الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أثر تَارِيخ النَّص على الفَهْم الصَّحِيح، وسَلامة الاسْتِنْبَاط
إنَّ من نَفَائِسَ مَا يُعْلَمُ في علم دِرَاية الحديث معرفة التَّوَارِيخ التي تفسر الوقائع، وتحدد المعالم، وترجح بالأدلة الدَّامغة مسار النص ومقصوده؛ ممَّا يؤدي إلى أنوار الفهم والاستنباط الصحيح، قال النَّووي:"وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ: مَنْ جَمَعَ أَدَوات الْحَدِيثِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ واسْتَخْرَجَ كُنُوزَهُ الْخَفِيَات"(1)، فإنَّ الحكمة ضالة المؤمن أَنَّى وجدها فهو أحقُّ النَّاسِ بها (2)، ولا يمكن لأَحَدٍ أن يدرك حقيقة أي علم، أو أن يكشف خباياه إلا بالغوص في أعماق زواياه.
وعِلْمُ تَارِيخ النَّصِ النَّبوي يَعْتَمدُ على طرق تحديد وحساب الزَّمن الذي حَدَثَ فيه القول أو الفعل أو التَّقرير، وسوف نجد في الأمثلة التالية أنَّ أئمة شُرَّاح الحديث يذكرون مباشرةً تاريخ النَّص المحدد، ثم يُبَيِّنُون أو يُرَجِّحُون على ضوء هذا التَّاريخ من غير ذِكْرٍ مفصلٍ لكيفية تحديدهم لهذه التَّواريخ؛ وذلك إمَّا أنَّ يكون قَدْ حَسَبَهُ بقرائن ومرويَّات استحضرها من حفظه، أو أنَّهُ أخذها من شيخه، أو ممن قد حَسَبَهَا بقرائن ومرويَّات كذلك؛ ولِذَا قد خَفِيَ علينا هذا العلم الجليل "علم تاريخ النَّص النَّبوي"، فهو أشبه بعلم علل الحديث من هذه
(1) يحيى بن شرف، النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (1/ 4).
(2)
حديث إسناده ضعيف جدًا؛ لكنَّ معنى المتن صحيح وهو المراد من ذكره، أخرجه الترمذي في السنن، أَبْوَابُ الْعِلْمِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الفِقْهِ عَلَى العِبَادَةِ، (5/ 51)، برقم 2687، وابن ماجه في السنن، كِتَاب الزُّهْدِ، بَاب الْحِكْمَةِ، (2/ 1395)، برقم 4169، مداره على إِبْرَاهِيمَ بْنِ الفَضْلِ المخزومي، متروك الحديث انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 150).
الجهة، وفي هذا المبحث سوف نُحَاول توضيح كيفية استخدام أولئك القوم لهذه التَّواريخ في التوصل للفَهْم الصَّحِيح، وسَلامة الاسْتِنْبَاط.
المثال الأول: ما أخرجه البخاري في الصحيح، من حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ:«هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الحُمْسِ فَمَا شَانُهُ هَا هُنَا» ". (1)
قَالَ الحَافظُ ابْنُ حَجَرٍ في الفتح: " وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ (2): وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ إِنْكَارًا أَوْ تَعَجُّبًا فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: "ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس"، وَإِنْ كَانَ لِلاسْتِفْهَامِ عَنْ حِكْمَةِ الْمُخَالَفَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْحُمْسُ فَلا إِشْكَالَ". (3)
قلت: قال الأزهري: " الحُمْسُ: قُرَيْش وَمن ولدت قُرَيْش وكنانة، وجَديلَةُ قيس، وهم فهْم وَعَدْوان ابْنا عَمْرو بن قَيْس عَيْلَان، وَبَنُو عَامر بن صعصعة هَؤُلاءِ الحُمْس، سُمُّوا حُمْساً لأَنهم تَحمَّسُوا فِي دينهم أَي تَشَدَّدوا، قَالَ: وَكَانَت الحُمْسُ سُكَّانَ الْحرم، وَكَانُوا لا يخرجُون أَيَّام المَوْسِم إِلَى عَرَفَات، وَإِنَّمَا يقفون بالمُزْدَلِفة ". (4)
(1) البخاري، الجامع الصحيح، كِتَابُ الحَجِّ، بَابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، (2/ 162)، رقم:1664.
(2)
انظر: محمد بن يوسف، الكرماني، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، (8/ 160).
(3)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (3/ 517).
(4)
محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، (4/ 206).
وقد حَلَّ هذا الإشْكَالٍ في فهم مَعنى الحديث الحافظُ ابْنُ حَجَرٍ فذكر أنَّ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أنكر وتعجب من وقُوفِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ لأنَّه من قُرَيْش؛ على الرغم من أنَّهُ في هذه الحادثة كان مُسْلِمًا، فقال: وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فقال: فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: "ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس"، فَرُفِعَ الظنّ أنُّه لم يكن مسلمًا وقتئذٍ، أو الظن بأنَّه يعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشاه من ذلك، فَكَان الفَهَمُ الصَّحيح للنَّص بسبب معرفة تاريخ النَّص.
المثال الثاني: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ من حديث غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه عَنِ الْمُتْعَةِ؟ فَقَالَ: «فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ» ". (1)
قال النَّووي في شرح مسلم: "وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ فَالإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكُفْرِ هُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بُيُوتِ مَكَّةَ قَالَ ثَعْلَبٌ يُقَالُ اكْتَفَرَ الرَّجُلُ إِذَا لَزِمَ الْكُفُورَ وَهِيَ الْقُرَى وَفِي الأَثَرِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَهْلُ الْكُفُورِ هُمْ أَهْلُ الْقُبُورِ يَعْنِي الْقُرَى الْبَعِيدَةَ عَنِ الأَمْصَارِ وَعَنِ الْعُلَمَاءِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ أَنَّا تَمَتَّعْنَا وَمُعَاوِيَةُ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ عَلَى دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ،
…
وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ وَالْمُرَادُ بِالْمُتْعَةِ الْعُمْرَةُ الَّتِي كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ لْهِجْرَةِ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ مِنْ عُمَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوِيَةُ فِيهَا كَافِرًا وَلا مُقِيمًا بِمَكَّةَ بَلْ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم". (2)
(1) مسلم، الجامع الصحيح، بَابُ جَوَازِ التَّمَتُّعِ، كِتَابُ الْحَجِّ، (2/ 898)، رقم:1225.
(2)
يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (8/ 204)، بتصريف يسير.
قلت: أنَّه لْمَّا كان للفظة "كَافِر" في قوله: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ " في الحديث وَجْهَانِ، إمَّا بمعنى "كفر" أي قرية، وإمَّا بمعنى الكفر أي الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فاستخدم الإمام النَّووي تاريخ النَّص الحديثي لبيان أي هذه المعاني يقصد بها في هذا الحديث؛ فاستند إلى أنَّ هذا النَّص كان في عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، فرجح المقصود باللفظة وهو الكفر بمعنى الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعُلِمَ مقصود سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه على الوجه الصَّحيح.
المثال الثالث: ما أَخْرَجَهُ الإمَامُ مَالِكٌ في الموطأ من رواية يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ » قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ، قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". (1)
قَالَ ابْنُ عَبْدُ البَر في الاستذكار: "وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِهِ الْمَبْسُوطِ (2) فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ عز وجل أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ
(1) مالك بن أنس الأصبحي المدني، الموطأ، باب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ، كتاب الاسْتِسْقَاء، (2/ 268)، رقم:653.
(2)
كتاب الْمَبْسُوطِ (في نُصُوص الشَّافِعِي) جمعه البيهقي، وهو كتاب عظيم وصفه السٌُّبكي فقال:"وَأما الْمَبْسُوط فِي نُصُوص الشَّافِعِي فَمَا صُنف فِي نَوعه مثله"، كما في طبقات الشافعية الكبرى (4/ 9)، وأشار بروكلمان إلى وجود نسخة منه في مكتبة بودليانا بعنوان:" نصوص الإمام الشافعي"، كما في تاريخ الأدب العربي (6/ 232).
الْحَدِيثَ، قَالَ هَذَا كَلامٌ عَرَبِيٌّ مُحْتَمِلُ الْمَعَانِي، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلامِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ فَالْمُؤْمِنُ يَقُولُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ لأَنَّهُ لا يُمْطِرُ وَلا يُعْطِي وَلا يَمْنَعُ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا النَّوْءُ لأَنَّ النَّوْءَ مَخْلُوقٌ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلا لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يُرِيدُ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا وَهَذَا لا يَكُونُ كُفْرًا، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يُضِيفُونَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ أَنَّهُ أَمْطَرَهُ فَهَذَا كُفْرٌ يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ". (1)
قلت: المتأمل في قول الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله يجد أنَّه قد استخدم تاريخ النَّص القولي للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي حَدَثَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بشهر ذِي الْقِعْدَةِ سنة سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ (2)، وعلى ضوء ذلك فَسَّرَ قوله صلى الله عليه وسلم تفسيرًا صحيحًا؛ واستنبط أنَّه:"مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يُرِيدُ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا وَهَذَا لا يَكُونُ كُفْرًا"، مما يثبت قيمة تاريخ النَّص وأثره في فهم الحديث على الوجه الصَّحيح وسَلامة الاستنباط، وهذا مما يبرهن أنَّ علم تاريخ النَّص النبوي ربما ساهم في رفع الفتن عن الأمة الإسلامية في هذا العصر برفع الجهل عنها، والحكم على الأحداث ببصيرةٍ العلم وليس بمجرد التخرص والتأويل الفاسد.
(1) يوسف بن عبد الله بن عبد البر، الاستذكار، (2/ 438).
(2)
أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الصغير، (2/ 140).