الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* تتمة معاني حروف الجر
* عمل الحروف لعد دخول (ما) الزائدة عليها
* عمل بعض الحروف وهي محذوفة
* فائدة أقسام حروف الجر من حيث الأصالة والزيادة. متعلقات الجار والمجرور.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
ما زالَ الحديث في بيان معاني (من) التي ذكرها الناظم رحمه الله تعالى، وهي خمسُ؛ ذكر خمساً أشارَ إليها بقوله:
بَعَّضْ وَبيَّنْ وابْتَدِئْ فِي الأَمْكِنَهْ
…
بِمِنْ وَقَدْ تَأْتِي لِبَدْءِ الأَزْمِنَهْ
يعني: بدءَ الغاية في الأزمنة؛ جمعُ زمانٍ، كما جاءت في بدء الأمكنة؛ جمع مكان، وزِيدَ هذا المعنى الخامس، والمراد به التوكيد أنها تأتي للتوكيد؛ وذلك إذا كانت زائدة، وتكون زائدة بشرطين:
الأول: أن تكون بعدَ نفي وشبهِ النفي وهو الاستفهام والنهي، والثاني: أن تكونَ نكرة .. أن يكون ما بعدَها مدخوله نكرة، إذا وُجِد حينئذٍ صحَّ أن يقال بأن من زائدة وأفادت التوكيد، إذا انتفيا أو انتفى أحدُهما حينئذٍ لا تصحُّ أن تكون (من) للتوكيد.
وَزِيدَ فِي نَفيٍ: يعني: في سياق النفي، وَشِبْهِهِ: شبه النفي كما سبقَ معنا هو الاستفهام والنهي، فَجَرْ: جرَّ يعني ذلك الحرف، وهو (من)، هنا ذكَّرَ باعتبار الحرف، نَكِرَةً: يعني: مدخولها يُشترَط فيه أن يكون نكرة، كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ: هذا مثال لدخول (من) بعدَ نفي، (ما): حرف نفي، لِبَاغٍ: جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر، مِنْ مَفَرْ: مَفَرْ هذا مبتدأ مؤخّر مرفوع ورفعه ضمّة مقدّرة على آخره منعَ من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
ومثالها كما ذكرَ الشارح: ما جاءني مِن أحد، وأحد: هذا فاعل، إذن: دخلت على المبتدأ، ودخلت على الفاعل، وستدخلُ على بعضها كما سيأتي، ولا تُزاد عند جمهورِ البصريين إلا بشرطين، ويُزاد عليه شرطٌ ثالث؛ الأول: أن يكون المجرور بها نكرة، أن يسبقها نفي أو شبهه، والمراد بشبهِ النفي النهي، نحو: لا تضربْ من أحد، أحدٍ: هذا مفعول به، والاستفهام: نحو: هل جاءك من أحد، هل هو مطلق الاستفهام؛ كل استفهام؟ الجواب: لا، ليسَ كل استفهام يصحُّ أن تكون (من) بعده زائدة، وإنما الاستفهام بـ (هل)، كذلك الهمزة على الأوجه فلا تُزاد مع غيرهما لعدم السماع، لم يُسمَع إلا في (هل) والهمز وما عداهما فلا.
إذن: الاستفهام ليسَ على إطلاقه، ولأنّ غيرهما .. غير الهمزة والاستفهام لا يُطلَب به التصديق، بل التصوّر بخلافهما، فإن (هل) لطلب التصديق فقط، والهمزة له ولطلب التصور، وهذا بحثُه في علم البلاغة.
الشرط الثالث: هو كونُ النكرةِ عندَ بعضهم فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأً أو مفعولاً مطلقاً، حينئذٍ لا تُزاد مع غير هذه الأربعة، مع المبتدأ: وهو مثالُ الناظم الذي ذكرناه، ومثله:((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)) [فاطر:3]، هذا مثال للمبتدأ، كذلك مع الفاعل، مثل:((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ)) [المائدة:19] بشير هذا فاعل دخلت عليه (مِن) وهي زائدة؛ لأنه نكرة، وهي مسبوقَة بنفي، المفعول به:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)) [إبراهيم:4]، وما أرسلنا رسولاً، كذلك على المبتدأ المنسوخ، ((فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)) [الحاقة:47]، حاجزين: مجرور بالياء، فدلَّ على أن ما هذه عاملة عملَ (ليس)، وأحد: مبتدأ، إذن: دخلت عليه (مِن) وهو منسوخ، كذلك على المفعول المطلق:((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)) [الأحقاف:26]، أصلها شيئاً، ما أغنى شيئاً، هذا مفعول مُطلق دخلت عليه (مِن)، إذن: غير هذه الأربع عند الكثيرين لا يصحّ أن تكون مدخولاً لـ (من) الزائدة.
إذن: ليست (كلّ) نكرة، هذه ثلاثةُ شروط لابدّ من استيفائها، فائدة هذه (من) الزائدة إذا دخلت على النكرة أفادت العموم، التنصيصَ على العموم؛ هذه فائدتها؛ لأن النكرة في سياقِ النفي والاستفهام تفيدُ العموم، لكنها ظاهرة في العموم، إذا دخلت عليها من حينئذٍ صارت نصّاً في العموم، ففرقٌ بين العموم الظاهر والعموم النصي، والتي لتنصيصِ العموم هي التي مع نكرة لا تختصُّ بالنفي، بعضُ الألفاظ مثل: ديّار، وأحد، هذه مختصّة بالنفي، ولو لم تكن في سياق النفي، بعضُ الألفاظ مُلازِمة للنفي، ولو لم تكن في سياق النفي، حينئذٍ ما لا يكونُ مُلازِماً للنفي إذا دخلت عليه (من) صارت نصاً في العموم.
إذن: التي لتنصيص العموم هي التي مع نكرة لا تختصّ بالنفي؛ لأنها قبل دخولِ من تحتمل نفيَ الوحدة بمرجوحية، ونفيَ الجنس على سبيل العموم براجحية، فدخولها مُنصِّص على الثاني؛ لأنك إذا قلت: ما رجلٌ عندي، رجلٌ هذا نكرة في سياق النفي عام، هو ظاهرٌ في العموم، حينئذٍ يكون محتمِلاً للتخصيص، فإذا قلت:"ما مِن رجل" لا يقبلُ التخصيص البتة، لماذا؟ لأن (مِن) أكّدته ونصَّت على أن المراد هنا به العموم، فلذلك يمتنعُ أن يُقال:"ما جاءني من رجل بل رجلان" ممتنع، كما هو الشأن في لا النافية للجنس، لا يصح أن يقال:"ما جاءني من رجل بل رجلان"، ونحكم بزيادتها مع كونها أفادت التنصيص، هذا معنى من المعاني، كيف نقولُ: هي زائدة، ومع ذلك أفادت التنصيص على العموم؟ لأن المراد بزيادتها وقوعُها في موضعٍ يطلبه العامل بدونها، يعني: أن تقعَ بين طالب ومطلوب، حينئذٍ نقولُ: وقوعُها هنا هل يخرج اللفظ عن الإسناد، فيما لو حذفنا (مِن)؟ الجواب: لا، ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ)) [فاطر:3]، أو لو قال قائل:"ما من أحد في الدار"، لو قال:"ما أحد في الدار" بقيَ المسند والمسند إليه على حاله، حينئذٍ أصلُ المعنى موجود:"ما أحد في الدار"، لو قيل:"ما من أحد" نصّ، نقول: زيادة (مِن) والحكم بكونها زائدة لا يُفهَم منه أن دخولها وخروجها سواء، بل لها معنى هو التنصيص على العموم، وهذا يؤكِّدُه المعنى الذي يذكرُه النحاة؛ لأن المراد بزيادتها وقوعُها في موضع يطلبُه العامل بدونها، فتكونُ مُقحَمة بين طالب ومطلوب، وإن كان سقوطُها مخلاً بالمقصود النهائي؛ ليس المقصود الابتدائي الذي يحصلُ بالإسناد .. المسند والمسند إليه، والتي لتأكيد العمومِ هي التي مع نكرة تختصُّ به، يعني: بالنفي: كأحد وديّار؛ لأن النكرة الملازمة للنفي تدلُّ على العموم نصّاً فزيادة من تأكيد لذلك العموم.
إذن: (مِن) تُزاد وقد تكون تنصيصاً على العموم، ثم التنصيص قد يكون قبلَ دخولِ (من) لم تُفِده الجملة، وقد يكون دالّة عليه، ولكن (مِن) تؤكِّدُ العموم الذي فيه، وذلك فيما إذا كانت النكرة ملازمة للنفي، حينئذٍ إذا دخلت عليه (مِن) نقول: قبل دخول (مِن) هي نص في العموم، ماذا أفادت (من)؟ أكَّدت التنصيص على العموم، إذا لم يكن مُلازماً للنفي ودخلت (مِن)، حينئذٍ نقول: هذه أفادت التنصيص على العموم، ولا تُزادُ في الإيجاب ولا يُؤتى بها جارة لمعرفة، وهذا مذهبُ الأخفش؛ مذهب الأخفش أنه تُزادُ من بدون شرط أو قيد، يعني: سواء كانت معرِفة ما بعدَها ولا يشترط النكرة، أو كانت في سياق نفي أو غيره مُطلَقاً في الإيجاب وفي النفي ولا يُشترَط أن تكون نكرة، هذا مذهبُ الأخفش؛ فلا تقل:"جاءني من زيد"، هذا خلافاً للأخفش، وجَعَل منه قوله تعالى:((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31]، قال: مِن: هذه زائدة، ويغفر: هذا إيجاب، وذنوبكم هذا معرفة، إذن: بطلَ الشرطان، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31] قال: مِن هذه زائدة ودخلت على ذنوبكم، وهو معرفة، ويغفر: الجملة هذه مُوجَبة وليست منفية، والجواب عما افترضَ به أو استدلَّ به الأخفش نقول من ثلاثة أوجه:
الأول: (مِن) المراد بها التبعيض، تُحمَل من هنا على التبعيض، وأن المقصود بذلك إخراجَ المظالم؛ لأنها لا تُغفَر إلا برضا أصحابها، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31]، يعني: بعضَ ذنوبكم، والمغفرة هنا للذنوب التي لم تتعلَّق بالخلق، فتلك لابدّ من رضا أصحابها.
الثاني: أن (مِن) لبيان الجنس، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31] مثل: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) [الحج:30]، والمُبيّن محذوف، يغفر لكم شيئاً من ذنوبكم.
الثالث: أن مَغفرةِ جميع الذنوب بالإيمان خاصٌّ بهذه الأمة، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31]، وأما مغفرةُ جميعِ الذنوب هذه خاصّة بهذه الأمة، وأما هذه الآية فقيل: إنها في قوم نوح. إذن: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31] بعض الذنوب هذا ليسَ في هذه الأمة، وهذا مردودٌ بآية الجن:(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، إذن: تُحمَل على أنها إما لبيان الجنس، وإما للتبعيض هذا أولى.
وأجازَ الكوفيون زيادتها في الإيجاب بشرط تنكير مجرورها، يعني: وافقوا على التنكير وخالفوا في اشتراط النفي، فلم يشترطوا النفي وشبهه، ومنه عندهم: قد كان مِن مطرٍ، (مطرٍ) نكرة، وهو فاعل (كان)، قد وُجِد مطرٌ، حصلَ مطر، إذن:(كان) تامة، ومطرٌ: فاعل ودخلت عليه (من) والجملة مُوجَبة، فدلَّ على أنه لا يُشترَط النفي، وإنما يُشترَط التنكير، وأُجِيب: بأن (مِن) تبعيضية أو بيانية لمحذوف، أي: قد كان شيءٌ من مطرٍ، وقوله: أجازَ الكوفيون ليسَ كل الكوفيين، بل بعضهم، أما الكسائي وهشام منهم فيوافقان الأخفش؛ لعدمِ اشتراطِ الشرطين معاً، واختاره الناظم في التسهيل.
إذن: المسألة فيها خلاف، لكن الأكثر على اشتراط الشرطين.
إذن: هذان البيتان أشار بهما إلى المعاني الخمسة التي هي لـ (مِن)، وهذا أشهرُ ما يُذكر.
وبقي هنا مسألة وهي (من) البيانية، مع مجرورها ظرف مستقرّ في محل نصب على الحالية، إذا قلنا: مِن قد تأتي بعد معرفة، حينئذٍ علامتُها اسم موصول مع ضمير:((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) [الحج:30]، حينئذٍ كيف نُعرِب (مِن)؟ نقول: هذه (من) في محل نصب حال، وإذا جاءت بعد نكرة:((مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)) [الكهف:31]، نقول:(من) هنا في محلّ؛ إما رفع أو نصب أو جرّ نعت؛ لا نعربها حالا، إذا جاءت بعد المعرفة فهي حال، وإذا جاءت بعد النكرة فهي نعت، تابع لما قبله في إعرابه إن كان نكرة.
ثم قال رحمه الله:
لِلانِْتِهَا حَتَّى وَلَامٌ وَإِلَى
…
وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلَا
هذه الثلاث التي أشارَ إليها بقوله: حَتَّى وَلَامٌ وَإِلَى: تدلُّ على الغاية، يعني: تشتركُ في معنى، وهو الغاية في الزمان والمكان، و (إلى) هي أمكن في ذلك من (حتى)، فإلى هي الأعلى؛ هي الأصل، فهي أكثرُ من حتى، ثم حتى ثم اللام، وإن لم يرتبها الناظم. إلى هذه أعلى الدرجات، ثم حتى، ثم اللام، هذه كلُّها تدل على انتهاء الغاية، سواء كانت غاية مكانية أو زمانية.
والأصل من هذه الثلاث: (إلى)، فلذلك تجرُّ الآخر وغيره، نحو: سرتُ البارحة إلى آخر الليل، دخلت على الآخر، أو إلى نصفه، سرتُ الليل إلى نصفه.
إذن: جرّت الآخر وجرّت ما قبلَ الآخر، وأما حتى فلا تجرّ إلا ما كان آخراً أو مُتصلاً بالآخر، أما النصف (حتى نصفه) هذا لا يصح، حتى ثلثه هذا لا يصح، إما الآخر أو المتصل بالآخر، ولذلك مُثِّل بقوله:((سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) [القدر:5]، هذا مُتصل بالآخر، وليس آخراً.
ولا تجرّ غيرهما: فلا تقل: سرتُ البارحة حتى نصفِ الليل، يعني: عدم دخولِ ما بعدها، ولذلك قيل: أكلتَ السمكة حتى رأسِها، حتى رأسُها، حتى رأسَها، تحتمل الأوجه الثلاثة. أكلتُ السمكة حتى رأسِها، هذا مجرور، هذا متصل بالآخر، إلا إذا كان مأكولاً الرأس نفسه، حينئذٍ حتى رأسها يتعين النصب، واستعمال اللام للانتهاء قليل، ومنه قوله تعالى:((كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)) [الرعد:2]، وجاء في آية أخرى:((إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) [لقمان:29].
إذن: للانتهاء .. انتهاء الغاية يُستعمَل واحد من هذه الحروف الثلاثة، وهي: حتى ولام وإلى، إلا أن إلى هي الأصل، ولذلك تجرّ الآخر وما قبلَ الآخر، وأما حتى هذه فرع عن إلى، فلا تجرّ إلا الآخر والمتصل بالآخر، وأما اللام فلا يُشترَط فيها شيء.
وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلَا: يعني: من والباء، (من) هذا حرف، وسبقَ أن له خمس معاني، يُضاف إليه هذا المعنى الذي ذكره هنا، (من) حرف من، وباء هذا معطوف عليه، مِنْ مبتدأ، لِلاِنْتِهَا: هذا خبر مقدم، وحتى وما عطف عليه، حتى: مبتدأ مؤخر، والانتهاء: هذا خبر مُقدّم، ولام وإلى: معطوفان على حتى، ومن وباء؛ (من): مبتدأ وباء: معطوف عليه، يُفْهِمَانِ بَدلَا: بدلا الألف بدل من التنوين، يُفْهِمَانِ هذا خبر من وما عُطِف عليه، أي:(من) والباء مُستوِيان في الدلالة على البدل، يعني: يأتي بلفظ بدل بدل من، وبلفظِ بدل بدل الباء، فإن صحَّ حينئذٍ قلنا: استُعمِلت فيه (ما)، يُستعمَل (من) والباء بمعنى بدل، ((أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ)) [التوبة:38] بدل الآخرة، حينئذٍ تكون بذلك المعنى:((وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً)) [الزخرف:60]، يعني بدلكم.
جَاريةٌ لم تأكُلِ المُرَقَّقَا
…
وَلمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
يعني: بدل البقول فسقَ.
ومن استعمالِ الباءبمعنى بدل ما وردَ في الحديث: {ما يسرني بها حمر النعم} أي بدلها.
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً إِذا رَكِبُوا
…
شَنُّوا الإِغَارةَ فُرْساناً ورُكْبانَا
فَلَيْتَ لِي بِهِمِ: بدلهم يعني، ليت لي بدلهم، حينئذٍ (مِن) تأتي بمعنى بدل، وباء تأتي بمعنى بدل.
وَالّلامُ لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ وَفِي
…
وَزِيدَ وَالظَّرْفِيَّةَ اسْتَبِنْ بِبا
…
تَعْدِيَةٍ أَيْضاً وَتَعْلِيلٍ قُفِي
وَفِي وَقَدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا
واللام: هذه معاني تتعلق باللام، وسبقَ أن اللام تأتي لِلاِنْتِهَا معنًى سابق، وزادَ عليها أنها تأتي للملك والتعدية وللتعليل ومؤكِّدة، هذه أربعُ مع السابق فهي خمس.
وَالّلامُ لِلْمِلْكِ: الّلامُ: مبتدأ، ولِلْمِلْكِ: خبر، والمراد للمِلك وللمُلك، يعني: يجوزُ ضمّ الميم وكسر الميم، للمِلك وللمُلك.
وذلك فيما إذا وقعت بين ذاتين ودخلت على مَن يملك، المال لزيدٍ، المال ذات وزيد ذات، وقعت اللام بين ذاتين ودخلت على من يملك، وَشِبْهِهِ قيل: المراد به الاختصاص، شبه الملك الاختصاص؛ وذلك إذا وقعت بين ذاتين ودخلت على ما لا يملك: الجلُّ للفرس، البابُ للدار، البابُ ذات والدارُ ذات، ودخلت اللام على أحد الذاتين لكن الدار لا تملك، وَالّلامُ لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ، يعني: شبه الملك، وَفِي تَعْدِيَةٍ، وأما الاستحقاق هذا مشهورٌ عند النحاة خاصة المتأخرين، وهو ما إذا دخلت بين ذات ومعنى ودخلت على الذات:((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:2]، الحمدُ هذا معنى، ولله ذات .. دخلت على الذات، إذن: نقول: هذه للاستحقاق، وبعضهم يُعبّر عن الكل بالاختصاص، حتى اللام الملكية، يقول: هذه للاختصاص؛ لأن مَن ملكَ شيئا اختصّ به، حينئذٍ يُعبّر عنها الجميع بلام الاختصاص، فتشملُ لامَ الملك ولامَ الاستحقاق ولام الاختصاص بالمعنى الخاص، وهذا لا إشكال فيه من باب الاصطلاح فحسب.
وَاللَاّمُ لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ: المراد به الاختصاص، وَفِى تَعْدِيَةٍ قُفِي: قفي يعني اتُبِع، وفي تعدية: هذا متعلق به، أَيْضَاً: مفعول مطلق، آضَ يئيضُ أيضا، العامل فيه محذوف وجوباً، تأتي اللام للتعدية، يعني: تُعدّي الفعل إلى معموله، وذلك سبقَ معنا؛ إما في الفعل وإما في الوصف، في الفعل إذا ضَعُفَ على أن يُسلّط على معموله، وذلك فيما إذا تقدم: لزيدٍ ضربتُ، ضربتُ زيداً، زيداً ضربتُ، قلنا: لما تقدّمَ العامل على المعمول ضَعُفَ: ((إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)) [يوسف:43]، تعبرون الرؤيا، لما تقدّمَ ضعُفَ، حينئذٍ احتجنا إلى واسطة، فعُدِّي باللام، هذه اللام للتعدية تُسمى، أو الفرع لذلك الوصف:((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود:107]، يعني: لا تأتي اللام بعدَ الفعل أبداً، إذا قيل: ضربتُ لزيدٍ على أن زيد مفعول به، نقول: هذا شاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه، إذا جاءت اللام بعد الفعل، لماذا؟ لأن الفعل قوي يتعدّى بنفسه لا يحتاج إلى واسطة، أما إذا تقدّمَ عليه معموله ضعُفَ أن يتسلط عليه فاحتاج إلى تقوية، فجاءت هذه اللام المقوية والمعدّية للفعل إلى معموله، فتقول: لزيدٍ ضربتُ، ومنه:((تَعْبُرُونَ)) [يوسف:43]، هذا واضح أنه مُتعدٍّ بنفسه، والرؤيا مفعول به.
إذن: لماذا جِيءَ باللام؟ ((لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)) [يوسف:43]، ((إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا)) [يوسف:43]، إن كنتم تعبرون الرؤيا، هذا الأصل، فلما تقدّمَ المعمول على عامله ضعُفَ يعني: تسلّطَ عليه، فاحتجنا إلى مُقوّي، وهو اللام.
أما الوصفُ الذي هو الفرع، إذا جاءَ المعمولُ بعدَه فحينئذٍ يحتاج إلى تقوية؛ لأنه هو في نفسِه ضعيف، ولذلك جاء:((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود:107]، لما، ما هذه ما إعرابها؟ مفعول به، ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود:107]، اسم موصول، إذن: مفعول به دخلت عليه اللام لماذا؟ نقول: هذه اللام لامُ التعدية، لماذا جِيء بها؟ لأن فعّال وصفٌ فرعٌ، بخلاف الفعل، الفعلُ إدخال اللام بعدَه شاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه، وأما الوصف فهو وارد في فيصح الكلام، حينئذٍ نقول: هذا مَقيس، إذا جِيءَ بالمفعول به بعد كلّ وصف: أنا ضاربٌ لزيدٍ، هذا قياس صحيح فصيح، أنا ضاربٌ زيداً، زيداً: مفعول به، ويصحُّ أن تقول: أنا ضاربٌ لزيدٍ؛ كما قال تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود:107]، نقول: هذا قياس، لأن اللام هذه للتقوية.
إذن: وَفِي تَعْدِيَةٍ: يعني: تعدية العاملِ إلى معموله، ولو كان لازماً يتعدّى باللام كذلك لا إشكال، وَتَعْلِيلٍ: هذا معطوفٌ على تَعْدِيَةٍ، وَتَعْلِيلٍ:((لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)) [النساء:105]، نقول: لتحكمَ أي: من أجل أن تحكمَ بينَ الناس، وزِيدَ: هذا المعنى الرابع، يعني: أن تأتي اللام زائدة.
الشارح يقول: تقدم أن اللام تكون للانتهاء، وذكرَ هنا أنها تكون للملك، نحو:((لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) [البقرة:284]، والمالُ لزيد، ولشبهِ الملك، نحو: الجُلُّ للفرس، يعني: اختصاص، والباب للدار، وللتعدية .. فسّرَ التعدية هنا بالتعدية الحقيقة، يعني: الفعل اللازم يتعدّى إلى معموله، وأما ما ذكرتُه فهو مُتعلّق بالزائدة، لزيد ضربتُ، كذا تقول: إلى الزائدة.
هنا قال: وللتعدية: وهبتُ لزيدٍ مالاً، وهبَ، هذا لا يتعدّى بنفسه، وهبتُ زيداً مالاً، أو لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحدٍ، وهبتُ لزيدٍ مالاً، حينئذٍ نقول: لزيدٍ في الأصل أن وهبَ لا يتعدّى إليه، وهو يفتقِرُ إلى مفعولين، مثل: سمّى، اختار، اختار يتعدّى إلى مفعولين؛ إلى أحدِهما بحرف وإلى الثاني بنفسه، (وهبَ) مثلُه، حينئذٍ احتجنا إلى اللام لتعدية وهبَ إلى ما لا يتعدّى إليه بنفسه، ومنه قوله تعالى -وهذا فيه نزاع-:((فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)) [مريم:5]، هبْ ولياً لي، فلي اللام هنا دخلت على الياء، وللتعليل: جئتك لإكرامك:
وَإِنِّي لَتَعْرُوني لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ
…
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلّلَهُ الْقَطْرُ
لَتَعْرُوني لِذِكْرَاكِ: دخلت اللام على المصدر هنا، وزائدة التي على هنا، وَزِيدَ يعني: أتي بها للتوكيد، وهذا التأكيد إنما يكون في ما إذا كانت زائدة، وزائدة قياساً نحو: لزيدٍ ضربتُ، ومنه قوله تعالى:((إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)) [يوسف:43]، وسَماعاً نحو: ضربتُ لزيدٍ، هذا سماعاً، يعني: يُحفَظ ولا يُقاس عليه، حينئذٍ زِيدت قياساً لتقوية العامل؛ لضعفه بالتأخير، أو لكونه فرعاً كما في قوله:((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود:107].
ثم قال:
وَالظَّرْفِيَّةَ اسْتَبِنْ بِبَا
…
وَفِى وَقَدْ يُبَيَّنَانِ السَّبَبَا: الظَّرْفِيَّةَ هذا مفعول به مُقدّم، يعني: أن الباء وفي يَشتركان في الدلالة على الظرفية والسببية، وَالظَّرْفِيَّةَ: مفعول مُقدّم من قوله: اسْتَبِنْ، استبن يعني: استظهر، يعني: اطلبْ البيان، بالباء للظرفية، بِبَا: هذا متعلق بقوله استبن، وفي: معطوف عليه، وَقَدْ يُبَيَّنَانِ السَّبَبَا: قد: للتقليل أو للتحقيق؛ للتحقيق بالنسبة إلى الباء؛ لأنها تأتي للسببية كثير، وللتقليل بالنسبة إلى (في)؛ لأن (في) تأتي للسببية، لكنه قليل وليس هو الأصل فيها بخلاف الباء، فهي مِن استعمالٍ مُشترَك في معنيين، أو هي للتحقيق مُطلقاً فقط، فلا اعتراضَ بأن بيانَ السبب بالباء كثير لا قليل.
على كلٍّ استُعمِلت في معنييها، وَقَدْ يُبَيَّنَانِ: يعني: الباء وفي. السَّبَبَا: الألف هذه للإطلاق، وأشارَ بقوله: وَالظَّرْفِيَّةَ اسْتَبِنْ .. إلى آخره: إلى معنى الباء وفي، فذكرَ أنهما اشتركا في إفادة الظرفية والسببية، فمثالُ الباء للظرفية ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ)) [الصافات:137] وَبِاللَّيْلِ يعني: في الليل، ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ)) [آل عمران:123]، يعني: في بَدر، ((نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ)) [القمر:34]، في سَحر، إذن: جاءت بمعنى الباء، ومثالها للسببية:((فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)) [العنكبوت:40]، يعني: بسببِ ذنبه، ((فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا)) [النساء:160] كل هذه للسببية، ومثال (في) للظرفية قولك: زيدٌ في المسجد، وهو الكثير فيها، ثم قد تكون حقيقية، تكون مجازية، وحقيقية بأن يكون للظرف احتواء وللمظروف تحيُّز، كما تقول: زيدٌ في المسجد، زيدٌ له تحيز والمسجد له احتواء، لابد من هذا حتى تكون حقيقية، فإن انتفيا أو انتفى أحدُهما فهي مجازيّة، فإن فُقِدا نحو: في علمه نفع، نفع: مبتدأ وعلمه: خبر، علم ونفع كلاهما معنويان ليسَ فيهما تحيُّز، أو الاحتواء: زيدٌ في سعة من الأمر، زيد جثة، سعة هذا مظروف، حينئذٍ ليسَ فيه تحيُّز، أو التحيز، نحو: في صدرِ زيدٍ علمٌ، علمٌ هذا معنى، الصدرُ فيه تحيُّز، فمجاز، ومنه الزمانية نحو: زيدٌ في يوم كذا.
على كل الظرفية قد تكون حقيقية وقد تكون مجازية.
ومثالها للسببية، وهذه تسمى التعليلية (في) تأتي للتعليل، قوله صلى الله عليه وسلم: ومثالها للسببية قوله صلى الله عليه وسلم: {دخلت امرأة النار في هِرّة} يعني: بسبب هرة، ففي هنا سببية:((لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ)) [الأنفال:68] سببية، يعني: بسبب ما أخذتم به.
إذن: وَالّلامُ لِلْمِلْكِ، قلنا: الّلامُ: مُبتدأ، ولِلْمِلْكِ: خبر، وَشِبْهِهِ معطوف عليه، وَفِي تَعْدِيَةٍ مُتعلّق بقوله: قُفِي، وهو بمعنى تبع، أَيْضاً: منصوبٌ بفعل محذوف، وهو مفعول مطلق، وَتَعْلِيلٍ هذا معطوف على قوله: تَعْدِيَةٍ.
وَزِيدَ: أي: اللامُ .. هنا جاءَ بلفظ مذكر، يعني: الحرف، زِيدَ للتوكيد، هو ليسَ معنى، الزيادة ليست معنى، الزيادة حاصِلة بإدخال الحرف، وإنما المعنى يكونُ بعد الزيادة، والمراد به التوكيد.
وَالظَّرْفِيَّةَ اسْتَبِنْ بِبَا: يعني: استبن الظرفية بباء وفي، يعني: بهذين اللفظين، وَقَدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا: يعني: في والباء قد يأتيان للسبب.
قال: تُكسَر لامُ الجرّ مع الظاهر، واللامُ للملك، إلا المستغاث كما سيأتي، وفتحها مع الضمير إلا الياء: لَه ولَك بالفتح، أما مع الظاهر فتُكسَر، لِزيدٍ مالٌ، لِزيدٍ بكسر اللام هذا الأصل، ومع الضمير تفتح: لَه ولَك ولَنا إلا مع الياء فتُكسَر، تقول: لِي: ((هَبْ لِي)) [آل عمران:38] بكسر اللام، وفتَحَها بعض العرب مع الظاهر مطلقاً، لَزيدٍ مع الظاهر، لكنها ليست بلغة مشهورة، وكَسَرها خُزاعة مع الضمير، لِك، لِنا، حينئذٍ نقول: هي مكسورة.
وكَسرُ الباء مطلقاً هو المشهور، قال أبو حيان: وحكى أبو الفتح عن بعضِهم فتحَها مع الظاهر. إذن: هناك لُغة، لكن المشهور هو ما ذكرناه.
بِالْبَا اسْتَعِنْ وَعَدَّ عَوََّضْ أَلْصِقِ
…
وَمِثْلَ مَعْ وَمِنْ وَعَنْ بِهَا انْطِقِ
هذه معاني سَبعة للباء، وذكرَ ثلاثاً سابقة فهي عشرة كاملة.
تقدّمَ أن الباء تكونُ للظرفية والسببية والبدل، الباء سبقَ أنها للظرفية (اسْتَبِنْ بِبا)، وكذلك للسببية وللظرفية في البيت السابق:(والبدل) كذلك جاءت، وذكرَ في هذا البيت سبعةَ معاني، مع زيادة الباء في خبر ليس:(وَبَعْدَ مَا وَلَيْسَ جَرَّ البَا الْخَبَرْ)، هناك (زِيدَ) دلَّ على أنها تُزاد، ولم يذكر الزيادة هنا، لكن قد يُؤخَذ من الموضع السابق:(وَبَعْدَ مَا وَلَيْسَ جَرَّ البَا الْخَبَرْ)، يعني: زائدة للتوكيد، إذن: هي أحدَ عشرَ معنىً.
بِالْبَا اسْتَعِنْ: يعني: استعِن بالباء .. تأتي للاستعانة، نحو: كتبتُ بالقلم، هذه تُسمّى باء الآلة، يُسمّيها البعض باء الآلة .. استعانة، وقطعتُ بالسكين، السكين آلة والقلم آلة.
بِالْبَا اسْتَعِنْ وَعَدَّ: يعني: للتعدية، تأتي للتعدية، وتُسمّى باء النقل، وهي المُعاقِبة للهمزة في تصيير الفاعل مفعولاً وأكثر، تُعدّي الفعلَ القاصر نحو: ذهبتُ بزيد بمعنى أذهبتُ، عَدَّ: التعدية المقصودة، ذهبتُ بزيدٍ، ومنه قوله تعالى:((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) [البقرة:17]، يعني: أذهبَه، فهي في معناها، ولذلك هي تُسمّى باءَ النقل مُعاقبة للهمزة؛ لأن الفعل لازمٌ قد يتعدّى بحرف جرّ، وقد يتعدّى بالهمزة، حينئذٍ يستويان، ذهبتُ بزيدٍ أذهبتُ زيداً، وهل بينهما فرق؟ فيه خلاف، لكن المشهور أنهما بمعنى واحد.
بِالْبَا اسْتَعِنْ وَعَدَّ عَوََّضْ: هذه باء التعويض، تسمّى باء المقابلة، وهي داخلة على الأثمان، اشتريتُ الفرس بألف درهم، باء الثمن هذه، والفرقُ بينها وبينَ باء البدل؛ باء العوض؛ أن باء العوض تكون في مُقابلة الشيءِ بشيء آخر، اشتريتُ كذا بكذا، نقول: هذا ليس فيه .. اشتريتُ هذا بذا، حينئذٍ تقولُ: هذا مُقابلة الشيء بالشيء، يعني: لم يعطِك هذا إلا بمقابلة الآخر، وأما البدل لا، لا يلزمُ فيه أن يكون مقابلة شيء بشيء، إذن: باء العوض تكون في مقابلة شيء بشيء آخر، وباءُ البدل عبارةٌ عن اختيار شيءٍ بغضّ النظر عن المقابلة، أو شيء مدفوع بدلَ شيء آخر.
إذن: باء البدل ليسَ فيه مقابلة، أعطيك هذا بدل كذا، لكن باء العوض لا، باء الثمن لا، لابدّ من دفع شيء أنت تدفعُ لمقابله، وهذا التي يستعملُها الفقهاء في باب أو كتاب البيع.
عَوََّضْ: هذه التعويض، أَلْصِقِ: يعني: إلصاق، وهذا قد يكونُ حقيقةً وقد يكون مجازاً؛ حقيقة: كما أمسكتُ بزيدٍ؛ أمسكتَ إذا أخذتَ بشيء منه حقيقة، تقول: أمسكتُ بزيدٍ: ((وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)) [المائدة:6]، هذا حقيقة، وأما مررتُ بزيدٍ هذا ليس فيه إلصاق حقيقي، وإنما المراد مررتُ، وقعَ مروري بمكانٍ قُرب زيدٍ، مررتُ بزيد لا يُشترَط فيه المماسة، مررتُ بزيدٍ، يعني: حككتَ بجسمه مررتَ بجواره؟ هذا الأصل في الإلصاق، لكن ليس هذا المراد: مررتُ بزيدٍ، إنما المراد: بمكان قُرب زيدٍ، يعني: بمكان قريب من زيد، فصارت مجازية.
وَمِثْلَ مَعْ: مِثْلَ بالنصب، حالٌ من الضمير في (بها)؛ بها انطق بها آخر البيت، مثل مع: يعني: تأتي بمثل (مع)، و (مع) المراد بها المصاحَبة، فمثل منصوب، وهو مُضاف و (مع) مضاف إليه، حال من الضمير المجرور بالباء مُتقدّمة عليه، والمراد هنا المثلية في أصل المصاحبة؛ لأن (معَ) تدلُّ على المصاحبة الكلية، وأما الباءُ تدلُّ على المصاحبة الجزئية، إذن لا يَستويان في الدلالة؛ لأنّ (مع) أصلاً وفي وضعها الكلي المراد بها الكلية، وأما الباء فلا، ليس المراد ذلك، في الأصل المصاحبة، فلا يُنافي أن مدلول (مع) المصاحبة الكلية الملحوظة لذاتها، ومدلول الباء المصاحبة الجزئية الملحوظة لغيرها؛ فرقٌ بينهما، وبمعنى (مع) نحو:((قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ)) [النساء:170]، يعني: مع الحق، بعتكَ الثوبَ بطِرازه، يعني: مع طرازه، اهبِطوا بسلام، يعني: مع سلام.
مِثْلَ مَعْ وَمِنْ: يعني: ومثل (مِن)، إذن: هنا استُعمِل حرفٌ بمعنى ظرف، واستُعمِل حرفٌ بمعنى (من)؛ لأن (مع) هذه ظرف، وَمَعَ (مَعْ) فِيهَا قَلِيلٌ سيأتي، حينئذٍ مِثْلَ (مَعْ): استُعمِلت الباء هنا بمعنى ظرف، واو المعية .. المصاحَبة، واستُعمِلت مثل (من) التي للتبعيض ليست مطلقاً، إنما المراد بـ (من) هنا من التبعيضية، " شَرِبْنَ بِمَاءٍ البَحْرِ"، يعني: منه، من ماء البحر:((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا)) [الإنسان:6]، إذا لم نقل بالتضمين، ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا)) [الإنسان:6] عَيْنًا يَشْرَبُ أو منها؟ الثاني: منها، إذن: لا إشكال.
وَعَنْ: يعني: ومثل عن، ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ)) [المعارج:1]، يعني: عن عذابٍ، ((فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)) [الفرقان:59]، يعني: اسأل عنه خبيراً إذن جاءت بمعنى الباء، ((وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)) [الفرقان:25]، أي: عن الغمام.
وَعَنْ بِهَا انْطِقِ: ابنُ عقيل زادَ الباء بمعنى المصاحبة، وهذا غريب منه، لماذا؟ لأن مثلَ (مع) المراد بها المصاحبة، ومثّلَ للمصاحبة هناك بقوله "بعتُكَ الثوب بطرازه"، مع طرازه، هذه مُصاحبة، ولذلك لا يُزاد هذا المعنى؛ لأنها هي مثل (مع).
وَعَنْ بِهَا انْطِقِ: انطق بها.
بِالْبَا اسْتَعِنْ وَعَدَّ عَوََّضْ أَلْصِقِ
وَمِثْلَ مَعْ وَمِنْ يعني: ومثل من.
وَعَنْ: ومثل عن.
بِهَا انْطِقِ: أي: انطق بالباء في حالِ كونها مماثلةً في المعنى لـ (مع) و (مِن) و (عن)، فهو مُتعلّق بالأخير.
عَلَى لِلاسْتِعْلَا وَمَعْنَى فِي وَعَنْ
…
بِعَنْ تَجَاوُزَاً عَنَى مَنْ قَدْ فَطَنْ
وَقَدْ تجَِي مَوْضِعَ بَعْدٍ وَعَلَى
…
كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا
عَلَى لِلاسْتِعْلَا: عَلَى: مُبتدأ، لِلاسْتِعْلَا: خبر، وهنا قصرَهُ للضرورة، "الاستعلاء" هذا الأصل فيها.
وَمَعْنَى فِي: إذن: ذكر لعلى معنيين أو ثلاثة؟ هذا مختلف فيه، اختلف الشراح في قوله: وعن، وعن هل هو معطوفٌ على ما قبله، أو جملة مُستأنفة؟ ما الإشكال؟ الإشكال إذا عطفتَه على ما قبله انظر الشطر الأخير في البيت الثاني:
كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ: لو قلتَ: على للاستعلاء ومعنى (في) ومعنى (عن)، إذن: جاءت (على) بمعنى (عن).
ثم قال: كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا: صارَ الشطرُ ذاك حشواً، وبه قال المكودي، حينئذٍ لابدّ من التأويل حتى نُنجّي ابن مالك رحمه الله، فنقول: قوله: على للاستعلاء، ومعنى في انتهى الكلام هنا، وعن: مبتدأ، بقيَ إشكال .. قال: بعن، الأصل يقول: وعن بها تجاوزاً، فأظهرَ في مقام الإضمار، هذا أخفُّ، فنقول: أظهرَ في مقام الإضمار؛ فلا إشكال فيه، حينئذٍ صار قولك: كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا: مستأنفا وكلاما له دلالته، وابن عقيلٍ مشى على هذا، ولذلك لم يشرح (على) بمعنى (عن) إلا متأخراً، وأما المكودي لا، قال: تأتي لثلاث معاني وذكرَها، ثم قال: كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا: تتيمٌ للبيت؛ لأنه مدلول بما سبق.
إذن: الصواب أن الأولى أن يُقال: بأن على ذكر لها معنيين: عَلَى لِلاِسْتِعْلَا، سواء كان استعلاء حقيقاً أو معنوياً:((وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)) [المؤمنون:22] هذا استعلاء حقيقي.
وكذلك معنوي: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [البقرة:253]، هنا فيه علو، لكنه علوٌّ معنوي ليس بحقيقي.
عَلَى لِلاسْتِعْلَا وَمَعْنَى فِي: هذا معطوفٌ على (للاستعلا)، وهو مضاف إلى (في)، معنى مضاف، و (في) قصد لفظه مضاف إليه.
مَعْنَى فِي: يعني: تأتي (على) بمعنى (في): ((وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ)) [القصص:15]، يعني: في حين غفلة، فجاءت على هنا ظرفية، بمعنى (في).
وَعَنْ: هذا مُبتدأ.
بِعَنْ تَجَاوُزاً عَنَى مَنْ قَدْ فَطَنْ: فطِنْ فيه وجهان والأولى الفتح هنا.
بِعَنْ: هذا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمار، والأصلُ بها تجاوزاً، ولا انكسارَ في البيت، وعليه فقوله: كَمَا عَلَى مَوْضِعَ ليسَ تكراراً، ويؤيّدُه أن ابنَ عقيل رحمه الله تعالى لم يشرحها في هذا الموضع كما ذُكِر.
بِعَنْ تَجَاوُزَاً: يعني: تأتي بـ (عن) تَجَاوُزَاً؛ هذا حال، فتُستعمَل (عن) في معناها الأصلي وهو المجاوزة، ولذلك لم يذكر البصريون لـ (عن) معنى إلا هذا فقط، وهي المجاوزة، كما مثّلَ:"رميتُ السهم عن القوس"، رميت السهم، يعني: تجاوز السهمُ القوسَ، و"أخذت عن زيد"، يعني: من علمه، يعني: تجاوزُ علمُه منهُ إليّ، كما تجاوزَ السهمُ هناك.
مَنْ قَدْ فَطَنْ: الفطنة الفهم، تقول: فَطَنَ للشيء يَفطُنُ بالضمّ فِطْنَةً، وفَطِنَ بالكسر فِطْنة أيضاً وفطانة، لكن الفتح هنا أولى.
وَقَدْ تجَِي مَوْضِعَ بَعْدٍ: ما هي؟ عن، قد تجيءُ (عن) مضوع (بعد)، قلنا: موضعَ هذا دائماً منصوبٌ على الظرفية إذا جاءَ في مثل هذا المقام، لكنه على غير القياس.
مَوْضِعَ بَعْدٍ: يعني: مكان بعدٍ، موضعَ مضاف، وبعد مضاف إليه، وهو منصوب، بـ (تجي)، و (قد) للتقليل هنا في هذين الموضعين.
وَقَدْ تجَِي مَوْضِعَ بَعْدٍ وَعَلَى: (عن) تأتي موضع (بعد)، يعني: بمعنى كلمة بعد: ((لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)) [الانشقاق:19]، يعني: بعد طبق، وَعَلَى يعني: وموضع (على)، تأتي عن، لموضع عَلَى، مثل ماذا؟
لَاهِ ابنُ عَمِّكَ! لَا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍ عَنِّي: عليّ، الحسب يتعدّى بـ (بعلى).
........ لَا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍ
…
عَنِّي وَلا أَنتَ دَيَّاني فَتَخُزُوني
أي: لا أفضلتَ في حسبٍ عليّ.
كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا: إذن: استُعمِلت عن بمعنى (على) كما أن (على) استُعمِلت بمعنى (عن)، إذن: حصَلَ تبادلٌ بينهما، كلٌّ منهما استُعمل في موضع الآخر.
قال ابن عقيل: كما استُعمِلت على بمعنى عن في قوله:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيرٍ
…
لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
رَضِيَتْ علي أو عني؟ (رضي الله عنهم)[المائدة:119]، يتعدى بـ (عن)، إذن: على هنا بمعنى (عن).
إذن قول الناظم: عَلَى لِلاِسْتِعْلَا وَمَعْنَى فِي: ذكرَ معنيين لـ (على)، وهما الاستعلاء والظرفية.
ثم قال: وَعَنْ: هذا يَحتمِل أنه مبتدأ، وإذا أردنا تخريجَ كلام ابن مالك عليه فهو جيد.
بِعَنْ تَجَاوُزاً: وهو الأصل فيها، بل لم يذكر البصريون سواه.
عَنَى: يعني: قصدَ.
مَنْ قَدْ فَطَنْ: الفطن يعني، الذي فطِنَ.
وَقَدْ تَجِي: قد تجي، جاء يجي، جاء يجيءُ فيه لغتان، يعني: تجي لا يقال: بأنه حذفَ الهمزة للضرورة لا، جا يجي، جاء يجيءُ فيه لغتان، و (قد) هذه للتقليل.
مَوْضِعَ: تجي عن موضع بعدن وموضع (على)، كَمَا .. إذا قيل بأن هذا البيت حشو زائد، حينئذٍ أشارَ به إلى الحملِ والمعادلة، يعني كلٌّ منهما أقامَ نفسَه مقام الآخر.
ثم قال:
شَبِّهْ بِكَافٍ وَبِهَا التَّعْلِيلُ قَدْ
…
يُعْنَى وَزَائِدَاً لِتَوْكِيدٍ وَردْ
ذكرَ للكاف ثلاث معاني، التشبيه وهو الأصل فيها، مُشاركة أمرٍ لأمر إما حقيقة أو مجاز، شَبِّهْ بِكَافٍ: زيدٌ كالأسد، الكاف هذه أفادت التشبيه، وهذا الأصل فيها وهو الكثير .. وأكثرُ معانيها.
شَبِّهْ بِكَافٍ، شَبِهْ فعل أمر وبِكَافٍ متعلق به.
وَبِهَا التَّعْلِيلُ قَدْ يُعْنَى: التعليل قد يُعنى بها، التَّعْلِيلُ مبتدأ وجملة قَدْ يُعْنَى خبر، وَبِهَا متلق بـ (يعنى)، ظاهرُهُ أنه قليل، لذلك قال: وَبِهَا التَّعْلِيلُ قَدْ يُعْنَى: قَدْ هنا للتقليل، فظاهرُهُ أنه قليل.
وقال في شرح الكافية: ودلالته على التعليل كثيرة، إذن: خالفَ ما في أصله في الكافية.
وَبِهَا التَّعْلِيلُ قَدْ يُعْنَى: يعني تأتي للتعليل، كما في قوله تعالى:((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)) [البقرة:198]، (ما) هنا مصدرية، أي: لأجل هدايته إياكم، وقال هنا: وَزَائِدَاً لِتَوْكِيدٍ وَردْ: يعني: وردَ حرفُ الكاف زائداً لتوكيد، زَائِدَاً: حالٌ من الضمير المستتر في وَردْ، ولِتَوْكِيدٍ هذا متعلق به.
إذن: جِيءَ بها للزيادة، والمراد بالزيادة التأكيد، ليسَ الزيادة معنى من المعاني، وإنما الزيادة وصفٌ للفظ من حيث هو، كونُه دخيلاً على الجملة، وأما ماذا أفادت بعد الزيادة؟ فالتأكيد:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] هذا مثالٌ مشهور، فيه أوجهٌ كثيرة وكلام كثير، لكن الصحيح أن الكاف هنا يُقال أنها صلة زائدة للتوكيد، ليسَ مثله شيء، شيء: هذا اسم ليس، ومثله: هذا خبر مُقدّم، وهو منصوب في الأصل، دخلت عليه الكاف تأكيداً، ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء.
وَزَائِدَاً لِتَوْكِيدٍ وَردْ: يعني: وردَ الكاف للتأكيد.
ومما زِيدت فيه قولُ رُؤبة: لَوَاحِقُ الأَقْرَابِ فِيهَا كَالْمَقَقْ: الأصلُ فيها المققُ أي: الطولُ، وما حكاه الفراءُ أنه قِيل لبعض العرب: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهيِّنٍ، أي: هيّناً.0
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً وَكَذَا عَنْ وَعَلَى
…
مِنْ أَجْلِ ذَا عَلَيْهِمَا مِِنْ دَخَلَا
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً: مِن حروف الجرّ ما قد يكون ثَم اسم موافِق له في اللفظ، وإنما يتجوّزُ النحاة فيقال:(عن) أو (على) تأتي حرفية واسمية .. المراد اللفظ فحسب، الموافقة في اللفظ، ولذلك نقول: إذا قيل بأنه اسم، حينئذٍ نحكم عليه بالبناء، لماذا؟ لأنه أشبه (على) الحرفية لفظاً ومعنى، حينئذٍ قولهم:(على) تأتي حرفية واسمية ليس على اللفظ وهو مكرر مرّتين والوضع واحد، لا، ليس هذا المراد.
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً: إذن: من حروف الجرِّ ما يخرجُ عن الحرفية ويُستعمَل اسماً وذلك خمسة أحرف، ذكر في هذا البيت ثلاثة: وَاسْتُعْمِلَ اسْماً: استعمل الكاف التي للتشبيه، هذا معنى رابع ويزاد.
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً: أي: الكاف، اسْماً: بمعنى "مثل"، اسْماً: هذا حال، وذكَّرَ الفعل هنا على إرادة الحرف، وَاسْتُعْمِلَ، ولم يقل استُعمِلت، مُراداً به الحرف؛ لأن الحرف مذكّر، وَاسْتُعْمِلَ اسْماً، أي: استعمل الكاف اسماً؛ حال كونه اسماً بمعنى مثل، مثل ماذا؟
أَتَنتَهونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ
…
كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيتُ والفُتُلُ
كَالطَّعْنِ، قالوا: هذا فاعل، والفاعل لا يكون جارّاً ومجروراً، إذن يتعيّنُ أن نحكم على الكاف بأنها زائدة، ولم يَنهى الطعنُ ذوي الشططِ هذا الأصل، إذن نقول: ولم يَنهى الطعن، لو قيل بالكاف هنا بأنها أصلية على بابها حرف، أين فاعل ينهى؟ لا وجودَ له، ولا يمكن أن يُوجَد فعل بدون فاعل، ثم كالطعن إذا قيلَ بأنه الفاعل وهي على أصلها، للزمَ أن يكون الجار والمجرور واقعاً فاعلاً وهذا مُمتنِع، إذن: يتعينُ أن نحكم على الكاف بأنها اسمية.
إذن: ولن ينهى مثلُ الطعنِ؛ فهي مضاف ومضاف إليه، فالكافُ هنا فاعل وهو مضاف، والطعن مُضاف إليه.
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً لكنه قليل، وهو مخصوصٌ عندَ سيبويه والمحققين بالضرورة، يعني: ليسَ في سَعة الكلام، وأجازه كثيرون منهم الفارسي والناظمُ في الاختيار؛ أجازوا في:"زيدٌ كالأسدِ" فيه إعرابان: زيدٌ كالأسدِ؛ زيدٌ: مبتدأ وكالأسد: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر. "زيدٌ كالأسدِ" زيد: مبتدأ والكاف: خبر، وهو مضاف والأسد مضاف إليه، إذا جعلناها اسمية: زيدٌ مثلُ الأسدِ، فأجازوا في:"زيدٌ كالأسدِ" أن تكون الكاف في موضع رفع، والأسد مخفوض بالإضافة.
وَكَذَا عَنْ وَعَلَى: وَكَذَا، أي: وكذلك أيضاً يُستعمَل (عَنْ) وَ (عَلَى) اسمين، كما استعمل كافُ التشبيه اسماً، ثم علّلَ استعمالهما اسمين، بقوله: مِنْ أَجْلِ ذَا عَلَيْهِمَا مِِنْ دَخَلَا.
وَكَذَا عَنْ: عَنْ: مبتدأ، وَكَذَا: خبر مُقدّم، وَعَلَى: معطوف عليه، وهما حينئذٍ إذا حكمنا بالاسمية مبيّنان؛ مبنيّان لمشابهة الحرف في اللفظ وأصلِ المعنى؛ لأنّ (على) أشبهت (على) الحرفية، و (عن) الاسمية أشبهت (عن) الحرفية في اللفظِ وأصلِ المعنى كما قال ابن الحاجب، وقيل: مُعربان، وقيل:(على) اسم دائماً، واستُعمِلت علماً
…
إذا قيلَ (اسم) صارت علماً، واستُعمِلت (على) فعلاً ماضياً، تقول: علا يعلو علوّاً، وعلا يعلى علاءً؛ مثل بقى يبقى بقاءً، علا يعلى علاءً، وعلا يعلو علوّاً، ففيها وجهان. و (على) تأتي فعلاً ماضياً، تقول: علا يعلو علوّاً وعلى يعلى علاء، كـ (بقى يبقى بقاء)، و (علا) الفعلية ليس رسمها كرسم (على) الحرفية؛ لأن (على) الحرفية تكتب بالياء، وأما الفعلية فتكتب بالألف لأنها عن واو، علا يعلو، حينئذٍ تُكتَب بالألف تُرسم بالألف، بخلاف الحرفية فإنها تُرسَم بالياء، ومقتضى هذا أن (على) الاسمية تُرسم بالياء، وهذا إنما يظهرُ إذا كانت من (على يعلى)، أما إذا كانت من (علا يعلو)، فكتابتها بالألف لأنها حينئذٍ واوية.
إذن: وَكَذَا عَنْ وَعَلَى: يُستعمَلان اسمين كما استعمل الكاف اسماً، فتكون (عن) بمعنى جانب، وتكون (على) بمعنى فوق:
غَدَتْ مِنْ عَلَيهِ بَعدَما تَمَّ ظِمؤُها
…
تَصِلُّ وعَنْ قَيضٍ بزَيزاءَ مجْهلِ
غَدَتْ مِنْ عَلَيهِ: يعني: مِن فوقه.
ولَقَدْ أَرَاني للرِّمَاحِ دَرِيَئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِينِي يعني: من جانب يميني.
إذن: تُخصّ بالمعنى، فيقال (عن) الاسمية بمعنى الجانب، و (على) الاسمية بمعنى فوق.
مِنْ أَجْلِ ذَا عَلَيْهِمَا مِِنْ دَخَلَا: مِنْ أَجْلِ ذَا: ما هو ذَا؟ كونهما اسمين، دخلا عليهما (من)، أو (من) دخل عليهما، ومِن الحرفية لا شكّ أنها تدخلُ على الأسماء، فدليلُ اسمية (على) و (عن) دخولُ (مِن)؛ لأن (مِن) لا تدخل إلا على الأسماء: غَدَتْ مِنْ عَلَيهِ، كيف دخل حرفٌ على حرفٍ؟ حينئذٍ نقول: من حرف جر، وعلى يتعين أن يكون اسماً.
مِنْ عَنْ يَمِينِي: مِن حرف جرّ دخل على عن، والحرفُ لا يدخل إلا على الأسماء، ولا يدخل على الحروف، فتعيّنَ أن تكون اسماً.
مِنْ أَجْلِ: جارّ ومجرور مُتعلّق بقوله: دَخَلَا، الألف هذه فاعل.
مِنْ أَجْلِ ذَا: أَجْلِ: مضاف وذَا: مضاف إليه.
عَلَيْهِمَا: مُتعلق بقوله: دَخَلَا، مِنْ: مبتدأ، ودَخَلَا: الجملة من الفعل والفاعل .. الألف هذه فاعل، وهو يعودُ إلى عن وعلى.
(مِن) دخل عليهما: على (عن) و (على)، واستُعمِل الكاف اسماً قليلاً وذكرناه، والكافُ اسم مرفوع على الفاعلية، والعامل فيه يَنهى، والتقدير: لن ينهى ذوي شَططٍ مثل الطعن، واستُعمِلت على وعن اسمين عند دخول من عليهما، فتكون (على) بمعنى فوق و (عن) بمعنى الجانب.
وَاسْتُعْمِلَ اسْماً وَكَذَا عَنْ وَعَلَى
…
مِنْ أَجْلِ ذَا عَلَيْهِمَا مِِنْ دَخَلَا
إذن: قوله: مِنْ أَجْلِ ذَا عَلَيْهِمَا مِِنْ دَخَلَا: عَلَيْهِمَا: هذا جار ومجرور مُتعلق بـ دَخَلَا، ومِنْ أَجْلِ: كذلك متعلق بـ دَخَلَا، وأَجْلِ مضاف وذَا مضاف لاسم إشارة يعودُ على (عن وعلى)، تركيب الكلام: مِن دخلا عليهما من أجل ذا، يعني: من أجل كونهما اسمين، وهذا استشهاد على استعمالهما اسمين لا تقييد، ولذا خصَّ (مِن) بأنها المسموع دخولها عليهما كثيراً، وسُمع جرُّ عن بـ (على)، فعلى ذلك نقول: اسميتها ثابتة بـ (على) وبـ (بعن) بـ (من)، وسُمِع جرّ (عن) بـ (على)، فعُلِم أن اسميتها لا تتقيد بدخول من.
قال:
وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا
…
أَوْ أُوْلِيَا الفِعْلَ كَجِئْتُ مُذْ دَعَا
وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَمِنْ
…
هُمَا وَفِى الْحُضُورِ مَعْنَى فِي اسْتَبِنْ
هذا الرابع والخامس، قلنا: من حروف الجرّ ما يُستعمَل اسماً وهي خمسة، ذكرَ الكاف وعن وعلى.
وَمُذْ وَمُنْذُ: يُستعمَلان اسمين وحرفين، وَمُذْ: بضمّ الميم، وَمُنْذُ: بضمّ الميم، وكُسِر ميمُها لغة، يعني يقال: مُذ ومِذ، ومُنذُ ومِنذُ وهو لغة فيها، قيل: أصل مُذ مُنذ، بدليل رجوعهم إلى ضمّ الذال عندَ ملاقاة الساكن، مُذْ بإسكان الذال، إذا التقى ساكنان الأصل أن يتحرك بالكسر، لكن هم يقولون: مُذُ اليوم، لم حُرِّكَ بالضم ولم يَرجع إلى الأصل؟ دلَّ على أن (مُذ) أصلها منذُ، ولذلك قيل: لو سُمّيَ علم رجل بـ (مُذ) فصغّرتَه، تقول:(مُنيذٌ)، مِن أين جاءت النون؟ التصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، حينئذٍ قالوا: مُذ هذه ليست أصلاً، بل هي فرع، وأصلها مُنذُ، بدليل ضمّ الذال عند ملاقاة الساكن، مُذُ اليوم، ولولا أنّ الأصل الضمّ لكسروا، ولأن بعضهم يقول: مُذُ زَمنٍ طويل، يعني: سُمِع فيها بضم الذال مُذُ، فدلَّ على أنهم قد يضمّوا الذال مع عدم الساكن، وقيل: هما أصلان؛ كلٌّ منهما أصل بذاته؛ لأنه لا يُتصرّف في الحرف وشبهه، وقيل: إذا كان مُذْ اسماً فأصلها مُنذُ، أو حرفاً فهي أصل.
وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَانِ: يعني: هما اسمان متى؟ حَيْثُ رَفَعَا أَوْ أُوْلِيَا الفِعْلَ: إذا رَفعا ما بعدَهما فاحكم عليهما بكونهما اسمين، هذا الموضع الأول، أو جاءَ بعدَهما فعل فاحكم عليهما بكونهما اسمين.
إذن: في هذين الموضعين: مذْ ومنذُ اسمان.
أَوْ أُوْلِيَا الفِعْلَ: أُوْلِيَا هذا مُغيّر الصيغة، والألف نائبُ فاعل، والفعل هذا مفعوله الأول؛ لأنه يتعدّى إلى اثنين، أُوْلِيَ الفِعْلَ، في بعض النسخ: أو وَليَ الفعل.
كَجئتُ مُذْ دَعَا: هذا فعل مع فاعله، وهو الغالب، أو المبتدأ مع خبره: جئتُ منذُ زيدٌ عندك، الغالبُ فيه أن يكون ما بعدَه فعل، يعني: جملة فعلية، وقد يكون جملة اسمية، جئتُ منذُ زيدٌ عندك، فالأول الذي أشارَ إليه بقوله:(اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا) رفعا اسماً مُفرداً، هذا التقييد، حينئذٍ رفعا، متى يرفعان؟ هذا يدلُّ على أنهما مبتدءان؛ لأن الذي يرفعُ هو المبتدأ، فحينئذٍ على رأي ابن مالك لا يُعرَب (مُذ ومُنذ) إذا وقعا اسمين مفردين إلا مبتدأً، وما بعده يكون خبراً.
إذن: فالأوّل نحو "ما رأيته مذ يومان"، جاء ما بعدَهما اسم مفرد، وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا، مُذ يومان، يومان هذا مرفوع، إذن: مُذ هذا في محلِّ رفع مبتدأ ويومان خبر على ظاهر كلام ابن مالك.
أو منذُ يومُ الجمعة برفعِ ما بعده، إذا رُفع ما بعد (مذ ومنذ)، حينئذٍ حكمنا عليهما بكونهما اسمين، فتكون (مذ ومنذ) مبتدئين وما بعدهما خبران، ما رأيتُ مُذ يومان، مذ: مبتدأ ويومان: خبر، ما رأيتُه منذُ يومُ الجمعة، منذُ: هذا مبتدأ ويوم الجمعة خبر. وهما حينئذٍ مبتدءان وما بعدَهما خبر، والتقدير: أمدُ انقطاعِ الرؤية يومان هذا في الأول، ما رأيته مُذ يومان، يعني: أمدُ انقطاعِ الرؤية يومان، وأولُ انقطاعِ الرؤية يوم الجمعة في المثال الثاني، وقد أشعرَ بذلك قوله: حَيْثُ رَفَعَا؛ لأن المبتدأ هو الرافع للخبر، من غير عكس، وقيل: بالعكس، مُذ: خبر مقدّم، ويومان: مبتدأ مؤخر، ومنذُ: خبر مقدم، ويوم الجمعة: مبتدأ مؤخر، والمعنى: بيني وبين الرؤية يومان، وقيل: ظرفان منصوبان على الظرفية، وما بعدَهما فاعل بفعل محذوف، وهذا كذلك شهير، أي: مُذ كان أو مُذ مضى يومين، وإليه ذهب أكثرُ الكوفيين، واختارَه السهيلي والناظم في التسهيل.
والثاني -الذي هو أوْ أُولِيَا الْفِعْلَ-: ما إذا أُوليَ جملة فعلية أو اسمية: جِئْتُ مُذْ دَعَا، كما مثل الناظم، والمشهور أنهما حينئذٍ ظرفان مُضافان إلى الجملة، إذا جاءَ ما بعدَهما جملة حينئذٍ فنقول: هما ظرفان مُضافان إلى الجملة، وقيل: إلى زَمنٍ مضاف إلى الجملة، وهذا سبقَ معنا، وقيل: مُبتدآن، فحينئذٍ يجبُ تقدير زمن المضاف إلى الجملة يكون هو الخبر، المشهور على كلام الناظم ظاهرُهُ هنا أنهما ظرفان، ولذلك قال: أُولِيَ الْفِعْلَ، فدلَّ على أنهما ظرفين.
وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَانِ: ومُذ ومنذُ يُستعمَلان اسمين وحرفين، فهما اسمان في موضعين، حَيْثُ رَفَعَا اسماً مُفرداً مثلما ذكرناه.
أَوْ: هذا للتنويع. أُوْلِيَا الفِعْلَ: يعني: وَلِيا، صارَ الفعلُ تابِعاً لهما، وهذا لا يمنعُ من إيلاءِ الاسم في حال كونهِ جملة اسمية لهما؛ كما ذكرناه في: جئتُ مُنذُ زيدٌ عندك.
كَجئتُ مُذْ دَعَا: وإنما عيّنَ الفعل؛ لأنه الغالب، وقد تكون جملة اسمية.
ثم قال:
وَإِنْ يَجُرَّا في مُضِيٍّ فَكَمِنْ هُمَا: سبقَ أنه حكمَ عليهما بأنهما حرفا جرّ، وهنا أعاد، لكن هنا لم يعد الحكم عليهما بكونهما حرفي جرّ، وإنما هنا بيّنَ المعنى.
وَإِنْ يَجُرَّا: فهما حرفا جرّ.
في مُضِيٍّ: في زمن ماضٍ، ليس المراد هنا مُضي الفعل، لا، المراد في زمن ماضٍ.
فَكَمِنْ هُمَا: يعني: في المعنى، كَمِنْ هُمَا، هما: مبتدأ، وكمن: هذا خبر، يعني: إذا كان ما بعدهما زمن ماضٍ يُفسّر بـ (مِن) الابتدائية.
وَفى الْحُضُورِ: الزمن الحاضر؛ لأنه لا يأتي ما بعدهما مستقبل، كما ذكرناه سابقاً.
مَعْنَى فِي اسْتَبِنْ: اسْتَبِنْ، يعني: اطلب بهما البيان؛ وذلك فيما إذا كان في الحضور، في الحضور: جار ومجرور مُتعلّق بقوله استبن.
ومَعْنَى فِي: هذا مضاف ومضاف إليه مفعول مُقدّم لقوله: اسْتَبِنْ، يعني: استظهِرْ، وهذا المراد به الزمن الحاضر، هذا مع المعرفة، فإن كان المجرورُ بهما نكرة، كانا بمعنى (من) و (إلى) معاً، كما في المعدود، نحو:"ما رأيته مذ أو منذ يومين"، لو قال: ما رأيته منذ يومين، فالمعنى: ما رأيته مِن ابتداء هذه المدة إلى انتهائها، (من إلى)، فيكون مركباً من حرفين، ما رأيته منذ يومين، يعني: من ابتداء هذه المدّة إلى انتهائها، فإن لم يكن كذلك، فحينئذٍ إما بمعنى (من)، أو بمعنى (في).
قال الشارح: تُستعمل (مذ) و (منذ) اسمين إذا وقع بعدهما الاسم المرفوع، انظر اسم مرفوع واحد .. أو وقع بعدهما فعل، والفعلُ لابد له من فاعل، إذن: جملة، وهذا لا يمنعُ أن يكون ما بعدَهما جملة اسمية؛ لماذا؟ لأن الغالب هو الجملة الفعلية، "ما رأيتُه مذَ يومُ الجمعة"، هذا اسم مرفوع، أو "مذ شهرُنا" هذا مرفوع.
فمذ اسم مبتدأ، وصحَّ الابتداء بها لكونها معرفة؛ لأنها مُعيّنة من جهة الزمن، اسم مبتدأخبره ما بعده، وكذلك مُنذُ، وجوّزَ بعضهم أن يكونا خبرين لما بعدهما، ومثال الثاني: جِئْتُ مُذْ دَعَا، فمُذ اسم منصوب المحلّ على الظرفية، هذا ظاهر كلام الناظم، والعامل فيه جئتُ، والظرفُ لا يكون مبتدأ.
وإن وقع ما بعدَهما مجروراً، حينئذٍ فهما حرفُ جرّ في مذهب الأكثرين، وقيل: هما ظرفان منصوبان بالفعل قبلها.
بمعنى: (من) إن كان المجرورُ ماضياً، "ما رأيتُه مذ يوم الجمعة"، إن كان يوم الجمعة سابق، يعني: ما رأيته من يوم الجمعة، وبمعنى (في) إن كان حاضراً:"ما رأيته مذ يومنا"، يعني: في يومنا.
وأما "مُذ غَدٍ" نقول: هذا لا يصح، وأكثر العرب على وجوب جرهما للحاضر، أكثر استعمال مذ ومنذ جرّهما للحاضر.
وعلى ترجيح جرّ (منذ) للماضي على رفعه: مُنذُ هل يستويان في رفع وجرِّها الماضي؟ لا، ترجيحُ جرّ (منذ) للماضي على رفعه، كقوله:
ورَبْعٍ عَفَتْ آثارُهُ مُنْذُ أزمانِ وعلى ترجيح رفعِ (منذ) للماضي على جرّه: فمن القليل فيها "مُذ حججٍ" و"مُذ دهرٍ"، إذن ليست مستوية.
ثم قال:
وَبَعْدَ مِنْ وَعَنْ وَبَاءٍ زِيدَ مَا
…
فَلَمْ يَعُقْ عَنْ عَمَلٍ قَدْ عُلِمَا
إذن: ما سبقَ من الأبيات في بيان المعاني المتعلّقة بالحروف السابقة، الآن سيتكلمُ عن مسألة: هل تُكَفُّ هذه الحروف عن العمل أو لا؟
فقال:
وَبَعْدَ مِنْ وَعَنْ وَبَاءٍ زِيدَ مَا: زِيد ما، من حروف الجرّ ما يزاد بعده (ما)، الأصل في (ما) كافة، فإذا قيل:(ما) كافة، يعني: كفّت مدخولها عن العمل، هذا الأصل فيها، لكن تارة تكفُّها عن العمل وتارة لا؛ على التفصيل، وهذه (ما) الكافة تدخل على خمسة أحرف بالاستقراء، ما عداها لا، الباب كلّه سماعي إلى آخره.
وَبَعْدَ مِنْ وَعَنْ وَبَاءٍ: هذه ثلاثة، زِيد (ما) الكافة، زِيد (ما) بعد (من)، إذن: بَعْدَ هذا متعلق بقوله: زِيدَ.
ولا تُزاد ما بعد غير هذه الأحرف الخمسة، زِيدَ مَا، ما هذه نائب فاعل.
فَلَمْ يَعُقْ: فلم تعُق، فيه نسختان بالياء وبالتاء كلاهما جائز، فلم تَعُق يعني: فلم تمنع عملَها، فبقيت على ما هي عليه من الجرّ.
فَلَمْ يَعُقْ عَنْ عَمَلٍ قَدْ عُلِمَا: ما هو العمل الذي عُلِم؟ الجرّ: ((عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ)) [المؤمنون:40]، (عمّا قليل)(عن ما) أصبحت قليل، هذا الأصل، دخلت عليها (ما) وهي كافة، ولكن لم تكفها عن العمل، (عما قليل)، قليل هذا مجرور بـ (عن)، و (ما) هذه وهي كافة لم تكفّها، لماذا لم تكفها والأصل فيها الكف؟ نقول: للسماع جاءت في أفصح الكلام: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ)) [نوح:25]، (خطيئات) مجرورٌ بـ (من)، دخلت (ما) كفتها؟ لا، لماذا لم تكفّها؟ هكذا السماع جاءت في أفصح الكلام، لا نحتاج إلى تعليل:((فَبِمَا رَحْمَةٍ)) [آل عمران:159]، (فبرحمة) دخلت (ما)، لكن أفادت من جهة المعنى، يعني: الحرف الزائد إذا دخلَ على الجملة قيل في قوّة تكراره مرّتين وقيل ثلاث أقل الجمع، يعني:((فَبِمَا رَحْمَةٍ)) [آل عمران:159]، هذا في قوّة جملتين، الحرف الزائد يقوي .. يُكرِّر الجملة في مقام مرتين أو ثلاث:((عَمَّا قَلِيلٍ)) [المؤمنون:40]، ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ)) [نوح:25]، كأنه قال:(من خطيئاتهم؛ من خطيئاتهم؛ من خطيئاتهم أغرقوا)، (بما رحمة من الله، بما رحمة من الله، بما رحمة من الله)، حُذفت الجملة.
((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11]، (ليس مثله شيء، ليس مثله شيء)، ثم زِيدت الكاف.
إذن: من حيث العمل لم تكفها، ولكن من حيث المعنى زادتها قوة.
وَبَعْدَ مِنْ وَعَنْ وَبَاءٍ زِيدَ مَا فَلَمْ يَعُقْ: يعني: لم تُمنَع.
عَنْ عَمَلٍ قَدْ عُلِمَا: الألف للإطلاق، وهو الجرّ.
لعل من إزالتها اختصاص، بقيت كما هي مختصة، هذا مثل إن وأخواتها، قلنا: تُزاد (ما) وقد تُزِيل اختصاصها وقد لا تُزيل، ولذلك قيل:
لَيْتمَا هَذَا الْحمَامَ لَنَا .. بقيت على اختصاصها، وأما ما عداها فلا.
وَزِيْدَ بَعْدَ رُبَّ وَالْكَافِ
يعني: زِيد ما بعد رُب والكاف.
فَكَفْ: يعني: كفّتها عن العمل.
أما الثلاث الأحرف السابقة: (من وعن وباء) مطلقاً في كل تركيب تعمل، وبعضها الذي هو الكاف ورُبَّ لا على حالتين، تعمل ولا تعمل تكفها .. وَقَدْ يَلِيْهِمَا وَجَرٌّ لَمْ يُكَفْ
وزِيدَ بعد رُبَّ: هذا إشارة إلى الرابع والخامس، زِيْدَ يعني: ما الكافة، بَعْدَ: حرفي رُبَّ وَالْكَافِ، فَكَفْ: يعني: كفّتهما عن الجر غالباً، هذا هو الغالب فيها، وحينئذٍ يدخلان على الجملة، فإن قِيل: ما الفرق بين هذين الحرفين وما سبق؟ قيل: قد يُفرَّق بين رب والكاف وبين الثلاثة قبلها، بأن اختصاصها بالأسماء أقوى؛ لجرّها كلّ اسم بخلاف رُبّ والكاف، فإنهما إنما يجرّان بعض الأسماء، فلضعفهما بما ذُكَر كُفّا عن العمل بخلافهما، وأنكرَ أبو حيان كفَّ الكاف بـ (ما)، وأوّلَ ما يُوهِم ذلك بجعل (ما) مصدرية مُنسبِكة مع الجملة بعدها بمصدر، بناء على جواز وصلها بالاسمية.
إذن: فَكَفْ، يعني: كفّ (ما) عمل رب والكاف، حينئذٍ لا تعمل الجرّ، بل تُسوِّغهما في الدخول على الجملة الاسمية والجملة الفعلية، فلِزوال اختصاصهما بالاسم المفرد حينئذٍ صحَّ دخولهما على الجملتين.
وَقَدْ تَلِيهِمَا: قد هذه للتقليل. وَقَدْ تَلِيهِمَا: يعني: تلي (ما) رُبّ والكاف، الفاعل هنا ضمير مُستتر يعود على (ما).
وَجَرٌّ لَمْ يُكَفّْ: الجرُّ لم يُكَف بل بقي على أصله.
قال الشارح: تُزاد (ما) بعد الكاف ورب فتكفهما عن العمل تارة وتارة لا، وأما مثال ما تكفّهما فيه عن العمل:
فَإِن الحُمْرَ مِن شرِّ المطَايَا
…
كَمَا الحبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
كَمَا الحبِطاتُ: الأصل كالحبطاتِ .. شَرُّ بَنِي تَمِيمِ، إذن: رجعت إلى الابتداء.
رُبَّمَا الْجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهِمْ
…
وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
رُبَّما الْجَامِلُ: الجامل مبتدأ، إذن: دخلت على الجملة الاسمية.
ماويَّ يا رُبَّتَمَا غَارَةٍ
بقيت على أصلها: يَا رُبَّتَمَا: رُبّت، هذه لغة في رُبّ، يعني: زيدت عليها التاء، غَارَةٍ: هذا مجرور برُبّ، دخلت عليها (ما) كافة فلم تكفها عن العمل، والغالب على رُبّ المكفوفة بما أن تدخلَ على فعل ماضٍ، هذا الغالب فيها، كقوله:((رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [الحجر:2]، هذا ماضٍ في المعنى دونَ اللفظ، وإلا في اللفظ هو مُضارع، وأما الماضي الخالص، وكقوله:" رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ "، وأما دخولها على المضارع، فهذا ليس المقصود به المضارع من حيث هو مضارع، يعني: من حيث المعنى، وإنما المرادُ به باعتبار زمنِه الماضي، ولذلك لدخوله على الفعل المضارع نُزِّلَ الفعل المضارع منزلة الماضي، وهذا سبقَ معنا أن الفعل المضارع قد يكون مدلوله الماضي، وتدخلُ على مضارع نُزِّل منزلته لتحقّق وقوعه:((رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [الحجر:2]، وندرَ دخولها على الجملة الاسمية، فالبيت السابق:
رُبَّمَا الْجامِلُ المُؤَبَّلُ
قال:
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا، ونَعْلَمُ أَنَّهُ
…
كَمَا النَّاسِ، مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وجارِمُ
كمَا النَّاسِ، دخلت على الكاف وبقي عملها.
وَحُذِفَتْ رُبَّ فَجَرَّتْ بَعْدَ بَلْ
…
وَالْفَا وَبَعْدَ الوَاوِ شَاعَ ذَا الْعَمَلْ
وَحُذِفَتْ رُبَّ لفظاً، في اللفظ حُذفت:
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ يعني: ورُبّ ليل، حذفت في اللفظ فجرت منوية مقدرة بعد (بل) والفاء والواو، يعني: ليس مطلقاً، وإنما بعد الحروف الثلاثة، لكن الواو أكثر، ولذلك قال:
وَبَعْدَ الوَاوِ شَاعَ ذَا الْعَمَلْ: بكثرة، مفهومُه: أن ذلك بعد (بل) والفاء غير شائع، وهو مفهوم صحيح.
إذن: فجرّت مَنوية بعد بل والفاء، لكن على قلّةٍ، وقيل: بعد (ثم) كذلك وقلَّ مَن ذكرَها، وَبَعْدَ الوَاوِ شَاعَ ذَا الْعَمَلْ، شاع بعد الواو، (بَعْدَ) هذا ظرف منصوب بـ شَاعَ، متعلق به، وهو مضاف والواو مضاف إليه: ذَا الْعَمَلْ، شَاعَ ذَا، اسم إشارة في محلّ رفع فاعل، العمل: بدل أو عطف بيان أو نعت بكثرة.
قال الشارح: لا يجوزُ حذفُ حرف الجرّ وإبقاء عمله؛ إلا في رب بعد الواو وفيما سنذكره، وقد وردَ حذفها بعد الفاء وبل قليلاً، فمثاله بعد الواو قوله:
وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْنْ
وَقَاتِمِ يعني: ورُبّ قاتمِ.
ومثاله بعد الفاء قوله:
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ
…
فأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ
فَمِثْلِكِ: يعني: فرُبّ مثلك، هذا الأصل.
بَل بَلَدٍ مِلءُ الفِجَاجِ قَتَمُهْ
…
لا يُشْتَرى كَتَّانُه وجُهْرُمُهْ
بَل بَلَدٍ: يعني: بل رُبّ بلد، إذن: تحذف رُبّ لفظاً فتُقدّر بعد هذه الحروف الثلاثة.
قال في التسهيل: تجرّ رُبّ محذوفةً بعد الفاء كثيراً، وبعدَ الواو أكثر، وبعدَ بل قليلاً، الأكثر الواو، ثم الفاء، ثم بل على الترتيب.
ومع التجرّد أقل، يعني: دون هذه الثلاثة.
رَسْمِ دَارٍ وَقَفْتُ فيِ طَلَلِهْ
…
كِدْتُ أَقْضِي الحياةَ مِنْ جَلَلَه
رَسْمِ دَارٍ: يعني: رُبّ رسمِ دار، حذفت دون واوٍ أو بل أو الفاء.
ومرادُه بالكثرة معَ الفاء الكثرة النسبية، أي: كثير بالنسبة إلى بل.
وقال أيضاً: وليسَ الجرّ بالفاء وبل باتفاق .. هو حكى الاتفاق، فيه خلاف.
فَمِثْلِكِ: قال بعضهم مجرورٌ بالفاء، و: بَل بَلَدٍ، بلدٍ مجرورٌ بـ (بل) لا، ليس الأمر كذلك، وليسَ الجر بالفاء وبل باتفاق، بل قيل: الجرّ بالفاء وبل لنيابتهما مناب رُبّ، أقيما مُقام ربّ فجرّا.
وأما الواو، فمذهب الكوفيون والمبرد إلى أن الجر بها: وَلَيْلٍ كَمَوْجِ ..
إذن: ليس عندنا رُبّ على مذهب الكوفيين، وإنما الواو هي العاملة، لكن انتبه أن الكوفيين يرون أن رُبّ اسماً وليست حرفاً.
والصحيح أن الجر برُبّ مُضمَرة، وهو مذهب البصريين.
وَقَدْ يُجَرُّ بِسِوَى رُبَّ لَدَى
…
حَذْفٍ وَبَعْضُهُ يُرَى مُطَّرِداً
الحكم السابق برب، هل هو خاصّ بها؟ دائماً يمرُّ معنا أن حرفَ الجرّ لا يعمل محذوفاً هذا هو الأصل، إلا ما سُمِع من لسان العرب، وخاصّة إذا شاع وكثر.
وَقَدْ يُجَرُّ بِسِوَى رُبَّ: من الحروف.
لَدَى حَذْفٍ: يعني: عند حذفِهِ.
وَقَدْ يُجَرُّ: قد للتقليل هنا.
وَقَدْ يُجَرُّ بِسِوَى رُبَّ: يعني: بغير رُبّ من الحروف.
لَدَى حَذْفٍ .. وَبَعْضُهُ يُرَى مُطَّرِداً: إذن منه ما هو سماعي، ومنه ما هو قياسي.
وَبَعْضُهُ يُرَى مُطَّرِداً: مفهومُه أن السابق سماعي ليس مُطرداً، يقصد بالمطرد هنا أن يكون قياساً يعني: تقيسُ عليه، حينئذٍ كما قال الشارح:
الجرُّ بغير رُبّ محذوفاً على قسمين: مُطّرد وغير مطرد، فغير المطرد يعني: الذي يُسمع ويُحفظ ولا يُقاس عليه كقول رؤبة لمن قال له: كيف أصبحتَ؟ قال: خيرٍ، يعني: بخير، تحذِفها دائماً أنت، تقول خيرٍ؟ لا، لا يصلحُ هذا، لماذا؟ لأن هذا يُحفَظ ولا يُقاس عليه، التقدير على خيرٍ، أو بخير.
وقول الشاعر:
إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبيلَةً
…
أَشارَتْ كُلَيْبٍ بالأَكُفِّ الأَصابِعُ
الأصابع أشارت إلى كليبٍ، فحُذِفت (إلى).
وَكَرِيمَةٍ مِنْ آلِ قَيْس أَلَفْتُه
…
حتَّى تَبَذَّحَ فَارتَقَى الأَعلامَا
أي: فارتقى (إلى) الأعلام.
والمطّرد كقولك: بكم درهمٍ اشتريتُ هذا؟ فدرهمٍ مجرور بـ (مِن) محذوفة عندَ سيبويه والخليل، وبالإضافة عندَ الزجاج، فلا شاهدَ فيه على الثاني، وإنما المراد به الأول: بكم درهمٍ، درهمٍ: هذا اسم مجرور بـ (مِن) مُقدّرة، إذن: حذفت (من) ونُوِي عملها .. وبقي عملها.
إذن: هذا استثناء من القاعدة، أنه لا يُحذَف الحرف ويبقى عمله، إلا في مواضع محفوظة معدودة، وعدَّها المرادي في شرحِه، وكذلك الأشموني ثلاثَ عشرة موضعاً، فارجع إليها.
فعلى مذهبِ سيبويه والخليل يكون الجار قد حُذِف وأبقي عمله، وهذا مطرد عندهما في مميّز (كم) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجرّ.
إذن: القاعدةُ أنه لا يعملُ الحرفُ محذوفاً، وإنما إذا حُذِف الحرف رجعنا إلى القاعدة السابقة:
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لْلِمُنْجَرِّ .. هذا الأصل، وإنما مواضع معدودة في لسان العرب تبقى على عملها بعد حذفها، عدَّ منها الأشموني ثلاثة عشر موضعاً: منها: لفظ الجلالة في القسم دونَ عوض، نحو: اللهِ لأفعلن.
الثاني: بعدَ (كم) الاستفهامية إذا دخلَ عليها حرفُ جرّ: بكم درهمٍ اشتريت، أي: من درهمٍ خلافاً للزجاج في تقديره الجرّ بالإضافة كما سبق.
وكذلك في جواب ما تضمَّنَ مثل المحذوف، لو قال قائل: بمن مررتَ؟ قال: زيدٍ، يصحُّ أو لا؟ يصح؛ لأنهم قالوا: هذا في جواب سؤال.
على كلٍّ؛ أكثر ما يكون في موضعين: الذي هو القسم: اللهِ لأفعلن، ومدخول (كم)، وما عداه من المواضع التي ذكرها الأشموني أكثرُها إما قليل جداً وإما يُنازع فيه، وأما المطّرد فهو في موضعين: لفظُ الجلالة في القسم دون عوض: اللهِ لأفعلن، وبعد (كم) الاستفهامية.
بقي مسألة هنا وهي: أن حروف الجر ثلاثةُ أقسام، كل ما سبق:
الأول: حرفُ الجر الأصلي، وهو ما له معنى خاص، المعاني السابقة: بَعِّضْ وَبَيِّن .. إلى آخره، نقول: هذا له معنى خاص ويحتاج إلى مُتعلَّقٍ مذكورٍ، أو محذوف، أو مذكوراً كان أو محذوفاً، لابد له من مُتعلّق يتعلّق به، وسيأتي بيان المتعلقات.
الثاني: حرفُ جرّ زائد، هذا يمرّ معنا كثير، حرفُ الجر الأصلي: له معنى خاص، ولابد له من مُتعلّق يتعلّقُ به، وهو المراد بقول الناظم:
لَابُدّ لِلجَارِّ مِن التَّعَلُّقِ
…
بِفِعلٍ أَو مَعنَاهُ نَحوَ مُرتَقِي
النوع الثاني: حرفُ الجرّ الزائد، وهو ما ليسَ له معنى خاص، يعني: سُلِبَ منه المعنى الذي وُضِع له في لسان العرب، فتأتي (مِن) لا للتبعيض ولا لبيان الجنس، ولا لابتداء الغاية، مُطلقاً لا تأتي لأي معنى من هذه المعاني: ما ليسَ له معنى خاص، وإنما يُؤتى به لمجرّد التوكيد.
إذن: له معنى آخر، وهو التوكيد، والتوكيد هذا معنى مُشترَك .. انتبه، معنى مُشترك لكل حرف زائد، سواء كان (مِن) أو اللام أو .. أو .. إلى آخره، أيُّ حرف يُزاد فالمراد به التوكيد، فهو معنى مشترك، وليس له مُتعلَّق لا مذكور ولا محذوف.
إذن: حرف الجر الزائد ليس له معنى خاص وليسَ له مُتعلّق لا محذوفا ولا مذكورا.
الثالث: حرفُ الجرّ الشبيه بالزائد، هذا أخذَ من كل قسم شيء، له معنى خاص، وليس له مُتعلّق؛ له معنى خاص أخذه من الأصل، وليس له متعلق أخذَهُ من الزائد، ولذلك قيل: شبيهٌ بالزائد.
وهو ما له معنى خاص، كالحرف الأصلي وليسَ له متعلق كالزائد، فقد أخذَ شَبهاً من الحرف الأصلي وأخذَ شبهاً من الحرف الزائد، ومثاله: لولا، ورُبَّ، ولعل، لولا تأتي لامتناع .. امتناع لوجود، مِثل السابق الذي ذكر: لولاي، قلنا: هذه دخلت على المبتدأ فالياء مُبتدأ، ولولا هل لها مُتعلّق؟ ليس لها متعلّق، هل لها معنى؟ نعم، لها معنى.
طيب. رُبّ لها معنى في التقليل قليل وفي التكثير كثير، حينئذٍ نقول: دلّت رُبّ على التكثير أو دلّت على التقليل. إذن: لها معنى خاص، لكن هل لها مُتعلّق؟ لا، ليس لها مُتعلّق، لعلّ اللهِ، نقول: هذا أفادَ الترجي، فهو حرف شبيهٌ بالزائد؛ لأنه له معنى خاص، لكن ليسَ له متعلق، فلولا تدلُّ على امتناع لوجود، ورب تدلُّ على التكثير أو التقليل، ولعل تدلُّ على الترجي، وليسَ لواحد منها متعلق.
إذن: هذه الحروف الثلاثة الأنواع، منها ما له مُتعلَّق وهو الحرف الجرّ الأصلي فقط، وله معنى خاص، ومنها ما له معنى خاص، وليسَ له مُتعلّق وهو الحرف الشبيه بالزائد، وأما الزائدُ فليسَ له معنى خاص، وله معنى وهو التوكيد مُغايِر لمعناه الأصلي، وليسَ له متعلق.
المسألة الثانية: يجبُ أن يكون للجارّ متعلّق يتعلّقُ به، وهو فعل أو ما يُشبه الفعل، أو مؤُوّل بما يشبهه، هذه ثلاثة أشياء.
((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) [الفاتحة:7]؟ عَلَيْهِمْ: جارّ ومجرور متعلق بقوله: أَنْعَمْتَ، ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)) [الفاتحة:7]؟ عَلَيْهِمْ مُتعلّق بـ الْمَغْضُوبِ وهو اسم مفعول؛ مُتعلّق به على أنه نائب فاعل.
((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)) [الأنعام:3] فِي السَّمَوَاتِ: مُتعلق بلفظ الجلالة؛ لأنه في معنى المشتق، قلنا سابقاً: إن (الله) مُشتقّ في الأصل هذا الصحيح، فحينئذٍ أصله الإله، والإله فِعال بمعنى مفعول، تجد في الشروح يقولون: أن الله المراد به المسمى بهذا الاسم، هكذا يقولون -الأشموني والمكودي وغيرهم-، بناء على أنه جامد ليس بمشتقّ، مُسمّى بهذا الاسم، إذن: أوّلُوه بالمسمى والمسمى اسم مفعول، فتعلّقَ به قوله:((وَفِي الأَرْضِ)) [الأنعام:3] وهذا فاسد، بل الصواب: أنه مُتعلّق باللفظ نفسه ليس بتأويل، مُتعلّق باللفظ نفسه ودلّ على أنه مُشتقّ، ولذلك جاء قوله:((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)) [الزخرف:84]، هي الآية نفسها:((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)) [الزخرف:84]، دلَّ على أن تلك الآية التي في سورة الأنعام مُفسَّرة بهذه، حينئذٍ نقول: اللهَ أصله إله، ولن نُؤوّله بإضافة المسمى إلى الاسم، فإن لم يكن شيء من هذه موجوداً في اللفظ قُدِّر الكون المطلق، إذا لم يكن في اللفظ فعل ولا شبهُ الفعل أو مؤولٌ بما يشبه الفعل حينئذٍ ليسَ لك مفر إلا أن تُقدِّر له كوناً مطلقاً، كائن أو يكون.
فإن لم يكن شيء من هذه موجوداً في اللفظ قُدِّر الكون المطلق مُتعلقًا، كما تقدّمَ في الخبر والصلة.
ويُستثنى من ذلك خمسة أحرف، التي قلنا: بأنها شبيهةٌ بالزائد.
وهو خمسة أحرف:
الأول: الحرف الزائد ليس له متعلق.
الثاني: لعلّ، في لغة عُقيل؛ لأنها بمنزلة الزائد، لذا مجرورها في موضع رفع بالابتداء، بدليل ارتفاع ما بعدَها على الخبرية.
الثالث: لولا، على قول سيبويه، فهي بمنزلة لعل.
الرابع: رُبّ، كلها ذكرناها في الأمثلة السابقة: نحو: رُبّ رجلٍ صالحٍ لقيتُ أو لقيتُه؛ لأن مجرورها مفعول في الأول ومبتدأ في الثاني، أو مفعول أيضاً على الاشتغال .. على الأوج التي ذكرناها سابقاً، ويُقدّر الناصب بعد المجرور لا قبلَ الجار؛ لأن رُبّ لها الصدر من بين حروف الجرّ، وإنما دخلت في المثالين لإفادة التكثير أو التقليل لا لتعديةِ العامل، وقال الجمهور: هي فيهما حرف جر مُعدٍّ.
خامساً: حرف الاستثناء، خلا وعدا وحاشا، هذه ليس لها مُتعلّق.
هذا ما يتعلق بحروف الجر على جهة الاختصار.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!