المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التورية: يبدو أنه من الأفضل أن ننتقل بسرعة إلى لون آخر - البديع عند الحريري

[محمد بيلو أحمد أبو بكر]

الفصل: ‌ ‌التورية: يبدو أنه من الأفضل أن ننتقل بسرعة إلى لون آخر

‌التورية:

يبدو أنه من الأفضل أن ننتقل بسرعة إلى لون آخر من هذه الألوان البديعية التي لها لمعان واسع، أو التي كان لونها متميزا بصفة معينة.

فعلى سبيل المثال التورية التي عرفها البلاغيون بأنها: إطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد منهما عند الإطلاق، مع مصاحبة ذلك بقرينة خفية تدل على المعنى؛ فإننا نجد الحريري يتناول هذا اللون بصورة طريفة جديدة على خلاف ما تعارف عليه البلاغيون؛ إذ جاء بها بصورة أسئلة دينية، إلا أنه استطاع أن يلتزم إخفاء المعنى البعيد ستارة سميكة لدرجة أنه يصعب أحيانا الوصول إليها إلا لطبقة خاصة من أهل العبارة مما دعاه إلى شرح المقصود منها.

فإلى المقامة الثانية والثلاثين الطيبية أو الحربية، حيث ذكر مائة مسالة فقهية بصورة معينة، نختار بعضها للتمثيل:"وينبغي أن يلاحظ أن الحريري شافعي المذهب.."؛ فما أورده من الأسئلة والأجوبة جار على مذهبه، والدليل على ذلك قوله فيما بعد:"اشكر لمن نقلك عن مذهب إبليس إلى مذهب ابن إدريس".

هذه المسائل الواردة جارية على السؤال والجواب بين أبي زيد السروجي وفتى آخر:

1-

سأل الفتى: أيجوز الوضوء مما يقذفه الثعبان؟ فأجاب: نعم! وهل أنظف منه للعربان؟

فالمعنى القريب للثعبان هو الحية، والبعيد الذي أراده الحريري هو الثعبان من الثعب وهو مسيل الوادي، (والعربان واحده العرب بضم العين ويجمع على العربان كالسود والسودان) .

2-

قال: أيستباح ماء الضرير؟ قال: نعم! ويجتنب ماء البصير.

فالتورية هنا في الضرير والبصير، فالمعنى القريب المتبادر إلى الذهن هو الأعمى، والبعيد هو: حرف الوادي، والمعنى القريب للبصير هو ضد الأعمى، والبعيد المقصود هو: الكلب.

3-

قال: فهل يجب على الجنب غسل فروته؟ قال: أجل! وغسل إبرته.

وهنا أيضا التورية جاءت في كلمتين الفروة والإبرة، فالمعنى القريب المتبادر للفروة هو واحد الفراء وهو مما يستعمل من جلود الضأن وغيره للجلوس والفرش وغير ذلك، والبعيد المراد هو جلدة الرأس، وكذلك الإبرة؛ فإن المتبادر هو إبرة الخياطة المعلومة وبالطبع لا معنى لغسلها، أما البعيد فهو عظم المرفق.

ص: 299

4-

قال: أيجوز الغسل في الجِراب؟ قال هو كالغسل في الجِباب.

فالجراب المتبادر هو الوعاء المصنوع من الجلد، ولا معنى لجواز الغسل فيه حتى يستفتى عنه، والمعنى المقصود هو: جوف البئر، أما الجباب فهو جمع لجب ومنه:{وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُب} ..

5-

قال: فهل يجوز السجود على الكراع؟ قال: نعم! دون الذراع.

والكراع هو ما في البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وهو مستدق الساق وهو المورى به، أما الكراع المقصود فهو ما استطال من الحرة، وهي أرض ذات حجارة سود.

6-

قال: أيجوز للدارس حمل المصاحف؟ قال: لا! ولا حملها في الملاحف.

فالدارس المتبادر في الذهن هو الذي يدرس العلم، والمعنى البعيد منه هو الحائض.

7-

قال: أتصح صلاة حامل القَرْوة؟ قال: لا! ولو صلى فوق المروة..

والقروة هي جلدة الخصيتين إذا عظمت وهي الإدرة، وحملها لمن هي به لا يضر بالصلاة، لكن معناها البعيد هي ميلغة الكلب، وميلغة الكلب هي ما يشرب فيه الكلب الماء، فهو من ولغ.

8-

قال: فإن أمهم - أي المصلين - مَن فخذه بادية؟ قال: صلاته وصلاتهم ماضية.

فالمتبادر من الفخذ هو العضو المعروف، والبعيد: العشيرة، و (بادية) أي يسكنون البدو.

9-

قال: ما تقول فيمن أفقر أخاه؟ قال: حبذا ما توخاه.

فالمعنى القريب أنه فعل به ما يصيره فقيرا، والبعيد: أفقره بمعنى أعاره ناقته يركب فقارها.

10-

قال: أينعقد نكاح لم يشهده القواري؟ قال: لا، والخالق الباري.

لمعنى القريب للقاري هو نوع من الطير مفرده قارية، يتيمن به الأعراب، والبعيد هو: الشهود؛ لأنهم يقرون الأشياء أي يتتبعونها i.

يبدو أن الأمثلة قد كثرت فأرجو أن لا تكون قد وصلت إلى درجة الإملال.

ذا ويلاحظ أن الحريري في الغالب يجعل القرينة: الحال أو السياق، أو يضمن الجواب تلك القرينة؛ فالأمر واضح فيما أظن، بهذا لا يحتاج إلى شرح أو بيان.

i يمكن الرجوع إلى الباقي من هذه الأسئلة في المقامات من ص 337- 353. طبعة صبيح.

ص: 300

والحريري لم يكتف بهذه الأسئلة والأجوبة المائة في التورية، ولكن رجع إلى هذه الألوان مرة أخرى في ميدان آخر وهو ميدان الشعر، فأدعوك يا أخي لتقف معي على شيء من ذلك، وهذه الأبيات لا تقل عن الأسئلة التي مرت بنا في الخفاء.

فإلى المقامة الرابعة والأربعين حيث نجده يقول:

1-

عندي أعاجيب أرويها بلا كذب

عن العيان فكنوني أبا العجب

رأيت يا قوم أقواما غذاؤهم

بول العجوز وما أعني ابنة العنب

فالمعنى القريب لبول العجوز غير مراد؛ لذلك بادر بنفي معنى آخر قريب منه وهو الخمر؛ فهو أيضا يسمى بول العجوز - وما أجدر به أن يسمى بذلك الاسم -؛ لذلك قال: وما أعني ابنة العنب. فالمعنى البعيد هو ابن البقرة.

2-

وقادرين متى ما ساء صنعهم

أو قصروا فيه قالوا الذنب للخطب

فالمعنى المتبادر للقادر هو ضد العاجز، ولكنه غير مقصود هنا؛ فالمقصود هو: القادر بمعنى الطابخ في القدر، والقدير المطبوخ فيها.

3-

والتابعين عقابا في مسيرهم

على تكميهم في البيض واليلب i

فالمعنى القريب للعقاب - بضم العين - نوع من الطير، إلا أن البعيد المراد هنا هو: العقاب بمعنى: الراية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب.

4-

ومُنْدَين ذوي نُبْلٍ بدت لهم

نبيلة فانثَنوا منها إلى الهرب ii

المعنى القريب للنبيلة هو امرأة ذات فضيلة، والبعيد المراد هو الجيفة، ومنه تنبل البعير إذا مات وأروح، يعني نتن.

5-

ونسوة بعدما أدلجن من حلب

صبحن كاظمة من غير ما تعب

المعنى القريب لكاظمة: هو موضع على مرحلتين من البصرة على ما هو المتبادر، والمعنى البعيد لكاظمة: هو كظم الغيظ، وأدلجن: سَرَيْنَ في جوف الليل.

6-

وشائبا غير مخف للشيب بدا

في البدو وهو فتي السن لم يشب

i التكمي التغطي، والكمي الشجاع التام السلاح. البيضة: المغفرة. واليلب: دروع من الجلود ثم أطلق الحديد.

ii منتدبين مجتمعين في ناد وهو المجلس. ونبل: بضم النون بمعنى أصحاب فضل، وبالفتح بمعنى السهام.

ص: 301

الشائب المتبادر هو الرجل الذي شاب شعره، والبعيد المراد هنا هو مازح اللبن، والمشيب اللبن الممزوج، ويقال فيه: مشيب ومشوب.

7-

وحائكا أجذم الكفين ذا خرس

فإن عجبتم فكم في الخلق من عجب

فالحائك هو الناسج، من حاك الثوب نسجه، إلا أنه لم يرد هذا المعنى إنما أراد الحائك الذي إذا مشى حرك منكبيه وفجج بين ركبتيه.

8-

وساعيا في مسرات الأنام يرى

إفراحهم مأثما كالظلم والكذب

والإفراح من الأضداد وهو بكسر الهمزة من أفرحته إذا سررته، وأفرحته إذا غممته، فالأول: هو المتبادر ولكن لم يرد الحريري واحدا منهما، وإن كان الثاني ملازما للأول، فهو يقصد: إفراحهم بمعنى إثقالهم بالدين، ومنه حديثه صلى الله عليه وسلم:"لا يترك في الإسلام مفرح" أي مثقل من الدين.

9-

ومغرما بمناجاة الرجال وله

وماله في حديث الخلق من أرب

فالمعنى القريب للخلق هو المخلوقات، والمقصود: الكذب.

10-

وطالما مر بي كلب وفي فمه

ثور ولكنه ثور بلا ذنب

والمعنى القريب للثور هو ذكر البقر، والثور المقصود هنا هو قطعة من الأقط (نوع من الجبن) .

11-

وكم رأيت بأقطار الفلا طبقا

يطير في الجو مُنصَبا إلى صَبَبِ

والطبق معروف وهو إتاء مفرطح، إلا أن المقصود هنا القطعة من الجراد i.

يبدو أنني قد أطلت في ذكر ألوان التورية النثرية والشعرية، وحان أن ننتقل إلى لون آخر، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى القول بأن هذه التورية هي أقرب منها إلى ألغاز منها إلى التورية الاصطلاحية؛ فقد علق عليها أبو العباس الشريشي بقوله:"لقد أحسن أبو محمد في هذه الفتاوى، وأجاد وبلغ مبلغا من الاقتدار والاتساع فوق المراد، وإن كان لا يوصف فيها بالابتداع فلقد أحسن في الاتباع، فالسابق إليها هو أبو بكر بن دريد في كتاب سماه بالملاحن، وهو أن توري بلفظ عن لفظ، ثم تمم تلك الأغراض وحسنها أحمد بن عبيد الله في كتاب سماه بالمنقذ، وفائدتها التخلص من الظلم أو تسلط غاشم، لا أن يقتطع بها حق مسلم"ii.

i من أراد الوقوف على باقي الأبيات التي اختيرت هذه من بينها فليرجع إلى المقامات ص 499.

ii راجع إن أردت الزيادة للشريشي ج 3 ص 150.

ص: 302