راكباً، وإنما يجبُ تثنية تقول: رأيتُ زيداً راكبين، ومنه ((دَآئِبَينَ)) أصلها دائبةً دائباً، فوجبت التثنية فقيل:((دَآئِبَينَ)).

إذن تعدّد صاحبُ الحال والحال مُجتَمعة، يعني: في لفظٍ واحد، لكنها في المعنى مُتعددة، والاجتماعُ هذا فرعُ الاختصار الحاصل من قوله: دائباً ودائبةً.

إذن: إذا اتحدت الحال وهي المتعددة في اللفظ والمعنى وجبَ التثنية والجمع. هذه الصورة الأولى.

الصورة الثانية: أن يكونَ بتفريقٍ، يعني: مُتفرّقة الحال مع إيلاءِ كلٍّ منهما صاحبه، لقيتُ مُصعِداً زيداً مُنحدِراً، عندنا (مصعِداً) و (منحدِراً)، مُصعِداً: حال من الفاعل، ومُنحدِراً: حال من المفعول به، تضعُ كلّ حال بجانب صاحبها، تُفرّقها؛ فتقول: لقيتُ مُصعداً أنا، حالٌ مني، زيداً مُفعول به مُنحدراً، أنا طالع وهو نازل، هذا المراد، لقيتُ مُصعداً زيداً مُنحدراً. إذن تفرّقت الحال وتعددت وصاحبُ الحل كذلك مُتعدّد إلا أنك فرقتَ الحال لم تجمعها سواءً معاً.

الصورة الثالثة: أن تجمع كلاً منهما على حدة، لقيتُ زيداً مُصعداً مُنحدراً، جمعتَ صاحب الحال بعضهم لبعض وقلت: مُصعِداً منحدراً، مُصعداً مُنحدراً هنا إذا تعدّدت الحال وتعدّدَ صاحب الحال فإما أن تدلَّ قرينةٌ على التوزيع، حال لمن هذه؟ لو قال: لقيتُ هنداً مُصعِداً مُنحدرةً هذا واضح، مُصعِداً: حال من الفاعل ومنحدرة: بالتأنيث حال من هند، لكن "لقيتُ زيداً مصعداً منحدراً"، من المصعد ومن المنحدر؟ هذا محتمل، الجمهورُ على أن الحال الأولى للاسم الثاني، ما هو الاسم الثاني؟ المفعول به زيداً، والحال الثانية للأول، يعني: ليست على الترتيب، لقيتُ زيداً منحدراً، مُنحدِراً: حال من زيد، ومُصعِداً: حال من الفاعل، لماذا؟ قالوا: تخفيفاً للفساد الحاصل؛ لأنكَ لو جعلتَ الأولى للأول فصلتَ بين صاحب الحال والحال بأجنبي، وإذا جعلتَ الثانية للثاني فصلتَ بين الحال وصاحب الحال بالحال التي من الأول، لكن تخفيفاً لهذا الفساد نُعطي الأولى للاسم الثاني. إذن اتحدا. "زيداً منحدراً" هنا حصلَ اتصالُ الحالِ بصاحب الحال، ووقعَ الفصلُ بين الحال وصاحب الحال في الأولى، هذا أولى؛ تخفيف، ارتكابُ أدنى المفسدتين فنقول: هذا تخفيف بأن يُجعَل الحالُ الأولى للاسم الثاني والحال الثانية للاسم الأول؛ لئلا يفصلَ بين الأحوال.

ص: 22

إذن هذه ثلاث صور داخلة تحت قوله: وَغَيْرِ مُفْرَدِ أن يكونُ صاحب الحال متعدداً والحال مُجتمعة، "وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ". الثاني: أن يكون بتفريقٍ مع إيلاء كلٍّ منهما صاحبه، لقيتُ مُصعِداً زيداً مُنحدِراً، أن يكون بتفريق مع عدمِ إيلاء كلِّ منهما صاحبه، لقيت زيداً مصعداً منحدراً .. فيه خلاف، الصواب أن يُجعَل الحال الأول للثاني والحال الثاني للأول.

قال الشارح: يجوزُ تعدّدُ الحال وصاحبها مُفرد أو مُتعدّد، فمثال الأول "جاء زيد راكباً ضاحكاً"، هنا الحال من زيد مُتعدّدة وهو راكب وضاحك، هذان معنيان مختلفان، "جاءَ زيدٌ راكباً ضاحكاً" حالان متعددان، وإذا قلتَ مثلاً:"اشتريتُ الرمان حلواً حامضاً"، حلواً: حال، وحامضاً: حال، في معنى واحد؟ نعم؛ حلواً حامضاً: هذا يُسمّونه المزّ عندهم، كأنك قلت:"اشتريتُ رماناً مُزّاً"، حينئذٍ صارَ في معنى واحد، أما (راكباً وضاحكاً) هذا نقول: حال مُتفرّقة في المعنى. فراكباً وضاحِكاً حالان من زيد والعامل فيهما جاءَ، وشرطُه أن لا يكونَ بطريق العطف، لا بدّ من التقيد، ومثالُ الثاني "لقيتُ هنداً مُصعداً مُنحدرةً"، هذا واضح أن الثاني حال من الثاني، ومُصعداً حال من الأول، فمُصعداً من التاء، ومُنحدرةً: حال من هند والعامل فيهما لقيتُ، ومنه قولُه:

لَقِيَ ابْنِي أَخوَيه خَائِفَاً

مُنجِدَيهِ فَأَصَابُوا مَغنَمَاً

ابْنِي خَائِفَاً، أَخوَيه مُنجِدَيهِ، إذن خائفاً: حال من ابْنِي، ومُنجِدَيهِ: حال من أَخوَيه، فعندَ ظهورِ المعنى تُردّ كل حال إلى ما تليقُ به، وعندَ عدمِ ظهورِه يُجعَل أولُ الحالين لثاني الاسمين، وثانيهما لأول اسمين، لما ذكرناه من العلة السابقة. ففي قولك: لقيتُ زيداً مُصعِداً مُنحدِراً، مُصعِداً: حال من زيد، ومُنحدِراً: حال من التاء، وقيلَ: اجعلْ كلّ حالٍ بجانب صاحبه، "لقيتُ مُنحدراً زيداً مُصعداً"، هذا قول، والصواب ما ذكرناه أولاً؛ أنه يُجعل الأول للثاني والثاني للأول.

نقفُ على هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

!!!

ص: 23