المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * شرح الترجمة. التعجب. وحده * صيغتا التعجب * حذف المتعجب - شرح ألفية ابن مالك للحازمي - جـ ٨٤

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * شرح الترجمة. التعجب. وحده * صيغتا التعجب * حذف المتعجب

‌عناصر الدرس

* شرح الترجمة. التعجب. وحده

* صيغتا التعجب

* حذف المتعجب منه

* هل يتصرف فعلا التعجب

* شروط ما يصاغ منه فعلا التعجب. وحكم الغاقد لشرط منها.

* حكم فعل التعجب مع معموله من حيث التأخير والتقديم والتأخير.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى: التَّعَجُّبُ. أي: هذا باب بيان ما يتعلق بالتعجب في اصطلاح النحاة، وليس مطلق التعجب.

التَّعَجُّبُ تفعُّل من العجب، واختُلف في حدِّه، وارتضى جمهرة من الشراح والنحاة ما عرفه به ابن عصفور، قيل أحسن ما قيل في حد التعجب قول ابن عصفور، وهو قوله: هو استعظام زيادة في وصف الفاعل خفي سببها وخرج بها المتعجب منه عن أمثاله أو قل نظيره فيها. هذا حد لابن عصفور في بيان حقيقة التعجب، وهو ما أشبه ما يكون بالمعنى اللغوي؛ لأن التعجب في اصطلاح النحاة خاص بصيغتين اثنتين لا ثالث لهما: ما أفعَل وأفعِل به، وأما التعجب في لسان العرب فهو أعم، فيأتي بالاستفهام ويأتي بغيره.

(هو استعظام زيادة) استعظام استفعال من العظمة.

استعظام زيادة في وصف الفاعل، خفي سببها وخرج بها المتعجب منه عن أمثاله أو قل نظيره فيها، حينئذٍ شمل نوعي التعجب؛ لأن بعض النحاة وبعض أهل اللغة يحصر التعجب في ما خفي سببه، وليس الأمر كذلك، ولذلك إذا وُصف الرب جل وعلا بصفة التعجب:(عجب ربنا)، ((بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ)) [الصافات:12] نقول: هذه لا بد من تأويلها؛ لأن التعجب لا يكون إلا عما خفي سببه، والله تعالى لا تخفى عليه خافية، إذن: لا بد من التأويل. نقول: لا، ليس الأمر كذلك، حصر التعجب في ما خفي سببه فحسب نقول: هذا ليس بصحيح بل هو أعم من ذلك، فيطلق على خروج الشيء عن نظيره، بمعنى: أنه قليل في الناس مثلاً من اتصف بصفة العلم فنقول: ما أعلم زيداً، لا لكونه خفي سببه وإنما لكونه قد وجد فيه صفة ليست موجودة في غيره.

إذن: استعظام زيادة نقول: هذا كالجنس في الحد، قوله:(استعظام زيادة) كالجنس في الحد.

وذلك كاستعظام زيادة الحسن في زيد (ما أحسنَ زيداً) استعظمت العلم أو الحسن، (ما أعلمَ زيداً، ما أتقاه) ونحو ذلك إذا صح مجيئه.

قوله: (في وصف الفاعل) يعني: المراد به من قام به الوصف، استعظام زيادة في وصف الفاعل، يعني: المراد ما قام به الوصف، وهذا فصل يخرج به الزيادة في وصف المفعول، فلا يقال:(ما أضربَ زيداً) بنصب زيد على أنه استعظام لوقوع الضرب عليه، لا يستعظم إلا ما اتصف به الفاعل، وأما ما وقع على المفعول فلا، ولذلك منع النحاة أن يشتق فعل التعجب من المبني للمجهول، لأن الوصف الذي يتعجب منه ويستعظم هو ما اتصف به الفاعل، وأما ما وقع على المفعول لا.

إذن: قوله: (في وصف الفاعل) احترز به عن وصف المفعول، قد تكون ثَمَّ زيادة في وصف المفعول لكن لا يتعجب منها، فلا يقال:(ما أضربَ زيداً) بنصب زيد استعظاماً لضربٍ وقع على زيد، ولذا من شروطه كما سيأتي: أن يكون الفعل مبنياً للمعلوم، لأن المبني للمعلوم هو الذي جيء به لوصف الفاعل.

وقوله: (خفي سببها) فصل ثانٍ يخرج به ما ظهر سببه، ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب.

ص: 1

وقوله: (وخرج بها المتعجب منه عن أمثاله أو قل نظيره فيها) هذا فصل ثالث يخرج به ما يكثر وجود أمثاله؛ فإنه لا يتعجب منه، و (أو) حينئذٍ في التعريف للتقسيم، يعني: أن المتعجب منه إما أن يخرج عن نظائره بتلك الزيادة أو يقل نظيره. إما أنه يخرج عن نظائره بتلك الزيادة وحينئذٍ لا يلزم أن يكون خفي سببه، هذا أمره واضح، وهذا الوصف يوصف به الرب جل وعلا.

إذن نقول: سبب التعجب قد يكون لخروج المتعجب منه عن نظائره ويعلم سببه، حينئذٍ نقول: هو تعجب، وهذا الذي يوصف به الرب جل وعلا:((بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ)) [الصافات:12]، {عجب ربنا لرجل .. } إلى آخره. نقول: هذا قل وخرج عن نظائره، لا لكونه خفي سببه والله تعالى لا تخفى عليه خافية.

إذن: التعجب قد يكون من هذا، وقصره على عما خفي سببه هذا فيه قصور، وليس بصواب.

إذن: (وخرج بها المتعجب منه عن أمثاله أو قل نظيره فيها)، نقول:(أو) هنا للتقسيم، يعني: أن المتعجب منه إما أن يخرج عن نظائره بتلك الزيادة أو يقل نظيره، فالحامل على التعجب أحد أمرين:

الأول: انفراد المتعجب منه بالوصف.

الثاني: أن يكون له أمثال قلائل لا يكادون يعرفون.

والتعجب نوعان: حقيقي وادعائي.

فالأول -وهو الحقيقي-: بأن يكون المتعجِّب في حقيقة الأمر عالماً بأن المتعجَّب منه منفرد بالوصف. أن يكون المتعجِّب الذي يتعجب يكون في نفس الأمر عالماً بكون المتعجَّب منه خارجاً عن نظائره في الوصف، وقد لا يكون كذلك، وإنما نزَّله مُنزَّلة الخارج عن نظائره، فحينئذٍ الأول يكون حقيقي والثاني يكون ادعائي.

فالأول بأن يكون المتعجِّب في حقيقة الأمر عالماً بأن المتعجَّب منه منفرد بالوصف أو قليل النظائر، يعني: على حقيقته.

والثاني: بأن يكون قد نزَّل المتعجَّب منه هذه المنزلة. هو يعلم أنه ليس الأمر كذلك، ولكنه نزله منزلة ما انفرد عن نظائره فتعجب منه، الثاني نقول له: ادعائي. لأن ما ثبت له من الوصف بالغ النهاية بحيث لا يدركه أحد في اعتقاده، هذا حقيقة التعجب.

قال الناظم هنا:

التَّعَجُّبُ:

بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا

أَوْ جِيءْ بِأفْعِل قَبْلَ مَجْرُورٍ بِبَا

ص: 2

خص التعجب هنا ببعض أفراده، وإلا صيغ التعجب كثيرة كما قال النحاة وغيرهم، وله عبارات كثيرة، ومن صيغ التعجب: كيف، ومتى، ومَن، وما، وأي في الاستفهام، هذه قد يتعجب بها. ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) [النبأ:1]، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة: 1،2] حمل على التعجب عند بعضهم. ((لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ)) [المرسلات:12]، (لله دره) هذا تعجب. (حسبك بزيدٍ رجلاً)، ((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)) [البقرة:28] هذه صيغة تعجب. {سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس} هذه صيغة تعجب. (لله دره فارساً) لكن هل هذا الذي بوب له النحاة؟ لا، نقول: هذا ليس الذي عناه النحاة بهذا الباب، وإنما عنوا صيغتين اثنتين هما القياس، وما عداهما على قسمين: منه ما هو سماعي ومنه ما هو قياسي. وسيأتي في باب نِعْمَ وبئس أنه قد يحوَّل إلى باب فعُل، هذا يكون قياسياً، وما عداه مثل استعمال الاستفهام في غير الاستفهام، أو استعمال لفظ (سُبْحَانَاللَّهِ) للتنزيه في غير معناه نقول: هذا يستعمل في التعجب لكن بقرينة.

إذن: (ما أفعله وأفعِل به) نقول: هذه صيغة بوب لهما النحاة هذا الباب، وما عداهما حينئذٍ يتعجب به إما سماعياً وإما قياسياً لكن لا يكون كذلك إلا بقرينة، ولا يحمل على التعجب إلا هاتين الصيغتين.

بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا: انطق بأفعَل. إذن: (بِأَفْعَلَ) المراد به هذا الوزن .. متعلق بقوله: (انْطِقْ)، حال كونه بَعْدَ، أو بَعْدَ متعلق بقوله:(انْطِقْ).

مَا: وسيأتي معناها، وهي اسمية بالإجماع.

تَعَجُّبَاً: أي في حال كونك متعجباً، فأطلق المصدر وأراد به المشتق.

بِأَفْعَلَ انْطِقْ: أي انطق بأفعل.

بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا: يعني حال كونك متعجباً، أي: انطق بوزن أفعَل بَعْدَ مَا، فتقول: ما أفعَل، انطق بأفعل بعد ما، يعني: ائت بـ (ما) أولاً، ثم تتلوها بأفعل، فتنطق بها تالية، فتقول: ما أفعل.

تَعَجُّبَاً: ونصب تعجباً على أنه مصدر في موضع الحال، أي: متعجباً، أو مفعول له، أي: لأجل إنشاء فعل التعجب فهو على حذف مضاف، لأجل إنشاء فعل التعجب حينئذٍ يكون على حذف مضاف.

أَوْ: للتنويع والتقسيم، الصفة الثانية أو الصيغة الثانية.

أَوْ جِيءْ: هذا أمر مثل انطق، إنما غاير بينهما من أجل التنويع فقط .. تفنن.

أَوْ جِيءْ بِأفْعِلْ قَبْلَ: هناك قال: بعد، وهنا قال: قبل.

قَبْلَ مَجْرُورٍ بِبَا: بباءٍ، قصره للضرورة.

مَجْرُورٍ: يعني قبل اسم مجرور. أي: أو جئ بوزن أفعِلْ بإسكان آخره وكسر ما قبل آخره: أفعِل. قبل اسم مجرور بباء الجر، فتقول: أفعِل به، أحسن بزيد مثلاً، أعلم بزيد، أكرم بعمرو، فأتى بأفعِل مكملاً بمعموله وهو المتعجب منه المجرور بالباء. في الأول قال:(بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا) جاء بـ (ما) وأفعل ولم يتذكر المتعجب منه وهو المنصوب بعده، لم يكمله، أنقصه. ثم قال:(أَوْ جِيءْ بِأفْعِل قَبْلَ مَجْرُورٍ بِبَا) المجرور بالباء هو الفاعل وهو المتعجَّب منه.

إذن: كمَّل أفعِل وأتى بمجروره الذي هو الفاعل في الحقيقة.

ثم قال:

وَتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ: رجع للأول ليبين المتعجَّب منه.

ص: 3

وَتِلْوَ: أي انصب تلو.

أَفْعَلَ: السابق الذي قال فيه: (بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَاتَعَجُّبَاً).

تِلْوَ أَفْعَلَ: إذا قلت: ما أفعَل الذي يتلوه وهو متعجَّب منه انْصِبَنَّهُ حتماً، مفعولاً به على مذهب البصريين ومشبهاً بالمفعول به على مذهب الكوفيين.

وَتِلْوَ: يعني تابع، وهذا منصوب على الاشتغال.

تِلْوَ أَفْعَلَ: الذي بعده.

انْصِبَنَّهُ: اشتغل بضمير يعود على الاسم المتقدم لو أسقطناه لعمل فيه النصب.

إذن: (وَتِلْوَ) نقول: منصوب على الاشتغال، فالعامل فيه فعل مضمر وجوباً يفسره المذكور.

وَتِلْوَ أَفْعَلَ: أي تأتي بعد ما أفعَل باسم منصوب فتقول: (ما أحسنَ زيداً) وبذلك كمُل الكلام المستفاد منه إنشاء التعجب، لأنه لا يكمل إلا بذكر المنصوب.

ثم مثل بمثالين للصيغتين فقال –كقولك-: مَا أَوْفَى خَلِيلَيْنَا).

مَا أَوْفَى: (ما) هذه تعجب، وهي مبتدأ، وسيأتي معناها.

و (أَوْفَى) الهمز هذه للنقل. و (أَوْفَى): فعل ماضي، وفاعله ضمير مستتر يعود على (مَا) وهو دليل الاسمية.

خَلِيلَيْنَا: هذا مفعول به على مذهب البصريين، وإذا أعربنا (أَوْفَى) أنه فعل ماضي تعين أن يكون (خَلِيلَيْنَا) مفعولاً به، وسيأتي مزيد بحث.

خَلِيلَيْنَا: نقول: هذا منصوب على المفعولية. و (أَوْفَى) فيه ضمير مستتر وجوباً يعود على (مَا).

وَأَصْدِقْ بِهِمَا: (أَصْدِقْ) هذا لفظه أمر ومعناه الخبر، والهمزة هذه للصيرورة.

وَأَصْدِقْ بِهِمَا: الباء هذا حرف جر زائد واجب الزيادة، والهاء: ضمير مجرور بالباء، لكنه مجرور لفظاً؛ لأن حرف الجر الزائد لا يغير الحقائق، فإذا دخل على المفعول فقبل دخوله وبعده هو مفعول، وإذا دخل على الفاعل فقبل دخوله وبعد دخوله هو فاعل .. وهلم جرا.

إذن: الحقيقة هي الحقيقة، وإنما الإعراب تغير باعتبار دخوله؛ لأنه أثَّر معنىً، وهذا المعنى المراد به التأكيد، وهنا المراد به إصلاح اللفظ فحسب، ليس المراد به التأكيد، وإنما المراد به: تحسين اللفظ.

إذن: (وَأَصْدِقْ) نقول: هذا على زنة أفْعِلْ مثال للصيغة الثانية. أَصْدِقْ: لفظه أمر ومعناه الخبر.

بِهِمَا: الباء زائدة في الفاعل، والهاء نقول: هذا فاعل في محل جر. و (مَا) هذه للتثنية.

إذن: ذكر في هذين البيتين الصيغتين المشهورتين اللتين اصطلح عليهما النحاة في هذا الباب، وهو ما أفعَل زيداً، ما أحسَن زيداً وأحسِن بزيد. إذا أردت التعجب فإما أن تأتي به على الصيغة الأولى فتقول:(ما أحسنَ زيداً، ما أعلمَ عمْراً، ما أكرمَ خالداً) وتقول: (أكرِم بخالد، وأعلِم بمحمد، وأحسِن بزيد) إذن: هما صيغتان، ولذلك قال الشارح: للتعجب صيغتان؛ إحداهما: ما أفعله، والثانية: أفعِل به، وإليهما أشار المصنف بالبيت الأول، أي: انطق بأفعَل بعد (ما) للتعجب، نحو:(ما أحسنَ زيداً وما أوفى خليلينا).

أَوْ جِئْ بأَفْعِلْ قَبْلَ مَجْرُورٍ بِبَا: نحو: (أحسِن بالزيدين وأصدِق بهما) ليعود الضمير على مثنىً.

ص: 4

إذن: (بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا) الصيغة الأولى: ما أفعله، والصيغة الثانية: أفعِل به. ننظر في مفردات (ما أفعله) نقول: (ما) هذه تعجبية، وهي اسم بالإجماع، لا خلاف بين النحاة أنها اسم. (ما أحسنَ زيداً)، (ما) اسم بالإجماع.

والدليل على ذلك: أن في (أحسَن) وهو فعل ماض ضمير يعود على (ما) التعجبية، ومعلوم أن الضمائر لا تعود إلا على الأسماء، فدل على اسميتها. إذن:(ما) اسم بإجماع؛ لأن في أفعَل ضميراً يعود عليها، والضمير لا يعود إلا على الأسماء، هذا إجماع أول أنها اسم.

ثم إجماع ثانٍ: وهو أنها مبتدأ، يعني: إعرابها مبتدأ لا تخرج عن الابتداء.

وأجمعوا على أنها مبتدأ؛ لأنها مجردة بالإسناد إليها، وهو واجب التقديم، إذا كان مبتدأً، المبتدأ قد يجوز تقدمه وتأخره، (ما) التعجبية إذا أعربناها مبتدأ -وهو كذلك-؛ حينئذٍ لا يجوز تأخيرها، لا يقال:(أحسنَ زيداً ما) من باب تقديم الخبر على المبتدأ، لا، لا يجوز، وهو واجب التقديم؛ لأنها في كلام جرى مجرى المثل فلزم طريقة واحدة.

إذن: هذان إجماعان. الإجماع الأول: أنها اسم، والدليل؟ عود الضمير من أحسنَ وهو الفاعل عليها.

الإجماع الثاني: أنها مبتدأ فلا تخرج عنه.

والإجماع هنا قيل: فيه نظر، لماذا؟ لأن الكسائي خالف، قال: لا محل لها من الإعراب. قالوا: قول الكسائي شاذ، يعني لا يلتفت إليه، بمعنى: أنه لا يعد ناقضاً للإجماع فهي مبتدأ، فقوله:(لا موضع لها من الإعراب) نقول: هذا قول شاذ.

إذن: اتفقوا على اسميتها وعلى أنها مبتدأ.

ثم اختلفوا في المعنى، إذن: من حيث الإعراب ومن حيث الاسمية مجمع عليهما، وأما من حيث المعنى نقول: اختلفوا، وقع نزاع. فقال سيبويه: هي نكرة تامة، بمعنى شيء، نكرة تامة، لماذا نكرة تامة؟ لأن النكرة نوعان: نكرة تامة ونكرة ناقصة. متى نقول: هذه تامة ومتى نقول: هذه ناقصة؟ إذا افتقرت إلى ما بعدها في تتميم معناها فهي ناقصة، وإذا لم يكن ما بعدها -الجملة التي تليها أو المفرد- .. إذا لم يكن متمماً لها فحينئذٍ نقول: هذه تامة، فهي مستغنية بنفسها، ولذلك أعربناها مبتدأ، وإذا كان كذلك فالخبر بعدها الجملة: أحسن زيداً، (ما أحسنَ زيداً) فلو كانت ناقصة للزم منه أن تكون جملة (أحسنَ زيداً) صفة لـ (ما)، أين الخبر؟ محذوف. ما دليله؟ لا دليل عليه. إذن: أحوجنا إلى حذف الخبر حيث لا دليل على حذفه، وهذا لا يجوز.

وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ

إذن: إذا كان الخبر لا يعلم بعد حذفه نقول: لا يجوز حذفه، ولذلك قال سيبويه: أنها نكرة تامة. لماذا لم يقل معرفة؟ عرفنا لماذا تامة، لماذا لم يقل معرفة؟ قالوا: لأن التعجب إنما يكون في ما خفي سببه فيناسبه التنكير، هذا الغالب في حق البشر لا نعمم، نقول: في حق البشر الغالب أن التعجب يكون في ما خفي سببه، وهذا يناسبه التنكير؛ لأنك أنت تجهل، وحينئذٍ إذا جهلت فالأصل أن تعبر عنه بشيء نكرة لا بشيء معرفة.

إذن: فقال سيبويه: هي نكرة تامة بمعنى شيء، أي: غير موصوفة بالجملة، هذا المراد بالتمام.

ص: 5

غير موصوفة بالجملة بعدها، طيب. كيف ابتدئ بها وهي نكرة تامة؟ لتضمنها معنى التعجب، وهذا عده ابن عقيل في المسوغات إذا كان فيها معنى التعجب وذكر (ما) التعجبية. لما فيها من معنى التعجب ابتدئ بها، وإلا الأصل لا.

وابتدئ بها لتضمنها معنى التعجب المناسب له قصد الإبهام، والمراد إذا قيل: بأن فيها معنى التعجب هل التعجب حاصل بلفظ (ما) أو بالتركيب كله؟ بالتركيب كله، فكيف نقول: فيها معنى التعجب ونحن نقول: التعجب حاصل بصيغة: (ما أفعل زيداً) نقول: لها مدخلية، لها دخل في إفادة التعجب؛ لأن التعجب جزء ومركب، فـ (ما) التعجبية فيها معنى التعجب، أفادت مع التركيب وبعد التركيب التعجب، حينئذٍ لا ينافي .. لا تعارض بين أن نقول: صيغة التعجب: (ما أحسن زيداً) كلها، التركيب كله من المبتدأ والخبر أفاد التعجب إنشاء التعجب، كيف نقول:(ما) لوحدها فيها معنى التعجب والتعجب إنما يكون ثمرة للتركيب؟ نقول: لها مدخلية، يعني: لها شأن في إفادة التعجب، حينئذٍ لا تعارض، نجمع بين هذا وذاك.

والمراد: أن لها دخلاً في إفادته، فلا ينافي أن الموضوع للتعجب الجملة بتمامها، فهي مبتدأ وما بعدها خبر فموضعه رفع.

إذن: على مذهب سيبويه (ما) نقول: تعجبية، هي اسم مبتدأ معناها: نكرة تامة شيء، وما بعدها الجملة:(أحسنَ زيداً) تعربه على جهة التفصيل فتقول: في محل رفع خبر المبتدأ.

إذن: ليس عندنا تقدير، ليس عندنا محذوف. هذا قول وهو الصحيح، مذهب سيبويه في (ما) التعجبية هو الأصح، والمذهب الثاني مذهب الأخفش: أنها معرفة ناقصة، لماذا ناقصة؟ قال: لاحتياجها في إفهام المراد إلى الصلة؛ لأنها بمعنى (الذي) ومعلوم أن اسم الموصول مفتقر إلى ما بعده في إتمام معناه، فهي معرفة ناقصة بمعنى الذي، وما بعدها صلة فلا موضع لها.

إذن: إذا اتفقنا على أنها مبتدأ (ما أحسن زيداً) .. الذي أحسن زيداً، إذن:(أحسنَ زيداً) لا موضع لها من إعراب صلة الموصول. أين الخبر؟ محذوف. ما الذي دل عليه؟ لا دليل، ليس فيه دليل، وهذا الذي يرِد على قول الأخفش وغيره.

كل من أوجب حذف الخبر نقول: حذفه بلا دليل فلا يجوز، فالقول ضعيف. يعني: يرد على تضعيف هذا القول بكون الخبر محذوفاً، وأين الدليل؟ أين القرينة؟ لا قرينة ولا دليل، حينئذٍ نقول: لا يجوز حذف الخبر، وأنتم جوزتم حذف الخبر. فتقديره عليه: أي الذي حسَّن زيداً شيء عظيم، ولا حاجة لقولهم (شيء) لكن من باب الإتمام.

(فالذي) هذا مبتدأ. (حسَّن زيداً أو أحسن زيداً) نقول: الجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول، وأين الخبر؟ محذوف. تقديره: شيء عظيم. هذا على مذهب الأخفش: أنها موصولة والجملة التي بعدها صلتها، والخبر محذوف وجوباً، وفيه: أنه حذفٌ دون دليل، والتقدير:(الذي أحسن زيداً شيء عظيم) ليس ذكر (شيء) ضرورياً.

ص: 6

المذهب الثاني وهو مذهب الفراء وابن درستويه: أن (ما) تعجبية استفهامية في الأصل، هي استفهامية مبتدأ، وهي مشوبة بتعجب، يعني: اختُلط معناها أو خُلط معناها بمعنى التعجب، مثل ما قاله سيبويه، سيبويه قال: نكرة تامة فيها معنى التعجب، مذهب الفراء أنها استفهامية في الأصل ولكنها مشوبة بمعنى التعجب. وقيل: استفهامية في الأصل ثم نقلت إلى إنشاء التعجب. وهذا القول نسبه في التسهيل إلى الكوفيين، قال في التصريح: هو مناسب لقولهم باسمية أفعَل بفتح العين كما سيأتي، يعني: الذي يناسب الكوفيين أفعَل عندهم أحسن اسم كما سيأتي، حينئذٍ الذي يناسبه .. يناسب هذا القول هو قول الفراء بأنها استفهامية.

هو مناسب لقولهم باسمية أفعَل بفتح العين؛ فإن الاستفهام المشوب بالتعجب لا يليه إلا الأسماء، نحو:(مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) هذا القول الثالث.

والجملة بعدها خبر عنها، والتقدير:(أي شيء أحسنَ زيداً؟) على قول الفراء أن (ما) استفهامية مشوبة بالتعجب صارت مبتدأ، قلنا: متفق على أنها مبتدأ، أين الخبر؟ الجملة بعدها، وهذا القول أقرب من مذهب الأخفش؛ لأن الخبر يكون موجوداً في الكلام.

(ما أحسن زيداً، أيُّ شيء أحسنَ زيداً؟) أين التعجب هنا؟ هذا صار استفهاماً. (أيُّ شيء أحسنَ زيداً) هذا فيه ضعف.

المذهب الرابع: أنها نكرة موصوفة. هذا مقابل لمذهب سيبويه، سيبويه أنها نكرة تامة يعني: لا تفتقر إلى الجملة بعدها، فهي مبتدأ والجملة بعدها خبر. هنا نكرة ناقصة، وإذا كانت ناقصة حينئذٍ ما بعدها الجملة تكون صفة لها، وهي مبتدأ، أين الخبر؟ محذوف، وإذا قيل:(الخبر محذوف هنا) اعلم أن القول ضعيف؛ لأنه ليس له دليل يدل عليه.

إذن: المذهب الرابع أنها نكرة موصوفة، والجملة التي بعدها صفة لها، والخبر محذوف وجوباً، والتقدير:(شيء أحسنَ زيداً عظيم)، والصواب هو مذهب سيبويه أن (ما) نكرة تامة والجملة التي بعدها خبر عنها، والتقدير:(شيء أحسن زيداً) أي: جعله حسناً.

إذن: (مَا) فيها أربعة مذاهب: أنها نكرة تامة، أنها معرفة ناقصة بمعنى (الذي)، أنها استفهامية مشوبة بالتعجب، أنها نكرة موصوفة، والصحيح هو الأول.

وأما الفعل .. أفعَل الذي بعدها (بِأفْعَلَ انْطِقْ) هذا فيه مذهبان، قيل: فعل، وقيل: اسم.

واختلفوا في (أفْعَلَ)؛ فقال البصريون والكسائي: فعل، إذا قيل: فعل؛ لا بد من دليل، ما الدليل؟ قالوا: وجوب اتصال نون الوقاية به عند اتصال ياء المتكلم به، فتقول:(ما أفقرني إلى عفو الله)، مر معنا عند قوله: وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ التُزِمْ.

قال ابن عقيل هناك: واستُدِل بها على فعلية (ما أفعَل)؛ لأن نون الوقاية لا تتصل إلا بالفعل، هذا أصالة، حينئذٍ إذا اتصلت بالكلمة دل على أنها فعل، والمراد بالاتصال اللزوم الذي لا ينفك عنه بحال من الأحوال، فلا يصح أن يقال:(ما أفقرِي) وإنما يقال: (ما أفقرني إلى عفو الله)، وحينئذٍ نقول: دل اتصال نون الوقاية بأفعَل على أنه فعل؛ لأن الفعل إذا دخل عليه أو نصب ياء المتكلم حينئذٍ نقول: ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسوراً، فلا يناسبه أن يكسر الفعل لأجلها فجيء بهذه النون لتقي الفعل عن الكسر.

ص: 7

وكونها لازماً، يعني: لا تنفك عنه بحال من الأحوال دل على أنه فعل.

للزومه نون الوقاية مع ياء المتكلم، وحينئذٍ فتحته فتحة بناء كما في (ضرب)، (ما أحسن) أحسنَ على وزن أفعَل مثل أكرم، أكرم الفتحة هذه فتحة بناء وليست علامة نصب، وكذلك (ضرَبَ) الفتحة هذه فتحة بناء.

وقال: وإذا كان كذلك حينئذٍ صار ما بعده مفعولاً به، على مذهب البصريين أن (أحسنَ) فعل، المنصوب بعده يكون مفعولاً به، وفيه ضمير مستتر كما سيأتي.

وقال بقية الكوفيين: اسم، يعني:(أحسن) اسم، ما الدليل؟ قالوا: سمع تصغيره، فيقال:(ما أُحَيسنه) وسمع قول القائل:

يا مَا أُمَيْلِح غِزْلَاناً شَدَنَّ لَنَا

يا مَا أُمَيْلِح، أُمَيْلِحَ، أَمْلحَ هذا صُغِّر، وقيل: أُمَيْلِحَ، وحينئذٍ نقول: تصغيره دل على اسميته، لماذا؟ لأن التصغير من خصائص الأسماء، إذن: هو اسم. ففتحته حينئذٍ فتحة إعراب كالفتحة في: (زيدٌ عندَك) عندَ الفتحة هذه فتحة إعراب. إذن: هو منصوب وليس بمرفوع مع كونه خبراً، فكيف نُصب؟

قال: وعامل النصب هنا عامل معنوي، ما هو العامل المعنوي؟ قالوا: المخالفة. وهنا أتوا بالعجائب الكوفيون. العامل هو المخالفة، ما هي المخالفة؟ قالوا: الأصل في الخبر أن يكون موصوفه المبتدأ، هذا الأصل. (اللَّهُ رَبُّنَا) عين المبتدأ، (محمد نبينا) صلى الله عليه وسلم عين المبتدأ، (زيد قائم) وصف للمبتدأ، (زيد قام أبوه) صار الوصف لما بعده. اتفق النحاة على أن الخبر إذا جرى على المبتدأ بأن كان عينه أو وصفاً له أنه مرفوع باتفاق، وأما إذا جرى الخبر على غير ما هو له لم يكن وصفاً للمبتدأ فوقع فيه بعض النزاع.

(زيدٌ أكرِم به أباً) زيد: مبتدأ. أكرم به أباً، الإكرام هنا وقع لمن؟ (زيد قام أبوه) أوضح هذا، زيد: مبتدأ، قائم أبوه، قائم: خبر، الخبر محكوم به والمبتدأ محكوم عليه، هل وصفت زيدا بالقيام؟ لا، إنما وصفت أباه، إذن: جرى على غير ما هو له، هذا ما يسمى بالمخالفة عند الكوفيين، صار عاملاً معنوياً فاقتضى النصب، الكلام متهافت.

وعامل النصب هنا المخالفة، فمخالفة الخبر للمبتدأ تقتضي عندهم نصبه، فينصب حينئذٍ .. صار منصوباً، لماذا؟ لكونه لم يجر على ما هو له في الأصل؛ لأن الأصل في الخبر أن يكون محكوماً به على المبتدأ، فإذا حكم به لا على المبتدأ خالف، حينئذٍ اقتضى النصب، ما الذي نصبه؟ مثل ما نقول الابتداء والتجرد نقول هنا المخالفة، وهذا شذوذ.

و (أحسن) إنما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير (ما)، (ما أحسنَ زيداً) شيء أحسن زيداً، أحسن زيداً، أحسن فعل ماضي، وزيد فيه ضمير وهو الفاعل، وزيداً مفعول به، هنا وصفتَ الحُسنَ للفاعل أو للمفعول؟ من هو الموصوف بالحسن الفاعل الذي يعود على (ما) بمعنى شيء، أو زيداً؟ زيداً المتعجب منه، إذن جرى على غير ما هو له.

قال: وأحسن إنما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير (ما) فمخالفة الخبر للمبتدأ كونه ليس وصفاً للمبتدأ في المعنى، وزيد عندهم مشبه بالمفعول به، لوقوعه بعد ما يشبه الفعل في الصورة.

ص: 8

إذن عند الكوفيين أن أحسن: اسم، الدليل؟ تصغيره، ما أحيسن زيد، ما أحيسنه، يا مَا أُمَيْلِحَ، ثم أورد عليهم بأنه مفتوح والخبر يكون مرفوعاً قالوا: لا. هو منصوب والعامل فيه المخالفة، إلى هنا واضح. لكن نقول: هذا قول ضعيف؛ إذ لو كان خبراً لرفع هذا الأصل في الخبر، الخبر أن يكون مرفوعاً لا يكون منصوباً.

والصحيح: هو مذهب البصريين أنه فعل للدليل السابق، وأما تصغيره فهو شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه، وإذا كان شإذن حينئذٍ لا يصلح دليلاً لإثبات الاسمية، وأما التصغير في (ما أحيسنه)، والبيت الذي رووه يَا مَا أُمَيْلِحَ فشاذ، ووجهه أنه أشبه الأسماء عموماً لجموده، سيأتي أنه لا يتصرف فيه. وأنه لا مصدر له، وأشبه أفعل التفضيل خصوصاً بكونه على وزنه، وبدلالته على الزيادة، وبكونهما لا يبنيان إلا مما استكمل الشروط، لهذه الوجوه جيء به مصغراً، وعلى كلٍّ هو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، فإذا سقط دليلهم وهو بناؤهم على التصغير، حينئذٍ رجعنا إلى الأصل وهو اتصال نون الوقاية به ولزومها فهو دليل على الفعلية.

فإذا ثبت أنه فعل فحينئذٍ لا بد للفعل من فاعل، وفاعله ضمير مستتر وجوباً، ما أحسن زيداً، (ما) قلنا مبتدأ وأحسن فعل ماضي على الصحيح، وفاعله ضمير مستتر وجوباً يعود على (ما)، ولا تقل تقديره هو، وزيداً مفعول به، وعلى طريقة الكوفيين:(ما) مبتدأ، وأحسن خبره منصوب بالمخالفة، وزيداً منصوب على التشبيه بالمفعول به.

انظر: أحسن هذا خبر، والفتحة هذه؟ قالوا: هو منصوب، لماذا منصوب؟ لأنه خالف، والمخالفة هي عاملة النصب، وزيداً هذا منصوب على المفعولية لكنه مشبه به، أين الفاعل؟ لا فاعل عندهم، ليس فيه ضمير، هذا ظاهر مذهبهم؛ لأن الاسم في مثل هذا لا يتحمل الضمير .. هذا الأصل، وأما على مذهب البصريين فأحسن فعل ماضٍ وفاعله ضمير مستتر عائد على (ما) وهو دليل الاسمية، وهذا الضمير يخالف سائر الضمائر في ثلاثة أمور، لأن الآن خروج عن أصل:

الأول: أن الضمير المستتر في الفعل يجوز العطف عليه بعد الفصل بالضمير، سيأتي في عطف النسق، ((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] اسْكُنْ ضمير مستتر، فيه فاعل ضمير مستتر، عَطفتَ عليه وَزَوْجُكَ، جاز أو لا؟ جاز بعد الفصل بضمير منفصل، هذا لا يجوز في باب أحسن، لا يجوز أن تعطف عليه ولو فصلته بضمير منفصل؛ لأنه لا يفصل بينهما، ولو كان تأكيداً، وَوَصْلَهُ بِهِ الزَمَا كما سيأتي، هذا الأول. أن الضمير المستتر في الفعل يجوز العطف عليه بعد الفصل بالضمير المرفوع البارز أَوْ فَاصِلٍ مَا كما سيأتي في كلام الناظم، وهنا لا يجوز مطلقاً، إذن فارق هذا الضمير سائر الضمائر المستترة.

الثاني: لا يجوز أن يبدل من الضمير المستتر في أحسن مع كونه يجوز في بعض المسائل.

ثالثاً: أنه لا يجوز في باب التدريب أن يخبر عن هذا الضمير المستتر في أحسن، لا نقول: تقديره هو بخلاف سائر الضمائر.

ص: 9

إذن: ما أفعل، ما أحسن زيداً .. قلنا (ما) هذه مبتدأ وهي اسم بالإجماع، واختلفوا في معناها على أربعة مذاهب، والأصح مذهب سيبويه أنها نكرة تامة، وأحسن فيه قولان: فعل ماضٍ، اسم .. والصواب: أنه فعل وفيه ضمير مستتر يعود إلى (ما) وهو دليل اسميتها، وزيداً مفعول به، لا نقول: منصوب على التشبيهه بالمفعول كما هو شأن الكوفيين.

وأما الصيغة الثانية وهي: أفعِل به، فهذه أجمعوا على فعلية أفعِل –بالإجماع-؛ لأن صيغة أفعِل لا نظير فيها في الأسماء، وإنما هي مثل أكرِم، أكرم فعل أمر، حينئذٍ له نظير. وأما الصيغة الثاني فأجمعوا على فعلية أفعِل؛ لأن صيغته لا تكون إلا لفعل، ثم اختلفوا، بعد الإجماع الأول.

فقال البصريون: وإن كان لفظه لفظ الأمر (أحسِن)، إلا أنه ليس بأمر، وإنما هو فعل ماضٍ جاء على صورة الأمر، قال البصريون: لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وكما يأتي العكس ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)) [البقرة:228] جاء بلفظ الخبر والمراد به الأمر، وهنا جاء بلفظ الأمر والمراد به الخبر .. كل منهما يأتي بمعنى الآخر، ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)) [البقرة:228] يعني: ليتربصن؛ لأن هنا حكم واجب، حينئذٍ دل بصيغة يَتَرَبَّصْنَ وهي صيغة الخبر على الأمر، إذن كل منهما يأتي في مقام الآخر، وهذا بحث في علم البيان. ومعناه الخبر وهو في الأصل ماضٍ على صيغة أفعَل، يعني كأن الأصل في أفعِل به هو ما أحسَن زيداً.

وهو في الأصل ماضٍ على صيغة أفعَل، بمعنى: صار ذا كذا، ولذلك قلنا: أَوْفَى الهمزة هنا للنقل، وَأَصْدِقْ الهمزة للصيرورة. والمراد على صيغة أفعَل، حينئذٍ الهمزة هنا للصيرورة، هي أفعِل بخلاف أفعَل، أَوْفَى .. حينئذٍ تكون للنقل.

على صيغة أفعَلَ، بمعنى صار ذا كذا، أغد البعير أي: صار ذا غدة، أورق الشجر أي: صار ذا ورق، أثمر البستان أي: صار ذا ثمر، أزهر البستان أي: صار ذا زهر، أترب زيد أي: صار ذا متربة يعني: حاجة ..

ص: 10

إذن: هذه الهمزة تدل على الصيرورة بمعنى: صار كذا، هذا الأصل فيه. بمعنى: صار ذا كذا، كـ أغد البعير أي: صار ذا غدة، ثم غيرت الصيغة، غيرت من الماضي إلى الأمر: أحسَنَ زيدٌ بالرفع، فقيل: أحسِن حوِّلت من صيغة الماضي إلى الأمر، فقيل: أحسِن زيدٌ فحصل قبح، وهو: أن صورة أحسن فعل أمر، وفعل الأمر لا يناسبه ما بعده أن يكون اسماً ظاهراً، إذا كان مرفوعاً؛ لأنه فاعل أحسِنْ زيدٌ هذا لا نظير له، فحينئذٍ من باب تحسين اللفظ زيدت الباء لزوماً، ثم غيرت الصيغة فقبح إسناد صيغة الأمر إلى الاسم الظاهر، أحسنْ زيدٌ هذا قبيح، فزيدت الباء في الفاعل ليصير على صورة المفعول به، كامرر بزيدٍ، إذن أحسِن بزيد أصلها: أحسنَ زيدٌ. حوّلت صيغة الماضي إلى الأمر للعلة السابقة التي هي: صار ذا كذا، حينئذٍ قيل: أحسِن زيدٌ، في الظاهر صار اللفظ لفظ فعل أمر، والذي يليه اسم ظاهر، ومن القبيح أن يتلو الفاعل وهو اسم ظاهر فعل الأمر ولو صورة؛ لأن فعل الأمر لا يرفع فاعلاً ظاهراً وإنما يرفع ضميراً مستتراً أو بارزاً، قُوما، قوموا، قم .. إذن ضمير مستتر أو بارز، وهنا عندنا في هذا المثال: أحسن بزيدٍ المخاطب واحد، فحينئذٍ لا يحسن أن يتلوه اسم ظاهر، فمن باب التحسين والإصلاح للفظ زيدت الباء لزوماً على الفاعل، فصار مثله مثل امرر بزيد، حينئذٍ تعربه تقول: بزيدٍ الباء زائدة، وزيدٍ فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، لماذا زيد؟ لإصلاح اللفظ من باب التحسين.

ولذلك التزمت بخلافها في نحو: ((كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79] ليست بواجبة، يعني: قد تترك الباء هنا، قلنا الباء زائدة لكنها ليست بواجبة، كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلَامُ لِلمرْءِ نَاهِيَاًً.

فأصله أحسِن بزيدٍ: أحسَن زيدٌ، أي: صار ذا حسنٍ، فهمزته للصيرورة ثم غيرت الصيغة عند نقلها إلى إنشاء التعجب ليوافق اللفظ في التغيير، تغيير المعنى من الإخبار إلى الإنشاء.

إذن حولت صيغة الماضي لقصد الإنشاء إلى صورة فعل الأمر، ثم دخلت الباء على الفاعل الظاهر .. الاسم الظاهر من باب التحسين.

وهذا مذهب البصريين وهو أرجح.

وقال الفراء والزجاج والزمخشري: لفظه ومعناه الأمر -على ظاهره-، أحسِن ليس في الصورة أمراً وفي المعنى ماضياً، بل هو لفظاً ومعنى فعل أمر. لفظه ومعناه الأمر، وفيه ضمير مستتر أحسِنْ بزيدٍ فاعل ضمير مستتر وجوباً، وبزيدٍ، زيدٍ هذا مفعول به على الأصل، والباء زيدت للتعدية.

فموضع مجرورها نصب على المفعولية، ثم قيل: مرجع الضمير أين هو؟ إذا قيل: أحسِن بزيدٍ، أين مرجع الضمير؟ اختلفوا على قولين:

ص: 11

قيل: على المصدر المأخوذ من الفعل، أحسن يا يا حُسنُ زيداً؛ لأنه مخاطب أحسِن أنت، لا بد أن نقدره هكذا، قم يعني: يا زيد، إذا قيل: أحسِن الضمير هنا يعود على الحُسن المفهوم من أحسِن، والتقدير: أحسِن يا حُسنٌ بزيدٍ، وهذا ضعيف أي: دم به والزمه، ولذا لزم الضمير صورة واحدة، ويرده أنه يقال: أحسِن بزيدٍ يا عمرو، أحسِن يا حسنُ بزيدٍ يا عمرو لا يخاطب اثنان، وإنما يخاطب واحد، فإذا قيل: مرجع الضمير هو المصدر أحسن يا حسنٌ بزيدٍ حينئذٍ نقول: كيف نقول: أحسن بزيدٍ يا عمرو؟ أحسن يا حسنٌ بزيدٍ يا عمرو! هذا منتقض.

إذن لزم الضمير صورة واحدة، ويرده أنه يقال: أحسن بزيدٍ يا عمرو؛ إذ لا يخاطب شيئان في حالة واحدة، وقيل: الضمير للمخاطب.

فمعنى أحسن بزيد: اجعل يا مخاطب زيداً حسناً أي: صفه بالحسن كيف شئت، وإنما التزم إفراد الضمير لجريانه مجرى المثَل، والصواب هو مذهب البصريين السابق أنه فعل في الظاهر أمر، وفي المعنى ماضٍ، والذي يدل على ذلك: أنه لو كان فعل أمر حقيقة لوجب فيه ما يجب في جميع أفعال الأمر من استتار فاعله إذا كان مفرداً مذكراً، فحينئذٍ يبرز إذا كان غير مفرد مذكر، أما تقول: أحسن يا زيد، أحسنا يا زيدا، أحسنوا يا زيدون .. هل هذا يتأتى في هذا الفعل الصيغة أفعِل به؟ الصواب: لا. تقول: أصدق بهما، أصدق بهم، ويبقى كما هو على صورته، فلو كان فعل أمر حقيقة لبرز الضمير مع الفاعل المثنى والجمع، إذن: لا نقول: بأنه فعل أمر.

لوجب فيه ما يجب في جميع أفعال الأمر من استتار فاعله وجوباً إذا كان مفرداً مذكراً، وبروزه فيما عدا ذلك، وهنا لا يبرز معه ضمير أصلاً، وأنه لو كان فعل أمر حقيقة لم يكن المتكلم متعجباً، نحن نقول: أحسن بزيدٍ لو كان الضمير هنا على أصله وأحسِن على أصله، حينئذٍ عندما أقول لك: أحسن بزيدٍ أنا أريد أن أتعجب، ما هو أمرك أن تتعجب أنت، لو كان الأمر على حقيقته أحسن بزيدٍ يعني: أن تتعجب، وأنا أريد أن أفيد بهذه الجملة أني أنا متعجب، إذن دل على أنه ليس على أصله.

وأنه لو كان فعل أمر حقيقة لم يكن المتكلم متعجباً، بل يكون آمراً غيره بالتعجب، وقد أجمعوا على أن الناطق بهذه الصيغة، بهذا الفعل متعجباً -هذا بالإجماع-، فإذا قيل: بأنه أمر حقيقة لم يكن متعجباً بل هو آمر لغيره.

وكذلك نقول: أقوِم بزيدٍ، وأبيِن بزيدٍ، وهذا صحيح .. أقوم من أقام، أقام فعل الأمر ما هو؟ أقم، يحذف منه العين؛ لأنه أجوف قم، أقم، أبن .. لكن نحن نقول: أقوم بزيدٍ، أبين بزيدٍ، لو كان فعل أمر حقيقة لحذفت العين؛ لأن الأجوف يحذف منه عينه عند فعل الأمر، وهذا يدل على أنه ليس أمراً حقيقة.

إذن: أفعِل بزيدٍ، أحسِن بزيدٍ، نقول: أحسِن هذا في صورته صورة الأمر، لكنه في الحقيقة هو فعل ماضي، وعلى الصحيح نقول: أحسن مبني على السكون فعل ماضي، مبني على السكون أو حذف حرف العلة إذا كان معتلاً كالأمر، نظراً لصورته، أو على فتحة مقدرة منع من ظهورها مجيئه على صورة الأمر نظراً للمعنى.

ص: 12

يعني في الإعراب تقول: أحسن، إما أنك تبنيه على السكون باعتبار الصورة، وإما أنك تبنيه على الفتحة المقدر باعتبار المعنى. لك هذا الوجه ولك الوجه الآخر، والباء تكون زائدة وزيد يكون فاعلاً.

بِأَفْعَلَ انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا

وَتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ كَمَا

أَوْ جِئْ بأَفْعِلْ قَبْلَ مَجْرُورٍ بِبَا

أَوْفَى خَلِيلَيْنَا وَأَصْدِقْ بِهِمَا

(وَتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ): يعني الذب بعده (انْصِبَنَّهُ) حتماً على أنه مفعول به حقيقة على المذهب الصحيح.

(كَمَا أَوْفَى خَلِيلَيْنَا وَأَصْدِقْ بِهِمَا) أَوْفَى: قلنا الهمزة هنا للنقل، وَأَصْدِقْ الهمزة للصيرورة، والباء زائدة في الفاعل.

ثم قال رحمه الله تعالى:

وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبِحْ

إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَذْفِ مَعْنَاهُ يَضِحْ

(وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبِحْ) استباحة الأصل المنع، فحينئذٍ قال: اسْتَبِحْ حَذْفَ، حَذْفَ: هذا مفعول مقدم لقوله: اسْتَبِحْ، وهو مصدر مضاف إلى المفعول.

حَذْفَ مَا، اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه، وهو مفعول حَذْفَ.

(مِنْهُ) متعلق بقوله: (تَعَجَّبْتَ)، وتعجبت منه صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، لكن مقيد (إِنْ كَانَ) شرط هذا، ودائماً قاعدة عامة، ولو لم يذكره لعلمناه مما سبق، وهو أنه لا حذف إلا مع قرينة .. مع دليل (إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَذْفِ مَعْنَاهُ يَضِحْ) إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ يَضِحْ عِنْدَ الْحَذْفِ، عِنْدَ متعلق بـ (يَضِحْ) منصوب به، وهو متعلق بخبر كان.

وَلَا يَلِي الْعَامِلَ مَعْمُولُ الْخَبَرْ

إِلَاّ إِذَا ظَرْفاً أَتَى أَوْ حَرْفَ جَرْ

هنا جائز أو ممنوع؟ جائز، لأنه معمول الخبر.

إذن: يَضِحْ هذا خبر كان، واسمه مَعْنَاهُ، ويَضِحْ أصله يتضح خبر كان، أي: لا يلتبس. المتعجب منه محكوم عليه في المعنى، ما أحسن زيداً، زيداً محكوم عليه بحسن مستعظم، أحسن بزيدٍ زيدٍ محكوم عليه بحسن مستعظم .. استعظام، حينئذٍ المتعجب منه محكوم عليه في المعنى فهو شبيه بالمبتدأ.

ص: 13

فيجب أن يكون معرفة أو نكرة تشبه المعرفة، إما أن يكون نكرة وإما أن يكون معرفة، لكنها نكرة مختصة، أو نكرة تشبه المعرفة؛ لكونها مخصوصة، فالمعرفة نحو: ما أحسن زيداً، زيداً هذا معرفة وهو متعجب منه، وهو محكوم عليه في المعنى فحكمه حكم المبتدأ، حينئذٍ كما أنه لا يبتدأ بالنكرة المحضة حينئذٍ لا بد أن يكون المتعجب منه معرفة. فالمعرفة نحو: ما أحسن زيداً، والنكرة المخصوصة نحو: ما أسعد رجلاً اتقى ربه، يعني نكرة مخصوصة، لو قيل: ما أسعد رجلاً، ما جاز؛ لأن رجلاً هذا محكوم عليه وهو في قوة المبتدأ ولا يبتدأ بالنكرة، لما قال: اتقى ربه، صار وصفاً لـ رجلاً فجاز أن يبتدأ به، فجاز أن يقع متعجباً منه. فأما النكرة غير المختصة، أو كان نعتها غير مفيد للتخصيص فحينئذٍ لا يجوز أن يقع متعجباً منه لا فاعلاً في أفعِل بهما، ولا مفعولاً به في: ما أحسَن زيداً، لا يجوز هذا ولا ذاك. فلا يقال: ما أحسن رجلاً، لا يصح أن يقال: ما أحسن رجلاً، ولا يصح أن يقال: ما أحسن رجلاً من الناس، من الناس هذا جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لرجل، لكن هل أفاد التقييد؟ لم يفد، إذن: يشترط في المتعجب منه على جهة العموم أن يكون معرفة أو نكرة مخصوصة؛ لأنه محكوم عليه في المعنى وهو كالمبتدأ، كما أنه لا يبتدأ بالنكرة المحضة، كذلك لا يتعجب من النكرة المحضة، حينئذٍ يجوز حذفه إن دل عليه دليل.

(وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبَِحْ)، تَعَجَّبْتَ سماه ماذا؟ سمى المفعول متعجباً منه، وهذا توسع؛ لأن المتعجب منه هو حسنه، ما أحسن زيداً، لذلك قلنا: التعجب مأخوذ من التركيب كله لا من (ما) فقط ولا من (أحسن) فقط، ولا من (زيداً) فقط، لكن في الأصل التعجب هنا وقع من حُسن زيد، ما أحسن زيداً، فالحسن هو المتعجب منه، وزيداً هو محله، ولذلك أُعرب مفعولاً به، فحينئذٍ نقول هنا: فيه توسع في العباراة.

(وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبَِحْ) منصوباً كان أو مجروراً، يعني في الصيغتين: ما أفعَله، وأفعِل به.

(اسْتبَِحْ) السين والتاء زائدتان أو للصيرورة، يعني صيره مباحاً.

(إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَذْفِ مَعْنَاهُ)، مَعْنَاهُ: يعني معنى التركيب، بعد الحذف يَضِحْ يعني: يتضح ولا يلتبس بغيره.

أُورد عليه أنه قد يفيد أنه لا يكفي مطلق الفهم، يتضح .. يُفهم، أيهما أعم؟ الفهم أخص، والوضوح أعم، إذن: لو فهم ولم يتضح لا يحذف، لو فهم بعد الحذف ولم يتضح وضوحاً بيناً نقول: لا يحذف، لكن ليس هذا مراده، إنما مراده يتضح يعني: يفهم، الانفهام. أُورد عليه: أنه قد يفيد أنه لا يكفي مطلق الفهم بل لا بد من الوضوح الذي هو قدر زائد على مجرد الفهم.

مع أن الظاهر الاكتفاء بمطلق الفهم، فيحمل الوضوح حينئذٍ على الانفهام.

قال الشارح: يجوز حذف المتعجب منه وهو المنصوب بعد أفعَل والمجرور بالباء بعد أفعِل إذا دل عليه دليل، لكنه ليس مطلقاً، ليس كل متعجب منه يجوز حذفه، سواء كان في: ما أفعَل أو أفعِل.

ص: 14

وشرَط في التصريح لحذف المتعجب منه منصوباً كان أو مجروراً: أن يكون ضميراً، إذن لا مطلقاً، أن يكون ضميراً، فلا يجوز الحذف في نحو: أحسن بزيدٍ، بزيدٍ ما يجوز أن تحذف بزيد، أحسن وتسكت؟ لا. لا بد أن يكون ضميراً، ((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38] حُذف الضمير، وهنا له شرط آخر سيأتي.

فلا يجوز الحذف في نحو: أحسن بزيدٍ؛ لعدم الدليل عند الحذف، ولا في نحو: زيدٌ أحسِن بزيد، قد يقول قائل: أحسن بزيدٍ لا يجوز الحذف لعدم وجود الدليل، لكن زيدٌ أحسِن بزيدٍ قد يجوز حذف الثاني بزيد لوجود زيد الأول! نقول: لا. لا يجوز كذلك. لأن الإظهار في موضع الضمير في نحو ذلك لنكتة؛ لأنه لو أراد أنه هو هو، لقال: زيدٌ أحسن به؛ لأن البيان والبلاغة أنه لا يوضع المظهر في مقام المضمر إلا لنكتة، ولذلك دائماً نقول: قال الكلامُ، ثم يقول: باب الكلامِ، الكلامُ نقول: أظهر في مقام الإضمار، والأصل أن يقول: وهو يأتي بالضمير، لا بد من نكتة، قد يتساهلون في المتون، لكن في البيان والبلاغة لا بد من إظهار نكتة، فحينئذٍ إذا قال: زيدٌ أحسن بزيدٍ. لم يأت بالضمير به، علمنا أن ثم نكتة، فلا يجوز حذف بزيدٍ لذهاب هذه النكتة والفائدة.

إذن ولا في نحو: زيدٌ أحسن بزيدٍ؛ لأن الإظهار في موضع الضمير في نحو ذلك لنكتة تفوت بالحذف، وعلى قياسه لا يجوز الحذف في نحو: ما أحسن زيداً، زيداً لا يجوز الحذف؛ لأنه لا يعلم، وزيدٌ ما أحسن زيداً كذلك لا يُعلم؛ لأنه ذكره لنكتة، وشرط الحذف في أفعِل .. الصيغة الثانية: أن يكون أفعِل معطوفاً على آخر مذكور معه مثل ذلك المحذوف، الآية واضحة:((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38] أبصر بهم، حذف بهم الثاني لوجوده في الأول، لا بد أن يكون معطوفاً على أفعِل مذكورٌ معه مثل المحذوف، فإن لم يكن كذلك حينئذٍ صار شاذاً؛ لأنه لا بد من قرينة وليس عندنا قرينة من نفس التركيب، أحسن بهم نقول: لا بد من عطفه على مثله. وشرط الحذف من أفعِل أن يكون أفعِل معطوفاً على آخر مذكور معه مثل ذلك المحذوف كالآية التي ذكرناها: ((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38] أي: بهم، حذف الثاني بهم لدلالة الأول عليه، إذن قرينة واضحة بينة.

وذهب الفارسي إلى أنه لم يحذف وأنه استتر في الفعل حين حذفت الباء ورُدَّ بوجهين:

أولاً: لزوم إبرازه حينئذٍ مع التثنية والجمع.

الثاني: أن من الضمائر ما لا يقبل الاستتار كـ (نا) أكرم بنا، الفارسي يقول: ليس عندنا حذف، وإنما حذفت الباء ورجع الضمير استتر .. صار مستتراً، أكرم موجود الضمير، أكرم بنا نقول:(نا) هنا لا يستتر؛ لأنه فاعل، حينئذٍ كيف نحكم عليه بأنه مستتر؟ ثم أكرم بهما، أكرم بهم .. لو استتر لبرز؛ لأنه مثنى وجمع، لما لم يبرز علمنا أن ثم حذفاً.

فمثال الأول وهو المنصوب:

أَرَى أُمّ عَمروٍ دَمعُها قَدْ تحَدّرا

بُكَاءً عَلى عَمرٍو وَمَا كَان أَصْبَرَا

وَمَا كان أصْبَرَها، إذن ضمير، لو كان اسماً ظاهر لا يجوز الحذف.

ص: 15

رَبِيْعَةَ خَيْراً مَا أَعَفَّ وَأَكْرَمَا، والتقدير: مَا أَعَفَّها وأكْرَمَها، إذن: في ما أفعَل، يحذف إذا كان ضميراً، وما عدا الضمير لا يجوز حذفه، إذن: نحتاج إلى تقييد قول الناظم (وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبَِحْ) هذا فيه إطلاق، ولو في قوله: ما أحسن زيداً، احذف زيد، نقول: لا. ليس الأمر كذلك بل لا بد أن يكون ضميراً.

التقدير: وَمَا كان أصْبَرَها فحذف الضمير وهو مفعول أفعَل للدلالة عليه بما تقدم.

ومثال الثاني الآية: ((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38] التقدير: وَاللَّهُ أَعْلَم وأبصر بهم فحذف بهم لدلالة ما قبله عليه، وقول الشاعر:

فَذَلِكَ إنْ يَلقَ المَنِيَّةَ يَلقَهَا

حَمِيْداً وَإِنْ يَسْتَغْنِ يَومَاً فَأَجْدرِ

فَأَجْدرِ به، أين المعطوف عليه؟ هل ثم صيغة أخرى معطوف عليه ذكر معه به، هل ذكر به في اللفظ؟ ((أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)) [مريم:38] أعيد: بهم موجود أول، هنا بهم موجود؟ ليس موجود، نحكم عليه بأنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، لماذا؟ لتخلف الشرط؛ لأنه لا يجوز حذف فاعل أفعِل إلا إذا عطف على مثله أفعِل وذكر معه نفس المحذوف فأجدر به.

حينئذٍ يرد السؤال: لماذا في: ما أحسن، ما أصبرها .. ضمير مفعول به وحذف وهو فضلة، هل فيه إشكال؟ ليس فيه إشكال (وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ) هو فضلة، لكن ((أبصر بهم))، ((أَسْمِعْ بِهِمْ)) [مريم:38] بهم هذا ضمير فاعل والأصل في الفاعل أنه لا يجوز حذفه، وذكرنا في الأول هناك أن ثم مسائل مستثناة، ومنها: التعجب، هذا الذي معنا.

إذن حذف هنا لماذا؟

قالوا: إنما جاز حذف المجرور بعد أفعِل مع كونه فاعلاً لأن لزومه للجر كساه صورة الفضلة فجاز فيه ما يجوز فيها، لما دخلت عليه الباء -تعليل جميل هذا- لما دخلت عليه الباء ولزمت حينئذٍ صارت صورته صورة الفضلة المجرور، فجاز حذفه.

لكن لا بد من قرينة وهي كونه معطوفاً على مثله. إذن:

وَحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتبَِحْ

إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَذْفِ مَعْنَاهُ يَضِحْ

وذلك فيما إذا كان ضميراً، يمكن يؤول الناظم، نقول: تعليقه هنا الحكم: (إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَذْفِ مَعْنَاهُ يَضِحْ) يتضح، هذا من باب وضح كوعد، وعد يعد، أين الواو؟ وضع يضع، أصله يفعِلُ يَوعِ .. إذن وقعت الواو بين عدوتيها فحذفت يعد، وهي فاء أصلية .. أصل الكلمة، يوضح يضح وقعت بين عدوتيها، إذا كان فعَل يحول إلى فعِل، فحينئذٍ نقول: إذا كان من باب يفعَل يحول إلى يفعِل من أجل إسقاط الواو فقط، وإلا يضع يوضع، أين يضع هنا؟ بفتح الضاد، إذن نقول: يوضَح .. يوضِح هذا الأصل، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها.

وَفِي كِلَا الفِعْلَيْنِ قِدْماً لَزِمَا

مَنْعُ تَصَرُّفٍ بِحُكْمٍ حُتِمَا

يعني كل من الفعلين السابقين غير متصرفين بحكم مجمع عليه بين النحاة قديم، يعني منذ أن نشأ النحو وقبل أن يتكلم النحاة به حينئذٍ الحكم سابق وهو محل وفاق بينهم.

ص: 16

يعني: أن فعلي التعجب وهما: ما أفعله وأفعل به غير متصرفين مطلقاً أصلاً، ولا نقول تصرف تام ولا ناقص ننفيه. غير متصرفين فلا يستعمل منهما مضارع ولا غيره، مما يصاغ من الأفعال بل يلزم أفعَل لفظ الماضي ويلزم أفعِل لفظ الأمر، أبداً دائماً لا يكون إلا جامداً، ولذلك قيل: لا مصدر له، وإن كان في الأصل له مصدر، أحسن في الأصل له مصدر، ويشتق منه ويكون مضارع وأمر، لكن إذا ركب في صيغة التعجب الكلام عليه هنا، ما أفعَل وأفعِل نقول: هذا غير متصرف لا يستعمل منه مضارع ولا أمر، وهذا الحكم قديم.

(وَفِي كِلَا الفِعْلَيْنِ قِدْماً لَزِمَا) لَزِمَا الألف للإطلاق.

(وَفِي كِلَا) جار ومجرور متعلق بقوله: لَزِمَا، واللزوم بمعنى الحتم والوجوب.

(وَفِي كِلَا الفِعْلَيْنِ) هذا متعلق بـ لَزِمَا.

(قِدْماً) أي: قديماً وفي أصل اللغة قديماً، كذلك متعلق بقوله: لَزِمَا؛ لأنه منصوب على الظرفية. أي: في الزمن القديم، وكذا بِحُكْمٍ متعلق بقوله: لَزِمَا، والباء فيه سببية، وأراد بالحكم هنا كون المجيء على طريقة واحدة أدل على المراد أي: التعجب، يعني لماذا التزم هنا عدم التصرف؟ قالوا: لأنه أدل على المراد، وما هو المراد؟ التعجب، نحن نريد معنى واحد غير متقلب، غير متنوع لا يكون في زمن دون زمن، إذن: ما الذي يناسبه؟ يناسبه لفظ غير متقلب، ولذلك لزم، نقول: أدل على المراد أي: التعجب، وإنما كان مجيئه على طريقة واحدة أدل؛ لأن تصرفه ونقله من حالة إلى حالة ربما يشعر بزوال المعنى الأول وهو التعجب.

وعدم التصرف .. تصرف الفعل إما بخروجه عن طريقة الأفعال من الدلالة على الحدث والزمن كنعم، وبئس، وليس، وعسى .. هذه نزع منها الدلالة على الحدث والزمن فصارت جامدة غير متصرفة البتة، إذن: عدم تصرفها جاءها من أي طريق؟ من نزع دلالتها على الحدث والزمن.

أو بالاستغناء عن تصرفه بتصرف غيره، يعني: لا نأتي بالمضارع منه؛ لأن ثم غير ما .. ما يغني عنه، كما قلنا: سواء هناك لا يثنى، استغناء عنه بتثنية سي، سيان. فلا يقال: سواءان، لماذا؟ اكتفاء بسيان، نقول: هنا كذلك عدم التصرف قد يكون لدلالة بعض الأفعال على المعنى الذي دل عليه هذا الفعل، حينئذٍ لا نشتق منه مضارع ولا أمر إلى آخره ..

أو بالاستغناء عن تصرفه بتصرف غيره، وإن دل على ما ذكر كيدع ويذر، فإنه استغني عن ماضيهما بماضي ترك، وعدم تصرف فعل التعجب لكلا الأمرين، لهذا وذاك، فكل من هذين الفعلين ممنوع التصرف، فالأول نظير تبارك، وعسى، وليس .. والثاني نظير هب بمعنى اعتقد وتعلم بمعنى اعلم، وقيل: أيضاً في علة جمودهما وعدم تصرفهما، تضمنهما معنى حرف التعجب الذي كان ينبغي أن يوضع فلم يوضع، والله أعلم.

(وَفِي كِلَا الفِعْلَيْنِ قِدْماً لَزِمَا مَنْعُ تَصَرُّفٍ) مَنْعُ بالرفع أو بالنصب؟ فاعل لزم، لزم هذا فعل.

ابن هشام يقول: إذا عرفت الفعل فابحث مباشرة عن الفاعل، وإذا عرفت المبتدأ فابحث مباشرة عن الخبر؛ لأنك إذا لم تعربه مباشرة ضعت هذا في التعليم فقط، تضيع يعني، تعرب مبتدأ ثم تذهب تعرب فاعل إلى آخره وكذا، أين الخبر؟ في خبر كان.

ص: 17

وكذلك إذا قلت: فعل، حينئذٍ تضيع إذا ما قلت أين الفاعل، مباشرة ابحث عن فاعله، كذلك إذا كان يحتاج إلى نائب فاعل.

إذن: (مَنْعُ تَصَرُّفٍ) التصرف المراد به التقلب، سواء كان تصرفاً تاماً أو تصرفاً ناقصاً، مَنْعُ هذا فاعل للزم.

(بِحُكْمٍ) من جميع النحاة (حُتِمَا) هو أي: الحكم، بمعنى ماذا حتم؟ بمعنى لزم، قلنا: الحتم، واللزوم، والوجوب بمعنى واحد، فَالحَتْمُ وَاللَاّزِمُ مَكْتُوبٌ وَمَا، كذلك الكتابة تأتي بمعنى الوجوب.

قال الشارح: لا يتصرف فعلا التعجب بل يلزم كل منهما طريقة واحدة، فلا يستعمل من أفعَل غير الماضي ولا من أفعِل غير الأمر قال المصنف: وهذا مما لا خلاف فيه.

لذلك قال: (قِدْماً لَزِمَا).

وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلَاثٍ صُرَّفَا

قَابِلِ فَضْلٍ تَمَّ غَيْرِ ذِي انْتِفَا

وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا

وَغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا

هذه شروط ما يؤتى به على صيغة ما أفعَل وأفعِل، إذن ليس كل فعل في لسان العرب يتعجب منه، بل لا بد من ثمانية شروط جمعها الناظم في هذين البيتين، وأكثرها مجمع عليه بين النحاة يعني: لا خلاف فيه.

(وَصُغْهُمَا) يعني: اشتق، أو ائت، أو خذ، والصياغة والأخذ والاشتقاق بمعنى واحد، صُغْهُمَا.

(مِنْ ذِي ثَلَاثٍ) هذان شرطان، يعني من فعل ذي ثلاثٍ، فهو على حذف موصوف. صفة لموصول محذوف أي: فعل، أي ثلاثٍ، حينئذٍ اشتملت هذه الكلمة على شرطين: الأول أن يكون الفعل المصوغ منه أفعَل وأفعِل فعلاً لا اسماً، ثانياً: أن يكون مؤلفاً من ثلاثة أحرف لا ما زاد عليه كالرباعي ومزيد الثلاثي ومزيد الرباعي.

(صُرَّفَا) تصرفاً تاماً، يعني متصرف لا بد أن يكون متصرف، فاحترز به عن الجامد، فالجامد كنعم وبئس وعسى وليس لا يشتق منها أفعَل وأفعِل.

(قَابِلِ فَضْلٍ) يعني: قابل للزيادة، يتفاوت في نفسه كالعلم والجهل، وأما فني ومات، هذا لا يتعجب منهما، لماذا؟ لأن الفناء شيء واحد، والموت شيء واحد. هو نزع الروح ليس فيه تفاضل .. زيادة.

(تَمَّ) يعني: تام، وما كان كذلك يعني اكتفى بمرفوعه، وأما ما لا يكتفي بمرفوعه وهو كان وكاد فحينئذٍ لا يتعجب منهما.

(غَيْرِ ذِي انْتِفَا) يعني: غير منفي انتفاء بالقصر للوزن، والمراد به ألا يكون منفياً إما باللزوم أو بالعروض كما سيأتي.

(وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ) يعني اسم فاعل (يُضَاهِي أَشْهَلَا) أي: في الوزن، وكون مؤنثه على فعلاء، يعني لا يكون على وزن حمِرَ فهو أحمَر، وحمِرَ لا يتعجب منه؛ لأن الوصف منه وهو اسم الفاعل على وزن أفعل كـ أشهل.

(وَغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا) وَغَيْرِ سَالِكٍ يعني: غير فعل سالكٍ سبيل، يعني: ذاهب طريق (فُعِلَا) وهو مبني للمجهول، هذه ثمانية شروط: كونه فعلاً ثلاثياً، متصرفاً، قابلاً للتفاضل، تام، غير منفي -يعني: مثبت-، وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أشْهَلَا وَغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا، هذه كلها شروط .. أوصاف للفعل المقدر، يعني: إعرابها أوصاف للفعل المحذوف، وهي كلها مفردة إلا قوله:(صُرَّفَا) و (تَمَّ) فإنهما جملتان فعليتان.

ص: 18

(صُرَّفَا) الألف هذه للإطلاق، و (تَمَّ) كلها صفات للفعل، ولذلك لم يعطفها بالواو إلا في قوله:(وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ)(وَغَيْرِ سَالِكٍ).

يشترط في الفعل الذي يصاغ منه فعلا التعجب .. ابن عقيل قال: شروط سبعة لم يعتبر الفعلية، الصواب أنه يعتبر؛ لأنه لا يصاغ من الاسم، فالشروط ثمانية:

الأول: أن يكون فعلاً فلا يبنيان من الجِلف والحمار، جِلف على وزن فِعل، قيل: الرجل الجاف الغليظ، فلا يقال: ما أجلَفه، لماذا؟ لكونه لا فعل له، جلف هذا اسم ليس له فعل، هكذا مثَّل به كثير من النحاة، والحمار اسم، فلا يقال: ما أحمره؛ لأنه ليس له فعل، لبنائه من غير فعل، لكن نوزع في جِلف، أما ما أحمره هذا محل وفاق أنه لا يتعجب منه؛ لأن الحمار اسم وليس بفعل.

ولكن في القاموس: جلف كفرح، جَلفاً وجَلافة، إذن أثبت له فعل، إذا قيل: جلِف كفرِح، يعني: فعل، جَلَفاً فرحاً وجلافة، إذن له مصدر، وعليه يصح أن يقال: ما أجلفه .. أن يتعجب منه، وإن كان كثير من النحاة يمثلون بهذا حتى ابن هشام في التوضيح مثّل بهذا، الصواب: أن يقال بأن له فعلاً، وهو موازن لفرح، جلف كفرح، حينئذٍ ما أجلفه صواب، ولو نُزّل بأنه لا فعل له حينئذٍ نقول: ما أجلفه هذا شاذ، وأما ما أحمره من كونه حماراً نقول: هذا لا أصل له، فإذا سمع حينئذٍ نقول: هذا شاذ.

ولذلك شذ قولهم: ما أذرعها، ما أذرع المرأة، ما أذرعها، أي: ما أخف يدها في الغزل، بنوه من قولهم: امرأة ذراع كسحاب، يعني: خفيفة اليد في الغزل، فقولهم: ما أذرع المرأة نقول: هذا شاذ وإن سمع؛ لأنه ليس له فعل، امرأة ذراع، ذراع هذا اسم وليس بفعل.

إذن (مِنْ ذِي ثَلَاثٍ) يعني: من فعل، إذن الشرط الأول أن يكون فعلاً، فإذا كان اسماً حينئذٍ لا يتعجب منه، (مِنْ ذِي ثَلَاثٍ) مِنْ ذِي: من فعل صاحب أحرفٍ ثلاثٍ.

إذن لا يتعجب إلا من الفعل الثلاثي المجرد، فيشترط أن يكون ثلاثياً، فلا يبنيان –الصيغتان- مما زاد عليه، سواء كان رباعياً الأصول أو ثلاثياً مزيد أو رباعي مزيد، نحو: دحرج وانطلق واستخرج، لا يؤتى بحرف من هذه الحروف الثلاثة ويتعجب منها؛ لأن أحسن على أربعة أحرف: أحسن، ما أفعل، وأفعِل به هذا على زنة أربعة أحرف، حينئذٍ لو جئت بدحرج لا بد أنك تحذف الحرف الأخير من أجل أن يستقيم معه الصيغة، وإذا حذفت منه حرفاً بطلت البنية، خرج الفعل عن مدلوله، هذا في الرباعي، ومثله الثلاثي المزيد وصار أربعة أحرف، فما زاد عن الرباعي من باب أولى وأحرى؛ لأنه لا بد من حذف حرفين أو ثلاثة.

ص: 19

إذن: لا يبنى الصيغتان إلا من فعل ثلاثي، فما زاد عن الثلاثي بجميع أنواعه لا يبنى منه اتفاقاً إلا أفعَل، ففيه نزاع، أفعَل مثل أكرم فيه نزاع، فقيل: يجوز مطلقاً، وهذا رأي سيبويه، وقيل: يمتنع مطلقاً، وهو قول المازني والأخفش وابن السراج والفارسي، وقيل: بالتفصيل: يجوز إن كانت الهمزة لغير النقل نحو: ما أظلم هذا الليل، وما أقفر هذا المكان، ولا يقال: ما أذهب نور الليل؛ لأن الهمزة هنا للنقل، إن كانت همزته للنقل امتنع، وإن لم يكن كذلك جاز، وهذا مذهب ابن عصفور، والأول مذهب سيبويه وأكثر النحاة أنه يجوز مطلقاً، والقول بجواز بناء فعل التعجب من أفعل مطلقاً هو قول سيبويه وأصحابه، واختاره ابن مالك في التسهيل وشرحه، بأنه يجوز مطلقاً.

وشذ على هذين القولين الأخيرين المنع مطلقاً، والتفصيل .. تفصيل ابن عصفور ما أعطاه للدراهم، وما أولاه للمعروف، وعلى كلٍّ قول: ما أتقاه .. الأقوال الثلاثة، وما أملى القربة؛ لأنهما من اتقى وامتلأ، إذا قيل: ما أتقاه بنيته من اتقى، اتقى على وزن افتعل، إذن ليس على وزن أفعَل، يكون مما اتفق النحاة على منعه أو مما اختلف فيه؟ مما اتفقوا على منعه، نحن نقول: ما زاد عن الثلاثي متفق على منعه إلا أفعل، اتقى على وزن افتعل، افتعل هل هو عين أفعل؟ إذن: هو متفق على المنع.

ما أبلى القربة من امتلأت، افتعلت، حينئذٍ من باب أولى إذا اتقى منع فامتلأت من باب أولى وأحرى.

إذن: أن يكون ثلاثياً، فلا يبنى مما زاد عليه، إلا أفعل وقع فيه خلاف أجازه سيبويه ومنعه غيره، وفصل ابن عصفور.

(مِنْ ذِي ثَلَاثٍ صُرَّفَا) أن يكون متصرفاً -هذا الثالث- فلا يبنيان من فعل غير متصرف كنعم وبئس وعسى وليس.

وما له تصرف ناقص كيدَع ويذر، يعني مطلقاً سواء كان غير متصرف تصرفاً تاماً كنعم وبئس، أو يكون متصرفاً ناقصاً.

إذن (صُرَّفَا) المراد به التصرف التام، احترازاً مما لا يتصرف أصلاً أو مما له تصرف ناقص، فيمنع في الطرفين.

إذن الشرط: أن يكون متصرفاً تصرفاً تاماً؛ لأنه المتبادر عن الإطلاق، فلا يبنيان من فعل غير متصرف أصلاً، ولا من فعل ناقص التصرف كيدع ويذر.

الرابع: أن يكون معناه قابلاً للمفاضلة .. (قَابِلِ فَضْلٍ) يعني: المعنى قابل لأن يستعظم، فلان يزيد عن فلان، إذن يقع فيه التعجب، فلا يبنيان من مات وفني ونحوهما؛ إذ لا مزية فيهما لشيء على شيء. زيدٌ مات وعمروٌ مات، كل منهما مات لا يتعجب من موت أحدهما.

ص: 20

الخامس: أن يكون تاماً، واحترز بذلك من الأفعال الناقصة نحو: كان وأخواتها وكاد وأخواتها، فلا يقال: ما أكون زيداً قائماً، وأجازه الكوفيون بناء على أن قائماً هذا ليس خبراً بل هو حال، وهذا سبق بيانه. وأجازه الكوفيون بناء على أصله من أن المنصوب بعد كان حال، إذن لا يكون كان وأخواتها مما يقع به التعجب، فلا يقال: ما أكون زيداً؛ لأنه لو صح ما أكون زيداً قائماً لزم نصب أفعَل لشيئين وهما: زيداً المتعجب منه، والخبر؛ لأنه لا بد من خبر، مهما تصرفت كان لا بد من اسم وخبر، إذن نصب به شيئان، فيقال: ما أكون زيداً قائماً، هل يجوز حذف قائماً من أجل أن يبقى في اللفظ زيداً فقط؟ لا يجوز، ولا يجوز حذف قائماً لامتناع حذف خبر كان، ولا جره باللام لامتناع جر الخبر باللام.

إذن لا يتصرف في أفعل بكونه على وزن كان فينصب شيئين اثنين، بل لا بد أن يكون ناصباً لواحد.

سادساً: أن لا يكون منفياً، فلا يبنى من المنفي لالتباسه بالمثبت؛ لأنه إذا قيل: ما ضربت زيداً، ما أضرب زيداً، فحينئذٍ صار مثبتاً التبس المنفي بالمثبت، وهذا يشمل النوعين سواء كان المنفي لزوماً؛ لأن بعض الألفاظ ملازمة للنفي لا تكون مثبتة، أو يكون ما هو قابل للإثبات والنفي، نحو: ما عاج فلان بالدواء، أي ما انتفع به، لا يقال: ما أعوجه، أو ما أعيجه؛ لأن هذا ملازم للنفي، فإذا أدخلته في صيغة ما أفعل صار مثبتاً، نقول: هذا فيه إبطال لمعناه فيلتبس حينئذٍ المعنى هل هو مثبت أو منفي، ما عاج مضارعه يعيج، وأما عاج يعوج بمعنى ما ل يميل فيستعمل في الإثبات.

إذن عاج هذا مضارعه يعيج، وهذا الذي يمنع، وأما عاج يعوج بالواو بمعنى مال يمل فيستعمل في الإثبات. أو جوازاً نحو: ما ضربت زيداً، نقول: هذا نفي، هل يتعجب منه؟ الجواب: لا. لماذا؟ مع كونه قد يكون مثبتاً، نقول: في هذا التركيب لا. حينئذٍ ألا يكون منفياً سواء كان المنفي لزوماً يعني ملازم للنفي، ولا يكون مثبتاً أو يكون ويكون، فالحكم عام.

السابع: أن لا يكون الوصف منه على أفعَل، وهو الذي أشار إليه بقوله:(وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا) يعني: غير صاحب وصف ليس الوصف منه مشابهاً لأفعل، فإن كان الوصف منه على وزن أفعل، اسم الفاعل على وزن أفعل امتنع التعجب منه، واحترز بذلك من الأفعال الدالة على الألوان: سوِد فهو أسود، فلا يقال: ما أسوده، وكذلك العيوب عوِر ما أعوره، لا يقال: ما أعوره، ممتنع لأن الوصف منه على وزن أفعل، ولا يقال في حوِل أحول ما أحوله، ولا يقال: ما أحمره حمِر، اسم الفاعل منه أحمر فلا يقال: ما أحمره، إذن كل ما كان الوصف اسم الفاعل منه على زن أفعل فلا يتعجب منه.

أن لا يكون الوصف منه على أفعل، واحترز بذلك من الأفعال الدالة على الألوان، كسود فهو أسود، وحمر فهو أحمر، والعيوب كحول فهو أحول، وعور فهو أعور، فلا تقول: ما أسوده ولا ما أحمره، ولا ما أحوله، ولا ما أعوره، ولا أعور به ولا أحول به .. كل هذا ممتنع مباشرة، وإنما يؤتى بواسطة.

ص: 21

الثامن: أن لا يكون مبنياً للمفعول، وهذا ذكرناه في السابق: استعظام وصف في الفاعل، زيادة وصف في الفاعل، احترازاً من استعظام، زيادة وصف في المفعول، ولذلك اشترطوا أن يكون مبنياً للمعلوم وألا يكون مبنياً للمجهول. دفعاً للبس المبني من فعل المفعول بالمبني، يعني إذا جيء به على زنة أفعل؛ لأنه لا يغير الصيغة: ضُرب زيدٌ، لو أراد أن يتعجب منه سيقول: ما أضربه، حينئذٍ التبس، هل هذا المتعجب منه وقع عليه الفعل أم وقع منه؟ وأما الصيغة لازمة لا تتغير: ما أفعله، أضرب بزيد، هل التعجب هنا من كونه أوقع الضرب أو وقع عليه؟ هذا فيه لبس، إذن نمنع أن يكون التعجب من مغير الصيغة.

ألا يكون مبنياً للمفعول دفعاً للبس المبني من فعل المفعول بالمبني من فعل الفاعل، واستثنى بعضهم ما كان ملازماً لصيغة فُعِل، مثل عُنيت، عُني بكذا، عُنيت بحاجتك، فيجوز عندهم ما أعناه؛ لأنه لا يلتبس، إذا قال: ما أعناه حينئذٍ لا يلتبس، وما أزهاه علينا، يعني يقول: زهي علينا.

وقال في التسهيل: وقد يبنيان من فعل المفعول إن أُمن اللبس، إذن هذه ثلاثة أقوال: المشهور المنع مطلقاً إذا أمن اللبس أو لم يؤمن اللبس.

الثاني: استثناء الملازم للمبني للمجهول نحو: عُني وزهي.

الثالث وأجازه ابن مالك رحمه الله في التسهيل: أنه يجوز إن أمن اللبس، وأما إذا لم يؤمن اللبس حينئذٍ لا يجوز.

فلا تقول: ما أضرب زيداً تريد التعجب من ضرب أوقع به لئلا يلتبس بالتعجب من ضرب أوقعه.

إذن:

وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلَاثٍ صُرَّفَا

وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا

قَابِلِ فَضْلٍ تَمَّ غَيْرِ ذِي انْتِفَا

وَغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا

(وَغَيْرِ سَالِكٍ) يعني: غير فعل سلك وذهب طريق فُعِل يعني بضم أوله وكسر ثانيه مبنياً للمجهول، هذه ثمانية شروط لا بد من توفرها.

فإن عدم الفعل واحداً .. بعضاً من هذه الشروط، هل معنى ذلك أنه لا يتعجب منه نخرجه، أم أن ثم طريق آخر؟ قال: لا. قد يتعجب منه لكن ليس مباشرة، يعني ليس بالصيغة المشهورة ما أفعَل، وأفعِل به، وإنما ننتقل إلى طريقة أخرى.

وَأَشْدِدَ اوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهُهُمَا

يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا

وَمَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ

وَبَعْدَ أَفْعِلْ جَرُّهُ بِالْبَا يَجِبْ

هذا الطريق الثاني فيما عدم بعض الشروط، يعني: إذا لم يكن ثلاثياً هل نتعجب منه أو لا؟ نعم نتعجب منه، لكن لا مباشرة في ما كان غير متصرف تصرفاً تاماً، في ما كان معناه قابل للتفاضل هذا سيأتي، وكذلك الجامد لا يتعجب منه البتة.

إذا كان ناقصاً ولم يكن تاماً نتعجب منه لكن لا مباشرة، والمنفي، وما كان الوصف منه على وزن أفعَل، والمبني للمجهول يتعجب منها لكن بطريقة أخرى. ا

(وَأَشْدِدْ أَوْ) الدال الثانية مفتوحة، وأصلها أشدد، أفعِل، هي الصيغة الثانية.

(وَأَشْدِدْ أَوْ) سقطت الهمزة وحركت الدال للتخلص من التقاء الساكنين.

(وَأَشْدِدْ أَوْ أَشَدَّ) لا تقل: وَأَشْدِدْ أَوْ أَشَدَّ لا. ينكسر معك الوزن.

وَأَشْدِدَ اوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهُهُمَا

يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا

ص: 22

يُتوصل إلى التعجب من الأفعال التي لم تستكمل الشروط بأشدد ونحوه، وبأشد ونحوه، هذان فعلان أشدد، أشدَّ .. أشدد هذا قائم مقام أفعِل بزيد، أفعِل أحسِن، وأشد هذا قائم مقام أفعَل الصيغة الأولى، وقدم وأخر من أجل الوزن.

أو شبه أشدد وشبه أشد، وما هو شبه أشدد وأشد؟ أكثَر أكثِر، أقلَل أقلِل، أكبَر أكبِر، أصغَر أصغِر، أعظَم أعظِم، أقوَى أقوِي، أضعَف أضعِف، أحسَن أحسِن، أقبَح أقبِح .. كل هذه مثلها .. شبه أشدَّ وأشدد.

(يَخْلُفُ) أي: صيغتي التعجب المصوغتين من ما عدم بعض الشروط، أو يخلف صيغتي ما عدم بعض الشروط، (يَخْلُفُ) الجملة قصد لفظه فهو مبتدأ.

إذن: (وَأَشْدِدْ) هذا مبتدأ قصد لفظه، (أَوْ أَشَدَّ) معطوف عليه، (أَوْ شِبْهُهُمَا) معطوف عليه، (يَخْلُفُ) أشدد وما عطف عليه فاعل، يَخْلُفُ الجملة خبر.

(مَا) اسم موصول بمعنى الذي، مفعول إذن.

يخلف ما عدم بعض الشروط، بَعْضَ بالنصب على أنه مفعول مقدم لـ عَدِمَا، والألف للإطلاق.

(بَعْضَ) مضاف، و (الشُّرُوطِ) مضاف إليه، بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا الجملة في محل رفع لا محل لها من الإعراب، صلة الموصول؛ لأن (ما) اسم موصول.

إذن هذان اللفظان: أشْدِدْ أَوْ أشَدَّ، وما يقوم مقامهما يخلف صيغتي ما عدم بعض الشروط.

هنا قال: (وَأَشْدِدْ أَوْ أَشَدَّ) فيه لبس فيه إشكال، المتبادر منه أن أشدد وأشد مصوغان من فعل مستكمل للشروط، هذا الأصل؛ لأننا نحن تركنا الفعل الذي لم يستكمل الشروط فلم نتعجب منه مباشرة، فجئنا بنائب عنه، الأصل المتبادر للذهن أن النائب يكون مستكمل للشروط أو لا؟ هكذا بالعقل؟ هذا الأصل فيه، إذا كان الفعل ليس مستكملاً للشروط نأتي بالأصل من باب أولى.

فنقول: أشْدِدْ أَوْ أشَدَّ المتبادر أنه مستكمل للشروط هذا هو الظاهر؛ لأن القصد من الإتيان بهما التخلص من صوغ فعل التعجب من فعل لم يستكمل الشروط، مع أن أشدد وأشد مصوغان من غير الثلاثي وهو اشتد الخماسي -هذه مشكلة- وهو اشتد الخماسي على الظاهر؛ إذ لا يعلم ورود أشد الرباعي فعلاً، لكن قال في القاموس: أشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة، لكن هذا لا يصلح أن يكون هو الذي يصاغ منه هذا الفعل، أشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة، والصوغ من هذا في أشد استخراجاً بعيد، ليس معه دابة قوية، حينئذٍ ما أشد استخراجاً، زيدٌ أشد استخراجاً من كذا، نقول: هذا ليس فيه تناسب. وقيل: هما من شدد الثلاثي، حكاه ابن مالك في العمدة وبهذا ينتفي الاعتراض بأنهما من غير الثلاثي، فلم يستكملا الشروط في أنفسهما فكيف يتوصل بهما إلى غيرهما؟

إذن أشدد أو أشد متبادر أنه من اشتد الخماسي، لكن حكى ابن مالك شدَد أو شدِد -يرجع إليه- فحينئذٍ ثبت الفعل الثلاثي.

وَأَشْدِدَ اوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهُهُمَا

يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا

أي: يخلف فعلي التعجب المأخوذين مما ذكر، فلا يؤتى بهما مباشرة وإنما نأتي بأشد وأشدد، ثم بعد ذلك:(وَمَصْدَرُ العَادِمِ) ننظر إلى الفعل، إذن جئنا بالواسطة الأولى توصيلة، وهي: أشد ما أشد، وأشدد: ما أعظم أعظِم، ما أكبر أكبِر، ما أصغر أصغِر تأتي بهذا اللفظ.

ص: 23

ثم تنظر في الفعل الذي منع من أن يتعجب منه مباشرة، فتأخذ منه المصدر.

قال: (وَمَصْدَرُ العَادِمِ) ومصدر الفعل العادم لبعض الشروط (بَعْدُ) يعني بعد أشد (يَنْتَصِبْ)، ما هو الذي منعناه؟ مثلاً استخرج، نقول: استخرج هذا لا يؤتى منه مباشرة، وإنما نأتي بأشد، نقول: ما أشد، استخرج ما مصدره؟ استخراجاً، فحينئذٍ تأتي بالمصدر مضاف إلى فاعل الفعل، فتقول: ما أشد استخراج زيدٍ، أو ما أشد استخراجه، أشدد باستخراج زيدٍ تأتي بالمصدر إما منصوباً بعد أشد وإما مجروراً بالباء على الأصل؛ لأن المتعجل منه في أفعَل يكون منصوباً على المفعولية، والمتعجب منه في أفعِل يكون مجروراً بالباء، إذن: هو على أصله.

(وَمَصْدَرُ العَادِمِ) مصدر الفعل العادم، إذن ما لا مصدر له لا بد من مصدر هنا، إذن الذي ليس له مصدر لا مدخل له لا في الأول ولا في الثاني.

ومصدر الفعل العادم لبعض الشروط، (بَعْدُ) يعني: بعد أشد (يَنْتَصِبْ)، وإن قدرته بعدما أفعل لا بأس، وإن كان الظاهر بعد أشد، لكن قوله:(وَبَعْدَ أَفْعِلْ) هذا يدل على أن الأصل مراعاة الوزن، لكن لا بأس هذا أو ذاك.

(وَمَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ وَبَعْدَ أَفْعِلْ) أشدد (جَرُّهُ) يجب (بِالْبَا) على الأصل.

إذن كل ما امتنع أن يصاغ منه مباشرة لعدم توفر شرط من الشروط السابقة حينئذٍ نأتي بلفظ أشد وأشدد، ثم نأتي بمصدر العادم .. الفعل غير مستوفي الشروط نأتي بمصدره مضافاً إلى الفاعل لا بد من هذا، ما نقول: ما أشد استخراجاً، وما أشد انطلاقاً لا، لا بد أن يكون مضافاً إلى الفاعل: ما أشد استخراجه، إذا كان الكلام عن زيد، أو ما أشد استخراج زيد.

وَمَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ

وَبَعْدَ أَفْعِلْ جَرُّهُ بِالْبَا يَجِبْ

فتقول في التعجب من الزائد على ثلاثة، ومما الوصف منه على أفعل الذي هو أعور هنا، ما أشد أو أعظم دحرجته، دحرج لا يتعجب منه مباشرة؛ لأنه رباعي، فإذا أردنا التعجب نقول: ما أشد دحرجة زيد، أشدد بدحرجة زيد .. تأتي به على الأصل. ما أشد دحرجته أو انطلاقه أو حمرته، ما أشد حمرته وما أشد صفرته، وما أشد عوره، وما أشد حوره .. ، أو أشدد أو أعظم بها، وكذا المنفي والمبني للمفعول، إلا أن المصدر هنا لا يكون صريحاً وإنما مؤولاً بالصريح نحو: ما أكثر ألا يقوم زيدٌ؛ لأننا لا بد أن نأتي بالنفي كما هو، لو حذفنا النفي وجئنا بالمصدر كيف نسلط النفي عليه؟ إذن نبقيه كما هو ويكون المصدر مؤولاً بالصريح، فنقول: ما أكثر ألا يقوم زيدٌ، حينئذٍ التعجب يكون من عدم قيام زيدٍ، وما أعظم ما ضُرِبَ زيدٌ، ضُرِبَ هذا مغير الصيغة، و (ما) هذه مصدرية، إذن في قوة المصدر.

إذن وَمَصْدَرُ العَادِمِ إما صريحاً وإما مؤولاً بالصريح، متى يكون مؤولاً بالصريح؟ في حالين:

الأول: إذا تعجبت من المنفي.

الثاني: الفعل المبني للمجهول، تقول: ما أشد ما ضُرب زيدٌ، تعجبت؛ لأنك لفظت به كما هو، ضُرب ما حصل لبس، والنفي حرف بقي كما هو، وأشدد بهما، وأما الناقص كان وأخواتها فعلى القول بأن له مصدراً حينئذٍ لا إشكال فيه، ما أشد كون زيد قائماً، جئت بالمصدر كما هو.

ص: 24

فإن كان له مصدر فمن النوع الأول، يعني المصدر الصريح، وإلا فمن الثاني المؤول بالصريح، تقول: ما أشد كونه جميلاً، أو ما أكثر ما كان محسناً، (ما) هذه مصدرية، -هذا غريب عند النحاة-، إذا كان ما له مصدر فحينئذٍ كيف نقول: مصدر مؤول؟ قالوا: إذا لم يكن له مصدر نأتي بـ (ما) المصدرية و (كان) فيكون مؤولاً بالمصدر.

الصواب: أن (كان) لها مصدر.

أو ما أكثر ما كان محسناً، وأما الجامد والذي لا يتفاوت معناه فلا يتعجب منهما البتة، الجامد ليس له مصدر؛ لأنه قال:(وَمَصْدَرُ العَادِمِ) إذن: ما لا مصدر له وهو الجامد لا يتعجب منه البتة، وما لا يتفاوت هذا خرج عن معنى التعجب؛ لأن التعجب فيه استعظام وصف .. زيادة وصف في الفاعل، وهذا ليس فيه استعظام. وكذلك ما لا فعل له؛ لأنه لا مصدر له.

إذن: وَمَصْدَرُ العَادِمِ أخرج نوعين: الجامد الذي لا مصدر له، وما لا فعل له وهو الاسم كما ذكرناه في جلف ما أجلفه، وما أحمره، نقول: هذا يحفظ ولا يقاس عليه.

قال الشارح: يعني أنه يتوصل إلى التعجب من الأفعال التي لم تستكمل الشروط بأشدد ونحوه، وبأشد ونحوه، هذا متى؟ إذا لم يستكمل الشروط، لكن في التصريح للأزهري قال: ولا يختص التوصل بأشد ونحوه بما فقد بعض الشروط، بل يجوز فيما استوفى الشروط نحو: ما أشد ضربَ زيد لعمرو، ولا يرد هذا على الناظم؛ لأن مراده يخلف وجوباً.

يعني: ما استوفى الشروط لك أن تأتي به على الطريقة الثانية أشدد وأشد، هذا إذا استوفى الشروط، لكنه ليس هو الشائع، ليس هو الفصيح. وما عدم بعض الشروط تعين.

إذن: يخلف وجوباً لا جوازاً، هذا مراد الناظم، وأما الجواز وذلك فيما إذا استوفى الشروط، لكنه ليس بالمشهور.

وينصب مصدر ذلك الفعل العادم شروطه بعد أفعل مفعولاً على الأصل، ويجر بعد أفعِل بالباء فتقول: ما أشد دحرجته واستخراجه، وأشدد بدحرجته واستخراجه، وما أقبح عوره، وأقبح بعوره، وما أشد حمرته، وأشدد بحمرته.

وبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ

وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ

(وبِالنُّدُورِ احْكُمْ) يعني: ما لم يستوفِ الشروط وجاء على صيغة ما أفعَله على الأصل دون التوسط بأشدد وأشد، حينئذٍ نقول: هذا نادر، وإذا قيل: نادر في مثل هذا حينئذٍ نقول: شاذ، ولذلك قال: لا تقس.

إذن: ما لم يستوفي الشروط إذا جيء به على وزن ما أفعل وأفعِل به قلنا: هذا يحفظ ولا يقاس عليه؛ لأن ما عدم الشروط يجب أن ينتقل إلى الطريقة الثانية.

(وبِالنُّدُورِ احْكُمْ) احكم بالندور، يعني القلة.

(لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ) يعني: نقل عن العرب، مع أنه منقول، نقول: هذا يحفظ ولا يقاس عليه.

(وبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ) قيل: البيت هذا لا داعي له، يعني مفهوم مما سبق؛ لأنه قال:(وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلَاثٍ) بين أنه لا بد من شروط، ثم بين الطريقة في تخلف الشروط.

إذن: علم من الأبيات الأربعة: أن ما جيء به على الأول بِأَفْعَلَ انْطِقْ ولم يستوفِ الشروط حكمنا عليه بأنه نادر شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، لكن هذا اعتراض معترض.

ص: 25

اعترض بأنه لا حاجة إليه بعد تقريره الشروط؛ لأنه بين أنه لا قياس إلا بالشروط، مفهومه: أن ما جاء دون شرط .. تحقيق الشروط فهو شاذو يحفظ ولا يقاس عليه، وهذا واضح بين.

اعترض بأنه لا حاجة إليه بعد تقريره الشروط، ولئن سُلِّم الاحتياج فهو يغني عن قوله:(وَلَا تَقِسْ).

يعني: لو قيل: بأنه يحتاج إليه، إذن يكفينا (وبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ)، ما الفائدة من قوله:(وَلَا تَقِسْ)؟

إذا حكم عليه بكونه نادراً وهو مخالف للقياس إذن هو لا يقاس عليه، إذن ما الفائدة من قوله:(وَلَا تَقِسْ)؟ إذ معلوم أن النادر لا يقاس عليه، أُجيب -الجواب لا بد-: أنه أتى بالشطر الأول إشارة إلى أن الشروط سمع نادراً تخلفها، -وهو هذا باب الاعتراض-، سمع نادراً تخلفها لدفع توهم أنها لم تتخلف.

يعني: أنه أتى بهذا الشطر للدلالة على أن تلك الشروط مع كون العرب التزمتها عند التعجب، إلا أن بعضهم خالف، فسمع مخالفة الشروط، لو لم يذكر هذا قد يقال: بأن العرب استوفت الشروط، يعني لم تأتِ بصيغة تعجب إلا وهي مستوفية للشروط! لا. شرطت الشروط ومع ذلك خالفت، إذن أفاد فائدة جديدة. لدفع توهم أنها لم تتخلف، ثم لما كان النادر قد يطلق على القليل الذي يقاس عليه فتكون تلك الشروط شروطاً للكثرة قال:(وَلَا تَقِسْ) النادر .. ليس كل نادر لا يقاس عليه. هذا كلفظ القلة.

ومعنى البيت: أن ما جاء عن العرب من فعلي التعجب مبنياً مما لم يستكمل شروطه فحقه أن يحفظ ولا يقاس عليه للندرة.

(وبِالنُّدُورِ) أي: القلة (احْكُمْ) احكم بالندور، هذا متعلق باحكم.

(لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ) من استيفاء الشروط.

(وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ) أي: نقل.

فهم من قوله: بِالنُّدُورِ أنه قد جاء بناء صيغتي التعجب من الفعل العادم لبعض الشروط، وأن ذلك نادر غير مقيس.

يعني أنه إذا ورد بناء فعل التعجب من شيء من الأفعال التي سبق أنه لا يبنى منها حكم بندوره، ولا يقاس على ما سمع منه، إذن لا فائدة من الشروط إذا جوزنا القياس. كقولهم: ما أخصره، هذا مأخوذ من اختُصر، اختُصر هذا مبني للمجهول الأصل لا يجوز، لكن سمع ما أخصره، مأخوذ من اختُصر، هذا فيه شذوذان: الأول: أنه مبني للمجهول، الثاني: أنه خماسي.

فبنوا أفعَل من فعل زائد على ثلاثة أحرف وهو مبني للمفعول، وكقولهم: ما أحمقه. فبنوا أفعل من فعل الوصف منه على أفعل، أحمق هذا على وزن أفعل، نحو: حمِق حمُق فهو أحمق، وقولهم: ما أعساه، من فعل جامد، وأعس به، فبنوا أفعل وأفعل به من عسى وهو فعل غير متصرف.

وما أعطاه، وما أفقره من افتقر، وما أجمعه، وما أجنه من جُنَّ، كل هذا نقول يحفظ ولا يقاس عليه.

وَفِعْلُ هَذَا البَابِ لَنْ يُقَدَّمَا

مَعْمُولُهُ وَوَصْلَهُ بِمَا الْزَمَا

وَفَصْلُهُ بظَرْفٍ اوْ بِحَرْفِ جَرْ

مُسْتَعْمَلٌ وَالْخُلْفُ فِي ذَاَكَ اسْتَقَرّْ

هذا خاتمة الباب، وهو أنه يجب أن يتصل المعمول بالعامل، فلا يتصرف فيه لكونه جامداً، يعني معموله لا يجوز أن يتقدم عليه، ما أحسن زيداً، لا يصح أن يقال: زيداً ما أحسن، لا يصح، لماذا؟ لكونه جامد غير متصرف، فلا يتصرف في معموله.

ص: 26

ولا يقال: ما زيداً أحسن؛ لأن هذا نوع تصرف؛ لأن أحسن جامد لا يتصرف مَنْعُ تَصَرُّفٍ حكم قديم، إذن: لا يتصرف في معموله البتة، لا بد أن يكون لاحقاً له، فلو تقدم وهو عامل ضعيف حينئذٍ خالفنا الأصل وهو: أن العامل الضعيف لا يعمل فيما قبله.

(وَفِعْلُ) هذا مبتدأ وهو مضاف و (هَذَا) مضاف إليه.

و (البَابِ) هذا البابِ، يعني: باب التعجب، هذا تقييد، ابن مالك إذا قيد "حكم خاص"، هَذَا البَابِ: البَابِ هذا بدل، أو عطف بيان أو نعت، والمراد به باب التعجب.

(لَنْ يُقَدَّمَا)(لن) للتأبيد هنا بقرينة.

(مَعْمُولُهُ وَوَصْلَهُ بِمَا الْزَمَا) الْزَمَا وَصْلَهُ: حينئذٍ نقول: (لن) هنا للتأبيد -لا تفيد التأبيد هي إلا إذا دلت قرينة- يعني قد تدل قرينة على أنها للتأبيد، وأما دعوى الزمخشري بأنها تأبيدية ففاسد ((لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا)) [الحج:73] قال: لن هنا للتأبيد، نعم للتأبيد لكن لقرينة وهي أن الخلق صفة لله عز وجل، أما زيد لن يقوم هذه مثل لا يقوم، لا تدل على التأبيد، ولذلك يجمع معها بالتأبيد –لفظ التأبيد-: لن يقوم أبداً، فلو كانت للتأبيد لامتنع أن يقال معها (أبداً)، وهذا وارد حتى في القرآن. إذن:(لَنْ يُقَدَّمَا) الألف للإطلاق أو التثنية؟ للإطلاق؛ لأن المبتدأ هنا: فِعْلُ .. فِعْلُ هَذَا البَابِ .. (فِعْلُ هَذَا البَابِ لَنْ يُقَدَّمَا مَعْمُولُهُ) إذن الفاعل (مَعْمُولُهُ)، ولذلك قلت لك قبل قليل: إذا أعربت الفعل انظر في فاعله، أين هو حتى تعرف تتم الإعراب، (لَنْ يُقَدَّمَا) الألف هذه للإطلاق قطعاً لا تحتمل (مَعْمُولُهُ) هذا الفاعل، وليس هو محتمل للألف.

(وَفِعْلُ هَذَا البَابِ لَنْ يُقَدَّمَا) لعدم تصرفه، مَعْمُولُهُ هذا نائب فاعل، لَنْ يُقَدَّمَا عليه.

(وَوَصْلَهُ بِهِ)، (بِهِ .. بِمَا) نسختان، (بِمَا الْزَمَا) بـ (ما) التعجبية، ولو قيل بِهِ أحسن، وهذه النسخة التي شرح عليها المكودي بِهِ .. أحسن.

(وَوَصْلَهُ) هذا مفعول مقدم لقوله: (الْزَمَا) الزمن، فتقدم هنا المعمول على الفعل المؤكد بنون التوكيد للضرورة، وإلا الأصل لا يتقدم، لا يجوز.

وَوَصْلَهُ بِهِ: جار ومجرور متعلق بقوله: الْزَمَا، يعني: بالعامل، بلا خلاف فيهما.

وذلك لعدم تصرف هذين الفعلين امتنع أن يتقدم عليهما معمولهما، وأن يفصل بينهما بغير ظرف أو مجرور وهو الذي عناه بالبيت الثاني.

(وَفَصْلُهُ بظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ مُسْتَعْمَلٌ)، فَصْلُهُ: يعني فصل المعمول عن العامل (بظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ) هذه مانعة خلو، فيجوز الفصل بمجموع الظرف والجار والمجرور.

(مُسْتَعْمَلٌ) هذا خبر فَصْلُهُ، يعني: وارد في لسان العرب نظماً ونثراً، استعمل نظماً ونثراً، وسيأتي المثال.

فهم من قوله: (مُسْتَعْمَلٌ) أن مذهبه موافق لمن أجاز ذلك خلافاً لمن منع.

(وَالْخُلْفُ في ذَاَكَ اسْتَقَرّْ) الْخُلْفُ مبتدأ، واسْتَقَرّْ الجملة خبر، (فِي ذَاَكَ) متعلق بـ (اسْتَقَرّْ).

وَالْخُلْفُ يعني: اختلاف بين النحاة، (فِي ذَاَكَ) الذي هو الفصل بالظرف والجار والمجرور، هل هو جائز أم لا؟ (اسْتَقَرّْ) ولكنه قال: مُسْتَعْمَلٌ فدل على جوازه.

ص: 27

فذهب الجرمي وجماعة إلى الجواز، والأخفش والمبرد إلى المنع.

إذن: نقول الخلاصة في هذين البيتين: أنه لعدم تصرف هذين الفعلين امتنع أن يتقدم عليهما معمولهما، وأن يفصل بينهما بغير ظرف ومجرور، واختلفوا في الفصل بالظرف والمجرور إذا كانا متعلقين بالفعل، عندنا ظرف وجار ومجرور قد يكون أجنبياً لا متعلقاً بأفعِل ولا أفعَل، هذا لا. قولاً واحداً أنه لا يفصل بينهما، حكى في التسهيل الإجماع بلا خلاف.

وأما إذا كانا متعلقين بالفعلين نفسهما وقع النزاع، إذن النزاع ليس مطلقاً، قوله:(وَفَصْلُهُ .. مُسْتَعْمَلٌ)، (وَالْخُلْفُ في ذَاَكَ اسْتَقَرّْ) يعني: الخلف في الظرف والجار والمجرور إذا كانا معمولين للفعل نفسه، وأما إذا كان أجنبياً فقولاً واحداً لا يجوز الفصل، محل إجماع.

واختلفوا في الفصل بظرف أو مجرور متعلقين بالفعل، والصحيح جوازه، ولو تعلق الظرف والجار بمعمول فعل التعجب لم يجز الفصل به اتفاقاً، نحو: ما أحسن معتكفاً في المسجد، ما أحسن معتكفاً .. يتعجب من حسن المعتكف في المسجد، في المسجد هذا متعلق بقوله: معتكفاً وهو متعجب منه.

إذن: هل يجوز أن يفصل بين الفعل والمتعجب منه؟ الجواب: لا. لماذا؟ لأنه لا بد أن يكون معمولاً له مباشرة، وهنا معمول المعمول، إذن ما أحسن في المسجد معتكفاً لا يجوز؛ لأنه متعلق بالمتعجب منه، ولو تعلق بالفعل نفسه لجاز. وأحسن بجالس عندك، أحسن عندك بجالس يجوز؟ لا يجوز، نقول: الظرف والجار والمجرور له ثلاثة أحوال في هذا المقام: إما أن يتعلق مباشرة بالفعل نفسه، وإما أن يكون أجنبياً عنه، وإما أن يتعلق بمعمول الفعل مثل: ما أحسن معتكفاً في المسجد، معتكفاً هذا مفعول لأحسن، في المسجد جار ومجرور، متعلق بأحسن أو معتكفاً؟ معتكفاً، إذن ليس متعلقاً به مباشرة، هذا النوع لا يجوز أن يفصل بينهما، فلا يصح أن يقال: ما أحسن في المسجد معتكفاً. وأحسن بجالس عندك، عندك متعلق بجالس، لا يصح أن يقال: أحسن عندك بجالس؛ لأنه ليس متعلقاً بالفعل نفسه.

قال الشارح: لا يجوز تقديم معمول فعل التعجب عليه، فلا تقول: زيداً ما أحسن. تقدم على (ما) لا يجوز.

ولا ما زيداً أحسن. يعني: تقدم على الفعل دون (ما).

ولا بزيد أحسن. لا يجوز؛ لأن بزيد هذا فاعل في المعنى، والفاعل لا يجوز أن يتقدم على عامله.

ويجب وصله بعامله فلا يفصل بينهما بأجنبي، (وَوَصْلَهُ بِهِ الْزَمَا) هذا يرجح -كلام ابن عقيل-، قال: ويجب وصله بعامله، ما هو عامله؟ أحسن، إذن قوله: وَوَصْلَهُ بِهِ، بالعامل يعني ليس (بِمَا)؛ لأن (ما) ليست عاملاً، كأن ابن عقيل النسخة عنده بِهِ وهنا عندنا بِمَا.

فلا يفصل بينهما بأجنبي، والمراد بالأجنبي غير المفعول في: ما أحسن زيداً، وغير الفاعل في: أحسن بزيدٍ، فلا تقول في: ما أحسن معطيك الدرهم، ما أحسن الدرهم معطيك. لا يصح؛ لأن الدرهم هذا معمول المعمول، فلا يجوز أن يفصل بينه وبين العامل.

ص: 28

ولا فرق في ذلك بين المجرور وغيره، فلا تقول: ما أحسن بزيد ماراً. ما أحسن، ما قال: أحسن بزيدٍ ماراً لكن قال: ما أحسن، ما أحسن يقتضي منصوباً أو مجروراً بالباء؟ منصوباً، إذن هو يقول: لا تقل، ما قال: قل. قال: لا تقل: ما أحسن بزيدٍ ماراً؛ لأن بزيد هذا معلق بماراً وهو معمول المعمول، إذن لا يتوسط.

تريد: ما أحسن ماراً بزيد. هذا التركيب الصحيح، ما أحسن ماراً بزيد تركيب صحيح؛ لأن الأصل: أحسن ثم ماراً وهو معموله واتصل به، بزيدٍ جار ومجرور متعلق بماراً، لا يصح أن يقال: ما أحسن بزيدٍ ماراً، تفصل بينهما بجار ومجرور متعلق بالمعمول. ولا ما أحسن عندك جالساً، عندك متعلق بجالساً، تقدم عليه، نقول: هذا لا يجوز، تريد ما أحسن جالساً عندك، هذا الصواب، تؤخر عندك. فإن كان الظرف أو المجرور معمولاً لفعل التعجب ففي جواز الفصل في كل منهما بين فعل التعجب ومعموله خلاف بين النحاة (وَالْخُلْفُ فِي ذَاَكَ اسْتَقَرّْ) والمشهور جوازه خلافاً للأخفش والمبرد ومن وافقهما، ونسب الصيمري المنع إلى سيبويه، ومما ورد فيه الفصل في النثر قولهم: ما أحسن بالرجل أن يصدق، بالرجل متعلق بقوله: يصدق، وتقدم عليه. ما أحسن بالرجل أن يصدق، وما أقبح به أن يكذب. هذا لا يجوز فيه.

قال: ومما ورد فيه الفصل في النثر قول عمرو بن معد يكرب:

للهِ دَرُّ بَنِي سُلَيم! مَا أَحْسَنَ فِي الْهَيْجَاءِ لِقَاءَها، فِي الْهَيْجَاءِ متعلق بقوله: أَحْسَنَ، ولِقاءَها هذا هو المفعول به. إذن فصل بينهما الجار والمجرور، وهذا جاز، لماذا؟ لكون الجار والمجرور وهو فِي الْهَيْجَاءِ -الحرب- متعلق بقوله: أَحْسَنَ، وهذا جائز.

وَأكْرَمَ فِي اللَّزْباتِ -جمع لزبة، وهي الشدة والقحط- وَأكْرَمَ فِي اللَّزْباتِ عَطَاءَهَا، في اللزبات متعلق بقوله: أكرم، وعطاءها مفعول أكرم، إذن جاز التوسط بينهما، جاز لكونه متعلقاً به؛ لأن كلاً منهما معمول لأفعَل.

وَأَثْبَتَ فِي المَكْرُمَاتِ بَقَاءَهَا الحكم واحد.

وقول علي وقد مر بعمار فمسح التراب على وجهه: [أَعْزِزْ عَلَيَّ - أَبَا اليَقْظَِان - أَنْ أَرَاكَ صَرِيعاً مُجَدَّلاً].

ومما ورد منه في النظم قول بعض الصحابة رضي الله عنهم:

وَقَالَ نَبِيُّ المُسْلِمِينْ تَقَدَّمُوا

وَأَحْبِبْ إِلَيْنَا أَنْ تَكُونَ المُقَدَّمَا

أَحْبِبْ إلَيْنَا ..

خَلِيْلَيَّ مَا أَحْرَى بِذِي اللُّبِّ أَنْ يُرَى

صَبُورَاً وَلكِنْ لَا سَبِيْلَ إلَى الصَّبْرِ

أين الشاهد؟ مَا أَحْرَى أنْ يُرَى بِذِي اللُّبِّ، هذا متعلق بقوله: أَحْرَى.

إذن الخلاصة: أن الأصل .. أنه لا يجوز أن يفصل بين فعل هذا الباب ومعموله، ولا أن يتقدم معموله عليه، وأما الفصل بالظرف والجار والمجرور فالصواب فيه التفصيل: إن كان الجار والمجرور متعلقين بغير فعل الباب فالمنع بلا خلاف.

قال في شرح التسهيل: بلا خلاف، وإن كانا معمولين لفعل الباب ففيه خلاف، والصواب: الجواز.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

!!!

ص: 29