الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* حكم (مع) ولغاتها
* حكم أسماء الغايات وحالاتها
* حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، مع الشروط.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وقفنا عندَ قولِ الناظم رحمه الله تعالى:
وَأَلْزمُوا إِضَافَةً لَدُنْ فَجَرّْ
…
وَنَصْبُ غُدْوَةٍ بِهَا عَنْهُمْ نَدَرْ
وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ
…
فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ
وقفنا عندَ قولِه: وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ.
ذكرَ في هذين البيتين لفظتينِ مما يلزما الإضافةَ إلى المفرد، وهما لفظة (لدن) وسبقَ الكلام عليها، وقال:(وَمَعَ)، هذه اللفظة الثانية، وهذه معطوفة على قوله: وَأَلْزمُوا إِضَافَةً لَدُنْ وَمَعَ، و (مع): معطوف على (لدن)، ثم معْ بالإسكان هذا يُعتبر مبتدأ، وقليل خبره، و (فِيهَا) جار ومجرور مُتعلّق بقوله: قليل، هذا الذي يصحُّ به المعنى، وأما إذا جُعل (مع) على أنه مبتدأ، ثم ما بعدَه خبر له فسدَ المعنى، لماذا؟ لأنه أرادَ أن يُبيِّن أن (مع) مما يلزمُ الإضافة إلى المفرد، حينئذٍ لو فصلناها وقلنا:(معَ) مبتدأ، (مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ)، كأنه بيّنَ لنا أن (معَ) فيها لغتان: التحريك بالفتح، والإسكان وهي اللغة الثانية، وهذا ليسَ مراداً للناظم؛ لأنه ما زالَ يُعدّد لنا الأسماء التي هي ملازمة للإضافة معنى ولفظاً أو معنى دون لفظ.
إذن لا يصحُّ الإعراب إلا أن نجعل (مع) معطوفاً على قوله: لدن، وألزموا إضافة لدن ومع، كلٌّ منهما مضاف إلى المفرد.
مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ: هذه لغة أخرى .. مبنية على السكون كما سيأتي في محلّه، ومع: أي من الأسماء اللازمة للإضافة (مع)، وهي اسمٌ لموضع الاجتماع مُلازمة للظرفية إذا أُضيفت، فهي اسمُ لمكان الاصطحاب أو وقته، والمشهورُ فيها فتحُ العين وهو فتحُ إعراب، فتكون منصوبة على الظرفية مع ملازمة للظرفية، وتُفرد كذلك، فحينئذٍ يلزمُ نصبُها على الحال، نقول:(جاء الزيدان معاً) يعني: جميعاً، (معاً) هذا إعرابه حالٌ من الفاعل الزيدان، وجاءَ القومٌ معاً، أي جميعاً كذلك، فحينئذٍ تكون حالاً من المثنى وتكون حالاً من الجمع فيستويان؛ اللفظ واحد معاً، جاء الزيدان معاً، الزيدان جاءا معاً، الزيدون جاؤوا معاً .. حينئذٍ كلاهما منصوب على الحالية، أي: جميعاً.
و (مع) عرفنا أنها مما تلزمُ الإضافة إلى المفرد، وقد تنقطعُ عنه فحينئذٍ تنتصبُ على الحالية؛ لأنه يرجعُ إليها التنوين تقول:(جئتك معَ العصر)، يعني وقت العصر، وجئت مع زيد، فهي مُفيدة للمصاحبة.
واختلفوا فيها: هل هي ثُنائية الوضع أم ثلاثية؟ مَعْ حرفان ميم والعين، ثم إذا نصبتَها قلت: معاً، ولذلك هذان اختلافان هل هي أصلية من حيث الثنائية أم أنها ثلاثية؟ يعني هل هي أولُ ما وُضِعت على حرفين الميم والعين (مَعْ)، أو أنها ثلاثية وحُذف اللام .. لامُ الكلمة كما حُذفت من (يد ودم)؟ (يد) أصلها يديٌ، (يدٌ) ليست على حرفين، وإنما هي على ثلاثة أحرف، وأين الحرف الثالث؟ نقول: هذا لامُ الكلمة حُذِف اعتباطاً يعني: لغير علة تصريفية، يُسمّى حذفاً اعتباطياً، وإذا كان حذفاً تصريفياً فهو القياس هذا الأصل عند الصرفيين.
فحينئذٍ هل أصلُها ثنائية أم ثلاثية وحُذف منها اللام كما حذف من يد؟ يد قلنا هذه ثلاثية الأصل وحُذف منها اللام، فأصلُها يديٌ فَعْلٌ، دمٌ أصلها (دميٌ)(دموٌ) على الخلاف في المحذوف هل هو ياء أم واو، فحينئذٍ حُذفت اللام التي هي الياء من (يد)(يديٌ)، والياء أو الواو من (دم)(دمي) أو (دمو) اعتباطاً؛ لغير علة تصريفية.
هل (مع) مثلُها وأصلها كـ (فتى) يعني (معي) تحرَّكت الياء وانفتح ما قبلَها فوجبَ قلبُها ألفاً، ثم رجعت عندَ قطعها عن الإضافة؟ هذا محلّ خلاف بين النحاة.
كونها ثنائية الوضعِ هو قولُ الخليل بن أحمد الفراهيدي أن أصلها ثنائية، وهذا هو الأصلُ إذا سُمِع لفظٌ على حرفين وإن كان الأصل في وضع الكلمة التي هي اسم أن تكون على ثلاثةِ أحرف كذلك الفعل، لكن لا يُحكَم بكون ثَمَّ حرفاً زائداً أو حرفاً ثالثاً محذوفا وهو أصل في الأصل؛ إلا إذا ذُكِر في موضع آخر، يعني صُرِّح به حينئذٍ نقول: ثَم حرفٌ محذوف وحذفُه يكون اعتباطياً، وأمّا إذا سُمِع لفظ هكذا (مع) حينئذٍ نقول: الأصل أنه وُضِع على حرفين، وهذا الحرفُ المحذوف الله أعلم به، وإن كان الأصلُ أن يكون ثَم ثالث، ولكن يُنطَق به كما وُضِع، ولذلك قولُ الخليلِ: أنها ثنائية الوضع، يعني وُضِعت على حرفين، وذهبَ يونس والأخفش إلى أنها ثلاثية، وحُذِف الحرفُ الثالث اعتباطاً كما حُذِفت الياء من (يد) والواو أو الياء من (دم).
ثم ينبني على هذا الخلاف إذا قُطِعت عن الإضافة وقيل: جاء الزيدان معًا، جاءوا معا .. هذه الألف هل هي مُبدلة من تنوينٍ أم أنها هي الحرف الذي حُذِف، فمن قال إن أصلها ثنائية الواوا فحينئذٍ حَكَم على هذه الألف بأنها هي التنوين مثل الألف في (زيد) رأيت زيدا؛ فالألفُ هذه مُنقلبة عن التنوين، إذن (جاءوا معا) نقول: هذه الألف منقلبة عن التنوين، وهذا قولُ مَن قال بأنها ثنائية الوضع.
ومَن قال بأنها ثلاثية، قال: هذه الألفُ هي التي حُذِفت اعتباطاً، فهي ثلاثية الوضع، فلما أُضيفت حُذِفت منها اللام؛ لامُ الكلمة وأصلها ياء، أصلها (معي) مثل (فتي)، تحرَّكت الياء في فتى وانفتح ما قبلها فوجب قلبُها ألفاً فقيل: فتى، عصا عصوَ، تحرّكت الواو وانفتح ما قبلَها فوجبَ قلبُها ألفاً، فقيل: عصا، مثلها معيَ، (هَذَا ذِكْرٌ مِنْ مَعِيَ) هكذا قُرئ، فقال بعضهم: أن هذه الياء هي أصل الألف التي رجعت بعد القطع عن الإضافة.
فذهبَ الخليل إلى أن هذه الألف بدلٌ عن التنوين بناء على أنها ثنائية، وذهب يونس والأخفش إلى أن هذه الألف هي لام الكلمة كالألف في فتى، وهذا بناء على أنها ثلاثية.
الموضع الثالث الذي اختلفَ فيه النحاة وفيه (مع)، هل هي مُعرَبة مطلقة في كل الأحوال وفي كل اللغات أم فيه تفصيل؟ مذهبُ سيبويه أنها مُعربة مطلقاً في كل حال من الأحوال، وفي كلّ لغة من اللغات، فحينئذٍ: مَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ سواء فُتحت العين أو سُكّنت العين، فإن سُكّنت العين حينئذٍ تكون ضرورة كما سيأتي في البيت الذي يتلوه الشارح، وما عدا ذلك فحينئذٍ الأصلُ فيه الفتح، ولا تُسكّن إلا في ضرورة الشعر، فحينئذٍ هي لغة واحدة وهي مُعربة، وذهبَ كثير مِن المتأخرين إلى التفصيل، إلى أن (مع) فيها لغتان، لغة وهي مُعربة؛ وذلك إذا حُرّكت بالفتح التي عناها المصنف بقوله: و (مع)، ولغة هي مبنية، سيأتي التعليل وهي لغة غنم وربيع، حينئذٍ عندَهم مبنية وهي على الأصل في البناء وهي كونها مبنية على السكون.
إذن: وَمَعَ المعربة مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ: وهو البناء، وهذا مذهبُ كثير من المتأخرين وظاهرُ الناظم على هذا، التفصيل في (مع) بأنها قد تكون معربة وقد تكون مبنية، مُعربة في سائر اللغات إلا في لغة؛ فهي مبنية عندهم على السكون وهو الأصل فيها.
وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ: عرفنا (مع) أنه معطوف على ما قبله، يعني وألزموا إضافة أيضاً (مع)، كما ألزموا الإضافة في (لدن).
(مَعْ) بالبناء على السكون -وهذا ظاهر النظم- قليل، قليل فيها، فيها قليل، بمعنى أنه قليل، وإذا قيل قليل فمعناه أنه ليسَ باللغة الشائعة في لسان العرب، إذا حُكِم على اللفظ المسموع بأنه قليل نحكم عليه بأنه ليسَ هو المطرد في لسان العرب، وإنما نحكم بكونه كثيراً مطرداً إذا كان مقابلاً للقليل.
إذن قليل يقابله الكثير، وهو ما افتتح به البيت.
هذا حكمُه إذا اتصل بياء مُتحرّك، ونُقِل فتح وكسر، نُقِل في اللغة الثانية وهي لغة السكون فتح وكسر، متى فتح وكسر؟ إذا تلاها ساكن، إذا تلاها ساكن جازَ فيه أمران في العين، جازَ فيه أمران: الفتح تخفيفاً، والكسرُ على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
إذا نطقت بـ (معَ) على الأصل فيها -وهي المعربة- حينئذٍ لا إشكال فيه إذا تلاها ساكن (معَ القوم)، لا بأس به، (معَ العالم)، (معَ الرجل) .. نقول: هذا لا إشكال فيه، وأمّا إذا نطقت بها مبنية على السكون فحينئذٍ يلتقي ساكنان مع الـ، نقول:(أل) هذه اللام ساكنة فالتقى ساكنان، فحينئذٍ نُقِل في لسان العرب تحريك هذه المبنية على السكون .. تحريكها بالفتح فتقول:(جاء مع القوم)، وهذه مبنية على السكون مُقدراً، لماذا مُقدّر؟ لأن الأصلُ فيها أنها ساكنة، (جاء مع القوم)، تقول:(مع) هذا مبني على السكون المقدر منعَ مِن ظهوره اشتغالُ المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، الأصل في التخلص من التقاء الساكنين أن يكون بالكسر هذا الأصل، فلماذا عُدِل إلى الفتح؟ طلباً للخفة، ولا بأس بأن يُقال: بأن أصلها المعربة؛ لأنّ الإعراب هو أصلٌ والبناء فرع، فحينئذٍ لُوحظ فيه الأصل وهو الفتح، وإذا قلت:(معِ القوم)، كسرتَ حينئذٍ على الأصل للتخلص من التقاء الساكنين.
قال هنا: وَنُقِلْ، يعني سُمِع في لسان العرب في (معْ) الساكنة إذا اتصل به ساكن فَتْحٌ وَكَسْرٌ، فجعلَ الفتح والكسر لأجل السكون؛ لذلك قال: لِسُكُونٍ، اللام هذه لام .. وَنُقِلْ فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ، يعني تعليل .. من أجلِ السكون إذن هو حادث أم أصل؟ حادث، إذن تفهم من هذا أن الأصل في (مع) الساكنة أنها ساكنة، وذلك فيما إذا تلاها مُتحرّك فتبقى على الأصل، وأما إذا تلاها ساكن فحينئذٍ الأصل في التخلص من التقاء الساكنين أن يكون بالكسر، فما جاءَ عن الكسر لا يُعلّل، وإنما نحتاجُ أن نعلل ما فُتح فيه (مع)، فنقول: طلباً للخفة، ولذلك قال: لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ، نحو:(مع القوم)، فالفتح طلباً للخفة والكسر على الأصل للتخلص من التقاء الساكنين، والمرادي هنا قال -في شرح البيت-: هما مرتبتان لا مفرعان، يعني الفتح والكسر هنا مرتبتان، إذن كأنهما لغتان، وليسا مفرعتين، بمعنى أنهما ليسا فرعاً لـ َمعْ الساكنة، وهذا فيه نظر، بل الصواب أنه فرعٌ لـ َمعْ الساكنة.
قال المرادي: هما مَرتبتان لا مفرعان، وهذا قول قِيلَ بأنه غير صحيح كما قال: المكودي، بل هما مفرعان لا مرتبتان؛ لأن لغة الفتح لا يحدث الساكن فيها حُكماً؛ لأنها باقية على الأصل، تقول: جئتُ مع زيد، إذن متى يكون فيه القولان -الفتح والكسر-؟ لا بد أن يكون مُتعلقاً بـ (مع) الساكنة؛ لأن لغة الفتح لا يحدث الساكن فيها حُكماً، وإنما يُحدثه في الساكنة .. النوع الثاني الساكنة.
ويدلّ على صحة هذا قوله: لِسُكُونٍ. فجَعلَ الفتح والكسر لأجل السكون، اللام هنا لام التعليل، فدلَّ على أن ذلك مُفرّع عن سابق وهو أصل، وليس كلّ منهما أصل، يعني مُراد المرادي هنا أن الفتح والكسر منقولٌ في (مع) الساكنة أن كل منهما لغة، حينئذٍ مع القوم لغتان، والصواب أنهما ليسا لغتين، بل اللغة هي (مع) الساكن، حينئذٍ إذا التقى ساكن أو تلاها ساكن حينئذٍ رجعنا إلى الأصل، وهو أنه لا يمكن أن ينطق بساكنين متتاليين، فصار تحريكُ (مع) الساكنة صار فرعاً لا أصلاً، فليسَ لغة مستقلة، وإلا لقلنا:((قُمِ اللَّيْلَ)) [المزمل:2] صار (قُمِ) هذا لغة مستقلة، نقول: لا، بل هو فرع وليس بأصل، فكذلك قوله هنا: ونُقل يعني سُمع، في لغة السكون .. قيّدها كذا، في لغة السكون سمع: فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ، دلَّ على أن هذين النوعين الفتح والكسر في (معْ) الساكنة أنه فرع لا أصل، فحينئذٍ لا وجهَ لقول المرادي هنا بأنهما مرتبتان لا مفرَّعان.
هذا الأصل في مع أنها تُضاف إلى ما بعدها، وتفرد (معَ) وتنصب على الحال بمعنى جميعاً، فتخرج عن الظرفية.
إذن متى نعرب (مع) بأنها ظرف؟ إذا أُضيفت، فإذا قُطعت عن الإضافة حينئذٍ وجبَ نصبها، لا يحتمل غير النصب، وبماذا نُعربها؟ نعربها حالاً بمعنى جميعاً، سواء كان صاحب الحال مثنى أو جمعاً، ولا يُتصوّر أن يكون مُفرداً، لا تقل:(جاء زيد معاً)؛ لأن المصاحبة إليه، لا بد أن تدل على المصاحبة، على الجمعية، وهذا لا يُتصور إلا فيما معه فرد آخر أو أفراد، وأما الواحد فلا يُقال:(جاء زيد معاً)، وإنما تقول:(جاء الزيدان معاً)، (جاء الزيدان) فعل وفاعل، (معاً) هذا منصوب على الحالية بمعنى الجميع، وكذلك (جاء الزيدون معاً)، معاً جميعاً هذا منصوب على الحالية.
كلما مرّ بك (معاً) هكذا بالنصب، حينئذٍ تُعربها حالاً سواء كان بمعنى جميعاً .. سواء كان صاحب الحال مثنًى أو جمعاً ولا يصحّ أن يكون مفرداً؛ لأن (مع) للمصاحبة ولا يتصور المصاحبة بشيء واحد.
فحينئذٍ تُفرد، فإذا قيل: تفرد والأصل فيها أنها ثلاثية، تفرد مردودة اللام على قول الأخفش ويونس، وهو أن (مع) ثلاثية، فإذا قُطعت عن الإضافة فالأصلُ أنها ترجع إلى أصلها وهو كونها مُؤلّفة من ثلاثة أحرف، فإذا قيل:(جاء الزيدان معا)، الألف هذه قيل إنها هي الأصل، وهي كألف فتى أصلها معيَ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فوجب قلبها ألفاً، ولذلك قيل: تُفرد (مع) مردودة اللام على القول الذي مَضى عليه الأخفش وغيره أي: تُفرَد عن الإضافة مردودة اللامِ لتتقوى بها حال قطعها عن الإضافة، جبراً لما فاتها من الإضافة، فأصلُ (معاً) من قولك:(جاء الزيدان معاً) معي، ففُعِل به ما فعل بـ (فتى)؛ فتيَ تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فوجب قلبها ألفاً.
ففتحةُ العين على هذا فتحة بنية، إذا قيل: معاً، جاء الزيدان معاً، العين هذه حركته حركة بنية لا حركة إعراب، لأن الحركة حينئذٍ تكون مُقدّرة على الألف المحذوفة، كما تقول: جاء فتى، فتى: فاعل مرفوع، ورفعُه ضمةٌ مقدرة على الألف المحذوفة التي للتخلص من التقاء الساكنين.
كذلك هنا (معاً)، نقول: معاً، هذه حال منصوبة، ونصبُها فتحةٌ مقدرةٌ على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، مثل: فتى، هذا على القول بأنها ثلاثية وأن الألف هذه رجعت إلى حالها، ففتحة العين على هذا القول فتحت بنية، والإعراب مُقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، التقى الساكنان الألف والتنوين، كما تقول: فتىً، جاء فتىً، مررتُ بفتىً، في هذه الأحوال الثلاثة يكونُ الإعراب مُقدرا، ثم محل الإعراب الذي هو الحرف محذوف للتخلص من التقاء الساكنين، بخلاف (جاء الفتى)، و (رأيت الفتى)، و (مررت بالفتى)، الإعراب حينئذٍ يكونُ مُقدّراً كالأول إلا أن محلّ الإعراب وهو الحرف يكون ملفوظاً به، جاء الفتى الألف ملفوظ بها، (رأيتُ الفتى)، (مررت بالفتى) الألف ملفوظٌ بها، أما إذا دخلَه التنوين، وذلك فيما إذا جُرّد عن (أل) –نُكّر- وجبَ حينئذٍ تنوينه، إذا كان نكرة وجبَ تنوينه، فتقول: جاء فتىً التقى الساكنان: الألف والتنوين، فحُذفت الألف لعدمِ إمكان تحريكها على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
وهذا ما اختارَه ابن مالك رحمه الله تعالى أن أصل مَع ثلاثية، وأن الألف في معا (جاء الزيدان معا) أن الألف هذه هي أصل الكلمة، كانت محذوفة مع الإضافة فرجعت، وعلّة الحذف هي الاعتباط.
وذهبَ الخليل إلى أن الفتحة فتحة إعراب، (معاً) العين هذه متحركة بالفتح، فتحة إعراب وليس مِن باب المقصور واختارَه أبو حيان، فإذا أُفرِدت خرجَت عن الظرفية وتُنصب على الحال بمعنى جميعاً، وتُستعمل للمثنى وللجمع، يعني تُستعمل للجمع كما تُستعمل للمثنى، حينئذٍ نقول: مع الأصل فيها إذا أُضيفت أن تُعرب بالنصب على الظرفية، فإذا أُفردت بمعنى قطعت عن الإضافة وجبَ نصبها، على أنها حال بمعنى جميعاً، سواء كان صاحب الحال مثنى أو جمعاً.
يبقى الإشكال في حركةِ العين، (جاء الزيدان معاً)، العين هذه هل حركتها حركة إعراب أم حركة بنية، محلّ الخلاف مُنصبٌّ على الخلاف في (مع) هل هي ثنائية الوضع أم ثلاثية الوضع؟ فمَن قال بأنها ثنائية الوضع قال:(معاً) العين هذه حركتها حركة إعراب، وهو قول الخليل.
ومن قال بأنها ثلاثية وهو قول يونس والأخفش قال: بأن هذه العين حركتها حركة بنية، وأن الفتحة مُقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين.
وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ
…
فَتْحٌ وَكَسْرٌ: مَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ يعني السكون فيها قليل، ويثبت السكون إذا تلاها متحرك، (جاء زيد معْ عمروٍ، معْ زيدٍ) .. تبقى الساكن كما هي؛ لأن ما بعدَها يكون متحركاً، وحينئذٍ لا نحتاج إلى الحالة الثانية.
وَنُقِلْ فَتْحٌ وَكَسْرٌ: فرعان، والأصل السكون، إذن الأصل السكون مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ، وَنُقِلْ فَتْحٌ وَكَسْرٌ في التخلص من التقاء الساكنين، وليسا بلغتين مستقلتين، بل هما فرعان عن (معْ) الساكنة، بدليل ماذا؟ أشارَ إلى ذلك الناظم بقوله: لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ، يعني إذا اتصلَ بـ (معْ) الساكنة سكون .. تلاها سكون، حينئذٍ فتح وكسر نقل، في التخلص من التقاء الساكنين.
إذن الناظم يرى أن (معْ) الساكنة إذا فُتحت أو كُسرت صار الفتح والكسر فرعين لا أصلين كما ذهب إليه الشارح وهو المرادي.
وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ فَتْحٌ:
(فتحٌ) إعرابه نائب فاعل، وَكَسْرٌ معطوف عليه، لِسُكُونٍ جار ومجرور متعلق بقوله: يَتَّصِلْ، يتصل بماذا؟ بمعْ الساكنة، يعني يتلوها؛ المرادُ بالاتصال هنا أنه يتلوها، مع القوم، إذن (مع القوم) هذا يحتمل أنها معربة ويحتمل أنها مبنية، لو قال قائل:(جئتُ مع القوم)، مع هنا يحتمل أنها معربة ويحتمل أنها مبنية، مُعربة لأنها محركة بالفتح و (معَ) على الأصل، ويُحتمل أنها ساكنة وحُركت للتخلص بالتقاء الساكنين وكان تحريكه بالفتح طلباً للخفة، فتجوّز هذا وهذا عند الإعراب.
قال الشارحُ -ابن عقيل-: وأما (مع) فاسم لمكان الاصطحاب أو وقته، يعني تأتي ظرف زمان وظرف مكان، مرادُه بهذا التعبير أن (مع) تأتي ظرف مكان وتأتي ظرف زمان، تقول: جئتك مع العصر، يعني مع وقت العصر، فهي ظرف زمان، حينئذٍ تدلّ على المصاحبة في الوقت .. في الزمن، وتأتي ظرف مكان، ولذلك صحَّ أن يُخبر بها عن الذات، لما جاءت ظرف مكان صحَّ الإخبار بها عن الذات، فتقول:(زيد معك)، زيد مبتدأ، معك مع نقول: منصوب على الظرفية مُتعلّق بمحذوف خبر المبتدأ.
ولا يُخبر عن المبتدأ الجثة باسم زمان، وَلا يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَا عَنْ جُثَّةٍ، هنا لو كانت اسمَ زمان على القاعدة مذهب جمهور البصريين على أنه لا يجوزُ أن تقول:(زيد معك)، لكن لما كانت ظرفَ مكان صحَّ حينئذٍ كما تقول:(القتالُ أمامك)(زيد معك)، نقول:(معك) هنا ظرف مكان، بدليل صحّة الإخبار بمع عن الجثة؛ إذ لو كان ظرف زمان لما صحَّ هذا التركيب عندَ جمهور البصريين، لماذا؟ لأنّ اسمَ الزمان لا يخبر به عن الجثة كما سبق تقريره عندَ قوله: وَلا يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَا عَنْ جُثَّةٍ، وأما: وَإِنْ يُفِدْ هذا اختيار الناظم ليس باختيار جمهور البصريين.
قال: وأما (مع) فاسم لمكان الاصطحاب أو وقته، والغالبُ استعمالها مضافة، فتكون ظرفاً بالنوعين السابقين، وعند الرضي أنها تكون ظرفَ زمان ومرادفة لعند، عند قلنا تأتي ظرف زمان وتأتي ظرف مكان، بحسب ما يضاف إليه، فتُجر بـ (مِن) يعني (مع) عند الرضي لما كان في منزلة (عند) قال: تُجرّ بـ (من)، فأوردَ عليه قراءة بعضهم ((هَذَا ذِكْرٌ مِنْ مَعِيَ)) [الأنبياء:24] فمِن هنا حرفُ جرّ، ومعي يعني ذكر من عندي، فمع هنا بمعنى عند.
وحكاية سيبويه (ذهبتُ مِن مع)، يعني ذهبتُ من عنده، وعندَ لا تُجرّ إلا بمن.
وَعِندَ النَّصبُ فِيهَا يَستَمِرُ
…
لَكِنَّهَا بمِن فَقَط تُجَرُّ
نحو (جلسَ زيد مع عمرو) و (جاء زيد مع بكر)، والمشهور فيها فتحُ العين وهي مُعربة، هي كانت مفتوحة العين .. مُعربة، والقول المشهور فيها لا يُنافي أن تكون مبنية، المشهور الفتح، وإذا كانت مفتوحة العين حينئذٍ هي مُعربة ولا إشكال في هذا، ولذلك البناء قليل، ولذلك قيّده ومع معْ فيها قليل، لما قيّده بالقلة فهمنا أن (مع) الأولى هي الأكثر، وهي معربة؛ لأنها ثلاثي الأصل، وفتحتها فتحة إعراب ومِن العرب مَن يسكِّنها ومنه قوله:
فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُم
…
وَإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُم لِمَامَا
وَهَوَايَ مَعْكُم: سكّنَ العين.
فهنا (مَعْكُم) جاءت في الشعر خاصة، وهي بإسكان العين، فهل هي نفسُها الأولى أم أنها غيرها؟
مذهبُ سيبويه مُطلقاً أنها معربة في كل حال وفي كل لغة، وأوردَ عليه هذا البيت و (هواي معْكم) قال: هذا تسكينُ ضرورة، يعني مِن أجل الشعر خاصة.
وزعمَ سيبويه أن تسكينها ضرورة وليس كذلك، -من المواضع القليلة التي يرد فيها ابن عقيل على سيبويه، هذا الموضع وبشدة-، يقول: وزعمَ سيبويه أن تسكينَها ضرورة وليس كذلك، بل هو لغة ربيعه وغنْمٍ بإسكان النون، وهي عندهم مبنية على السكون.
إذن (مع) الصواب فيها لغتان: الإعراب والبناء خلافاً لسيبويه رحمه الله تعالى.
فحينئذٍ نقول: مُعربة بالفتح على المشهور، وهي التي أطلقها الناظم و (مع)، وهي في لغة ربيعة وغنْم، نقول: هي مبنية على السكون، مبنية لجمودها .. للزومها الظرفية، وقيل: لتضمّنها معنى المصاحبة، وهو مِن المعاني التي حقّها أن تُؤدّى بالحرف ولم يوضع لها حرف كالإشارة، إذن لم بُنيَت عندهم؟ قالوا: لأنها هي اسم ولا شك في ذلك، لذلك يدخلها التنوين وسبقها حرفُ جرّ على القراءة السابقة، وحكاية سيبويه فدلَّ على أنها اسم، فحينئذٍ هي اسمٌ لا إشكال فيه، لم بُنيت والأصل في الاسم الإعراب مع كونها على ثلاثة أحرف؟ إذا قيل: بأنها ثنائية في الأصل أشبهت الحرف، وإذا قيل بأنها ثلاثية حينئذٍ نحتاج إلى معنى، فنقول: المصاحبة كالإشارة، كالتمني، كالتشبيه .. معنى مِن المعاني فيحتاج إلى حرفٍ يؤدّى به، فحينئذٍ (معْ) بإسكان العين مبنية لتضمّنها معنى حرف كان حقّه أن يُوضع ولكنه لم يُوضع مثل الإشارة، قلنا (ذا) اسم إشارة مبني لتضمّنه لحرف، هذا الحرف لم يُوضَع؛ لأن الإشارة معنى من المعاني وحقّها أن تُؤدّى بالحروف.
والقولُ ببنائه إذا سكنت قولُ الكسائي واختارَه المتأخرون مِن النحاة، يعني أكثر المتأخرين على التفصيل، من أن (مع) تكون معربة وتكون مبنية، وعلى السكون لأنه الأصل في البناء وَالأَصْلُ فِي الْمَبْنِيِّ أَنْ يُسَكَّنَا، إذن لا يُسأل لماذا سُكنت وإنما يسأل لماذا بُنيت؟ فقيل: لجمودها لأنها تلازم الظرفية، وقيل: لتضمّنها معنى حرفٍ لأنها تدلُّ على المصاحبة، والمصاحبة معنى من المعاني فالأصل أن يُؤدّى بحرف كالإشارة، لكنه لم يُوضَع كما أنهم لم يَضعوا للإشارة حرفاً يُؤدّى به.
وزعمَ بعضهم أن ساكنة العين حرف، وادّعى النحاسُ الإجماع على ذلك وهو فاسد، بل الصواب أنها اسمٌ، بدليل دخول التنوين، فلا نحتاج إلى دليل. فإن سيبويه زعم أن ساكنة العين اسم؛ لأن المعنى في الحالين واحد، المعنى في الساكنة وفي المتحركة واحد وهو: الدلالة على المصاحبة، ومع تدلُّ على المصاحبة.
حينئذٍ اتفقا في المعنى ولا يمكن أن يتفقا في اللفظ، بأن كون الأول دلّ على المصاحبة وهو اسم، والثاني دلَّ على المصاحبة وهو حرف! لا، هذا ليس بسديد، لا نظير له، وإذا كان الشيءُ لا نظير له فحينئذٍ يُعدَل في حمله على ما له نظير، هذا الأصل وهذه القاعدة عند النحاة، فإذا كان كذلك الأولى حمله مع إذا اختلفنا فيها هل هي اسم أو حرف؛ لأنها أشبهت مع المعربة في كونها تدلّ على المصاحبة .. ليس أشبهت بل هي مدلولها مدلول مع، معربة حينئذٍ نقول: هي اسمٌ بدلالة (مع) المعربة.
لأن المعنى في الحالين واحد، والمعنى الواحدُ لا يكون مستقلاً وغير مستقل، كيف مستقلاً وغير مستقل؟ لأن (مع) إذا قلنا اسمٌ معرَب بالفتح، حينئذٍ يصدُق عليها حدّ الاسم؛ وهو: كلمة دلّت على معنى في نفسها، ثم (مع) حرف ويصدق عليها حد الحرف؛ وهو: كلمة دلّت على معنىً في غيرها، فكيف يكونُ اللفظ واحداً ثم يكون المعنى واحداً، ودلّ باستقلال ودلّ بغير استقلال، هذا لا نظيرَ له، فلا يُحمَل على هذا التفريق؛ فهو باطل.
هذا حكمُها إن وليها متحرّك؛ يعني أنها تُفتح وهو المشهور وتُسكّن وهي لغة ربيعة، فإن وليها ساكنٌ فالذي ينصبُها على الظرفية يبقي فتحُها فيقول:(معَ ابنك) والذي يبنيها على السكون يكسِر لالتقاء الساكنين فيقول (معِ ابنك)؛ لكن هذا التفصيل ليسَ ظاهر النظم، بل ظاهر النظم أنه نقل الفتح والكسر مطلقاً، ليس الذي يبنيها أو الذي .. ! لا، (معْ) ساكنة عندَ المتأخرين قاطبة، فحينئذٍ كانت ساكنة بناءً؛ فإذا التقى بها ساكنٌ جازَ فيه الوجهان، وأكثرُ الشراح على هذا.
إذن هذا ما يتعلّق بـ (مع) وأنها ملازمة للظرفية، ويجوزُ قطعها إلى الحالية، فحينئذٍ صارت منصوبة على الحالية، وقبلَ ذلك إذا أضيفت كانت منصوبة على الظرفية.
ثم قال:
وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْراً اِنْ عَدِمْتَ مَا
…
لَهُ أُضِيفَ نَاوِياً مَا عُدِمَا
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ
…
ودُونُ وَالجِْهَاتُ أَيْضاً وَعَلُ
وَأَعْرَبُوا نَصْباً إِذَا مَا نُكِّرَا
…
قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا
هذا شروعٌ فيما يسمى بالغايات.
وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْراً إِنْ عَدِمْتَ مَا لَهُ أُضِيفَ: (وَاضْمُمْ) ضم بناء، حينئذٍ يكون مفعولاً مطلقاً، والموصوف محذوف، أو (وَاضْمُمْ بِنَاءً) حال، حال كونك بانياً.
(غَيْراً) هذا منصوب على المفعولية.
وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْراً: إذن غير هذه من الألفاظ التي تلازِم الإضافة، يعني لا بدّ أن تكونَ مُضافة إلى ما بعدَها، ثم لها أحوال.
أي من الكلمات اللازمة للإضافة (غير)، (غير) من الكلمات الملازمة للإضافة، وهي اسم دال .. هي اسم لا إشكال فيها؛ لأنها مُضاف .. تُضاف، وسبقَ أن المضاف يكون مِن علامات الاسمية، يعني لا يكون المضاف إلا اسماً، ولذلك تُنوّن، قبضتُ عشرة ليس غيرٌ، ليس غيراً .. والتنوين دليلٌ على الاسمية.
إذن: هي اسمٌ دال على مخالفةِ ما قبلَه حقيقةَ ما بعدَه، النحاة يمثِّلون بـ (زيدٌ غيرُ عمروٍ)، والأصلُ في إطلاق لفظ الحقيقة .. وهو مصطلح مأخوذ من عند المناطقة أنه مُرادف للماهية، الحقيقة والماهية بمعنى واحد، لكن لا يمكن حمل اللفظ هنا حقيقة على الماهية، وإنما يُراد به مفهوم اللفظ، لماذا؟ لأننا لو طبقناه على المثال المشهور عندَ النحاة (زيدٌ غيرُ عمروٍ)، حقيقة (زيد) حيوان ناطق، وغير (عمرو)، (عمرو) حقيقته حيوان ناطق، وهل المخالفة هنا صادقة أم لا؟ ليست بصادقة بل هي كاذبة، لماذا؟ لأن زيد وعمرو مُتّحدان، كلٌّ منهما إنسان، وكلٌّ منهما حيوان ناطق، إذن ما وجه المخالفة؟ لا بدّ أن نفسّر بأن الحقيقة هنا ليست هي الحقيقة عندَ المناطقة، وقد نصَّ على ذلك الأزهري في شرح التوضيح.
حينئذٍ نقول: المراد بزيدٍ هنا مفهوم اللفظ، والمراد بعمرو مفهوم اللفظ، فحقيقةُ زيد -التي هي إنسان مع علاماته المشخِّصة له- غير حقيقة عمرو الذي هو إنسان بحقيقته وعلاماته المشخّصة له، فزيد غير عمرو حصلت المخالفةُ في الحقيقة، لكن ليست في الماهية، وإنما زيدٌ ليس عمر؛ إما في طوله وعرضه، وإما في علمه وجهله .. إلى آخره، فثَم مُشخّصات للإنسان تميزه عن غيره، وأطلقَ النحاةُ عليها بأنها حقيقة وإلا هي ليست بحقيقة، ولذلك قد يتّحدُ الشيء وتحصل به المخالفة، قد يُقال:(دخلتَ بوجهٍ غير الوجهِ الذي خرجتَ به)، وزيد وعمرو شخصان منفصلان، أما هنا فالمحلّ واحد، دخلتَ بوجه غير الوجه الذي خرجتَ به، وجه آخر أم عين الأول؟ عين الأول.
إذن قد تكونُ المخالفة في الذوات وقد تكون المخالفة في الصفات، المخالفة في الذوات (زيد كعمرو)، والمخالفة في الصفات كالمثال الذي ذكرنا؛ لأن الوجه واحد، حينئذٍ نقول: الشيء الواحد قد يتعدّد بتعدّدِ صفاته، أما هو في نفسه فلا، الوجهُ هو عين الوجه، ولكن قد يكون عبوساً وقد يكون مسروراً.
إذن (غير) اسمٌ دالٌّ على مخالفة ما قبلَه حقيقةَ ما بعدَه، والمخالفة هنا قد تكون في الذوات وقد تكون في الصفات.
(غير) الناظم هنا نصَّ على حالة بنائها، لها حالان: قد تكون مُعربة وقد تكون مبنية، وهي من حيث الإجمال لها أربعة أحوال: لأنها إنما أن يُصرَّح بالمضاف إليه، فتقول:(قبضتُ عشرة ليس غيرها)، أي ليس المقبوض غيرها، هنا صرّحتَ بالمضاف إليه، وقد يُحذف المضاف ويُنوى المضاف إليه، إما لفظاً وإما معنى لا لفظاً، هذه ثلاثة أحوال.
وإما أن تُقطَع عن الإضافة مُطلقاً؛ فلا يُنوى المضاف إليه لا لفظاً ولا معنى، فهذه أربعة أحوال، إما أن يُصرّح بالمضاف؛ فتقول:(قبضت عشرة ليس غيرها)، تنطقُ بالمضاف، وقد تحذفُ المضاف حينئذٍ تنوي معناه، (قبضت عشرة ليس غيرُ)، أو تحذف المضاف وتنوي لفظه، (قبضت عشرة ليس غيرَ) بالنصب دون تنوين.
وقد تحذِفُ المضاف وتقطعُها عن اللفظ والمعنى، وهذه الإفراد المطلق، فحينئذٍ تقول:(قبضتُ عشرة ليس غيراً)، (ليس غيرٌ) يجوز فيها الوجهان.
إذن لها أربعةُ أحوال، المراد بهذا أن الناظم نصَّ على حال واحدة وهي حالة البنا بالمنطوق ويُفهم ما عداه بالمفهوم؛ لأنها إذا حُذف المضاف إليه ونُوي معناه حينئذٍ حكمنا ببنائها، هذه حالة واحدة، وما عدا هذه الحال .. وهي الأحوال الثلاث، حينئذٍ نقول: هي مُعرَبة على الأصل.
وَاضْمُمْ بِنَاءً: يعني اضمم ضمّ بناء، متى؟ إِنْ عَدِمْتَ مَا لَهُ أُضِيفَ، إِنْ عَدِمْتَ يعني: حذفتَ، فصار المحذوف في حكم المعدوم، لكن ليسَ مطلقاً، وإنما ناوياً معنى ما عُدم؛ لأن العدم الذي أرادَه الناظم هنا .. الذي هو الحذف، قد تحذف المضاف إليه، ثم المضاف إليه لفظ له معنى، إذا حذفتَ المضاف إليه لك حالان: إما أن تحذفَ المضاف إليه وتنوي ثبوت لفظه، وإما أن تحذفَ المضاف إليه وتنوي معناه، يعني المعنى الذي دلَّ عليه المضاف إليه المحذوف قد يُدلُّ عليه باللفظ نفسِه وقد يُدلُّ عليه بغيره، فلا تُعين لذلك المعنى المحذوف لفظاً معيناً، بل كلّ ما دلَّ على هذا المعنى فهو مراد، حينئذٍ هذا يصدق عليه أنك حذفتَ المضاف إليه ونويتَ معناه دون لفظه.
هذه الحالة الثانية هي التي عناها الناظم هنا بقوله: إِنْ عَدِمْتَ، يعني حذفت، مَا لَهُ أُضِيفَ، يعني: ما أُضيف له الذي هو المضاف إليه، مُطلقاً؟ لا، قال: نَاوِياً، عَدِمت ناوياً، حذفتَ حالة كونك ناوياً، فناوياً هذا حال من فاعل عدمتَ تاء الخطاب، ناوياً أي: مُقدِّراً.
مَا عُدِمَا: الذي عُدِم، ناوياً الفاعل أنت، وما اسم موصول بمعنى الذي مفعول به بـ (ناوياً)؛ لأنه اسم فاعل، يصدق على المضاف إليه، نَاوِياً مَا عُدِمَا، ما عُدِم لفظه أو معناه؟ ظاهر العبارة أنها محتملة، لكن لا بدّ من تقدير مضاف محذوف مِن أجل أن يصحَّ الحال، فنقول: ناوياً معنى ما عُدِم؛ لأنها هي الحالة التي يُبنى فيها على الضمّ، وهي ما إذا حُذف المضاف إليه ناوياً معناه دون لفظه، وأما إذا نويتَ لفظه فهي مُعربة على الأصل وليست مبنية.
إِنْ عَدِمْتَ مَا لَهُ أُضِيفَ: له الضمير عائد على (ما)، و (ما) اسم موصول بمعنى الذي قلنا مفعول به، واقع على المضاف إليه، وأُضيف له، ما أُضيف له الجملة لا محلَّ لها من الإعراب صلة الموصول، أُضيف الضمير هنا يعودُ على غير، لفظاً أُضيف له غير.
نَاوِياً: حال من الفاعل الذي هو التاء في عدمتَ.
مَا عُدِمَا: (ما) اسمٌ موصول بمعنى الذي، يصدقُ على المضاف إليه، وهي منصوبة على أنها مفعول به، (عُدِما) الألف للإطلاق، عُدِما، ما الذي عُدِم؟ المضاف إليه، نَاوِياً مَا عُدِمَا، يعني ناوياً معنى ما عُدِما دون لفظه، لا بدّ من التقدير من أجل يصحّ المسألة، فهو على حذفِ مُضاف لأنه إذا نُوِي لفظه ومعناه كان مُعرباً، كما لو لُفِظ بالمضاف إليه، وليسَ هذا المراد هنا للناظم.
إذن نصَّ بالمنطوق على الصورة المبنية، وهي (ما) إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه، فتقول:(قبضتُ عشرة ليس غيرُ)، غيرُ: مبنية على الضم، وهو قول المبرد وهو الذي اختاره الناظم. مبنية على الضم في محلّ رفع أو في محل نصب؟ يحتمل، فيحتمل غير هنا في هذا التركيب مبنية على الضم في محلّ رفع اسم ليس، ليس غيرُ، يعني ليس غيرها مقبوضاً ويكون الخبر محذوفاً، ليسَ مقبوضاً غيرُها، فتكونُ (غيرُ) هذه اسم ليس، ويحتمل أن تكون في محلّ نصب، ويكون اسمُ ليس محذوفاً، (ليس المقبوض غيرُ)، تكون مبنية على الضم في محلّ نصب، المراد هنا أنه إذا ضمت ضم بناء فقلت:(قبضت عشرة ليس غيرُ)، الأصل ليس غيرُها، حذفتَ المضاف إليه ونويتَ معناه دون لفظه فبنيتَ على الضم، فجازَ فيها وجهان: أن تكونَ اسمَ ليس والخبر محذوفاً، والعكس: أن تكون خبرَ ليس في محلّ نصب والاسم محذوف، (ليس المقبوض غيرُ)، (ليس غيرُ مقبوضاً) يجوز فيها الوجهان، وسيأتي تفصيله.
إذن: بالمنطوق دلَّ على صورة البناء، وأما صورُ الأعراب الثلاثة التي إذا صُرّح بالمضاف إليه أو نُوي لفظه دون معناه، أو قُطعت عن الإضافة .. هذه ثلاث صور مأخوذة بالمفهوم.
صورةُ البناء على الضم مأخوذة من المنطوق، وصور الإعراب الثلاث من مفهومات القيود الثلاث؛ لأنه يُفهَم من قوله: إِنْ عَدِمْتَ، إذا لم تعدِم؟ على الأصل وهو أنها معربة، أنك إن لم تعدم ما له أُضيف لم تُبنَ، ومن قوله: ناوياً أنك إن لم تنوِ لم تبنِ، إذا لم تنوِ .. عدمت لكنك لم تنوِ، فحينئذٍ نقول: هذا شرطٌ مخلّ، فإذا لم تنوِ حينئذٍ رجعنا إلى الأصل وهو الإعراب، ومِن قوله: مَا عُدِمَا، بمعنى ناوياً معنى ما عُدِم فقط، فإن نويتَ لفظه حينئذٍ رجعتَ إلى الأصل وهو الإعراب.
إذن:
وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْرَاً إِنْ عَدِمْتَ مَا
…
لَهُ أُضِيفَ نَاوِياً مَا عُدِمَا
هذا حلّ البيت، ونقول: إذا وقعَ بعدَ (ليس) وعُلِم المضاف إليه، يعني وقعَ غير بعد ليسَ وعُلِم المضاف إليه كـ (قبضت عشرةً ليس غيرَها) هذا الأصل، قبضتُ عشرة، عشرة دنانير مثلاً، ليس غيرَها: ليس المقبوض غيرها، حينئذٍ عُلم المضاف إليه أو لا؟ كما سيأتي لا يُحذف المضاف إليه إلا بعدَ علمه، يعني لا بدّ أن يكون ثَم قرينة، هنا (قبضت عشرة ليس غيرَها)، غيرها الضمير يعودُ على العشرة، إذن يوجد شيء دلَّ على المحذوف، وجد شيءٌ في النص دلَّ على المحذوف، ليس غيرَها، حينئذٍ جازَ حذفُه لفظاً، فتقول: ليس غيرُ، فيضم (غيرُ) بغير تنوين، فلا تقل:(غيرٌ) لأنها قطعٌ عن الإضافة، ثم اختُلفَ حينئذٍ في هذه الضمة (ليس غيرُ)، هل هي ضمة بناء أم ضمة إعراب؟ ثلاثةُ مذاهب للنحاة، قول المبرد أنها ضمة بناء، وقول الأخفش أنها ضمةُ إعراب، وجوّزَ ابنُ خروف الوجهين .. فهي ثلاثة مذاهب.
إذا قيل بأنها ضمّة بناء على التفصيل الذي ذكرناه، أو الذي اختاره الناظم هنا، إِنْ عَدِمْتَ مَا لَهُ أُضِيفَ، يعني إن حُذف المضاف إليه.
نَاوِياً مَا عُدِمَا: ناوياً معنى ما عُدِم، وهو المحذوف المضاف إليه، حينئذٍ هذه الصورة هي التي عناها المبرد.
ثم اختُلف حينئذٍ فقال المبرد: ضمة بناء، فهي مبنية على الضم؛ لأنها كـ (قبلُ) في الإبهام؛ لأنها أشبهت (قبل)، وسيأتي أن (قبل) مثل (غير): قَبْلُ كَغَيْرُ وهي لها أربعة أحوال، و (قبل) و (بعد) وحسب وأول كلّها من المبهمات، فإذا كان كذلك صارَ الأصل فيها البناء.
إذن هي ضمةُ بناءٍ لأنها كـ (قبل) في الإبهام فهي اسم أو خبر .. اسم ليس أو خبر، (قبضت عشرة ليس غير) على أنها خبر: ليس المقبوض غيرُ، وعلى أنها اسم ليس:(ليس مقبوضاَ غيرُ) فيجوزُ فيها الوجهان، أي اسمٌ لليس في محلّ رفع، والتقدير: ليس غيرُها مقبوضاً؛ هذا إذا رددتَ المضاف إليه، أو خبرٌ لليس في محل نصب والتقدير (ليس المقبوض غيرُ أو غيرُها) وهذا ظاهرُ النظم الذي اختارَه ابن مالك رحمه الله تعالى وهو المشهور عند المتأخرين أن (غيراً) كـ (قبل وبعد)، في أن لها أربعة أحوال.
المذهب الثاني وهو مذهبُ الأخفش أنها ضمة إعراب، وعليه حينئذٍ (غير) لا تُبنى البتة، وإنما هي مُعربة مطلقاً، والتفصيل هذا لا يتأتى إلى على مذهب المبرد والناظم، وقال الأخفش: ضمة إعراب وحُذف التنوين، وأوُرِد عليه: لماذا حُذِف التنوين؟ (ليس غيرُ)، لو كانت ضمة إعراب لقيل: ليس غيرٌ بالتنوين، لماذا حُذف التنوين؟ قال: للتخفيف، وقيل للإضافة تقديراً، يعني كأنّ المضاف إليه موجود، وإذا كان كذلك حينئذٍ يتعينُ أن يكون (غير) اسم ليس، ولا يجوزُ أن يكون خبر ليس، لماذا؟ لأن هذه الضمة ضمة إعراب، وخبر ليسَ منصوب لا مرفوع، إذن يتعينُ أن يكون غير في هذا التركيب اسم ليس، وعلى مذهب المبرد أنه يجوزُ فيه الوجهان.
إذن حُذِف التنوين هنا قيل: للتخفيف، وقيل: للإضافة تقديراً؛ لأن المضاف إليه ثابت في التقدير، فهي عندَه اسم ككل وبعض، وسبقَ أن (كل وبعض) هذه مُلازمة للإضافة معنى دون لفظ، يعني الأصل فيها أن يُذكر المضاف إليه، ولكن قد يُحذَف ويُعوض عنه بالتنوين، وحينئذٍ إذا حُذف التنوين لا نسلب (كل وبعض) الإضافة، بل هي مضافة لكنها في المعنى، ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)) [الإسراء:84] كلٌ هنا مضاف أو لا؟ نعم مُضاف، لكنها مُضافة معنى لا لفظاً، وهذا التنوين تنوينُ عوض عن المضاف إليه، حُذف ونُوي، حذف لفظاً ونوي، فهي عندَه اسم ككل وبعض لا ظرف للزمان كقبل وبعد ولا للمكان، فهي اسمٌ ليس لا خبر؛ لأنه لا يُرفع. فهي اسمٌ كـ (كل وبعض) في جواز القطع عن الإضافة لفظاً، فهي اسمٌ غير ظرف، فحينئذٍ يكون المضاف إليه منوي الإضافة، وجوّز ابن خروف الإعراب والبناء؛ لأنّ كلاً منهما محتمل، لكن الصواب أنها مبنية؛ لأن لا وجهَ لحذف التنوين هنا إلا البناء، ولأنها مثل (قبل وبعد)، و (قبل وبعد) لا شك أنهما يُبنيان إذا حُذف المضاف إليه ونُوي معناه، وأما ما قيلَ بأن المضاف إليه في التقدير أو أن التنوين حُذِف للتخفيف هذا وجهٌ ضعيف، الصواب أنها مبنية.
والحاصلُ في (غير) أنه يجوز قليل الفتح مع تنوين (غير) ودونه، فهي خبرٌ والحركة إعراب اتفاقاً، كالضمّ مع التنوين (ليس غيراً- ليس غيرُ).
هذه "ليسَ غير" فيها أربعة أوجه، إذا جئنا للنتيجة، يصحّ أن يقال:(ليس غيرُ، ليس غيرٌ، ليس غيراً، ليس غيرَ) أربعة أوجه.
(ليس غيرُ) يعني بالضم مع التنوين ودون التنوين، ويجوز (ليس غيرَ) بالنصب دون التنوين و (ليس غيراً)، إذا قلت:(ليس غيرٌ، ليس غيراً) قطعتهما عن الإضافة مثل: (قبلاً وبعداً)، وإذا قلت:(ليس غيرَ) بالنصب دون تنوين فهي مُعربة والمضاف إليه منوي من حيث اللفظ، يعني حُذِف المضاف إليه ونُوِي لفظه فقلت: ليس غيرَ.
الحالة الرابعة: (ليس غيرُ) بالضم دون التنوين، هذه فيها ثلاثة مذاهب.
قول المبرد: أن الضمة ضمةُ بناء، فيجوزُ في الإعراب حينئذٍ أن تكون اسمَ ليس أو خبر ليس، ولا إشكال فيه.
ومذهب الأخفش: أن الضمةَ هذه ضمة إعراب؛ فهي معربة عنده مطلقاً.
ومذهبُ ابنِ خروف: تجويزُ الوجهين، والناظم على الأول، وأنها ضمة بناء، وهذا هو الظاهر؛ لأنها مثل قبل وبعد.
وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْراً إِنْ عَدِمْتَ مَا
…
لَهُ أُضِيفَ نَاوِياً مَا عُدِمَا
قال بعضهم: الحاصلُ في لفظ (غير) التي لم يُذكر معها المضاف -انتبه بقيد-، يجوزُ في غير ثلاث اعتبارات: الأول قطعُها عن الإضافة لفظاً ومعنى، يعني: تحذف المضاف إليه ولا تنويه لا لفظاً ولا معنى، حينئذٍ هي اسمٌ معرب ليست مبنية، ويجوزُ فيها الوجهان الرفع والنصب مع التنوين، (ليس غيرٌ ليس غيراً)، حينئذٍ مقطوعة الإضافة، فيجوزُ فيها الوجهان يعني الرفع على أنها اسم ليس، والنصب على أنها خبر لليس، الرفع والنصب مع التنوين.
الثاني: قطعُها عن الإضافة لفظاً فقط، مع نية المضاف إليه، فيضم (غير) من غير تنوين، (ليس غيرُ)، وفيه ثلاثةُ مذاهب التي ذكرناها: قول المبرد، والأخفش وابن خروف.
الثالث: أن نعتبرَ لفظَ المضاف إليه محذوفاً للعلم به، يعني حُذِف المضاف إليه ونُوِي ثبوت لفظه، وهو مَنويّ؛ فتكون كأن (غير) مضاف، فغير حينئذٍ اسمٌ معرب، لا شكّ أنه اسم معرب، وحركتُه حركة إعراب، ثم يجوزُ فيه الوجهان، (ليس غيرُ، ليس غيرَ)، (ليس غيرٌ ليس غيرُ) يجوز فيه الوجهان؛ لأنك حذفتَ المضاف إليه ونويتَ ثبوتَ لفظه، فيجوزُ في غير حينئذٍ أن تكون اسم ليس فترفعها، ويجوزُ أن يكون خبر ليس فتنصبها ولا تنوِّن، لماذا؟ لأن المضافَ إليه مَنوي الثبوت مِن حيث اللفظ فهو كالموجود، هذه ثلاثُ حالات، أما إذا قُطعت عن الإضافة لفظاً دون معنى فحينئذٍ تُبنى على الضمّ وهو مُراد الناظم رحمه الله تعالى.
وَاضْمُمْ: هذا أمر، بِنَاءً: يعني ضمّ بناء، ضُم ضَم بناء، أو بانياً على أنه حال، والأول أولى.
غَيْراً: هذا مفعول به، قيّدَه بقيدين لا بد من وجودهما.
إِنْ عَدِمْتَ: يعني حذفت.
مَا لَهُ أُضِيفَ: ما أُضيف له، يعني المضاف إليه .. عدمته حذفته، ثم إذا حذفتَه هناك حالان: إما أنك تنوي لفظه، وإما أنك تنوي المعنى دون اللفظ، متى تُبنى غير؟ إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه دون لفظه،- معروف الفرق بين الاثنين-، إذا حُذِف المضاف إليه، قلنا هو كلمة لها معنى، هذا المعنى الذي دلَّ عليه هذا المضاف إليه قد يُدلّ عليه بغير هذا اللفظ، فإذا نويتَ المعنى بقطع النظر عن اللفظ الذي دلّ عليه نقول: حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه، أما اللفظُ صارَ نسياً منسياً، يعني لا يلاحظ، وإذا قصدتَ اللفظ نفسه عينه بعدَ حذفِه حينئذٍ نويتَ ثبوتَ اللفظ نفسه، ومُراد الناظم هنا متى؟ إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه صارت مبنية، فإذا لم تعدل المضاف إليه فهي مُعربة، فإذا عُدِم المضاف إليه ونُوي ثبوتُ لفظه حينئذٍ هي معربة، إذا عُدِم المضاف إليه ولم تَنوِ شيئاً حينئذٍ هي معربة .. إذن الثلاثة الأحوال، المعربة تُؤخَذ من المفهوم، وما عداه الذي هو المنطوق دلَّ على المبني.
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ: يعني قبل وبعد كغير، في ماذا؟ هنا قَبْلُ كَغَيْرُ بالبناء، ويجوزُ (قبلٌ) كـ (غيرٌ) ولا ينكسِر الوزن، ويجوزُ (قبلُ) كـ (غيرِ)، ولا ينكسر الوزن، فحينئذٍ نقول:(قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ)، أي (قبل وبعد) كـ (غير) في ماذا؟ في الأحوال الأربعة .. أنها مُلازِمة للإضافة أولاً، ثم قد يُصرّح بالمضاف إليه وقد يُحذَف المضاف إليه ويُنوى لفظه، وقد يُحذَف المضاف إليه ويُنوى معناه، وقد تُقطع عن الإضافة، في حالة واحدة هي مبنية، وهي ما إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه، وفي الأحوال الثلاثة الأخرى تكون مُعربة على الأصل، لكن هنا قال:(قَبْلُ كَغَيْرُ) فأطلقَ، والأصلُ أنها إذا أُعربت (قبل) و (بعد) إنما تُعرب بواحدٍ من اثنين: إما نصباً على الظرفية، وإما الخفضُ بـ (من)، وليس على إطلاق ما ذكره الناظم.
إذن: (قبل وبعد)، نقول: هذه يجبُ إعرابهما نصباً على الظرفية، هذا الأصلُ وأنها مُلازِمة للإضافة، أو خفضاً بـ (من)، وهذا كائن في ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يُصرّ! ح بالمضاف إليه، يُلفَظ به ما يعدم، ينطق به .. بالمضاف إليه، نحو: جئتكَ بعدَ الظهر، تقول: بعدَ هذا منصوب على الظرفية، بعد الظهر، وهي تكون ظرف مكان وظرف زمان باعتبار المضاف إليه، جئتُكَ بعد الظهر، نقول: بعد هذا منصوب على الظرفية والعامل فيه جئتُ، وقبلَ العصر كذلك منصوبٌ على الظرفية، ومِن قبله ومن بعده، من قبل الظهر ومن بعده، حينئذٍ نقولُ هنا جُرّت بمن، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)) [الحج:42] منصوبٌ على الظرفية، ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ)) [الجاثية:6] بَعْدَ: نقول: مُنصوبٌ على الظرفية وهو مُضاف وصُرّح بالمضاف إليه، فحينئذٍ النصبُ على الظرفية مُتعيّن، ((أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) [التوبة:70] نقول: مِن حرف جرّ، وقبل اسمٌ مجرور بمن، كما تقول: مررتُ بزيد، مِنْ قَبْلِهِمْ: جار ومجرر، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ)) [القصص:43] مِنْ بَعْدِ: (من) حرف جر، وبعد: اسم مجرور بمن.
إذن: الحال الأولى لـ (قبل وبعد) أنه يُصرّح بالمضاف إليه، يعني يُلفظ وينطقُ به، فحينئذٍ إما أنها تُنصَب على الظرفية وإما أنها تُخفَض بـ (من).
الثاني: أن يُحذف المضاف إليه ويُنوى ثبوت لفظه، وهذه الحال كغير، و (غير) هناك قلنا أنها تَبقى على إعرابها، فتكون معربةً على الأصل لكن لا يُنَوَّن؛ لأنّ المحذوف مُرادٌ به اللفظ فهو كالثابت، كأنّه موجود، وإذا وُجِد حينئذٍ سُلِب من المضاف التنوين، فيَبقى الإعراب ولا يُنوّنان لنية الإضافة.
الصورة الثالثة: أن يُحذَف المضاف إليه، أي: أن يَقطَعَ عن الإضافة لفظاً ومعنى، إفراد مُطلقاً، يعني يُحذَف المضاف إليه ولا يُنَوى لا لفظه ولا معناه، حينئذٍ صارَ معرباً.
فيُعربان الإعرابَ المذكور نصباً على الظرفية وخفضاً بـ (من)، ولكنّهما يُنونان بخلافِ الصورة الثانية، الصورة الثانية: يُحذف التنوين لنية المضاف إليه في اللفظ؛ لأنّه كالموجود، وإذا كان كالموجود حينئذٍ يُراعى فيُحذف التنوين مِن المضاف كما تُحذَف النون مِن المضاف، ولكنّهما يُنونان لأنهما حينئذٍ اسمانِ تامّانِ كسائر النكرات، فهما نكرتان في هذا الوجه لعدمِ الإضافة لفظاً وتقديراً، ولذلك نُوِّنَا تنوينَ تمكين (من قبلٍ ومن بعدٍ)، (قبلاً وبعداً) نقولُ هذا التنوين تنوينُ تمكينٍ .. هذا الصحيح، وقيل: مَعرفتان بنيّة الإضافة، وتنوينُهما تنوينُ عوض، وليسَ الأمر كذلك، وقال ابنُ مالك في شرح الكافية: وهذا القول عندي حسن -أن يكونا معرفتين والتنوين تنوينُ عوض، لكنه ليس بالمشهور الأول هو أظهر-، ومعرفتان في الوجهين قبله بالإضافة لفظاً في الأول وتقديراً في الثاني، الوجه الأول والثاني معرفتان، الوجه الأول الذي يُصرّح فيه بالمضاف إليه (قبلهم، بعدهم، من قبلهم، من بعدهم) هما معرفتان.
والثاني -الذي إذا حُذف المضاف إليه ونُوي ثبوت لفظه- كذلك هو معرفة؛ لأنه صُرِّح بالمضاف إليه في الأول ونُوي ثبوت لفظه في الثاني فهو كالموجود.
الصورة الرابعة الدقيقة: يُحذف المضافُ إليه وينوى معناه، وهي التي يكون فيها البناء، يُنوى معناه دونَ لفظه؛ فتُبنى في هذه الحال على الضم، وبُني لماذا؟ قيل لافتقارهما إلى المضاف إليه معنىً، يعني هي مفتقرة لا يُفهم معناها إلا بالمضاف إليه، فقلنا: كلما افتقرَ الشيءُ إلى شيءٍ آخر حينئذٍ صارَ علةً في بنائه .. هذا الأصل، وإن كان من العوامل صارَ علة في كونه عاملاً، إذن بُنيت (قبلُ وبعدُ) لافتقارهما إلى ما بعدهما في ظهور المعنى، إذا قلت: جئتُك قبل، قبل ماذا؟ ما فُهِم المراد، لكن إذا قلتَ:(جئتك قبل زيد، أو قبل الظهر، أو بعد العصر) تبيّنَ المراد بالمضاف إليه، إذن هي مفتقرة افتقاراً شديداً إلى ما بعدَه في إيضاح المعنى، وكشف اللبس الذي يكون في اللفظ، إذن بُني لافتقارهما إلى المضاف إليهما معنى، كافتقار الحرف لغيرهما، وبُني على الحركة، وإن كان الأصل أن يُبنى على السكون فراراً من التقاء الساكنين، بعْد العين ساكنة، قبْل الباء ساكنة، فنقول: فراراً من التقاء الساكنين بُني على الحركة، ولماذا أُعطي الضم؟ قيل: جبراً له لما فاته، فاتَه شيءٌ عظيم، وهو أنه حذف المضاف إليه ولم ينوَ لفظه، لو نُوِي لفظه لبقي له قوّة، لكن لما حُذفَ اللفظُ وبقي المعنى صارَ ضعيفاً، فلما ضعُفَ جُبِر بأقوى الحركات.
وقيل بالضم -بُني على الضم- لتخالِفَ حركةُ البنا حركتي الإعراب؛ لأننا في الإعراب ننصبُه ونجره بـ (من)، بقي الضم، إذن من أجل أن نستوفي له الثلاث الحركات بنيناهُ على الضم، هذا وجه وذاك وجه.
إذن: (قَبْلُ) كَ (غَيْرُ)، في كونها تُبنى وتُعرب على التفصيل السابق، متى تُبنى؟ إِنْ عَدِمْتَ مَا لَهُ أُضِيفَ نَاوِياً مَا عُدِمَا، صارَ حالة البنا لـ (قبل) و (بعد) مثل حالة بناء غير، وما عدا هذه الحال من الأحوال الثلاثة فحينئذٍ تكون مُعربةً على الأصل.
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ: يعني: وبعد.
حَسْبُ أَوَّلُ: يعني: وحسب وأول.
وَدُونُ وَالجِْهَاتُ: أي الست.
أَيْضاً: آض يئيضُ أيضاً مفعول مطلق والعامل فيه محذوف وجوباً.
وَعَلُ: هذه الألفاظ كلّها ملازمة للإضافة، ثم فيها التفصيل الذي في (غير)، يعني كل هذه الألفاظ لها أربعة أحوال: حالة بناء وذلك فيما إذا حُذف المضاف إليه ونُوِي معناه، وحالةُ إعراب وهي في الثلاث الصُّور الأخرى، لكن ظاهر إطلاق الناظم هنا أن حسب وعل مطلقاً تكون مبنية، وليس الأمر كذلك.
نقول: (حَسْبُ) بإسكان السين، ولها في اللغة استعمالان، (حسب) ليست مطلقاً ما أراده الناظم هنا، وإنما فيه تفصيل، لها استعمالان في لسان العرب.
الاستعمال الأول: أن تكونَ بمعنى كافٍ، هذا اسم فاعل من كفى يكفي فهو كافٍ، استعمال في لسان العرب بمعنى كافٍ، فتُستعمَل مُضافة استعمالَ الصفات المشتقة، تُستعمل مضافة إلى ما بعدها يعني: تلزم الإضافة، وهذا لا إشكال فيه، استعمال الصفات المشتقّة، فتكون نعتاً لنكرة، لأنها لا تتعرّفُ بالإضافة حملاً على ما هي بمعناه، و (غير) كالسابق كذلك لا تتعرّفُ بالإضافة إلا إذا وقعَت بين ضدّين، حينئذٍ قيل بأنها معرفة، وأما ما عدا ذلك لو أُضيفت إلى الضمير فهي نكرة، نكرة مختصّة وليست نكرة غير مختصة، لأن الإضافة نوعُ وصفٍ، المضاف إليه كالوصف للمضاف، وإذا كان كذلك صارَ في قوة النكرة المختصة، ليس نكرة مطلقاً.
إذن: نقولُ الأول مِن استعمالَي حسب أن تكون بمعنى كافٍ اسم فاعل كفى، وتستعمل مضافة استعمال الصفات المشتقة، فتكون نعتاً لنكرة لأنها لا تتعرّف بالإضافة حملاً على ما هي بمعناه، (مررت برجلٍ حسبِك من رجل)، مررت برجلٍ: جار ومجرور، حسبِك بالكسر، صارت صفة لرجل، لو قال قائل: كيف (حسبك) مضاف إلى الضمير صار معرفة، كيف يُوصف به رجل وهو نكرة؟ نقول:(حسبِك) نكرة ليسَ بمعرفة، لأنها لا تتعرّف بالإضافة، إذن وُصِف هنا النكرة بالنكرة فلا إشكال فيه.
(مررت برجل حسبِك من رجل) بالخفض، أي كافٍ لك عن غيره، وتقع حالاً (جاء عبد الله أو هذا عبد الله حسبَك من رجل)، (حسبك) نقول: هذا حال، والحال الأصل فيه أن يكون نكرة، وهنا وقعَ نكرة، إذن (حسبك) لا يقال بأنه حال وهو معرفة فَاعْتَقِدْ تَنْكِيرَهُ، لا؛ هو نكرة؛ لأن (حسبِ) في الغير لا تتعرّف بالإضافة، فلذلك صحَّ أن يقع نعتاً (مررت برجل حسبِك من رجل)؛ لأنه نكرة، وُصِف النكرة بالنكرة، ووقعَ حالاً، (هذا عبد الله حسبَك)، حينئذٍ نقول: حسبَك هذا منصوب على الحالية.
وتُستعمَل استعمال الأسماء ((حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ)) [المجادلة:8] مبتدأ وخبر، حسب: مبتدأ، وجهنم: خبر، والعكس أولى، حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ، حسبُ قيلَ مبتدأ، هذا المشهور عند النحاة، وجهنم خبر، والأولى العكس، يجوزُ العكس لكن الأولى العكس لماذا؟ لأن جهنم عَلمٌ فهو معرّف بالعلمية، وحسبهم نكرة مختصّة، إذن كونها نكرة هل يمنعُ من الابتداء بها لأنها مختصّة؟ لما أُضيفت إلى الضمير اختصَّت ولم تتعرَف؛ لأنها لا تتعرف بالإضافة، فلما أُضيفت إلى الضمير صارت نكرة مختصّة، وهذا لا يمنعُ مِن كونها مبتدأ؛ لأن الابتداء يجوزُ بالنكرة المختصّة، وإنما الذي يرجِّح كون جهنم هو المبتدأ كونه مُعرَّف بالعلمية، وسبقَ معنا أن الأعرفَ هو الذي يُجعَل مبتدأ، هذا وجهٌ، ((حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ)) [المجادلة:8]، ((فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ)) [الأنفال:62] هذا واضح، (فَإِنَّ حَسْبَكَ) هذا وقع اسم إن، حسب هذا اسم إن، ولفظ الجلالة خبر إن، (بحسبك درهم) مبتدأ وخبر، (بحسبك) مبتدأ، و (درهم) خبر، ويجوزُ العكس فيكون درهم هذا نكرة غير مختصة، وبحسبك نكرة مختصة، إذن لا يصحُّ أن يكون درهم مبتدأ؛ لأنه تعارَض عندنا أمران هنا؛ نكرتان .. كلّ منهما نكرة، إلا أن إحدى النكرتين مختصّة، والثانية غير مختصّة، حينئذٍ يتعيّنُ أن نجعلَ المختصة هي المبتدأ وغير المختصة هي الخبر، كما في قولك:(في الدار رجل)، يتعين أن يكون رجلٌ هو المبتدأ وفي الدار هو الخبر، إذن (بحسبك درهم)، (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) حسب مبتدأ، وسوّغَ الابتداء به الاختصاص بالإضافة، وجهنم خبره، ويجوزُ العكس وهو أولى؛ لأن جهنم معرفة بالعلمية، وحسب نكرة مختصّة، "الإعراب الثاني واضح فإن حسبهم جهنم".
والثالث بحسبك، هذا مبتدأ نكرة مختصة، ودرهم خبر نكرة غير مختصّة ولا يجوز العكس.
وبهذا الاستعمال الثاني يُردّ على مَن زعمَ أنها اسم فعل بمعنى يكفي، يعني استعمال الثاني .. استعمالَ الأسماء كونها تأتي مبتدأ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ، واسم إن ((فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ)) [الأنفال:62] وتأتي مجرورة بحسبك، في هذه التصرّفات ودخول العوامل عليها نحكمُ عليها بكونها لا يمكن أن تكون اسمَ فعل، لماذا؟ لأن أسماءَ الأفعال كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، كما سيأتي أنه لا يدخل عليها العوامل اللفظية، وهذا يكاد يكون محلّ وفاق، فلما دخلت عليها الباء بحسبك، ((فَإِنَّ حَسْبَكَ)) [الأنفال:62] إذن لا يمكن أن تكون اسم فعلٍ بمعنى يكفي؛ لدخول العوامل اللفظية عليها، والمعنوية كذلك على الأرجح وإن كان فيه خلاف.
إذن في هذا الاستعمال الثاني، يعني كونها تأتي مبتدأ واسم إن وخبر، يُردّ على مَن زعمَ أنها اسمُ فعلٍ بمعنى يكفي، فإن العوامل اللفظية (إن والباء) لا تدخل على أسماءِ الأفعال باتفاق، هذا محلّ وفاقٍ بينهم، ولا العوامل المعنوية على الأصحّ عند النحاة، هذا النوع الأول: استعمال حسب، حينئذٍ هل هي داخلة في قول الناظم: قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ، بالاستعمال الأول هل هي داخلة في قول الناظم: حَسْبُ؟ لا ما يمكن، ما تدخل، لماذا؟ قلنا: تأتي نعتاً وتأتي حالاً وتأتي مستعملة استعمال الأسماء، وفي هذه الأحوال الثلاثة ليست مبنية، إذن إذا كانت بمعنى كافٍ اسم فاعل يكفي، حينئذٍ نقول: لا تكون داخلة في قول الناظم البتة.
النوع الثاني في حسب .. الاستعمال في لسان العرب: أن تكونَ حسب بمنزلة "لا غير" في المعنى، فتُستعمَل مفردة، يعني الإضافة في اللفظ، ويُنوى لفظ المضاف إليه وهذه حسب هي حسب المتقدمة، في الاستعمالين السابقين، ولكنها عندَ قطعِها عن الإضافة تجدد لها إشرابها هذا المعنى الدال على النفي، يعني لما قُطعت عن الإضافة ضُمِّنت معنى "لا غير"، وإذا كان كذلك حينئذٍ حُمِلت على "لا غير" في الاستعمالات الثلاث أو الأربعة السابقة، فإذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه، حينئذٍ بُنيت (حسب) على الضم كغير، وإذا ذُكر المضاف إليه حينئذٍ أُعربت، وإذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي لفظه دونَ معناه حينئذٍ أعربت .. فلها الأحوال السابقة كلها، إذن هي نفسها السابقة، ولكنها أُشرِبت معنى "لا غير"، فحُمِلت على ذلك المعنى الذي دلَّ عليه "لا غير".
هذا المعنى الدالّ على النفي وتجدد لها ملازمته للوصفية والحالية أو الابتدائية، وبناؤها على الضمّ بعد أن كانت معربة، بحسب العوامل، تقول في الوصفية:(مررتُ برجلٍ حسبِك من رجل)، احذف المضاف، تقول:(رأيت رجلاً حسبُ)، حذفتَ المضاف ونويتَ معناه، والحالية:(رأيت زيداً حسبُ)، فحُذف المضاف إليه منهما ونُوي معناه فبُنيت على الضم.
قال الجوهري: كأنّك قلت: حسبي، يعني بذكر المضاف، ثم حذفتَه ونويتَ معناه فقلت: حسبُ، أو حسبُك، ويكونُ المضاف حينئذٍ الكاف فحذفتَه ونويت معناه فقلت: حسبُ، بنيتَ على الضم، فأضمرتَ ذلك ولم تُنوِّن، أي: حذفتَ المضاف إليه منهما، وأضمرتَه في نفسك، ولم تُنوِّن؛ لأنك نويتَ معنى المضاف إليه فبنيتَها على الضم كقبل وبعد.
إذن: (حسب) كـ (قبل) و (بعد) متى؟ إذا أشربت معنى: "لا غير"، ليست على الإطلاق الذي ذكره الناظم.
وتقول في الابتداء: قبضتُ عشرةً فحسبُ، هذا مبتدأ حذف خبره، أي: فحسبي ذلك، والمعنى قبضتُ عشرة لا غير، نفس المعنى، قبضتُ عشرةً فحسبُ، قبضتُ عشرةً لا غيرُ .. المعنى واحد، إذن نُزِّلت حسب، أو ضُمِّنت معنى "لا غير" فحُمِلت عليها في البناء، وذلك فيما إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه.
ودخلت الفاء تزييناً للفظ حسبُ، الفاء هذه فحسب هي حسب، لماذا دخلت الفاء؟ هذا مثل فقط، أصلها قط، فدخلت عليها الفاء تزييناً للفظ.
للفظ كقط، قبضتُ عشرة فقط مثلها، واقتضى كلامُ الناظم أنها -يعني حسب- تعرب نصباً إذا نُكّرت كـ (قبل وبعد)، وليسَ الأمر كذلك، قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ إذن مثلها، لأنه سوَّى والحكم واحد، وَأعْرَبُوا نَصْباً -كما قال هنا- إِذَا مَا نُكِّرَا
…
قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا، الذي هو حسب أيضاً، وهذا لم يُنقَل في لسان العرب أن حسب تُعامل معاملة (قبلاً وغيراً) إذا قُطعت عن الإضافة، يعني لا يقال (حسباً) كما نصَّ على ذلك ابن هشام رحمه الله تعالى.
إذن اقتضى كلام الناظم أن حسب تُعرب نصباً إذا نُكّرت كـ (قبل وبعد)، فمراده التنكير الذي ذكره في (قبل وبعد)، وهو أنها تُقطع عن الإضافة لفظاً وتقديراً ويُنصَب على الظرفية بحيث يقال:(رأيت زيداً حسباً)، كما يقال:(قبلاً وبعداً)، أو (فحسباً)، ولم يُسمَع ذلك في لسان العرب قط، فهذا مما يُستدرَك به على الناظم، إذن فحسب نقول: هذا فيه مأخذ على الناظم مِن حيث الإطلاق؛ لأنه أطلقَ حسب بأنها مثل (غير وبعد وقبل) في كونها لها أربعة أحوال باستعماليها في لسان العرب، والصواب التفصيل، أنها تُستعمَل بمعنى كافٍ اسم فاعل، ولها الأحوال التي ذكرناها، ولها استعمالٌ آخر وهو الاستعمال السابق، لكنه إذا ضُمّن معنى لا غير، فحينئذٍ يأتي فيها التفصيل والأحوال الأربعة، ثم قوله: وَأعْرَبُوا نَصْباً إِذَا مَا نُكِّرَا قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ، هذا يُفهَم منه أن (حسباً) هكذا يُنطق به إذا قُطِع عن الإضافة لفظاً ومعنى مثل (غير)، وأنه يكون منصوباً على الظرفية، وهذا لم يُسمع في (حسب).
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ
أَوَّلُ: معطوف على حَسْبُ، أَوَّلُ وهو نقيض الآخر.
وأصله أوأل بهمزة بعد الواو أوأل بدليل جمعِهِ على أوائل، فقُلِبت هذه الهمزة واواً وأُدغمت فيها الواو الأولى أَوَّلُ بالتشديد، أوأل الواو الثانية أصلُها همزة .. أوأل، نقول: أوائل دلَّ على أن بعد الواو همزة، مِن أينَ جاءت والجمع يردُّ الأشياء إلى أصولها؟
إذن: أوَّل الواو الثانية هذه مُبدَلة عن همزة، فأصلُه أوأل، يعني بهمزة بعد الواو. وأصله أوأل بدليل جمعه على أوائل، وقُلبَت هذه الهمزة واوا وأُدغِمت فيها الواو الأولى، وعرفنا معناه المراد بها نقيض الآخر.
دُونُ: هذا اسمٌ للمكان الأدنى من مكان المضاف إليه كجلستُ دونَ زيد، ثم تُوسِّع فيه فاستُعمِل في الرتبة المفضولة .. أنزل، الدنو يعني، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس كـ (زيدٌ دون عمروٍ) دونه في الرتبة، ثم تُوسِّع فيه باستعماله في مُطلق تجاوز شيء إلى شيء كـ (فعلت بزيد الإكرامَ دون الإهانة)، و (أكرمت زيداً دون عمرو).
أَوَّلُ ودُونُ وَالجِْهَاتُ: الجهات الست، أي أسماؤها، وهي أمامك وخلفك وفوقك وتحتك ويمينك، نصبت أو ورفعت وشمالك.
وَعَلُ: بمعنى فوق، هذا المشهور، عَلُ تُوافِق فوقَ في إفادة معناها، وهو العلو (وَعَلُ) هذا معطوف على ما سبق، أو وَعَلُ كذلك على أنها مبتدأ خبره محذوف، يجوزُ هذا وذاك، والثاني أولى.
وَعَلُ توافِق فوقَ في إفادة معناها، وهو العلو وفي بنائِها على الضم، إذا كانت معرفة فيما إذا أُرِيد به علو معين، يعني عَلُ بمعنى فوق، ثم قد يُراد به علو معين، وقد يُراد به علو مجهول .. إذا أُرِيد به علو مُعيّن صارت معرفة، وإذا أُريدَ به علو مجهول صارت نكرة مُبهمة.
إذا كانت معرفة فيما إذا أُريد علو معين: أخذتُ كذا مِن أسفل الدار وكذا من عَلُ، هذا صارت معينة، أخذت كذا من أسفل الدار وكذا من عَلُ أي: من فوق الدار، كقوله: (وَأتَيْتُ نَحْوَ بَنِى كُلَيْبٍ مِنْ عَلُ
…
) يعني من فوقهم.
وتُوافِق فوقَ أيضاً في إعرابها إذا كانت نكرة، فيما إذا أُريدَ بها علوٌ مجهول كقول الشاعر: (كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
…
)، أي من شيءٍ عال.
إذن توافِق عَلُ فوقَ في كونها تُستعمَل معرفة وتُستعمَل نكرة، وتُستعمَل معرفة حينئذٍ تُبنى على الضم، وتُستعمَل نكرة، فحينئذٍ من علِ هذه مجرورة بمن، فحينئذٍ صارت نكرة وحُذِف المضاف إليه ونُوِي لفظه، حينئذٍ نقول: هذه تُعامَل معاملة الاسم المعرب، فإذا دخلت عليها (مِن) وهذا الأصل في عَلُ دخلت عليها (من)، فحينئذٍ تكون مجرورة، ولم يُنوّن، لماذا لم يُنوّن؟ لنية لفظ المضاف إليه، والمحذوف لفظاً وهو منوي كالموجود، وتخالِفُها في أمرين: أن علُ لا تُستعمَل إلا مجرورة بمن، دائماً سواء كانت مبنية أو معربة.
إذن: عَلُ بمعنى فوق، لكنها تخالفها في أن عَلُ لا تُستعمَل إلا مجرورة بمن.
ثانياً: أنها لا تُستعمَل مُضافة بخلاف فوقَ فيهما، فوق هذه لا تُستعمَل إلا مضافة، وأما علُ فلا، لكن يُنوى المضاف إليه يعني: لا يُصرّح به، ليسَ لها حال في تصريح المضاف إليه.
وظاهر صنيع الناظم لها في عداد هذه الألفاظ أنها يجوزُ إضافتها ونصبُها على الظرفية أو غيرها كالحالية، قال في التوضيح: وما أظنّ شيئاً من الأمرين موجوداً يعني: في كلام العرب.
والناظم هنا سوى بين عَلُ وغيرها، في ماذا؟ في كونها تُضاف، وعَلُ لم يُسمَع إضافتها لفظاً، وإلا لم تكن مبنية لو لم يُقدّر المضاف إليه، يعني معنى، كذلك إذا جُرّدت وقُطِعت عن الإضافة أنها تُنصَب على الظرفية، كذلك هذا لم يُسمَع في لسان العرب، هذا يُؤخَذ على الناظم.
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ
…
وَدُونُ وَالجِْهَاتُ أَيْضاً وَعَلُ
وَأَعْرَبُوا نَصْباً إِذَا مَا نُكِّرَا
…
قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا
وَأَعْرَبُوا، من؟ العرب، نَصْباً على الظرفية ليسَ مطلقاً، هذا يُؤخَذ على الناظم أيضاً؛ لأن نَصْباً هذا يشملُ الحالية، يشملُ كونه مفعولاً به، مفعولاً لأجله، تمييزاً وليسَ الأمر كذلك، وإنما نصباً على الظرفية.
وأعربوا نصباً أو جراً بـ (من)، ضفه، واقتصرَ على النصب لأنه الأصل في الظروف، متى أعربوا نصباً؟
إِذَا مَا نُكِّرَا: ما زائدة ليست على أصلها، إِذَا مَا نُكِّرَا: يعني إذا نُكِّرَ، ليست نافية، إذا ما نُكّرا يعني: عُرِّف، فـ (ما) زائدة:
يا طالباً خذ فائدة
…
ما بعد إذا زائدة
وهذا محلّ وِفاق ((وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) [الشورى:37] الذي لا يقولُ بالزيادة في القرآن ماذا يقول هنا؟ ((وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) [الشورى:37] فتكون (ما) نافية وهذا ليس بظاهر.
إذن: إِذَا مَا نُكِّرَا قَبْلاً: هذا مفعول به، نُكِّرَا قَبْلاً أي: قبل وما ذكر بعده، وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا، الألف للإطلاق، أي: بعد قبل، هنا ورد عليه: قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ، قال: إِذَا مَا نُكِّرَا قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا: وهذا الحكم شاملٌ لـ"غير" أو لا؟ غير هل تُقطَع عن الإضافة بالكلية؟ هل يصحُّ أن نقول: (ليسَ غيراً) كما نقول: قبلاً وبعداً؟ يصحُّ أن نقول، قلنا: لها أربعة أحوال، هذه الأبياتُ الثلاثة كلها .. الألفاظ المذكورة لها أربعة أحوال إلا ما استُثني في (حسب وعلُ) على التفصيل السابق.
حينئذٍ لها أربعة أحوال، من الأحوال قوله: وَأَعْرَبُوا نَصْباً: متى؟ إِذَا مَا نُكِّرَا بمعنى أنه إذا قُطِعت عن الإضافة مُطلقاً لم ينوَ المضاف إليه لا لفظاً ولا معنى صارت اسماً نكرة تامة، مثل: رجلاً (رأيتُ رجلاً)، حينئذٍ نقول: هذا اسمٌ نكرة وتنوينُه تنوينُ تمكين، وليس تنوين عوض أو تنكير؛ لا، بل هو تنوين تمكين دالّ على أمكنية اللفظ في باب الإعراب، حينئذٍ (وَمَا مِنْ بَعْدِهِ) هل الحكم شامل لغير أو لا؟ الصواب أنه شاملٌ لغير، هل يَرِد على الناظم أنه أخرجَ غير؟ لأنه قال: قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ، وهو بعد، وحسب، وأول، ودون، والجهات، وعلُ .. إذن (غير) لا يشمله الحكم، هذا ظاهر اللفظ، لكن نحتاجُ إلى تأويل، حينئذٍ نقول: ذكرَ (غير) ضِمناً فيما بعد (قبل)؛ لأنه قال: قَبْلُ كَغَيْرُ، أعاد حكمَ (غير) بقوله: كَغَيْرُ، إذن الحكم شامل لغير، فـ (غير) حينئذٍ تُنصب، لكن لا على الظرفية؛ لا تُنصب على الظرفية، وإنما تُنصَب على أنها خبر لليس في المثال الذي ذكرناه.
وَأَعْرَبُوا نَصْباً إِذَا مَا نُكِّرَا
…
قَبْلاً وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا
قال الشارح: هذه الأسماء المذكورة وهي: غير، وقبل، وبعد، وحسب، وأول، ودون، والجهات الست، وهي: أمامُك، وخلفُك، وفوقُك، وتحتُك، ويمينُك، كلها على الحكاية يجوزُ فيها الوجهان .. وشمالُك، وعلُ لها أربعة أحوال تُبنى في حالة منها –واحدة- وتُعرَب في بقيتها.
فتُعرَب إذا أُضيفت لفظاً، هذا لا إشكال فيه، إذا صُرّحَ بالمضاف إليه، في الجميع نحو: أصبتُ درهماً لا غيره، صرّحَ بالمضاف إليه، وجئتُ من قبل زيد، هذه الحالة الأولى صرّحَ بالمضاف إليه، أو حُذف المضاف إليه ونُوِي اللفظ، الذي حذفته قصدته كأنه موجوداً، فتعرب حينئذٍ من غير تنوين كما لو تُلِفظ به، وحكى أبو علي:(ابْدَأ بِذَا مِنْ أَوَّلِ) بالجر مِن غير تنوين، وقول الشاعر:
(وَمِنْ قَبْلِ نَادَى كُلُّ مَوْلىً قَرَابَةً
…
). كُلُّ مَوْلىً -بالتنوين- قَرَابَةً، كُلُّ مَوْلَى قَرَابَةٍ يجوزُ فيه الوجهان.
فَمَا عَطَفَتْ مَوْلىً عَلَيه العَوَاطِفُ.
وَمِنْ قَبْلِ: يعني ومِن قبل ذلك، حَذف المضاف إليه ونَوى ثبوت لفظه، فحينئذٍ جُرّ بمن، دخلت عليه مِن، فجُرّ فهو اسم مجرور بالكسرة، هذا الظاهر، حينئذٍ هل هي معربة أو مبنية؟ نقول: مُعربة، ودخلت عليها مِن وهذه الكسرة كسرة إعراب، لماذا لم يُنوّن؟ لأنه نُوِي ثبوتُ لفظِ المضاف إليه، وإذا نُوِي ثبوتُ اللفظ .. عين اللفظ المحذوف فهو كالموجود، وإذا كان موجوداً حينئذٍ لا يجتمع مع تنوين المضاف، وهذا واضح.
وتبقى في هذه الحالة كالمضاف لفظاً فلا تُنوّن إلا إذا حُذِف ما تُضاف إليه، ولم ينوَ لفظه ولا معناه، فلا تُنَوّن إلا إذا حُذِف ما تضاف إليه، يعني: قُطِعت عن الإضافة بالكلية لا لفظاً ولا معنى، ولم ينوَ لفظه ولا معناه، حينئذٍ تكون نكرة، ومنه قراءة من قرأ:(لله الأمر من قبلٍ ومن بعدٍ) كما قُرِأ في الأولى: (لله الأمر من قبلِ ومن بعدِ)((مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)) [الروم:4] فيه ثلاث قراءات، السبعة على الضم ((لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)) هذا الشاهد على أنها مبنية، وذلك إذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه (لله الأمر من قبلِ ومن بعدِ) بالكسر، حينئذٍ نقول: حُذِف المضاف إليه ونُوِي ثبوت لفظه، ولم ينون مُراعاة للمضاف، فهو كالموجود (من قبلٍ ومن بعدٍ) صارت اسماً نكرة، قُطِعت عن الإضافة بالكلية، (لله الأمر من قبلٍ ومن بعدٍ) بجرِّ (قبل) و (بعد) وتنوينهما كقوله:
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً
…
أَكَادُ أَغَصُّ بِالماءِ الفُرَاتِ
وَكُنْتُ قَبْلاً: قَبْلاً هذا خبر كُنْتُ، منصوب، والتاء هذه اسم كان، هل هذا صحيح، قبلاً خبر كنت؟
قلنا: وأعربوا نصباً نقيّده بماذا؟ منصوب على الظرفية، إذن ما يأتي وأعربوا نصباً، ليسَ مُطلقاً حتى نقول: خبر كان، لو قلنا: مُطلقاً الذي أوردناه على الناظم صحَّ أن نقول: قبل هذا خبرُ كان، ليسَ الأمر كذلك، بل (وَأَعْرَبُوا نَصْباً) متى؟ إذا: إِذَا مَا نُكِّرَا قَبْلاً. إذن نصباً على الظرفية، فإذا جاءت قبل ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) [الحج:42] بالإضافة منصوب، منصوب على الظرفية، لو قُطِعت عن الإضافة " قَبْلاً" كذلك منصوب على الظرفية، إذن لا تُنصَب إلا على الظرفية فحسب، إذا مرَّ بك (قبلَ) بالفتحة حينئذٍ اعلم أنها منصوبة على الظرفية، سواء حُذِف المضاف إليه مُطلقاً ولم ينوَ لا لفظه ولا معناه، مثل البيت: وَكُنْتُ قَبْلاً، أو حُذِف المضاف إليه ونُوِي ثبوت لفظه، لو قال: وكنتُ قبلَ بالنصب، حينئذٍ نقول: حُذِف المضاف إليه ونُوِي ثبوتُ لفظه، ولذلك بقيت الفتحة على ظاهرها دون تنوين، كذلك (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) فيما إذا ذُكِر المضاف إليه. على كلٍّ لا نصب لـ (قبل وبعد) إلا على الظرفية، كلّما رأيتَها منصوبة فاعلم أنها على الظرفية.
وَأَعْرَبُوا نَصْباً: هذا مطلقٌ لا بدّ من تقييده.
هذه هي الأحوال الثلاثة التي تُعرَب فيها.
ولذلك كذلك (فَمَا شَرِبُوا بَعْدًا عَلَى لَذَّةٍ خَمْرَا
…
) نقول: كذلك منصوب على الظرفية.
(لَعْناً يُشَنُّ عَلَيْهِ مِنْ قُدَّامُ
…
)، هذا بالضم، الرواية بالضم والأصل من قدامه وحُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه.
(عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
…
) بالضم، والأصل أول الوقتين.
وحكى أبو علي الفارسي: (ابْدَأ بِذَا مِنْ أَوَّلُ) بالضم على نيّة معنى المضاف إليه والأصل من أوّل الأمرِ، وبالخفض على نيةِ لفظه، وبالفتح على نيةِ تركها.
روى هذا القول بالجهات الثلاث: (ابدأ بذا مِن أولَ، ابدأ بذا من أولُ، ابدأ بذا من أولِ) نزِّلها على كل ما سبق.
ومنعَه مِن الصرف للوزن والوصف، يعني يُمنَع "مِن أولَ" نقول: ممنوع من الصرف، لماذا؟ للوزن (وزن الفعل) والوصف؛ لأنه اسمُ تفضيل بمعنى الأسبق.
إذن في هذه الأحوال الثلاثة نقول: تعرب فيها.
أما الحالة الرابعة التي تُبنى فيها؛ فهي: إذا حُذِف ما تُضاف إليه ونُوِي معناه دون لفظه، حينئذٍ تُبنى على الضم ((لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)) [الروم:4] قراءاة السبعة، بُنيت على الضم لشبهها حينئذٍ بحروفِ الجواب في الاستغناء بها عمّا بعدها، هل جاء زيد؟ نعم، اكتفي بحرف الجواب عمّا بعدَه، وهذه مثلها.
معَ ما فيها من شبهِ الحرف في الجمود، وهو لزومُها استعمالاً واحداً وهو الظرفية أو شبهها، وفي الافتقار إلى المضاف إليه، نحو الآية التي ذكرناها، ونحو (قبضتُ عشرةً فحسبُ)، أي فحسبي ذلك.
وحكى أبو عليٍّ الفارسي: المثال السابق الذي ذكرناه، والبيت السابق: (عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
…
)، وسرتُ مع القوم ودونُ أي: دونهم، وجاء القوم وزيد خلفُ أو أمامُ أي: خلفهم أو أمامهم، أَقَبٌّ مِنْ تحتُ عَرِيضٌ مِن عَلِ.
تحتُ بُني على الضم؛ لحذفِ المضاف إليه مع نيّة معناه دونَ لفظه، بدليل سبقِ حرفِ الجرّ (من) ثم اللفظ بالضم (مِن تحتُ)، لو قال:(من تحتِ) دون تنوين عرفنا أنه حُذف المضاف إليه ونوى لفظه (من تحتِ).
وحكى أبو علي الفارسي (ابْدَأْ بِذَا مِنْ أَوَّلِ) بضم اللام وفتحها وكسرها، فالضمُّ على البناء بنيّة المضاف إليه معنى، والفتح على الإعراب لعدم نية المضاف إليه لفظاً ومعنى وإعرابها إعراب ما لا ينصرف للصفة ووزن الفعل، والكسر على نيّة المضاف إليه لفظاً.
وحينئذٍ إذا بُنيت على الضم (قبلُ وبعدُ) قلنا في هذه الحالة تكون معرفتين بالإضافة إلى معرفة المنوية، والأصل:(لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلِ الغلب وَمِنْ بَعْدِهِ)، وإذا بُنيت الظروف على الضمّ تُسمّى غايات كما ذكرنا؛ لأن الأصلَ فيها أن تكونَ مُضافة، وغاية الكلمة المضافة ونهايتها آخر المضاف إليه، (قبل ذلكَ) آخر الكلمة ما هي؟ الكاف، هذه نهايتُها، نهايتها آخرُ حرفٍ في المضاف إليه؛ لأنها تتمته إذ به تعريفه، فإذا حُذِف المضاف إليه وتضمّنه المضاف صارَ آخر المضاف غايته، يعني إذا قلت: قبل الغلبِ آخر المضاف إليه الباء وهو كالتتمة لما قبلَه، فإذا حذفتَه صارَ غاية قبل اللام، ولذلك صارت غاية.
فقول المصنف: وَاضْمُمْ بِنَاءً .. البيت إشارة إلى الحالة الرابعة من حيث المنطوق. وقوله: نَاوِياً مَا عُدِمَا مراده: أنك تبنيها على الضم إذا حذفتَ ما تُضاف إليه ونويته معنى لا لفظاً.
وأشارَ بقوله: وَأَعْرَبُوا نَصْباً إلى الحالة الثالثة وهي ما إذا حُذِف المضاف إليه ولم يُنوَ لفظه ولا معناه، لكن وَأَعْرَبُوا نَصْباً هذا تصريح ببعض المفهوم، يعني هنا يقول: أشارَ إلى الحالة الثالثة بقوله: وَأَعْرَبُوا نَصْباً، هنا نقول: صرَّح ببعض المفهوم؛ لأننا قلنا: وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْراً إِنْ عَدِمْتَ، فإن لم تَعدِم مفهومه صارت مُعرَبة، هذا بعض المفهوم الذي دلَّ عليه البيت الأول وهو التصريح بقوله: وَأَعْرَبُوا نَصْباً.
وهي ما إذا حُذِف المضاف إليه ولم يُنوَ لفظه ولا معناه، فحينئذٍ تكون نكرة معربة، وقوله نصباً معناهُ أنها تنصب إذا لم يدخل عليها جارّ، فإن دخلَ عليها جُرّت نحو: من قبلٍ ومن بعدٍ، ولم يتعرّض المصنف للحالتين الباقيتين. لا، تعرّضَ لكن من جهةِ المفهوم لا مِن جهة المنطوق. يعني الأولى والثانية؛ لأن حكمَهما ظاهر معلوم مِن أول الباب وهو الإعراب وسقوط التنوين، كما تقدّم في كل ما يفعل بكل مضاف إليه.
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ في الاِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
المضاف والمضاف إليه كلٌّ منهما يجوزُ حذفهُ بشرطِ أن يكون معلوماً، المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة، ولذلك نُزِّل التنوين الذي يكون في آخر المضاف، في آخر حرف من المضاف إليه، وسُلِب التنوين من الأول؛ لأن الثاني صارَ كجزء من الأول، يعني (غلام زيدٍ) سلِب التنوين من الميم فصار في الدال من (زيد)، حينئذٍ نقول تعليلاً لهذا: جُعل (زيد) مُنزَّلة الجزء من (غلام)، كأنك قلتَ:(غلامٌ غلاماً غلامٍ)، صار (زيد) بعد الميم وقبل التنوين، فجعلت (زيد) بين الميم والتنوين، فسُلِب التنوين من الأول فجُعِل في الآخر، ولذلك يُقال فيه: كلّ كلمتين نُزِّلت ثانيهما مُنزَّلة التنوين مما قبله، هذا ضابط المركب الإضافي، كل كلمتين نُزِّل ثانيهما مُنزَّلة التنوين مما قبله.
(وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ في الاِعْرَابِ) ما الذي يلي المضاف؟ المضاف إليه، يعني الذي يتلوهُ.
إذن يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ في الاِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا، إذا حُذِف يأتي عنه خلفاً في الإعراب، نفهم مِن هذا البيت أنه يجوزُ حذفُ المضاف إليه، وذلك يُشترَط فيه شرطان: أن يدلّ على المحذوف دليل (وَمَا يَلِي الْمُضَافَ) وهو المضاف إليه، (يَأْتِي خَلَفَاً عَنْهُ) عن المضاف، متى؟ إذا حُذِف المضاف، وهذا يمرُّ معنا كثير، حُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامَه، وهذا يُشترط لجواز حذف المضاف شرطان:
الأول: أن يدلّ على المحذوف دليل، وهذه قاعدة عامة سواء كان في باب الإضافة أو في غيرها وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ، فلا (يصحّ جلستُ زيداً)، تريد جلست جلوس زيد، (جلوس) هذا مفعول مطلق، وجلوس مضاف وزيد مضاف إليه، هل يصحّ أن تقول: احذِف المضاف وهو جلوس وأُقيم المضاف إليه مقامه فيأخذ حكمَه، وهو النصب فتقول: جلستُ زيداً؟ ما يصحّ؛ لعدم وجود ما يدلّ على المحذوف وهو المضاف.
إذن: لا يصحّ (جلست زيداً) تريد: جلست جلوس زيد.
الثاني: أن يكون المضافُ مُفرداً لا جملة، وهذا لم ينصَّ عليه الناظم؛ أن يكون المضافُ مُفرداً لا جملة، إذ لا يمكن أن يُستدَل على المحذوف وهو جملة، إذ لا تقومُ مقامَ المضاف؛ لأنه لو كان المضاف إليه جملة وحذفنا المضاف لا يصحّ أن نقول: أُقيم المضاف إليه مقامَ المضاف، فيأخذ حكمه؛ لأن الحكم هو الإعراب، والإعراب لا يكون في الجمل، وإنما يكون في المفردات هذا الأصل، فحينئذٍ لما امتنعَ أن تُقام الجملة مقامَ المضاف بعد حذفِهِ نقول: لا يجوزُ حذفُ المضاف إذا كان المضاف إليه جملة بخلاف ما أطلقَه الناظم هنا.
إذن: وَمَا يَلِي: يعني والذي، (ما) هذا اسم موصول بمعنى الذي مُبتدأ، والذي يلي المضاف وهو المضاف إليه، (يَأْتِي) هذه الجملة خبر، يَأْتِي فعل وفاعل، (خَلَفَاً) هذا حال من الضمير في يأتي، (عَنْهُ) عن المضاف، في ماذا؟ (في الاِعْرَابِ) بتسهيلِ الهمزة؛ لأنه مَصدر أعربَ يُعرِب إعراباً، همزتُها همزة قطع، هنا وصلت من أجل الوزن، في الاِعْرَابِ فقط لا في غيره أم المراد هنا أن الحكم منصبٌّ على الإعراب؟ الثاني، وإنما يتكلّم البيانيون في الأغراض التي يمكن أن يُحذَف المضاف ويُقام المضاف إليه مقامه في إفادته، وسبقَ شيءٌ من ذلك وهو التأنيث ونحوه.
(عَنْهُ في الاِعْرَابِ) هذا مُتعلّق بقوله: يَأْتِي، أو بقوله خَلَفَاً.
غالباً نقيّده؛ لأنه سيأتي في البيت الذي يليه.
(إِذَا مَا حُذِفَا) يعني إذا حُذِف، (ما) هذه زائدة، والألف للإطلاق، وحُذِف هذا فعل ماضي، والفاعل ضمير مستتر يعودُ على المضاف.
إذن يحذف المضاف ويُقام المضاف إليه مقامَه فيأتي خلفه في الإعراب، بشرط أن تكون ثَمَّ قرينة وأن لا يكون المضاف إليه جملة.
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ في الاِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
أي المضاف، لقيام قرينة تدلُّ عليه، نحو ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)) [يوسف:82] أكثر هذا مجازاً عندهم، (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) قالوا: القرية اسمٌ لأهلها .. لأُناس، وهو الأصل فيها أنها تُستعمَل مُراداً بها البنيان، وتُستعمَل ويُراد بها مَن يسكنُ البنيان، لها استعمالان في لسان العرب، حينئذٍ إذا استعملتَ القرية مُراداً بها أهلها، ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)) نقول: القرية لا تُسأل هذا الأصل فيها، قالوا: هنا على تقدير مضاف، على كلٍّ:
وَالشَّأنُ لَا يُعتَرَضُ المثَالُ
…
إِذ قَد كَفَى الفَرضُ والاِحتِمَالُ
((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)) قالوا: أي اسأل أهل القرية، حذف المضاف الذي هو أهل، وأُقيم المضاف إليه مقامَه فانتصب انتصابه، يعني أخذَ حكمَه اسأل أهلَ .. أهلَ هذا مفعول به منصوب، والقريةِ هذا مجرور، لمَّا حذفتَ المضاف وهو منصوب وأقمتَ المجرور مقامَه صارَ المجرور منصوباً، هذا مراده بقوله:(يَأْتِي خَلَفَاً عَنْهُ في الاِعْرَابِ)، فإذا كان المضاف إليه دائماً مجروراً والمضاف على حسب مواقعه في الإعراب حينئذٍ أخذَ حكمه، إن كان الرفع فالرفع للمضاف إليه، وإن كان النصب فالنصب، وإن كان الجر فالجر، وهذا مُراده بقوله:(يَأْتِي خَلَفَاً عَنْهُ في الاِعْرَابِ).
((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)) [يوسف:82] أي: اسأل أهلَ القرية، فإن لم تكن قرينة امتنعَ الحذفُ مثل ما سبق (جلست زيداً) تريد: جلستُ جلوسَ زيد.
المضاف إذا حُذِف لقرينة تارة يكون مطروحاً يعني: معرب عنه لفظاً ومعنى، وهذا سبقَ أيضاً، وتارة يكون مُلتفتاً إليه، يعني: مُلاحظ من جهة المعنى، يحذفُهُ ويقصدُهُ يلاحِظُهُ، وقد يحذفِهُ ويطرحُهُ طرحاً كلياً، هذا له مأخذ وهذا له مأخذ.
إذن المضاف إليه بعدَ حذفه إما أن يكونَ مطروحاً بالكلية، بمعنى أن الذي طرَحَه لم يلتفت إليه البتة، وقد يكون مطروحاً لكنه مُلتفَت إليه، يعني مطروحاً من جهة اللفظ فحسب، فحينئذٍ يعتبره .. يعني يَلتفِت إليه، يُعلَم هذا بعود الضمير عليه، قد يُعيدُ الضمير باعتبار المضاف، وهو قد حذف المضاف، يحذف المضاف ثم إذا أرجعَ الضمير يرجع الضمير باعتبار المضاف لا باعتبار المضاف إليه، حينئذٍ صارَ المضاف بعد طرحِهِ مُلتفتاً إليه، وثَمَّ مثال يوضِّح هذا.
((وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)) [الأعراف:4](مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) الضمير عادَ إلى القرية، (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) هنا راعى الضمير في قوله:(فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) أرجعَه باعتبار المضاف إليه، (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) أرجعه باعتبار المضاف وهو أهل؛ لأنه عندهم أن القريةَ لا يمكن أن تكون هي المسؤولة ولا هي المعذّبة، البنيان لا يُعذب وإنما المراد به الأهل، ((وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)) [الأعراف:4] يعني المراد به أهل القرية، وكم مِن أهل قرية، حينئذٍ (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا)، (جَاءَهَا بَأْسُنَا) الضمير هنا عاد إلى القرية نفسِها، حينئذٍ صارَ المضاف المحذوف كأنه مطروح، ((أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)) [الأعراف:4] هُمْ الضمير مرجعُهُ إلى أهل القرية، فأرجعَ الضمير باعتبار المضاف، فأرجعَ الضمير أولاً إلى القرية طرحاً للمضاف وثانياً إلى المضاف التفاتاً إليه، وقد يكونُ الأول مُضافاً إلى مضاف فيُحذَف الأول والثاني، ويُقام الثالث مقام الأول في الإعراب، يعني يُتصوّر حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامَه فيما إذا كان مضاف ومضاف إليه، وقد يكون المضافُ الأول مضافاً إليه باعتبار المضاف السابق، فيكون عندنا مُضاف أول ومُضاف ثاني، المضاف الثاني مضافاً إليه باعتبار الأول، وهو مضاف باعتبار ما بعدَه، قد يحصل حذفُ للأول والثاني ويُقام المضاف إليه للثاني مقام الأول، وهذا مثاله كقوله تعالى:((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)) [الواقعة:82]، قال:(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يعني: وتجعلونَ بدل شكر رزقكم تكذيبَكم بالنصب، تجعلون بدل شكر .. حذف المضاف بدل، وأُقيم المضاف إليه وهو شكر، ثم حُذِف شكر وأُقيم المضاف إليه مقامه.
إذن حصلَ حذفٌ بعد حذف ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)) [الواقعة:82] أي: وتجعلون بدلَ شكر رزقكم تكذيبَكم.
وأما ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)) [البقرة:93] العجل لا يُشرَب في قلوبهم، يعني أُشربوا حبّ العجل؛ إذن هناك مضاف محذوف وهو حب والعجل مضاف إليه.
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ في الاِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
يعني: إذا حذف.
قال الشارح: يحذف المضاف لقيام قرينة تدلّ عليه، ويُقام المضاف إليه مقامَه فيُعرب بإعرابه نصباً أو رفعاً أو خفضاً، كقوله تعالى:((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)) [البقرة:93] أي: حبّ العجل؛ لأن هنا لا يُقال العجل، أُشربوا العجل نفسَ العجل ذات العجل! لا، ليسَ هذا المراد، فيتعيّنُ حينئذٍ حذف مضاف، وكقوله تعالى:((وَجَاءَ رَبُّكَ)) [الفجر:22] أي: أمرُ ربك، هذا باطل، هذا يذكرونه كثيراً، فحُذف المضاف وهو حبّ وأمر، وأُعرِب المضاف إليه وهو العجل وربك بإعرابه.
(وَجَاءَ رَبُّكَ) هذا ممتنعٌ عندهم أن يتصف الربُّ بالمجيء، فتعيّنَ القول بالمجاز وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهنا إذا كان هذا باطلٌ ما يلزم أن نقول: بأنه في اللغة لا يُحذَف المضاف ويُقام المضاف إليه مقامَه، فإذا استُخدمت هذه اللغة في أمر باطل فاسد .. تأويل وتحريف آيات الصفات، هل نرجع إلى القاعدة فنبطلُها لأنهم استعملوه في باطل؟ الجواب: لا، وإنما نقولُ هنا:(وَجَاءَ رَبُّكَ) ليسَ على حذف مضاف، القول باطل، لدليل خارجي وهو أن الربّ جل وعلا مُتصف بصفات، سواء كانت الصفات ذاتية أم فعلية، اختيارية أم لا .. فحينئذٍ لا يمنعُ أن نقول بالقاعدة مع إبطال هذا القول، ولو قالوا بأنه مجازٌ نقول: هنا المجاز لا يُستعمل، لماذا؟ لأنهم عدلوا -هذه انتبه لها فإنه يغلطُ فيها بعض الطلاب: إنكارُ المجاز لا يكون ردّاً على الأشاعرة في باطلهم ولا المعتزلة ولا الجهمية .. إنكارُ المجاز لا يكون ردّاً عليهم، وإذا جعلت السلاح في إبطال معتقد الأشاعرة هو المجاز أنت ضعيف، لماذا؟ لأن المجازَ استُعمِل سلاحاً ثانوياً لا أولياً، كيف؟ الأول:(وَجَاءَ رَبُّكَ) أول ما قرؤوا فهِموا من (وَجَاءَ رَبُّكَ) المجيءُ تمشي برجلين، لا بدّ أن يحويك شيء علوي وأرض تقلّك، إذا زالت عنك سقطت! لم يفهموا من هذا النصّ إلا هذه المعاني، هذا أولاً.
إذن: ظاهرُ النصِ التشبيه، لم يفهموا من المجيء (وَجَاءَ رَبُّكَ) جاء فعل، وربك فاعل، مثل:(جاء زيد)، مجيءُ زيد الثابت برجلين إلى آخره .. هو الذي أُثبت هنا في هذا الظاهر، حينئذٍ هذا ممتنعٌ، إذن لا بدّ من تأويله، هم يقولون: تأويل، ونحن نقول: تحريف، لا بدّ من تأويهل فعدلوا إلى القول بالمجاز، إذن المجاز متى جاء؟ ليس ابتداء من قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ، ليست سذاجة هي، (وَجَاءَ رَبُّكَ) ابتداء أنه مجاز، ما قالوا بهذا لا أشعري ولا ماتُريدي ولا جهمي ولا معتزلي، إنما قالوا: ظاهرُ هذا النص التشبيه، وقد قال تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] إذن إذا أردتَ أن تنسفَ المجاز ردّاً على ما هو ظاهره التشبيه أخطأت، وإنما تقفُ معهم وقفةً أوليةً تقول: ليسَ ظاهر النصوص التشبيه، فالذي فهمتَه (وَجَاءَ رَبُّكَ) كجاء زيد! هذه حماقة، لا يمكن أن يُوصَف المجيء المثبت للرب جلّ وعلا وهو الخالق كالمثبت للمخلوق، يعني إذا قلت:(وَجَاءَ رَبُّكَ) .. جاء الذباب؟ هل تفهمُ منه المجيء الذي ثبت لزيد؟ هو نفسه المحرف، إذا قال: وَجَاءَ رَبُّكَ لم أفهم منه إلا مجيء زيد، نقول: وجاء السحاب، وجاء الذباب وجاء النمل .. إذن لكل فاعل من هذه الفاعلين نقول: له مجيءٌ يختصُّ به، فلا يُفهم من قوله:(وَجَاءَ رَبُّكَ) أن المجيء هو المجيء الذي ثبتَ لزيد، حينئذٍ لا يُنكَر حذفُ المضاف وهو مجازٌ على القول به؛ لا يُنكر من أجل هذا دفعاً له! لا، وإنما قد تنكرُهُ لأنه لم يثبت عندَك في لسان العرب أو كذا، أما من أجل دفع بدعة الأشاعرة والمعتزلة هذا ضعيف ليس بصحيح، ولا نجعله طاغوتاً ونردّه إلى آخره، نقول: هذا ليسَ له وجه، وإنما يُردّ الأصل الذي اعتمدُوا عليه وهو: أن ظاهر النصوص التشبيه .. مماثلة، نقول: هذا مردودٌ بقوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] والاشتراك إنما يكون في المعنى الكلي الذي يكون في الذهن فحسب، فالمجيءُ مِن حيث هو مجيء هذا مشترك، يدخلُ فيه مجيءُ الربِّ جل وعلا ومجيُء المخلوق سواء كان عاقلاً أو لا يعقل، ثم إذا أُضيف .. نُسِب إلى معين، إن كان خالقاً فاختصّ به المجيء، لا يشبهه مجيءُ المخلوقين، وإذا أضفتَه إلى مخلوق يعقل اختصَّ به، إذا أضفتَه إلى مخلوق لا يعقل اختصّ به.
فالاختصاصُ حاصِلٌ متى؟ بعد الإضافة، وأما قبلَ الإضافة فهو قدر كلي وجوده وجود ذهني، وَجَاءَ رَبُّكَ هنا يقولون: أي أمر ربك! يُقال له أنه فاسد، ليسَ ظاهر النص هو ما ذكروه.
نقف على هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!