المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جامع الترمذي -‌ ‌ كتاب الصلاة (2) شر؛: باب: ما جاء في - شرح سنن الترمذي - عبد الكريم الخضير - جـ ٢٩

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: جامع الترمذي -‌ ‌ كتاب الصلاة (2) شر؛: باب: ما جاء في

جامع الترمذي -‌

‌ كتاب الصلاة (2)

شر؛: باب: ما جاء في التغليس بالفجر، وباب: ما جاء في الإسفار بالفجر.

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

‌باب: منه:

حدثنا هناد قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصلاة أولاً وأخراً، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس)).

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو: سمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن فضيل.

قال رحمه الله: حدثنا هناد قال: حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن مجاهد قال: "كان يقال: إن للصلاة أولاً وأخراً" فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش نحوه بمعناه.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"باب: منه" أي من الباب السابق، وهو بمثابة أصل منه، وموضوعه في مواقيت الصلاة تبعاً. . . . . . . . . وقوله: منه، يعني كالفرع منه، كالفصل منه،. . . . . . . . . باباً مترجماً باب ما جاء في كذا ثم يتبعه بقوله: باب من غير ترجمة، ويقرر أهل العلم أنه في هذه الحالة يكون بمثابة الفصل من الباب الذي قبله، وهنا صرح بأنه منه، وإن وجدت في بعض النسخ دون بعض، ويقول: باب منه، وهذه توجد في أكثر النسخ، وفي بعضها لا يوجد منه، ولو لم تذكر فهي بمثابة الفصل والجزء منه.

ص: 1

قال رحمه الله: "حدثنا هناد" هو ابن السري تقدم ذكره مراراً "قال: حدثنا محمد بن فضيل" محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم، صدوق، لكن لا يعني أنه لا يحصل منه الخطأ كما هنا، فيما قرره الإمام البخاري، وإن رأى بعضهم أنه ليس بخطأ، وأن الحديث يروى على الوجهين مرفوعاً وموقوفاً على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- "عن الأعمش" سليمان بن مهران، الإمام الحافظ، الثقة المعروف "عن أبي صالح" ذكوان السمان، ثقة تقدم ذكره مراراً "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصلاة أولاً وأخراً)) " هذا الإسناد الذي ذكره الإمام الترمذي يثبت به الخبر؛ لأن أقل ما فيه من قيل فيه: صدوق وهو محمد بن فضيل، والبقية أئمة حفاظ، اللهم إلا ما يخشى من تدليس الأعمش فإنه قال: عن أبي صالح ولم يصرح بالتحديث.

"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصلاة أولاً وأخراً)) " هذا الكلام صحيح، يعني أوقات الصلاة لها أول وآخر، لكن هل كل كلام صحيح مجزوم بصحته تمكن نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ لو يقال لك: احلف أن الواحد نصف الاثنين تتردد في الحلف؟ نعم، لا، لكن لو قال لك: قل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الواحد نصف الاثنين يجوز وإلا ما يجوز؟ لا ما يجوز، هذا وضع، هذا كذب على النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان الكلام صحيحاً، فالكلام هنا صحيح ((إن للصلاة أولاً وأخراً)) كما تقدم وكما سيأتي، لكن نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام ورفعه إليه ينازع فيه الإمام البخاري على ما سيأتي.

((وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس)) وهذا محل إجماع على ما تقدم، لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم أن أول وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس.

ص: 2

((وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر)) حين يدخل وقت العصر فلا فصل بين وقت الظهر ولا وصل، فلا فصل ولا اشتراك، يعني لا فصل بين الوقتين كما يقول بذلك الحنفية في قول عندهم أن وقت صلاة الظهر ينتهي من مصير ظل كل شيء مثله، ووقت صلاة العصر يبدأ من مصير ظل كل شيء مثليه، فما بين المثل والمثلين فاصل لا يصلح للظهر ولا يصلح للعصر على هذا القول، ولا اشتراك أيضاً كما قال المالكية أن هناك قدراً مشتركاً في آخر وقت صلاة الظهر، وهو أول وقت صلاة العصر يصلح مقداره أربع ركعات يصلح أن تصلى فيه الظهر أداءً، ويصلح أن تصلى فيه العصر أداء، وهذا سبق الكلام فيه، وأنه كلام مجمل كما جاء في حديث إمامة جبريل، الذي سبق شرحه، وأنه معارض بما هو أصرح منه من حديث عبدالله بن عمرو في صحيح مسلم:((ما لم يحضر وقت العصر)) فدل على أنه لا اشتراك بينهما، كما أنه لا فاصل بينهما كما يقول الحنفية، ((وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر)) وكأن وقت العصر معلوم عندهم، بُين بأحاديث سابقة، ولذلك قال:((حين يدخل وقت العصر)).

((وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها)) كأنه معلوم بداية وقتها معلوم عندهم، ولذلك لم يبين في الخبر، ((وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس)) وهذا هو الوقت المختار، ولا يجوز تأخيرها إلى وقت الاصفرار؛ لأنه جاء الترهيب من ذلك، وإن كان وقت الأداء يستمر إلى غروب الشمس، وقت الأداء الاضطرار يستمر إلى غروب الشمس لحديث:((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) وهذا تقدم الكلام فيه.

((وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس)) إذا وجبت الشمس وسقطت وغاب القرص دخل وقت صلاة المغرب.

ص: 3

((وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق)) والمراد به الشفق وهو الأحمر عند الجماهير، جماهير أهل العلم على أنه الأحمر، وإن كان الإمام أبو حنيفة في أول الأمر يقول: إنه الأبيض، ومضى ما فيه من كلام، وهذا يدل على أن للمغرب أولاً وأخراً، وأنه يمتد من غروب الشمس إلى مغيب الشفق خلافاً للشافعية الذين يرون أن وقت المغرب مضيق، وأنه لا يتسع لأكثر من التأهب للصلاة بالوضوء بالطهارة، وأداء ثلاث ركعات، ثم بعدها يخرج الوقت على ما تقدم في حديث إمامة جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام الذي سبق الكلام فيه وأنه صلى المغرب في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه المغرب في اليوم الأول، فدل على أن وقتها واحد، ولا شك أن حديث إمامة جبريل متقدم وهذه الأحاديث متأخرة فهي المحكمة، وحديث إمامة جبريل منسوخ بهذه الأحاديث.

((وإن أول وقت العشاء الآخرة)) في عشاء أولى من أجل أن يقال: عشاء آخرة؟ في مغرب وفي عشاء، وصفها بالآخرة يدل على أن هناك عشاء أولى، أو يكون المراد بالآخرة المتأخرة التي هي آخر صلوات اليوم والليلة، فهي متأخرة عن غيرها، وإلا فليس هناك عشاء أولى ليكون هناك عشاء آخرة إلا أنه باعتبار أنها تكون في وقت العشي، والعشي فيه أكثر من صلاة، فيه أربع صلوات العشي، إحدى صلاتي العشي في حديث ذي اليدين، إما الظهر وإما العصر، فالظهر والعصر في العشي؛ لأنها بعد الزوال، وكذلك المغرب والعشاء، فهي آخر صلوات العشي، ولا يظن بهذا أن المغرب يقال لها: العشاء كما جرى به عرف بعض البلدان، يقولون للمغرب: العشاء، صلينا العشاء يعني المغرب، ويقولون للعشاء: الأخير، وهذا معروف في هذه البلاد، وإن كان يعني يكاد يكون انقرض إلا عند بعض كبار السن، لكن هو معروف على كل حال.

ص: 4

((وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق)) يعني يغيب الشفق الأحمر ((وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل)) ومضى الكلام في آخر وقت العشاء، وأنه على حديث إمامة جبريل ينتهي بانتهاء ثلث الليل، فإنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، وقال: الوقت ما بين هذين الوقتين، فدل على أنها لا تؤخر، وفي هذا الحديث كما في حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم:((إلى منتصف الليل الأوسط)) فوقتها يمتد إلى نصف الليل، وبهذا قال جمع من أهل العلم، والأحاديث صحيحة صريحة، حديث عبد الله بن عمرو يمكن من أصح ما ثبت في المواقيت، وفيه أنه ينتهي بانتهاء نصف الليل، وإن كان الأكثر من أهل العلم يرون أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، ذكرنا هذا ودليله بالأمس، ودليله حديث عام وهو مخصوص بصلاة الصبح ((ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى)) أو ((حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى)) فدل على أن العشاء تمتد إلى طلوع الفجر، لكن هذا الحديث مخصوص بصلاة الفجر، فإنها تنتهي بطلوع الشمس بالإجماع، ولا يمتد وقتها إلى مجيء وقت صلاة الظهر.

((وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر)) يبرق الفجر، يطلع الفجر والمراد به الصادق الذي ينتشر في الأفق عرضاً يمنياً وشمالاً، وليس المراد به الأول الكاذب على ما بيناه بالأمس.

((وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس)) وهذا محل إجماع ((من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)) ومفهومه: أن من لم يدرك ركعة قبل طلوع الشمس فإن صلاة الصبح قد فات وقتها، وهذا محل إجماع.

قال رحمه الله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" مخرج في صحيح مسلم، وذكرنا جملاً منه في درس الأمس، وفي درس اليوم، أخرجه مسلم، فهو من أصح ما ورد في الباب، ومن أوضح ما يروى في المواقيت.

"قال أبو عيسى: وسمعت محمداً" يريد محمد بن إسماعيل البخاري، كثيراً ما يعول عليه في الكلام على الرواة، وفي تعليل الأحاديث "وسمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد" الآتي بعد هذا مباشرة "في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن فضيل".

ص: 5

حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح، هذه أفعل تفضيل، وإذا قلنا: إنها على بابها قلنا: إن الحديثين صحيحان، حديث مجاهد وحديث محمد بن فضيل عن الأعمش، قلنا: هما صحيحان؛ لأن مقتضى أفعل التفضيل أن يشترك اثنان في وصف يزيد أحدهما على الآخر في هذا الوصف، إذا قلت: زيد أغنى من عمرو هل تفهم من هذا أن عمر فقير أو غني لكن زيد أكثر منه؟ في هذا وصف، هذا الأصل في أفعل التفضيل، لكن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، بل لا ينظرون إلى الوصف أحياناً، وإنما ينظرون إلى مجرد الرجحان، رجحان طرف على آخر، هل يلزم من قول البخاري: حديث الأعمش عن مجاهد أصح هل يلزم منه صحة حديث الأعمش عن مجاهد؟ يعني مقتضى الصيغة نعم، كما أنه يلزم من مقتضى الصيغة أن يكون الحديث الأول حديث محمد بن فضيل صحيح أيضاً، لكن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، ولا يلزم منه صحة الاثنين، فضلاً عن أن يكون أحدهما مبالغاً في تصحيحه، مفضلاً على غيره، فإذا قالوا: حديث صلاة التسابيح أصح من حديث صلاة الرغائب هل يلزم من هذا صحة الحديثين؟ لا يلزم، لماذا؟ لأنهما ضعيفان باتفاق، وأهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، لو قيل: حديث جبريل الوارد عن عمر في صحيح مسلم أضعف من حديث جبريل حينما جاء يعلم الناس الدين المروي من طريق أبي هريرة، أضعف، هل يقتضي ذلك ضعف الحديث حديث عمر أو ضعف حديث أبي هريرة؟ لا، كلاهما في الصحيح، لكن هذا أرجح باعتباره متفق عليه حديث أبي هريرة وحديث عمر من أفراد مسلم، وإذا قالوا: ابن لهيعة مثلاً أوثق من الإفريقي هل يعني أنهما ثقتان؟ لا، كلاهما ضعيف، لكن ابن لهيعة أمثل منه وإن كان ضعيفاً، وإذا قيل: نافع أضعف من سالم هل يقتضي هذا أن نافعاً أو سالماً ضعيفان؟ أبداً، كلا، كلاهما من أعلى الدرجات في الحفظ والضبط والإتقان، هذا يبين أن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، فلا يعني أن الإمام البخاري يصحح الخبر الثاني ولا يصحح الخبر الأول، لا يلزم منه تصحيح ولا تضعيف، وإنما يلزم منه تقوية أحدهما على الآخر.

ص: 6

لكن قوله: أخطأ فيه محمد بن فضيل هذا يدل على أنه يضعف حديث محمد بن فضيل ويحكم عليه بأنه خطأ، لكن هل يلزم منه صحة الحديث اللاحق الذي قال فيه: أصح؟ أخطأ فيه محمد بن فضيل يعني أخطأ في إسناده حيث رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وإنما هو عن الأعمش عن مجاهد موقوفاً عليه.

"قال: حدثنا هناد قال: حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن مجاهد قال" يعني من قوله ليس بالمرفوع ولا موقوف، وإنما يقال فيه: ليس بمرفوع ولا موقوف، وإنما هو .. ، المرفوع ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والموقوف ما يضاف إلى الصحابي، والذي يضاف إلى التابعي يسمى مقطوع، فهذا ليس بمرفوع ولا موقوف وإنما هو مقطوع.

"عن الأعمش عن مجاهد قال: "كان يقال: إن للصلاة أولاً وأخراً" فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش نحوه بمعناه".

وهو مخرج في المسند والبيهقي وغيرهما، وبهذا يكون الإمام البخاري أعل الرواية المرفوعة بالمقطوعة، أعل المرفوعة بالمقطوعة، ووافقه أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه، والتعليل بهذه النوع أو بهذه الطريقة محل نزاع ومحل خفاء شديد؛ لأنه يأتي من يقول: إن الطريق المقطوعة المنسوبة إلى مجاهد لا يعل بها الخبر المرفوع، وما المانع أن يكون الحديث مروي على الوجهين؟ فالخبر أحياناً يروى مرفوعاً، وأحياناً يروى موقوفاً، أحياناً يرفعه الصحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يفتي به من قوله، وعندنا أحياناً يرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يفتي به مجاهد من قوله، ولذا رجح بعضهم -الشيخ أحمد شاكر رجح- أنه يروى على الوجهين وما المانع؟ وكثيراً ما يسلك الشيخ هذا المسلك.

ص: 7

وهذه طريقة معتمدة عند المتأخرين، إذا لم يكن هناك تعارض فلا يعل أحدهما بالآخر، بل يكون الحديث مروياً على الوجهين، لكن مثل هذا لا يقول به الأئمة الكبار؛ لأن المتأخرين ليست لديهم من الأهلية ما لدى المتقدمين؛ لأن المتقدمين حفظوا مئات الألوف من الأحاديث، ويجزمون بالصواب على أنه صواب، ويجزمون على الخطأ بأنه خطأ، يحكمون على الخطأ أنه خطأ، وإن لم يتضمن مخالفة، يقولون: أخطأ فيه، وما المانع أن يكون أخطأ؟ هذه طريقة المتقدمين لكن دون المتأخرين والحكم بها خرط القتاد، حتى يكون في مصاف المتقدمين في الحفظ والاطلاع على الروايات.

تعليل البخاري للرواية المرفوعة بالرواية المقطوعة لا يستطيع أن يحكم به أحد من المتأخرين، حتى يكون في مصافهم في الحفظ والإتقان والاطلاع على الطرق والروايات والعلل حتى يكون ممن يكتفي بشم الحديث.

قد يقول قائل: إن الآلات قربت، إذا كان الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، فعندنا قرص صغير فيه خمسمائة ألف حديث، وإذا كان الاطلاع على الروايات والطرق ميسور عند المتأخرين بواسطة الأجهزة صار حكمهم حكم المتقدمين، المسألة مسألة حفظ واطلاع، الآن نطلع من خلال لحظة في ضغطة زر على جميع الروايات ونعرف ننظر، لكن هناك فرق بين من تكون الأخبار بين عينيه وبين أن تكون الأخبار في ذاكرته، فرق، الأخبار في الذاكرة رددت ومحصت وفحصت مراراً، وكررها مرات، بخلاف من اطلع على هذه الطرق لأول مرة، حتى ولو أعاد النظر فيها وردد وكرر لن يكون بمثابة المتقدمين الذين حفظوا هذا العلم بالتدريج.

ص: 8

الشيخ أحمد شاكر صوب أن يكون الحديث مروي على الوجهين، وهو مسبوق من قبل ابن القطان الفاسي وهو متأخر، يعني في السادس، متأخر بالنسبة للأئمة، لكن عنده من الحفظ والإحاطة ودقة النظر ما يؤهله لمثل هذه الأحكام، لكن بالنسبة للمتأخرين، الأمر في غاية الوعورة، وإن نادى بعض الغيورين على السنة أن ينحو المتأخرون من طلاب العلم منحا المتقدمين، لكن أقول: إن هذا في غاية الصعوبة، إذا وجد من وهبه الله من الحفظ والحذق والضبط والإتقان ما وهب للمتقدمين، وأخذ العلم عن أهله وحفظه ووعاه في قلبه احتمال، أما من اعتمد على الآلات أو ضعف في الحفظ وليس عنده من المحفوظ إلا الشيء اليسير لا يمكن بحال من الأحوال أن يضاهي الأئمة المتقدمين؛ لأن الأئمة المتقدمين قواعدهم ليست كافية لتقليدهم من قبل المتأخرين، هناك قواعد وضوابط مأخوذة من منثور كلامهم، لكنها لا تكفي المتأخر لمحاكاة المتقدمين، إلا بالمران، يعني لو أن شخصاً تخصص في هذا الباب في جمع الطرق والنظر في الأسانيد والعلل، وأفرغ جهده وأوتي من قوة الحفظ والفهم احتمال، لكن هذا كم يوجد في القرن من واحد؟ هؤلاء نوادر، أما بالنسبة للمتقدمين ففيهم كثرة، لماذا؟ لأن الوقت وقت رواية، ووقت حفظ، والرواة متوافرون، يعرف أن هذا الراوي ضبط هذا الحديث، ويعرف

ص: 9

مالك لما قيل له: أنت تسمي عمرو بن عثمان الأئمة كلهم يقولون: عمرو بن عثمان وأنت تقول: عمر، قال: هذا بيته، هذا بيته، ويش يعني؟ مو مثل الآن ما نتصور هذا الشخص فضلاً عن أن نعرف بيته وإلا

، ما عندنا إلا قاله الأئمة، قالوا: عمرو، وقال مالك: عمرو، نرجح بين هذا وهذا، ما نرجح إلا بالكثرة، كثرة من قال عمرو فقط، ما عندنا غير هذا، لكن الأئمة عندهم غير هذا، كل ما مر من عند بيته قال: هذا بيت عمر بن عثمان، الأئمة كلهم يقولون: عمرو، قال: هذا بيته، إيش يعني؟ يعني أنا أعرفه جيراننا يا أخي، يعني لو يذكر لك شخص ما رأيته ولا كذا، ويصحف لك اسمه قليلاً ما تستطيع أن تصل إلى الحقيقة، لكن الذين عاصروه وعايشوه لا شك أنهم يجزمون، أو يأتي بعد خمسين سنة مثلاً شاب يقول لك: قال الشيخ صالح بن عثيمين، وأنت عرفت الشيخ عشت معه عشرين سنة، وعمرك ذاك الوقت سبعين مثلاً، يؤخذ قوله وإلا قولك؟ أنت تعرف الشيخ بعينه عاشرته وعاصرته وسمعت كلامه مراراً، وتردد اسمه على ذهنك ألوف المرات، ويجي واحد من بعد خمسين سنة يقول: الشيخ صالح بن عثيمين؟

هذا حال الأئمة بالنسبة للرواة، وحال من تأخر بعدهم، يعني لو تصحف علينا اسم في بعض الكتب ما استطعنا نصححه إلا من خلال الكتب الأخرى، ما تستطيع والله يقول: ابن أخته يقول: لا، اسمه كذا، ابن عمه يقول: لا، اسمه كذا، وهم أعرف، ما تدري أنت ما أدركته، لا أدركت الراوي ولا أدركت من أدركه، فهذا هو السر في كون الأئمة يحكمون بمثل هذه الأحكام، والمتأخرون من أهل العلم ليس لديهم إلا الموازنة والترجيح بين أقوال الأئمة.

ص: 10