المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب النهي عن القول بالقدر: - شرح الموطأ - عبد الكريم الخضير - جـ ١٨٤

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌باب النهي عن القول بالقدر:

المستقيم، الصراط الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [(143) سورة البقرة].

وأهل السنة وسط في جميع أبواب الدين بين أهل الغلو، أهل الإفراط، وأهل التفريط، وأهل السنة في هذا الباب وسط بين القدرية النفاة وبين الجبرية، يعني لو قرأنا في تفسير الزمخشري وجدناه على رأي القدرية النفاة، معتزلي هو، والرازي على العكس جبري، فهذا شأن أهل الأهواء، ينظرون إلى بعض النصوص ويتركون بعضاً، أو يضربون بعض النصوص ببعض، ويسعون إلى إبطالها، وأما أهل السنة فينظرون إلى النصوص بالعينين كلتيهما، قد يجد نافي القدر بعض النصوص، ويجد الغالي في إثباته بعض النصوص، فإذا ضرب بعضها ببعض فإما أن يكون هذا أو ذاك، أو ينسلخ من الدين بالكلية، -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه يحتار، كما قال:

كم عالم عالم أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي جعل الأفهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقاً

لماذا صار زنديق؟ لأنه ما اعتمد على الكتاب والسنة، وأهل العلم ينهون طلاب العلم من الاسترسال في مثل هذا الباب؛ لأنه في كثير من مباحثه لا بد أن ترضى وتسلم، وقدم الإسلام لا تثبت إلى على قنطرة التسليم، هناك كتاب عظيم في هذا الباب لابن القيم اسمه:(شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) لا يصلح لطبقات المتعلمين الأولى والثانية، المبتدئين والمتوسطين، إنما يقرأه المنتهي، وعقد ابن القيم رحمه الله مناظرات في هذا الباب، وأفاد وأجاد -رحمة الله عليه- كعادته.

المقصود أن على المسلم أن ينظر إلى النصوص كلها وأن يتوسط في هذا الباب، كما هو منهج ومذهب سلف هذه الأمة وأئمتها.

‌باب النهي عن القول بالقدر:

ص: 5

النهي عن القول بالقدر مبالغة في النفي أو في الإثبات، أو الاحتجاج به على ارتكاب ما حرم الله ونهى عنه، كما هو عادة المشركين، المشركون يقولون: لو شاء الله ما أشركنا، وهذه حجة ما زالت قائمة وباقية إلى يومنا هذا، إذا ليم الإنسان على فعل ما لا ينبغي فعله قال: هذا أمر قدره الله علي، والاحتجاج بالقدر لا يجوز على المعايب؛ لأن المعايب ترتكبها أنت وأنت مختار، نعم لن تخرج عما قدر الله لك، لكنك أنت المختار لارتكاب هذه المعايب، يعني هل يستطيع أن يقول الإنسان الذي لا يصلي: أنا مكتوب علي أني لا أصلي؟ وما يدريك أنه مكتوب عليك أنك ما تصلي؟ هل اطلعت على الغيب؟ هل يستطيع أن يقول: أنا لا أستطيع الذهاب إلى المسجد؛ لأن الله كتب علي ألا أصلي؟ نقول: تستطيع، لو تضرب بسوط ذهبت إلى المسجد، والذي يستدل بالقدر على فعل المعائب لا يستطيع أو لا يمكن أن يستدل بالقدر على معايب الآخرين تجاهه، ما يمكن، يعني لو ضربه إنسان واحتج هذا الإنسان الضارب بأن هذا أمر مقدر، أمر مقدر عليك، يرضى؟ ما يمكن أن يرضى، لكنه يبرر لنفسه ارتكاب المحرمات بهذه الحجة ولا يرضاها من غيره له، إذا كنت لا ترضى أن تضرب ويحتج بالقدر على أنك ضربت فكيف ترضى أن تتعامل مع ربك بهذه الحجة؟! والله المستعان.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحاج آدم وموسى)) " آدم أبو البشر، وموسى بن عمران نبي بني إسرائيل، من أولي العزم من الرسل، ومن أفضلهم ((تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى)) والأصل في الرواية أن تكون هذه بعد المحاجة، هذه النتيجة، أو يكون هذا إجمال تفصيله في قوله:((قال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ )) أنت آدم الذي أغويت الناس بأكلك من الشجرة طلباً للخلد فيها، بعد تسويل الشيطان، وتزيين الشيطان له، وتهوين الشيطان له بهذه المعصية طلباً للخلد أو للخلود فعوقب بالحرمان.

ص: 6

((أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ )) وفي الحديث الصحيح: ((أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، ثم تخرج الناس من الجنة تأكل من الشجرة)) لا شك أن هذا الذنب من آدم عليه السلام قبل أن يتوب الله عليه ويجتبيه ويهديه، ويوفقه للتوبة، أنه معصية وذنب، استحق عليه هذه العقوبة، ولو كان قبل التوبة، وقبل الاجتباء، وقبل الاصطفاء، لما جاز لآدم أن يحتج بما احتج به.

((قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء؟ )) قال أجاب آدم: ((أنت موسى الذي أعطاه علم كل شيء)) وفي الحديث الصحيح: ((أن الخضر قال له: ما علمي وما علمك إلى كما نقص هذا العصفور من البحر)) كيف يقول هنا: أعطاه علم كل شيء؟ يعني أعطاه التوراة الذي فيها التبيان لكل شيء.

طالب: وكتبنا له.

نعم؟

طالب: كتبنا له.

ص: 7

((الذي أعطاه علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم)) اسمعوا إلى حجة آدم، قال:((أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟! )) يعني الاحتجاج بالقدر على المعائب لا يجوز، وهو طريقة المشركين، طريقة كل من يبرر لنفسه ارتكاب المحظورات، يقول: هذا أمر مكتوب علي، لكن إن قال ذلك قبل التوبة رد عليه، وإن قال ذلك بعد التوبة بشروطها، وندمه على ما بدر منه بحيث تكون هذه المعصية مصيبة بالنسبة له وليست معيبة، آدم لما أكل من الشجرة، وأخرج من الجنة، وتاب من ذنبه، ووفقه الله للتوبة، واجتباه بعد ذلك، صارت مصيبة وإلا معيبة؟ مصيبة؛ لأن الأثر بقي، والذنب محته التوبة، التوبة تهدم الذنب، تهدم ما كان قبلها، وتجب ما كان قبلها، فالذنب انتهى أثره، بقيت المصيبة، وهو الأثر المترتب على هذا الذنب، له أن يحتج بالقدر، يعني شخص يمشي في طريقه فصدمته سيارة، بعد أن بذل جميع الأسباب أسباب السلامة، يعني ما عرض نفسه لئن يصدم، يعني بعض الناس يمشي من غير اكتراث، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ثم يحصل ما يحصل، يعاب عليه، ولا يحتج بالقدر حينئذ؛ لأنها معيبة هذه، بسبب نفسه، ويأثم بسبب ذلك، فيصير ذنباً، أما إذا فعل الاحتياطات اللازمة، وتحرى واحتاط لنفسه، ثم أتاه ما لم يكن بحسبانه، اصطدم، صدم، رعاك يا فلان ما تشوف؟ قال: هذا أمر كتبه الله علي وقدره، أشوف والتفت يمين وشمال، لكن طلع هذا ما أدري من وين طلع؟ هذا يحتج بالقدر؛ لأنه مصيبة، وليست معيبة بعد أن بذل جميع الأسباب، سواءً كان يمشي على قدميه أو في سيارة، أحياناً يكون الإنسان في طريقه، ويمشي السرعة المحددة بل أقل أحياناً، مما لا يؤثر على الآخرين، وفي طريقه وأسباب وسائل السلامة كلها قد بذلت، ثم بعد ذلك يأتيه شخص يقطع الإشارة، ويمشي على ما يقولون طبلون السيارة، ويقابله في خطه المعاكس لخط السيارة الأخرى، مثل هذا يحتج بالقدر، لكن الثاني ما يحتج بالقدر، لا يحتج بالقدر، هذا الذي قطع الإشارة وقابل الناس، هذا ليس له أن يحتج بالقدر؛ لأن هذه معيبة وليست مصيبة، بينما المصاب الذي بذل جميع الاحتياطات، هذا له أن يحتج، والله هذا أمر مكتوب، ما لنا مفر من المكتوب، وبعض العامة وهذا

ص: 8

سمع يخاف خوفاً شديداً أكثر من المطلوب شرعاً، ويحتاط أكثر مما ينبغي بذله من أسباب الاحتياط، ثم إذا قيل له: ترفق يا أخي، ما جاءك إلا المكتوب، قال: أنا ما أخاف إلا من المكتوب، اللي ما هو مكتوب ما هو بجاي، هذا الكلام بحد ذاته صحيح وإلا ما هو بصحيح؟ هو ما جاي إلا المكتوب، صحيح، واللي ما هو بمكتوب ما هو بحاصل، لكن أيضاً يلام على مقدماته قبل، نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

أصل المقدمات فيها الإساءة، الاحتياط والاحتراز الشديد، وكونه لا ينام، يعني يأوي إلى الفراش بعد صلاة العشاء، ويؤذن الفجر وهو يتقلب في فراشه؛ لأن بعض الأولاد ما بعد جاء، خائف عليهم، طيب خائف عليهم، ابذل من الأسباب الممكنة اللي يمكن أن تعدل طريقتهم فيها، أما أن تجلس في فراشك، وتقول: أنا خائف عليهم، وخائف من المكتوب، أبذل أسباب نافعة، إذا كنت خائف عليهم بالفعل، أما الأسباب التي هي مجرد أماني، أو حسرات فقط هذه ما تجدي، فلا شك أن مثل هذا يلام.

كلامه في الجملة يعني النتيجة صحيحة، لكن المقدمات والوسائل باطلة، مثل واحد يقول: ويش اللي ملأ المقابر إلا القدر؟ نعم؟ هذا الكلام في غايته ونهايته كل هذه الأمور كلها بآجال، وبأقدار من الله -جل وعلا-، لكن وسائل هذه النتائج هي التي يلام عليها الإنسان، يلام الإنسان على فعله لا على فعل الله -جل وعلا-، وحينما يناقش عن ما يبذله من أسباب واحتياطات أكثر من المطلوب شرعاً، أو وسائل واحتياطات غير شرعية، نعم، يلام على فعله هو، لا على فعل الله -جل وعلا-.

ص: 9

((أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟! )) الكافر إذا قال: أتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟ يعني هل لأبي لهب أو لأبي طالب أن يحتج بمثل هذا الكلام، أو من في حكمهما؟ لا، أولاً: ما الذي يدريك أنه كتب عليك أن تموت كافراً؟ الأمر الثاني: ما الذي منعك وقد ركب فيك الحرية والاختيار؟ يعني أبو طالب لا يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله حينما طلبت منه؟ يستطيع وإلا ما يستطيع؟ يستطيع؛ لأنه يتكلم بما شاء مختار حر، لكن لا يمكن أن يكون إلا ما أراده الله -جل وعلا- وقدره، يعني مع هذه الحرية، وهذا الاختيار، ولا شك أن هذا الباب من مضايق الأنظار، لكن الإنسان إذا تأمله بعين التحري والاتباع لا شك أنه يلوح له مثل الشمس.

بعض أهل العلم يقول: إن آدم حج موسى لسوء أدبه مع أبيه؛ لأن الأصل أن الابن يتأدب مع أبيه، يعني قال له: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ لكن هذا الكلام صحيح وإلا غير صحيح؟ غير صحيح، نعم على الابن أن يتأدب مع أبيه، وجاءت النصوص الكثيرة بهذا، لكن محور المسألة ومدارها على أن الاحتجاج بالقدر إنما هو على المعائب لا على المصائب، فلو أن آدم عليه السلام قال: أتلومني على أمر قدره علي قبل أن أخلق قاله قبل التوبة؟ قلنا: نعم، هذا احتجاج بالقدر ولا يجوز، قاله بعد التوبة وبعد الاجتباء وبعد الاصطفاء، وبقيت الآثار التي هي بالنسبة إليه وأولاده مصيبة، نعم يحتج بالقدر، أظن هذا في غاية الظهور.

ص: 10

"وحدثني يحيى عن مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [(172) سورة الأعراف] فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، حتى استخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)) ".

في هذا جبر وإلا اختيار؟ هذا موافق للقدر السابق، والكلام فيه مثل الكلام في القدر، مكتوب على زيد من الناس أنه يموت كافر، مكتوب على فلان أنه يموت مسلم، لكنه غير مجبور على هذا، وبين له، وأوجب عليه التكاليف، ومنع من المحرمات، واختار الطريق المعوج الذي يوصل إلى النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولم يختر الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة.

"فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ " يعني ما دامت النتائج معروفة، يعني لو دخل الأستاذ القاعة، وقال: القاعة مقسومة إلى قسمين، قسم يمين وقسم شمال وبينهما ممر، قال: هؤلاء ناجحين، كلهم ناجحون، وهؤلاء كلهم راسبون، وترى عندكم بكرة اختار، ويش لون اختبار؟ خلاص تعرف أن هؤلاء ناجحين، وهؤلاء راسبين ليش الاختبار؟ هذا بالنسبة للبشر اللي عقولهم ما تحتمل، نعم، هذا يمكن أن يجاب ففيما العمل؟ لماذا نذاكر؟ إحنا راسبين، وهؤلاء ناجحين، خلاص ما نحتاج مذاكرة، أعطنا النتائج وانتهينا.

ص: 11

ففيما العمل؟ ما دامت النتائج معروفة عند الله -جل وعلا- نعم، ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة)) يعني هل هذا مجرد من شيء يبذله هذا الشخص؟ أو مصحوب بما يبذله هذا الشخص من مما يؤديه إلى مثل هذا التوفيق؟ يعني هل المخلوق منه شيء وإلا ما منه شيء؟ لا بد أن يكون منه شيء يكون سبباً لهذا التوفيق.

((وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار))

يعني حينما يزني الزاني، أو يسرق السارق هل هو مرتاح راحة تامة يدل أن ذمته بريئة من هذا العمل؟ وأنه ليس له أي دور ولا دخل في هذه الجريمة، أو يحس من نفسه بالخطيئة؟ وأنه جاءها مختار، وميله القلبي إلى هذه الجريمة مما يكون سبباً في عذابه؟ كل إنسان يجد هذا من نفسه، الذي ذهب إلى المسجد، وتقدم إلى المسجد، وصلى ما كتب له، وقرب من الإمام، واستمع لقراءته، هذا لا شك أنه يجد في هذا ما يجد من اللذة والنعيم، وهو الفاعل لهذا الأمر، والله -جل وعلا- هو الموفق، له أن يفعل هذا، ولو شاء ربك ما فعلوه، لكن مع ذلك العبد وإن كانت هذه النتائج معلومة ومحسومة إلا أن له دوراً كبيراً في هذه النتائج، إذا بذل أسباب دخول الجنة دخلها بإذن الله، وإذا بذل أسباب دخول النار دخلها، وتبقى أن المسألة يعني كثير من الناس لا يستطيع استيعابها؛ لأنها من المضايق، فمثل هذا يقول: رضينا وسلمنا وآمنا، لا يسترسل وراء الذهن؛ لأنه قد يصل به الأمر إلى ما وصل بأولئك، لكن من تأملها، وبعد أن عرف النصوص الواردة في هذا الباب لا شك أنه تلوح له هذه القضايا مثل الشمس.

ص: 12

القرطبي ذكر في مسألة الفطرة، وأشار إلى هذا الباب من الموطأ، نقلاً عن ابن عبد البر يقول في المسألة الثانية:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [(30) سورة الروم] "الثانية: في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) في رواية: ((على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ )) ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [(30) سورة الروم] وفي رواية: ((حتى تكونوا أنتم تجدعونها)) قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيراً؟ قال:((الله أعلم بما كانوا عاملين)) هذا لفظ مسلم.

الثالثة: اختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة، منها الإسلام، قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل، واحتجوا بالآية؛ لأنه ما قال في الحديث أو يسلمانه، فدل على أن الإسلام هو الأصل، ثم أهله من شياطين الإنس والجن يجتالونه عن هذا الأصل، واحتجوا بالآية، وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً:((ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه؟ أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا مما أعطاهم الله حلالاً وحراماً)) المزارع يزرع الأرض بالأسباب الشرعية والثمار تطلع لا شبهة فيها ولا شية فيها، ثم بعد ذلك إذا حمل هذه الثمرة باع الصاع بصاعين، الأصل حلال، لكن تصرفه هذا جعل فيه الحرام، ومن الذي أرغمه على مثل هذا التصرف؟ ((وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا مما أعطاهم الله حلالاً وحراماً))

الحديث.

ص: 13

وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((خمس من الفطرة)) وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة، أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار، يعني على الميثاق.

وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ، قال: والفطرة في كلام العرب البداءة، والفاطر: المبتدئ، واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض؟ حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه، قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه، وذكر في باب القدر فيه من الآثار يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، يعني ابتداء الخلق، يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم.

يعني الحديث: ((فمسح ظهره، ثم قال: خلقت هؤلاء للجنة ثم مسح ظهره، فقال: خلقت هؤلاء للنار)) يقول: يدل على هذا، يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم.

ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [(30) سورة الأعراف] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله تعالى إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين، ثم قال: وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه! قال:((أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) خرجه ابن ماجه في السنن.

ص: 14

أقول: في كلام طويل

، إلى أن قال: قال شيخنا أبو العباس –يعني القرطبي-: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [(30) سورة الروم] وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير، وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة

أطال القرطبي رحمه الله في كلام كثير، وتفصيل في هذه المسألة، واستيعاب للأقوال، بما لا تجده في غيره، وأخشى أن يأخذ جميع الوقت، وإلا قراءته طيبة، ولو رجع إليه الإخوان وتأملوا ما فيه أفادوا، لا سيما وهو قد أحال إلى ما في هذا الكتاب، يعني فيه ارتباط بين ما ذكره، وبين ما عندنا، نعم؟

طالب: في وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [(172) سورة الأعراف] من الذي يتذكر هذا الميثاق؟

بعضهم قال: مما يحتج به على أن هذا مجرد الخلقة نعم أنه ما في أحد يذكر هذا الميثاق، نعم، كلام طويل، لو رجعت إلى التفسير وجت الكلام مفصل.

يقول: "وحدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم)) أو ((ما مسكتم)) أو ((ما مسَّكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه)) عليه الصلاة والسلام، فالاعتصام بالكتاب والسنة كفيل وضامن للمسلم ألا يزل ولا يزيغ ولا يحيد، ولا تؤثر فيه الفتن بإذن الله تعالى.

طالب:. . . . . . . . .

نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

مسكتم تمسكتم.

طالب:. . . . . . . . .

إيه بالتخفيف، ضبطها بالتخفيف، لكن الأصل فيها مسَّكتم {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ} [(170) سورة الأعراف] نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

التمهيد اللي معك؟ فيه الكلام الذي ذكره؟

طالب:. . . . . . . . .

عن نفس الحديث؟ لأنه أحال على .. ، قالها أبو عمر بن عبد البر، هذا اختيار مالك، أو كلام مالك قريب من هذا، لعله في الاستذكار مثلاً، في غير التمهيد.

طالب: كلام الإمام مالك في الموطأ يشير إلى هذا الكلام الثاني؟

ص: 15

يقول: نحو هذا الكلام، يقول: نحو، لو قارنت يعني لو قرأت جميع ما في التفسير في الجزء الرابع عشر صفحة أربعة وعشرين، ثلاثة وعشرين، خمسة وعشرين، ستة وعشرين، يعني في أوائله، قرأت ما في التفسير، وقارنت بين هذا الباب في الموطأ، وكتبت خلاصة وربطت بينهم يكون طيب جزاك الله خير، ونظرت إلى كلام ابن عبد البر إما في التمهيد أو الاستذكار.

طالب:. . . . . . . . .

لا، لا، نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

لا لا، شوف في أول الجزء الرابع عشر، مر علينا قريباً، ما أبطينا يعني، قبل شهر، قبل شهر ترى، صفحة أربعة وعشرين وخمسة وعشرين {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [(30) سورة الروم] سورة الروم.

طالب: على وجه المناظرة والإقناع إذا أردنا أن نفهم الشخص المقابل ألا يتوهم أن كل ما في الأمر أن الله سبحانه وتعالى علم أعمال العباد

التي لهم فيها الحرية والاختيار.

طالب: دون ذكر بقية المراتب، دون ذكر أو الإشارة إليها الكتابة والمشيئة والخلق؛ لأنه لو قلنا هذا لربما توهم أنه مجبور على هذا، وكل ما في الأمر أن الله سبحانه وتعالى علم ....

إذا كان الله -جل وعلا- يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، يعني لو كان كيف يكون؟ {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [(28) سورة الأنعام] الله -جل وعلا- يعرف أن هؤلاء إذا دخلوا النار، وعذبوا بسبب كفرهم وشركهم، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى شركهم، الله -جل وعلا- يعلم هذا، وأنهم يشركون بطوعهم واختيارهم، لا إجبار، يعني كل إنسان يعرف من نفسه أنه بيده أن يمسك هذا ويرميه على فلان ويفقأ عينه، في أحد يقول: والله أنا حاولت وعجزت؟ يعني سمعتم واحد أخذ حجر وقال: عجزت أرميه؟ ما في أحد، يقول: والله با أقوم للصلاة، وكلما قمت سقطت من غير علة إلا أنني مجبور على ترك الصلاة؟ هذا الكلام ما هو بصحيح، يعني هذا يدركه حتى الأطفال، حتى الأطفال يعرفون مثل هذه الأمور، هذه فطرة.

قال رحمه الله: "وحدثني يحيى عن مالك عن زياد بن سعد

"

طالب:. . . . . . . . .

وين؟

طالب:. . . . . . . . .

ص: 16

إيه الإمام مالك يريد أن يلفت نظر المسلم والقارئ لهذا الكتاب على وجه الخصوص أن يجعل الكتاب والسنة هما القائد، فإذا حاد عنهما يميناًَ أو شمالاً لا بد أن يضل، ولا يمكن أن يصل إلى الصراط المستقيم من غير طريق الكتاب والسنة.

قال: "وحدثني يحيى عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني أنه قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر" والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [(49) سورة القمر].

"قال طاوس: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل شيء بقدر)) " يعني موافق لما في القرآن، والتمثيل له ببعض الأفراد ((حتى العجز والكيس)) أو ((الكيس والعجز)) شك هل قدم العجز أو قدم الكيس؟ الكيس الحزم، الحزم هو الكيس، والعجز والتفريط ضده، يعني كون الإنسان إذا أمر فاستجاب بسرعة هذا كيس، إذا أمر ثم تراخى وتردد، أو رأى إلى عمل هو بحاجة إليه مما ينفعه في دينه أو دنياه بادر إلى فعله هذا كيس، وإذا تراخى حتى يفوت هذا عجز، وكل هذا بقدر الله -جل وعلا-.

قال: "وحدثني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن دينار أنه قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: "إن الله هو الهادي والفاتن" نعم الله -جل وعلا- هو الذي علم هذه الأمور وكتبها وقدرها على خلقه، فهو الهادي لمن يشاء، وهو المضل لمن يشاء، لكن من حيث الأسلوب يعني حقيقة الأمر هذا هو الواقع، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فالله -جل وعلا- هو الهادي وهو المضل، وهو الفاتن عن الصراط المستقيم، لكن لما علم الله -جل وعلا- من هؤلاء الهداة يعملون بعمل أهل الهداية، والغواة يعملون بعمل أهل الغواية.

ص: 17