الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* شروط تأكيد ضمير الرفع المتصل
* التوكيد اللفظي وحده
* توكيد لضمير المبصل تأكيداُ لفظياً
* توكيد الحروف
* التوكيد بضمير رفع منفصل
* شرح الترجمة العطف وبيان نوعيه
* حد عطف البيان واغراضه
* ما يتبع فيه عطف البيان متبوعه
* كل عطف بيان يصح إعرابه بدل كل من كل إلا ما استثنى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
وقفنا عند قول الناظم - رحمه الله تعالى -:
وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ
…
بِالنَّفْسِ وَالعَينِ فَبَعْدَ المُنْفَصِلْ
عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ، وَأَكَّدُوا بِمَا
…
سِوَاهُمَا وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا
(وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) يعني: إذا أُكِّد ضميرٌ مرفوعٌ متصل، سبق أن الضمير قد يكون مُتصلاً وقد يكون منفصلاً، وإذا كان مُتصلاً قد يكون منصوباً، وقد يكون مخفوضاً، وقد يكون مرفوعاً، يعني: في محل رفع، وفي محل نصب، وفي محل خفضٍ، هنا قال:(وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ) يعني: إذا أُكِّد ضميرٌ مرفوعٌ متصل (بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) على جهة الخصوص وجب توكِيده أولاً بالضمير المنفصل، يعني: يَجب أن يُفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد بالضمير المنفصل، ولذلك قال:(فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) هذا متى؟ إذا أُكِّد الضمير المتصل المرفوع، حينئذٍ لا بُدَّ من توكيده بضمير رفعٍ منفصل، ثُمَّ بعد ذلك يأتي النفس والعين.
لو قلت: (قم) هذا فعل أمر فيه ضمير مستتر، هذا الضمير المستتر لا شك أنه متصلٌ ليس مُنفصلاً، وهو مرفوع، إذا أردت توكيده بالنفس: قم، لا تقل: قم نَفْسُك .. قم عَينُك قم نَفْسُك عَينُك لا، لا بُدَّ أن تفصل بين النفس وبين الضمير المؤكَّد بلفظ: أنت، وهو ضميرٌ؟؟؟ ليس أنت على جهة الخصوص وإنما بضمير رفعٍ منفصل، فتقول: قُم أنَتَ نَفسُك، حينئذٍ أكَّدْتَ الضمير المستتر المرفوع في (قم) بِنفسُك، وهو لفظ النفس الذي عناه الناظم هنا، وكذلك لفظ العين، ولكن بعد الفَصْل، وخَصَّصَ الناظم هنا الفصل بالضمير المُنفصِل.
حينئذٍ: قم أنت نفسك أو عينك .. قُمْنَا نحن أنفسنا، (قُمْنَا)(نا) هذا ضمير مُتَّصِل مرفوع، وإذا أردت توكيده بالنفس حينئذٍ تقول: قمنا نَحنُ، (نَحنُ) هذا ضمير رفع منفصل، أكَّدْتَه أو فَصَلَت بين الضمير المؤكَّد، وبين النفس الذي هو المؤكِّد بالضمير.
إذاً عرفنا مُراد الناظم هُنا: أنه إذا أرَدْتَ أن تؤكِّد ضميراً مرفوعاً مُتَّصلاً، حينئذٍ (بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) على جهة الخصوص لا بغيرهما من المؤكِّدات وجَبَ الفصل بضميرٍ منفصل، فتقول:(قُم نَفسُك) غَلَط، بل لا بُدَّ أن تقول: قُمْ أنَتَ نَفسُك، قمنا نحن أنفسنا، وأمَّا: قمنا أنفسنا، هذا لا يصح.
قال رحمه الله: (وَإِنْ تُؤكِّدِ) إن: حرف شرطٍ، وتُؤكِّدِ: هذا فعل مضارع مجزوم بإن الشرطية وهو فعل الشرط، وإنما حرك هنا للتخلص من التقاء الساكنين، فجزْمه حينئذٍ يكون بسكونٍ مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، (وَإِنْ تُؤَكِّدِ الضَّ) إذاً التقى ساكنان، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: تؤكد أنت.
(الضَّمِيرَ) هذا مفعول به لتؤكد، و (المتَّصِلْ) هذا نعته، (بِالنَّفْسِ) متعلق بقوله:(تُؤكِّدِ)، إذاً: التأكيد هنا على جهة الخصوص، (بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) معطوفٌ عليه، (فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) يعني: بعد الضمير المنفصل.
(فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) بَعْدَ: هذا ظرف قيل: متعلق بمحذوف تقديره: فأكد بهما بعد الضمير المنفصل، أو فبعد أن يؤكِّده المنفصل، (وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) مطلقاً مستتراً كان أو بارزاً، بِالنَّفْسِ وَالعَينِ لا بغيرهما، لا بـ (كل) ولا بـ (كلا) ولا بـ (كلتا) ولا بـ (جميع) ولا بـ (عامة)، فهذه الألفاظ كلها يجوز فيها الوجهان: التوكيد .. الفصل وعدم الفصل، وأمَّا الحكم هنا فهو خاصٌ بالنفس والعين دون غيرهما.
وإنما اختص هذا الحكم بالنفس والعين لقوة استقلالهما، فإنهما يستعملان في غير التوكيد كثيراً، نحو: علمت ما في نفسك، وعين زيدٍ حسنة، العين الباصرة حسنة، حينئذٍ نقول: هذا اللفظ استعمل في غير التوكيد، هذا بخلاف:(كل) هناك، والكثير أن يكون تابعاً، وكذلك:(كلا) و (كلتا) و (جميعاً) و (أجمع) وتوابعها، الأكثر أن تقع مؤكدات، هنا استعمل النفس والعين استعمال الأسماء، يعني: لا التوكيد كثيراً في لسان العرب: علمت ما في نفسك، ليس توكيداً ونفس، عين زيدٍ جميلةٌ أو حسنة، عين باصرة، بخلاف بقية الألفاظ فلم يكن لها من قوة الاستقلال ما للنفس والعين، فلم يَكرهوا توكيد المرفوع المتصل بها.
إذاً: إذا أردت التوكيد بالنفس والعين لا بد من الفصل، لماذا؟ لأن استعمال هذين الاسمين النفس والعين في غير التوكيد كثير، وهذا لم يقوَ في باب (كل) ونحوه، لأن استعمالها التوكيد كثير، فقويت أن تؤكد دون فاصل، وأمَّا النفس والعين فلا.
(بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) دون غيرهما، (فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) يعني: بعد الضمير المنفصل .. بعد أن يؤكده الضمير المنفصل، يعني: تفصل بينهما بالضمير المنفصل.
(عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ) هذا تقييد لقوله: (الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) في قوله: (وَإِنْ تُؤَكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) هذا عام يشمل الضمير المتصل المرفوع، والضمير المتصل المنصوب، والضمير المتصل المخفوض هذا عام، هل الحكم عام؟ لا، قال:(عَنَيْتُ) بقولي: (إِنْ تُؤَكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ: ذَا الرَّفْعِ) إذاً: فهم أن المنصوب المتصل، والمخفوض المتصل لا يجب أن يُفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد، بل هو حسنٌ كما سيأتي.
وَإِنْ تُؤَكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ
…
بِالنَّفْسِ وَالعَينِ فَبَعْدَ المُنْفَصِلْ
حتماً واجباً، وإنما وجب ذلك، قالوا: لوقوع اللبس في بعض المواقع، كما لو قلت: هندٌ ذهبت نفسها، وسعدى خرجت عينها، هذا يحتمل .. فيه لبس، هندٌ خرجت نفسها يعني: روحها يحتمل، خرجت نفسها هل هذا توكيد أم فاعل؟ يحتمل أنه فاعل فنفسها خرجت .. روحها، ويحتمل أنه توكيد للضمير المستتر، خرجت هي نفسها، فلما وقع اللبس حينئذٍ لا بد من الفاصل.
وسعدى خرجت عينها، عينها يعني: بذاتها .. هي نفسها خرجت؟ أو خرجت عينها على الأصل؟ عينها الباصرة، فهذا يحتمل أن تكون نفسها ذهبت وعينها خرجت، فإذا قيل: ذهبت هي نفسها تعين أن يكون نفسها توكيداً لا فاعل، لم يكن لبسٌ، حينئذٍ لم يفرقوا بين هذين المثالين وغيرهما طرداً للباب، لما وقع اللبس في بعضٍ، وإن لم يقع اللبس في بعضٍ، حينئذٍ طرداً للباب قالوا: يتعين أن يُفصل بين الضمير المتصل المرفوع، وبين مؤكِّده بالنفس والعين بضميرٍ منفصل، لا بد أن يُفصل بينهما.
وقيل: إنما وجب الفصل لأن المرفوع المتصل بمنزلة الجزء، فكرهوا أن يؤكدوه أولاً بمستقلٍ من غير جنسه، فأكدوه أولاً بمستقل من جنسه، وبمعناه وهو الضمير المنفصل المرفوع ليكون تمهيداً لتأكيده بالمستقل من غير جنسه، وهو النفس والعين، يعني: كأنهم فروا من أن يؤكَّد الضمير بالاسم الظاهر، والاسم الظاهر الذي هو من غير جنس الضمير، وحينئذٍ قالوا: أولاً نمهد بأن يؤكَّد بضميرٍ منفصل ثم بعد ذلك يؤتى بالنفس والعين.
ليكون تمهيداً لتأكيده بالمستقل من غير جنسه، وهو النفس والعين اللذان هما من الأسماء الظاهرة، أمَّا إذا كان المؤكَّد اسماً ظاهراً، أو ضمير رفعٍ منفصل، أو ضمير نصبٍ مطلقاً فلا يشترط هذا الشرط، ولذلك قال:(وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ) إذاً: لا الاسم الظاهر .. خرج به الاسم الظاهر، فإذا قلت: جاء زيدٌ نفسه، لا نحتاج: جاء زيدٌ أنت أو هو نفسه كما سبق معنا، إذاً: لا نحتاج لأنه ظاهرٌ بنفسه.
وكذلك الضمير المنفصل والضمير المخفوض، لأنه قال:(عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ) يعني: قصدت بهذا الحكم الضمير المتصل المرفوع، وأمَّا غيره فهو واضحٌ، فلا يشترط هذا الشرط لفقد العلة المقتضية له، إذ الظاهر مستقلٌ بنفسه، والمنفصل ليس كالمتصل لاستقلاله بنفسه، إياك إياك لا نحتاج إلى التوكيد، والمنصوب ليس كالمرفوع في شدة الاتصال، لأن المنصوب مفعولٌ به كما سبق، والمفعول به ليس في قوة المرفوع، لأن المرفوع كجزءٍ من الفعل، ولذلك كانت رتبة الفاعل متقدمة على رتبة المفعول.
إذاً: المنصوب ليس كالمرفوع (وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) إذاً مفهومه: أن الضمير المؤكد بالنفس والعين إذا كان منفصلاً لا يلزم توكيده بالضمير نحو: أنت نفسك قائمٌ، هل يحتاج إلى توكيد؟ نقول: لا، لأنه في قوة الاسم الظاهر هنا.
(عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ) يعني: عنيت بهذا الضمير في قولي: (إِنْ تُؤَكِّدِ الضَّمِيرَ المتَّصِلْ)، عَنَيْتُ بهذا الضمير (ذَا الرَّفْعِ) يعني: صاحب الرفع، الضمير المتصل بكونه مرفوعاً، وهذا واضحٌ بيِّن. مفهومه: أنه إذا لم يكن مرفوعاً حينئذٍ لا يُلتَزَم الفصل.
(وَأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا) هذا تصريحٌ بالمفهوم السابق، لأنه قال:(بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) قلنا: هذا قيد، مفهومه -وإن تؤكد بالنفس والعين فبعد المنفصل- مفهومه: إن لم تؤكد بالنفس والعين فلا يشترط، إذاً: هذا تصريح بالمفهوم السابق.
(وَأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا) أكدوا الضمير المتصل المرفوع (بِمَا) يعني: بمؤكدٍ (سِوَاهُمَا) سوى العين والنفس، (وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا)، أيُّ قيد .. أين هو من كلامه؟ (فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) هكذا، يعني: حتماً، فأكد بهما قلنا: بعد هذا منصوب بعامل محذوف، تقديره: فأكد بهما بعد المنفصل، إذاً: وجب التوكيد بعد المنفصل إذا كان التوكيد بالنفس والعين.
(وَأَكَّدُوا) أي: العرب، الضمير المتصل المرفوع (بِمَا) جار ومجرور متعلق بقوله: أَكَّدُوا، وما: هنا اسم موصول بمعنى: المؤكد، أكدوا بمؤكدٍ (سِوَاهُمَا) يعني: سوى النفس والعين، استقر سواهما، أو ثبت سواهما، (والقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَما) فيجوز تركه، إذا كان القيد السابق (فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) لن يلتزم حينئذٍ جاز تركه.
وفهم من عبارته: أنه جائزٌ التوكيد، لأنه قال: لن يُلتَزَم .. لن يجب، ونفي الوجوب لا يستلزم نفي المشروعية، هذا الأصل، في الشرع إذا قيل: ليس بواجب معناه: ليس بمشروع؟ لا، قد يكون مندوباً، المشروع: هذا يشمل الواجب والندب، فإذا قيل: ليس بمندوبٍ لا يُفهم منه أنه ليس بواجب، وإذا قيل: ليس بواجبٍ لا يُفهم منه أنه ليس بمندوب، وإذا قيل: ليس بواجبٍ لا يُفهم منه أنه ليس بمشروع، والعكس بالعكس، لأن المشروع أعم، يعني: جاء به الشرع.
(وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَما) نفى الوجوب .. شرطية، وهذا لا ينفي أنه يجوز -الجواز والإباحة- أنه يجوز أن يؤكَّد بعد الفصل.
(وَأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا) يعني: سوى النفس والعين، (وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا) القيد السابق الذي أشار إليه بقوله:(فبَعْدَ المُنْفَصِلْ) .. لَنْ يُلْتَزَمَا، القَيْدُ: مبتدأ، ولَنْ: هذا ناصبة، ويُلْتَزَمَا: الألف للإطلاق، ويُلْتَزَمْ: فعل مضارع مُغيِّر الصيغة منصوب بلن، ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، (وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا) يعني: غير مُلتَزَمٍ به، فُهِمَ منه أنه جائز، حينئذٍ يجوز تركه.
قال الشارح هنا: " لا يجوز توكيد الضمير المرفوع المتصل بالنفس أو العين إلا بعد تأكيده بضميرٍ منفصل " وهذا على قول الجمهور .. بل الجماهير: أنه يشترط أن يكون الفاصل ضمير منفصل، وذهب بعضهم ورجحه السِيُوطي في: الهمع، أنه لا يشترط الضمير، بل بأي فاصلٍ، وذهب بعضهم إلى أن الشرط مطلق الفصل، ولا يشترط أن يكون ضميراً.
قال السِيُوطي: " لا يشترط في كون الفاصل ضميراً "، لكن المشهور هو ما ذكره الناظم هنا، أنه يجب أن يكون الفاصل هو الضمير المنفصل. إلا بعد توكيده بضميرٍ منفصل: قوموا أنتم أنفسكم، قوموا: هذا فعل أمر، فيه ضمير متصل وهو الواو، هذا ضمير رفع متصل بعامله، أردت توكيده بالنفس، لا يصح أن تقول: قوموا أنفسُكم هكذا! على أن يكون أنفس هو توكيدٌ للضمير المتصل، بل لا بد أن يُفصل بينهما، والعلة التي ذكرنها سابقاً. قوموا أنتم أنفسكم، أو أعينكم، ولا تقل: قوموا أنفسكم، بل تقول: قم أنت نفسك أو عينك، وقمنا نحن أنفسنا، وقاموا هم أنفسهم، إذاً: لا بد من الفصل بين الضمير المتصل المرفوع، والتوكيد إذا كان بالنفس والعين.
بخلاف: قام الزيدون أنفسهم، هل يشترط؟ لا يشترط، وهذا مأخوذٌ من الأبيات السابقة، وكذلك من قوله:(وَإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ) إذاً: إذا أكدت الاسم الظاهر فعلى الأصل: أنه لا نحتاج إلى فاصلٍ. بخلاف: قام الزيدون أنفسهم، فيمتنع توكيده بالضمير، لأن الاسم الظاهر لا يؤكَّد بالضمير، لأن الضمير أعرف كما سبق، فحينئذٍ لا يكون مؤكداً.
قال: فإذا أكدته بغير النفس والعين لم يلزم ذلك، تقول: قوموا كلكم .. قوموا أنفسُكم، لا يصح، قوموا أنتم أنفسُكم .. قوموا كلكم، صح، لماذا؟ لأن الشرط أن يكون المؤكد هو النفس والعين، وما عداهما لا يجب، (وَالقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَما) إذاً: قوموا كلكم .. قوموا أنتم كلكم، يجوز؟ يجوز الوجهان والفصل أحسن. تقول: قوموا كلكم، أو: قوموا أنتم كلكم فالضمير جائزٌ لا واجب بل هو حسنٌ .. أن يُفصل بين الضمير المتصل المرفوع وبين ما عدى سوى .. إذا أكد بما سوى والعين حينئذٍ نقول: الفصل حسنٌ وليس بواجبٍ. وكذا إذا كان المؤكد غير ضمير رفعٍ، بأن كان ضمير نصبٍ أو جرٍ فتقول: مررت بك نفسك، أو عينك، ومررت بكم كلكم، ورأيتك نفسك أو عينك، ورأيتكم كلكم، حينئذٍ نقول: هذا توكيدٌ بما سوى النفس بضميرٍ متصل، لكنه منصوبٌ أو مخفوض، حينئذٍ لا يتعين الفصل.
إذاً خلاصة هذا البحث: أنه إذا أُكد الضمير المتصل المرفوع وجب الفصل بضميرٍ منفصل، وهذا إذا كان التوكيد بالنفس والعين فقط، والعلة ما ذكرناها سابقاً، وأمَّا إذا أُكد غير الضمير المتصل المرفوع، وهذا يشمل الاسم الظاهر، ويشمل الضمير المتصل المنصوب أو المخفوض، فلا يجب بل هو حسنٌ فيما إذا كان التوكيد بالنفس والعين، وإذا كان التوكيد بغير النفس والعين، حينئذٍ لا يجب الفصل مطلقاً، سواءٌ أُكد الضمير المتصل المرفوع أو سواه، هذا مراده بهذين البيتين.
إذاً: (عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ) هذا تقييد لقوله: (الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ) .. انتبه لهذا!
(وَأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا) هذا تصريحٌ بالمفهوم بقوله: (بِالنَّفْسِ وَالعَينِ) لأنه متعلق بقوله: (تُؤَكِّدِ).
ثُمَّ قال:
وَمَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي
…
مُكَرَّراً كَقَوْلِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي
…
هذا شروعٌ منه في بيان القسم الثاني من نوعي التوكيد، سبق أن التوكيد نوعان: توكيدٌ معنوي، وتوكيدٌ لفظي، التوكيد المعنوي محصورٌ في سبعة ألفاظ، ولذلك لم يحده النحاة، والتوكيد اللفظي هذا كذلك مقابلٌ للأول، الأول باعتبار المعنى، ولكنه بألفاظٍ محصورة، وهذا بذات اللفظ، وليس له ألفاظاً محصورة وإنما له الجنس، لأنه يقع بالفعل، ويقع بالجملة، ويقع بالحرف، ويقع بالاسم، يكون التوكيد اللفظي بماذا؟ بالفعل .. جنس الفعل، وأمَّا إذا أردنا أن نعدد الأفعال فهذا لا حصر لها، وكذلك بالاسم، وكذلك بالحرف، وكذلك بالجملة، يؤكّد بها.
عرفه بعضهم: بأن التوكيد اللفظي هو إعادة اللفظ الأول بعينه .. بذاته .. بنفسه، بعينه قلنا: عين هذا يُجر بالباء، إعادة اللفظ الأول بعينه، وهذا يشمل الحرف والاسم والفعل، والجملة كذلك، والمركب غير جملة أيضاً، غلام زيدٍ غلام زيدٍ، هذا مركب ليس جملة. فإعادة الاسم كأن تقول: قام زيدٌ زيدٌ، إعادة اللفظ الأول بعينه سواء كان فاعلاً أو مفعولاً، فتقول: قام زيدٌ زيدٌ، قام: فعلٌ ماضي، وزيدٌ: فاعلٌ مرفوع، وزيدٌ الثاني: توكيدٌ لفظي، ولا تقل: فاعل، إنما هو توكيدٍ لفظي لزيد، فهو إعادة للفظ الأول الذي هو زيد الفاعل بعينه .. بنفسه كما هو.
رأيت زيداً زيداً، رأيت: فعل وفاعل، وزيداً: مفعولٌ به، وزيداً الثاني: ليس مفعولاً ثاني لرأى، وإنما هو توكيدٌ للمفعول به، لأنه إعادة اللفظ بعينه:
أَخَاكَ أَخَاكَ، إِنَّ مَنْ لَا أَخَاً لَهُ
…
كَسَاعٍ إِلى الهَيْجَا بِغَيرِ سِلَاحِ
(أخاكَ أخاكَ)(أخاك) الأول: منصوبٌ بفعلٍ محذوف على الإغراء: الزم أو احفظ أخاك، أخاك الثاني توكيدٌ للأول منصوبٌ مثله، لأن حكم التوكيد حكم المؤكَّد، لأنه تابع وهذا لا يحتاج أن ننصص عليه في كل مقام، فلما كان التابع هو الاسم المشارك لما قبله في إعرابه دخل فيه أنواع التوابع كلها، ومنها التوكيد المعنوي والتوكيد اللفظي.
إذاً: يكون في الاسم:
أَخَاكَ أَخَاكَ، إِنَّ مَنْ لَا أَخَاً لَهُ
…
كَسَاعٍ إِلى الهَيْجَا بِغَيرِ سِلَاحِ
فـ: (أخاك) الأول هذا منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ وجوباً على الإغراء، والثاني توكيدٌ له.
أو فعلاً، تقول: جاء جاء زيدٌ، قام قام زيدٌ إذا أردت توكيد القيام، فقام الأول: فعل، وقام الثاني: كذلك فعل، لكن قام الأول فعلٌ أسند إلى فاعله، وقام الثاني قُصِدَ به التوكيد فحسب فليس له فاعل، وهذا سبق معنا في الفعل الذي ليس له فاعل، وهو إذا كان الفعل مؤكِّداً لما سبق، فحينئذٍ قام قام زيدٌ، زيدٌ هذا لا نقول: من باب التنازع كما قيل، وإنما نقول: قام الأول فعلٌ قُصدت فعليته، لأنه مستقل بذاته لم يكن تابعاً لغيره، وقام الثاني قُصِدَ به التوكيد، فلما قُصِدَ به التوكيد حينئذٍ نُزِع منه الإسناد، يعني: لا يفتقر إلى فاعل، من حيث هو لو يكن مؤكِّداً لزم أن يكون مسنداً إلى غيره، لأن كل فعلٍ لا بد أن يكون ثم فاعلٌ له، وهنا لم يقصد به هذا، وإنما قصد به توكيد الفعل السابق، حينئذٍ لا فاعل له، وزيدٌ الملفوظ به فاعلٌ للأول.
ومنه: أتاكَ أتاكَ، أو أتاكِ أتاكِ، ضُبط بالوجهين، (أَتَاَكَ أَتَاكِ اللَاّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ .. )، هذا فيه توكيدٌ للفعل، أتاكِ أتاكِ اللاحقون .. اللاحقون أتاكِ أتاكِ، أتى: هذا فعل ماضي، والكاف في محل نصب مفعول به، واللاحقون فاعل للأول، والثاني: توكيدٌ للأول أتاكِ، أعاد الضمير المتصل وهو منصوبٌ توكيداً لسابقه، واللاحقون: هذا فاعلٌ للأول، قال بعضهم: أن أتاكِ أتاكِ، واللاحقون من باب التنازع، وهذا لا يصح، لماذا؟ لأن اللاحقون فاعل، وسبق أنه إذا أُعْمِل الأول أو الثاني وجب الإضمار، ولا يجوز الحذف، لو كان المقام من مقام التنازع لقال: أتوكِ أتاكِ اللاحقون، إذا أعْمَلَ الثاني، أتاكِ أتوكِ اللاحقون.
قال بعضهم: أتاكِ أتاكِ اللاحقون، الفعلان تنازعا في "اللاحقون" على أنه فاعلٌ لهما. نقول: أتاكِ أتاكِ، على أن الفعلين تنازعا اللاحقون، نقول: هذا فاسد، لماذا؟ لأنه لو أُعْمِلَ الثاني وجب باتفاق البصريين والكوفيين الإضمار في الأول، فيقول: أتوكِ أتاكِ اللاحقون، هذا إذا أعمَلَ الثاني، وإذا أعمَلَ الأول أتاكِ أتوكِ اللاحقون لكنه لم يضمر، فدل على أن اللاحقون فاعلٌ للأول والثاني توكيدٌ له ولا فاعل له، وقال بعضهم: أتاكِ أتاكِ اللاحقون، اللاحقون: هذا فاعلٌ للفعلين معاً، وهذا أفسد، لماذا؟ لأن الشيء الواحد لا يكون فاعلاً لاثنين، ولو كانا متحدين اللفظ والمعنى، بل كل فعلٍ يقتضي فاعلاً مختصاً به، هذا هو الأصل.
إذاً الصواب نقول: أَتَاَكَ أَتَاكِ اللَاّحِقُونَ، أتاكِ الأول فعل ماضي، والكاف مفعولٌ به، واللاحقون: فاعله، أتاكِ الثاني: توكيد، الحاصل أن هذا من مقام توكيد الفعل بالفعل.
احْبِسِ احْبِسِ: هذا ظاهره أنه من توكيد الجملة، لأنك تقول: قام زيدٌ قام زيدٌ قام زيدٌ، تؤكِّد والتوكيد أقصى ما يكون ثلاثة، قام زيدٌ قام زيدٌ قام زيدٌ، وهذا الذي عللنا به فيما سبق: أن التوكيد قائمٌ مقام تكرير جملتين أو ثلاثة، إذا زيد حرفٌ في الجملة قلنا: هذا يؤكِّد، يعتبر من المؤكِّدات، وإذا كان من المؤكِّدات معناه: أنه أُقِيمَ مُقَام جملتين فأكثر، هذا المراد بالتوكيد، أليس التوكيد هو التقوية؟
إذا أردنا تقوية قام زيدٌ قام زيدٌ، أو: زيدٌ قائمٌ زيدٌ قائمٌ زيدٌ قائمٌ، قال بعض أهل البيان: أنه إذا قيل: إن زيداً قائمٌ، هذا في قوة قولك: زيدٌ قائمٌ زيدٌ قائمٌ زيدٌ قائمٌ، فحذفت زيدٌ قائمٌ الثانية وزيدٌ قائمٌ الثالثة، وعوضت عنها: إنَّ، ولذلك نقول: إنَّ مؤكدةٌ للنسبة، نسبة مضمون الخبر إلى المبتدأ .. الاسم، ما المراد بهذه النسبة؟ النسبة هذه لا تكون في اسمٍ، ولا تكون في خبرٍ، وإنما تكون بين اسمين: وهو ما يقتضيه تركيب الكلام.
الحاصل: أن احْبِسِ احْبِسِ، نقول: هذه الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى.
قوله: هو إعادة اللفظ الأول بعينه، هذا فيه قصور، لماذا؟ لأنه قد يُعاد اللفظ الأول بمعناه، ويكون مؤكداً له، ولذلك جوزوا بعامة أن يُقال: نعم نعم، هذا في توكيد الحرف، نسينا أن نذكره!
يؤكَّد الحرف: زيدٌ قام .. قام زيد؟ نعم نعم، تعيد نعم الثانية توكيداً للأولى، ويصح أن يُقال: نعم جيري! وجيري بمعنى: نعم، هنا حصل توكيدٌ بين اللفظين، لكن أعيد الأول مرةً ثانية لكن بمعناه لا بلفظه، هذا يسمى توكيداً لفظياً، على هذا الحد المشهور عند النحاة، وهذا يُعرِّف به ابن هشام كثير في كتبه: إعادة اللفظ الأول بعينه لا يشمل ما كان معاداً بمرادفه، ولذلك عَرَّفه في التسهيل: بأنه هو إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنىً، هذا أجمع، إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنىً .. بما وافقه في المعنى، حينئذٍ يشمل ما ذكرناه، فله صورتان:
فالأول: يكون في الاسم والفعل والحرف، وذكرنا أمثلتها، والمركب غير جملة: غلام زيدٍ غلام زيدٍ، هذا مركب غر جملة، جاء غلام زيدٍ غلام زيدٍ غلام زيدٍ، نقول: هذا توكيد غير مفرد وغير جملة: "جاء زيدٌ جاء زيدٌ"، "نكاحها باطل باطل باطل"، هذا توكيد مثلث، "قام قام زيدٌ، نعم نعم، لا لا" هذا إعادة اللفظ الأول بعينه، أمَّا بموافقه أو مرادفه في المعنى، مثَّلوا له بقوله: أَنْتَ بِالخَيْرِ حَقِيقٌ قَمِنٌ، قَمِنٌ: ما المراد بها؟ حقيق نفسها، فأكد: حقيقٌ بقمنٌ، وقمن هي في المعنى حقيق، هنا أعاد اللفظ لا بلفظه ولكن بمعناه، إذاً: وجد التوكيد بالإعادة والتكرار إلا أنه بالمعنى لا باللفظ.
ومنه توكيد الضمير المتصل بالمنفصل، منه يعني: من إعادة الشيء بموافقه .. بمرادفه دون لفظه: التوكيد .. توكيد الضمير المتصل بالمنفصل، قال الناظم:
(وَمَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي مُكَرَّرَاً) وما: اسم موصولٌ بمعنى: الذي مبتدأ، (مِنَ التَّوكِيدِ) هذا حالٌ من الضمير في (لَفْظِيٌّ)(لَفْظِيٌّ) الياء هذه ياء النسبة، ومر معنا عند قوله:(وَشِبْهِه كَذَا وَذِي) أن المنسوب في قوة المشتق، وإذا كان كذلك فحينئذٍ يرفع ضميراً مستتراً، بل عند بعضهم يرفع المنسوب اسماً ظاهراً.
إذاً: إذا كان كذلك فحينئذٍ قوله: لفظيٌ حال كونه من التوكيد، فمن التوكيد: جار ومجرور متعلق بمحذوف حالٌ من الضمير في لفظي، ولماذا جوزنا أن يكون حالاً من الضمير فيه؟ لأننا قلنا إنه في قوة المشتق، كأنه ذاتٌ منسوبةٌ إلى قريشٍ إذا قلت: قرشيٌ، مكيٌ ذاتٌ منسوبةٌ إلى مكة، يعني: المقام فيها، حينئذٍ نقول: هذا منسوبٌ، وإذا كان كذلك ففيه ضميرٌ صح مجيء الحال منه، إذاً: مِنَ التَّوكِيدِ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال الضمير في لَفْظِيٌّ.
ولَفْظِيٌّ: ما إعرابه؟ خبر المبتدأ، لا يصح، والذي لفظيٌ ما يصح، ما هو المحذوف .. أين صلة الموصول؟ إذا قيل: ما اسم موصول تبحث عن صلة الموصول، يَجِي .. إذا قلت: يجي وما يجيء من التوكيد لفظيٌ، ما يستقيم، يَجِي: هو الخبر .. خبر ما الموصول، ولَفْظِيٌّ: هو صلة الموصول على تقدير محذوف، وما: هو لفظيٌ من التوكيد يجيء مكرراً صحَّ؟ صحَّ، وما هو لفظيٌ إذاً: صارت صلة الموصول جملة اسمية، لَفْظِيٌّ: خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره هو.
وما هو لفظي حال كونه من التوكيد يجي مكرراً، وجملة يَجِي هي خبر المبتدأ، وإذا أعرب البيت عرفت المعنى، (وَمَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي) كما قلنا: جا يجي، وجاء يجيء، إذا قيل: جا يجي لغة، وإذا قيل: يجي من جاء حينئذٍ حذفت لامه ضرورة، لأن الهمزة هي اللام، جاء على وزن فعل، إذاً: الهمزة هي لام الكلمة، أين هي هنا، يجي؟ محذوفة، إذاً يجي: يحتمل أنه لغة وهذا هو الظاهر والأولى، ويحتمل أنه من جاء حينئذٍ يكون يجيء حذفت اللام التي هي الهمزة ضرورة لأجل الوزن.
(يَجِي) الضمير هنا يعود على: (وَمَا).
(مُكَرَّراً) هذا حالٌ من فاعل: (يَجِي) حال كونه مكرراً، والتكرار هو الإعادة، ولذلك قلنا في حد التوكيد اللفظي إعادة اللفظ الأول بعينه، أو إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنىً، إذاً: متضمنٌ لمعنى الإعادة، والتكرار هنا لا يزيد على ثلاث مرات، هذا يكاد أن يكون اتفاق بين النحاة والبيانيين، بل قيل: المكرر يكون مرتين، وقيل: ثلاثاً، ولا قائل بالزيادة، أمَّا مرتين أو ثلاثة، حينئذٍ يصح أن يُقال: قام زيدٌ زيدٌ، قام زيدٌ زيدٌ زيدٌ، إذا أردت التأكيد القوي فتعيد مرة ثالثة، مكرراً ثلاث مرات فقط لاتفاق على أنه لم يقع في لسان العرب أزيد منها، والتكرار هنا لفظاً ومعنىً أو معنىً، ليشمل النوعين اللذين ذكرهما في حد التوكيد اللفظي، لأننا قلنا: إعادة اللفظ الأول بعينه أو بموافقه، يعني: مرادفه في المعنى، إذاً: التكرار حصل لشيءٍ لفظي ومعنوي، وحصل لشيءٍ معنوي فحسب.
إذاً قوله: مكرراً لفظاً ومعنىً كـ قام قام زيد، أو معنىً فحسب نحو: أَنْتَ بِالخَيْرِ حَقِيقٌ قَمِنٌ، هنا أعيد وكرر لكن بالمعنى دون اللفظ.
(كَقَوْلِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي) كَقَوْلِكَ: الكاف هنا للتشبيه .. مثال، إذاً ليست استقصائية، (كَقَوْلِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي)(ادْرُجِي) هذا فعل أمر، والياء فاعل، كأنه قال: اركعي اركعي، الياء هذه فاعل، تركعين تركعين .. تدرجين تدرجين، إذاً:(ادْرُجِي ادْرُجِي) أي: اقربي اقربي، أو ادْرُجِي يعني: اصعدي الدرج، الدرج: جمع درجة وهي المرقاة .. السُلَّم، (ادْرُجِي ادْرُجِي) يعني: اصعدي الدرج، هل هذا من توكيد الجملة، أو من توكيد الفعل، أو من توكيد الضمير؟ يحتمل الثلاث، لكن ظاهر صنيع الناظم هنا: أنه من توكيد الجملة، لأن ادْرُجِي: هذا فعل وفاعل، فأعاده مرةً ثانية لأن أكثر ما يقع التوكيد اللفظي في الجمل كما سيأتي، ولذلك نحمله على الأكثر والأشهر أولى.
هذا المثال: (ادْرُجِي ادْرُجِي) يحتمل أن يكون من تأكيد الجملة وهذا ظاهر بيِّن، بل الظاهر هذا مراد الناظم، وعليه حمله الأشْمُوني، وأن يكون من تأكيد الضمير المتصل وهو معلومٌ من البيت الآتي وداخلٌ فيه فيكون تكرار، والأولى عدم حمله على هذا، وأن يكون من توكيد الفعل فقط - السِيُوطي حمله على الثاني لكنه مرجوح – وأن يكون من توكيد الفعل فقط: قام قام زيد، (ادْرُجِي ادْرُجِي) إذا قال: ادْرُجِي، لمَ أعاد الضمير مرةً أخرى؟ قال: لئلا يوهم أن المخاطب مُذَكَّر، لو قال: ادرجي ادرج، قد لا يفهم أن الثاني توكيداً للأول، لماذا؟ لأن الأول خطاب للمؤنث والثاني خطاب للمُذكَّر، لئلا يتوهم متوهم هذا أعاد مرةً ثانية الضمير المتصل، فقال ادْرُجِي ادْرُجِي، فيكون من باب توكيد الفعل مثل: قام قام زيدٌ، وهذا كذلك محتمل.
أن يكون من تأكيد الفعل فقط، وجيء بالضمير معه لئلا يلتبس بأمر المخاطب، الثاني توكيدٌ للأول ادْرُجِي .. ادرج هذا الأصل، لكن أعاد الضمير لئلا يلتبس أنه توكيدٌ والفاعل المخاطَب وليس الأمر كذلك.
قال الشارح: " هذا هو القسم الثاني من قسمي التوكيد، وهو التوكيد اللفظي، وهو تكرار اللفظ الأول بعينه اعتناءً به "(ادْرُجِي ادْرُجِي) وكقوله: (أَتَاكِ أَتَاكِ اللَاّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ) وهذا مشهور.
والأكثر في التوكيد اللفظي أن يكون في الجمل، هذا الأكثر، وأمَّا المفردات فهذا قليل، سواءً كان فعلاً، أو حرفاً، أو اسماً، وكثيراً ما يقترن بعاطفٍ إذا كان جملة، يعني: يُعد بعاطف: ((كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)) [النبأ: 4 - 5] الثانية توكيدٌ للأولى، والعاطف يكون ثَم على جهة الخصوص.
وجعل الرضي الفاء مثل ثُم، بمعنى: أنه يُعطف الجمل المؤكدة بعضها لبعض، سواءً كانت اثنتين أو ثلاث، أن يعطف بثُم، وألحق بها الرضي الفاء، ومنه:((أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)) [القيامة: 34 - 35] اجتمع فيها حرفان.
ويأتي بدون عاطف، حديث:{وَاللَّهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا} ثلاث مرات، يعني: أعادها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: {لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا} وهذا قد يرجِّح بأن التوكيد ثلاث لا اثنين، ولذلك يأتي في الأحاديث: ثلاثاً .. ثلاثاً كثير، هذا يدل على ماذا؟
أولاً: على أن التأكيد لا يزيد على الثلاث، ولم يرد أربعاً.
ثانياً: ترجيح القول بأنه مثلث دون أن يكون مثنى، لأن بعضهم يرى أن التكرار مرتين فحسب، أمَّا الثالثة فلا، نقول: وروده في الأحاديث كثيرة ثلاثاً .. ثلاثاً يدل على أن التوكيد يكون بالثلاث.
والمراد بعاطفٍ: صورةً، لأن بين الجملتين تمام الاتصال، إذا قيل:((كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)) [النبأ: 4 - 5] الثانية توكيدٌ للأولى، طيب! العاطف هذا ما دوره؟ لو كان حقيقةً لكان من باب عطف النسق، عطف جملة على جملة، لو كان حقيقةً لخرج عن باب التوكيد فصار من عطف النسق، حينئذٍ لما لم يكن من عطف النسق ونحن جعلناه توكيداً، ثم عطفنا بحرف عطف لا بد أن نجعل هذا الحرف صورةً فحسب، يعني: لا وجود له من حيث المعنى، وعند البيانيين: أن الجملة الثانية إذا كانت عين الأولى لا يفصل بينهما بعاطف، إذا كانت هي عين الأولى حينئذٍ يكون بينهما تمام الاتصال .. متصلة بها .. هي عينها، فالأصل فيه أنها لا يعطف، فالفصل خلاف الفصيح، إذاً: لا بد أن نجعل أن هذا العاطف صورةً لا معنى له. والمراد بعاطفٍ صورةً لأن بين الجملتين تمام الاتصال، فلا تعطف الثانية على الأولى حقيقةً، ولأن حرف العطف لو كان عاطفاً حقيقةً كان تبعية ما بعده لما قبله بالعطف لا الترتيب، صحيح هذا.
لو قيل بأن: ((أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)) [القيامة:34] مثل: جاء زيدٌ وعمروٌ، وجاء زيدٌ وذهب عمروٌ، هذا من باب العطف في المفردات والجمل، إذاً: يقتضي أن الثاني منسوقاً على الأول، وهو من باب عطف النسق، ونحن حديثنا في التوكيد الذي يفيد التقوية، قام زيدٌ وخرج عمروٌ، ليس فيه تقوية، هذا عطف بالواو، حينئذٍ:((أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)) [القيامة:34]((كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)) [النبأ: 4 - 5] نقول: لو جعل من باب العطف لخرج عن باب التوكيد، فلا يفيد تقويةً.
إذاً: هذا يؤكد أن هذا الحرف إنما جيء به لمجرد الربط الصوري فحسب، وأمَّا المعنى فلا. ويجب ترك العاطف عند الإبهام للتعدد، لو قال: ضربت زيداً ضربت زيداً، الثانية توكيدٌ للأولى، لو عطف: ضربت زيداً ثُم ضربت زيداً، يوهم أنه ضربه مرة ثانية، إذاً: فيه إيهام بالعطف فيجب الترك، ضربت زيداً ضربت زيداً، فإذا قلت: ضربت زيداً ثم ضربت زيداً، وقع إيهامٌ وهو أن الضرب مكررٌ.
هنا مثل ابن عقيل بقوله تعالى: ((كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)) [الفجر: 21 - 22] هاتان الآيتان أكثر النحاة على أنهما من قبيل التوكيد، وليس الأمر كذلك، بل ((دَكّاً دَكّاً)) [الفجر:21] دَكّاً الأول حال، والثاني معطوفٌ عليه بحذف العاطف، دَكّاً فدكاً، لأن المراد دَكّاً بعد دكٍّ .. صفاً بعد صفٍ، هذا المراد، فالمراد به ما ذكرناه، وأمَّا أنها توكيد فلا.
((كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً)) [الفجر:21] نقول: هذا ليس من التأكيد في شيء، لأن معناه: دَكّاً بعد دكٍّ، وأن الدك كرر عليها حتى صارت هباءً منثوراً، فالمراد به:((دَكّاً دَكّاً)) [الفجر:21] يعني: تكرار الدك، وصفاً صفاً، ليس المراد صفاً واحداً لا، صفاً بعد صف، إذاً: كلٌ سابق عن الآخر.
وكذلك: ((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)) [الفجر:22] ليس من التوكيد، إذ المعنى: أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صفٍ، محدِقين بالخلق، فليس الثاني في الآيتين تأكيداً للأول، بل المراد التكرار، كما يُقال: علمته الحساب باباً باباً، فالثاني معطوف على الأول بحذف حرف العطف، وبعضهم إذا جعله حال يجعله في قوة: مُبَوَّباً، كما في قوله: ادخلوا الأول فالأول، لكن صُرِّحَ هنا بالعطف، إذاً: باباً بعد باب ليس من التوكيد للجملة.
وكذلك قول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، الثانية .. الله أكبر: مبتدأ وخبر، الثانية: مبتدأ وخبر، هنا لم يعطف بينهما، هل هو من باب التوكيد؟ نقول: لا، بل المراد به: إنشاء تكبيرٍ ثانٍ، بخلاف: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فالثاني المراد به الإخبار فهو في قوة التوكيد للسابق.
ولَا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ
…
إِلَاّ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي بهِ وُصِلْ
إذا أريد تكرير لفظ الضمير المتصل للتوكيد، لم يَجُز ذلك إلا بشرط أن يُعاد مع المؤكِّد ما اتصل بالمؤكَّد، فإذا قلت مثلاً: مررت بك، ذكره ابن عقيل هذا المثال، إذا أردت أن تؤكد الضمير في: بك، الكاف هل تقول: مررت بكك .. تلحق به ضمير آخر؟ لا، إنما تؤكد الضمير، تعيده مرةً أخرى مع مدخوله: مررت بك بك، الثاني الكاف توكيد للضمير الأول، لكن لا يجوز أن يستقل بنفسه، ولا أن يتصل بالضمير السابق، حينئذٍ لا بد من إعادة ما اتصل بالمؤكَّد، إذاً: بك الأولى مؤكَّد، وبك الثانية توكيد، فوجب إعادة ما اتصل بالأول من أجل التوكيد.
(وَلَا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ) إذا أكدته تأكيداً لفظياً، لا: ناهية، وتعد: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: أنت، ولفظَ: هذا مفعول به، وهو مضاف والضمير مضاف إليه، ومتصل: هذا نعت.
(إِلَاّ) أداة استثناء (مَعَ اللَّفْظِ) هذا ظرف متعلق بمحذوف حال من لفظ، إلا حال كونه مع اللفظ الذي وصل به، (الَّذِي) هذا نعت للفظ، (بهِ وُصِلْ) به جار ومجرور متعلق بقوله:(وُصِلْ)، الذي وصل به، وصل ما هو؟ المؤكَّد، (بهِ): بذلك الذي اتصل به، سواءٌ كان اسماً أو فعلاً أو حرفاً، فتقول: رغبت فيه فيه، إذا أردت أن تؤكد في وهو حرف، فيه: الضمير الذي دخل عليه: فيه، حينئذٍ لا تقل: فيهه! وإنما تقول: فيه فيه، أعدته بالسابق.
إذا أرِيدَ تكرير لفظ الضمير المتصل للتوكيد لم يجز ذلك إلا بشرط اتصال المؤكِّد بما اتصل بالمؤكََّد، نحو: مررت بك بك، ورغبت فيه فيه، والنحاة هنا ابن هشام وغيره، ابن عقيل جرى على هذا، يمثلون بالمجرور، ولا يمثلون بالمنصوب والمرفوع، مع أن الحكم واحد رأيتك رأيتك، قمت قمت، قالوا: لأنه لا يفيد المثال، لماذا؟ لأنه يوهم أنه من باب توكيد الجملة، إذا قلت: قمت قمت، ولذلك اختلف الشراح هنا في:(ادْرُجِي ادْرُجِي) هل هو من توكيد الجملة .. هل هو من توكيد الفعل .. هل هو من توكيد الضمير؟ اختلفوا فيه، لأنه مُحتَمِل، والمثال لا يصلح أن يكون مُحتملاً، وإنما تأتي بشيءٍ نصاً في المسألة، فالضمير به به .. بك بك .. فيه فيه، هذا لا إشكال فيه.
ولذلك يصح أن نُمثل نقول: قمتُ قمتُ، فإذا أردنا أن نؤكِّد التاء في: قمتُ، إذا أردنا توكيده نقول: قمت قمت، أعدنا الفعل مع التاء، فالتاء الثانية توكيدٌ للأول .. التاء في: قمت، وأعدنا الفعل، لكن لو مثل بهذا: قمت قمت، هذا يلتبس، لماذا؟ لأنه مُحتمل أن يكون من باب توكيد الفعل للفعل، ويحتمل أنه من باب توكيد الجملة للجملة.
على كلٍ: (وَلَا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ) مطلقاً، سواءٌ كان مرفوعاً أو منصوباً أو مخفوضاً، إلا مع اللفظ الذي وصل به، سواءٌ كان فعلاً كـ:(قمتُ قمتُ) أو اسماً كغلامك غلامك، أو حرفاً كبك بك، اسماً مثل المضاف غلامك غلامك، مررت بغلامك غلامك، هذا توكيدٌ للكاف مع تكرار الاسم.
إذاً: (وَلَا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ) مُطلقاً سواءً كان مرفوعاً كـ: (قمتُ قمتُ) أو منصوباً كضربتكَ ضربتكَ، أو مخفوضاً بحرفٍ كفيه فيه، أو بالاسم نحو:(غلامكَ غلامكَ)، إلا مع اللفظ الذي وصل به بأن تكرره مرةً أخرى، وهنا: لم يذكر المنفصل، وإنما قال: متصل، لأنه واضح، المتصل: إياكَ إياكَ ضربت، لا يحتاج إلى تنصيص، إياك إياك ضربت، ضربت إياه إياه، هذا لا يحتاج إلى تنصيص لأنه ليس من شرطه أن يُعاد، لأنه مثل: جاء زيدٌ زيدٌ، كما أنه يتكرر وهو لفظٌ مستقل بنفسه، حينئذٍ لا يحتاج إلى تنصيص، والاسم الظاهر كذلك لا يحتاج إلى تنصيص لأنه واضح.
ولذلك نبه بعضهم قال: وإن كان اسماً ظاهراً، وضميراً منفصلاً منصوباً فواضح، فواضح أنه يُكرر اللفظ بعينه دون إعادة ما عَمِلَ فيه، فتقول: إياكَ إياكَ ضربت، إذاً: إياك الأول مفعولٌ به، وإياك الثاني توكيدٌ له، وضربت فعل وفاعل، والاسم الظاهر كذلك جاء زيدٌ زيدٌ، زيدٌ زيدٌ قام توكيد للمبتدأ أو توكيد للفاعل.
(كَذَا الحُرُوفُ) يعني: الحروف كذا، كَذَا هذا متعلق بمحذوف خبر مقدم، الحُرُوفُ: مبتدأ، (كَذَا) أي: مثل ذا، ما هو المشار إليه؟ الضمير المتصل، يعني: الحرف إذا أردت تأكيده فلا بد من إعادة ما دخل عليه، فإذا قلت مثلاً: إن زيداً قائمٌ، إذا أردت توكيد اسم إنَّ ماذا تقول؟ إن زيداً زيداً قائمٌ، أكد لي الخبر: إن زيداً قائمٌ قائمٌ، أكد لي إنَّ فقط، الظاهر أنك تقول: إنَّ إنَّ زيداً قائمٌ، مثلما قلت: زيداً زيداً، فقلت: قائمٌ قائمٌ، لكن النحاة مطبقون على أنه لا بد من إعادة مدخولها، فتقول: إنَّ زيداً إنَّ زيداً قائمٌ، واختلفوا في إعادة اسم إنَّ بالضمير، إنَّ زيداً إنه قائمٌ، أعدته لا بلفظه وإنما بمعناه أو بمرادفه أو بموافقه، لأن الضمير إذا رجع إلى شيء معين صار مرادفاً له، أنت لا تقول: ضربتُه، ضربتُه صار مبهم هذا، لكن إذا قلت: زيدٌ ضربتُه، الضمير هنا معيَّن أو لا؟ مبهم؟ ليس مبهماً لأن مرجعه معيَّن، فإذا قلت: إنَّ زيداً إنَّه قائمٌ، صار من التوكيد لـ (إنَّ) فأعدت اسم إنَّ معها لكن بالضمير، وهذا أولى كما سيأتي.
فيجوز فيها الوجهان: إنَّ زيداً إنَّ زيداً قائمٌ، إنَّ زيداً إنَّه قائمٌ.
(كَذَا الحُرُوفُ) أي: كالضمير المتصل، (غيْرَ مَا تَحَصَّلَا بِهِ جَوَابٌ) يعني: الحروف التي تقع في جواب السؤال: نعم .. بلى .. جيري .. إي .. لا، هذه الحروف لا نحتاج إلى إعادة .. ليس لها مدخول أصلاً، هل جاء زيدٌ؟ نعم، انتهينا ليس فيه شيء يُعاد.
(غيْرَ مَا تَحَصَّلَا) غيرَ منصوبٌ على ماذا، هل يجوز فيه الرفع؟ على الاستثناء (غيْرَ مَا تَحَصَّلَا بِهِ جَوَابٌ) غيْرُ ما تحصلا، يصح أو لا؟ لا، لماذا لا يصح؟ لأنه يصح أن تكون نعت للحروف .. صفة، جَوَّزه بعضهم (كَذَا الحُرُوفُ غيْرُ مَا تَحَصَّلا) فلم يُقْصَد بها أن تقوم مقام (إلا) لكن الأولى النصب، غيْرَ مَا تَحَصَّلَا هذا أولى.
(كَذَا الحُرُوفُ غيْرَ) منصوبٌ على الاستثناء أو بالرفع نعت لحروف، غيْرَ: مضاف، وما: اسم موصول بمعنى: الذي مضافٌ إليه، (مَا تَحَصَّلَا) الألف للإطلاق، تَحَصَّلَا يعني: حصل، (تَفَعَّلَ) قصد به أصل الفعل ليس عندنا تفعُّل، إنما المراد به الحصول، وهذا لعله من أجل النظم، ما حصلَ به (جَوَابٌ)، جَوَابٌ هذا فاعل تَحَصَّلَا، وذلك (كَنَعَمْ) هل جاء زيد؟ نعم، أليس زيدٌ قادماً؟ بلى، (كَنَعَمْ وَكَبَلى) وأجل، وجيري، وإي، ولا.
نعم: حرف تَصْدِيق للمُخْبِرِ وإعلامٍ للمُسْتَخبِرِ، ووعدٌ للطالب، وبمعنى نعم: جيري، وأجل، وأي، كما في المغني، وأمَّا: بلى، فلا تقع باطرادٍ إلا بعد النفي مجرداً، نحو:((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي)) [التغابن:7] أو مقروناً باستفهامٍ حقيقي: أليس زيدٌ بقائم؟ نقول: بلى، أو توبيخِي:((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى)) [الزخرف:80] هذا استفهام توبيخي، أو تقريري:((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172].
على كلٍ: المراد هنا بهذين المثالين: (كَنَعَمْ وَكَبَلى) أدخل الكاف على: كَبَلى لماذا؟ لأنها في الغالب تقع في جواب نفيٍ، ونعم لا، لا تختص بالنفي.
قال الشارح هنا: " كذلك"، أي: كذلك، إذا أريد توكيد الحرف الذي ليس للجواب، حينئذٍ وجب فيه أمران: يجب أن يُعاد مع الحرف المؤكِّد ما اتصل بالمؤكَّد، نحو: إنَّ زيداً إنَّ زيداً قائم، ولا بد من الفصل بين الحرفين باسم إنَّ، وأمَّا إذا أعيدت إنَّ لوحدها حكموا عليها بأنها شاذ، مع أن القياس يقتضي هذا:
إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ يَحْلُمُ مَا لَمْ
…
... يَرَيَنْ مَنْ أَجَارَهُ قَدْ ضِيمَا
(إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ) قالوا: هذا شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه، لماذا؟ لأنه لا بد أن يُعاد مدخولها معها هذا الأصل، مثل الحرف، الذي هو حرف الجر ونحوه، مثل الذي دخل على الضمير المتصل، إنَّ إنَّ زيدٌ قائمٌ يعاد هو أو ضميره إن كان ظاهراً، والأولى: إنَّه قائمٌ لأنه الأصل، لماذا لأنه الأصل؟ لأن الاسم الظاهر إذا أعيد حينئذٍ نأتي بضميره، فإذا جئنا باسمه كما هو حينئذٍ أقمنا الظاهر مقام الضمير، هذا خروجٌ عن مقتضى الظاهر، فلذلك كان الأصل أن يؤتى بالضمير: إنَّ زيداً إنَّه قائمٌ، وهذا أولى كما ذكرنا. وإنما كان إعادة ضمير المؤكَّد أولى من إعادة لفظه لأمرين:
الأول: أنه يلزم على إعادة لفظه: إنَّ زيداً إنَّ زيداً قائمٌ، التكرار لفظاً، وليس مما يَحسن لغير موجب، لا بد من موجب يقتضي التكرار، وهنا ليس الموجب بظاهر.
ثانياً: أن إعادته بلفظه ربما يوهم أن الثاني غير الأول، لو قال: إنَّ زيداً إنَّ زيداً قائمٌ، قد يقول: إنك وصفت زيدين بالقيام .. يحتمل، هذا موهم. أن الثاني غير الأول وإنما وقع بينهما اشتراكٌ، ولذلك قيل: جاء في القرآن بإعادة الضمير: ((فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [آل عمران:107] فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ: هم في رحمة الله خالدون .. فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا، هم في رحمة الله، ففي الثانية مؤكدة لـ (في) في قوله: في رحمة، ثم أعاد الرحمة بالضمير هكذا قيل. فإن (في) الثانية في قوله: فيها، توكيدٌ لـ (في) الأولى في قوله: فِي رَحْمَةِ اللَّهِ.
إذاً: يشترط فيما إذا كان حرفاً غير جوابيٍ أن يُعاد مع الحرف المؤكِّد ما اتصل بالمؤكَّد، وإن كان اسماً ظاهراً فالأولى أن يُعاد بضميره، ثم لا بد من الفصل بينهما، فحينئذٍ لا يُقال: إنَّ إنَّ زيداً، فإن كان الحرف جواباً كنعم، وبلى، وجيري، وأجل، وإي، ولا، جاز إعادته وحده بنفسه أو بمرادفه، يعني: يصح أن تقول: نعم نعم .. نعم جيري، حينئذٍ يكون من باب توكيد الموافق لا بلفظه وإنما بمعناه. جاز إعادته وحده فيقال لك: أقام زيدٌ؟ فتقول: نعم نعم .. تقول: نعم جيري، لا لا .. ألم يقم زيد؟ تقول: بلى بلى، هذا من توكيد الحرف.
لَا لَا أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إِنَّهَا
…
... أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقَاً وَعُهُودَا
وَمُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ
…
أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضَمِيرٍ اتَصَلْ
يَجوز أن يُؤكد بضمير الرفع المنفصل كل ضميرٍ متصل، كل ضمير متصل إذا جئت تؤكده حينئذٍ تأتي بضمير الرفع مرفوعاً كان نحو: قمت أنت، أو منصوباً نحو: أكرمتك أنت، أو مجروراً نحو: مررت به هو، فضمير الرفع المنفصل يجوز أن يؤكَّد به كل ضميرٍ متصل، سواءً كان الضمير المتصل الذي هو المؤكَّد مرفوعاً أو منصوباً أو مخفوضاً، يعني: في محلٍّ من هذه المحآل.
(وَمُضْمَرُ الرَّفْعِ) هذا مبتدأ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاشتغال، (أَكِّدْ بهِ) مررت به، أكِّد مُضمَر الرفع، (ومُضْمَرُ الرَّفْعِ) قلنا مبتدأ، وهو مضاف والرفعِ مضافٌ إليه (الَّذِي) نعتٌ، الَّذِي يعني: يصدق على التوكيد اللفظي المرادف، (قَدِ انْفَصَلْ) يعني: المنفصل، (أَكِّدْ بهِ) يعني: بضمير الرفع، (كُلَّ) مفعولٌ به، (كُلَّ ضَمِيرٍ اتَصَلْ) أي: يجوز أن يؤكَّد بضمير الرفع المنفصل كل ضميرٍ متصل: رأيتك أنت .. مررت بك أنت .. زيدٌ جاء هو.
إذاً: حصل التوكيد بهذا، لكن ليس متفقاً عليه، لأنه في حالة الرفع: قُمْتَ أنْتَ، أنتَ: ضمير رفع، وهو مؤكِّد، والمؤكَّد ضمير رفع من جنسه، لا إشكال في حالة الرفع، قمتَ أنتَ، فقد أُكِّد الضمير المرفوع، أو أكَّد الضمير المرفوع ضميراً آخر مرفوعاً، فهو توكيدٌ منفصل ليس له عاملٌ ملفوظٌ به حتى يمكن أن يجيء متصلاً .. هذا واضح.
أمَّا في حالة النصب: أكْرَمتُكَ أنتَ، فقد وقع الضمير المنفصل الذي أصله أن يكون في محل رفع توكيداً للضمير المتصل المنصوب، فهذا محل إشكال مع ما مر معنا في باب الضمائر.
ومذهب الكوفيين: أنه في هذه الحالة يجوز أن يؤتى بالضمير المنفصل المنصوب، فيقال: أكرمتُكَ إياكَ، يعني:
وَمُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ
…
أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضَمِيرٍ اتَصَلْ
مُتصل، عند الكوفيين إذا كان الضمير المتصل المؤكَّد منصوباً فيؤتى بالضمير المنصوب هذا الأصل فيه: أكرمتُكَ إياكَ، نؤكده بما من جنسه لا بالمرفوع، وإنما نأتي به بالمنصوب، فيُقال: أكرمْتُكَ إياكَ، بدل أن يُقال: أكرمتُكَ أنتَ، حصل تخالف .. أكرمتُكَ: الكاف هذه في محل نصب، وأنتَ: هذا الضمير في محل رفع في الأصل، فكيف يؤتى به في مقامٍ المنصوب؟! ولذلك مذهب الكوفيين أكرمتُك إياكَ، ورأيته إياه .. رأيته الضمير الهاء، إذا أكدته على مذهب البصريين: رأيته هو، وهو لا يأتي في محل نصب، وإنما دائماً يكون ملازماً للرفع، وعلى مذهب الكوفيين: رأيته إياه، واختاره ابن مالك في غير هذا الكتاب، وهنا كلامه مطلق.
وأمَّا البصريون فقد أوجبوا حين تريد التوكيد أن تأتي بالضمير المنفصل المرفوع وصححوا نحو قولك: أكرمتُكَ إياكَ، وأكرمته إياه، على أن يكون بدلاً لا توكيداً، صححوا هذا التركيب: أكرمتُكَ إياكَ صحيح، لكن بدل لا توكيد، وأمَّا إذا أردت التوكيد فتأتي بضميرٍ مرفوع لا بد، ومذهب الكوفيين واضح بيِّن.
إذاً: (مُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ) يعني: ضمير الرفع المفصول المنفصل (أَكِّدْ بهِ كُلَّ ضَمِيرٍ) متصل مطلقاً، هذا ظاهر النظم، سواءٌ كان الضمير المتصل مرفوع أو منصوب أو مخفوض، وعلى مذهب الكوفيين وافقوا في المرفوع، وأمَّا المنصوب المخفوض فلا.
الْعَطْفُ
هذا انتقال إلى الباب الثالث وهو (العَطْفُ)، لما أنهى ما يتعلق بالنعت وأردفه بالتوكيد شرع في بيان العطف، والعطف في الأصل مصدر، مصدر قولك: عطفتُ الشيء إذا ثنَّيتَه فجعلتَ أحد طرفيه على طرفه الآخر، هذا الأصل في معناه.
العَطْفُ إِمَّا ذُو بَيَانٍ أَوْ نَسَقْ
…
وَالغَرَضُ الآنَ بَيَانُ مَا سَبَقْ
فَذُو البَيَانِ تَابعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ
…
حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ
وهو لغةً: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، ومراده بهذا الباب هنا: عطف البيان، وسيأتي عطف النسق.
وسمي التابع: عطف بيان، لأن المتكلم رجع إلى الأول فأوضحه به، وسيأتي مزيد بيان.
إذاً: أراد أن يُبيِّن بهذا الباب عطف البيان، وأمَّا عطف النسق فهذا سيأتي بحثه بعد هذا الباب.
(العَطْفُ) هذا مبتدأ، (إِمَّا ذُو بَيَانٍ أَوْ نَسَقْ) قسَّم أولاً ثم حدَّ عطف البيان، لأن عطف البيان وعطف النسق حقيقتان مختلفتان، وإذا كان الأمر كذلك حينئذٍ يمتنع أن يُجمعا في حدٍّ واحد، فلا بد أن نعرف التقسيم أولاً بأن العطف هذا على نوعين: عطف بيان، وعطف نسق، ثُمَّ نُعرِّف عطف النسق وعطف البيان كلاً على حده، لماذا؟ لأن كل واحدٍ منهما له حقيقة مخالفة تمام المخالفة للآخر، فيمتنع أن يُجمعا في حدٍّ واحد.
إذاً: حقيقة عطف البيان تخالف حقيقة عطف النسق، فلذلك لم يَذْكر الناظم ولا غيره من النحاة تعريفاً واحداً يجمعهما، لأن الحقائق المختلفة لا يجمعها تعريفٌ واحدٌ.
(العَطْفُ إِمَّا) قلنا: العطف مبتدأ، (إِمَّا) هذا حرف تفصيل، سيأتي بحثه في عطف النسق (ذُو بَيَانٍ) صاحب بيان فهو خبر العطف، (أَو نَسَقْ) أو هنا استغنى بـ (أو) عن (إمَّا) الثانية، وهذا سيأتي بحثه في باب النسق، لأن الأصل أن نقول: عطف إمَّا ذو بيانٍ، وإمَّا ذو نسقٍ، فاستغنى بـ (أو) عن (إمَّا) يعني: أقيمت (أو) مُقام (إمَّا) هذا الأصل، إمَّا ذو بيانٍ أو نسق على حذف مضاف، يعني: أو ذو نسقٍ، يعني: صاحب نسق.
(وَالغَرَضُ) المقصود الآن الغرض: مبتدأ، و (الآنَ): هذا ظرف زمان (بَيَانُ)، هذا خبر المبتدأ الغرض، (بَيَانُ مَا سَبقَ) وهو عطف البيان، يعني: الذي سبق، ما هو الذي سبق في أول التقسيم؟ عطف البيان، إذاً: الغرض في هذا الباب، والآن .. الغرض الآن: تقييد، يعني: في هذا الباب، لأنه عَمَّمَ في الترجمة، فقال:(العَطْفُ) وهذا يشمل النوعين، لكنه أراد أن يبيِّن عطف البيان، قال:(وَالغَرَضُ الآنَ) يعني: في هذا الباب، (بَيَانُ) وهذا خبر المبتدأ، الغرض، (مَا سَبقْ) يعني: الذي سبق، وهو عطف البيان.
ثم شرع في بيان عطف البيان، فقال:
(فذُو البَيَانِ تَابِعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ)، فذُو البَيَانِ الفاء هذه يحتمل أنها فصيحة، أو مجرد العطف، لأنه "فصيحة" قد يعرضها أنه قَدَّم مُقدِّمة:(وَالغَرَضُ الآنَ بَيَانُ مَا سَبقْ)، لو قال:(العَطْفُ إِمَّا ذُو بَيَانٍ أَوْ نَسَقْ .. فذُو البَيَانِ، قد يقول قائل .. ثَمَّ سائل سئل: ما هو ذو البيان؟ فقال: فذُو البَيَانِ، لكن لمَّا قال: (والغَرَضُ الآنَ بَيَانُ مَا سَبقْ) حينئذٍ أفسد علينا أن تكون الفاء هنا فصيحة، لأن الفصيحة تقع في جواب سؤال مُقَدَّر، وهنا لم يُجعل سؤال لأنه قدم مقدمة وهو في قوله:(والغَرَضُ الآنَ بَيَانُ مَا سَبقْ).
(ذُو البَيَانِ) صاحب البيان، إنما سُمي: عطفَ بيان لأنه يبيِّن متبوعه، إذ اللفظ الثاني تكرارٌ للفظ الأول، يشبه أن يكون مُرادفاً للأول، فإذا قلت: جاء زيدٌ أخوك، أخوك له ذات، وزيد ذات، أخوك: هذا عطف بيان، وزيد: مُبيَّن، حينئذٍ إذا قلت: زيد أخوك .. أخوك زيد، قدمت وأخرت، الذات في البيان والمبيَّن واحدة، أليس كذلك؟ الذات واحدة أو لا؟ جاء أخوك زيدٌ .. جاء زيدٌ أخوك، زيد: ذات، وأخوك: ذات، هل هما ذاتان أم ذات واحدة؟ ذاتٌ واحدة، إذاً: أشبه ما يكون بتكرار للفظ الأول، لكن تضمن إيضاحاً أو تخصيصاً. إذ اللفظ الثاني تكرارٌ للفظ الأول، يشبه أن يكون مرادفاً للأول، فالذات المدلول عليهما باللفظين واحدة، وإنما يؤتى بالثاني لزيادة البيان.
(فذُو البَيَانِ) هذا مبتدأ (تَابعٌ) هذا خبر جنس يشمل جميع التوابع.
(شِبْهُ الصِّفَةْ) يعني: أشبه النعت، في ماذا؟ في كونه موضحاً لمتبوعه في المعرفة، مخصصاً لمتبوعه في النكرة، إذاً: أشبه ذو البيان الصفة، فحينئذٍ بقوله:(شِبْهُ الصِّفَةْ) أخرج عطف النسق، لأنه لا يكون موضحاً لمتبوعه ولا مخصصاً، وأخرج كذلك البدل، لأنه لا يكون موضحاً لمتبوعه ولا مُخصصاً، وأخرج كذلك التوكيد، إذاً: ثلاثة أشياء من التوابع خرجت بقوله: (شِبْهُ الصِّفَةْ)
قال بعضهم: وأخرج النعت كذلك، لأنه قال: شبه النعت وشبه الشيء: غيره، فخرج النعت بهذا القيد (فذُو البَيَان تَابِعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ) أشبه الصفة .. أشبه النعت، ومشبه النعت: غيره، إذاً: خرج النعت، وكونه أشبه النعت بكونه موضحاً أو مخصصاً أخرج الثلاث البقية، إذاً: إلى هنا انتهى الحد.
ما المراد بقوله: (حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ)؟ قالوا: هذا أراد به أن يبيِّن الغرض الأصلي من عطف البيان، وهو أن يكون موضحاً لمتبوعه، ولذلك سُمي: بيان كاسمه، فالغرض الأعلى في عطف البيان: أن يكون مبيِّناً، والبيان والتبيين هو الإيضاح، وهو الكشف الذي عناه الناظم بقوله:(مُنْكَشِفَهْ).
(حَقِيقَةُ القَصْدِ به) يعني: ما المقصود بعطف البيان .. ما هو؟ الإيضاح، قصدك هو الإيضاح، (مُنْكَشِفَهْ) هذا خبر قوله:(حَقِيقَةُ).
فَذُو البَيَان تَابعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ
…
حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ
حقيقة: هذا مبتدأ، وهو مضاف، والقصد: مضافٌ إليه، وبه: متعلق بالقصد لأنه مصدر، ومنكشفة: هذا خبر المبتدأ.
إذاً نقول: (فَذُو البَيَان تَابِعٌ) هذا جنسٌ (شِبْهُ الصِّفَةْ) أي: في الإيضاح والتخصيص وغيرهما، يعني: لا يكون عطف البيان فقط موضحاً ومبيِّناً، بل يأتي كذلك للمدح، وقيل: للتوكيد، وابن مالك أضعف التوكيد، فقد جاء للمدح كما جاء للإيضاح والتخصيص، كما في قوله:((الْبَيْتَ الْحَرَامَ)) [المائدة:97] .. ((جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)) [المائدة:97] قال الزمخشري: الْبَيْتَ الْحَرَامَ عطف بيان أريد به المدح، إذاً: هو عطف بيان، لكن هل أريد به الكشف؟ الكعبة اسمٌ من أسماء مكة، انتبه! فائدة مهمة:
الكعبة اسمٌ من أسماء مكة، حينئذٍ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ عَلَم، لو لم تعرف أنت علم، فإذا كان كذلك إذا قال:((الْبَيْتَ الْحَرَامَ)) [المائدة:97] هذا مدحٌ له بأنه بيتٌ مُحرَّمٌ، حينئذٍ نقول: جيء بعطف البيان هنا من أجل المدح، لكن هذا قليل نادر، وإلا الأصل أن يكون مبيناً بمعنى: أنه تنكشف به حقيقة سابقه، وهذا ما عناه الناظم في قوله:(حَقِيقَةُ القَصْدِ به مُنْكَشِفَهْ).
إذاً: يأتي للإيضاح، وهذا إنما يكون بعد المعارف، ويأتي للتخصيص، وهذا إنما يكون بعد النكرات، وهل يأتي للمدح؟ نعم، على قلةٍ على ما ذكره الزمخشري في الآية، وهل يأتي للتوكيد؟ قيل: نعم، يأتي للتوكيد، ومثلوا بقول القائل: يَا نَصْرُ نَصْرَاً نَصْرَا، لكن هذا ابن مالك أضعفه: بأنه إذا اتحد اللفظ فالأولى أن يكون من باب التوكيد لا من باب عطف البيان، يَا نَصْرُ نَصْرَاً نَصْرَا، نَصْرَاً نَصْرَا نقول: هذا توكيد أو عطف بيان؟ على ما تقرر في السابق: (وَمَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي مُكَرَّراً) الظاهر أنه توكيد لفظي، وهذا أولى، بأن يُقال: إن عطف البيان لا يأتي للتوكيد، لأنه إذا اتحد لفظه مع متبوعه انتقل إلى كونه توكيداً لفظياً، فلا بد أن يكون مبايناً لمتبوعه، فإن اتحدا حينئذٍ نقول: رجع إلى الأصل.
تَابِعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ
…
حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ ..
حَقِيقَةُ القَصْدِ، يعني: الأصل فيه ذلك، (حَقِيقَةُ القَصْدِ به مُنْكَشِفَهْ) يعني: انكشاف الذات التي هي المتبوع هذا المقصود .. المقصود به أصالةً هو الإيضاح والكشف، فلا يرد عطف البيان الذي للمدح وغيره، لماذا؟ لأنه وإن كان على قلة إلا أن الأصل والأكثر هو الإيضاح.
(حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ) قال بعضهم: أخرج النعت، أي: أنه فارَق عطف البيان النعت من حيث إنه يكشف المتبوع نفسه، يعني: بنفسه لا بمعنىً في المتبوع ولا في سببيه، ولذلك فُسِّرَ قوله:(بِهِ) يعني بنفسه، بخلاف النعت.
النعت: بما تضمنه من معنى، لاحظ معي: إذا قلت: جاء زيدٌ الفاضل .. جاء زيدٌ أخوك .. جاء زيدٌ الفاضل، الكشف والإيضاح حصل بالنعت لما فيه من معنى، لا بذات اللفظ، وأمَّا: جاء زيدٌ أخوك، فقلنا: مسمى أخوك هو عين مسمى زيد، فحصل الكشف بذات اللفظ لا بما تضمنه من معنى، لأنه كما سيأتي: عطف البيان لا يكون إلا جامداً، ففرقٌ بينهما من جهة أن عطف البيان يحصل به الكشف بذات اللفظ لا بما تضمنه من معنى، لأنه لا يتضمن معنى، لأنه ليس بمشتق بل هو جامد.
وأمَّا النعت فإنما يكشف لا بذاته، وإنما بما تضمنه النعت من معنى، معنىً في المتبوع، سواء كان حقيقياً أو في سببيه، وهو ما بعده .. الاسم المرفوع.
إذاً نقول: فارَق عطف البيان النعت: من حيث إنه يكشف المتبوع نفسه، لا بمعنىً في المتبوع، ولا في سببيه، وقيل: النعت خرج بقوله: شِبْهُ الصِّفَةْ، وهذا واضح .. هذا أجود، لأن شبه الشيء: غيره، وعليه فقوله:(حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ) لبيان الفرق بين النعت وعطف البيان لا للإخراج.
إذاً قوله: (شِبْهُ الصِّفَةْ) أخْرَج ثلاثة أنواع: عطف النسق، والتوكيد، والبدل، بقي ماذا؟ النعت، اختُلِفَ فيه: هل خرج بقوله: (شِبْهُ الصِّفَةْ) أو بقوله: (حقِيقَةُ القَصْدِ)؟ الظاهر أنه خرج بقوله: (شِبْهُ الصِّفَةْ) وحينئذٍ قوله: (حقِيقَةُ القَصْدِ) لا داعي له، لماذا؟ لأن عطف البيان شبه الصفة .. أشبه الصفة، أشبه الصفة في ماذا؟ في كونه موضحاً، وهو الذي دل عليه قوله:(حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ) إذاً: ليس فيه فائدة كبيرة بقوله: (حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ) فليس للإخراج، لأنه يُستغنى عنه بقوله:(شِبْهُ الصِّفَةْ) لأن شبه الشيء: غيره، لكن لمَّا كان هذا الشبه غير مُبيَّن فسره بقوله:(حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ).
يحتمل هذا، ويحتمل أنه إحالةٌ على ما سبق: النَّعْتُ تَابعٌ مُتِمٌّ مَا سَبَقْ، قلنا: المراد بكونه متماً ما سبق: أنه موضحٌ لمتبوعه في المعارف، ومخصصٌ لمتبوعه في النكرات، لما أحال هنا على ما هناك فسرناه بما سبق، حينئذٍ يكون تفسيراً لما أحال عليه.
عرفه في قطر الندى بقوله: " عطف البيان: هو تابعٌ موضحٌ أو مخصصٌ جامدٌ غيرُ مؤول " وهذا مما يرد على تعريف الناظم، أن قوله:(شِبْهُ الصِّفَةْ) الصفة لا تكون إلا مشتقةً أو مؤولةً بالمشتق، ولم ينص هنا على أن عطف البيان يشترط أن يكون جامداً، على عكس ما اشترط في النعت، هناك اشترط في النعت: أن يكون مشتقاً، فإذا وقع الجامد موقع النعت وجب تأويله بالمشتق، وهنا يشترط فيه أن يكون جامداً، فإذا وقع المشتق موقع عطف البيان، وجب تأويله بالجامد، هذا في نوعٍ واحد وهو العلم المنقول.
(تَابِعٌ) هذا جنس يشمل التوابع الخمسة.
وموضحٌ أو مخصصٌ: مخرجٌ للتأكيد وعطف النسق والبدل، لأنه ليس فيها توضيح ولا تخصيص: جاء زيدٌ نفسه، تقوية فقط، ليس فيه توضيح، جاء زيد واضح، ونفسه نقول: هذا تقوية، وعطف النسق: جاء زيدٌ وعمروٌ، هذا معطوف على سابقه ليس فيه توكيد ولا تخصيص، وللبدل تقول: أكلت الرغيف ثلثه، ليس فيه توضيح ولا تخصيص.
موضحٌ أو مخصصٌ جامدٌ: هذا أخرج النعت، لأن النعت لا يكون إلا مشتقاً.
غير مؤولٍ: أخرج النعت فيما إذا وقع جامداً مؤولاً بالمشتق، وهذا الحد أسلم من حد الناظم رحمه الله تعالى، بل واضح أن المراد بعطف البيان: التابع الموضح أو المخصص الجامد غير المؤول، وأمَّا كونه (تَابِعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ) هذا أشبه ما يكون برسم، وفيه إحالة وفيه إبهام، وفيه تعميم وليس بواضح، ويرد عليه ما سبق.
حينئذٍ نقول: تابعٌ موضحٌ أو مخصص جامدٌ غير مؤول، فاختص بكونه تابعاً، وبكونه مفيداً للتوضيح بعد المعارف، وللتخصيص بعد النكرات، كذلك يشترط فيه أن يكون جامداً، فإذا كان جامداً ثم وقع موقعه المشتق، حينئذٍ وجب تأويل المشتق بالجامد.
وغير مؤول: مخرجٌ لما وقع من النعوت جامداً، نحو: جاء زيدٌ هذا، هذا: جامد، هل نقول: عطف بيان؟ جاء زيدٌ هذا .. هذا: المشار إليه، إذاً: هو جامد، لكنه مؤول بماذا؟ بالمشتق، فلا نُعرِبه عطف بيان، لأنه وإن كان جامداً إلا أنه في قوة المشتق، ولذلك نقول: الجامد نوعان:
جامدٌ محضٌ خالص لا يؤول بالمشتق، وجامدٌ غيرٌ محضٍ في قوة المشتق .. مؤولٌ بالمشتق، وليست المسألة هكذا مفلوته، وإنما الجامد المؤول بالمشتق هو ما كان واحداً من تلك التسعة أو العشر التي ذكرناها سابقاً: اسم الإشارة، والمنسوب، والجملة، وشبه الجملة، إلى آخر ما ذكرناه، وأمَّا ما عداها فالأصل أنه جامدٌ محضٌ، فالتفريق بينهما واضحٌ بيِّن، فالجامد نوعان:
جامدٌ مؤول بالمشتق، وجامد غير مؤول بالمشتق، وعطف البيان الأصل فيه أن يكون جامداً محضاً، وقد يقع مشتقاً بشرط أن يكون مسماً به، الصديق .. قال أبو بكرٍ الصديق، الصديق: هذا عطف بيان، طيب! كيف عطف بيان هو فِعِّيل من صيغة المبالغة وهو مشتق؟! نقول: كونه فِعِّيلاً قَبل نقله وجعله لقباً، قال عمر الفاروق، فاروق: فاعول، فهو مشتق، حينئذٍ كيف وقع مشتقاً وهو عطف بيان، وعطف البيان لا يكون إلا جامداً؟! نقول: كونه مشتقاً قبل جعله علماً، وهذا بيَّناه سابقاً وقلنا: هذا مثله مثل الأعلام التي تكون مشتقة، صالح! يُسمى صالح وليس بصالح، نقول: كونه صالحاً قبل جعله علماً، وأمَّا صالح بعد جعله علماً فهو كزيد، زيد لا يدل على معنى، كذلك الأسماء التي في الأصل هي مشتقة سواء كان اسم فاعل .. اسم مفعول .. فعيل إلى آخره.
فإذا كان كذلك حينئذٍ إذا جُعِلَ علماً سُلِبَ منه المعنى الذي كان قبل العلمية.
إذاً: عطف البيان المراد به هنا: تَابِعٌ شِبْهُ الصِّفَةْ، وحَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ إذا قلنا: أنها تابعة .. داخلٌ في الحد أولى، على الخلاف الذي ذكرناه والأولى ما ذكره ابن هشام في قطر الندى.
عطف البيان، قال أبو حيان:" سُمي به لأنه تكرار الأول لزيادة البيان، فكأنك رددته على نفسه، بخلاف النعت والتوكيد والبدل " وقيل: سُمي عطف بيان أو عطف لأن أصله هو العطف، فأصل: جاء أخوك زيدٌ وهو زيدٌ هذا الأصل، لكن هذا يحتاج إلى دليل، جاء زيدٌ أخوك، أو جاء أخوك زيدٌ، أصل زيد وهو زيدٌ فحذفت الواو ثم الضمير، وهذا لا دليل عليه.
والكوفيون يسمونه: الترجمة، وهو الجاري مجرى النعت في تكميل متبوعه توضيحاً في المعارف، نحو: جاء أخوك زيد، جاء: فعل ماضي، وأخوك: فاعل، وزيد: عطف بيان، لأنك إذا قلت: جاء أخوك، أخوك من زيد أو عمرو أو خالد، إذا كان عنده عدة إخوة؟ فإذا قلت: جاء أخوك زيدٌ رجعت إليه، انظر جاء أخوك، ثم رجعت فبيَّنت من هو هذا أخوه؟ فقلت: زيدٌ، إذاً: حصل توضيح أو لا؟ حصل توضيح، هذا واضح بيِّن. وتخصيصاً في النكرات:((مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) [النور:35] شجرة مباركة نكرة هذا، يحتمل الزيتونة وغيرها، زيتونةٍ: خصها، مثلما تقول: جاءني رجلٌ، ثم تقول: طويلٌ، خصصته.
وتخصيصاً في النكرات، نحو:((مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) [النور:35] وقيل: توكيداً، وهذا قلنا: ضعيف، في المكرر بلفظٍ نحو: لقائل يَا نَصرُ نَصرٌ نَصراً، قال ابن مالك: الأولى عندي جعله توكيداً لفظياً وهذا أولى وهذا الظاهر، لأن عطف البيان حقه أن يكون للأول به زيادةٌ ووضوح، وتكرير اللفظ لا يتوصل به إلى ذلك، هذا شيء آخر أيضاً، يعني: إذا قيل: بأنه اتحد معه في اللفظ، هذا الأصل في التوكيد اللفظي، ثم زد على ذلك: أن الأصل في عطف البيان أن يكون موضحاً: (حَقِيقَةُ القَصْدِ بِهِ مُنْكَشِفَهْ) وإذا كرر اللفظ بعينه هو هو: جاء زيد زيد، هل حصل توضيح؟ ما حصل، هذا مثله .. هذا جيد.
ويجب جموده ولو تأويلاً، وبذلك يقابل النعت، والمراد بالجامد تأويل العلم الذي كان أصله صفةً فغلبت يعني: العلمية، "ولا يشترط كونه أخص من المتبوع أو غير أخصٍ في الأصح " هكذا نص عليه السيوطي في جمع الجوامع، ولا يكون عطف البيان مضمراً وفاقاً، يعني: لا يقع عطف البيان ضميراً، ولا تابعاً للمضمر على الصحيح، لأنه في الجوامد نضير النعت في المشتق، وجَوَّزه بعضهم في نحو: قاموا إلا زيداً، زيداً بيان للمضمر في قاموا، ولا يكون جملةً ولا تابعاً لها، لا يقع جملةً تابعاً عطف البيان، ولا تكون الجملة معطوفاً عليها بالبيان، يعني: لا يأتي عطف البيان عطفاً لجملة، وهو لفظٌ مفرد ولا العكس.
قال هنا الشارح: " وعطف البيان هو التابع الجامد المشبه للصفة " هذا تنكيت على الناظم، وهو قوله: التابع الجامد، يعني: يرد على حد الناظم بكونه لم يبيِّن أن عطف البيان يشترط فيه أن يكون جامداً، فنكت عليه فقال: التابع الجامد المشبه للصفة، انظر شِبْهُ الصِّفَةْ أبقاها كما هي، وزاد عليه: الجامد، وهذا جيد.
المشبه للصفة: أشبهه في ماذا؟ فَسَّره ابن عقيل في إيضاح متبوعه وعدم استقلاله، نحو:"أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ"، أَقْسَمَ: فعلٌ ماضي، وبِاللَّهِ: جار ومجرور متعلق بقوله: أَقْسَمَ، أَبُو حَفْصٍ: فاعل، عُمَرُ: بالرفع في الأصل عطف بيان، لأن "أبو حفص" هذا ما هو واحد، اثنين .. ثلاثة .. عشرة، فإذا قال: جاء أبو عبد الله، من هو أبو عبد الله؟ يحتمل، فإذا قال: جاء أبو عبد الله زيد، حينئذٍ تعين، حصل كشف وإيضاح لما سبق، فعمر: عطف بيان لأنه موضحٌ لأبي حفصٍ.
فخرج بقوله الجامد: الصفة، لأنها مشتقةٌ أو مؤولة به، وخرج بما عدا ذلك التوكيد وعطف البيان، لأنهما لا يوضحان متبوعهما، والبدل الجامد لأنه مستقل، الجامد البدل لأنه على إعادة العامل، سيأتي أنه جملة مستقلة، وأمَّا التوكيد وعطف النسق فلا يوضحان استقلالاً، وإلا يقع بهما التوضيح، ولكنه يكون تبعاً، يعني: ليس المقصود أصالةً بالتوكيد وعطف النسق أن يكون موضحاً، أي: لا يؤتى بواحدٍ منهما لقصد الإيضاح أو التخصيص استقلالاً، فإن أفاد واحدٌ منها شيئاً من ذلك كعطف أحد المترادفين على الآخر عطف نسق، وكبدل الكل من الكل فإن هذه الفائدة ليست مقصودة، لأن بدل الكل من الكل وإن أفاد الإيضاح، إلا أنه ليس هو الأصل، إذا قلت: جاء زيدٌ أخوك، على أن يكون أخوك هو بدل، فحينئذٍ نقول: حصل به إيضاح، جاء أخوك زيدٌ، زيدٌ: بدل من أخوك، حصل به إيضاح أو لا؟ حصل به الإيضاح، لكن ليس هو القصد الأصلي في البدل، وإنما هو القصد الأصل يكون في عطف البيان.
فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ
…
مَا مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ النَّعْتُ وَلِي
سبق أن النعت الحقيقي يجب أن يوافق متبوعه في اثنين من عشرة، أو أربعة من عشرة، في اثنين من خمسة هذا عام، والنعت الحقيقي: في أربعة من عشرة.
عطف البيان في ذلك مثل النعت الحقيقي، عطف البيان في موافقة متبوعه في أربعة من عشرة مثله، فيشترط في النعت: أن يكون مطابقاً لمنعوته إفراداً وتثنيةً وجمعاً وتنكيراً وتعريفاً وتذكيراً وتأنيثاً، هذا يشترط في النعت الحقيقي، مثله عطف البيان بإجماع، إلا مسائل خفيفة وقع فيها نزاع. أن يكون عطف البيان موافقاً لمتبوعه المُبَيَّن في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والتعريف والتنكير.
فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ
…
مَا مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ النَّعْتُ وَلِي
أَعرِبُوا: (فَأَوْلِيَنْهُ) الفاء هذه للتفريع، لأنه قال:(شِبْهُ الصِّفَةْ) أشبه الصفة، لمَّا أشبه الصفة أخذ حكمه، لما أشبه الصفة في كونه موضحاً في المعارف مخصصاً في النكرات أخذ حكمه.
(فَأَوْلِيَنْهُ) إذاً: الفاء للتفريع، أَوْلِ بمعنى: أعط، أولِ: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، (أَوْلِيَنْهُ) النون هذه فاعل .. توكيد أو فاعل؟ لماذا لا نقول فاعل؟ نريد أن نفحص، لماذا لا نقول: أَوْلِيَنْهُ، النون هنا فاعل؟ متى تكون النون فاعل؟ .. نون الإناث، وهل هذا الموضع منه؟ الجواب: لا، (فَأَوْلِيَنْهُ) إذاً النون هذه نون التوكيد الخفيفة، إذاً: فعل الأمر هنا مبني أو معرب؟ مبني، على ماذا؟ أصله: أولى كأعطى، إذا قلت: أعطينه، مبني على الفتحة، ترجع المحذوف .. هذا سيأتي: اخشين، حينئذٍ المحذوف يرجع، وهو الذي حذف من أجل البناء هنا.
(أَوْلِيَنْهُ) الياء هذه هي الألف في "أولى" رجعت على أصلها، (فَأَوْلِيَنْهُ)، والضمير المتصل هنا؟ مفعول به أوَّل لـ أَوْلِ، أين مفعوله الثاني؟ الاسم الموصول (مَا)، أَوْلِيَنْهُ، يعني: أعطينه، (مَا) اسم موصول بمعنى الذي، (مِنْ وِفَاق الأَوَّلِ)، مِنْ وِفَاق: جار ومجرور متعلق بقوله: أَوْلِ، (وِفَاقِ) مضاف والأَوَّلِ مضاف إليه، مَا: اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب مفعول ثاني لـ أَوْلِ.
(مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ النَّعْتُ وَلِي) النعت: مبتدأ، وولي .. وليَ: هذا فعل ماضي، والضمير العائد على (ما) محذوف، ما وليه .. ما النعت وليه، لأن جملة "النعت ولي": هذه لا محل لها من الإعراب صلة الموصول مَا؛ كأنه قال: ما النعت وليه من وفاق الأوَّل، فـ مِنْ وِفَاقِ الثانية متعلق بقوله: وَلِي، أي: وليه، والضمير المستتر في ولي عائدٌ على النعت، وتقدير البيت:[فأولينه من وفاق الأوَّلِ الذي النعت وليه من وفاق الأوَّلِ] هذا البيت فيه ركة.
(مِنْ وِفَاقِ) المراد بالوفاق الموافقة، والأول المراد به المتبوع، يعني: فأعطينه، الضمير يعود على عطف البيان، فأعطينه: أعط عطف البيان من موافقة الأول المتبوع ما أعطيته النعت الحقيقي من موافقته للأول، وذاك أربعة من عشرة.
لما كان عطف البيان مشبهاً للصفة لزم فيه موافقة المتبوع كالنعت، فيوافقه في إعرابه وتعريفه أو تنكيره، وتَذْكِيره أو تأنيثه، وإفراده أو تثنيته أو جمعه، حينئذٍ لا بد أن يكون موافقاً لما سبق.
وقوله: (النَّعْتُ) هنا وإن أطلقه إلا أن مراده النعت الحقيقي، لأنه هو الذي دخل في قوله:(شِبْهُ الصِّفَةْ).
قوله: (النَّعْتُ) أي: الحقيقي، لأنه يجب في البيان أن يكون كالمبيَّن في الإفراد والتذكير وفروعهما، كالنعت الحقيقي بخلاف السببي، وهذا مُجمعٌ عليه .. متفقٌ عليه بين النحاة، أي: وجوب مطابقة البيان والمبيَّن تعريفاً وتنكيراً وإفراداً وتذكيراً وغيره، فهذا متفقٌ عليه.
(فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ) أي: موافقة الأول المتبوع، أي: أعطينه ما النَّعْتُ أي: الحقيقي وليه، أي: أخذه من موافقة الأول، -هذا شرحٌ لحل البيت-، أعطينه ما النعت أي: الحقيقي، وليه أي: أخذه من موافقة الأول.
(فَقَدْ يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ) هذا مختلفٌ فيه، هل يشترط في عطف البيان أن يكون في المعارف أو يجوز في النكرات؟ الصواب: الثاني، أنه يجوز في النكرات، ولذلك قال:
فَقَدْ يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ
…
كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ
فَقَدْ: هذه للتفريع على قوله (فَأَوْلِيَنْهُ) .. تفريع على قوله: (فَأَوْلِيَنْهُ)، (فَقَدْ يَكُونَانِ) يعني: العطف ومتبوعه، يَكُونَانِ هذا فعل مضارع ناقص، والألف اسمه، مُنَكَّرَيْنِ خبر، والمراد بالألف هنا: عطف البيان ومتبوعه، قَدْ يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ .. كلٌ منهما نكرة، كقوله:((مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)) [إبراهيم:16] ماء: متبوع .. مبيَّن، وصديد: هذا عطف بيان، إذاً: وقعا نكرتين.
(كَمَا يَكُونَانِ) الكاف هذه للتشبيه، وما: مصدرية، (يَكُونَانِ) أي: عطف البيان ومتبوعه، مُعَرَّفَيْنِ وهذا متفق عليه .. المعرفان، وإنما وقع النزاع في التنكير، ولذلك عكس في التشبيه، يعني: الكاف هنا دخلت على المتفق عليه، والأصل العكس.
أشار بإتيانه بكاف التشبيه المفهمة للقياس الشبهي بل الأولي، لماذا الأولي؟ لأن احتياج النكرة إلى البيان أشد من غيرها، فإذا احتجنا أن يُبيِّن المعرفة فكذلك نحتاج أن يُبيِّن النكرة، بل هي أولى.
إذاً: (فَقَدْ يكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ) أن يكون عطف البيان والمتبوع كلٌ منهما نكرة، بل هو أولى من المعرفة، لأن النكرة أشد احتياجاً وافتقاراً إلى البيان من المعرفة، المعرفة كاسمها معرفة. إذاً: أشار بإتيانه بكاف التشبيه المفهمة للقياس الشبهي بل الأولي، أشار إلى خلاف من منع إتيانهما نكرتين، لأن ثَمَّ من نازَع.
(فَقَدْ يكُونَانِ مُنكَّرَيْنِ) لماذا؟ قالوا: لأن النكرة تقبل التخصيص بالجامد، النكرة ليست على مرتبة واحدة، قلنا: نكرة محضة ونكرة غير محضة، يعني: مخصصة، ثم التخصيص مراتب، إذاً: قد يُبيَّن المُخَصِّص المُخَصَّص، يعني: مُخَصَّص بأعلى، مُخَصَّص بأدنى، وقد يُبيِّن المُخَصَّص النكرة المحضة، إذاً: ليست على مرتبة واحدة، لأن النكرة تقبل التخصيص بالجامد، كما تقبل المعرفة التوضيح به، نحو: لبست ثوباً جبةً، ثوباً: هذا مفعولٌ به، جبةً: هذا عطف بيان، بَيَّن الثوب ما هو؟ جبةً، الثوب عام.
هذا مذهب الكوفيين: أنه يجوز أن يُخَصَّص النكرة بالنكرة، يعطف عطف بيان النكرة بالنكرة، وذهب غيرهم إلى المنع، بأن عطف البيان خاصٌ بالمعارف وأمَّا النكرات فلا، وهذا نُسِبَ إلى جمهور البصريين، وذهب غيرهم إلى المنع، وأوجبوا في الأمثلة التي ذكرها ابن عقيل هنا:((مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)) [إبراهيم:16] .. ((مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) [النور:35] هذه واردة، ((أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)) [المائدة:95] ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ)) [النبأ: 31 - 32] هذه كلها ذكرها الكوفيون على أن النكرة قد تكون نكرةً في باب عطف البيان، كلٌ منهما يُبيَّن بالآخر، وخَصّوا عطف البيان بالمعارف.
قال ابن عصفور وإليه ذهب أكثر النحويين، وقيل: هو مذهب البصريين، قال في الهمع:" ومنع البصرية جريانه على النكرة، وقالوا: لا يجري إلا في المعارف " يعني: عطف البيان لا يكون إلا في المعارف، أمَّا النكرات فلا، هذا مذهب البصريين، والصواب هو مذهب الكوفيين لوروده. وقيل: يختص عطف البيان بالعلم فقط اسماً أو كنيةً أو لقباً، وحجة من منع: بأن البيان بيانٌ كاسمه، والنكرة مجهولة، والمجهول لا يُبيِّن المجهول، إذا كانت النكرة مجهولة، وعطف البيان إنما جيء به للبيان، حينئذٍ المجهول لا يُبيِّن المجهول. ورُدَّ: بأن بعض النكرات أخص من بعضٍ، والأخص يُبيِّن الأعم .. الأخص من النكرات يُبيِّن الأعم مثلما قلنا: رجلٌ فصيح، فصيح: أخص، ورجل: عام، إذاً: صح ذلك.
وقول الزمخشري والجرجاني: يشترط كونه أوضحَ من متبوعه مخالفٌ لقول سيبويه: يَا هَذا ذَا الجُمَّة، إن "ذا الجمة" عطف بيان مع أن اسم الإشارة أوضح من المضاف إلى ذي الأداة، ولذلك اشترط الزمخشري أن يكون عطف البيان أوضحَ من متبوعه، وهذا ضعيف، لماذا؟ لأن سيبويه أعرب:(يَا هَذا ذَا الَجُمة)، ذَا الجمَّة هذا عطف بيان، وأيهما أعرف؟ اسم الإشارة أعرف، إذاً: وقع عطف البيان هنا أدنى، إذاً: لا يشترط فيه أن يكون مساوياً له لا في التعريف ولا في التنكير.
فَقَدْ يَكُونَانِ مُنكَّرَيْنِ
…
كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ
ذهب أكثر النحويين إلى امتناع كون عطف البيان ومتبوعه نكرتين، وذهب قومٌ منهم المصنف وهو مذهب الكوفيين إلى جواز ذلك:
فَقَدْ يَكُونَانِ مُنكَّرَيْنِ
…
كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ
قيل: ومن تنكيرهما قوله تعالى: ((يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) [النور:35] زيتونة: عطف بيان، وعند المانع: بدل، البصريون يعربونها بدلاً، ((وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)) [إبراهيم:16] صديد: عطف بيان، وعند البصريين .. المانعين: بدل، فزيتونة عطف بيان لشجرة، وصديد عطف بيان لماء، ((أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)) [المائدة:95] .. ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ)) [النبأ: 31 - 32] إذاً: هنا حصل عطف البيان النكرة للنكرة.
ثم وجد فيه ما اشترطه بقوله:
فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ
…
مَا مِنْ وِفَاقِ الأَوَّلِ النَّعْتُ وَلِي
فكان مطابقاً لما قبله.
وأمَّا قول الزَّمَخشَرِي: أن (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) عطف على (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)، في قوله تعالى:((فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)) [آل عمران:97] هل يصح أن يُعرَب مقام إبراهيم عطف بيان على ما سبق؟ الجواب لا، لماذا؟ لأن مقام إبراهيم وآيات بينات مخالفٌ للشرط الذي ذكره في قوله:(فَأَوْلِيَنْهُ) هل حصل تطابق بينهما، آيات جمع .. مقام إبراهيم واحد .. آيات مؤنث، مقام إبراهيم مذكر، آيات بينات: نكرة .. مقام إبراهيم معرفة، إذاً: خالفه في ثلاثة أشياء، ولا يمكن أن يكون نعتاً .. لا يمكن أن يكون عطف بيان.
وَصَالِحَاً لِبَدَلِيَّةٍ يُرَى
…
فِي غَيْرِ نَحْوِ يَا غُلَامُ يعْمُرَا
وَنَحْوِ بِشْرٍ تَابِعِ البَكْرِيِّ
…
وَلَيْسَ أَنْ يُبْدَلَ بِالمَرْضِيِّ
كل اسمٍ صح الحكم عليه بأنه عطف بيان مفيدٌ للإيضاح أو للتخصيص صح أن يُحكم عليه بأنه بدل كل من كل. كل ما صح إعرابه عطف بيان مفيدٌ للإيضاح أو للتخصيص، صح أن يحكم عليه بأنه بدل كل من كل مفيدٌ لتقرير معنى الكلام وتوكيده، لكونه على نية تكرار العامل من غير عكسٍ. يعني: يُعرب عطف البيان بدلاً، وليس كل ما صح إعرابه بدل أن يُعرب عطف بيان، لماذا؟ لأن عطف البيان كما سبق: أن العامل فيه هو العامل في المتبوع، إذا قلت: جاء زيدٌ أخوك، أخوك: هذا عطف بيان، أو جاء أخوك زيد، زيد: عطف بيان، ما العامل فيه .. الرفع؟ جاء نفسه.
وأمَّا إذا قلت: بأنه بدل حينئذٍ العامل فيه ليس هو جاء، وإنما هو عاملٌ محذوف مماثل للمذكور: جاء زيدٌ جاء أخوك، فأخوك معمولٌ لجاء المقدر هذا، وليس لجاء الملفوظ، إذاً: فرقٌ بينهما، جاء أخوك زيدٌ على أنه عطف بيان جملة واحدة، وجاء زيدٌ أخوك على أنه بدل جملتان، وفرقٌ بين الجملة والجملتين.
إذاً: كل ما أعرب عطف بيان صح أن يعرب بدل كل من كل من غير عكس، إلا ما استثناه الناظم رحمه الله تعالى، ولذلك قال:(وَصَالِحَاً) وإذا كان جائزاً حينئذٍ أيهما أولى؟ إذا جاز أن يُعرب عطف بيان، وقلنا: الأصل أن العطف .. عطف بيان، يجوز إعرابه بدل كل، أيهما أولى؟ عطف البيان؛ لأنه يجعله جملة واحدة، وإذا أمكن إيصال الكلام وجعله جملةً واحدة أولى من فصله وجعله جملتين، ولذلك عَبَّر عنه:(وَصَالِحاً).
قيل: أشار بالصلاحية إلى أن عطف البيان أولى من البدل في غير ما استثني، لأن الأصل في المتبوع ألا يكون في نية الطرح، -هذا سيأتي بحثه في البدل-، وألا يكون التابع كأنه من جملةٍ أخرى ثانية، لأنه على نية تكرار العامل، ثم جواز الأمرين بالنظر إلى صورة التركيب، وأمَّا بالنسبة لقصد المتكلم فلا يصح إلا أحدهما، يعني: إذا أنت تكلمت وقصدت الثاني عطف بيان ما يجوز أن يُعرب بدل، لماذا؟ لأن الجواز هنا باعتبار اللفظ نفسه لا باعتبار النية، إذا عُلِمَ قصد المتكلم ما جاز إلا أحدهما، إن عَنَى البدل تعيَّن، وهذا لا شك فيه واضح، وإن عَنَى عطف البيان لا يجوز إعرابه بدلاً.
يعني: لو أنا تكلمت الآن .. قصدت عطف البيان فقلت: جاء أخوك زيدٌ، لا يجوز أن تُعرِب زيد بدل، لأني قصدت ماذا؟ عطف البيان، يعني: عُلِمَ القصد، وأمَّا إذا لم يُعلَم فالتركيب من حيث هو: فكل ما جاز إعرابه عطف بيان جاز إعرابه بدل إلا ما استثني، إذاً: ليس على أطلاقه، وأمَّا بالنسبة لقصد المتكلم فلا يصح إلا أحدهما.
وَصَالِحاً لِبَدَلِيَّةٍ يُرَى
…
فِي غَيْرِ نَحْوِ يَا غُلَامُ يعْمُرَا
صالحاً: هذا مفعول ثاني ليُرَى، ويُرَى: هذا مُغيَّر الصيغة، و (لِبَدَلِيَّة) متعلق بقوله:(صَالِحاً)، وَيُرَى صَالِحاً لِبَدَلِيَّةٍ فِي غَيْرِ نَحْوِ، نحن نقول: ما أُعرِبَ عطف بيان صلح أن يُعرب بدل، إذاً: يُرَى، ما هو الذي يُرَى .. الضمير نائب الفاعل يعود على ماذا؟ عطف البيان، إذاً: يُرَى عطف البيان صالحاً لبدليةٍ، إذا استحضرت الضمير حينئذٍ عرفت المراد، يُرَى عطف البيان صالحاً لبدليةٍ، يعني: مطرداً مطلقاً إلا في موضعين:
أشار إلى الأول بقوله: (فِي غَيْر نَحْو يَا غُلَامُ يعْمُرَا) يَا غُلَامُ يعْمُرَا بضم الميم وفتحها علمٌ منقولٌ من المضارع منصوبٌ عطف بيان على محل غلام، هذا عطف بيان ولا يجوز إعرابه بدل كل من كل، لماذا؟ لأن شرط البدل والمبدل منه أنه يحل محله، كما سيأتي محله.
ولذلك هذه المسالة لو تؤخر في باب البدل لكان أجود، والفروق بين النوعين: عطف البيان وعطف البدل يذكرها النحاة في هذا المحل، والصواب تأخيرها إلى ما بعده.
إذاً: شرط البدل والمبدل منه أن يصح حلوله محل الأول، الثاني يصح أن يحل محل الأول فيتسلط عليه العامل مباشرةً، فإذا امتنع امتنع، هنا إذا قلنا ماذا؟ (يَا غُلَامُ يعْمُرا) غلام: هذا يا: حرف نداء، وغلام: منادى، ويعمرا: عطف بيان، هل يصح أن يُعرب بدل؟ لا يصح .. لا يصح حلوله محل غلام، لماذا لا يصح حلوله محل غلام؟ يعمرا حركة الراء الفتحة، منصوب إذاً، منصوب باعتبار محل غلام، أنت إذا نطقت .. أنا سمعت رجل يقول: يا غلام يعمرا، إذا أعربت كلامه حينئذٍ أقول: يا: نداء، غلام: مبني، يعمرا بالنصب، هو نطق به منصوباً، إذاً: عطف بيان باعتبار المحل، لو جوَّزت أن أعربه بدل كل من كل حينئذٍ لا بد أن يكون مدخولاً لـ (يا)، وإذا كان مدخولاً لـ (يا) حينئذٍ يكون: يَعْمُرُ، لو نطق به هكذا: يا غلامُ يَعْمُرُ قلنا: جاز، وأمَّا نطقه بالنصب نقول: يمتنع، لأن إعراب يَعْمُرَا يصح بدلاً بحيث يبقى على إعرابه كما هو ويَحل مَحل الأول، وهنا لا يصح أن يُقال: يا يَعْمُرَا بالنصب، لماذا؟ لأنه عَلَم، والعَلَم إذا وقع منادًى وجب بناؤه على الضم، فتقول: يا غلام يَعْمُرُ هذا الأصل، لو نطق به هكذا، قلنا: صح إعرابه بدل.
حينئذٍ لمَّا لم يصح إحلاله محل الأول امتنع إعرابه بدلاً لأنه منصوب في اللفظ، وليس المراد أنك تغير الحركة من عندك .. تبدل وتغير لا، إنما تنظر في المنطوق به الذي أمَّامك، فحينئذٍ تقول: يا غلام يَعْمُرَا بالنصب، لا يجوز أن يُعرب الثاني بدلاً، لماذا؟ لأنه إنما يجوز إعرابه بدلاً إذا صح إحلاله محل الأول وهو غلام، وهنا لا يصح لأنه منصوب، وغلامٌ مبني على الضم، امتنع إحلاله محل الأول.
(وَنَحْو بِشْر تَابِع البَكْرِيِّ) هذا يقصد به البيت:
أَنا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ
…
عليه الطَّيْرُ تَرْقُبُه وُقُوعاً
…
(أَنا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ) أين محل الشاهد؟ بشرٍ: هذا عطف بيان مِمَ؟ البَكْرِيِّ، ولذلك قال الناظم هنا:(ونَحْو) يعني: في غير، هذا المستثنى مما لا يجوز إعرابه بدل مع كونه عطف بيان، الأول غَلَامُ يعْمُرَا، الثاني:(وَنَحْوِ) هذا معطوف على: (غَيْرِ)، (بِشْرٍ تَابِعٍ البَكْريِّ) إذاً: البكري هذا متبوع، وبشرٍ: تابع له .. عطف بيان، ابن مالك يقول: لا يجوز أن يُعرب بدل، ما العلة؟ ما العلة في كونه لا يصح إعرابه بدل؟ البدل يحل محل المبدل منه، وهنا يصح ابْن التَّارِك بِشرٍ؟ لماذا لا يصح؟ نعم:
وَوَصْلُ أَلْ بِذَا المُضَافِ مُغْتَفَرْ
…
إِنْ وُصِلَتْ بِالثَّانِ كَالْجَعْدِ الشَّعَرْ
أنا ابن التارك بشرٍ، الضارب زيدٍ، هل يصح؟ الضارب زيدٍ لا يصح، لأن المضاف إذا حُلَِّي بـ (أل) مما يشابه يفعلُ، حينئذٍ لا بد أن يكون المضاف إليه قد حُلِّي بـ (أل) أو مضاف إلى ما فيه (أل):
وَوَصْلُ أَلْ بِذَا المُضَافِ مُغْتَفَرْ
…
إِنْ وُصِلَتْ بِالثَّانِ ............
إن لم توصل بالثاني لا يغتفر، فحينئذٍ (التَّارِكِ) اسم فاعل، وهو مضاف و (البَكْريِّ) مضافٌ إليه، (بِشْرٍ) هذا عطف بيان من المضاف إليه البَكْريّ، وحينئذٍ لمَّا لم يصح إحلال بشرٍ مقام البكري امتنع إعرابه بدل كل من كل، والسبب في ذلك أنه محلىً بـ (أل) المضاف، فلا يجوز.
(ونَحْو بِشْر تَابِع البَكْريِّ) أي: من كل تركيبٍ عطف فيه على اسمٍ خالٍ من (أل) معرَّف بها مضافٌ إليه وصفٌ مُحلى بـ (أل)، (وَلَيْسَ أَنْ يُبْدَلَ بِالمَرْضِيِّ) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم ليس، منه (بِالمَرْضِيِّ) المرضي: هذا خبر ليس دخلت عليه الباء الزائدة. هذا فيه تنكيت أو رداً على من جَوَّز الضارب زيدٍ وهو الفراء، يعني: ليس أن يُبدل منه بشرٍ من البكري بالمرضي، وإن جَوَّزه الفراء بناءً على جواز: الضارب زيدٍ، لأنه لم يشترط في المضاف إليه شيءٍ، وهذا راجعٌ للصورة الثانية، وصرح به مع علمه مما قبله رداً على الفراء المجوِّز للأول.
إذاً القاعدة العامة: أنه يصح كل ما أُعرِبَ عطف بيان أن يُعرب بدل كل من كل من غير عكس، إلا فيما استثناه الناظم والقاعدة فيه .. الضابط العام: أن يمتنع إحلاله محل الأول، فإن لم يمتنع حينئذٍ صح إعرابه بدل كل من كل. والضابط العام: إن لم يمتنع إحلاله محل الأول فإن امتنع حينئذٍ لا يصح، ومن صور الامتناع: يا زيد الحارث، الحارث: هذا عطف بيان، ولا يجوز إعرابه بدل كل من كل، لماذا؟ لأنه محلى بـ (أل) والمحلى بـ (أل) لا يتلوا ياء النداء إلا في صور معدودة، مستثناة وهذا ليس منها، لأنه لا يصح أن تقول: يا الحارث! هنا ليس كالسابق: (يَا غُلَامُ يعْمُرا) يعْمُرَا: هذا عَلَم، لو كان: يعْمُرُ لصح، وهنا: يا زيد الحارث بالبناء على الضم، نقول: هذا لا يصح أن يكون بدل كل من كل .. من زيد، لماذا؟ لأنه يُقال: يا الحارث، لأن مدخول (أل) لا تدخل عليه ياء.
من كل منادًى أتبع بما فيه (أل) فإنه لا يجوز لك أن تقول: يا الحارث فتنادي ما فيه (أل)، ونحو كذلك: يا أيها الرجل زيدٌ، فالرجل نعت لأي، وزيد عطف بيان عليه، ولا يصح أن تقول: يا أيها زيد، فيُعرَب عطف بيان ولا يجوز أن يُعرب بدل.
فيجوز أن يُعرَب عطف بيان ولا يجوز أن يُعرب بدل لأنك تقول: يا أيها الرجل، الرجل نعت لأي، وزيد: هذا عطف بيان، حينئذٍ لا يصح أن يكون بدل كل من كل.
ومنه: يا زيد هذا، كذلك يُعرب هذا: عطف بيان، ولا يجوز أن يُعرب بدل كل من كل، لماذا؟ لأنه كما سيأتي أن هذا إذا وقع منادًى لا بد من وصفه بمحلًى بـ (أل) وهنا لم يحل بـ (أل) لم يوصف، يا زيدُ هذا هكذا، نقول: هذا عطف بيان، ولا يجوز أن يُعرب بدل كل من كل، لماذا؟ لأنه إذا قيل: يا هذا لم يُنعت بما فيه (أل) وهذا ممتنع.
ومنه: زيدٌ أفضل الناس الرجال والنساء، زيدٌ: مبتدأ، أفضلُ: خبر، الناسِ: مضاف إليه، الرجالِ والنساءِ، أفعل التفضيل إذا أُضِيف صار بعضاً من المضاف إليه، إذا قيل: زيدٌ أفضل الناس الرجالِ، نقول: هذا عطف بيان، ولا يجوز أن يُعرب بدل، لماذا؟ لأنك إذا أعربته بدل صار زيدٌ أفضل بعض الرجال وبعض النساء، هذا المعنى فاسد أو صحيح؟ فاسد، لماذا؟ لأنه بإعادة العامل أفضل الناس، العامل في الناس ما هو؟ أفضل، فإذا أعربته بدل حينئذٍ أفضل الرجال يعني: بعض الرجال والنساء معطوفٌ عليه، فصار أفضل بعض النساء، وهذا فاسد المعنى.
إذَاً القاعدة العامة: أنه متى ما صح إحلال العطف .. عطف البيان محل سابقه جاز أن يُعرب بدل كل من كل.
قال الشارح هنا: كل ما جاز أن يكون عطف بيان جاز أن يكون بدلاً -من غير عكس-، نحو: ضربت أبا عبد الله زيداً، زيداً: عطف بيان، وبدل كل من كل، واستثنى المصنف من ذلك مسألتين تتعيَّن فيهما كون التابع عطف بيان:
الأولى: أن يكون التابع مفرداً معرفةً معرباً، والمتبوع منادًى، نحو:(يَا غُلَامُ يعْمُرَا) فيتعيَّن أن يكون يعمُرَا عطف بيان، ولا يجوز أن يكون بدلاً، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكان يجب بناء يعْمُرَا على الضم، لأنه لو لفظ بياء معه لكان كذلك، إذاً: المثال بالنصب، أمَّا لو رفعه بالضم لا إشكال فيه يجوز.
الثانية: أن يكون التابع خالياً من (أل) والمتبوع بـ (أل) فقد أضيفت إليه صفةٌ بـ (أل) نحو: أنا الضارب الرجل زيدٍ، فيتعين كون زيد عطف بيان ولا يجوز كونه بدلاً من الرجل، لأن البدل على نية تكرار، وسبق أن ثَمَّ خلاف في هذا، هل يصح أن يعطف أصلاً مما لا يصلح أن يكون مضافاً إليه أو لا؟ سبق معنا هذا: أنه يُغتَفر في التوابع .. في الثواني ما لا يُغتَفر في الأصول. ولا يجوز كونه بدلاً من الرجل، لأن البدل على نية تكرار العامل، فيلزم أن يكون التقدير: أنا الضارب زيدٍ، ولا يجوز ذلك، لما عرفت في باب الإضافة من أن الصفة إذا كانت بـ (أل) لا تضاف إلا إلى ما فيه (أل) أو ما أضيف إلى ما فيه (أل).
ومثله: الضارب .. أنا الضارب الرجل زيدٍ، قول الشاعر:(أَنا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ) فبشرٍ: عطف بيان، ولا يجوز كونه بدلاً، إذ لا يصح أن يكون التقدير: أنا ابن التارك بشرٍ، وأشار بقوله:(وَليْسَ أَنْ يُبْدَلَ بِالمَرْضِيِّ) إلى أن تجويز كون بشرٍ بدلاً غير مرضيٍّ، وقصد بذلك التنبيه على مذهب الفراء والفارس، لأنه يجوز عندهما: الضاربُ زيدٍ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!