المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصل فيما روي عنهم من ذم الجدال والخصومات في الدين وما كرهوا من ذلك - الانتصار لأصحاب الحديث

[أبو المظفر السمعاني]

الفصل: ‌ فصل فيما روي عنهم من ذم الجدال والخصومات في الدين وما كرهوا من ذلك

4 -

‌ فصل فِيمَا رُوِيَ عَنْهُم من ذمّ الْجِدَال والخصومات فِي الدّين وَمَا كَرهُوا من ذَلِك

عَن ابْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون)

وَعَن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه)

وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ ينْهَى عَن الْخُصُومَة وَيَقُول إِنَّمَا يُخَاصم الشاك فِي دينه

ص: 15

وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ إِنِّي لأدع المراء وَإِنِّي لأعلمكم بِهِ

وَقد جَاءَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} يَعْنِي حب الجدل

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ الْمُنَازعَة والجدال فِي الدّين مُحدث

وَاعْلَم أَنَّك مَتى تدبرت سيرة الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من السّلف الصَّالح وَجَدتهمْ ينهون عَن جِدَال أهل الْبِدْعَة بأبلغ النَّهْي وَلَا يرَوْنَ رد كَلَامهم بدلائل الْعقل

ص: 16

وَإِنَّمَا كَانُوا إِذا سمعُوا بِوَاحِد من أهل الْبِدْعَة أظهرُوا التبري مِنْهُ ونهوا النَّاس عَن مُجَالَسَته ومحاورته وَالْكَلَام مَعَه وَرُبمَا نهوا عَن النّظر إِلَيْهِ

وَقد قَالُوا إِذا رَأَيْت مبتدعا فِي طَرِيق فَخذ فِي طَرِيق آخر

وَلَقَد ظَهرت هَذِه الْأَهْوَاء الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ رَأس الْأَهْوَاء أَعنِي الْقدر والإرجاء ورأي الحرورية والرافضة فِي آخر زمَان الصَّحَابَة

ص: 17

فَكَانَ إِذا بَلغهُمْ أَمرهم أمروا بِمَا ذكرنَا وَلم يبلغنَا عَن أحد مِنْهُم أَنه جادلهم بدلائل الْعقل أَو أَمر بذلك

وَقد كَانُوا إِلَى عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أقرب وَقد شاهدوا الْوَحْي والتنزيل وعدلهم الله فِي الْقُرْآن وَشهد لَهُم بِالصّدقِ وَشهد لَهُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالخيرية فِي الدّين

وَكَانَت طاعتهم أجل وَقُلُوبهمْ أسلم وصدورهم أطهر وعلمهم أوفر وَكَانُوا من الْهوى والبدع أبعد

وَلَو كَانَ طَرِيق الرَّد على المبتدعة هُوَ الْكَلَام وَدَلَائِل الْعقل والجدال مَعَهم لاشتغلوا بِهِ وَأمرُوا بذلك وندبوا إِلَيْهِ

وَإِنَّمَا ظَهرت المجادلات فِي الدّين والخصومات بعد مُضِيّ قرن التَّابِعين وَمن يليهم حِين ظهر الْكَذِب وفشت شَهَادَات الزُّور وشاع الْجَهْل واندرس أَمر السّنة بعض الاندراس وأتى على النَّاس زمَان حذر مِنْهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَة من بعده

ص: 18

وَلَقَد صدق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ حَيْثُ يَقُول إِن الْقَوْم لم يُؤَخر عَنْهُم شَيْء خبئ لكم لفضل عنْدكُمْ وَإِنَّمَا كَانَ غايتهم التبري وَإِظْهَار المجانبة وَالْأَمر بالتباعد

وَالْمَشْهُور عَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَنه لما بلغه قَول أهل الْقدر قَالَ أبلغوهم أَنِّي مِنْهُم بَرِيء وَلَو وجدت أعوانا لجاهدتهم

وَقَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما لَو رَأَيْت بَعضهم لضَرَبْت رَأسه

وأتى رجل عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فَقَالَ أَخْبرنِي عَن الْقدر قَالَ طَرِيق مظلم فَلَا تسلكه قَالَ أَخْبرنِي عَن الْقدر قَالَ بَحر عميق فَلَا تلجه قَالَ أَخْبرنِي عَن الْقدر قَالَ سر الله فَلَا تكلفه

وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر قَالَ يُسْتَتَاب القدري فَإِن تَابَ وَإِلَّا نفي من بِلَاد الْمُسلمين

وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز يَنْبَغِي أَن نتقدم إِلَيْهِم فِيمَا أَحْدَثُوا من الْقدر فَإِن كفوا وَإِلَّا استلت ألسنتهم من أقفيتهم استلال

ص: 19

فَهَذَا طَرِيق الْقَوْم فِي أَمر الْبدع وَأَهْلهَا

قَالَ رجل من أهل الْبدع لأيوب السّخْتِيَانِيّ يَا أَبَا بكر أَسأَلك عَن كلمة فولى وَهُوَ يَقُول وَلَا نصف كلمة

وَقَالَ ابْن طَاوس لِابْنِ لَهُ وَتكلم رجل من أهل الْبدع يَا بني أَدخل أصبعيك فِي أذنيك ثمَّ قَالَ اشْدُد اشْدُد

وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز من جعل دينه غَرضا للخصومات أَكثر التنقل

ص: 20

وَقَالَ رجل للْحكم بن عتيبة مَا حمل أهل الْأَهْوَاء على هواهم

قَالَ الْخُصُومَات

وَقَالَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة وَكَانَ أَبوهُ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم إيَّاكُمْ وَهَذِه الْخُصُومَات إِنَّهَا تحبط الْأَعْمَال

وَقَالَ أَبُو قلَابَة وَكَانَ قد أدْرك غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجالسوا أَصْحَاب الْأَهْوَاء أَو قَالَ أَصْحَاب الْخُصُومَات لَا تكلموهم

ص: 21

فَإِنِّي لَا آمن أَن يغمسوكم فِي ضلالتهم أَو يلبسوا عَلَيْكُم بعض مَا تعرفُون

وَدخل رجلَانِ من أَصْحَاب الْأَهْوَاء على مُحَمَّد بن سِيرِين فَقَالَا يَا أَبَا بكر نحدثك بِحَدِيث قَالَ لَا قَالَا نَقْرَأ عَلَيْك آيَة من كتاب الله قَالَ لَا لتقومان أَو لأقومن

وَكَانُوا يَقُولُونَ إِن الْقلب ضَعِيف وَإِنَّا نَخَاف إِن استمعت مِنْهُم شَيْئا أَن يمِيل قَلْبك إِلَى قَوْلهم

وَقَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي اعلموا أَن اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة أسلم والخوض فِي أَمر الدّين بالمنازعة وَالرَّدّ حرَام والاجتناب عَنهُ سَلامَة

وَأَرْجُو أَن يجوز الْقيَاس على الأَصْل الثَّابِت من الْعَالم الفطن المتيقظ

وَلَا تكَاد تَجِد شَيْئا من تَأْوِيل الْكتاب مُخَالفا لسنة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا صحت الرِّوَايَة

ص: 22

وَعَامة تاركي الْعلم وَالسّنة وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء والرأي والمقاييس لثقل السّنة عَلَيْهِم

وَلَا أعرف حديثين يُخَالف أَحدهمَا الآخر وَلكُل مَا رُوِيَ من الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة معَان يعلمهَا أهل الْعلم بهَا

فَهَذَا الَّذِي نَقَلْنَاهُ طَريقَة السّلف وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ

ص: 23

وَاعْلَم أَن الْأَئِمَّة الماضين وأولي الْعلم من الْمُتَقَدِّمين لم يتْركُوا هَذَا النمط من الْكَلَام وَهَذَا النَّوْع من النّظر عَجزا عَنهُ وَلَا انْقِطَاعًا دونه وَقد كَانُوا ذَوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وَقد كَانَت هَذِه الْفِتَن قد وَقعت فِي زمانهم وَظَهَرت وَإِنَّمَا تركُوا هَذِه الطَّرِيقَة وأضربوا عَنْهَا لما تخوفوه من فتنتها وعلموه من سوء عَاقبَتهَا وسيء مغبتها

وَقد كَانُوا على بَيِّنَة من أُمُورهم وعَلى بَصِيرَة من دينهم لما هدَاهُم الله بنوره وَشرح صُدُورهمْ بضياء مَعْرفَته فَرَأَوْا أَن فِيمَا عِنْدهم من علم الْكتاب وحكمته وتوقيف السّنة وبيانها غناء ومندوحة مِمَّا سواهَا وَأَن الْحجَّة قد وَقعت وتمت بهما وَأَن الْعلَّة والشبهة قد أزيحت بماكنهما

فَلَمَّا تَأَخّر الزَّمَان بأَهْله وفترت عزائمهم فِي طلب حقائق عُلُوم الْكتاب وَالسّنة وَقلت عنايتهم بهَا واعترضهم الْمُلْحِدُونَ بشبههم والطاعنون فِي الدّين

ص: 24

بجدلهم حسبوا أَنهم إِن لم يردوهم عَن أنفسهم بِهَذَا النمط من الْكَلَام وَدَلَائِل الْعقل لم يقووا عَلَيْهِم وَلم يظهروا فِي الْحجَّاج عَلَيْهِم

فَكَانَ ذَلِك ضلة من الرَّأْي وخدعة من الشَّيْطَان

فَلَو سلكوا سَبِيل الْقَصْد ووقفوا عِنْدَمَا انْتهى بهم التَّوْقِيف لوجدوا برد الْيَقِين وروح الْقُلُوب ولكثرت الْبركَة وتضاعف النَّمَاء وانشرحت الصُّدُور وأضاءت فِيهَا مصابيح النُّور

وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ عِنْد أهل الْحق بعد مَا تدبروا وَظهر لَهُم بِتَوْفِيق الله سَبَب ذَلِك

وَهُوَ أَن الشَّيْطَان صَار الْيَوْم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نَفسه زِيَادَة فهم وَفضل ذكاء وذهن يُوهِمهُ أَنه إِن رَضِي فِي عمله ومذهبه بِظَاهِر من السّنة وَاقْتصر على وَاضح بَيَان مِنْهَا كَانَ أُسْوَة الْعَامَّة وعد وَاحِدًا من الْجُمْهُور والكافة وَأَنه قد ضل فهمه واضمحل عقله وذهنه

فحركهم بذلك على التنطع فِي النّظر والتبدع لمُخَالفَة السّنة والأثر ليمتازوا بذلك عَن طبقَة الدهماء ويتبينوا فِي الرُّتْبَة عَمَّن يرونهم دونهم فِي الْفَهم والذكاء

ص: 25

فاختدعهم بِهَذِهِ الْمُقدمَة حَتَّى استزلهم عَن وَاضح المحجة وأورطهم فِي شُبُهَات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عَن حقائقها وَلم يخلصوا مِنْهَا إِلَى شِفَاء نفس وَلَا قبلوه بِيَقِين علم

وَلما رَأَوْا كتاب الله ينْطق بِخِلَاف مَا انتحلوه وَيشْهد عَلَيْهِم بباطل مَا اعتقدوه ضربوا بعض آيَاته بِبَعْض وتأولوها على مَا يسنح لَهُم فِي عُقُولهمْ واستوى عِنْدهم على مَا وضعوه من أصولهم

ونصبوا الْعَدَاوَة لأخبار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عَنهُ وردوها على وجوهها وأساؤوا فِي نقلتها القالة ووجهوا عَلَيْهِم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إِلَى ضعف الْمِنَّة وَسُوء الْمعرفَة بمعاني مَا يَرْوُونَهُ من الحَدِيث

وَلَو أَنهم أَحْسنُوا الظَّن بسلفهم وآثروا متابعتهم وسلموا حَيْثُ سلمُوا وطلبوا الْمعَانِي حَيْثُ طلبُوا واجتهدوا فِي رد الْهوى وخداع الشَّيْطَان لانشرحت صُدُورهمْ وَظهر لَهُم برد الْيَقِين وروح الْمعرفَة وضياء التَّسْلِيم مَا ظهر لسلفهم وبرز لَهُم من أَعْلَام الْحق مَا كَانَ مكشوفا لَهُم

غير أَن الْحق عَزِيز وَالدّين غَرِيب وَالزَّمَان مفتن

{وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور}

ص: 26