الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (المضاف إلى ياء المتكلم) ـ
* حكم ياء المتكلم وحكم آخر ماأضيف إليه
* شرح الترجمة (إعمال المصدر) وتعريفه
* حالات عمل المصدر وشروط العمل.
* اسم المصدر وعمله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى: المُضَافُ إِلى يَاءِ المُتَكَلِّمْ.
هذا تابعٌ لما سبق؛ لأنه داخلٌ في الإضافة، ولكن فصلَه لتميزه ببعض الأحكام، إذن أفردَ هذا الباب بالذكر لأن فيه أحكاماً ليست في الباب الذي قبله، لأن الأصلَ في المضاف أن يكونَ حكمُه الإعرابَ بحسب العوامل المقتضية له السابقة عليه، فإن تسلّطَ عليه عاملٌ يقتضي رفْعَه رفَعَه، وإن تسلّط عليه عامل يقتضي نصْبَه نصَبَه، وهكذا في الجر.
فحينئذٍ الأصلُ فيه ظهور الإعراب، ولكن هنا الحكم يختلفُ، إذا قيل: غلامِي، سبق مراراً أن المضاف إلى ياء المتكلم يجب أن يكون آخر المضاف مكسوراً؛ لأنه لا يناسب الياء إلا الكسر.
وهذا فيه مذاهب، لكن المشهور أنه مُعرَب مُطلَقاً رفعاً ونصباً وخفضاً، تقول: هذا غلامِ، جاء غلامِ، غلام: فاعل مرفوع ورفعُهُ ضمةٌ مقدّرة على الميم، على آخر المضاف. لماذا مُقدّرة؟ لأنه مضاف إلى ياء المتكلم، فحينئذٍ انشغلَ المضاف آخره بحركة مُناسبة الياء؛ لأن الياء لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مكسوراً، فحينئذٍ قُدّرت الضمة وقُدّرت الفتحة في نحو (رأيتُ غلامي)، وقُدّرت الكسرة على الصحيح في نحو (مررت بغلامِ)، هذه الكسرة ليست كسرة إعراب، إنما هي كسرة بنية يعني لمناسبة الياء.
إذن لهذه المناسبة أفردَ الناظمُ المضافَ إلى ياء المتكلم، وسبقَ الكلام في ياء المتكلم عند قوله:
وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ التُزِمْ
…
نُونُ وِقَايَةٍ ...............
قلنا هي بالإجماع اسمٌ هنا وليست حرفاً.
المُضَافُ إِلى يَاءِ المُتَكَلِّمْ: أي هذا باب المضاف إلى ياء المتكلم
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا
…
لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ كَرَامٍ وَقَذَى
أَوْ يَكُ كَابْنَيْنِ وَزَيْدِيْنَ فَذِي
…
جَمِيعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي
وَتُدْغَمُ اليَا فِيهِ وَالوَاوُ وَإِنْ
…
مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ
وَأَلِفَاً سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ
…
هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ
حُكمان شهيران عَنوَنَ للأول بقوله: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ، ثم خصَّ أربعة أنواع لأنه لا يُكسر ما قبل الآخر، إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ، أَوْ يَكُ كابْنَيْنِ وَزَيْدِيْنَ فَذِي -الأربعة- جَمِيعُهَا اليَا.
إذن تم حكمان أو حكم واحد، واستثنى منه هذه الأنواع الأربعة.
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا: أي ياء؟ ياء المتكلم، فـ (أل) هنا حينئذٍ تكونُ للعهد الذكري، أي الياء المذكورة في الترجمة، وهذا أولى من جعلِ المكودي بأنها مُحتملة للياء الذي في قوله:(وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ) هذا بعيد، مشوار بينهما، يحتمل هذا وذاك، لكن ما دامَ أنه ذكرَ الياء في الترجمة لا ينبغي العدول إلى فاصل بعيد فنقول:(وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الفِعْلِ التُزِمْ) لا، ما دامَ أنه قال: المُضاف إلى ياء المتكلم إذن آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا المذكورة في الترجمة وهي ياء المتكلم، حينئذٍ (أل) للعهد الذكري.
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ: وجوباً؛ لأن (اكسِر) هذا فعل أمر، والأمرُ يقتضي الوجوب، حينئذٍ يجبُ كسرُ آخره، والعلة في ذلك مناسبة الياء؛ لأن ما قبلَ الياء يلزم أن يكون مكسوراً، فالانتقالُ من الضم إلى الياء فيه ثِقل، والانتقال من الفتح إلى الياء كذلك فيه ثِقل، وحينئذٍلم يبقَ إلا الكسر، فالكسرُ من جنس الياء، ولذلك قيلَ الياء عبارةٌ عن كسرتين؛ لأنها كسرة مُشبعة مثل الفتحة والألف، نقول: الألف عبارة عن فتحتين؛ لأنها ألفٌ مشبعة والواو عبارة عن حركتين؛ لأنها ضمّة مُشبعة، هذا المشهور عند النحاة.
إذن: آخِرَ مَا أُضِيفَ: آخِرَ هذا بالنصب مفعول مُقدّم لقوله: اكسِر، اكسِر وجوباً آخِر ما أُضيف يعني المضاف، ما أُضيف الذي أُضيف يعني المضاف؛ لأن (ما) هنا موصولة، والموصول مع صلته في قوة المشتق، آخر المضاف كأنه قال: اكسر آخر المضاف، وآخر المضاف هو حرف الإعراب، (مَا أُضِيفَ لِلْيَا) الياء السابقة، والعلة ما ذكرناها.
هذا حكمٌ عام، أنه يجب كسرُ ما قبلَ آخر ياء المتكلم، وأما ياء المتكلم فإذا لم يكن واحدٌ من الأربعة المستثناة حينئذٍ يجوزُ فيها خمسة أوجه، لكن المشهور الإسكان للياء والفتح، فتقول: غلامي، كتابي .. غلاميَ كتابيَ، فحينئذٍ نقول: غلامي، هذا اكسر آخره؛ لأنه أُضيف إلى ياء المتكلم؛ لأنه لا يُناسبه إلا الكسر، اكسره مطلقاً سواء رُكّب مع عامل يقتضي الرفع، أو رُكّب مع عامل يقتضي النصب، أو رُكّب مع عامل يقتضي الخفض؛ فتقول: جاء غلامي، غلامي فاعل مرفوع ورفعه ضمة مُقدّرة على آخره منعَ من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة، وغلامُ مضاف والياء ضمير مُتصل مبني على السكون في محل خفض مضاف إليه.
كذلك (رأيت غلامي)، غلامي: مفعول به منصوب ونصبه فتحةٌ مقدرةٌ على آخره، منعَ من ظهوره اشتغالُ المحل بحركة المناسبة، (غلامي) مضاف والياء مضاف إليه في محل خفض.
(مررت بغلامي) الباء حرف جرّ، وغلامي هنا مخفوض في اللفظ، فلذلك اختلفَ النحاة وهذا الخلاف قويّ؛ لأن الكسرة هذه هل هي كسرة الباء أم أنها كسرة الياء؟ وجهان؛ اختارَ ابنُ مالك في التسهيل أنها كسرةُ الباء، والصواب أنها كسرة الياء يعني: كسرة مناسبة للياء، فحينئذٍ أشبهَ ما تكون بحركة بنية، لماذا؟ لأن التركيبَ سابق على دخول العامل، وإذا كان سابقاً حينئذٍ اقتضى الياء كسر ما قبله، يعني آخر المضاف، ثم دخلَ العامل، هذا الذي يُتصوّر في الذهن، ركّبت أولاً (غلامي)، ثم بعد ذلك قلت: مررتُ بغلامي، إذن لما دخلَ الحرف .. حرفُ الجر على (غلامي) دخل عليه وهو مضاف ومضاف إليه، إذن حصلَ التركيب أولاً فكُسِر آخر المضاف ثانياً، ثم دخلَ العامل ثالثاً فوجدَ الحرف مكسوراً فحينئذٍ لا يمكن أن يحدثَ كَسراً آخر، لأن الحرف الواحد المحل الواحد لا يتحرّك بحركتين: حركة مناسبة وحركة إعراب؛ لا، فحينئذٍ نُقدّر الكسر هذا هو الصحيح وهذا المقتضي القياس.
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ: هذا حكمٌ آخر المضاف، وأما المضافُ إليه فهو الياء، واللغة المشهورة فيه الفتح والإسكان، فتقول: غلاميَ بتحريك الياء بالفتح،
وغلامي، كتابيَ، كتابيْ بالإسكان والفتح، استثنى أربعة أنواع: لا يُكسر ما قبل آخره وهي المعتل وهذا يشملُ نوعين: المقصور والمنقوص.
والثالث: أو يكُ مثنى كابنين.
الرابع: أن يكن جمعاً على حد المثنى كزيدين، هذه الأربعة لا يُكسَر ما قبلها.
وحركة الياء كذلك يتعيّنُ فيها الفتح.
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ: إذا هذا شرط، إذا لم يكُ مُعتلاً .. لم يكن حذفت النون هنا للتخفيف.
ومِن مُضَارِعٍ لِكَانَ مُنجَزِمْ
…
تُحْذَفُ نُونٌ وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ: يعني في الاصطلاح النحوي وهو ما كان آخره حرفاً من حروف العلة، بشرط أن يكون ما قبله حركة من جنس الحرف، حينئذٍ (إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ) نقولُ بالاصطلاح النحوي وهو ما آخِره حرفُ علة قبلها حركة مجانسة له. فخرجَ (دلْو وضْبي)، دلو: آخره واو قبلها سكون، وليست حرف علة، حينئذٍ نقول: هذا يجري مجرى الصحيح، فحكمُه حكمُ قوله: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ، فتقول: دلوي، ضبيي، ثديي .. إلى آخره.
حينئذٍ إذا كانَ آخر الكلمة حرف من حروف العلة وما قبله لم يكن من جنسه، يعني حركة ليست من جنس الحرف، الواو يناسِبُه ما قبلها الضمة، والياء يناسبها ما قبلها الكسرة، والألفُ تلزم الفتحة، حينئذٍ خرجَ نحو: دلو، وضبي، يعني ما لم يكن المضاف إلى الياء مُعتلّ الآخر، وشملَ نوعين: المقصور والمنقوص، ولذا أتى بمثالين قالَ: كَرَامٍ، أصلُها رامي، هذه كقاضي، والمنقوص سبق بيانه.
وَسَمِّ مُعْتَلاًّ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا
…
كَالْمُصْطَفَى وَالمُرتْقَيِ مَكَارِمَا
وبيّنا حكمَه فيما سبق، وعرفنا حقيقةَ المنقوص، ما كان آخره ياء لازمة قبلها كسرة.
والمقصور كذلك كـ (قذى) وهو ما يقعُ في العين، هذا مقصور آخِره ألفٌ لازمة قبلها فتحة، وهذا سبقت بيانُ حدودِه، (أَوْ يَكُ كابْنَيْنِ) يعني أو يكن مثنى كابنين، والمراد بابنين هنا مثال للمثنى، أو جمعاً مذكراً سالم أو جمعاً على حدّ المثنى كزيدين.
حينئذٍ إذا لم يكن واحداً من هذه الأربعة اكسِر آخره، فيشملُ أربعة أنواع: المفرد الصحيح كغلامِ، ويدخلُ فيه المفرد المعتل الجاري مجرى الصحيح كدلو وضبي، ويدخلُ فيه جمعُ التكسير بنوعيه: غلمانِ وهنودِ وزيودِ، ويدخلُ فيه جمع المؤنث السالم، مسلمات وفتيات وفاطمات، فحينئذٍ نقول: هذه الأربعة الأنواع يُكسَر ما قبل آخره، من أين أخذناها؟ من الاستثناء لأن الاستثناء معيار العموم؛ لأنه قال:(إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ) استثنى المعتل بنوعيه المنقوص، والمقصور، والمثنى، وجمع المذكر السالم، ماذا بقي؟ المفرد غلام، إذن إذا أضفتَه اكسِر آخرَه تقول: غلامي، كذلك المفرد الجاري المعتل الآخر، يعني آخره حرفُ علة لكنه لم يكن ما قبلَه من جنس الواو أو الياء، فحينئذٍ يجري مجرى الصحيح، فتقول: دلوي، وغلامي، ونحو ذلك، وضبيي، وكذلك الثالث جمعُ المؤنث السالم تقول: مسلمات وفتيات.
الرابع: جمعُ التكسيرُ تقول: غلمانِ، وزيودِ، وهنودِ .. بنوعيه المؤنث والمذكر.
إذن: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ وجوباً، هذا يشملُ أربعة أنواع، استثنى أربعة أنواع، عرفنا هذه الأربعة بالاستثناء، (إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ) مقصوراً أو منقوصاً، (أَوْ يَكُ كَابْنَيْنِ) وهذا المراد به المثنى، أو (وَزَيْدِيْنَ) وهذا المراد به جمعُ المذكر السالم، فَذِي الفاء فاء الفصيحة، ما حكمُ هذه المستثنيات: المعتل والمثنى وجمع التصحيح؟ قال: فَذِي، كأنه ثم سؤالٌ مُقدّر، فوقعت الفاء هذه في الجواب، فَذِي الأربعة، ذي اسم إشارة (جَمِيعُهُا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي) هذا تركيب عجيب.
فذي مبتدأ أول، وجميعها التوكيد، والياء مبتدأ ثاني، وفتحها مبتدأ ثالث، ثلاثة مبتدءات، وجوّزَ بعضهم جميعه أن يكونَ مُبتدأ ثانياً، والياء مبتدأ ثالث وفتحها مبتدأ رابع أربع مبتدءات.
(احْتُذِي) هذه جملة في محلّ رفع خبر المبتدأ الثالث أو الرابع فَتْحُهَا، وفَتْحُهَا احْتُذِي مبتدأ وخبر في محلّ رفع خبر المبتدأ الثاني أو الثالث الذي هو الياء، و (اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي) مبتدأ وجملة الخبر في محل رفع خبر المتبدأ الذي هو (ذي)، أو جميعها، وجميعها والخبر في محلّ رفع خبر المبتدأ الأول الذي هو ذي، إذن أربعة مُبتدءات أو ثلاثة يجوز فيها، فذي الأربعة جميعها هذا تأكيد، (اليَا) أي ياء؟ ياء المتكلم بعد: يعني بعدها، حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه، بعدها .. بعد، فَتْحُهَا فتح الياء، (احْتُذِي) أي اتبع، وهنا لم يجوِّز وجهاً ثانياً، فقال: احتُذي أي اتبع ما نُقلَ فيه عن العرب، وإذا نُقلَ عن العرب مقالٌ واحد حينئذٍ لا يجوزُ التعدد، وإذا كان كذلك صارَ الفتح واجباً لأنه لم ينص على الوجوب، والفتح واجب، كقوله: اكسِر آخر ما أُضيف لليا، وسكتَ عن الياء لأن الحكم مأخوذ من قوله:(فَذِي جَمِيعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا) إذن يَتعيّنُ الفتح، مفهومه أن الياء في قوله: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا. يجوزُ فيه الوجهان، ولا يجبُ الفتح بل الأصل هو السكون.
إذن للمخالف إثباتُ الحكم .. للمخالف للمستثنى المعتل وما عُطِف عليه حكم الياء أنه واجب الفتح، مفهومُه أن ما قبلَه المستثنى منه أنه لا يجبُ فيه الفتح، بل يجوزُ فيه الوجهان، فحينئذٍ إذا قيل لك: قوله: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ، بيّنَ لك حكمَ المضاف أنه يُكسَر آخره، ولم يتكلّم عن الياء، ما حكمُ الياء؟ هو سكتَ عن الياء، لكن بالمفهوم تأخذُ حكم الياء، وهو أنه يجوزُ فتحها والأصل فيها الإسكان، من أين أخذنا هذا الحكم؟ لأنه ذكرَ حكم المستثنى وهو المعتل والمثنى والجمع، قال: يجبُ فتح الياء، فلما عيّنَ فتح الياء في المستثنى دلَّ على أن ما قبلَ إذا لم يك معتلاً يجوزُ فيه الوجهان وهو جواز الفتح مع الإسكان.
فذي الأربعة، فُهِم منه تخصيص الياء في هذه المواضع أن الياء في غيرها لا يجبُ فتحُها بل يجوزُ فتحها وسكونها.
جَمِيعُهَا تأكيد، فَذِي جَمِيعُهَا، اليَا بَعْدُ بعدَها .. بعد المعتل المنقوص وبعدَ المقصور وبعدَ المثنى وبعدَ جمع التصحيح إذا أُضيف واحد من هذه الأربعة إلى الياء، فَتْحُهَا احْتُذِي: اتبع.
فتقول: هذا راميَ، راميَ بفتح الياء، مع إدغام الياء في الياء كما سيأتي، وتقول: هذا قاضيَ، وهذا قذيَ .. وتقول: هذان غلامَيَ وزيديَ ومسلميَ .. كلها بالإدغام مع فتح الياء، والكلام في الياء التي تكون ثانياً.
إذن فَذِي جَمِيعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي، بعد: أي بعدَها، حال من الياء وهو مُتعلّق بقوله: احتذي، ويجوزُ جعلُ جميعها مبتدأ ثانياً، والياء مبتدأ ثالثاً، وفتحها مبتدأ رابعاً على التصريف الذي ذكرناه.
اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي.
وَتُدْغَمُ اليَا فِيهِ، وَتُدْغَمُ اليَا يعني: ياء المنقوص وياء المقصور وياء المثنى في حالة نصبه وجره، وكذلك جمع التصحيح تدغم فيه، يعني في ياء المتكلم.
وَتُدْغَمُ اليَا: أي ياء؟ ياء المنقوص، وياء المقصور، وياء المثنى، وياء الجمع، فيه: أي في الياء المذكورة، وهي ياءُ المتكلم، وإنما ذكَرَه فِيهِ ولم يقل: فيها لتأويله باللفظ.
ثم قال: وَالوَاوُ: والواو كذلك، تُدغَم فيه يعني: في الياء، لكن ليست تُدغَم فيه مع كونها واواً، لا، تقلب الواو ياء ثم تدغم الياء في الياء.
وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ: فتقول: مسلمون لي مسلمِيَ، أصلها مسلموي واو ساكنة وياء ساكنة، قُلِبت الواو ياء، إذا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون وجَبَ قلبُ المتقدم، إن كان ياء قلب واواً والعكس، هنا الواو ساكنة فوجبَ قلبها ياء، ثم أُدغمت الياء في الياء، لكن بقيت مُشكلة وهي: ضمةُ الميم، مسلموي، هذا الأصل مُسلمُيّ هذا ثقيل، ولو أبقيناها لرجعت الياء إلى أصلها، يعني قُلِبت واواً؛ لأن الياء الساكنة المضموم ما قبلَها يجبُ قلبها واواً، ثم تقلب الواو ياء، فحينئذٍ فراراً من هذا نقلبُ الضمة كسرة، فنقول: مُسلمِي، أصلها مسلمُي، هذا الذي عناهُ هنا:(وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ) مثل: مسلمُي، ضمّ اكسِره، حينئذٍ تقول: مُسلمي، لماذا؟ طلباً للتخفيف، ولئلا تنقلبُ الياء واواً.
يَهُنْ: يعني يسهل، هانَ يهون يعني: يسهلُ النطق بالكلمة.
وَتُدْغَمُ اليَا فِيهِ: عرفنا المراد يعني: ياء المتكلم وياء المنقوص والمقصور، حينئذٍ تُدغَم في ماذا؟ في ياء المتكلم، وَالوَاوُ بالرفع، يعني الواو كذلك، أو وكذا الواو، لكن بعدَ قلبها ياء، ليست هكذا هي واو لا، بعد قلبها ياء، ولم يذكره المصنف اكتفاء بأخذِهِ من قوله: وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ، أي: وكذا الواو من المجموع حال رفعه وفُهِم منه وجوبُ قلب الواو ياء؛ لأن الحرف لا يُدغَم إلا في مثله، هذا واضح بيّن.
وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ: فإن لم يُضم بقي على حاله، مصطفَي مصطفاوي، هذا الأصل واو ساكنة ثم بعدها ياء، قُلبت الواو ياء، فأُدغمت الياء في الياء، فصارَ مُصطفي، هل فيه ثِقل؟ ليس فيه ثِقل، حينئذٍ يبقى.
إذن قوله: وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ. مُسلمُي مسلمِي، تَقلَب الضمة كسرة، وإذا كان مفتوحاً يُبَِقى على حاله، فتقول: مصطفَي.
فَاكْسِرْهُ يَهُنْ: فاكسِره هذا أمرٌ وهو يقتضي الوجوب، فإن لم يَنضم بل انفتحَ بقي على فتحه نحو: مصطفون فتقول: جاء مصطفي.
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ. إذن استثنى من هذه القاعدة: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ. استثنى أربعة أنواع، هذه الأربعة آخرها واجب السكون، يعني ما قبل الياء ما حكمُه؟ ساكن، واجب السكون والياء معَها واجبة الفتح، إذن واجب السكون آخِر ما أُضيف سكّن، والياء نفسها افتحها وجوباً في الموضعين، في آخر المضاف سكّنه وهذا واجب، في المواضع الأربعة، والياء نفسُها وجبَ فتحها بخلاف الأربعة المواضع المفرد، والذي هو كالصحيح، وجمع التكسير بنوعيه، وجمع المؤنث .. آخِره اكسره، والياء يجوزُ فيها الوجهان، هي خمسة أوجه لكن المشهور وجهان.
إذن هذه الأربعة آخرها واجبُ السكون والياء معها واجبةُ الفتح، وإنما وجبَ سكونها –تعليل-؛ لأن آخرها لا يقبل الحركة؛ لأن رامي لا يقبل الحركة لا لذاته وإنما للثقل؛ لأننا حذَفنا حركةَ الإعراب، حينئذٍ يمتنعُ أن يحرّكها بحركة عارضة، لأن الأصل أنه يظهرُ الإعراب نطقاً على الياء، لما تعذّر للثقل حذفنا الضمة والكسرة، فإذا حذفنا الضمةَ والكسرة، حينئذٍ لا يمكن أن نُحرّك الياء بكسرة عارضة.
إذن آخرها لا يقبل الحركة، فآخرُ المقصور والمثنى المرفوع ألف، وهو لا يقبلُ الحركة، وآخر المنقوص والمثنى المجرور والمنصوب وجمع المذكر السالم ياء، واجبة الإدغام في ياء المتكلم، والحرف المدغم في مثله لا يقبل الحركة، إذن سُكّن آخر المضاف في هذه الأربعة لكونه لا يقبل الحركة.
وَأَلِفاً سَلِّمْ: سلّم ألفاً، يعني اتركها سالمة لا تَقلِبها، وهذا في المثنى في حالة الرفع، والمقصور (فتايَ، عصايَ) تبقى كما هي، (غلاماي). أي: اتركها على حالها، وشمِلَ المقصور نحو:(فتايَ، وعصايَ)، والمثنى في حال الرفع (هذان غلاماي)، هذا لغة جمهور العرب أنه في حالة الألف في المثنى رفعاً إذا أُضيفَ لياء المتكلم تبقى الألفُ كما هي لا تقلبها، والمقصور كذلك إذا أُضيف إلى ياء المتكلم حينئذٍ تبقى كما هي، فتقول:(فتايَ، وعصايَ، وغلامايَ) بإثبات الألف، هذه لغة الجمهور، وهذيل -قبيلة- يُبدِلون ألف المقصور ياءً دون ألف المثنى، ألف المقصور فقط، ولذلك قالوا: وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ، في المقصور لا في غيره، وهو المثنى في حالة الرفع، فهو خاصٌّ بحالة واحدة، وهذيل يُبدلون ألف المقصور ياء، ويُدغمونها في ياء المتكلم، ولذلك قال:(وَفِي الْمَقْصُورِ) يعني: لا في ألف المثنى فلا تُبدَل عندهم، (عَنْ هُذَيْلٍ) خاصة (انْقِلَابُهَا) مبتدأ (يَاءً) هذا مفعول لقوله: انقلاب لأنه مصدر.
(انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ) حَسَنٌ هذا خبرُ المبتدأ، يَاءً مفعول به أو بنزع الخافض، يعني لياء، حسن نحو: عصا، يقولون:(عصَيَّ، فتَيَّ، هوَيَّ) يعني بقلب الألف ياء، أصلُها عصا، فتى، ألف .. تُقلَب الألف ياء، ثم تُدغَم الياء في الياء فيقال: عصيَّ وهويَّ.
وَأَلِفَاً سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ
…
هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ
يعني هذه الألف، وَأَلِفاً سَلِّمْ من الانقلاب سواء كانت للتثنية نحو (يداي) أو للمحمول على التثنية نحو (ثنتاي) بالاتفاق، أو آخر المقصور نحو:(عصاي) على المشهور.
قال الشارح: يُكسَر آخر المضاف إلى ياء المتكلم، إذن آخرُ المضاف وجبَ فيه الكسر، وأما الياء نفسها فهذه المشهور فيها لغتان: الإسكان والفتح، أما الإسكان هذا الأصل لأنه مبني وَالأَصْلُ فِي الْمَبْنِيِّ أَنْ يُسَكَّنَا، هذا الأصل فيه، وأما الفتح قالوا: لأنه على حرف واحد، ياء حرف مبني على حرف واحد، والأصل في المبني إذا كان على حرف واحد أن يكونَ محركاً، وأخفُّ الحركات هي الفتحة، فصارَ على أصل آخر. والفتح هو الأصل الثاني؛ لأن الأصل في المبني الذي وضعَ على حرف واحد أن يكون مُتحركاً والفتحة أخفُّ الحركات، ومع جواز الإسكان والفتح في ياء المتكلم فالإسكان أكثر وأشهر.
فيه لغة ثالثة وهي قليلة، أقلّ من اللغتين السابقتين، وهي: حذفُ الياء مع بقاء كسرة المضاف، تقول: جاء غلامِ، بكسر الميم مع حذف الياء، هذه لغة، هذه قُرئ بها كذلك، والرابعة: قلبها ألفاً بعدَ فتح ما قبلها، تقول: غلامِيَ الأصل هذا، تقلب الكسرة فتحة، فحينئذٍ تقول: تحرّكت الياء وانفتحَ ما قبلَها فوجبَ قلبها ألفاً فصار (غلامَ)، وقيل منه:((يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ)) [الزمر:56] أصلها يا حسرتي، ثم قُلبت الكسرة فتحة فتحرّكت الياء وانفتح ما قبلَها، فقلبت ألفاً، صار ((يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ)) أصلها: يا حسرتي.
الخامسة: حذفُها وإبقاء الفتحة (يا حسرتَ) يعني تُحذَف الألف كما حُذفت الياء وإبقاء الكسرة، لتدلَّ عليه، كذلك تحذف الألف تقول: يا غلامَ، بفتح الميم لتدلَّ على الألف المحذوفة، أصلها يا غلاما، هذه الوجوه عامة في باب النداء وفي غيره.
يُكسَر آخر المضاف إلى ياء المتكلم إن لم يكن مقصوراً ولا منقوصاً ولا مثنى ولا مجموعاً جمع سلامة لمذكر، فذي الأربعة هذه مُستثناة، كالمفرد كغلام، وجمعي التكسير الصحيحين، النحاة يعنونون لجمع التكسير بلفظ واحد، وقد يُقسِّمونه إلى قسمين، يعني يقولون: جمع التكسير نوعان: جمع تكسير لمذكر كزيود، وجمع تكسير لمؤنث كهنود، ولذلك قال هنا: وجمعي التكسير، يقصد به المذكر والمؤنث، فتقول: هنودِ، وزيودِ.
وجمع السلامةِ للمؤنث، والمعتل الجاري مجرى الصحيح، والمرادُ به ما كان آخره حرفَ علة وقبله ساكن نحو:(غلامي وغلماني وفتياتي ودلوي وظبيي، وهنداتي وأخواتي)، وإن كان مُعتلاً يعني آخره حرفَ علة؛ فإما أن يكونَ مقصوراً أو منقوصاً، فإن كان منقوصاً أُدغمت ياؤه في ياء المتكلم (هذا قاضِيَّ، هذا رامِيَّ)؛ هذا مبتدأ وقاضِيَّ خبر مرفوع، ورفعه ضمة مُقدّرة على الياء المدغمة في ياء المتكلم.
إذن نقول: هذا قاضِيَّ، مرفوع بضمة مُقدّرة على ما قبلَ ياء المتكلم منعَ من ظهوره اشتغال المحل بسكون الواجب لأجل الإدغام لا الاستثقال كما هو حكمه في غير هذه الحالة.
إذن نقول: مُقدّر، والمانعُ منه هو الإسكان، ومحلّ الإعراب هو الياء، أين الياء؟ مُدغمة في الياء .. ياء المتكلم.
أُدغمت ياؤه في ياء المتكلم، وفُتحت ياء المتكلم وجوباً، (فَذِي جَمِيعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي)؛ فتقول (قاضي) رفعاً ونصباً وجراً، وكذلك تفعلُ بالمثنى وجمع المذكر السالم في حالة الجر والنصب، فتقول:(رأيت غلامَيَ وزيديَ، ومررتُ بغلاميَ وزيديَ)، والأصل بغلامين لي وزيدين لي، فحُذفت اللام تخفيفاً، والنون لأجل الإضافة فقيل: غلامَي، ثم جاءت الياء، والياء ساكنة، فأدغمت الياء في الياء.
وزيدين لي، حُذفت اللام تخفيفاً، والنون للإضافة، فقيل:(زيدي)، ثم جاءت الياء، الأولى ساكنة والثانية مفتوحة .. واجبة الفتح، إذن اجتمعَ مِثلان؛ الأول ساكن والثاني مُتحرّك فوجبَ إدغامُ الاول في الثاني، ثم أُدغمت الياء في الياء وفُتحت ياء المتكلم.
وأما جمعُ المذكر السالم في حالة الرفع فتقول فيه أيضاً: (جاء زيدي ومسلمي) كما تقول في حالة النصب والجر، والأصل (زيدوي ومسلموي)، اجتمعت الواو والياء، أصلُها (زيدون لي ومسلمون لي)، فلمّا أُريدَ التخفيف حُذفت اللام والنون؛ لأجل الإضافة صارَ (زيدوي ومسلموي)، حينئذٍ قُلبت الواو ياء، لماذا؟ للقاعدة: اجتمعت الواو والياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء، ثم هي ساكنة والثاني مُتحركة فوجبَ إدغامُها، ثم جاءت علة وهي كونها مضمومة .. الميم مُسلمُي، حينئذٍ وجبَ قلبُ الضمة كسرة، لتناسبَ الياء لتصحّ؛ لأنها لو لم تُقلب لقُلبت الياء واواً؛ لأن الياء الساكن إذا ضُمّ ما قبلَها وجبَ قلبها واواً، فترجع إلى الأصل، ونحن نريدُ الفرار من الواو إلى الياء من أجلِ الإدغام. والأصل (زيدوي ومسلموي)، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأُدغمت الياء المنقلبة عن الواو في ياء المتكلم، ثم قُلبت الضمة كسرة، لماذا؟ لتصحّ الياء، لذلك علَّلَهُ الشارح .. لتصحّ الياء، أي ياء؟ المنقلبة عن الواو، حينئذٍ علامةُ الرفعِ الواو المنقلبة ياء للموجب، فتقول: جاءَ مسلمي، مسلمي فاعل مرفوع ورفعه الواو المنقلبة ياء، حينئذٍ تكونُ الواو مُقدّرة، وهذا ذكرناه في جمع المذكر السالم هناك، مسلمي، نقول: هذا إعرابه بحرف مُقدّر، أينَ الحرف؟ هو الواو، وليست هي الياء، قد يقولُ قائل: مرفوع والياء هذه هي علامة الإعراب، نقول: لا، جمعُ المذكر السالم يُعرب رفعاً بالواو لا بالياء، وهذه الياء إنما هي ياءٌ تصريفية، يعني الذي جاءَ بها هو تطبيقُ القواعد الصرفية؛ فهي فرع لا أصل، والإعراب يكون بالواو.
ثم قُلبت الضمةُ كسرة، هذا صريحٌ في أن هذا بعدَ قلب الواو ياء وقيل العكس، لتصحّ الياء أي المنقلبة، فصارَ اللفظ (زيدي)، وأما المثنى في حالة الرفع فتسلَمُ ألفُه وتُفتح ياء المتكلم بعده فتقول:(زيداي وغلاماي) عند جميع العرب.
وأما المقصور فالمشهور في لغة العرب جعله كالمثنى المرفوع فتقول: (عصاي وفتاي)، وهذيل تقلب ألفه ياءً وتُدغمها في ياء المتكلم وتفتح ياءَ المتكلم فتقول (عصيَّ)، هذا حكاها عيسى بن عمر عن قريش و (فتي ورحي) قال شاعرهم:
سَبَقُوا هَوَيَّ وأعنَقُوا لِهَواهُمُ
…
فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
هوي: هواي هذا الأصل، فقُلبت الألفُ ياء ثم أُدغمت الياء في الياء هوي.
فالحاصلُ أن ياءَ المتكلم تفتح مع المنقوص كراميَ والمقصور كعصايَ والمثنى كـ (غلامايَ) رفعاً وغلاميَ نصباً وجراً، وجمع المذكر السالم كـ (زيديَ) رفعاً ونصباً وجراً، وندَرَ إسكانها أي الياء في قراءة نافع وَمَحْيَايْ، وكسرها بعدَها في قراءة الأعمش والحسن (هِيَ عَصَايِ) يعني بكسرِ الياء، وهو مُطرد في لغة بني يربوع في الياء المضاف إليها جمع المذكر السالم، وعليه قراءة حمزة (بِمُصْرِخِيِّ إِنِّي)، الأصل فيها (بمصرخيَّ) لأنه جمعُ مذكر سالم أُضيف إلى ياء المتكلم، فالقاعدة ما هي؟ وجوبُ فتحِ الياء، لكن هنا كُسرت (بِمُصْرِخِيِّ إِنِّي).
فالياء مُدغَم فيها الفصيحُ الشائع فيها الفتحُ، وكسرُها لغة قليلة حكاها أبو عمرو بن العلاء والفراء وقطرب، وبها قرأ حمزة في الآية السابقة.
وكَسَرَ ياء (عصايِ)، الحسن، وأبو عمرو في شاذه وهو أضعف من الكسر مع التشديد.
وهذا معنى قوله: فَذِي جَمِيعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي.
وأشارَ بقوله: وَتُدْغَمُ إلى أن الواو في جمع المذكر السالم والياء في المنقوص وجمع المذكر السالم والمثنى تُدغَم في ياء المتكلم، وأشارَ بقوله: وَإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ إلى أن ما قبلَ واو الجمع إن انضمَّ، ليسَ دائماً مضموماً يعني لفظاً، وإلا الأصلُ يكونُ مُقدراً. عندَ وجودِ الواو يجب كسرُهُ عندَ قلبها ياء لتسلم الياء، فإن لم ينضمّ بل انفتح بقيَ على فتحه نحو: مصطفون فتقول: مصطفيَّ، جاء مصطفيَّ.
في المضاف إلى ياء المتكلم حيث الإعراب والبناء أربعة مذاهب، (غلامي):
المذهب الأول: أنه مُعرَب بحركات مُقدّرة في الأحوال الثلاثة رفعاً ونصباً وخفضاً، وهو مذهب الجمهور، وهذا هو الصحيح، أنه مُعرب في حالة الرفع بضمة مُقدّرة منعَ من ظهوره اشتغالَ المحل بحركة المناسبة، وكذلك في حالة النصب كالرفع، وكذلك في حال الخفض على الصحيح.
المذهب الثاني: أنه مُعرب في الرفع والنصب بحركة مُقدّرة، وفي الجر بكسرة ظاهرة، واختارَه ابنُ مالك في التسهيل، يعني فصَّل قال:(جاء غلامي، ورأيت غلامي) الحركتان مُقدرتان، وأما مررتُ بغلامي فالحركة ظاهرة، الباء حرفُ جرّ، وغلام مجرور بالباء وجرُّه كسرة ظاهرة، لأنا لا نحتاجُ إلى التقدير؛ وُجِدت الكسرة فهي أولى، الصواب لا، أن الكسرة هذه سابقة على دخول العامل.
المذهب الثالث: مبني وإليه ذهب الجرجاني، لماذا مبني؟ لأنه لازم حالة واحدة، وهذا شأنُ المبني تقول:(جاءت حذامي، ورأيت حذامي، ومررت بحذامي)، (جاء غلامي، ورأيت غلامي، ومررت بغلامي) إذن هذا مبني، وهذا ضعيف.
والمذهب الرابع: لا معرب ولا مبني، وإليه ذهب ابن جني، ذهبَ إلى أنه لا معرب ولا مبني، لماذا لا معرب؟ لأنه لو كان معرباً لظهرت الضمة في قوله: جاء غلامي، ولظهرت الفتحة في قوله: رأيتُ غلامي، ولا مبني لأنه لا يوجد فيه سببُ البناء كالشبه الوضعي، والمعنوي، والافتقاري .. إلى آخره.
فلما انتفى سببُ البناء ولم يوجد أثر الإعراب قال: لا معرب ولا مبني، حينئذٍ يكون واسطة بين المعرب والمبني.
إذن: آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ. وجوباً، هذه قاعدة عامة وهي الأصل، وحركة الياء تكون الفتح أو الإسكان على المشهور في لغة العرب، مع الثلاثة الأحوال الأخرى.
إِذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاًّ: منقوصاً أو مقصوراً.
أو يك مثنى أو جمع مذكر سالم.
فَذِي الأربعة جَمِيعُهَا بلا استثناء اليَا يعني ياء المتكلم بَعْدُ بعد الياء بعد ذكرها، (فَتْحُهَا احْتُذِي) اتبع، وإذا كان كذلك صارَ واجباً؛ لأنه لم يُنقل خلافه.
وَتُدْغَمُ اليَا فِيهِ، يعني ياء المنقوص، وياء المثنى في حالتي النصب والجر، وياء جمع المذكر السالم في حالتي النصب والجر، وَالوَاوُ كذلك لكن بعد قلبها ياء.
وإِنْ مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ: فإن لم يَنضمّ حينئذٍ بقِّهِ على فتحه.
وَأَلِفاً سَلِّمْ: يعني ألف المقصور، وألف المثنى في حالة الرفع سلِّمه يعني اتركه على حاله، لا تقلبه.
وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ: لغة العرب الشهيرة إبقاء ياء المقصور، فتقول:(فتايَ وعصايَ)، حينئذٍ يتعينُ تحريك الياء، إلا في (محيايْ) قراءة خاصة، وإلا في لغة العرب أنه يجبُ التحريك للتخلص من التقاء الساكنين، (فتاي) ألف ساكنة والياء ساكنة، حينئذٍ يتعينُ تحريك الياء هذا مما جرى فيه على خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنه يُحرّك السابق .. الساكن الأول، وهنا عُكسَ حينئذٍ هذا مستثنى.
عَنْ هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ.
إِعْمَالُ المَصْدَرِ
أي هذا باب إعمال المصدر.
سبقَ بيانُ المصدر ما هو، وأنه الاسم الدالُّ على الحدث الجاري مجرى فعله.
اَلْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ
…
مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ
اَلْمَصْدَرُ اسْمُ، مدلوله هو الحدث، إذن هو اسم الحدث، كالضرب هذا لفظ، مدلوله نفس الضرب والقتل هذا اسم، مدلوله نفس الحدث الذي هو القتل.
إذن هو الاسمُ الدالُّ على الحدث الجاري مجرى فعله، سبقَ بيانُه من حيث هو، والآن سيتحدثُ الناظم عن إعماله؛ لأنه يعملُ عمل الفعل يعني يرفع إن احتاج إلى فاعل، وينصبُ إن احتاج إلى مفعول به، فنقول: يرفعُ إن احتاج إلى فاعل لأنه يجوزُ حذف المصدر كما سيأتي، قد لا يجبُ ذكره كالفعل، حينئذٍ نقول: يعملُ عملَ الفعل، هل يعملُ عملَ الفعل لأنه أشبهَ الفعل أو لأنه هو أصل الفعل؟ قولان للنحاة: المشهور: أنه أشبه الفعل والفعل لازم ومتعدي.
فحينئذٍ إذا أشبهَ الفعل اللازم رفع ولم ينصب، وإذا أشبه الفعلَ المتعدي؛ فإما أن يتعدّى إلى واحد أو اثنين أو إلى ثلاثة، حينئذٍ يعملُ عملَ الفعل المتعدي فقد ينصبُ مفعولاً أو اثنين أو ثلاثة، هذا المشهور عند النحاة، والصحيح أنه إنما أُعمِل لكونه أصل الفعل، وإلا الأصل فيه السماع، يعني العرب أعملَت المصدر إعمال الفعل وسبقَ أن المصدر أصل للفعل، وَكَوْنُهُ أَصْلاً لِهذَيْنِ انْتُخِبْ.
حينئذٍ يرِدُ الإشكال كيفَ يكون أصلاً والفعل فرعٌ، ثم يُشَبَّه الأصلَ بالفرع في العمل؟ هذا محلّ إشكال لا جوابَ عليه، ولذلك التعليل بكونه يعملُ لكونه أصلاً للفعل والفعل يعملُ فأصله من بابٍ أولى أحرى هذا بالتعليل من أن يُقال بأنه أشبهَ الفعل، كيف أشبَهَ الفعل؟ يعني حُمِل على الفعل، إذن الأصل حملُ على الفرع، أيّهما وُجِد أولاً؟ هذا كحملِ الأب على الابن، والأصلُ أن يُحمل الابن على الأب.
إذن في إعمال المصدر علتان: لماذا أُعمِل؟ لأنه جامد، ولذلك سبقَ: وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ، لماذا قلنا هو سماعي؟ لأن الأصل في الحال أن تكون مُشتقّة، والجامد ليسَ بمشتقّ، ومنه المصدر، وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ، كان الأولى أن يصفَ به وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ.
هنا الأصلُ في المصدر أن لا يعملَ، فحينئذٍ لما أُعمل لا بدّ من بحثٍ عن علة إعماله، القول بأنه أصلٌ للفعل والفعل يعمل، وما كان أصلاً للعامل والفعل أصلُ العواملِ هو أولى بالعمل وأحرى، بدلاً من أن يُقال أشبه الفعل.
إِعْمَالُ المَصْدَرِ أي: هذا باب إعمال المصدر.
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ في الْعَمَلْ
…
مُضَافاً اَوْ مُجَرَّداً أَوْ مَعَ أَلْ
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ
…
مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
أَلحق المصدرَ بفعله في العمل، فقولُه أَلْحِقْ هذا فعل أمر، والْمَصْدَرَ مفعول به مُقدّم عليه، وبِفِعْلِهِ جار ومجرور مُتعلق بقوله: أَلْحِقْ، و (في الْعَمَلْ) كذلك مُتعلق بقوله: أَلْحِقْ.
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ في الْعَمَلْ: يعني أن المصدر يلحق في العمل بفعله الذي اشتُقّ منه، في رفعِ الفاعل إن كان لازماً؛ لأن الفعلَ إما أن يكون لازماً وإما أن يكون متعدياً، فيُلحَق المصدرُ بالفعل اللازم، والفعلُ اللازم يرفعُ فاعلاً، فكذلك المصدر يرفعُ فاعلاً نحو: عجبتُ من قيام زيد، قيام هذا مصدر، فعله (قام)، (قام) يرفعُ فاعلاً تقول:(قامَ زيدٌ) مثله المصدر، كما تقول:(قام زيدٌ) يرفع ولا ينصب، كذلك القيام الذي هو مصدر نقول: هذا يرفع، (عجبتُ من قيام زيد)، أين الرفع؟ هنا أُضيف المصدر إلى فاعله ولو قيل:(عجبتُ من قيامٍ زيدٌ) لصحّ كذلك.
كما تقول: (عجبت من ضربٍ زيدٌ عمراً) بالتنوين، زيدٌ هذا فاعل، وعمراً مفعول به، (عجبتُ من قيامٍ زيدٌ) لا إشكال فيه، (من قيامِ زيدٍ) نقول هذا الأصل، حينئذٍ أُضيف المصدر إلى الفاعل، هل تعدى .. نصب مفعولاً به؟ الجواب: لا، لماذا؟ لكونه أُلحِق بفعله في العمل، والفعل (قام) لازم يرفع فاعلاً ولا يتعدى إلى مفعول.
وفي رفع الفاعل ونصب المفعول إن كان متعدياً لواحد، (عجبت من ضرب زيدٍ عمراً)، عجبتُ من ضرب، ضرب: مصدر، (زيدٍ) أضيف المصدر إلى فاعله، وعمراً هذا مفعول به، ومنه قوله تعالى:((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)) [البقرة:251](الناس) هذا مفعول به.
(عجبت من ضرب زيد عمراً)، ويتعدّى بحرف الجرّ إن كان فعله يتعدّى بذلك الحرف نحو:(أعجبني مرورٌ بزيد)، مرورٌ بزيد تعدى بالباء، لماذا؟ لكون مرّ الفعل يتعدى بالباء، مررتُ بزيد، مرورٌ بزيد، ويتعدّى إلى مفعولين إن كان فعله كذلك نحو: عجبتُ من إعطاء زيدٍ عمراً درهماً، إعطاء مصدر، أعطى يُعطي إعطاءً، أُضيف إلى الفاعل من إعطاء زيد، عمراً درهماً، عمراً مفعول أول، ودرهماً مفعول ثاني.
هنا نصبَ المصدرُ مفعولين بعد إضافته إلى الفاعل، لماذا؟ لكونِ أعطى الفعل يتعدّى إلى مفعولين، وكذلك المتعدّي إلى ثلاثة نحو: عجبتُ من إعلام زيدٍ عمراً بكراً شاخصاً، عجبتُ من إعلام أعلم يُعلم.
إِلى ثَلَاثةٍ رَأَى وَعَلِمَا
…
عَدَّوْا إِذَا صَارَ أَرَى وَأعْلَمَا
إذن مصدر أعلمَ يتعدّى إلى ثلاثة؛ لأن الفعل منه أعلمَ يتعدّى إلى ثلاثة، عجبتُ من إعلام زيدٍ عمراً بكراً شاخصاً .. هذه ثلاثة مفاعيل.
وهذا كله مُستفاد من قول الناظم: بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ فى الْعَمَلْ.
إذن: بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ. ألحق المصدر بفعله تعدّياً ولزوماً -هذه قاعدة عامة- تعدّياً ولزوماً، فإن كان فعله مشتق، المشتق منه لازماً فهو لازم يعني المصدر لازم، وإن كان مُتعدياً فهو متعدٍّ إلى ما يتعدّى إليه بنفسه أو بحرف جرّ، فإن تعددت المفاعيل تعددت المفاعيل كذلك، ويخالف المصدر فعله في أمرين:
الأول: أن في رفعه النائب عن الفاعل خلافاً، الفعل يرفعُ نائب فاعل أو لا؟ يرفع لا إشكال فيه (ضُرب زيد)، (يُضرب زيدٌ). زيدٌ: نائب فاعل في المثالين، المصدر هل يرفعُ نائب فاعل؟ هذا فيه خلاف.
إذن لم يختلف في الفعل في كونه يرفعُ نائب فاعل، واختُلف في المصدر. أن في رفعه النائب عن الفاعل خلافاً، ومذهبُ البصريين جوازُه، ووجه المنع وهو مذهب الأخفش ما فيه من الإلباس؛ لأنك إذا قلتَ مثلاً: عجبتُ من ضربٍ عمروٌ، وأردتَ بضرب مضروب، حينئذٍ عمروٌ هل هو فاعل أو مفعول؟ هذا فيه لبس، وإذا كان كذلك فالأصل فيه المنع.
إذا قلت مثلاً: عجبتُ من ضربٍ عمروٌ، تبادر إلى الذهن المبني إلى الفاعل.
وقال أبو حيان: يجوزُ إذا كان فعلُه مُلازماً للبناء، يعني يجوزُ أن يرفعَ المصدر نائب فاعل إذا كان فعله ملازماً للبناء، سيأتينا بعض الأفعال لم يُسمَع لها مبنياً للمعلوم مثل: زُكم، فُعِل. الأصلُ أنه زَكم، هل سُمِع (زَكم) كـ (ضَرب)؟ لم يُسمع، وإنما سمع ابتداء (زُكم)، ولذلك اختلفَ البصريون والكوفيون، هل فُعِل أصل أم فرع؟
الكوفيون على أنه أصل، ولذلك الأفعال عندهم أربعة، فَعَلَ، وفَعِلَ، وفَعُلَ، وفُعِلَ .. أربعة أصول، وعندَ البصريين ثلاثة: فَعَلَ، وفَعِلَ، وفَعُلَ كلّها بفتح الفاء، وليسَ عندَهم فُعِلَ بضم الفاء، وإنما هي مُلازمة للفتح، فحينئذٍ هل هو أصل أم فرع؟ نقول: هو فرع هذا الصواب، إذا كان فرعاً يستلزمُ أصلاً، يعني (ضُرب) يستلزم (ضَرب)، و (يُضرب) يستلزم (يَضرب)، فسُمع بعض الفروع ولم يُسمع لها أصول، كزُكم لم يسمع زَكم، أبو حيان يرى أنه إذا كان الفعل مبنياً للمعلوم ولم يُسمع له أصل وهو المبني للمعلوم جازَ في مصدره أن يَرفعَ نائب فاعل، وما عداه فلا، إذن تفصيل بين المسألتين.
يجوز إذا كان فعله مُلازماً للبناء للمجهول كزُكم لعدم الإلباس حينئذٍ، لا يلتبس، أما (من ضربٍ) نقول: من ضربٍ هذا يُستعمل مبنياً للمعلوم ومغيرَ الصيغة، حينئذٍ يحتمل أما (زُكم) هذا لا يحتمل إلا نائب فاعل. لعدم الإلباس حينئذٍ، إذن أبو حيان فصَّلَ فقال: يجوز إذا كان فعله ملازماً للبناء للمجهول كزُكم لعدم الإلباس حينئذٍ؛ لأنه لا يرفع فاعلاً وإنما يرفع نائبَ فاعل فقط، فيجوزُ أعجبني زكامٌ زيد (زكام) فاعل، و (زيد) هذا نائب فاعل، هل يحتمل أنه فاعل؟ لا، لا يحتمل، لماذا؟ لأن زكام هذا مصدر، فعله زُكم لا يرفع فاعلا، حينئذٍ المصدر يُلحَق بفعله إن رفعَ فاعلاً حينئذٍ يرفع فاعلاً، إن تعيّنَ رفعه لنائب الفاعل، حينئذٍ تعيّنَ، وهذا مثال غريب، فالأقوال ثلاثة حينئذٍ: المنع، الجواز، التفصيل.
يعني هل يرفعُ المصدر نائب فاعل؟ قول بالمنع للإلباس، قول بالجواز وهو مذهب جمهور البصريين، التفصيل وهو مذهب أبو حيان، وهذا جيد مذهب أبي حيان، أنه إذا كان الفعل لم يُسمع له أنه رفع فاعلاً وإنما يكون ملازماً للبناء للمجهول جازَ لمصدره أن يرفعَ نائب فاعل؛ لأنه لا يلتبس، وأما (عجبت من ضرب عمرو) على أنه نائب فاعل هذا مُشكل، هذا يوقع في اللبس، إذن يُفارق المصدر فعله في هذين الأمرين.
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ في الْعَمَلْ
…
مُضَافاً أَوْ مُجَرَّداً أَوْ مَعَ أَلْ
هذا بين لك على الترتيب التنازلي في أن المصدر يعمل مطلقاً، سواء كان مُضافاً إلى غيره .. سواءٌ كان المضاف إليه فاعلاً أو مفعولاً به على التفصيل الآتي، أَوْ مُجَرَّداً يعني من الإضافة وأل، حينئذٍ يعمل، وهذا محل وفاق.
أَوْ مَعَ أَلْ: بأن كان مُحلاً بأل.
ففي هذه المواضع الثلاث يجوزُ إعمال المصدر، لكنها ليست على مرتبة واحدة، ولذلك قَدّم المضاف لأنه مُتفق على إعماله. أشارَ في النظم إلى الترتيب فإعمال الأول أكثر الذي هو المضاف، وهذا محلّ وفاق بين النحاة أنه يعمل، والثاني أقيس .. المجرد، أقيس لماذا؟ قالوا: لأنه .. والعلة عندهم إنما أعمل المصدر لمشابهته الفعل، وكلما تجرّدَ المصدر عن أل والإضافة -ومعلوم أن أل والإضافة من خصائص الأسماء-، كلّما تجرد عنهما ازدادَ قربه بالفعل؛ لأنَّ الفعل في قوة النكرة، بل في معنى النكرة، وكذلك المجرد هو نكرة.
حينئذٍ إذا أُضيف التبسَ به ما هو من خصائص الأسماء فأبعده الشبه، كذلك إذا حُلِّي بأل نقول: اتصلَ به ما هو من خصائص الأسماء، حينئذٍ ابتعدَ عن الفعل، ولذلك كانت على الترتيب، وإن كانَ الأصل أن المجرد هو الذي يكون أكثر، لكن سُمِع من جهة نقل العرب إعمال المضاف أكثر مِن المجرد، مع كون المجرد أقيس من المضاف؛ لأن الأصل في المضاف أن لا يعمل، وإن عملَ فعمله يكون قليلاً وضعيفاً؛ لأنه تلبّس به ما هو من خصائص الأسماء.
كذلك المحلى بأل، الأصلُ فيه أنه لا يعملُ لأنه اتصل به ما هو من خصائص الأسماء وإنما أُعملَ المصدر لمشابهته الفعل، وهذا يدلّ على أن التعليل بالمشابهة فيها ضعف؛ لأنه سُمع إعلام المضاف أكثر من إعمال المجرّد، والمضاف هذا ليسَ فيه شبهٌ بالفعل؛ لأنه بعيدٌ عن الفعل بالإضافة؛ لأنّه من خصائص الأسماء. إن سُمِع على قلة الإعمال المحلى بأل، والأصلُ فيه أنه لا يعمل، دلَّ على أن تعليل النحاة بأن المصدر إنما أُعمِل لمشابهته للفعل فيها ضعف، بل الصواب أنه أصل للفعل، وعلى كل هو سماعي.
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ في الْعَمَلْ
…
مُضَافاً أَوْ مُجَرَّداً أَوْ مَعَ أَلْ
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا: أن المصدرية وقال بعضهم: المخففة من الثقيلة كذلك، فـ (أن) تشمل النوعين، والمشهورُ عندَ النحاة (أن) المصدرية، أو (ما) المصدرية.
إِنْ كَانَ فِعْلٌ: كَانَ ناقصة، فِعْلٌ اسم كان، مَعَ أَنْ: مَعَ مضاف، وأَنْ مضاف إليه قُصِد لفظه، أَوْ للتنويع والتقسيم، (ما) المصدرية معطوف على قوله:(أن) يعني مع (ما) المصدرية.
يَحُلّ: خبر كان، ظاهرُه أن هذا القيد شرطٌ في إعمال المصدر؛ لأنه قال: أَلحق المصدر بفعله في العمل إن كان -فهو قيد فيه-، فإن لم يكن فلا تلحقه بالفعل، أليسَ مفهوم الشرط أنه إذا قيّده بشرط فحينئذٍ يدورُ معه وجوداً وعدماً، فكأنه قال: ألحقه بفعله في العمل إن كان يُقدر المصدر بفعل مع (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية، فإن صحّ التقدير أُلحق به، فإن لم يصحّ التقدير فلا عمل، هذا ظاهره، أنه شرطٌ. ظاهره أنه شرط لازم، وقد جعلَه في التسهيل غالباً، يعني ليسَ بشرط مُطّرد، بل هو أمر أغلبي.
وقال في الشرح -شرح التسهيل-: وليسَ تقديره بأحد الثلاثة شرطاً في عمله، بأحدِ الثلاثة الله أعلم يريد به (أن) المصدرية و (ما) المصدرية و (أن) المخففة من الثقيلة.
وليس تقديرُه بأحدِ الثلاثة شرطاً في عمله، ولكنَّ الغالب أن يكون كذلك، وإن كان أكثرُ المتأخرين على جعله شرطاً أساسياً، لكن نُقِل إعمال المصدر مع عدمِ صحة إحلال (أن) أو (ما) مع الفعل محلّ المصدر، فحينئذٍ يتعيّنُ أن يكونَ شرطاً لكنه ليس بشرطٍ مُطرد، وإنما هو شرط أغلبي، يعني في كثير من الأحوال أن لا يعمل المصدر إلا إذا صحّ أن يحلّ محله .. مكانه (أن) والفعل أو (ما) والفعل، فإن لم يكن كذلك صحَّ لكن في قلة، يعني قليل، قد يُعبر عنه بأنه على قبح.
ليسَ تقديره بأحدِ الثلاثة شرطاً في عمل، ولكن الغالب أن يكون كذلك، بدليل عمله مع امتناعِ التقدير بذلك نحو:(ضربي زيداً قائماً)، هنا يمتنعُ أن يأتي ضربي في محلّه (أن يضرب) أو (أن ضربت) أو (ما ضربت) يمتنع؛ لأن (ضربي زيداً قائماً)، قائماً قلنا هذه حال، ضربي زيدٌ قائماً، إذ كان زيدٌ قائماً، إذا كان زيدٌ قائم، وكان يمتنع أن يحلّ بعدها (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية؛ لأن ما بعدها مبتدأ، والمبتدأ لا يكون كذلك.
كذلك قوله: وإنَّ إكرامك زيداً حسن، إن أكرامك زيداً (زيداً) هذا مفعول لقوله: إكرام وهو مصدر، هل يصحّ أن يحلّ محلّه (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية مع الفعل؟ لا، لماذا؟ إنَّ إكرامك هل يصحّ أن يتلو (إنَّ)(أن) المصدرية أو (ما) المصدرية؟ لا يصحّ، حينئذٍ يتعيّنُ أن يكون المصدر هنا قد عمِلَ مع تخلّف الشرط، ولذلك يُريد أن يستدلّ ابنُ مالك رحمه الله بإعمال المصدر معِ امتناع تحقق الشرط؛ لأنه قال: إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ مَحَلَّهُ. قلنا هذا أغلبي ليسَ بشرط، وحمله كثير من المتأخرين على أنه شرط مُطرد.
فابنُ مالك يقول في بعض المواضع: يعمل المصدر ويمتنعُ أن يحلّ محله (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية، ومن أبرزها (إن إكرامك زيداً حسن)، (إكرامك) هذا لا يصحُّ أن يحلّ محلّه (أن) المصدرية مع الفعل أو (ما) المصدرية، لماذا؟ لأن (إن) هذه خاصّة بالمبتدأ، فلا يصحُّ أن يقال: إن ما ضربت، هذا باطل لا يصح التقدير.
كذلك قوله: وكان تعظيمك زيداً حسناً، كالقول فيه.
في هذه الأمثلة الثلاثة يمتنعُ أن يحلّ محلّ المصدر (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية.
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ مَحَلَّهُ: إن صحّ تقديره على ظاهر النظم فحينئذٍ صحّ إعماله، وإن لم يصحّ فحينئذٍ لا يصح إعماله.
قال الشارح: يعملُ المصدر عمل الفعل في موضعين:
أحدهما -هذا اختُلف فيه-: أن يكونَ نائباً مناب الفعل، وهذا سبقَ في باب المفعول المطلق.
ضرباً زيداً، اضرب ضرباً، ضرباً هذا أُقيم مقامَ اضرب، وزيداً قيلَ هذا معمول لـ (ضرباً) وقيل للفعل المحذوف، وهل هذا قياس أم لا؟ هذا سبقَ البحث فيه.
أن يكونَ نائباً مناب الفعل يعني بدلاً مِن اللفظ بفعله. ضرباً زيداً، فزيداً منصوب بضرباً لنيابته منابَ (اضرب) وفيه ضمير مُستتر مرفوع به كما في اضرب وقد تقدّمَ ذلك في باب المصدر.
وذهبَ ابنُ هشام إلى أنه منصوب بفعل مُضمر ليس بالمصدر. ضرباً زيداً، زيداً هذا مفعولٌ به لفعل محذوف يُفسّره المذكور، يعني: اضرب زيداً، ليَس هو الذي حذف؛ لأن الذي حُذف أُقيم ضرباً مقامه، حينئذٍ صارَ كالعوض عنه، بل عوضٌ عنه، فحينئذٍ لا يجمعُ بين العوض والمعوض عنه.
بقي الكلام في زيداً، فحينئذٍ هل هو منصوبٌ بضرباً أو منصوب بفعل مُضمر؟ اختار ابنُ مالك أنه منصوب بضرباً وذهبَ ابنُ هشام إلى أنه بفعل مضمر.
واختُلِف فيه فقيل: لا ينقاس عملُه، وقيل: ينقاس في الأمر والدعاء والاستفهام فقط، وقيل: والإنشاء، هذا ذهب معنا.
والموضع الثاني وهو المراد هنا: أن يكونَ المصدر مُقدّراً بـ (أن) مصدرية، والفعل، أو بـ (ما) المصدرية والفعل وهو المراد بهذا الفصل فيُقدّر بأن إذا أُريد المضي أو الاستقبال.
إذا أُريد بالمصدر المضي .. الزمن الماضي أو الاستقبال قُدّر بـ (أن).
(عجبتُ من ضربك زيداً أمس)، (عجبت من ضربك زيداً غداً)، (عجبت من أن ضربت زيداً أمس)، تُقدّر في الماضي (أن) والفعل الماضي، وفي المستقبل (عجبت من أن تضرب زيداً غداً)، تُقدّر (أن) والفعل المضارع.
إذن إذا أُريد المضي أو الاستقبال قدّرت (أن)، إذن (أن) أو (ما) ليست بالخيار في كل محلّ.
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ، وإنما باختلاف المراد من الزمن، يعني زمن المصدر، إن كان المراد به الماضي أو الاستقبال قدّرته بـ (أن)، ثم إذا أُريد المضي جعلتَ الفعل معه ماضياً، وإن أردتَ الاستقبال جعلتَه معه مضارعاً.
والتقدير: مِن أن ضربت زيداً أمس، أو من أن تضرب زيداً غداً، ويُقدّر بما إذا أُريد به الحال: عجبتُ من ضربك زيداً، عجبتُ مما تضرب زيداً الآن، إذا أُريد به الحال جئت بـ (ما) مع الفعل المضارع، وهل يمكن مع الفعل الماضي؟ لا؛ لأن الذي يدلُّ على الحال هو الفعل المضارع.
وهذا المصدر المقدّر يعملُ في ثلاثة أحوال مضافاً نحو: عجبتُ من ضربك زيداً، ومجرّداً عن الإضافة وأل وهو المنون (ضربٍ ضربٌ ضرباً)، حينئذٍ نقولُ: هذا مضاف، هذا مجرّد عن الإضافة، ومحلىً بالألف واللام:(عجبتُ من الضرب زيداً)، ولا خلاف في إعمال المضاف، وإنما الاختلافُ واقعٌ في المحلى بـ (أل)، أما المضافُ فهذا محلّ وفاقٍ بينَ النحاة أنه يعملُ، والمجرد أجازَهُ البصريون ومنعَهُ الكوفيون، إذا كان مُجرّداً، فإن وقعَ بعده مرفوع أو منصوب فهو عندَهم بفعل مُضمر يدلّ عليه المصدر المذكور، هذا إذا كان مجرّداً، (عجبت من ضربٍ زيدٌ عمراً)، حينئذٍ نجعلُ (زيدٌ) فاعلاً لفعل محذوف، وهو العاملُ في المفعول به .. الناصب زيداً، وأما ضربٍ المصدر هذا قالوا: لا يعمل، هذا ليس بصحيح، لماذا؟ لأنه إذا جُوّز إعمال .. أولاً: السماع، سُمع إعمالُه مجرداً، ثانياً: إذا جُوّز مع المضاف وكانت العلة عند جماهير النحاة أنها مشابهة الفعل، فالمجرّد من باب أولى وأحرى، لذلك قال بعضُهم: الأول أكثر والثاني أقيس، الذي هو المجرّد، وإن منَعَهُ بعضُ الكوفيين.
فإن وقعَ بعدَه مرفوع أو منصوب فهو عندَهم بفعل مضمر، وأما المحلى بـ (أل) هذا أجازه سيبويه، وإلا فيه أربعة مذاهب، يجوزُ إعماله مطلقاً، وإن كانت (أل) تُبعِد شبهه بالفعل لكون (أل) من خصائص الأسماء، وحجّتهم هو الورود والسماع.
إذن: الجوازُ مُطلقاً في المحلى بـ (أل).
مع كون (أل) تبعده عن مشابهة الفعل، إذن لماذا خالفنا؟ للسماع، السماع هو الأصل في اللغة.
الثاني: لا يجوزُ مطلقاً، وهذا يردّه السماع؛ لأن (أل) من خصائص الأسماء، فأبعدت شبهَهُ بالفعل وهو قولُ البغداديين وبعض البصريين.
المذهب الثالث: يجوزُ مع قبح، جائز أن يعملَ المصدر محلى بـ (أل) لكنه قبيح، يعني لا يستسيغه الإنسان أن يستعمله في نثر الكلام، وهو قول الفارسي.
الرابع: يجوزُ إعماله إذا كانت (أل) فيه معاقبة للتنوين، وهذا رأي ابن طلحة ووافقه أبو حيان، إذا كانت (أل) قائمة مقام التنوين جازَ إعماله، والصوابُ هو الأول: أنه يجوزُ إعماله مطلقاً بلا قُبح للسماع.
وإعمالُ المضافِ أكثرُ من إعمال المنون سماعاً، وإن كان إعمالُ المنونِ أقيس؛ لأنه مجرد من (أل) والإضافة.
وإعمالُ المنون أكثر من إعمال المحلى بـ (أل)، ولهذا بدأ المصنف بذكرِ المضاف، ثم المجرد، ثم المحلى، ومن إعمالِ المنون قوله تعالى:((أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)) [البلد:14]((يَتِيمًا))، (إطعامه يتيماً) حُذِف الفاعل هنا، قدّره هكذا ابنُ هشام في قطر الندى، هو لا يُقدر لكن من باب الإيضاح ((أَوْ إِطْعَامٌ)) الفاعل محذوف ((يَتِيمًا)) هذا مفعول لقوله: إطعام وهو مصدر.
إذن: إطعامٌ منون مجرد عن (أل) ومجرّد عن الإضافة ونصب ورفع، فدلَّ على أنه يعملُ وجاء في فصيح الكلام.
فيتيماً منصوب بإطعام، وقول الشاعر:
بضرب بالسيوف رؤوس قوم
…
أزلنا هامهن عن المقيل
بضرب بالسيوف رؤوس: (رؤوس) هذا مفعول به لقوله بضربٍ وهو مصدر مُنوّن، ورؤوس: هذا مفعول به، ومن إعماله وهو محلى بـ (أل) قوله:
ضَعيفُ النِّكَايَةِ أعْدَاءَهُ
(أعْدَاءَهُ) هذا منصوب بالنكاية، وهو مصدر ودخلت عليه (أل). إذن نُقل سماعاً أنه عملَ وهو محلى بـ (أل).
وذهب بعضُهم كما ذكرناه سابقاً أن العاملَ فيه محذوف، وهذا نسبَه لابي العباس المبرد إلى أن نصبَ المفعول به بعدَ المصدر المحلى بـ (أل) ليس بالمصدر السابق، وإنما هو بمصدر مُنكّر يُقدّر في الكلام، فتقدير الكلام عندهم ضعيف النكاية نكاية أعداءه، ضعيف؛ لأنه يُحوجِنا إلى التقدير، ثم فيه نوعُ تكلف.
وذهبَ أبو سعيد السيرافي إلى أن أعداءه ونحوه منصوب بنزع الخافض، وتقدير الكلام: ضعيف النكاية في أعدائه، وهذا مردود؛ لأن النصب بنزع الخافض سماعي، وعندنا هذه أمر مُطّرد، يعني يأتي في كلام العرب، حينئذٍ نقول: هذا سماعي فلا يُصرف ما نُقل من إعمال المصدر محلى بـ (أل) إلى كون المنصوب به منصوب بنزع الخافض؛ لأنه سماعي.
والذي ذكرَه الشارح وابنُ مالك رحمه الله تعالى أنه يعملُ مُطلقاً هو مذهب سيبويه وجمهور النحاة.
وقوله:
فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا
…
دَعَاكَ وَأَيْدِينَا إِلَيْهِ شَوَارِعُ
وَالتَّأْبِينَ: أبّن يؤبّنُ تأبينَ مصدر، عروة مفعول به، والتأبين مصدر ودخلت عليه (أل).
لَقَدْ عَلِمَتْ أُوْلَى المُغِيرة أنَّني
…
كَرَرْتُ، فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا
مِسْمَعَا: هذا اسم رجل، والضرب هذا مصدر محلىً بـ (أل) فنصبه.
إذن: إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ مَحَلَّهُ.
إن أُريد بالمصدر الدلالة على الحدوث صحَّ أن يكون مُقدّراً بـ (أن) المصدرية أو (ما) المصدرية.
إن لم يكن كذلك حينئذٍ ظاهرُ كلامِ الناظم هنا أنه لا يعمل.
قالَ بعضُهم: استعمال المصدر في لسان العرب لا يخلو من حالين؛ إما هذا وإما ذاك:
الحالة الأولى: أن يُقصَد به ثبوتُ ما يدلّ عليه من الحدث، يعني أن يُراد بالمصدر الثبوت، والحدثُ الأصل فيه الثبوت أو عدم الثبوت؟ الثاني هو الأصل، ولذلك (قامَ يقومُ قم) الحدث الدال عليه بالفعل بأنواعه الثلاث لا يدلّ على الثبوت، هذا هو الأصل.
ولذلك الجملة الفعلية والاسمية بينهما فارق من هذه الحيثية، الاسمية تدلُّ على الثبوت والاستمرار، بخلاف الجملة الفعلية؛ لأنه حدثٌ والأصل فيه عدم الثبوت.
قد يُراد بالمصدر الدلالة على الثبوت.
الثاني: أن يُقصَد به حدوث ما يدلُّ عليه من الحدث، سواء كان في زمن ماض أو حال أو استقبال، نظرة عامة: أي النوعين الذي يُقدّر بـ (أن) و (ما)؟ الثاني لا الأول.
إذن: إذا اعتبرناه شرطاً متى لا يصح إعمال المصدر؟ إذا دلَّ على الثبوت، لماذا؟ لأنه لا يحلّ محلّه (أن) أو (ما) المصدرية، وأما إذا لم يُرد به الثبوت وإنما الدلالة على حدوث الحدث بالأزمنة الثلاثة، حينئذٍ صحَّ أن يحل (أن) أو (ما) محله.
فإن أردتَ بالمصدر الأول وهو الدلالة على ثبوتِ ما يدلّ عليه من الحدث، فحينئذٍ لا يصلح لأن يحلّ محلّه فعل لا مع (ما) ولا مع (أن) المصدرية؛ لأن طبيعة الفعل دالة على الحدوث وإن لم تقصده.
وإن أردتَ الثاني فعلى التفصيل الذي سبقَ، إن أردتَ المضي أو الاستقبال جئتَ بـ (أن) مع الفعل الماضي في المضي، و (أن) مع الفعل المضارع في الاستقبال، وإن أردتَ الحال، فحينئذٍ تأتي بـ (ما) المصدرية لأنها لا تتعينُ لزمن مُعيّن. وإن أردتَ الثاني وهو الدلالة بالمصدر على حدوثِ ما يدلُّ عليه من الحدث في الزمن الحاضر كان عليك أن تُقدّره بـ (ما) المصدرية، وتُقدّر معها الفعل المضارع؛ لأن (أن) المصدرية لا تصلح هنا.
لأنها مع الفعل الماضي تُبقيه على حاله وهو الدلالة على حدوث الحدث في الزمن الماضي، ومع المضارع تخلّصه للدلالة على الاستقبال، فلما لم يمكن الإتيان بها في هذا المحل قُدّر المصدر بـ (أن) في هذه الحالة.
حينئذٍ لزمِكَ أن تُقدّره بـ (ما) إذا لم نتمكن من تقديره بـ (أن) لزمنا أن نُقدّره بـ (ما) لأنها صالحة للاستعمال في الأحوال كلها.
وإذا أردتَ بالمصدر الدلالة على حدوث الحدث في الزمن الماضي أو في الزمن المستقبل، فإنه حينئذٍ تُقدره بـ (أن) مع الفعل الماضي في الزمن الماضي، وبـ (أن) مع الفعل المضارع في الزمن المستقبل.
(إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ مَحَلَّهُ).
ثم قال: (وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ) قبل ذلك: المصدر لا يعملُ إلا بشروط وهي ثمانية ذكرناها فيما سبق، ووصلنا إليها.
شروطُ إعمالِ المصدر: إن جعلنا قوله: إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أَوْ مَا يَحُلّ مَحَلَّهُ، تجعله أولَ شرط في إعمال المصدر، وهذا ظاهر النظم.
إذن: الشرطُ الأول: أن يحلَّ محل المصدر (أن) المصدرية مع الفعل، أو (ما) المصدرية مع الفعل.
فإن لم يكن كذلك فلا عمل.
الثاني: أن يكونَ مُظهَراً، فلو أُضمر لم يعمل، يعني لا يكون ضميراً، الضمير إذا عادَ إلى المصدر فهو في قوّة المصدر، فإذا كان الأمر كذلك، حينئذٍ لا يعملُ الضمير فيما بعده لتأويله بالمصدر؛ لأن مرجعَه يرجع إلى المصدر.
إذن الشرط الثاني: أن يكونَ مُظهراً، فلو أضمر لم يعمل خلافاً للكوفيين، لضعفه بالإضمار بزوالِ حروف الفعل، فلا يجوزُ حينئذٍ (ضربك زيداً حسنٌ وهو عمراً قبيح)، ضربك زيداً حسنٌ (وهو) الضمير يعودُ إلى الضرب، (عمراً) جوّزه الكوفيون لماذا؟ بناء على أن مرجع الضمير هو المصدر، فحينئذٍ أُوّل الضمير بالمصدر فأُعمِل المصدر مُضمراً، والأصل فيه أن يكونَ مُظهراً، مُضمر يعني: أن يكون الضمير عاملاً فيما بعده تنزيلاً له منزلة المصدر؛ لأنه يعود على المصدر، ليس مطلقاً كل ضمير لا، إذا كان الضمير يعود على المصدر فهو في قوة المصدر.
هل يعملُ المصدر مُضمراً؛ ضميراً؟ نقول: لا يعمل، خلافاً للكوفيين، فحينئذٍ (ضربك زيداً)، ضربك هذا مظهر، منطوق به بحروفه، زيداً مفعول به لضربك، حسنٌ هذا خبر المبتدأ، وهو أي الضرب السابق عمراً أجازَ الكوفيون نصبه، على أنه هو مصدر، لكنه بالتأويل، فحينئذٍ أُضمِر المصدر، والصوابُ أنه لا يعمل مضمراً.
ولا يجوز كذلك (مروري بزيد حسنٌ وهو بعمروٍ قبيح)، مروري بزيد حسنٌ وهو أي: المرور (بعمرو) جار ومجرور مُتعلق بقوله: هو، نقول: هذا لا يصلح، لماذا؟ لأن الضمير هنا وإن أُرجع إلى المصدر إلا أنه لا يعمل؛ لأن المصدر إنما يعمل متى؟ إذا كان مُظهراً، يعني ملفوظاً بحروفه هو، وأما إذا كُني عنه بالضمير فلا، خلافاً للبصريين، وأجازَ ابنُ جني إعماله في المجرور وقياسه في الظرف، فصل بينهما والصواب الأول.
الثالث: أن يكون مُكبّراً، فلو صُغِّر لا يعمل.
(أعجبني ضُريبُك زيداً)، نقول: لا يعمل، لماذا؟ لأن التصغير من خصائص الأسماء، واغتُفِر في المضاف والمحلى بـ (أل) للسماع، حينئذٍ ما عداهُ يبقى على الأصل، فلو ثُني المصدر لا يعمل، فلو جُمع المصدر لا يعمل، لماذا؟ لأن هذه من خصائص الأسماء، التثنية، والتصغير، والجمع .. من خصائص الأسماء.
فإذا ثُني المصدر حينئذٍ نقول: التحق به ما هو من خصائص الأسماء فأبعده عن مشابهة الفعل. أن يكون مُكبّراً فلو صُغِّر لم يعمل لخروجه بالتصغير عن الصيغة التي هي أصل الفعل.
وقيل: يعمل مُصغّراً، ويوافقه رويداً زيداً، إذن أعجبني ضُريبك زيداً، نقول: هذا لا يعمل، الصواب أنه لا يعمل.
الرابع: أن يكون غير محدود، يعني أن يكونَ دالاً على المرّة، لو كان دالاً على المرّة بالتاء حينئذٍ لا يعمل، فلو حُدّ بالتاء لم يعمل؛ لأن صيغته حينئذٍ ليست الصيغة التي هي أصل الفعل، فلو كانت التاء في أصل بناء المصدر كرحمة ورغبة عمل لعدم الوحدة حينئذٍ، فلا يكون محدوداً.
يعني أن لا تتصل به تاء الوحدة (وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَجَلْسَهْ)، إذا كان المصدر أصله أنه بالتاء كرغبة ورحمة عمل، وإن لم تكن التاء من أصله حينئذٍ صارَ محدوداً بالتاء فلا يعمل.
الخامس: أن يكونَ غيرَ منعوت قبل تمام عمِلِه، يعني: أن يُنعت لكن يفصل بينه وبين معموله بالنعت، نقول: وصفه بالنعت قبل تمام العمل مُبطِل لإعماله، فالشرطُ فيه أن لا يفصلَ بينه وبين معموله بنعته. أن يكونَ غير منعوت قبل تمام العمل؛ لأن النعت من خصائص الأسماء المبعدة عن الفعل، وإنما لم يؤثر بعد تمام العمل لا إشكال فيه، إذا تم العمل لا إشكال فيه، (أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً مبرح)، ضرب مبرح نقول: هذا جائز، لكن (أعجبني ضرب زيدٍ مبرحٌ عمراً) نقول: لا يجوز.
إذا فُصلَ بالنعت بينَه وبين معموله بطلَ إعمالُه، إذن وإنما لم يُؤثّر بعد تمام العملِ لضعفه بتأخّره عن استقرار العمل، فلا يجوزُ:(أعجبني ضربُك المبرحُ زيداً)، ضربُك: هذا فاعل، المبرّح: نعته، زيداً: هذا مفعول للمصدر، هنا نقول: لا يعمل، لماذا؟ لأنه وُصِف .. نُعِت قبلَ تمام العمل، لكن لو أُخِّر النعت قيل:(أعجبني ضربُك زيداً المبرحُ) صحّ؛ لأنه استوفى عملَه قبل النعت. لأن معمولَ المصدر بمنزلة الصلة من الموصول، فلا يُفصلُ بينهما، كالشأن في المضاف والمضاف إليه.
فإن ورَدَ ما يُوهم ذلك قُدّر فعلٌ بعد النعت يتعلَّق به المعمول المتأخر، فلو نُعِت بعد تمامه لم يمنع.
إذن الشرط الخامس: أن يكونَ غيرَ منعوت قبلَ تمام العمل، فإن نُعِت بعد تمام العمل فلا إشكال.
السادس: أن يكونَ مُفرداً، يعني غيرَ مثنى ولا مجموعاً؛ لأن تثنيته وجمعه يُخرجانه عن صيغته الأصلية التي هي أصل الفعل. وجوِّزَ عمله مجموعاً جماعةٌ؛ منهم ابن عصفور والناظم؛ يعني ابن مالك رحمه الله تعالى في غير هذا الكتاب. والصواب الأول.
السابع: تقدّمُه على معموله، فلا يجوزُ (أعجبني زيداً ضربٌ)، لا يصحّ؛ وإنما يُشترَط أن يتقدّمَ المصدر على المعمول؛ لأنه ضعيف، وسبقَ معنا القاعدة أن العامل إذا كان ضعيفاً لا يُتصرّف في معموله، فلا يصحُّ (أعجبني زيداً ضربك)، لا يصح هذا، إنما (ضربك زيداً) بتقديم العامل على المعمول، وأما الجار والمجرور فهذا يُتوسّع فيه.
الثامن: ذكرُه؛ فلا يعملُ محذوفاً على الأصح، أن يكونَ مذكوراً، أما محذوفاً فلا يجوزُ، ولذلك ضُعّف قولُ من قال بأن (باسم الله) جار ومجرور مُتعلق بمصدر ابتدائي، هذا ضعيف، جوّزَه بعضهم، ابتدائي باسم الله، باسم الله ابتدائي نقولُ: ضعيف، لماذا؟ لأن المتعلق هنا مصدر والمصدر لا يعملُ محذوفاً وإنما يجبُ أن يكونَ مذكوراً؛ لأنه ضعيف، والعامل الضعيف كاسمه، هو مذكور ضعيف، وحينئذٍ إذا حُذف من باب أولى.
وليسَ من الشروط كونه بمعنى الحال أو الاستقبال، ليسَ من الشروط كونُ المصدر بمعنى الحال أو بمعنى الاستقبال؛ لأنه يعملُ لا لشبهه بالفعل، بل لأنه أصلُ الفعل، بخلاف اسم الفاعل، اسم الفاعل سيأتينا أنه لا يعملُ إلا إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فيما إذا جُرّد عن (أل)، ضارب الآن أو غداً، ضاربٌ أمس لا يعمل، لماذا؟ لأنه أشبه الفعل المضارع، والفعلُ المضارعُ في الأصل لا يدل على المضي، فإذا دلّ اسم الفاعل على المضي حينئذٍ بعُدَ شبهه بالفعل المضارع، وإذا بعُدَ شبهه بالفعل المضارع حينئذٍ لا يعمل؛ لأنه إنما عمِلَ إلحاقاً له بالفعل المضارع، والفعل المضارع إنما يدلُّ على الزمن الحال أو الاستقبال، فإذا دلَّ اسم الفاعل على الزمن الماضي حينئذٍ لا يعمل؛ لأنه أصل الفعل بخلاف اسمِ الفاعل فإنه يعملُ بشبهه بالمضارع، فاشتِرط كونه حالاً أو استقبالاً؛ لأنهما مدلولا المضارع.
وقيل: أُعمِل المصدر لعلة وهي: شبهه للفعل في دلالة كلٍّ منهما على الحدث الذي يقتضي فاعلاً دائماً ويقتضي مفعولاً به إن كان واقعاً، والصواب أنه أصل له.
ثم قال: وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ، نكّر هنا، إذا نُكّر الشيء دلّ على قلة، التنكير قد يدلّ به على القلة، (وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ) فصله عما قبله، لماذا؟ لقلة عمله، بل قال الصيمري: إن عملَه شاذ، يعني يُحفَظ ولا يُقاس عليه إنما هو سماعي وليس بقياسي، وأما المصدر فهو قياسي، (وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ). أي مضافاً أو مجرداً أو مع (أل) مطلقاً، لأنه عطفَه على ما سبق، وإن كان قياساً وقد أشارَ إلى قلته بتنكير عمل، وقال الصيمري: إعماله شاذ.
(وَلاسْمِ مَصْدَرٍ) ما هو اسم المصدر؟ عرّفه في التسهيل بقوله: ما ساوى المصدرَ في الدلالة على معناه، وخالفَه بخلوّه لفظاً وتقديراً مِن بعض ما في فعلِه دون تعويض.
نقفُ على هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!