الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 -
من عَلَامَات الْفرْقَة النَّاجِية اشتغالهم بِالْحَدِيثِ نقلا وَعَملا
فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّكُم سميتم أَنفسكُم أهل السّنة وَمَا نَرَاكُمْ فِي ذَلِك إِلَّا مدعين لأَنا وجدنَا كل فرقة من الْفرق تنتحل اتِّبَاع السّنة وتنسب من خالفها إِلَى الْهوى وَلَيْسَ على أصحابكم مِنْهَا سمة وعلامة أَنهم أَهلهَا دون من خالفها من سَائِر الْفرق فَكلهَا فِي انتحال هَذَا اللقب شُرَكَاء متكافئون ولستم أولى بِهَذَا اللقب إِلَّا أَن تَأْتُوا بِدلَالَة ظَاهِرَة من الْكتاب وَالسّنة أَو من إِجْمَاع أَو مَعْقُول
الْجَواب قَوْلكُم إِنَّه لَا يجوز لأحد دَعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَة عادلة أَو دلَالَة ظَاهِرَة من الْكتاب وَالسّنة هما لنا قائمتان بِحَمْد الله وَمِنْه
قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَأمرنَا باتباعه وطاعته فِيمَا سنّ وَأمر وَنهى وَحكم وَعلم
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي) وَقَالَ (من رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني)
ثمَّ لعن تَارِك سنته على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ (سِتَّة لعنتهم وكل نَبِي مجاب الدعْوَة) وَذكر فِي آخِره التارك لسنتي
فَوَجَدنَا سنته وعرفناها بِهَذِهِ الْآثَار الْمَشْهُورَة الَّتِي رويت بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاح الْمُتَّصِلَة الَّتِي نقلهَا حفاظ الْعلمَاء بَعضهم عَن بعض
ثمَّ نَظرنَا فَرَأَيْنَا فرقة أَصْحَاب الحَدِيث لَهَا أطلب وفيهَا أَرغب وَلها أجمع ولصحاحها أتبع فَعلمنَا يَقِينا أَنهم أَهلهَا دون من سواهُم من جَمِيع الْفرق فَإِن صَاحب كل حِرْفَة أَو صناعَة مَا لم يكن مَعَه دلَالَة عَلَيْهِ من صناعته وَآلَة من آلاته ثمَّ ادّعى تِلْكَ الصِّنَاعَة كَانَ فِي دَعْوَاهُ عِنْد الْعَامَّة مُبْطلًا وَفِي الْمَعْقُول عِنْدهم متجهلا فَإِذا كَانَت مَعَه آلَات الصِّنَاعَة والحرفة شهِدت لَهُ تِلْكَ الْآلَات بصناعته بل شهد لَهُ كل من عاينه قبل الاختبار
كَمَا أَنَّك إِذا رَأَيْت رجلا قد فتح بَاب دكانه على بز علمت أَنه بزاز وَإِن لم تختبره وَإِذا فتح على تمر علمت أَن تمار وَإِذا فتح على عطر علمت
أَنه عطار وَإِذا رَأَيْت بَين يَدَيْهِ الْكِير والسندان والمطرقة علمت أَنه حداد وَإِذا رَأَيْت بَين يَدَيْهِ الإبرة والجلم علمت أَنه خياط
وَكَذَلِكَ صَاحب كل صناعَة إِنَّمَا يسْتَدلّ على صناعته بآلته فَيحكم بالمعاينة من غير اختبار
وَلَو رَأَيْت بَين يَدي نجار قدومًا ومنشارا ومثقبا وَهُوَ مستعد للْعَمَل بهَا ثمَّ سميته خياطا جهلت
وَإِذا رَأَيْت بِنَاء مَعَه آلَة البنائين ثمَّ سميته حداد جهلت
وَكَذَلِكَ من مَعَه الْكِير والسندان ومنفخ إِذا سميته بزازا أَو عطارا جهلت
وَلَو قَالَ صَاحب التَّمْر لصَاحب الْعطر أَنا عطار قَالَ لَهُ كذبت بل أَنا هُوَ وَشهد لَهُ بذلك كل من أبصره من الْعَامَّة
ثمَّ كل صَاحب صناعَة وحرفة يفتخر بصناعته ويستطيل بهَا ويجالس أَهلهَا وَلَا يذمها
ورأينا أَصْحَاب الحَدِيث رحمهم الله قَدِيما وحديثا هم الَّذين رحلوا فِي طلب هَذِه الْآثَار الَّتِي تدل على سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخَذُوهَا من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها واغتبطوا بهَا ودعوا إِلَى اتباعها وعابوا من
خالفها وَكَثُرت عِنْدهم وَفِي أَيْديهم حَتَّى اشتهروا بهَا كَمَا اشْتهر الْبَزَّاز ببزه والتمار بتمره والعطار بعطره
ثمَّ رَأينَا أَقْوَامًا انسلخوا من حفظهَا ومعرفتها وتنكبوا اتِّبَاع أَصَحهَا وأشهرها وطعنوا فِيهَا وفيمن أَخذ بهَا وزهدوا النَّاس فِي جمعهَا ونشرها وضربوا لَهَا ولأهلها أَسْوَأ الْأَمْثَال فَعلمنَا بِهَذِهِ الدَّلَائِل الظَّاهِرَة والشواهد الْقَائِمَة أَن هَؤُلَاءِ الراغبين فِيهَا وَفِي جمعهَا وحفظها واتباعها أولى بهَا وأحق من سَائِر الْفرق الَّذين تنكبوا أَكْثَرهَا
وَهِي الَّتِي تحكم على أهل الْأَهْوَاء بالأهواء لِأَن الِاتِّبَاع عِنْد الْعلمَاء هُوَ الْأَخْذ بسنن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّتِي صحت عَنهُ عِنْد أَهلهَا ونقلتها وحفاظها والخضوع لَهَا وَالتَّسْلِيم لأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهَا تَقْلِيد لمن أَمر الله بتقليده والإئتمار بأَمْره والانتهاء عَمَّا نهى الله عَنهُ
وَوجدنَا أهل الْأَهْوَاء الَّذين استبدوا بالآراء والمعقولات بمعزل عَن الْأَحَادِيث والْآثَار الَّتِي هِيَ طَرِيق معرفَة سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
فَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ سمة ظَاهِرَة وعلامة بَيِّنَة تشهد لأهل السّنة باستحقاقها وعَلى أهل الْأَهْوَاء فِي تَركهَا والعدول عَنْهَا بِأَنَّهُم لَيْسُوا من أَهلهَا
وَلَا نحتاج فِي هَذَا إِلَى شَاهد أبين من هَذَا وَلَا إِلَى دَلِيل أَضْوَأ من هَذَا
فَإِن قَالُوا إِن لكل فريق من الْأَهْوَاء وَأَصْحَاب الآراء حجَجًا من آثَار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يحتجون بهَا
قُلْنَا أجل وَلَكِن يحْتَج بقول التَّابِعِيّ على قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو بِحَدِيث مُرْسل ضَعِيف على حَدِيث مُتَّصِل قوي
وَمن هُنَا امتاز أهل اتِّبَاع السّنة عَن غَيرهم لِأَن صَاحب السّنة لَا يألو أَن يتبع من السّنَن أقواها وَمن الشُّهُود عَلَيْهَا أعدلها وأتقاها
وَصَاحب الْهوى كالغريق يتَعَلَّق بِكُل عود ضَعِيف أَو قوي فَإِذا رَأَيْت الْحَاكِم لَا يقبل من الشُّهُود إِلَّا أعدلها وأتقاها كَانَ ذَلِك مِنْهُ شَاهدا على عَدَالَته وَإِذا غمض وقنع بأرداها كَانَ ذَلِك دَلِيلا على جوره وَكَانَ المتبع لَا يتبع من الْآثَار إِلَّا مَا هُوَ عِنْد الْعلمَاء أقوى وَصَاحب الْهوى لَا يتبع إِلَّا مَا يهوى وَإِن كَانَ عِنْد الْعلمَاء أوهاها
وكل ذِي حِرْفَة وصناعة مَوْسُوم بصناعته مَعْرُوف بآلته مَتى أعوزته الْآلَة زَالَت عَنهُ آيَة الصِّنَاعَة وَكَذَلِكَ سمات أهل السّنَن والأهواء
وَفِي دون مَا فسرناه مَا يشفي والأقل من هَذَا يَكْفِي من كَانَ موفقا ولحقه عون من الله تَعَالَى
قَالُوا قد كثرت الْآثَار فِي أَيدي النَّاس واختلطت عَلَيْهِم
قُلْنَا مَا اخْتلطت إِلَّا على الْجَاهِلين بهَا فَأَما الْعلمَاء بهَا فَإِنَّهُم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فيميزون زيوفها وَيَأْخُذُونَ جيادها
وَلَئِن دخل فِي غمار الروَاة من وسم بالغلط فِي الْأَحَادِيث فَلَا يروج ذَلِك على جهابذة أَصْحَاب الحَدِيث ورتوت الْعلمَاء حَتَّى أَنهم عدوا
أغاليط من غلط فِي الْأَسَانِيد والمتون بل تراهم يعدون على كل رجل مِنْهُم فِي كم حَدِيث غلط وَفِي كم حرف حرف وماذا صحف
فَإِذا لم ترج عَلَيْهِم أغاليط الروَاة فِي الْأَسَانِيد والمتون والحروف فَكيف يروج عَلَيْهِم وضع الزَّنَادِقَة وتوليدهم الْأَحَادِيث
يَقُول بعض النَّاس إِن بعض الزَّنَادِقَة ادّعى أَنه وضع ألوفا من الْأَحَادِيث وخلطها بالأحاديث الَّتِي يَرْوِيهَا النَّاس حَتَّى خفيت على أَهلهَا
وَمَا يَقُول هَذَا إِلَّا جَاهِل ضال مُبْتَدع كَذَّاب يُرِيد أَن يهجن بِهَذِهِ الدَّعْوَى الكاذبة صِحَاح أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وآثاره الصادقة فيغلط جهال النَّاس بِهَذِهِ الدَّعْوَى
وَمَا احْتج مُبْتَدع فِي رد آثَار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِحجَّة أَوْهَى مِنْهَا وَلَا أَشد اسْتِحَالَة من هَذِه الْحجَّة فَصَاحب هَذِه الدَّعْوَى يسْتَحق أَن يسف فِي فِيهِ الرماد وينفى من بِلَاد الْإِسْلَام
فَتدبر رَحِمك الله أيجعل حكم من أفنى عمره فِي طلب آثَار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شرقا وغربا برا وبحرا وارتحل فِي الحَدِيث الْوَاحِد فراسخ واتهم أَبَاهُ وَأَدْنَاهُ فِي خبر يرويهِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا كَانَ مَوضِع التُّهْمَة وَلم يحابه فِي مقَال وَلَا خطاب غَضبا لله وحمية لدينِهِ
ثمَّ ألف الصُّحُف والأجلاد فِي معرفَة الْمُحدثين وأسمائهم وأنسابهم وَقدر أعمارهم وَذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم وَفصل بَين الرَّدِيء والجيد وَالصَّحِيح والسقيم حنقا لله وَرَسُوله وغيرة على الْإِسْلَام وَالسّنة
ثمَّ اسْتعْمل آثاره كلهَا حَتَّى فِيمَا عدا الْعِبَادَات من أكله وَطَعَامه وَشَرَابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وَخُرُوجه وَجَمِيع سيرته وسننه حَتَّى فِي خطراته ولحظاته
ثمَّ دَعَا النَّاس إِلَى ذَلِك وحثهم عَلَيْهِ وندبهم إِلَى اسْتِعْمَاله وحبب إِلَيْهِم ذَلِك بِكُل مَا يُمكنهُ حَتَّى فِي بذل مَاله وَنَفسه
كمن أفنى عمره فِي اتِّبَاع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه ثمَّ ترَاهُ يرد مَا هُوَ أوضح من الصُّبْح من سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأشهر من الشَّمْس بِرَأْي دخيل واستحسان ذميم وَظن فَاسد وَنظر مشوب بالهوى
فَانْظُر وفقك الله للحق أَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بِأَن ينْسب إِلَى اتِّبَاع السّنة وَاسْتِعْمَال الْأَثر الْفرْقَة الأولى أم الثَّانِيَة
فَإِذا قضيت بَين هذَيْن بوافر لبك وصحيح نظرك وثاقب فهمك فَلْيَكُن شكرك لله على حسب مَا أَرَاك من الْحق ووفقك للصَّوَاب وألهمك من السداد واختصك بِهِ من إِصَابَة الْحسن فِي القَوْل وَالْعَمَل
فَإِذا كنت كَذَلِك فقد ازددت يَقِينا على يَقِين وثلجا على ثلج وإصابة على إِصَابَة وَمن الله التأييد والتسديد والإلهام والإعلام وَهُوَ حسب أهل السّنة وَعَلِيهِ توكلهم وَمِنْه معونتهم وتوفيقهم ونصرتهم بمنه وفضله وعميم كرمه وَطوله