الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* حذف المعطوف وحرف العطف
* حذف المعطوف عليه
* عطف الفعل على الفعل ، عطف الفعل على الشبيه بالفعل والعكس. (خاتمه) ـ
* شرح الترجمة. البدل. وحده
* أنواع البدل
* إبدال الظاهر من الضمير إلى ضمير
* الإبدال من اسم الإستفهام
* إبدال الفعل من الفعل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ
…
وَالْوَاوُ إِذْ لَا لَبْسَ وَهْيَ انْفَرَدَتْ
بِعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي
…
مَعْمُولُهُ دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي
وقفنا عند قول الناظم رحمه الله تعالى:
(وَالفَاءٌ) قلنا: هذا مبتدأ، (قَدْ) للتقليل، و (تُحْذَفُ) هذا فعل مضارع مُغيَّر الصيغة، ونائب الفاعل ضمير يعود على الفاء، وقوله (مَعْ) هذا ظرفٌ مُتَعلِّق بقوله:(تُحْذَفُ)، و (مَا) اسمٌ موصول بمعنى: الذي مضاف إليه، و (مَعْ) مضاف كما سبق أنها ملازمةٌ للظرفية:
وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ ..
و (عَطَفَتْ)، (عَطَفَ) فعل ماضي مبني على الفتح، والتاء هذه حرف تأنيث مبنيٌ على السكون، والفاعل: ضمير مستتر تقديره هي، لأنه أنث هنا، ما حكم التأنيث؟ واجب، لماذا؟ إذا عاد الضمير على مُتَقدِّم .. مطلقاً سواءٌ كان مُؤنَّثاً مجازياً أو حقيقياً وجب التأنيث: الشمس طَلَعَتْ واجب التأنيث، هندٌ خَرَجَتْ واجب التأنيث، خَرَجَتْ هندٌ واجب تأنيث، طَلَعَتْ الشمس جائز التأنيث.
يُقال: طلعت الشمس وطلع الشمس، مثل: قالت الصحابة .. قال الصحابة، الصحابة: هذا جمع تكسير، فهو مجازٌ من حيث كونه مؤولاً بالجماعة، إذاً:(عَطَفَتْ) أين العائد .. الضمير؟ الجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول الذي هو: الذي، أين العائد؟ الضمير: عَطَفَتْه، الضمير المحذوف، إذاً: عَطَفَ يتعدى إلى مفعول وهو محذوف هنا: عَطَفَتْه، وليس الفاعل هو؛ لأن الفاعل لا يعود على (مَاَ) مع معطوفها، الاسم الموصول مع ما دخلت عليه في تأويل مُشتَق، كأنه قال: والفاء قد تُحذف مع مَعْطُوفها، يعني: مع الذي عطفته.
(وَالْوَاوُ) كذلك، الواو: مبتدأ، وخبره محذوف تقديره كذلك .. الواو كذلك.
إذاً: تَختَّص الفاء والواو بجواز حذفهما مع معطوفهما، لدليلٍ .. القاعدة العامة، هنا لم يُبيِّن الناظم لكنه في كل بابٍ إذا جَوَّز الحذف إنما يُقيِّده:(إِذَا عُلِمْ) .. حَيْثُ لَا لَبْسَ .. (وَحَذفُ ما يُعْلَم جائزٌ) إذاً: قاعدة عامَّة كما ذكرناه سابقاً، ولذلك نجعل قوله في باب المبتدأ والخبر:(وَحَذفُ مَا يُعْلَم جَائزٌ) بأنها قاعدة عامة تشمل أبواب النحو كله من أوله آخره، لا يحذف أبداً إلا ما عُلم، وما لم يعلم الأصل فيه عدم الحذف إلا إذا جُوِّز في بابٍ مُعيَّن فيختص به الجواز ولا يَتعدَّى.
هنا: (وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ
…
وَالْوَاوُ) يعني: حرف العطف الواو تُحذف هي ومعطوفها، وكذلك: الفاء حرف عطف تُحذف هي ومعطوفها، لكن لا بُدَّ من دليلٍ وقرينة إمَّا لفظية أو حالية، حالية بمعنى: أنه يكون ثَمَّ شيءٌ خارج عن اللفظ وإنما يقتضيه المقام، وأمَّا اللفظية تكون في السياق.
مثال الفاء قوله تعالى: ((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَت)) [البقرة:60] هنا ظاهر اللفظ غير مُراد، لماذا؟ لأننا لو قلنا:((فَانفَجَرَت)) [البقرة:60] ليس ثَمَّ معطوف .. محذوف، حينئذٍ وقع الانفجار في مقابل:((فَقُلْنَا اضْرِبْ)) [البقرة:60] .. ((اضْرِبْ فَانفَجَرَتْ)) [البقرة:60] إذاً: موسى ليس له دور في هذه المعجزة، فحينئذٍ نقول: إذا جعلناه على ظاهره ((اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ)) [البقرة:60] انفجار الحجر صار مقابلاً لأمر الله تعالى: ((اضْرِب ْفَانفَجَرَت)) [البقرة:60] إذاً موسى مأمور بأي شيء؟ إذاً: فضربَ فانفجرت، إذاً: الفاء هي حرف العطف، وضرب: هذا معطوفٌ على قوله: (فَقُلنا).
((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ)) [البقرة:60] أي: فضرب فانفجرت، وهذا الفعل المحذوف معطوفٌ على:(فَقُلنا) إذاً: من ظاهر السياق قرينة واضحة بينة أنه لا يمكن أن يكون قوله: فانفجرت مقابلاً لقوله: اضرب أو فقلنا، لماذا؟ لأنه لو كان الأمر كذلك على ظاهره، لما كان لأمر موسى شأن، وإنما المراد أن يظهر لموسى فضل هذه المعجزة، حينئذٍ لا بُدَّ من تقديرٍ، ونقول هنا: حذفت الفاء مع مدخولها، وهذا جائزٌ متفقٌ عليه.
ومَثَّل بعضهم بقوله تعالى: ((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) [البقرة:184] فأفطر .. جمهور الفقهاء على تقدير: فأفطر، خلافاً لابن حزم رحمه الله تعالى، إذا لم نُقدِّر وجعلنا الظاهر هو المراد، حينئذٍ كل من كان مريضاً أو على سفر صام أو لا عليه القضاء، وبهذا قال ابن حزم رحمه الله تعالى، أمَّا إذا جعلنا ثَمَّ محذوفاً وهو الفاء ومعطوفها، حينئذٍ نُقدِّر: فأفطر فعليه عدةٌ، عدةٌ ما إعرابه؟ مبتدأ، أين خبره؟ فعليه، يعني: محذوف، إذاً عدةٌ: هذا مبتدأ، وعليه: هذا خبر محذوف، فعليه عدةٌ مطلقاً سواءٌ صام أو لا، ودلت السنة على خلاف هذا، فحينئذٍ علمنا أن في الآية محذوفاً وهو: فأفطر، الفاء ومدخولها.
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ
…
وَالْوَاوُ. . . . . . . . .
مثاله في الواو قول القائل:
فَمَا كانَ بَيْنَ الخَيرِ لَوْ جَاء سَالماً ..
فما كان بين الخير وبيني، حذف الواو مع معطوفها، ومثله قوله تعالى:((سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)) [النحل:81] أي: والبرد، حذف الواو مع مدخولها، وهذان الحكمان: حذف الواو أو الفاء مع معطوفهما متفقٌ عليه بين النحاة.
إذاً:
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ
…
وَالْوَاوُ. . . . . . . . .
لكنه قليل .. هذا الأمر قليل ليس بالكثير، إنما في مواضع، ولذلك نشترط فيه: أن يكون ثَمَّ قرينة واضحة بينة تدل على حذف حرف العطف والمعطوف.
(والْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ) مع ما عطفته .. يعني: مع معطوفها.
(والْوَاو كذلك إِذْ لَا لَبْسَ) قَيَّده الناظم: (ِإذْ لَا لَبْسَ) هو قيد فيهما، يعني: في حذف الفاء مع معطوفها، والواو مع معطوفها، لأنه ذكر جملتين ثُم ذكر:(إِذْ لَا لَبْسَ).
(وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ
…
والْوَاوُ) الفاء قد تحذفُ: هذه جملة مبتدأ وخبر، (وَالْوَاوُ) جملة كذلك مبتدأ وخبر، ثُمَّ عَلَّل الحكمين:(إِذْ لَا لَبْسَ) وهو قيدٌ في النوعين: حذف الفاء مع معطوفها، والواو مع معطوفها، أي: وقت عدم اللبس، فـ (إذ) ظرفية لا تعليلية .. لا يمكن يُتصور أنها تعليلية، تعليل للحذف محتمل، لكن الأولى أن يُقال: بأنها ظرفية، فـ (إذ) ظرفية لا تعليلية.
(إِذْ لَا لَبْسَ) لا: نافية للجنس تعمل عمل (إنَّ)، ولبس: اسمها.
عَمَلَ إِنَّ اجْعَلْ لِلَا فِي نَكِرَهْ ..
لَبْسَ: هذا نقول: اسم لا مبنيٌ معها على الفتح في محل نصب، (إذْ لَا لَبْسَ)، والخبر محذوف، إذ لا لبس موجودٌ.
. . . . . . . .
…
. . . . . وَهْيَ انْفَرَدَتْ
بِعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي
…
مَعْمُولُهُ. . . . . . .
(وَهْيَ) أي الواو؛ لأن الضمير هنا يعود إلى أقرب مذكور .. الواو، (انْفَردَتْ) من بين حروف العطف (بعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ) يعني: محذوف (قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ) يعني: انفردت الواو عن سائر أخواتها من حروف العطف بأنه يُعْطَف بها عاملٌ محذوف، وهذا العامل المحذوف له معمول، بقي المعمولُ وحُذِفَ العامل.
(دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي)، (دَفْعَاً) هذا مفعول لأجله، (لِوَهْمٍ) هذا مُتَعلِّق به، و (اتُّقِي) أي: حُذِرَ.
(وَهْيَ) مبتدأ، (انْفَرَدَتْ) كعطفت، والجملة خبر، (بِعَطْفِ عامِلٍ) بِعَطْفِ: جار مجرور مُتَعلِّق بقوله: (انْفَرَدَتْ)، و (عَطْفِ) مضاف و (عَامِلٍ) مُضاف إليه، (مُزَالٍ) أي: محذوف .. أزِيل، يعني: حذف عبَّر بالإزالة عن الحذف، محذوفٍ مُزَالٍ: هذا صفة لعامل.
(قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ) هذه الجملة في محل جر صفة ثانية لعامل، (عَامِلٍ) وصفه بوصفين: كونه مزالاً أي: محذوفاً، وكونه (قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ) قَدْ: هنا للتحقيق، و (بَقِي) هذا فعل ماضي، (مَعْمُولُهُ) هذا فاعل.
وإنما لم يُجعل العطف فيهن على الموجود دفعاً لوهم اتقي، يعني: لا بُدَّ أن نَجعل المعطوف هنا على محذوفٍ، متى؟ إذا كان ثَمَّ وهمٌ، وهذا سبق مثاله في باب:
عَلَفْتُهَا تِبناً ومَاءً بَارِداً .. المفعول معه.
قلنا: (عَلَفْتُهَا تِبناً وَمَاءً)، (وَ) حرف عطف، وَهْيَ انْفَرَدَتْ بِعَطْفِ عامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ)، (مَاءً)، (مَاءً) هنا لو عطفناه على عَلَفْتُهَا، الماء لا يُعلف، أليس كذلك .. فيه شك؟ إذاً: لا بُدَّ أن يكون ماء معمولاً لعامٍل محذوف معطوف على سابقه، فالواو على أصلها: حرف عطف، وماءً: معمول، أين العامل؟ محذوف، إذاً: الواو قد عطفت عاملاً محذوفاً تقديره: سقيتها، وبقي معموله وهو: ماءً، لماذا؟ (دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي)، لماذا قَدَّرنا أن ثَمَّ عاملاً؟ لأنه يحتمل، الأصل عدم الحذف، فإذا أمكن حمل الظاهر أن يكون معطوفاً على سابقه فهو الواجب والمتعين، أمَّا إذا لم يُمكن حينئذٍ لا بُدَّ من تقدير عاملٍ محذوف، والواو عاطفة لذلك العامل على سابقه، وأن المعمول الباقي .. الذي بقي، هذا معمولٌ لذلك العامل المحذوف:
(وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونا)، (زَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ) هذا فعل، وفاعل، ومفعول به، والعُيُونا: الواو حرف عطف، والعُيُونا الأصل: معطوف على الحَوَاجِبَ، متى تُقدِّر العامل وتجعل الواو عطفت عاملاً محذوفاً؟ إذا كان ثَمَّ وهمٌ أو لبسٌ، أو لا يُمكن الجمع مع العامل السابق، حينئذٍ لا بُدَّ من التقدير، (زَجَّجن الحَوَاجِبَ) يعني: أخذن من الحواجب .. نمص، والعيون: العيون ما تزجج، إذاً: نُقدِّر له عامل يناسبه: وكحلن العيون، العيون تُكْحل.
إذاً: (وَزَجَّجن الحَوَاجِبَ وَالعُيُونا)، إذاً: العيون هذا عامل لمعمولٍ حُذِفَ بعد الواو، عطفته الواو وبقي معموله، لماذا قدرنا هذا والأصل عدم التقدير؟ (دَفْعَاً لِوَهْم اتُّقِي)، ما هو هذا الوهم؟ أن يكون العيون معطوفا على الحواجب هذا ممتنع، وأن يكون: ماءً، معطوفاً على علفت هذا ممتنع، إذاً: لا بُدَّ من التقدير.
(وهْيَ انْفَردَتْ) أي: الواو، (بعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ) أي: محذوف، (قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ) مرفوعاً كان، أو منصوباً، أو مجروراً مُطلقاً؛ لأنه أطلق قال:(قَدْ بَقِي مَعْمُولُهُ) فالعامل حينئذٍ يحتمل أن يكون فعلاً، وأن يكون حرفاً، أو اسماً مضافاً، وسبق هذا بيانه في باب الإضافة.
مثلوا للمرفوع بقوله: ((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] بناءً على أنه ليس معطوفاً على الضمير ((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] أي: وليسكن زوجك:
والشَّأنُ لَا يُعتَرَض المِثَالُ
…
إذْ قَدْ كَفَى الفَرْضُ والاِحتِمَال
أو منصوباً نحو قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) [الحشر:9] التبوء: المنزل، والإيمان لا يتبوأ .. هذا الأصل، إذاً:((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) [الحشر:9] وألفوا الإيمان، الإيمان: هذا مفعولٌ به لفعلٍ محذوف عامل: عطفته الواو على ما قبله: ألفوا الإيمان.
أو مجروراً نحو: مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً وَلَا سَوْدَاءَ تمْرَةً، أي: ولا كل سوداء، ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة، سوداء هذا نقول: معمول لعامل محذوف تقديره: كل.
إذاً: (دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي) أي: حُذِرَ، وهو: أنه يلزم في المثال الأول: ((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] رفع الأمر للاسم الظاهر، لو لم نُقَدِّم أن يكون الأمر قد رفع الاسم الظاهر، وهذا مُغتَفَر لأنه في الثواني، لكن كمثال:((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] قالوا: زوجُ: هذا مرفوع بعامل محذوف مُزَال .. قد حُذِفَ، وبقي معموله وهو فاعل، ليس معطوفاً على الضمير المستتر، وإن كان الأولى جعله على الضمير المستتر، لكن هذا وجه آخر .. يَحتمل.
((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)) [البقرة:35] أي: وليسكن زوجك، زوجك: هذا فاعل لفعلٍ محذوف، والواو هنا عطفت عاملاً مُزَالاً قد بقي معموله.
وفي الثاني: كون الإيمان متبوأ وإنما يُتَبَوأُ المنزل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) [الحشر:9] الدار: شيء محسوس، والإيمان: ما يُتَبَوأ، وألفوا الإيمان.
وفي الثالث: العطف على معمُوليِّ عاملين مختلفين: ما كل بيضاء شحمَة ولا سوداء، لا بُدَّ من تقدير عامل لئلا يلزم هنا العطف على معمولين لعاملينِ مختلفينِ، والعاملان:(ما) و (كل)، والمعمولان: بيضاء وشحمَة.
إذاً (دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي) لا بُدَّ من تقدير عاملٍ محذوفٍ بعد الواو، عطفت الواو ذلك العامل المزال المحذوف مع بقاء عمله، وهذا خلاف الأصل، وإنما يُلجأ إليه (دَفْعَاً لِوَهْمٍ اتُّقِي) دُفِعَ: حُذِرَ يعني، (اتُّقِي) أي: الوهمُ، والجملة صفة لوهمٍ، (دَفْعَاً) مفعولٌ لأجله، و (لِوَهْم) مُتَعلِّق بـ:(دَفْعَاً) لأنه مصدر، و (اتُّقِي) هذا فعل وفاعل، الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الوهم، والجملة في محل صفة لوهمٍ.
إذاً:
وَالفَاءُ قَدْ تَحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ
…
وَالْوَاوُ إِذْ لَا لَبْسَ وَهْيَ. . . . .
أي: الواو دون الفاء، بل دون سائر حروف العطف (انْفَرَدَتْ بِعَطْفِ عَامِلٍ) قد أزيِل .. حُذِفَ، وبقي معموله دفعاً لوهمٍ يمكن أن يتلبس بالتركيب.
فائدة: وقد يُحذف العاطف وحده على قول الفارسي، وابن عصفور، ومنعه ابن جني والسهيلي، يَمر معنا: أن هذا على إسقاط حرف العطف، وهذه المسألة فيها نزاع كما ذكرنا، هل يحذف أو لا؟ نقول: يُحذف العاطفُ وحده على قول الفارسي ومن ذُكر معه، وإنما جاز حذف حرف الاستفهام اتفاقاً؛ لأن للاستفهام هيئة تُخالف هيئة الإخبار، يعني: زيدٌ قائمٌ، هذا له هيئة تُخالف هيئة الإخبار، حينئذٍ جاز حذف حرف الاستفهام اتفاقاً، هذا متفق عليه، وإنما وقع النزاع فيما عدى حرف الاستفهام.
ومنه: كيف أصبحت كيف أمسيت؟ يعني: وكيف أمسيت؟ وفي الحديث: {تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ} قالوا: هذا على حذف حرف العطف، يعني: تصدق رجل من ديناره، ومن درهمه، ومن صاع بره، ومن صاع تمره، هذا نقول: على حذف حرف العطف.
وحكا أبو عثمان عن أبي زيد، أنه سُمِعَ: أَكَلتُ خُبزاً لَحْماً تَمْراً، يعني: جمع بينها كلها: أكلت خبزاً ولحماً وتمراً، ولا يكون ذلك إلا في الواو و (أو)، يعني: الحذف .. حذف حرف العطف، إن جاز إنما يكون في الواو و (أو) على جهة الخصوص، وأمَّا ما عادها فلا، لكثرة استعمال الواو، وإذا حذفت الواو قد يُعْلَم أن ثَمَّ عطف، وحينئذٍ لو كان بالفاء و (ثُم) و (أم) نقول: لا يصلح، لماذا؟ لأن هذه لها معاني خاصة، فإذا حذفت قد يُوقع في اللبس.
وكذلك الواو لا تُحذف إذا أوقع حذفُها في اللبس، كأن يُتَوقع أن ما بعدها بدل مما قبله أو عطف بيان ونحو ذلك، إذا احْتُمِلَ ذلك مُنِعَ، وأمَّا إذا ظهر العطف حينئذٍ على رأي ابن مالك ومن ذُكِرَ: يجوز حذف الحرف بشرط أن يكون واواً، أو (أو).
قال الشارح هنا: " وقد تُحذف الفاء مع معطوفها للدلالة، ومنه قوله تعالى:((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) [البقرة:184] أي: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، فحُذِفَ أفطر، والفاء الداخلة عليه، وكذلك الواو، ومنه قولهم:(رَاكِبُ النَّاقَةِ طَليِحَانِ)، (راكب النَّاقةِ والنَّاقةُ طليحان) يعني: ضعيفان، هنا واضح راكب الناقةِِ طليحان، أن ثَمَّ معطوف ومعطوف عليه، لأنه قال:(طليحان) هذا خبر، وراكب الناقةِ واحد، إذاً: أخبر باثنين عن واحدٍ، إذاً لا بُدَّ من التقدير: راكب الناقةِ والناقةُ، حُذِفَتْ الواو (مَعْ مَا عَطَفتْ) حينئذٍ نقول: الذي دَلَّ على الواو (إِذْ لَا لَبْسَ) كون الخبر مُثنَّى، لكن هل يصح: راكبُ الناقةِ طليحٌ، ثم نقول: ثَمَّ حذفٌ؟ لا، وإنما طليحان.
وانفردت الواو من بين حروف العطف بأنها تَعْطِف عاملاً محذوفاً بقي معمول، الناظم هنا خَصَّ الواو، وابن هشام رحمه الله استدرك عليه الفاء التي تقع بعدها الحال.
الفاء تَعْطِِفُ عاملاً محذوفاً بقي معمول: اشتريت بدرهمٍ فصاعداً: فذهب الثمن صاعداً، هذه الفاء تعطف صاعداًً هذه حال تدل على التدريج، أين عاملها؟ محذوف، أي: فذهبَ الثمنُ صاعداً، لأن تقديره: فذهب الثمن صاعداً، ومنه البيت الذي ذكرناه.
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ
…
وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحّ
(وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ) أي: معطوفٍ عليه.
فيما سبق الواو والفاء تحذف المعطوفَ، والآن حذف المعطوف عليه .. المتبوع السابق، الأول الفاء مع ما بعدها، والواو مع ما بعدها، وهنا لا، الحذف يتعلق بالمعطوف عليه، وذكرنا حذف العاطف نفسه، إذاً الأقسام ثلاثة:
قد يُحذفُ حرف العطف وحده، وقلنا: هذا محصورٌ في الواو و (أو).
ثانياً: يُحذف المعطوف مع الحرف، وهو الذي عناه بقوله:(وَالْفَاءُ) .. (وَالْوَاوُ) كذلك.
الثالث: حذف المعطوف عليه، وهذا الذي عناه بهذا البيت:(وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ)، (اسْتَبِحْ) يعني: اجعله مباحاً .. استبحه فافعله.
(حَذْفَ مَتْبُوعٍ) هذا مفعولٌ به مُتَقدِّم وهو مضاف و (مَتْبُوعٍ) مضافٌ إليه، (بَدَا) يعني: ظهر (هُنَا) في هذا المحل، وهو ما يتعلق بالفاء والواو .. ليس مُطلقاً، وإنما هنا في هذا الموضع. أي: حذف المتبوع وهو المعطوف عليه جائزٌ إذا ظهر معناه، ولذلك قَيَّده بقيدين:
(هُنَا) يعني: في الفاء والواو.
و (بَدَا) يعني: ظهر معناه، لا بُدَّ من هذا القيد وهو قيدٌ عام، أي: حذفَ المتبوع وهو المعطوف عليه جائزٌ إذا ظهر معناه.
(وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ) كقول بعضهم: وَبكَ وَأهلاً وَسهلاً، هذه ثلاث واوات، الأولى: عاطفةٌ لجملة على جملة. جواباً لمن قال له: مرحباً بك، يقول: وبكَ وأهلاً وسهلاً، والتقدير: ومرحباً بك وأهلاً، الواو الأولى: لعطف جميع الكلام على كلام المُتَكلِّم، يعني: عطف الجملة على الجملة، وهذا لا إشكال فيها، كقوله: السلام عليكم .. وعليكم السلام، الواو هذه عاطفة للجملة على الجملة، وعليكم السلام: الواو عطف .. عطف على جملة المُتَكلِّم الأول المُسَلِّم، فليست داخلة في الشاهد.
الواو الأولى: لعطف جميع الكلام على كلام المُتَكلِّم الأول، كالواو في قوله: وعليكم السلام، جواباً لمن قال: السلام عليكم، والثانية: لعطف أهلاً على مرحباً المقدر، عطف مفرد على مفرد وهي محل الاستشهاد.
إذاً: وبك وأهلاً .. وبك ومرحباً وأهلاً، حذف المعطوف عليه وبقي وأهلاً معطوف .. بقي المعطوف وهو: أهلاً، وحذف المعطوف عليه وهو: مرحباً.
مَثَّل الزمخشري بقوله تعالى: ((أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ)) [الجاثية:31] قال التقدير: ألم تأتكم آياتي فلم تكن، ثَمَّ محذوف بين الهمزة و (لم) وهذا يُقدِّره في جميع القرآن من أوله إلى آخره على هذا التقدير، دائماً تكون الفاء حاذفةً لشيءٍ .. للمذكور على معطوف محذوف: ألم تأتكم ((أَفَلَمْ تَكُنْ)) [الجاثية:31] ولذلك صح مجيء الفاء بعد الهمزة: (ألم) هذا الأصل .. (فألم) لكن استحساناً للفظ وتحسيناً له أُخِّرَت الفاء عن الهمزة وقيل: (أفلم .. فألم) حينئذٍ نَعْلَم أن الفاء هذه عاطفة، أين المعطوف عليه؟ هذه تأتي في أول الآية .. أين المعطوف عليه؟ حينئذٍ لا بُدَّ من التقدير .. تقدير معطوفٍ عليه محذوف قبل الفاء، بمثل هذه قال: ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم، فحُذف المعطوف عليه وهو: ألم تأتكم وهو جملة.
إذاً القاعدة العامة: يجوز حذفُ المعطوف عليه إذا كان العطف بالفاء، (وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا)، (هُنَا) يعني: في هذا الموضع، وهو العطف بالواو والفاء، (اسْتَبِحْ) وما عداه فيبقى على الأصل.
إذاً الأقسام ثلاثة:
حذفُ المعطوف عليه فقط مع بقاء المعطوف وحرف العطف، وهذا يكون بالفاء والواو.
ثانياً: حذف المعطوف مع الفاء والواو، وهذا خاصٌ بهما.
ثالثاً: حذف المعطوف مع بقاء الحرف، وهذا خاصٌ بالواو، وأمَّا حذف حرف العطف فقط، هذا كما ذكرناه أنه فيه نزاع، وإن جاز لا بُدَّ من تقييده: بأن يكون بالواو وأو لا بغيرهما، وألا يكون ثَمَّ لبسٌ بألا يَحتمل أن يكون بدلاً، أو عطف بيان أو نحو ذلك، فإن احتمل فلا يجوز، فيبقى على الأصل، متى نَحْذِف الواو؟ إذا قرأنا الجملة وعلمنا أن ثَم عطفاً: أكلتُ لحماً خبزاً معلوم هذا، خاصة إذا عدد ثلاثة أو أربعة، حينئذٍ نقول: لا يَحتمل البدل.
(وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ) العَطْفُ قد يكون عطف اسمٍ على اسمٍ، وقد يكون عطفَ جملة على جملة، وقد يكون عطف فعلٍ على فعلٍ، يعني: يحصل العطف بين أنواع الكلمة الثلاث .. بين أنواع الكلمة: الاسم والفعل، ويدخل في ذلك الفعل ما إذا عُطفَ الفعل مع معموله، وهو عطف الجملة على الجملة؛ لأنه قد يُلاحظ الفعل فقط دون فاعله، ويكون هو المعطوف؛ لأن الفعل لا بُدَّ له من فاعل، حينئذٍ إذا قيل: عُطفَ الفعل مع فاعله، تعين أن يكون عطف الفعل هو عطف الجملة على الجملة.
وقد أطبق النحاة على أن ثَمَّ فرقاً بين النوعين، كيف يُعْطَف الفعل على الفعل؟ نقول: دون أن يُلاحظ الفاعل، فإذا لاحظت الفاعل وجعلته معطوفاً عليه، صار من عطف الجملة على الجملة، وهذه العطف .. عطف الجمل والبدل والنعت، هذه يتوسع فيها البيانيون توسع عجيب، من أراد أن يضبطها فليست هنا وإنما هي في: علم البيان.
(وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ)، (وَعَطْفُكَ) هذا مبتدأ، أين خبره .. والفعلَ ما ناصبه؟ عطفُ ما نوعه؟ مصدر، طيب! من إضافة المصدر إلى الفاء، عطفك أنتَ الفعل، الفعل هذا مفعولٌ به، العامل فيه عطفك .. بمثله، (وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ) جار مجرور مُتَعلِّق بعطف، فإذاً هو مصدر، (يَصِحْ) هذا فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مُقدَّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف أو الرويّ، والفاعل ضمير مستتر تقديره: هو يعود على العطف، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ.
(وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ) بشرط: اتحاد زمانيهما، سواءٌ اتَّحد النوع أم لا، يعني: لا بُدَّ أن يكون الزمن مُتَّحداً، هكذا شرطه ابن مالك رحمه الله تعالى: لا بُدَّ من شرط اتحاد زمانيهما، سواء اتَّحد نوعهما يعني: عُطفَ مضارع على مضارع، أو ماضٍ على ماضٍ، أو مضارع على ماضٍ، أو بالعكس، وأمَّا عطف الفعل .. فعل الأمر على فعل أمرٍ آخر، فهذا من عطف الجملة على الجملة؛ لأن فعل الأمر: قُم واقعد، حينئذٍ نقول: اقعد وقُم فيهما ضمير مستتر وجوباً وهو فاعل، وحينئذٍ إذا عُطف الثاني على الأول نقول: من عطف الجملة على الجملة، وليس من عطف الفعل على الفعل.
سواءٌ اتحد نوعهما، نحو:((لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ)) [الفرقان:49] نحيي .. نسقي، إذاً: عُطف الفعل المضارع على المضارع، ((فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ)) [النازعات:23 - 24] أي نوع؟ كلها ماضٍ، حشر: فعل ماضي، فنادى: فعل ماضي، فقال: هذا من عطف الماضي على الماضي. إذاً: سواءٌ اتحد نوعهما مضارع على مضارع نحيي .. نسقي، أو ماضٍ على ماضٍ ((فَحَشَرَ فَنَادَى)) [النازعات:23].
أم اختلفا كقوله: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ)) [هود:98](يَقْدُمُ)(فَأَوْرَدَ) عطف الماضي على المضارع، والماضي هنا بمعنى: المستقبل ((فَأَوْرَدَهُمُ)) [هود:98] يعني: سيوردهم، إذاً: اتحدا في الزمنِ، ((تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)) [الفرقان:10] عطف المضارع هنا على الماضي.
وأمَّا فعل الأمر، فعطفُ مِثله عليه من باب عطفِ الجملِ؛ لأن فيه ضميراً مستتراً وجوباً. إذاً: عطفُ (الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ) بشرط: ألا يُلحظَ فيه الفاعل، فإن لُحِظَ فيه الفاعل حينئذٍ يكون من عطف الجملة على الجملة.
قال هنا الشارح: " وأشار بقوله: (وَعَطْفُكَ الفِعْلَ) إلى آخره؛ إلى أن العطف ليس مختصاً بالأسماء، بل يكونُ فيها وفي الأفعال نحو: يقومُ زيدٌ ويقعدُ " يقعدُ: هذا معطوف على يقوم، والعامل فيه هو العامل في الأول: وجاءَ زيدٌ ورَكِبَ، جاءَ .. رَكِبَ: اضرب زيداً وقم، هذا محل خلاف بين النحاة، اضرب قم، هل هو معطوفٌ عليه أم لا؟ قيل: هنا لا يمكن أن يُتَصور انفكاك الفاعل عن الفعل، فإذا كان كذلك صار من عطف الجملة على الجملة.
وأمَّا السابق: يقومُ زيدٌ ويقعدُ، (يقومُ) فعل مضارع مرفوعٌ لتجرُّده عن الناصب والجازم ورفعُه ضمة ظاهرة في آخره، وزيدٌ: فاعل، والواو: حرف عطف، ويقعدُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ معطوفٌ على يقومُ، ولا تقل: مرفوعٌ لتجرُّده عن الناصب والجازم؛ لأن العامل في الأول هو العامل في الثاني، هذا شأن المعطوفات: جاءَ زيدٌ وعمروٌ، عمروٌ: هذا مرفوع، والرافع له هو جاء، فالعامل في الأول هو العامل في الثاني، سواءٌ كان في باب الأسماء .. المعربات، أو كان في باب الأفعال.
إذاً:
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ
…
وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحّ
هُنا فائدة: قد يتقدم المعطوف بالواو للضرورة على مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين جوازه اختياراً بقلة، وجَوَّزه في شرح الكافية إن لم يخرجه التقديم إلى التصدير، أو إلى مباشرةِ عاملٍ لا يتصرف أو تقدم عليه، يعني: هل يجوز أن تتقدم الواو مع معطوفها .. هل يجوز أن يُقال: جاءَ وزيدٌ عمروٌ؟ الأصل: جاءَ زيدٌ وعمروٌ، هل يصح أن نقول: وعمروٌ نُقدمه على زيد .. نُقدم الواو مع ما بعدها على المعطوف عليه؟ هذا الأصل: عدم الجواز، عند البصريين لا يجوز إلا ضرورةً، وعند الكوفيين: أنه جائزٌ اختياراً بقلةٍ .. قليل.
وجَوَّزه في (شرح الكافية). لكن بشروط: إن لم يُخرجه التقديم إلى التصدير، يعني مثلاً: إذا قيل: زيدٌ وعمروٌ قائمان، في مثل هذا التركيب لا يصح أن نقول: وعمرٌ زيدٌ قائمان؛ لأننا أخرجناه بالتقديم إلى التصدير، يعني: صار في صدر الجملة وهذا ممتنع، أو إلى مباشرةِ عاملٍ لا يتصرف، مثل ماذا؟ ما أحسنَ وعمراً زيداً .. ما أحسنَ زيداً وعمراً، هل يصح أن نُقدم وعمراً، فنقول: ما أحسن وعمراً زيداً؟ نقول: لا، لماذا؟ لأنه صار تالياً أو مباشراً لعاملٍ لا يتصرف وهو أفعل التفضيل كما سبق، ولا يصح كذلك: أحسنَ زيداً، لعدم التصرف في العامل.
إذاً: إن لم يخرجه التقديم إلى التصدير، أو إلى مباشرةِ عاملٍ لا يتصرف، أو تقدم عليه، فلا يجوزُ: وعمروٌ زيدٌ قائمان، لماذا؟ لتصدير المعطوف وفوات توسطه، ولا: ما أحسنَ وعمراً زيداً، ولا: ما وعمراً أحسن زيداً، لعدم التصرف في العامل.
ولم يكن المعطوف مخفوضاً فلا يجوز: مررت وزيدٍ بعمروٍ .. مررت بزيدٍ وعمروٍِ، هل يصح مررت وعمروٍ بزيدٍ؟ لا يصح أن يتقدم هنا المعطوف على المجرور؛ لأن الحرف ضعيف، مثل: ما أحسنَ وعمراً زيداً، نقول: هذا ضعيف؛ لأنه غير مُتَصرِّف، كذلك لا يصح: مررت وعمروٍ بزيدٍ، مررت بزيدٍ وعمروٍ نقول: هذا لا يصح.
فلا يجوز: مررت وزيدٍ بعمروٍ، ولم يكن العامل مما لا يَستغني لواحدٍ، فلا يُقال: اختصمَ وعمروٌ زيدٌ .. اختصم زيدٌ وعمروٌ، إذاً: إذا لم يكن واحداً من هذه الأمور حينئذٍ جاز أن يَتقدَّم حرفُ العطف وهو الواو مع معطوفها.
وَاعْطِفْ عَلَى اسْم شِبْهِ فِعْلٍ فِعْلَا
…
وَعَكْساً اسْتَعْمِل تَجِدْهُ سَهْلَا
(وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ) ..
بعض الأسماء في معنى الفعلِ، الاسم المُجرَّد الجامد لا يجوز عطفُه على الفعل، ولا عطفُ الفعل عليه، لماذا؟ لأن العطف يقتضي المشاركة، هذا الأصل، الاسم المشارك لما قبله في إعرابه، وسبق معنا: أن الأصل والأكثر في حروف العطف أنها تُشَرِّك في المعنى واللفظ .. في الإعراب والمعنى، حينئذٍ ما نوع التشريك هنا؟ ينتفي أن يكون الفعل معطوفاً على اسمٍ ليس فيه معنى الفعل، يعني: ليسَ مشتقاً .. ليس اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا صفة مشبهة ولا نحو ذلك، فلا يجوز عطف الفعل على اسمٍ خالصٍ ولا العكس.
وأمَّا إذا كان الاسم فيه معنى الفعل، يعني: من المشتقات .. مما يدل على ذاتٍ وحدثٍ، حينئذٍ جاز عطف كل واحد منهما على الآخر، فيُعْطَف الفعل على اسم الفاعل، كما قال تعالى:((فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً)) [العاديات:3 - 4] المُغِيرات: جمع مغيرة .. اسم فاعل، فأثرن: هذا .. فعل عُطِفَ بالفاء على اسم الفاعل، إذاً: هذا جائز.
كذلك قوله: ((صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)) [الملك:19] صافاتٍ: جمع صافة، ويقبضن: هذا معطوفٌ عليه، عُطِفَ الفعل على اسم الفاعل، وهذا كذلك محل وفاق، ((إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا)) [الحديد:18] عُطِفَ أقرضوا على المصدقين، يعني: الذين تصدقوا.
فألفَيُتُه يَومَاً يُبِيرُ عَدُوَّهُ
…
ومُجرٍ عَطاءً يستحقُ المعابرا
(مُجرٍ) اسم فاعل معطوف على قوله: يُبِيرُ يعني: يهلكُ، حينئذٍ نقول: هذا من عطف اسم الفاعل، يعني: اسمٍ أشبه الفعل على الفعل، كذلك قوله:
(بَاتَ يُغَشِّيها .. يُعَشِّيها) -روايتان- (بَاتَ يُغَشِّيها بِعضبٍ بَاترٍ -سيفٍ قاطعٍ- يَقصِدُ في أَسوقِها وجَائرِ)، وجائرِ: هذا اسم فاعل، معطوف على قوله: يَقصِدُ.
إذاً: يجوز عطف الاسم الذي أشبه الفعل على الفعل والعكس، لوروده في القرآن وفي الشعر وفي كلام العرب، وحينئذٍ التعليل واضح؛ لأن الفعل يدل على حدث، والاسم الذي أشبه الفعل يدل على حدث، وثَمَّ جامعٌ بينهما، إذاً: وجِدَ حقيقة العطف.
قال (وَاعْطِفْ) هذا فعل أمرٍ مبني على السكون لا محل له من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، (عَلَى اسْمٍ) جار مجرور مُتَعلِّق بقوله:(اعْطِفْ)، و (شِبْهٍ فِعْلٍ)، (شِبْه) هذا نعت لـ:(اسْمٍ)، (شِبْهٍ فِعْلٍ) يعني: أشبه الفعل .. مُشبهٌ للفعل، احترازاً من اسمٍ لم يُشبه الفعل فلا يجوز والتعليل واضح، (عَلَى اسْم شِبْهٍ فِعْلٍ) شبه: مضاف، والفعل مضاف إليه، (فِعْلاً) اعطف فعلاً على اسمٍ شبهِ فعلٍ، اعطف فعلاً: ففعلاً هذا مفعول به، يجوز أن يُعْطَف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل، هذا أراده بهذا البيت.
و (اسْتَعْمِل عَكْساً)، و (عَكْساً) وهو أن تعطف الاسم الشبيه بالفعل على الفعل، (اسْتَعْمِل عَكْساً) الاستعمال: هو إطلاق اللفظِ وإرادة المعنى، فلما جَوَّز استعمالهُ دَلَّ على أنه منقولٌ موجودٌ في لسان العرب؛ لأن ثَمَّ وضعاً وثَمَّ حمل، وثَمَّ استعمال، ثَمَّ وضْعاً وهو جعل اللفظ دليلاً على المعنى، أو القواعد العامة وهو المراد هنا .. الوضع النوعي، وثَم استعمال: وهو إطلاقُ اللفظِ وإرادة المعنى، هذا لا يكون إلا بعد الوضع، يعني: ما يُستعمل ويُتَكَلم بألفاظٍ أو تراكيب إلا وهي منقولةٌ في لسان العرب، لا بُدَّ أن يكون ثَمَّ واضع أولاً، ثُم بعد ذلك يأتي الاستعمال.
ثُمَّ يكون الحمل: وهو اعتقاد السامع ما يريده المُتَكلِّم من كلام، يعني: يفهم المراد، (وعَكْساً اسْتَعْمِل) استعمل: هذا فعل أمر مبنيٌ على السكون لا محل له من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: أنت، وعكساً: هذا مفعولٌ به، تجده، فعل مضارع مجزوم، وجازمه هو وقوعه في جوابِ الطلب وهو الأمر: استعَمِل تجده، وتجد: هذه يتعدى إلى مفعولين، الفاعل ضمير مستتر أنت، والهاء: مفعول أول، وسهلاً: مفعولٌ ثاني، إذاً: يجوز عطف الاسم الشبيه بالفعل على الفعل.
((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ)) [الأنعام:95] مُخرج .. يُخرج: عطف الثاني .. اسم الفاعل على الفعل.
قال هنا: يجوز أن يُعطفَ الفعل على الاسمِ المشبه للفعلِ كاسم الفاعل ونحوه، ويجوز أيضاً عكس هذا: وهو أن يُعطف على الفعل الواقع موقع الاسمِ اسمٌ، فمن الأول قوله تعالى:((فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً)) [العاديات:3 - 4] هنا المعطوف عليه صلة، وحقُه أن تكون جملة، فالمغيرات مؤولٌ باللاتي أغرن، لأنه قد يُقال: ثَمَّ حكمة ظاهرة: المغيرات .. مغيرات: هذا صلة (أل)، وصلة (أل) الأصل فيها أن تكون فعلية.
إذاً: ((فَأَثَرْنَ)) [العاديات:4] هذا معطوفٌ على ما هو في قوة الجملة الفعلية، كأنه عطفَ فعلاً على فعلٍ، كأنه قال: فاللائي أغرنَ، أو اللاتي أغرنَ صبحاً فأثرنَ، عطف جملة على جملة، كذلك الآية التالية، وكذلك قوله:((صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)) [الملك:19] يقبضن: هذا في قوة قابضات، يعني: هنا صار التأويل في الفعل لا في اسم الفاعل، لأن صافاتٍ: هذا حال، والحال الأصل فيها أنها مفردة، وحينئذٍ لمَّا عُطِفَ عليها ويقبضن، إذاً: قابضات، فهو في تأويل قابضات.
إذاً: يجوز عطف الفعل على الفعل، والاسم الشبيه بالفعل على الفعل، والفعل الشبيه باسم الفعل على الفعل.
عطف الجملة الاسمية على الفعلية وبالعكس .. قبل ذلك نقول: عطف الجملة على الجملة هذا جائزٌ، هذا لا إشكال فيه، وهذا محل وفاقٍ، فإذا عُطِفَتْ الجملة على الجملة حينئذٍ الجملة نوعان: جملةٌ اسمية، وجملة فعلية.
وفي عطف الفعلية على الاسمية والعكس، ثلاثة أقوال:
أولها: الجواز مطلقاً، يعني: التخالف، تُعطف الفعلية على الفعلية لا إشكال .. الاسمية على الاسمية لا إشكال، أمَّا العكس الفعلية على الاسمية، أو الاسمية على الفعلية هذا محلٌ نزاع، فيها ثلاثة أقوال: أولها: الجواز مطلقاً بالواو وغيرها، وهذا هو المُرَجَّح عند النحاة، وهو المفهوم من قول النحويين في نحو: قامَ زيدٌ وعمروٌ أكرمتهُ: أن نصب عمرو أرجح؛ لأن تناسب الجملتين أولى من تخالفهما، من المُرَجِّحَات هناك في باب الاشتغال، قلنا: النصب أولى؛ لأننا لو نصبنا عطفنا جملة فعلية على فعلية، والتناسب أولى من التخالف، فدل على الجواز؛ لأنهم جَوَّزوا الرفعَ ورجحوا النصبَ، ما دام أنهم جَوَّزوا الرفعَ فكان جملةً اسمية، إذاً: تكون معطوفة على الفعلية، وهذا محلُ وفاق.
الثاني: المنع مطلقاً.
والثالث، وهو لأبي علي الفارسي: يجوز في الواو فقط، يعني: يجوز عطف الاسمية على الفعلية وبالعكس، إذا كان العاطف هو الواو، والصواب هو الأول: أنه يجوز مطلقاً.
بقي خاتمة، وهي: أن عطف النسق في الأصل أنه يتبع المعطوف عليه في واحدٍ من ثلاثة أشياء، لأنه لا بُدَّ من تَشْرِيكٍ في الإعراب، ثُمَّ هذا الإعراب إمَّا يكون لفظياً أو محلياً أو على سبيل التوهم.
فالقسمة ثلاثية:
الأمر الأول: العطف على اللفظ، وهذا هو الأصل، وشرطه: إمكان توجه العامل لأن يكون المعطوف صالحاً لأن يلي العامل في المعطوف عليه، إذا قيل: جاءَ زيدٌ وعمروٌ .. رأيت زيداً وعمراً .. مررت بزيدٍ وعمروٍ، حينئذٍ ذِكْرُ الرفع مع النصب مع الخفض في هذه الأمثلة الثلاثة واضح: أن المعطوف قد أخذ حكم الرفع لكون المعطوف عليه مرفوعاً، وهكذا في النصب، وهكذا في الخفض، هذا هو الأصل وهذا هو المطرد، لكن يُشترط فيه: أنه يصلح أن يلي المعطوف عليه العامل، أمَّا إذا لم يصلح فلا يجوز.
وهذا له مثالان مشهوران.
إذاً: شرطه، أي: إمكان توجه العامل بأن يكون المعطوف صالحاً لأن يلي العامل في المعطوف عليه، فلا يجوز في نحو: ما جاءني من امرأةٍ ولا زيدٍ: بِجر زيد، لماذا؟ لأن العامل الذي جَرَّ امرأة: ما جاءني من امرأةٍ ولا زيدٍ، زيدٍ نقول: هذا معطوف على امرأة لا يجوز أن يتبعه في اللفظ؛ لأن امرأة نكرة، وهو مجرور بـ (من) الزائدة، و (من) الزائدة لا تدخل إلا على النكرة، فتعمل في النكرات لا في المعارف، إذاً: ولا زيدٍ، وزيدٍ نقول: هذا معرفة، حينئذٍ لا يجوز عطفه بالجرِّ على سابقه.
كذلك: لا رجلَ في الدار ولا فاطمةَ، نقول: لا يصح أن يعطف على رجل؛ لأن (لا) نافيةٌ للجنس فهي لا تعمل في المعارف إنما تعمل في النكرات، إذاً: العطف باللفظ على اللفظ، فيأخذ حكمه مطلقاً، لا بُدَّ من صحة تسليط العامل الذي عَمِلَ في المعطوف عليه على العامل، إن صحَّ صحَّ، وإن امتنعَ امتنعَ.
الثاني: العطف على المحل، بأن يتبع المعطوف محل المعطوف عليه، والإعراب المحلي كما سبق إنما يكون أكثر ما يكون في المبنيات. وهذا له ثلاثة شروط، يعني: يشترط في صحة العطف على المحل ثلاثة شروط:
الأول: إمكان ظهور المحلِ في الفصيح، يعني: أن يكون المحل قد نطق به العربي الفصيح، يعني: جاء في لسان العرب النطق به، فإن لم يكن كذلك حينئذٍ امتنع أن يُراعى، ولو كان في الأصل متفقا عليه بأن له محلاً، ولذلك قالوا لا يصح: مررت بزيدٍ وعمراً، مع كون النحاة متفقين على أن زيد مفعول به في المعنى، فمحله النصب، لكن لا يصح أن يُقال: وعمراً، لماذا؟ لأنه لم يُسْمَع: مررت زيداً، لا بُدَّ أن يكون هذا المحل قد نطق به العربي الفصيح ولو مرةً واحدة، فلما لم يُنْطَق به ولو مرةً واحدة، حينئذٍ لو كان له محل لا يعتبر عند العطف.
إذاً: إمكان ظهور المحلِ في الفصيح: بأن يكون ذلك المحل مما يَظْهَر في فصيح الكلام، فلا يجوز: مررت بزيدٍ وعمراً بالنصب، فإنه وإن كان محل الجار والمجرور نصبٌ؛ لأنه في معنى المفعول به، لكن لمَّا كان لا يجوز أن تقول في الفصيح: مررت زيداً، لم يَجُز النصب للمعطوف هنا، أن يكون المعطوف عليه مَحلاً قد نُطِقَ به ولو مرةً واحدة في الفصيح منصوباً أو مرفوعاً على حسب ما يقتضيه.
الثاني: كون المحل بحق الأصالة .. بأن يكون استحقاق المعطوف عليه لذلك المحل لحق الأصالة، فلا يجوز: هذا ضاربٌ زيداً وأخيه، ضاربٌ زيداً يجوز فيه وجهان: ضاربٌ زيداً، وضاربُ زيدٍ، طيب! إذا نَصَبْتَ تقول: ضاربٌ زيداً، لو قال قائل: هذا ضاربٌ زيداً وأخيه، بالجر بناءً على جواز إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، يعني: ملاحظة ضاربُ زيدٍ فيعطف عليه، نقول: لا، هنا لا يجوز لأن العامل .. اسم الفاعل هنا المستكمل للشروط، الأصل فيه: النصب، وأمَّا الخفض فهذا من باب التخفيف، فهو درئاً لمفسدة الثقل فحسب، فيُراد به تخفيف اللفظ بحذف التنوين، فحينئذٍ لا يراعى، نقول: المحل الذي يراعى هو الذي يكون أصلاً فيه، الأولى والأصل: أن يكون مخفوضاً، وأمَّا اسم الفاعل المستكمل للشروط فالأصل فيه: النصب، ولو جازت الإضافة حينئذٍ لا تُراعى في المحل، نعم لو أضافه حقيقةً: ضاربُ زيدٍ، حينئذٍ صح العطف، وإمَّا أن تُلاحَظ الإضافة ثُم يُعْطَف عليه بناءً على أن محل زيد هو الخفض نقول: لا، لكون هذا الخفض فرعاً لا أصلاً، وإنما تُرَاعَى الأصول.
كون المحل بحق الأصالة، بأن يكون استحقاق المعطوف عليه لذلك المحل بحق الأصالة، فلا يجوز: هذا ضاربٌ زيداً وأخيه، يعني: افتراض أنه مجرورٌ بالإضافة؛ لأن استحقاق معمول الوصف الجر ليس بالأصالة، بل الأصل: النصب والجر بالإضافة لقصد التخفيف.
الشرط الثالث: وجود العامل الطالب للمحل، المحل إذا قيل: هذا مُعربٌ محلاً مرفوعاً أو منصوباً، لا بُدَّ أن يكون العامل موجودا، أي: باقياً في فصيح الكلام، ولا يجوز: إن زيداً وعمروٌ قائمان، هذا كما سبق بيانه أن بعضهم جعل: وعمروٌ معطوفاً على المبتدأ، أين المبتدأ؟ هو زيد باعتبار الأصل: إن زيداً، أين العامل؟ كأنه جَعَلَ زيداً له محلين:
المحل الأول: النصب وهو اللفظ، المحل الثاني: الرفع لكونه مبتدأ في الأصل.
نقول: نعم، كونه مبتدأ في الأصل فهو مرفوع، لكن أين عامله .. هذا الذي لوحِظَ في المحل كونه مرفوعاً أين عامله؟ عامله أُزِيل .. ذهب، لو بَقْي عامله، نعم يُراعى في المحل، وأمَّا وقد أُزِيل عامله حينئذٍ إذا زَاَل العاملُ زَال معه المعمول هذا الأصل، وهنا نُسِخَ بمعنى: أُزيل، نَسْخ .. (إن) نقول: حرف ناسخ، وإذا كان ناسخاً معناه: قد نسخ ورفع وجود الابتداء، إذاً: لا يلاحظ الابتداء البتة.
وجود العامل الطالب للمحل أي: باقياً في فصيح الكلام، فلا يجوز: إن زيداً وعمروٌ قائمان برفع عمرو؛ لأن طالب الرفع وهو الابتداء قد زال ليس موجوداً.
النوع الثالث: العطف على التوهم، وهذا مختلفٌ فيه، وشرطه: صحة دخول العامل المتوهم على المعمول، وأمَّا كثرة دخوله فشرطٌ للحسن، ولهذا حَسُنَ: لست قائماً ولا قاعد، ولم يَحسُن: ما كنت قائماً ولا قاعداً، لستُ قائماً ولا قاعدٍ، بالخفض: ولا قاعدٍ، قالوا: هذا مجرورٌ على التوهم، ما هو التوهم هنا؟ قالوا: الأكثر في خبر (ليس) دخول الباء الزائدة تأكيداً، وهذا القائل كأنه قال: لست قائماً، ثم قال: ولا قا .. تصوَّر: كأنه أدخل الباء .. لكثرة دخول الباء على الخبر، فعطف عليه مع وجود الباء، توهُّم .. خيال، فتصور: أنه أدخل الباء هو لم يدخلها.
حينئذٍ: ولا قاعدٍ بالخفضِ مجروراً بالباء المتوهمة، أين هي؟ لا وجود لها وإنما هي في الخيال، الذي سَوَّغ له ذلك كثرة دخول الباء على خبر (ليسَ)، وهذا عندهم حسن .. عند من جَوَّزه.
وأمَّا: ما كنت قائماً ولا قاعدٍ فليس بحسن، لماذا؟ لأن دخول الباء في خبر (كان) منفيةً أقل بكثير من دخول الباء في خبر (ليس) ولمَّا كَثُرَ في باب (ليسَ) صار حسناً، ولمَّا لم يَكْثُر في باب (كانَ) ونحوها لم يكن حسناً.
والفرق بين القسمين الأخيرين: أن العامل في العطف على المحل موجود دون أثره، والعامل في العطف على التوهم مفقودٌ دون أثره، الأول: موجود وهذا غير موجود، والأصل: أنه ليس بقياس، يعني: لا يَجر بناءً على التوهم، إن حصل غلطاً فلا إشكال، وأمَّا أن يتعمده نقول: ليس بعاملٍ.
وقد يمتنع العطف على اللفظ وعلى المحل معاً، نحو: ما زيدٌ قائماً لكن قاعدٌ، أو بل قاعدٌ، لأنه في العطف على اللفظ إعمالٌ لما في الموجب: ما زيدٌ قائماً بل قاعدٌ، ما بعد (بل) هنا مثبت أو منفي؟ ما زيدٌ قائماً بل قاعدٌ، لو جعلنا قاعد هنا معطوف على سابقه بالنصب، ما زيدٌ قائماً (ما) هنا متى تَعْمَل .. تَعْمَل في موجب أو في منفي؟ لا بُدَّ أن يكون نفياً، طيب! بل لكن قاعداً ما بعد (بل) و (لكن) مثبت، إذاً: لا يمكن العطف على المحل؛ لأن (ما) هنا أُعْمِلَت، وشرط إعمالها: بقاء النفي، وحينئذٍ: ما زيدٌ قائماً، نقول: هذا لا يصح العطف على اللفظ، لأن في العطف على اللفظ إعمال (ما) في الموجب، وفي العطفِ على المحل اعتبار الابتداء مع زوال الابتداء بدخول الناسخ، يعني: لا بُدَّ من وجود العامل في المحل، وهنا قد مُنعَ، لو قيل: بل قاعدٌ عطفاً على محل زيد، بكونه مبتدأً في الأصل، كالكلام في: إن زيداً وعمروٌ قائمان، حينئذٍ نقول: هنا لا يجوز لكون الابتداء قد زال بدخول الناسخ وهو (ما).
قال الناظم رحمه الله تعالى: الْبَدَلُ.
هذا هو البابُ الأخير من أبواب التوابع وهو خاتمتها.
الْبَدَلُ لغةً: العِوَض، ومنه قوله:((عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا)) [القلم:32] أي: العوض.
وأمَّا في الاصطلاح فَعرَّفه الناظم بقوله:
التَّابِعُ المَقْصُودُ بِالحُكْمِ بِلَا
…
وَاسِطَةٍ هُوَ المُسَمَّى بَدَلَا
(التَّابِعُ) جِنس دخل فيه سائر التوابع، خمسة: النعت، والتوكيد، وعطف البيان، وعطف النسق، والبدل.
(المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) أي: وحده دون المتبوع، هذا المناسب، إن أخرجنا به عطف النسق بغير (بل) و (لكن) بعد الإثبات، مما قُصِدَ فيه التابع والمتبوع معاً كما سيأتي.
(المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) المَقْصُودُ: هذا فصلٌ أول، و (بِالحُكْمِ) مُتَعلِّق به، (بِلَا وَاسِطَةٍ) هذا فصْلٌ ثاني، إذاً: جنس وفصلان .. جنس وقيدان.
قوله (التَّابِعُ) أدخل جميع التوابع، قوله:(المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) أخْرَج ثلاثة: النعت، والتوكيد، وعطف البيان؛ لأن هذه ليست مقصودةً بالحكمِ، وإنما هي مُكَمِّلاتٌ للمقصود، فالمتبوع هو المقصود بالحكم، والنعتُ جاء مُكَملاً له، النَّعْتُ تَابعٌ مُتِمٌّ مَا سَبَقْ، إذاً: مُتمٌ له، وعطف البيان كذلك جاء موضحاً وجاء مخصصاً، إذاً: مُتمٌ ما سبق، والتوكيد كذلك مُقَوٍّ، إذاً: جاء مقوياً، إذاً: مُتمٌ ما سبق، وليست مقصودة هذه الثلاثة بالحكم.
إذاً قولهم: (المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) يعني: بالإسناد .. نسبة، ما المقصودُ بالكلام هنا؟ سبق أن الإسناد .. ما هو الإسناد؟ نسبة حكمٍ إلى اسمٍ إيجاباً أو سلباً، أو الربط بينهما، أو ضم كلمة إلى أخرى على وجه الإفادة، هذا الإسناد: قامَ زيدٌ، الإسناد هنا شيءٌ معنوي، كونُكَ أسْنَدتَ وجئتَ بقامَ وأضفته إلى زيد على كونه فاعلاً له، هذا هو الإسناد فهو شيءٌ معنوي، ولذلك اتفقوا: على أنه يقتضي مسنداً ومسنداً إليه، يُعَبَّر عن الإسناد بالحكم الرابط بين الفعل والفاعل، كونه واقعاً منه، نفياً أو إثباتاً: ما قامَ زيدٌ، هنا على وجه النفي: قامَ زيدٌ على وجه الإثبات.
إذاً: الحكمُ والربطُ والتعلق والعلاقة بين الفعل والفاعل، والاسم والاسم الآخر، مبتدأ وخبر على وجه الإفادة، نقول: هذا هو الحكم، ولذلك قال:(المَقْصُودُ بِالحُكْمِ)، (بِالحُكْمِ) جار ومجرور مُتَعلِّق بقوله:(المَقْصُودُ).
(بِلَا وَاسِطَةٍ) هذا أخرج عطف النسق؛ لأن عطف النسق هو مقصودٌ بالحكم كذلك في الجملة، وسيأتي تفصيله.
جاءَ زيدٌ وعمروٌ، كلٌ منهما مقصودٌ بالحكم، إثبات المجيء لزيد كإثبات المجيء لعمرو، إذاًَ: عمرو قُصِدَ بالحكم، وإن لم يكن هو المقصود بالحكم، وكذلك: زيد الذي هو الفاعل مقصودٌ بالحكم ولا إشكال فيه، إذاً: خرجت التوابع الأربعة بقوله: (المَقْصُودُ بِالحُكْمِ بِلَا وَاسِطَةٍ).
وقوله: (بِلَا وَاسِطَةٍ) يعني: بغير، (لا) هنا اسمية، بمعنى: غير، فهو جار مجرور مُتَعلِّق بقوله:(المَقْصُودُ)، وجعله مُحيي الدين مُتَعلِّقاً بالتابع، هذا ليس بصحيح، والصواب: أنه مُتَعلِّق بالمقصود، و (لا) مضاف، و (وَاسِطَةٍ) مضاف إليه.
(هُوَ المُسَمَّى)، (التَّابِعُ) هذا مبتدأ أول، و (المَقْصُودُ) صفته، و (بِالحُكْمِ) مُتَعلِّق به، و (بِلَا وَاسِطَةٍ) مُتَعلِّق بالمقصود، (هُوَ المُسَمَّى)، (هُوَ) مبتدأ ثاني، و (المُسَمَّى) هذا خبر الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول.
(هُوَ المُسَمَّى) في اصطلاح البصريين: (بَدَلاً)، (بَدَلاً) هذا مفعول ثاني للمسمى؛ لأن سمَّى كما سبق تتعدَّى إلى مفعولين: سميت ولدي عبد الله، (ولدي) هذا مفعول أول، و (عبد الله) مفعولٌ ثاني، وقد يَتعدَّى إلى الثاني بالباء: سميتهُ بعبد الله، (سميتهُ) يَتعدَّى إلى الأول بنفسه، و (بعبد الله) يَتعدَّى إليه بالخفض.
(هُوَ المُسَمَّى بَدَلا)، (بَدَلا) مفعول ثاني للمسمى؛ لأن المسمى هنا اسم مفعول، الأول: أُنِيبَ عن الفاعل فصار نائب فاعل، يعني: المفعول الأول: نائب فاعل ضمير مستتر، مسمى هو يعود على تابع، (المُسَمَّى بَدَلَا) في اصطلاح البصريين، وأمَّا الكوفيون فقال الأخْفَش: يسمونه بالترجمة والتبيين، وقال ابن كيسان: يسمونه بالتكرير.
(التَّابعُ المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) أي: المنسوب إلى متبوعه نفياً وإثباتاً؛ لأن الحكم هو الإسناد هنا، (بِلَا وَاسِطَةٍ هُوَ المُسَمَّى بَدَلا).
قال الشارح: " فالتابع جنسٌ والمقصودُ بالنسبة " انظر عَبَّر عن الحكم بالنسبة؛ لأن تعبير النحاة بالنسبة أكثر، وبالحكم هذا تعبير المناطقة، ولذلك عَدَلَ ابن عقيل هنا عن التعبير الذي ذكره الناظم إلى التعبير المشهور عند النحاة وهو: النسبة. فصل أخرج النعت والتوكيد وعطف البيان؛ لأن كل واحدٍ منها مكملٌ للمقصود بالنسبة، ليس مستقلاً وإنما هو مكملٌ للمقصود بالنسبة، لا مقصودٌ بها، و (بِلَا وَاسِطَةٍ) أخرجَ المعطوفَ بـ (بل) نحو: جاءَ زيدٌ بل عمروٌ، عمروٌ هو المقصود بالنسبة، هو الذي أُثبِتَ له المجيء، فإن عمراً هو المقصود بالنسبة، ولكن بواسطةٍ وهي (بل)، وأخرج المعطوفَ بالواو ونحوها، فإن كل واحدٍ منهما مقصودٌ بالنسبة ولكن بواسطة.
إذاً: فَصَّلَ الشارح هنا بقوله: (بِلَا وَاسِطَةٍ) منه ما أخرج: عطف النسق، إذا كان مقصوداً بالحكم، وبعضه لكونه بواسطةٍ، ولذلك ابن هشام حَقَّقَ المقام فقال: عطف النسق على ثلاثة أنواع، لأن ثَم خلاف: هل عطف النسق خرج بقوله: (المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) أو (بِلَا وَاسِطَةٍ)؟ ثُم إذا قيل: خرج بكونه بلا واسطة، المعطوف بـ (بل) هل خرج بقوله:(المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) أو (بِلَا وَاسِطَةٍ)؟
نقول: النسق على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما ليس مقصوداً بالحكمِ: كجاءَ زيدٌ لا عمروٌ، جاء زيدٌ أُثبِتَ له الحكم وهو: المجيء، لا عمروٌ، هذا نُفيَ عنه المجيء، إذاًَ: ليس مقصوداً بالحكم: جاءَ زيدٌ لا عمروٌ. ما ليس مقصوداً بالحكم: كجاء زيدٌ لا عمروٌ، وما جاءَ زيدٌ بل أو لكن عمروٌ، أمَّا الأول: فواضح؛ لأن الحكم السابق منفيٌ عنه، جاءَ زيدٌ لا عمروٌ، الحكم السابق عن حرف العطف وهو (لا) منفيٌ عن المعطوف، إذاً: ليس مقصوداً بالحكم، لا إشكال فيه.
وأمَّا الآخران: فَلِأنَّ الحكم السابق هو نفي المجيء، والمقصود به إنما هو الأول، يعني: الذي قُصِدَ به هو الأول؛ لأنه قال: ما جاء زيدٌ بل عمروٌ، أين النسبة هنا .. أين المسند والمسند إليه؟ ما قبل (بل) و (لكن) ما جاء زيدٌ، إذاً المقصود بالحكم: هو نفي المجيء عن زيد، بل عمروٌ الثاني لم يُثْبَت له الأول، إذاً المقصود بالنسبة: هو السابق على (بل) و (لكن)، ما جاءَ زيدٌ بل عمروٌ، أين النسبة؟ نقول: نفي مجيء زيد، بل عمروٌ ما بعدها نقول: ليس هو المقصود بالنسبة، وإنما المقصود بالنسبة ما قبل (بل) و (لكن).
إذاً: النوع الأول ما ليس مقصوداً بالحكم، والآخران: فلأن الحكم السابق هو نفي المجيء، والمقصود به: إنما هو الأول، وذلك لأن المعطوف بـ (بل) و (لكن) بعد النفي يَثْبُت لهما نقيض الحكم السابق كما سبق معنا، وأمَّا الحكم المذكور فالمقصود به الأول، يعني: ما قبل (بل) و (لكن) فقولك: ما جاء زيدٌ بل عمروٌ، معناه: أن عدم المجيء ثابتٌ لزيد، وأن عمراً ثبت له المجيء.
النوع الثاني: ما هو مقصودٌ بالحكم هو وما قبله، فيصدق عليه أنه مقصودٌ بالحكم لا المقصود بالحكم، ما الفرق بين العبارتين؟ إذا قيل: المقصود بالحكم، هذا صار مُعرَّفاً، المقصود بالحكم حينئذٍ صار محصوراً فيه، فهو المقصود وغيره منفيٌ عنه، أمَّا كونه مقصوداً بالحكم، فلا ينفي أن يكون غيره كذلك مقصودٌ بالحكم، إذاً من عطف النسق: ما قد يكون مقصوداً بالحكم لا أنه هو المقصود بالحكم.
النوع الثاني: ما هو مقصودٌ بالحكم هو وما قبله -المعطوف والمعطوف عليه- فيَصدقُ عليه أنه مقصودٌ بالحكم، لا أنه المقصود، وفرقٌ بينهما؛ لأن البدل هو المقصود بالحكم، ولذلك قال:(التَّابِعُ المَقْصُودُ بِالحُكْمِ) إذاً: لا ينفي أن يكون شيءٌ آخر مقصوداً بالحكم، لكنه لا يصدق عليه أنه هو المقصود بالحكم، فرق بين العبارتين.
لا أنه المقصود وذلك كالمعطوف بالواو، نحو: جاء زيدٌ وعمروٌ، زيدٌ مقصودٌ بالحكم، وعمروٌ مقصودٌ بالحكم، إذاً: عمروٌ مقصودٌ بالحكم، هل هو المقصود بالحكم؟ لا، لماذا؟ لكونه مُثْبَتاً لزيد، لو قلت: هو المقصود بالحكم، حينئذٍ نُفِيَ عن سابقه: جاء زيدٌ وعمروٌ، كلٌ منهما مقصودٌ بالحكم، لو قلت: عمرو الثاني المعطوف هو المقصود بالحكم لَزِمَ أن يُنفىَ المجيء عن زيد وهذا باطل، هذا التفصيل جيد.
كالمعطوف بالواو نحو: جاء زيدٌ وعمروٌ، وما جاء زيدٌ ولا عمروٌ، كلاهما مقصودان بالحكم، فهذان النوعان خارجان بما خرج به النعت والتوكيد وعطف البيان، إذا قيل: الفصل الأول المقصود بالحكم، يعني: ألا يكون غيره مقصوداً بالحكم، خرج النعت، وخرج التوكيد، وخرج عطف البيان، وهذه واضح أنها خرجت.
بقي نوعان من عطف النسق: وهو ما ليس له قصدٌ في الحكم النوع الأول، والثاني: ما قد يكون مقصوداً بالحكم لا أنه هو المقصود، هذا خرج بقوله: المقصود بالحكم، بقي النوع الثالث: وهو الذي أخرجه بقوله: (بِلَا وَاسِطَةٍ).
النوع الثالث: ما هو مقصودٌ بالحكم دون ما قبله، وهذا هو المعطوف بـ (بل) بعد الإثبات: جاءني زيدٌ بل عمروٌ، قلنا:(بل) بعد الإثبات تنقل الحكم، ماذا قال هناك؟
وَانْقُل بِهَا لِلثَّانِ حُكْمَ الأَوَّل
…
فِي الخَبَرِ المُثْبَتِ. . . . .
إذاً: ما جاءني زيدٌ بل عمروٌ، عمروٌ هو الذي جاء، والأول مسكوتٌ عنه، إذاً: صار مقصوداً بالحكم ما بعد (بل)، حينئذٍ نحتاج إلى إخراجه فقال:(بِلَا وَاسِطَةٍ)، إذاً: ما بعد (بل) في سياق الإثبات نقول: هو المقصود بالحكم وليس مقصوداً، بل هو المقصود بالحكم، إذاً: شارك البدل؛ لأن البدل هو المقصود بالحكم، لكن الفرق بينهما: أن المعطوف هنا معطوفٌ بـ (بل) يعني: بواسطة، وذاك بدون واسطة.
وهذا هو المعطوف بـ (بل) بعد الإثبات نحو: جاءني زيدٌ بل عمروٌ، وهذا النوع خرج بقوله:(بِلَا وَاسِطَةٍ) وثَمَّ خلاف طويل عريض في الإخراج، لكن هذا التحقيق جيد: أن يكون قوله: المقصود بالحكم أخرج نوعين من عطف النسق، وهو: ما ليس مقصوداً بالحكمِ و (أو)، والثاني: وهو ما هو مقصودٌ هو وما قبله لا أنه هو المقصود.
بقي النوع الثالث: وهو المقصود بالحكم أخرجه بقوله: (بِلَا وَاسِطَةٍ)، هُوَ المُسَمَّى في اصطلاح البصريين: بَدَلاً.
ثُمَّ قال:
مُطَابِقَاً أَوْ بَعْضَاً اوْ مَا يَشْتَمِلْ
…
عَلَيهِ يُلفَى أَوْ كَمَعْطُوفٍ بِبَلْ
وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْداً صَحِبْ
…
وَدُونَ قَصْدٍ غَلَطٌ بِهِ سُلِبْ
كَزُرْهُ خَالِدَاً وَقَبِّلْهُ اليَدَا
…
وَاعْرِفْهُ حَقَّهُ وَخُذْ نَبْلاً مُدَى
قسَّمَ لك البدل إلى أربعة أقسام:
(مُطَابِقَاً أَوْ)، (أَوْ) هنا للتقسيم، (بَعْضَاً أَو مَا يَشْتَمِل عَلَيهِ) هذا الثالث، (أَوْ كَمَعْطُوفٍ بِبَلْ)، ثُمَّ قسَّمَ لك الرابع هذا إلى قسمين: بدل غلط، وبدل إضراب.
(مُطَابِقَاً) بالنصب: مفعول ثاني لقوله: (يُلْفَى) والضمير نائب فاعل مفعوله الأول، إذاً:(يُلْفَى) يتعدى إلى مفعولين، وهو مُغيَّر الصيغة هنا، نائب الفاعل مفعوله الأول وهو عائدٌ على البدل، يُلفَى البدلُ مطابقاً، هذا النوع الأول وهو الذي يُعبَّر عنه: بدل كل من كل.
(أَوْ بَعْضَاً) أو يُلْفىَ بعضاً، وهو القسم الثاني، وهو المسمى: بدل بعض من كل.
(أَوْ مَا يَشْتَمِل عَلَيهِ)، (يَشْتَمِلْ) هذا فعل مضارع، و (عَلَيهِ) مُتَعلِّق به، و (ما) اسمٌ موصول في محل نصب معطوف على مُطَابِقَاً.
(يُلْفَى أَوْ) هذا كذلك حرف عطف، (كَمَعطُوفٍ) مثلَ معطوفٍ .. (مثلَ) بالنصب، فالكاف هنا بمعنى: مثل فهي اسمية، وهو مضاف و (مَعْطُوفٍ) مضاف إليه، (بِبَلْ) مُتَعلِّق بقوله:(مَعْطُوفٍ).
إذاً: أربعة أقسام:
الأول: بدل كل من كل، وشاع عند النحاة: بدل الكل من الكل، وهذا غلط؛ لأن (كل) هذا من الألفاظ الملازمة للإضافة، معنىً، بمعنى: أنه إذا حُذِفَ المضاف حينئذٍ يكون المضافُ إليه منوياً، وإذا كان المضاف إليه منوياً حينئذٍ لا تدخل (أل) على المضاف، الكل .. البعض هذا غلط، وإن شاع عند النحاة: بدل الكل من الكل، وبدل البعض من الكل، وكلا اللفظين لا يصح دخول (أل) عليهما، وإن تُسُومِحَ فيها وتُسُوهِلَ لا إشكال فيه.
بدل كل من كل، وحقيقته: هو بدل الشيء مما يطابق معناه، أي: يطابق معناه معناه، الثاني هو عين الأول، والأول هو عينُ الثاني، كلٌ منهما يصدق على ذاتٍ واحدة، والمرادُ بالمطابقة هنا: بحسب المصدق، المصدق يعني: ما يقع عليه الشيء، بأن البَدَل والمُبْدل منه واقعين على ذاتٍ واحدة، فنقول: جاء زيدٌ أخوك، أخوك نُعْرِبه بدلاً من زيد، بدل كل من كل .. هو عينه، ما يصدق عليه الأول: زيد، هو عين ما يصدق عليه الثاني: أخوك، وما يصدق عليه الثاني: أخوك هو عين ما يصدق عليه الأول: زيد، إذاً: كلٌ منهما يصدقان على ذاتٍ واحدة، هذا يُسمى: بدل كل من كل، يعني: الثاني كل الأول .. عينه .. كله لا بعضه، إذا فهمت أن البدل قد يكون بدل بعض، يعني: جزء، حينئذٍ فهمت أن المراد ببدل كل من كل: أنه عين الأول، كلٌ منهما يصدق على ذاتٍِ واحدة.
فلا يرد أنهما كثيراً ما يتغايران بحسب المفهوم: جاء زيدٌ أخوك، نقول: نعم، هذا التغاير باعتبار اللفظ؛ لأننا نقول: كيف يُقال: بأنهما ذاتٌ واحدة، ثم زيد لفظٌ مفهومه: أنه عَلَم على ذات، وأخوك كذلك وصفٌ لذات بالأُخُوة، نقول: هذا التغاير لا باعتبار الذات، وإنما باعتبار مفهوم اللفظ؛ لأن كل لفظٍ .. نحن لا نقول: الثاني عين الأول في اللفظ وإلا صار توكيداً: جاء زيد زيد، جاء أخوك أخوك، حينئذٍ صار الثاني توكيداً للأول، وإنما هنا يكون تغاير بينهما في اللفظ، فيحصل تغاير في مفهوم اللفظين، وأمَّا ما يقع عليه في الخارج .. ما يصدق عليه فهو شيءٌ واحد: جاء زيدٌ أخوك، هو عينه الذات واحدة.
وإن وُصِفتَ بكونها زيد لكونه علماً عليه، ووُصِفتَ بكونها أخوك لوصف الأُخوة، إذاً: الوصفان متغايران لكن لا يلزم منهما تغاير الذات فالذات واحدة.
بدل كل من كل: وهو بدل الشيء مما يطابق معناه، أي: يطابق معناه معناه، طابق معنى أخوك معنى زيد، " طابق معناه معناه " هكذا يقول هناك الصبَّان، طابق معناه معناه يعني: طابق معنى أخوك معنى زيد، المعنى الذي يصْدُق عليه، المسمى .. مسمى زيد ومسمى أخوك ذاتٌ واحدة، وإن حصل اختلاف في مفهوم اللفظ، هذا لا بُدَّ منه.
فلا يرد أنهما كثيراً ما يتغايران بحسب المفهوم نحو: جاء زيدٌ أخوك، ثُم التغاير الذي تقتضيه المطابقة ظاهرٌ إن اختلفا مفهوماً، وإلا جُعِلَ التغاير باعتبار اللفظ، إذاً: بدل كل من كل، وهو: البدل المطابق للبدل منه المساوي له في المعنى، مررت بأخيك زيدٍ، كذا مَثَّلَ ابن عقيل.
(وزُرْهُ خَالِدَاً) كما مَثَّل له الناظم، (زُرْهُ خَالِدَاً)، (خَالِدَاً) هذا بدل من الضمير .. ضمير الغَيبة.
مَثَّلوا له بقوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ)) [الفاتحة:6 - 7] صِرَاطَ بالنصب، ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6] نعت للصراط، ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) [الفاتحة:7]، نقول: صِرَاطَ هذا بدل كل من كل .. عينه .. عين الأول، هل مسماهما واحد؟ ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6]؟ وصفهُ بكونه مستقيماً، ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) [الفاتحة:7] المُنْعَم عليهم، في الخارج مصدقهما واحد، وإن اختلفا باعتبار الوصف: صراط مستقيم هذا وصفٌ لا شك أنه في اللفظ مغاير لقوله: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) [الفاتحة:7] هما متغايران في اللفظِ، أمَّا من حيث ما يصدق عليهما الصراط فنقول: هو واحد، ليس بصراطين، بل هو صراطٌ واحد، ولذلك فُسِّرَ بالقرآن، وفُسِّرَ بالإسلام .. فُسِّرَ بالنبي صلى الله عليه وسلم، كل هذه نقول: مصدقها واحدٌ.
وسَمَّاه ابن مالك - رحمه الله تعالى -: (بدل المطابق)، ولا يسميه: بدل كل من كل، لماذا؟ لأن الكُلِّية تقتضي الجزئية، بدل كل إذاً ثَمَّ جزء يُفهَم منه، جزءٌ وكل .. كلية وجزئية، إذاً يُفْهَم منه ذلك.
وجاء قوله: ((إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ)) [إبراهيم:1 - 2] بالجرِّ .. قراءة من جر، فاللهِ هذا بدل، ((صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللهِ)) [إبراهيم:1 - 2] بدل لا نقول: كل من كل؛ لأن الكلية هذه وصف، حينئذٍ نحتاج إلى نَقْلٍ في إثبات هذه الصفة، فباعتبار اللفظ لئلا يوهم نقصاً، انتقلنا إلى وصف مطابق، فاللفظ هذا مطابقٌ لما قبله:((الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللهِ)) [إبراهيم:1 - 2] اللهِ نقول: هذا مطابقٌ للحميد، مصدقهما واحد، وإن اختلفا في مفهوم اللفظ: عزيز .. حميد .. الله، مختلفة من جهة المعاني، لكن المصدق واحد، فالأسماء متعددة والذات واحدة، حينئذٍ اختلفت في المفهوم ولكن المصدق واحد، ولذلك سماه: بدل المطابق. وإنما يُطْلقُ كلٌ على ذي أجزاءٍ، وذلك مُمتنعٌ هنا، إذاً:(يُلْفىَ مُطَابِقَاً) هذا النوع الأول.
(أَوْ بَعْضَاً) يعني: بدل بعض من كل، نحو: أكلتُ الرغيفَ ثُلثَه، الرغيف: هذا كل، وهو قابل للتبعيض والتجزئة، فقيل: ثُلثَه هذا بدل بعض من كل؛ لأن الثلث يعني: ثلث الرغيف جزءٌ من المبدل منه، إذاً: بدل البعض من الكل هو بدل الجزء من كله، قليلاً كان ذلك الجزء أو مساوياً أو أكثر، فهو ليس كالاستثناء، الاستثناء عند النحاة خلاف، هل يجوز استثناء الأكثر أم الأقل، أم المساوي؟ الأقل متفق عليه، والمساوي فيه خلاف، والأكثر فيه خلاف.
أمَّا البدل فلا .. لا يُشترط فيه ذلك، سواءٌ كان البدل أقل، أو أكثر، أو مساوي: أكلتُ الرغيف ثُلثَه هذا أكثر، نِصْفَه أقل، ثُلثَيه هذا أكثر، إذاً: هذا جائز.
وهو بدل الجزء من كله قليلاً كان ذلك الجزء، أو مساوياً، أو أكثر (أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أو نِصْفَهُ أو ثُلُثَيْهِ)، ولا بُدَّ من اتصاله بضميرٍ يرجع للمبدل منه، بخلاف بدل كل من كل، ذاك لا يُشترط فيه ضمير؛ لأنه صار كالجملة التي وقعت خبراً، وكانت هي مبتدأ في المعنى، هذا بدل الكل من الكل: جاء زيدٌ أخوك، أخوك هو عين زيد، وزيدٌ هو عين أخيك، حينئذٍ لا نحتاج إلى رابط، كما أن الجملة إذا وقعت خبراً عن المبتدأ وكانت هي المبتدأ في المعنى لا نحتاج إلى رابط، وأمَّا الرغيف والثلث فهما غيران، حينئذٍ نحتاج إلى رابطٍ يربط البدل .. بدل البعض من كل بضميرٍ يعود على المبدل منه.
ولا بُدَّ من اتصاله بضميرٍ يرجع للمبدل منه بخلاف البدل المطابق، فإنه لا يحتاج إلى رابطٍِ لكونه نفس المُبدلِ منه في المعنى، كما أن الجملة التي هي نفس المبتدأ في المعنى لا تحتاج لرابطٍ.
وقال في (شرح الكافية): " اشترط أكثر النحويين مصاحبة بدل البعض والاشتمال لضميرٍ عائدٍ على المبدل منه، والصحيح عدم اشتراطه، ولكن وجوده أكثر " لكن أكثر النحاة على أنه: شرط .. لا بُدَّ في بدل الجزء أو البعض من كل أن يكون مضافاً إلى ضميرٍ .. هو أو يكون معه ضمير يعود على المبدل منه، وابن مالك لا يرى أنه شرطٌ، وإنما وجوده أكثر.
ثُمَّ هذا الضمير قد يكون مذكوراً كالأمثلة السابقة: أكلت الرغيف ثُلثَه، وقد يكون محذوفاً، نحو قوله تعالى:((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ)) [آل عمران:97] منهم، مَنِ اسْتَطَاعَ (مَن) هذا بدل بعض من كل ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ)) [آل عمران:97] الناس كل، مَنِ اسْتَطَاعَ: بدل بعض من كل، منهم: هذا ضمير مُقدَّر.
وحُمِلَ عليه قوله: ((ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)) [المائدة:71] منهم: هذا كثير إذا أعربناه: بدل بعض من كل، حينئذٍ لا بُدَّ من الضمير، والضمير هنا ملفوظٌ به، وقيل كثيرٌ: هذا مبتدأ مؤخر وعموا: جملة مقدمة خبر.
على كلٍّ: لا بُدَّ من الضمير، والضمير قد يكون مذكوراً وقد يكون محذوفاً.
بدل بعض من كل نحو: أكلت الرغيف ثُلثَه، (وقَبِّلهُ اليَدَا)، (قَبِّلهُ) الضمير يعود على خالداً، (قَبِّلهُ اليَدَا) قَبِّلهُ كُلَّه؟ اليدَا، إذاً: هذا بدل بعض من كل.
وقال بعضهم: شرط صحته صحة الاستغناء عنه بالمبدل منه، يعني: شرط الصحة هنا، إذا قلت: أكلت الرغيف ثُلثَه، يصح أن تقول: أكلت ثُلثَ الرغيف، صح أو لا؟ صح أن يستغنى عن المبدل منه بالبدل .. بدل البعض من الكل، فبدل من أن تقول: أكلت الرغيف ثُلثَه .. أكلت ثُلثَ الرغيف، وهذا صَحَّ، إذاً: إذا صَحَّ هذا التعبير وهذا التركيب صار بدل بعضٍ من كل.
شرط صِحَّته: صِحَّة الاستغناء عنه بالمبدل منه، وكذلك بدل الاشتمال، فلا بُدَّ في كلٍ من بدل البعض وبدل الاشتمال من دلالة ما قبله عليه إجمالاً .. لا بُدَّ أن يَدُّلَ عليه إجمالاً، بخلاف بدل المطابق فلا يشترط ذلك؛ لأنك إذا قلت: أكلت الرغيف، هذا مُحتَمِل أنك أكلت الرغيف كله، أو أكلت بعضه، إذاً: دَلَّ عليه، فإذا قلت: ثُلثَه حينئذٍ دُلَّ على الثُلث بالرغيف لأن الاحتمال وارد.
كذلك إذا قلت: أكلت الرغيف ثُلثَيه .. نِصفَه نقول: الرغيف وإسناد: أكلت إليه، مُحتمِلٌ لأن يكونَ بعضاً من الرغيف لا كُلَّه، فَدُلَّ عليه إجمالا، كذلك: أعجبني زيدٌ عِلمُه، عِلمُه: بدل اشتمال، حينئذٍ نقول: أعجبني زيده دَلَّ إجمالاً على بدل اشتمال.
الثالث: بدل الاشتمال: وهو بدل شيءٍ من شيءٍ يشتمل عامِلُه على معناه، هذا على رأي ابن هشام رحمه الله تعالى، إذا قيل: أعجبني زيدٌ عِلْمُه، أين بدل الاشتمال .. أين البدل؟ عِلمُه .. اشتمال، أي الشيئين اشتمل على الآخر .. هل العلم اشتمل على زيد، أو زيد مشتملٌ على العلم، أو العامل: أعجبني، هو الذي اشتمل على البدل؟ هذا محل النزاع .. ثلاثة أقوال.
قيل الأول: هو المشتمل على الثاني: زيد اشتمل عِلْمَ .. الذي يليه، وقيل: العلم هو مشتملٌ على زيد الثاني، وقيل: العامل.
والظاهر أنه العامل، وإن كان اشتهر عند النحاة أنه الثاني، الذي هو العلم مشتملٌ على زيد، أو زيد مشتملٌ على العلم، وإن كان العلاقة بينهما علاقةٌ بغير الكلية والجزئية كما سيأتي.
اختلف النحاة في المشتمل في بدل الاشتمال فقيل: الأول الذي هو المُبْدَل منه السابق: أعجبني زيدٌ علمه، وقيل: الثاني، الذي هو البدل، وقيل: العامل، الذي هو: أعجبني، واختار ابن مالك: بأن المشتمل هو الأول .. المُبْدَل منه، وقال الفارسي:" المشتمل هو الثاني " واختار ابن هشام: أن المشتمل هو العامل في المُبْدَل منه، وهو رأي المُبَرِّد، والسيرافي، وابن جِنّي، قيل: وهو الصحيح، وهو الظاهر.
فمثلاً قولك: أعجبني زيدٌ علمهُ، فالإعجاب اشتمل على كلٍ من البدل والمُبْدَل منه، لأن الذي أعجبك زيد، وأعجبك أيضاً علمه، فهما محلٌ الإعجاب، إذاً أعجبني: العامل هو الذي اشتمل على البدل والمُبْدَل منه. فالإعجاب اشتمل على كلٍ من البدل والمُبْدَل منه، ونحو: سُرِقَ زيدٌ ثوبُه، أو فرسُه، فإن السرقة واقعةٌ على المبدل منه وهو زيد بطريق التجَوّز، سُرِقَ زيدٌ ثوبه، نقول: سرق هنا اشتمل على زيد، واشتمل على الثوب أو الفرس، اشتماله على زيد، لم يُسرق هو بعينه وإنما ثوبه، لكن يصح إسناد السرقة لزيد من باب المجاز .. تجَوّز، وإلى الثوب حقيقةً، إذاً: اشتمل اللفظ: سُرِقَ، على المُبْدَل والمبدل منه. وعلى ثوبه أو فرسه بطريق الحقيقة، فهذا القول مطرد في كل الأمثلة، لو أرَدْتَ أن تسلك الأمثلة تجد أن العامل يشتمل على المُبْدَل والمُبْدَل منه، لكن لو قيل بالأول أو بالثاني قد لا يطرد، وإليك الأمثلة.
بخلاف القولين الأولين، فلا يطردان في كل الأمثلة: سُرِقَ زيدٌ عبْدُه، هذا لا يشتمل زيد على العبد، زيد منفصل عنه، الثاني منفصلٌ عن الأول، فيكون رَداً للقول الأول، ونحو: سُرِقَ زيدٌ فرسُه، الفرس ليس مشتملٍ على زيد، إذاً: لا يستقيم مع كل الأمثلة، علمه يمكن، علمه .. كلامه .. وجهه .. يحتمل هذا، أمَّا فرسه نقول: لا يشتمل الفرس على زيد. فلا يشتمل الفرس على زيد فيكون رداً للقول الثاني.
إذاً: بدل الاشتمال بدل شيءٍ من شيءٍ يشتمل عامله على معناه، وإن رأيت قول ابن مالك تقول: اشتمل الأول على الثاني، وإن رأيت قول الفارسي تقول: اشتمل الثاني على الأول، فالمشتمل حينئذٍ إمَّا الأول وإمَّا الثاني وإمَّا العامل، ونحن الآن نقول: العامل. بدل شيءٍ من شيءٍ يشتمل عامله على معناه بطريق الإجمال: أعجبني زيدٌ علمه، أو كلامه، فلا بُدَّ حينئذٍ كما اشتُرِطَ في بدل البعض من الكل أن يكون مشتملاً على ضميرٍ عائدٍ على المبدل منه كالشرط السابق، سواءٌ كان مذكوراً أو محذوفاً مقدراً:((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) [البقرة:217] قِتَالٍ فِيهِ الضمير يعود على الشهر الحرام.
أو مُقدَّر: ((قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ)) [البروج: 4 - 5] فيه! هذا بدل اشتمال، فيه نقول: الضمير هنا مُقدَّر.
إذاً: بدل الاشتمال، وهو الدآل على معنىً في متبوعه، نحو: أعجبني زيدٌ علمه، وَاعْرِفْهُ حَقَّهُ، حق: هذا بدل اشتمال من قوله: اعْرِفْهُ .. الهاء، حينئذٍ صار بدل اشتمال.
بدل الاشتمال قيل: ما صح الاستغناء عنه بالأول، وليس مطابقاً ولا بعضاً، قد يُقال: أعجبني زيد .. سُرِقَ زيد، قد يستغنى عن بدل الاشتمال، لأن الأول قد يُسْنَد إليه الفعل: سُرِقَ زيدٌ، أو أعجبني زيد .. أعجبتني الجارية كلامها، حينئذٍ نقول: الأول يغني عن الثاني .. قد يستغنى عنه، لماذا؟ لصحة إسناد الأول .. الفعل إلى الثاني، ولو على جهة المجاز: سُرِقَ زيدٌ، أطلقت الكل: زيد، على أنه الذي سُرِقَ منه فرسه مثلاً أو ثوبه.
إذاً: ما صَحَّ الاستغناء عنه بالأول وليس مطابقاً ولا بعضاً، ولذلك بعضهم يُعبِّر عن بدل الاشتمال: ما كانت العلاقة بينه وبين المُبْدَل منه بغير الكلية والجزئية، وهذا أوضح، لماذا؟ لأنك تنظر في البدل: إمَّا أن يكون بدل كل من كل .. العلاقة بينهما كلية، أو بدل بعض .. جزء من كل، العلاقة جزئية، إن لم يكن هذا أو ذاك فهو بدل اشتمال، وأكثر ما يكون: يُعبَّر عنه بالمصدر، أعجبني زيدٌ علمُه .. كلامُه، ونحو ذلك. وأكثر ما يكون بالمصدر: أعجبني زيدٌ علمُه، وقد يكون بالاسم نحو: سُرِقَ زيدٌ ثوبه، هذا النوع الثالث.
الرابع الذي أشار إليه بقوله: (أَوْ كَمَعطُوفٍ بِبَلْ).
وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْداً صَحِبْ
…
وَدُونَ قَصْدٍ غَلَطٌ بِهِ سُلِبْ
وهو البَدَلْ المُبَايِّن للمُبْدَل منه، البدل لا بُدَّ أن يكون مقصوداً كما سبق بيانه، التَّابعُ المَقْصُودُ بالْحُكْمِ، إذاً: لا بُدَّ أن يكون مقصوداً، فإن لم يكن مقصوداً فالأصل فيه: ألا يكون بدلاً، هذا الأصل، لكن تَجوَّز النحاة بتسميته بدل غلط، وبدل نسيانٍ كما سيأتي.
إذاً: البدل لا بُدَّ أن يكون مقصوداً، فالمُبْدَل منه إن لم يكن مقصوداً البتة، وإنما سبق اللسان إليه فهو بدل الغلط .. بدلٌ سببه الغلط، يعني: من إضافة المُسبَّب إلى السبب، بدل الغلط أي: بدلٌ سببه الغلط، لأنه بدلٌ عن اللفظ الذي هو غلط، لا أنه نفسه غلط: رأيت كلباً حماراً، هو أراد أن يقول: حماراً فأخطأ في اللسان فقال: كلباً، إذاً: حماراً نقول: هذا بدل غلط، هو البدل المقصود الآن بالحكم، والسابق هو الذي وقع غلطاً، إذاً: ما سبب المجيء بـ حماراً هذا؟ الغلط السابق، وليس هو عينه غلطٌ في نفسه. فهو بدل الغلط، أي: بدلٌ سببه الغلط، لأنه بدلٌ عن اللفظ الذي هو غلط، لا أنه نفسه غلط، هذا إن لم يكن مقصوداً بالأصل.
وإن كان مقصوداً فإن تبيَّن بعد ذكره فساد قصده فبدل النسيان، يعني: أراد أن يُخبِر عن شيء، فأخبر به ثم أراد أن يُغيَّر تلك الإرادة الجازمة التي عَبَّر بها عن الأول: تصدقت بدينارٍ ردهمٍ، لمَّا قال: دينار تبين فساد قصده، فقال: درهمٍ، لما قال بدينار بعد لفظه بدا أن ينظر في نيته، فإذا بها فاسدة، فقال: درهمٍ، حينئذٍ يكون الثاني كالأول مقصوداً، كلٌ منهما مقصود، إلا أن الثاني يكون بدل نسيان. وإن كان مقصوداً فإن تَبيَّن بعد ذكره فساد قصده فبدل نسيان، أي: بدل شيءٍ ذُكِرَ نسياناً، ويكون كلٌ منهما صحيح، وكل منهما واقع، إلا أنه أراد أن يَعدِل عن الأول لسوء قَصْدٍ، سواء كان لله أو غيره، والثاني يكون هو المقصود بالبدل .. هو المقصود بالإسناد.
وقد ظهر أن الغلط مُتَعلِّق باللسان، والنسيان مُتَعلِّق بالجنان، يعني: إن كان الخطأ مُتَعلِّقاً باللسان فهو بدل الغلط، وإن كان مُتَعلِّقاً بالقلب فهو النسيان، وإن كان قصد كل واحدٍ من المُبْدَل والمُبْدَل منه فبدل الإضراب، ويُسمى أيضاً: بدل البداء، مثل: أكلت خبزاً لحماً، قَصَدْتَ أولاً الإخبار بأنك أكلت خبزاً، ثم بدا لك أن تُخبِر أنك أكلت لحماً أيضاً، فقلت: أكلت خبزاً لحماً، فالثاني بدل إضراب، كأنك أضربت عن الأول، فهو في معنى (بلْ) كأنه قال: أكلت خبزاً بل لحماً، وكلٌ منهما مقصودٌ.
قال هنا الشارح: البدل المباين للمبدل منه وهو المراد بقوله: (أَوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ)، وهو على قسمين:
أحدهما: ما يُقصَد متبوعه كما يقصد هو، كلٌ منهما مقصود: المبدل والمبدل منه، وهو يُسمى: بلد الإضراب، لأنه بمعنى (بلْ)، وسبق معنا (بلْ) الإضرابية.
وبدل البداء، بداء كسحاب أي: الظهور، سُمي به لأن المُتَكلِّم بدا له ذكره بعد ذكر الأول قصداً، يعني: قصد الثاني كما قصد الأول، أكلت خبزاً لحماً، قصدت أولاً الإخبار بأنك أكلت خبزاً، وهو حقيقة أيضاً، ثُمَّ بدا أنك تخبر أنك أكلت لحماً أيضاً، يعني: أضربت عن ذلك في اللفظ فقط، وأمَّا في القصد فهو مراد، وكلٌ منهما مراد. دون أن تسلُب الحكم عن الأول: أكلت خبزاً لحماً، أخبرت عن الأول، ثُمَّ ظهر لك وبدا لك أن تخبر بالثاني، فقلت: أكلت خبزاً لحماً.
والأول ما حكمه؟ كما هو باقٍ مُخبرٌ به، حينئذٍ أكلت اثنين .. شيئين: خبزاً ولحماً، وحينئذٍ صار الإبطال الذي هو معنى (بلْ) في اللفظ فحسب، وأمَّا في القصد فلا، ولذلك عَبَّر الناظم هنا بالقصد:(وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْدَاً) فالعبرة حينئذٍ بالمقصد، وهو المراد بقوله:(وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْدَاً صَحِبْ) أي: البدل الذي هو (كمَعطُوفٍ بِبَلْ) انسبه للإضراب، فقل: بدل إضراب، إن قُصِدَ مبتوعه كما يُقصَدُ هو، كلٌ منهما مقصود: المبدل والمبدل منه.
الثاني: ما لا يُقصَد متبوعه، بل يكون المقصود البدل فقط، وإنما غَلِط المُتَكلِّم فذكر المبدل منه، ويُسمى: بدل الغلط والنسيان، وأكثر النحاة على هذا: أن بَدَلَ الغلط والنسيان شيءٌ واحد، وابن هشام تَكلَّف، حاول أن يُفرق بينهما، والفرق بينهما عسير، والقول: بأن ذاك في الجنان وذاك في اللسان، هذا يحتاج إلى إثبات.
نحو: رأيت رجلاً حماراً! رأى شبحاً من بعيد .. رأيت رجلاً، ثُمَّ قرُب منه قال: حماراً، يعني: ظهر له أنه ليس برجل، أو سبق له في اللسان فأراد أن يقول: رأيت حماراً، فقال: رأيت رجلاً، ثم قال: حماراً، يعني: يحتمل هذا ويحتمل ذاك. أردت أن تخبر أولاً أنك رأيت حماراً فغلطت بذكر الرجل، وهو المراد بقوله:(وَدُونَ قَصْدٍ غَلَطٌ بِهِ سُلِبْ) أي: إذا لم يكن المبدل منه مقصوداً فيسمى البدل بدل غلط، لأنه مزيلٌ للغلط الذي سبق، وهو ذكر غير المقصود.
إذاً: هذه أربعة أنواع: بدل مطابق .. كل من كل، وبدل جزء من كل، أو بدل بعض من كل، وبدل اشتمال، وبدل الإضراب والغلط، وكلاهما في مرتبة واحدة، زاد بعضهم: بدل كل من بعض عكس، بدل بعض من كل: أكلت الرغيف ثلثه، هذا بدل جزء من كل، وهل يرد بدل كل من بعض؟
جماهير النحاة على المنع: أنه لا يأتي في لسان العرب، لكن بعضهم زاده واستدلوا بقول الشاعر:
رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا
…
بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
(رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا .. طَلْحَةَ)، طَلْحَةَ قالوا: هذا بدل كل من بعض، لأن الأعظُم جمع عظمٍ، وهو جزء من طلحة، طلحة: عظمٌ ولحمٌ، إذاً:(رَحِم الله أعظماً طلحة الطلحات)، (طلحة) هذا بدل كل من بعضٍ.
ومَثَّل له السِيُوطي بقوله تعالى: ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ)) [مريم: 60 - 61] فأولئك يدخلون الجنة: جنة واحدة، قال: جنات عدنٍ، هذا بدل كل من بعض، جنات متعددة والجنة هذه واحدة، لكن هذا يمكن أن يُجاب عنه: بأن الجنة صارت اسم جنس هنا، دخلت عليه (أل) فتعم، حينئذٍ يكون بدل كل من كل، لكن في الأول هو في اللفظ واحد، ولكنه في المعنى متعدد، على كلٍ هو فرح بهذه الآية: فأولئك يدخلون الجنة .. جنات عدنٍ. وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة.
إذاً: هذا البدل الخامس وهو بدل بعض من كل، إن قيل به، ومثل هذا البيت لا يصلح أن يكون مثبتاً لقاعدة عامة، وإلا الأصل المنع، لأنه يمكن تأويله.
وأمَّا بدل الغلط: فاختلف النحاة في جوازه، فمذهب سيبويه وكثيرٌ من النحاة على أنه جائزٌ في النثر والنظم، وقيل: في الشعر خاصة دون النثر، وقيل: عكسه يعني: في الشعر دون النثر، يعني: يجوز في النثر دون الشعر، لأن الشعر يقال بروية .. تفكير، كيف يحصل به الغلط؟ يمكن الغلط نحن نقول: في اللسان، أراد أن يُخبِر بشيء فأخبر بغيره، في النثر ممكن، أمَّا في الشعر هذا فيه نوع صعوبة، وما كان كذلك لا يسوغ الغلط وقيل: لا مطلقاً، لا يوجد لا في النثر ولا في الشعر .. لا وجود له في كلام العرب، وإنما هو مستحدث، وهذا هو الظاهر: أنه لا وجود له في كلام العرب.
(وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ) عرفنا الآن قوله: (مُطَابِقاً أَوْ بَعْضَاً أَوْ مَا يَشْتَمِل)، (مَا) أي: بدلاً يشتمل على المبدل منه، فما: هنا موصولية واقعة على البدل، أي: بدلاً يشتمل على المبدل منه، هذا على كلام ابن مالك، أو عاملاً يشتمل على المبدل منه، على ما ذكرناه سابقاً، (أَوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ) أي: بعد الإثبات، أو كمعطوفٍ ببل .. ليس مطلقاً وإنما هو بعد الإثبات، وهذا التشبيه إنما يتم في بدل الإضراب دون بدلي الغلط والنسيان، إلا أن يُقال التشبيه في مجرد كون الثاني مبايناً للأول بمعنى: أنه ليس عينه، ولا بعضه، ولا مشتملاً عليه.
إذا قيل: (أَوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ) عرفنا أن البدل الرابع هذا على نوعين: بدل غلط ونسيان، وبدل إضراب، حينئذٍ إذا قيل: إضراب بمعنى (بلْ) خرج بدل الغلط والنسيان، حينئذٍ اختص بواحدٍ من النوعين، (أوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ) وهذا إنما يكون بدل الإضراب .. بدل البداء، إذاً: أين النوع الثاني؟ خرج فليس داخلاً، إلا إذا جعلنا التشبيه هنا، أن يُقال التشبيه في مُجرَّد كون الثاني مبايناً للأول .. منفصل عنه .. مغاير له، (أوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ) بأن يكون الثاني مغايراً للأول، بمعنى: أنه ليس عينه، ولا بعضه، ولا مشتملاً عليه، فالمغايرة حصلت بذكر الأقسام الثلاثة الأولى، (أوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ) معناه على ظاهر النظم، إذا عممنا التشبيه ليدخل النوع الثاني، وهو بدل الغلط والنسيان، حينئذٍ (كمَعطُوفٍ بِبَلْ) أي: مغايراً للمبدل منه، ما وجه هذا التغاير؟ بألا يكون مطابقاً، ولا بعضاً، ولا مشتملاً عليه.
(وَذَا لِلاضْرَابِ اعْزُ)، (ذَا) اسم إشارة في محل نصب مفعول به، (اعْزُ) يعني: انسب، ذَا ماهو؟ (كمَعطُوفٍ بِبَلْ) فصَّل الرابع، (لِلاضْرَابِ) فَقُل بدل إضراب، (اعْزُ) يعني: انسب (لِلاِضْرَابِ) فَقُل: بدل إضراب، أي: انسب هذا البدل الشبيه بالمعطوف ببل للإضراب، كأن تقول: بدل إضرابٍ، (إنْ قَصْدَاً صَحِبْ) إن صحب قصداً صحب، (قَصْدَاً) هذا مفعولٌ به لفعلٍ محذوف، أو تجعله مفعولاً به للفعل المذكور .. على قولٍ.
إن صحب قصداً، قصداً أي: مقصوداً، يعني: أن يكون البدل مقصوداً، والأول مقصود، والثاني مقصود، كلٌ من التابع والمتبوع يكون مقصوداً، (صَحِبَ) هو أي: البدل المشار إليه بـ (ذا).
(وَدُونَ قَصْدٍ) يعني: من غير قصدٍ، دون بمعنى: غير منفية، منصوبٌ على الظرفية لمحذوفٍ، يعني: وإن وقع دون قصدٍ، أي: دون قصدٍ صحيح يسبق اللسان إليه، أو يُقصد ثم يتبيَّن فساد قصده ليعم النوعين، لأن الذي يقابل للإضراب نوعان: بدل غلط، وبدل نسيان، على ما ذكره ابن هشام.
دون قصدٍ صحيح يسبق اللسان إليه، أو يُقصَد، ثم يتبيَّن فساد قصده.
(غَلَطٌ) يعني: فهو غلط، غَلَطٌ خبر مبتدأ محذوف، على حذف مضافٍ، أي: فهو بدل غلطٍ، والهاء في قوله:(بِهِ) .. (غَلَطٌ بِهِ) مُتَعلِّق بقوله: (سُلِبْ) غلطٌ سُلِب به، والهاء هنا عائدٌ على البدل، وسلب صفةٌ لغلط، بمعنى: بدل الغلط، سُلب هو، ونائب الفاعل هنا يعود على الغلط، سلب غلطٌ به، يعني: بهذا البدل. ونائب فاعله ضميرٌ يعود للمُتَكلِّم للحكم المفهوم من السياق، أي: سُلِب ببدل الغلط الحكم عن الأول، وأثبت للثاني، غلطٌ به سُلِبَ .. غلطٌ سُلِبَ به، يعني: بواسطة البدل، سُلِبَ عن الأول ليكون للثاني .. سُلِبَ الحكم عن الأول ليكون للثاني، وجرى على هذا المرادي.
ويصح رجوع الضمير للغلط بمعنى: الخطأ، أي: رُفِعَ بهذا البدل الغلط في نسبة الحكم للأول، وَدُونَ قَصْدٍ وإن وقع البدل دون قصدٍ يعني: ليس مقصوداً، غَلطٌ فهو غلطٌ، (بِهِ) بهذا البدل سُلِبَ الحكم عن الأول وأعطي للثاني.
(كَزُرْهُ خَاَلِداً) كقولك: زُرْهُ الكاف داخلة على قولٍ محذوف، زُر: هذا فعل أمر، والفاضل ضمير مستتر، والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به، و (خَاَلِداً) هذا بدل مطابق .. بدل كل من كل، وفيه إشارة إلى جواز البدل من ضمير الغائب، لأن زُرْهُ: الضمير هنا للغائب، حينئذٍ الاسم الظاهر أُبدل منه، وهذا جائز.
(وَقَبِّلْهُ اليَدَا) الألف للإطلاق، (وَقَبِّلْهُ) كزره، والمفعول به الضمير .. الهاء، وهو عائد إلى خالد، (اليَدَا) هذا بدل بعض من كل، (وَاعْرِفْهُ حَقَهُ)، حَقَّهُ بالنصب، بدل من الضمير في اعْرِفْهُ، ثم انظر:(وَقَبِّلْهُ اليَدَا)، اليَدَا هذا بدل بعض من كل، لم يضف إلى ضمير، لو قلنا: شرط صحته أن يكون مضافاً إلى الضمير، وهذا يجري إمَّا على قول ابن مالك في غير هذا الكتاب: بأنه لا يشترط ولا إشكال، أو يشترط وتقوم (أل) مُقامه، لأنه يرى في غير هذا الكتاب أيضاً: أنه يشترط الضمير أو ما يقوم مقامه كـ (أل) وهنا (أل) قامت مقام الضمير فلا إشكال.
(وَاعْرِفْهُ حَقَهُ) حقَّ: هذا مصدر، وهنا أضيف إلى الهاء، وهو مرجعه والمُبدل منه.
(وَخُذْ نَبْلاً)، (نَبْلاً) اسم جمع للسهم، (مُدَىَ) جمع مُديِة وهي السكين، (خُذْ نَبْلاً مُدَىَ) غَلِطْ، أراد أن يقول: خذ سكيناً، قال: خذ نبلاً فأخطأ، أو أراد .. قصد النبل فقال: خُذْ نَبْلاً، ثم تبيَّن له أن يُخبِر عن الثاني فقال:(خُذْ نَبْلاً مُدَىَ) إذاً: يَحتمل مُدَىَ أنه بدل غلط، ويَحتمل أنه بدل إضراب، أضرب عن الأول في اللفظ فيكون مقصوداً، وجاء باللفظ الثاني، ولذلك قال هنا قوله:(وَخُذْ نَبْلاً مُدَىَ) يصلح أن يكون مثالاً لكل من القسمين، لأنه إن قُصِدَ النبل والمدى معاً فهو بدل الإضراب، وإن قُصِدَ المدى فقط .. الثاني دون الأول وهو جمع مدية: وهي الشفرة .. السكين، فهو بدل غلط.
إذاً: هذه أربعة أقسام للبدل .. لعمومه، وزدنا عليه: بدل البعض من الكل.
ثم قال: (وَمِنْ ضَمِيِرِ الحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا تُبْدِلْهُ) البدل كما سبق تابع، يتبع ما قبله في إعرابه، وهل حكمه حكم النعت، وعطف البيان: أنه يُشتَرَط أن يَتبع ما قبله إفراداً وتذكيراً وتثنيةً وجمعاً، وتعريفاً وتنكيراً أم لا؟ هذا فيه تفصيل. يُفهم من كون البدل تابعاً: أنه يوافق متبوعه في الإعراب، وهذا واضح، ولذلك قال: التَّابعُ المَقْصُودُ بالْحُكْمِ، دَلَّ على أنه يكون حكمه في الإعراب حكم المتبوع رفعاً ونصباً وخفضاً، وهذا حكمٌ عامٌ في جميع التوابع.
وأمَّا موافقته إياه في الإعراب والتذكير والتنكير وفروعها، نقول: هذا فيه تفصيل:
أمَّا التنكير والتعريف فلا يلزم، ولذلك يُبْدَل المعرفة من المعرفة، والمعرفة من النكرة، والنكرة من النكرة، والنكرة من المعرفة، كله وارد، فأمَّا التنكير والتعريف فلا يلزم موافقته لمتبوعه فيهما، بل تُبْدَل المعرفة من المعرفة، كقوله: صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ، كلها معارف في قراءة الجر، والنكرة من النكرة:((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ)) [النبأ: 31 - 32] مَفَازاً .. حَدَائِقَ: النكرة من النكرة، والمعرفة من النكرة:((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ)) [الشورى: 52 - 53] صراط الله: معرفة، وصراط مستقيم: نكرة، وهذا بدل كل من كل، والنكرة من المعرفة:((لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ)) [العلق: 15 - 16] النَّاصِيَةِ بـ (أل) معرِفة، ناصيةٍ: نكرة، إذاً: أبدل النكرة من المعرفة.
إذَاً: لا يشترط التنكير والتعريف، قد يكونا متوافقين، وقد يكونا مختلفين.
وأمَّا الإفراد والتذكير وأضدادهما، فإن كان بدل كل وافق متبوعه فيها ما لم يمنع مانع، يعني: في بدل المطابق، أو بدل كل من كل، يشترط فيه: المطابقة لما قبله، في الإفراد والتثنية والجمع إلى آخره. ما لم يمنع من التثنية والجمع مانع، ككون أحدهما مصدراً، وسبق أن المصدر يطلق ويراد به التثنية والجمع، ولذلك جاء:((مَفَازاً * حَدَائِقَ)) [النبأ: 31 - 32] مفازاً، لم يقل: مفاوز جمع مفازة، قال: مفازاً واحد، لماذا صح هنا أن يبدل وهو بدل كل من كل؟ نقول: مفازاً في المعنى: جمع، فهو موافق .. مطابق، من جهة المعنى مطابق، ومن جهة اللفظ لا، حينئذٍ العبرة بالمعنى، فإذا وقع مصدراً المبدل منه، ووقع البدل في بدل كل من كل مثنىً أو جمعاً لا إشكال، حينئذٍ نقول: التطابق حاصلٌ في المعنى، وإن لم يكن حاصلاً في اللفظ، لأن إطلاق المصدر وإرادة التثنية أو الجمع هذا واردٌ في لسان العرب.
كأن يكون مصدراً أو قُصد التفصيل كقوله:
وَكنتُ كَذي رجلينِ رِجلٍ صَحيحةٍ
…
ورجلٍ رمى فيها الزَّمانُ فشلَّتِ
(رجْلَين) مبدل منه .. متبوع، ورجلٍ صحيحةٍ: هذا بدل كل من كل، لأنه أراد أن يُفَصِّل: رجل صحيحة، ورجلٍ رمى بها الزمان فشلت، إذاً: هذا بدل كل من كل، ولم يحصل التطابق لماذا؟ لكون المراد بالبدل هنا: التفصيل، وحصلت المطابقة في المعنى. وإن كان غيره من أنواع البدل لم يلزم موافقته فيها، إذاً: لا إلزام لا في التنكير والتعريف ولا في الإفراد ولا في التثنية، ولا في الجمع إلا إذا كان بدل كل من كل، ما لم يمنع منه مانع كأن يكون المتبوع مصدراً، أو أن يكون المراد بالبدل التفصيل كالبيت الذي ذكرناه.
ثُمَّ قال:
وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا
…
تُبْدِلْهُ إِلَاّ مَا إِحَاطَةً جَلَا
(وَمِنْ ضَمِيرِ الحَاضِرِ الظَّاهِرَ)، (الظَّاهِرَ) ما إعرابه؟ مفعول به، لأي شيء؟ منصوبٌ من باب الاشتغال، أصل التركيب: الظاهرَ لا تبدله من ضمير الحاضرِ، لذلك لو أعربت أولاً (مِنْ ضَمِيرِ) أعربت الجملة، (مِنْ ضَمِيرِ) مُتَعلِّق بقوله:(تُبْدِلْهُ) إذاً: حقه التأخير، فتقول الترتيب: الظاهرَ لا تبدله من ضمير الحاضر، حينئذٍ أراد أن يتحدث في هذين البيتين على البدل في الضمائر، نقول: يبدل الظاهر من الظاهر، لا إشكال فيه، تقول: جاء زيدٌ أخوك، أبدلت الظاهر وهو أخوك من زيد، ولا إشكال.
ولا يُبْدل المضمر من المضمر .. الضمير من الضمير لا يُبدل .. لا يقع بدلاً عنه، ونحو: قُمتَ أنتَ، قد يقول قائل: أنتَ هذا بدل من قمتَ .. من التاء، نقول: لا، هذا توكيد وليس ببدل، ومررت بك أنت، أنتَ: هذا توكيد للكاف وليس بدلاً منه، فهو توكيدٌ اتفاقاً بلا خلاف بين النحاة، وكذلك نحو: رأيتك إياك، إياك: هذا توكيد للكاف وليس بدلاً منه، وكذلك نحو: رأيتك إياك عند الكوفيين والناظم، إذاً: لا يُبدل المضمر من المضمر، ويبدل الظاهر من الظاهر.
ماذا بقي؟ بقي إبدال المضمر من الظاهر، والظاهر من المضمر. ولا يبدل مضمرٌ من ظاهر، يعني: أن يكون المبدل منه .. المتبوع اسماً ظاهراً والبدل ضميراً هذا لا يُبدل .. مضمرٌ من ظاهر، ونحو: رأيت زيداً إياه، إياه قالوا: بدل من زيداً، وهو من بدل الضمير من الاسم الظاهر، قال ابن هشام: هذا من وضْع النحاة.
المثال هذا مُصْطَنع، يعني: جوزوا مثل هذا .. وهذا كثير عند النحاة، يعني انتبه! إذا لم يُورِد شاهد من قرآن أو سنة أو بيت، الأمثلة مثل هذه انتبه لها، لأنها كثير ما تكون مصطنعة: رأيت زيداً إياه، استقامت معه، حينئذٍ لا مانع منه، هذا من صنع النحاة كما قال ابن هشام.
إذاً: لا يُبْدل المضمر من الظاهر، ماذا بقي؟ الظاهر من المضمر. ويجوز عكسه مطلقاً، الذي هو النوع الرابع: إبدال الظاهر من المضمر، مطلقاً في جميع أنواع البدل، كل من كل .. بعض من كل .. اشتمال .. غلط، إلى آخره.
متى؟ إن كان الضمير لغائبٍ، كما قال الناظم:(كَزُرْهُ خَاَلِداً)، ونَحو:((وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)) [الأنبياء:3] على أحد الوجوه، الذين: هذا ظاهر، جاء بدلاً من الواو، لماذا نقول: بدل وليس بفاعل؟ لئلا يكون من باب: أكلوني البراغيث، لئلا يُحمل، لأن ظاهره .. صورته صورة: أكلوني البراغيث، وأسروا: هذا فاعل، الذين ظلموا، إذاً يلزم أن نقول: هذه الواو حرف وليست بفاعل، فيكون من باب: أكلوني البراغيث، نقول: لا، الصواب: إمَّا أن يُقال: (أسَرُّوا) الجملة خبر مقدمة، والذين ظلموا: مبتدأ مؤخر، ويجوز وجه آخر: أن يكون بدلاً .. بدل كل من كل، الذين ظلموا أسروا، الواو: هذا مبدل منه، إذاً: أبدل الظاهر من الضمير.
أو كان لحاضرٍ .. إن كان لغائبٍ أو حاضرٍ، بشرط أن يكون بدل بعضٍ، نحو: أعجبتني وجهك، هذا بدل بعض من كل، وهو لحاضرٍ، قيل ومنه:((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ)) [الأحزاب:21] كان لكم خطاب لجميع الصحابة، قيل:((لِمَنْ كَانَ يَرْجُو)) [الأحزاب:21] هل يلزم منه إذا قيل: بدل بعض من كل أن يكون الصحابة فيهم من يرجو وفيهم من لا يرجو؟ إذا قيل: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ)) [الأحزاب:21] لكم الكاف، قلنا:((لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) [الأحزاب:21] حينئذٍ (من) نقول: هذا بدل بعض من كل، إذاً: بعض يرجوا وبعض لا يرجوا؟ نقول: نعم، هو كذلك، ليس للصحابة، الخطاب عام لمن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم من لا يرجو من المنافقين، حينئذٍ الخطاب عام، ولذلك هي في سورة الأحزاب.
أو بَدَل اشتمال نَحو: أعجبتني كلامك، ومنه: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَناَؤُنَا، فـ:(مَجدنا وسناؤها) بَدَل من الضمير البارز الفاعل في بلغنا، وهو بدل اشتمال، أو بدل كلٍّ مفيدٍ للإحاطة، جئتكم كبيرَكم وصغيرَكم، نقول: هذا بدل كل من كل مفيدٌ للإحاطة، وهو بدلُ الظاهر من الضمير المخاطب، جئتكم من الكاف، ليس المُتَكلِّم، جئتكم الكاف هنا مبدل منه متبوع، صغيركم وكبيركم، نقول: هذا فيه معنى الإحاطة.
ويمتنع إن لم يُفد، خلافاً للأخفش فإنه أجاز: رأيتك زيداً ورأيتني عمراً، إذاً نقول القاعدة: أنه يجوز بدل الظاهر من الضمير، لكن بشرط أن يكون الضمير لغائب، أو لحاضرٍ بأن يكون بدل بعض، أو بدل اشتمال، أو بدل كل بشرط أن يكون مفيداً للإحاطة، وهذا الذي عناه بقوله:(وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا تُبْدِلْهُ)، الظاهر لا تبدله من ضمير الحاضر، (مِنْ ضَمِيرِ) قلنا: هذا مُتَعلِّق بقوله: (لَا تُبْدِلْهُ)، و (الظَّاهِرَ) هذا مفعولٌ به لفعلٍ محذوف، لا تبدل الظاهر لا تبدله.
والمراد بالحاضر هنا: مُتَكلِّماً كان أو مخاطِباً، والمراد به الضمير البارز منهما، لأن ضمير الحاضر المستتر لا يبدل منه مطلقاً، فإن ورد ما يوهم ذلك قُدِّرَ للثاني فعلٌ من جنس الفعل المذكور، ولذلك قيل: تعجبيني جمالك، ويكون من إبدال الجملة.
(إِلَاّ) هذا استثناء، (مَا إِحَاطةً جَلَا)، (إِلَاّ مَا) يعني: ظاهراً جلا إحاطةً، ظاهراً جلا يعني: اتضح، جَلَا يَجلو، (إِحَاطَةً) هذا مفعولٌ به لقوله: جَلَا، وإِلَاّ هذه أداة استثناء، ومَا: منصوبٌ على الاستثناء، إلا ظاهراً كان بدل كلٍّ وجلا إحاطةً، ولا تحمل هنا (ما) على البدل، وليست (ما) واقعةً على بدل، لأنه يبطله العطف الآتي، لأنه قال: أَوِ اقْتَضَى بَعْضَاً أَوْ ظاهراً كلٌ جلا إحاطةً، حينئذٍ (ما) هنا واقعةٌ على لفظٍ ظاهر، وليست واقعة على البدل، لماذا؟ لأنه عطف عليها (أَوِ اقْتَضَى) فدل على أن المراد به الظاهر.
(أَوِ اقْتَضَى بَعْضَاً) هذا معطوفٌ على قوله: (مَا)، (أَوِ اشْتِمَالَا) ومثاله مثال الاشتمال، لأنه كان بدل اشتمال (كَإنَّكَ)، (كَإنَّكَ) كقولك:(إنَّك) لأن الكاف داخلة على قولٍ محذوف، والهمزة حينئذٍ تكون مكسورةً، (كَإنَّكَ ابْتِهَاجَكَ اسْتَمَالَا)، (كَإنَّكَ):(إن) والكاف هذه في محل نصب اسمها، (ابْتِهَاجَكَ) أي: فرحك، حينئذٍ يكون من بدل الاشتمال، ابتهاج: مصدر، وبينهما علاقة ليست بكلية ولا الجزئية، مثل: أعجبني علمه .. أعجبني كلامه إلى آخره، (اسْتَمَالَا) السين والتاء زائدتان، أو للصيرورة، أي: أمَلت القلوب إليك، أو صَيَّرتَها مائلةً إليك، و (اسْتَمَالَا) الألف هذه للإطلاق وهو فعل ماضي، والفاعل ضمير مستتر يعود على الكاف اسم إنَّ، فحينئذٍ تكون الجملة في محل رفع خبر إنَّ.
إن ابتهاجك: ابتهاجك هذا بدل اشتمال من الكاف، و (اسْتَمَالَا) الجملة خبر إنَّ.
(وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا
…
تُبْدِلْهُ) لماذا مُنِعَ الإبدال هنا؟ قالوا: إنما لم يَجُز البدل .. إبدال الظاهر من ضمير الحاضر لعدم الفائدة، لأن ضمير الحاضر في غاية الوضوح، فلا يحتاج إلى إبدال، لأن الإبدال فيه نوع كشفٍ، وفيه نوع إيضاح، فإذا كان الضمير بنفسه واضحاً فالواضح لا يحتاج إلى إيضاح.
من مفهوم قول الناظم هنا: (وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا
…
تُبْدِلْهُ) يُفهَم منه: أنَّ الظاهر يَجوز إبداله من الظاهر، لماذا؟ لأنه نفى نوعاً واحداً: من ضمير الحاضر الظاهر لا تبدله، إذاً: إبدال الظاهر من الظاهر يجوز، ومن ضمير الغائب .. لأنه قال:(وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ) .. ومن ضمير الغائب؟ ظاهر النص بالمفهوم: أنه يجوز إبداله، إذاً: تبدل الظاهر من الظاهر، وتبدل الظاهر من ضمير الغائب مطلقاً كما ذكرناه سابقاً .. بالمفهوم، هو نص بالمنطوق على ماذا؟ على أنه لا يبدل من الحاضر الظاهر، يعني: لا يكون الاسم الظاهر بدلاً والمبدل منه ضمير الحاضر مُتَكلِّماً كان أو مخاطَباً، مفهومه: أنه تبدل الظاهر من الظاهر، وتبدل الظاهر من ضمير الغائب.
فُهِم منه: جواز إبدال الظاهر من الظاهر، ومن ضمير الغائب مطلقاً، كما ذكره الناظم في أمثلته، ولا يجوز أن يبدل الظاهر من ضمير المُتَكلِّم أو المخاطب، وهذا الذي نص عليه: الظَّاهِرَ لَا تُبْدِلْهُ من ضمير المُتَكلِّم أو المخاطب، هذا بالنص، والمفهوم: أخذنا منه المسائل الأخرى، (إِلَاّ) هذا استثناء من جواز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، إذاً: كأنه يقول لك: لا تبدل الظاهر من ضمير الحاضر إلا إذا اقتضى بأن يكون الثاني مقتضٍ للإحاطة، وذلك فيما إذا كان بدل كل من كل، أو كان بدل بعض، أو كان بدل اشتمال.
إذاً: ما الذي مُنِع .. إذا جَوَّز بدل البعض والاشتمال والكل؟ بقي: بدل كل من كل .. بدل كل لا يقتضي إحاطةً، وبقي بدل الإضراب، لأنه يجوز أن تبدل من ضمير الحاضر الاسم الظاهر إذا كان البدل بدل بعض، ويجوز إذا كان بدل اشتمال، ويجوز إذا كان بدل كل من كل، لكن مع إحاطةٍ، بأن يكون ثَمَّ بينهما مَا يُشْعِر بالإحاطة، فإن لم يكن كذلك حينئذٍ المنع، ولم يبق إلا القليل.
(إِلَاّ مَا إِحَاطَةً جَلَا) إلى آخر كلامه .. إلا إذا كان البدل بدل كلٍ وفيه معنى الإحاطة، فإن لم يكن فيه معنى الإحاطة، فمذاهب:
أولها: المنع، وهو مذهب البصريين، وهو ظاهر كلام الناظم هنا.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الكوفيين والأخفش.
وثالثها: يجوز في الاستثناء نحو: ما ضربتكم إلا زيداً، وهو قول قطرب.
قال الشارح هنا: " أي: لا يبدل الظاهر من ضمير الحاضر إلا أن كان البدل بدل كلٍ من كل، واقتضى هذا البدل .. بدل كل من كل الإحاطة والشمول، يعني: دل على الإحاطة والشمول، أو كان بدل اشتمال، أو بدل بعضٍ من كل، ولم يبق إلا بَدَل الغلط والإضراب، وبدل الكل إذا لم يفد إحاطةً فلا يجوز. " فالأول الذي اقتضى الشمول كقوله: ((تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا)) [المائدة:114] لنا .. نا: هذا ضمير مُتَكلِّم، أولنا: هذا ظاهر، الأصل ألا يجوز إبدال الاسم الظاهر من الضمير الحاضر، لكن هنا لمَّا كان: أولنا وآخرنا، البدل بالعطف يقتضي الإحاطة، حينئذٍ جاز أن يكون بدلاً من (نا).
إذاً لأولنا نقول: هذا بدل من قوله: (نا)، ما الذي جَوَّزه؟ لكونه يقتضي الإحاطة، بنفسه أو بمعطوفه؟ أولنا: هذا بعض، لكن بالمعطوف هنا: لأولنا وآخرنا، إذاً: حصل العطف ثم دَلَّ على الإحاطة، فالإحاطة حاصلة لا بلفظ: أولنا، وإنما بالعطف، و (نا) هذا مبدلٌ منه، إذاً: جاز إبدال الاسم الظاهر من الضمير الحاضر وهو المُتَكلِّم هنا (نا) لكون البدل .. بدل كل من كل وهو يقتضي إحاطة، فإن لم يدل على الإحاطة امتنع: رأيتك زيداً، زيداً: هذا بدل كل من كل، نقول: لا يجوز، لأنه ظاهر، رأيت: معروف أنه يخاطب .. رأيتك، زيداً: هذا ما استفدنا منه شيء.
والثاني: الذي هو بدل الاشتمال، كقوله:
ذَرِيني إنَّ أمْرَكِ لَنْ يُطَاعَا
…
وما ألْفَيتِني حِلْمِي مُضَاعَا
حلمي: هذا اسم ظاهر .. بدلٌ من الياء: ألفيتِني .. بكسر التاء، إذاً: الياء هذا ضمير حاضر، وحصل منه البدل بحلم وهو بدل اشتمال، وهو مصدر كما هنا.
أَوْعَدَنِي بِالسَّجْنِ وَالأدَاهِمِ رِجْلي ..
(رِجْلي) هذا اسمٌ ظاهر، أوعدني: بدل من الياء وهو بدل بعض من كل.
ثُمَّ قال:
وَبَدَلُ المُضَمَّنِ الهَمَزَ يَلِي
…
هَمْزَاً كَمَنْ ذَا أَسَعِيدُ أَمْ عَلِي
إذا أبدل من اسمٍ .. اسم استفهام .. معلومٌ أن اسم الاستفهام إنما بُنِي لتضمنه معنى حرف الاستفهام، إذا أُبدِلَ من اسم استفهامٍ وجب أن يقترن بالبدل حرف الاستفهام.
(وَبَدَلُ المُضَمَّنِ الْهَمْزَ) وَبَدَلُ: هذا مبتدأ، وهو مضاف، و (المُضَمَّن) مضافٌ إليه.
(المُضَمَّن الهَمَزَ) يعني: معنى الهمز، الْهَمْزَ: هذا مفعولٌ به للهمز مفعولٌ ثان، والمفعول الأول نائب فاعل، (وَبَدَلُ المُضَمَّنِ) يعني: المبدل منه، المضَمَّن الهمز المستفهم به، (يَلِي هَمْزاً) يلي الجملة خبر مبتدأ .. بدل مبتدأ، ويلي: الضمير هنا يعود على البدل، يلي البدل همزاً .. يلي همزاً .. يليه همزاً، فالجملة هنا خبر المبتدأ، وهمزاً هذا مفعولٌ ليلي. همزاً مستفهماً به وجوباً، كقولك:(مَنْ ذَا أَسَعِيدُ أمْ عَلِي) من: مبتدأ، وذا: اسم إشارة خبره، أسعيدُ الأصل: من ذا سعيدٌ أم علي؟ لمَّا كان سعيد بدل من (من) وهو اسم استفهام وجب اقتران الهمزة بالبدل، فتقول:(مَنْ ذَا أَسَعِيدُ أمْ عَلِي) فـ: (سعيد) بدل من (من) .. بدل تفصيل.
وكذلك: كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ وما صنعت أخي أخيراً أم شراً؟ وكيف جئت أراكباً أم ماشياً؟ إذاً نقول: إذا أُبدل من اسمٍ اسم استفهامٍ مضمَّن معنى همزة الاستفهام وجب اقتران الهمزة بالبدل، ولذلك قال هنا: إذا أُبدل من اسم استفهامٍ وهو اسمٌ مضمن معنى حرف الاستفهام، وجب دخول همزة الاستفهام على البدل: من ذا أسعيدٌ أم علي؟ وما تفعل أخيراً أم شراً، ومتى تأتنا أغداً أم بعد غد؟
إذاً قوله: (وَبَدَلُ المُضَمَّنِ) هذا فيه تَصريحٌ بإخراج ما صُرِّح معه بأداة الاستفهام، حينئذٍ لا يصح أن تدخل الهمزة على البدل، هل أحدٌ جاءك زيدٌ أو عمروٌ؟ لا تقل: أزيدٌ، لماذا؟ لأنه صُرِّح هنا بحرف الاستفهام، وكلامنا في: اسم استفهامٍ ضُمِّن معنى حرف الاستفهام، فلو صُرِّح به حينئذٍ خرج ما كان نصاً في الاستفهام وهو حرفٌ.
ونضير هذه المسألة: بدل اسم الشرط .. مثلها، لو أبدل من اسم الشرط حينئذٍ جيء بـ (إنْ) الشرطية مع البدل. ونظير هذه المسألة بدل اسم الشرط نحو: من يَقُم إن زيدٌ وإن عمروٌ أقُم معه، من يَقُم زيدٌ .. إن زيدٌ، لا بُدَّ من إعادة الحرف وهو حرف الشرط. من يَقم إن زيدٌ وإن عمروٌ أقم معه، فإنه يلي حرف الشرط الذي تَضمنه المبدل منه وهو بدل تفصيل.
(وَبَدَلُ المُضَمَّنِ) إذاً قوله: المضمن، خرج به ما صُرِّح معه بأداة الاستفهام أو الشرط على ما ذكرناه، فلا يلي البدل ذلك، نحو: هل أحدٌ جاءك زيدٌ أو عمروٌ، وكذا: إن تضرب أحداً رجلاً أو امرأةً أضربه، أي: إن تضرب أحداً رجلاً أو امرأةً، هنا صُرِّح به، فلا يجوز إعادة حرف الشرط، لو قيل: من يَقُم أزيدٌ أم عمروٌ أقم معه، حينئذٍ لا بُدَّ من الهمزة .. لا ليست الهمزة، من يَقُم إن زيدٌ وإن عمروٌ، وأمَّا إذا صُرِّح بالحرف .. حرف الشرط، حينئذٍ لا يجوز، فإذا قيل: إن تضرب أحداً، إذاً: صُرِّح بالحرف.
(وَبَدَلُ المُضَمَّنِ الهَمَزَ يَلِي هَمْزاً) كقولك: (مَنْ ذَا أَسَعِيدُ أَمْ عَلِي).
وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنْ الفِعْلِ كَمَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ
(وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنْ الفِعْلِ)، (يُبْدَلُ) هذا فعل مُغيَّر الصيغة، و (الفِعْلُ) هذا نائب فاعل، (مِنْ الفِعْلِ) مُتَعلِّق بقوله:(يُبْدَلُ).
(كَمَنْ
…
يَصِلْ إلَيْنَا يَسْتَعِن بِنَا يُعَنْ) هنا ظاهر كلامه أنه يجوز البدل مطلقاً ما قيده (يُبْدَلُ الفِعْلُ مِنْ الفِعْلِ) مطلقاً مطابقاً أو بعضاً أو ما يشتمل عليه، نقول: كله يدخل فيه، أم فيه تفصيل؟ ظاهر كلام الناظم الإطلاق، لكنه لم يُسْمع في لسان العرب إلا بَدَل كل من كل، وقيل: البعض، وأمَّا بدل الغلط والاشتمال قيل: أنه لم يُسمع.
(وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنْ الفِعْلِ) بدل كلٍ من كلٍ، قيل: باتفاق، فظاهره أن ذلك جائزٌ في جميع أقسام البدل، والمسموع من ذلك بدل الكل وبدل الاشتمال، وأمَّا بدل البعض وبدل الغلط هذا فيه خلاف، قيل: لا يبدل الفعل بدل بعضٍ من الفعل، وأثبته الشاطبي، ومثَّل له بنحو:"إِنْ تُصَلِّ تَسْجُدْ لِلرَّحمَنِ يَرْحَمْكَ"، هذا مصنوع .. إِنْ تُصَلِّ تَسْجُدْ: هذا بدل بعض من كل، لأن السجود بعض الصلاة، لكن هذا مصنوع، نقول: ائتي بالدليل أولاً .. أثبته ثم بعد ذلك يؤتى بالمثال. "إِنْ تُصَلِّ تَسْجُدْ لِلرَّحمَنِ يَرْحَمْكَ".
وأمَّا بعد الغلط فقيل: جوَّزَه سيبويه وجماعة، والقياس يقتضيه، ومثَّل له الشاطبي بقوله: إن تُطعم زيداً تَكْسه أكرمك، تَكْسُه .. تُكْسِه، يجوز فيه الوجهان، تكسه أكرمك: هذا بدل غلط، تطعم زيداً، ثم أراد أن يبيِّن أنه قد أخطأ في الأول .. غَلِط، أراد أن يقول: إن تكس زيداً، فقال: إن تطعم زيداً، لكن كما ذكرنا هذا فيه نظر من حيث أن هذا المثال مصنوع وليس بواردٍ.
ومَثَّل له المكُودِي بقوله: قام قعد زيدٌ، أراد أن يقول: قعد فقال: قام قعد زيدٌ، إذاً: بدل غلط.
وأمَّا بدل البعض قيل: لم يُسمع، إذاً: قول الناظم هذا محتملٌ أنه يرى الجواز في الجميع، وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ مطلقاً، أمَّا بدل كل من كل هذا متفق عليه، وبدل الاشتمال قيل كذلك، وأمَّا الغلط والبعض هذا لم يُسمع.
(كَمَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِن بِنَا يُعَنْ)، (كَمَنْ) اسم شرط مبتدأ، (يَصِلْ) هذا فعل مضارع فعل الشرط، (إِلَيْنَا) مُتَعلِّق به، (يَسْتَعِنْ) يصل .. يستعن، إذاً: هو مُشْتملٌ على الاستعانة، يصل .. يستعن، (يَسْتَعِنْ) هذا بدل اشتمال من يصل، لأن وصول قاصد الاستعانة يشتمل على الاستعانة، (بِنَا يُعَنْ) يُعَنْ: هذا جواب الشرط.
قال الشارح: " كما يُبدل الاسم من الاسم يبدل الفِعْل من الفِعْل، فيستعن بنا بدلٌ من يصل إلينا " قيل: مثله قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما * يُضَاعَفْ)) [الفرقان: 68 - 69] قيل يضاعف: هذا بدل اشتمال من قوله: ((يَلْقَ أَثَاما)) [الفرقان: 68] لأن لُقِيِّ الآثام أن يحصل له العذاب مضاعفاً، وهو يشتمل على المضاعفة، ولو قيل: بدل كل من كل كذلك .. بل هو الظاهر، فيضاعف: بدلٌ من يلق، فإعرابه بإعرابه وهو الجزم.
وكذا قوله:
إِنّ عليَّ اللهِ أَن تُبايِعَا
…
تُؤْخَذَ كَرْهاً. . . .
(تُؤخذَ) هذا بدل من قوله: تبايعا، بدل اشتمال كذلك، ولذلك نُصِبَ، وهنا ليس البدل بدل جملة من جملة لا، وإنما المراد بدل فعل من فعل، ولذلك يأخذ حكمه، هنا قال: تبايعا، بالنصب، تؤخذَ: بالنصب، كما قلنا هناك: عطف الفعل على الفعل، وهو ليس كعطف الجملة على الجملة.
قال ابن هشام: " ينبغي أن يُشترط لإبدال الفعل ما اشتُرط للعطف .. عطف الفعل على الفعل "، وهو .. ما هو شرط عطف الفعل على الفعل؟ اتحاد الزمن، ولا يشترط الموافقة في النوع، قال هنا:" ينبغي أن يشترط لإبدال الفعل ما اشتُرط لعطف الفعل على الفعل، وهو الاتحاد في الزمان دون الاتحاد في النوع، حتى يجوز: إن جئتني تمشي إليَّ أكرمك " جئتني تمشي .. تمشي: فعل مضارع، وجئت: هذا فعل ماضي، توافقا في الزمن.
وتُبدل الجملة من الجملة كذلك، كما يُبدل الفعل من الفعل. كما يعطف الفعل على الفعل، وتعطف الجملة على الجملة كذلك يُبدل الفعل من الفعل وتُبدل الجملة من الجملة نحو:((أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ)) [الشعراء: 132 - 133] الجملة الثانية بدلٌ من الجملة الأولى.
وقد تبدل الجملة من المفرد كقوله:
إِلى اللَّهِ أَشْكُو بالمَدِينةِ حَاجَةً
…
وبالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ يَلْتقِيانِ
أُبدِلَ: (كَيْفَ يَلْتقيانِ) من (حَاجَةً) و (أُخْرَى)، أي: إلى الله أشكوا هاتين الحاجتين تعذُر التقائهما.
وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنْ الفِعْلِ كَمَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِن بِنَا يُعَنْ
ونقف على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!