الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
النوع الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه
…
بسم الله الرحمن الرحيم
النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ
وَقَدِ اعْتَنَى بذلك الأئمة وَأَفْرَدُوهُ، وَأَوَّلُهُمُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ تَلَاهُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَبَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَمَكِّيٌّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الفرس وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَبِعَهُمُ الرَّازِيُّ وَلَعَلَّ مُرَادَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كَثِيرٌ
مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فليطالع كتاب الإمام الشيخ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَهُوَ كَثِيرٌ وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يؤخذ بطريق الاستنباط. ثم هو على قسمين: أَحَدُهُمَا: مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى كَاسْتِنْبَاطِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هم العادون} وَاسْتِنْبَاطِ صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {امرأت فرعون} {وامرأته حمالة الحطب} وَنَحْوِهِ.
وَاسْتِنْبَاطِهِ عِتْقَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يتخذ ولدا إن إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتي الرحمن عبدا} فَجَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ مُنَافِيَةً لِلْوِلَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي مُقَابِلَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَاسْتِنْبَاطِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} وَاسْتِنْبَاطِهِ صِحَّةَ صَوْمِ الْجُنُبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فالآن باشروهن} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} فدل على جواز الو قاع فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْغُسْلِ إِلَى النَّهَارِ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ إلى آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ الغسل فيه.
وَالثَّانِي: مَا يُسْتَنْبَطُ مَعَ ضَمِيمَةِ آيَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِنْبَاطِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى:{وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} ؛ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الرِّضَاعَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ ثَلَاثُونَ شَهْرًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِشَيْئَيْنِ مُدَّةً وَاحِدَةً فَانْصَرَفَتِ الْمُدَّةُ بِكَمَالِهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمَّا قَامَ النَّصُّ فِي أَحَدِهِمَا بقي الثاني على أصله، ومثل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فَإِنَّهُ مَضْرُوبٌ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فإنه لابد مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْقَى فِيهَا الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يتغير الغذاء، فَاعْتُبِرَتْ مُدَّةً يَعْتَادُ الصَّبِيُّ فِيهَا غِذَاءً طَبِيعِيًّا غَيْرَ اللَّبَنِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ قَصِيرَةٌ، فَقُدِّمَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مقام الامتنان ذِكْرَ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ، لَا الْأَقَلِّ النَّادِرِ كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ لَا يَعِيشُ غَالِبًا إِذَا وُضِعَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَانَتْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ، بِخِلَافِ الْفِصَالِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنَ الْأُمِّ؛ وَلِهَذَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ.
وَمِثْلُهُ اسْتِنْبَاطُ الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أفعصيت أمري} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ له نار جهنم} ، وكذلك
اسْتِنْبَاطُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يشاء الله} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْتَجَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ.
فائدة: في ضرورة معرفة المفسر قواعد أصول الفقه ولا بد مِنْ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْآيَاتِ.
فَيُسْتَفَادُ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ من قرة أعين} .
وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا} .
وَفِي الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أحدا} ، {وإن أحد من المشركين استجارك} .
وَفِي النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد} .
وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله: {علمت نفس ما أحضرت}
وقوله: {ونفس وما سواها} .
وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا "كُلٌّ" نَحْوُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نفس} وَيُسْتَفَادُ عُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {إن الإنسان لفي خسر} {وسيعلم الكفار} {ويقول الكافر} .
وَعُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ ربها وكتبه} وقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} ؛والمراد جميع الكتب التي اقتضت فِيهَا أَعْمَالُهُمْ.
وَعُمُومُ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي قوله: {وإذا الرسل أقتت} وقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} ، وقوله:{إن المسلمين والمسلمات} إِلَى آخِرِهَا.
وَالشَّرْطُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ولا هضما} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {أينما تكونوا يدرككم الموت} وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} وقوله: {وإذا وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عليكم} .
هَذَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ طَلَبًا مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَلْزِمِ الْعُمُومُ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَكْثَرُ مَوَارِدِهِ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} وقوله: {وإذا مروا بهم يتغامزون} وقوله: {نهم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يستكبرون} .
وَقَدْ لَا يَعُمُّ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} .
وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لِلْوُجُوبِ مِنْ ذَمِّهِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ الْعِقَابَ الْعَاجِلَ أَوِ الْآجِلَ عَلَى فِعْلِهِ.
وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ النهي مِنْ ذَمِّهِ لِمَنِ ارْتَكَبَهُ وَتَسْمِيَتِهِ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بِالْإِيجَابِ، وَالْفَرْضِ، وَالْكَتْبِ، وَلَفْظَةِ "عَلَى"وَلَفْظَةِ "حَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ" وَ"عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَتَرْتِيبِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالتَّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ وَالتَّصْرِيحِ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْحَظْرِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَذَمِّ الْفَاعِلِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَقَوْلِهِ "لَا يَنْبَغِي" فَإِنَّهَا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لِلْمَنْعِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَلَفْظَةِ "مَا كَانَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا" وَ"لَمْ يَكُنْ لَهُمْ" وَتَرْتِيبِ الْحَدِّ عَلَى
الْفِعْلِ، وَلَفْظَةِ "لَا يَحِلُّ" وَ"لَا يَصْلُحُ" ووصف الفعل بأنه فساد، أو من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله لَا يُحِبُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يُزَكِّي فَاعِلَهُ، وَلَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنَ الْإِذْنِ وَالتَّخْيِيرِ، وَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَنَفْيِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لَنَا وَجَعَلَهُ لَنَا وَامْتِنَانِهِ عَلَيْنَا بِهِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِ مَنْ قَبْلَنَا لَهُ غَيْرَ ذَامٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِخْبَارِهِ مَدْحٌ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا.
فَصْلٌ
وَيُسْتَفَادُ التَّعْلِيلُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، كقوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، {الزانية والزاني فاجلدوا} ، فَكَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا عِلَّةً، وَأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ لِأَجْلِهِمَا مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ النطق لم يتعرض لذلك؛ بل يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} أي: لبرهم، {وإن الفجار لفي جحيم} أَيْ: لِفُجُورِهِمْ وَكَذَا كُلُّ كَلَامٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ فِي حَقِّ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَحْنَ الْخِطَابِ.
فَصْلٌ
وَكُلُّ فِعْلٍ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ مَدَحَهُ أَوْ مَدَحَ فَاعِلَهُ لِأَجْلِهِ، أَوْ أَحَبَّهُ، أَوْ أَحَبَّ فَاعِلَهُ، أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ رَضِيَ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِالطَّيِّبِ أَوِ الْبَرَكَةِ أَوِ الْحَسَنِ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ، أَوْ لِثَوَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِذِكْرِهِ لِعَبْدِهِ، أَوْ لِشُكْرِهِ لَهُ، أَوْ لهدايته إياه، أو لإرضاء فَاعِلَهُ، أَوْ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، أَوْ لِقَبُولِهِ، أَوْ لِنُصْرَةِ فَاعِلِهِ، أَوْ بِشَارَةِ فَاعِلِهِ أَوْ وَصْفِ فَاعِلِهِ بِالطَّيِّبِ، أَوْ وَصْفِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا، أَوْ نَفْيِ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَعْدِهِ بِالْأَمْنِ، أَوْ نَصْبِهِ سَبَبًا لِوِلَايَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِحُصُولِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً، أَوْ أَقْسَمَ بِهِ وَبِفَاعِلِهِ؛ كَالْقَسَمِ بِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَإِغَارَتِهَا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
فَصْلٌ
وَكُلُّ فِعْلٍ طَلَبَ الشَّرْعُ تَرْكَهُ، أَوْ ذَمَّ فاعله، عَتَبَ عَلَيْهِ أَوْ لَعَنَهُ، أَوْ مَقَتَ فَاعِلَهُ، أَوْ نَفَى مَحَبَّتَهُ إِيَّاهُ أَوْ مَحَبَّةَ فَاعِلِهِ، أَوْ نَفَى الرِّضَا بِهِ أَوِ الرِّضَا عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَبَّهَ فَاعِلَهُ بِالْبَهَائِمِ أَوْ بِالشَّيَاطِينِ، أَوْ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْهُدَى أَوْ مِنَ الْقَبُولِ، أَوْ وَصَفَهُ بِسُوءٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوِ اسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ، أَوْ أَبْغَضُوهُ، أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِنَفْيِ الْفَلَاحِ، أَوْ لِعَذَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ لِذَمٍّ أَوْ لَوْمٍ، أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، أَوْ وَصْفٍ بِخُبْثٍ أَوْ رِجْسٍ أَوْ نَجِسٍ، أَوْ بِكَوْنِهِ فِسْقًا أَوْ إِثْمًا، أو سببا لإثم أو رجس أَوْ غَضَبٍ، أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ، أَوْ حُلُولِ نِقْمَةٍ، أَوْ حَدٍّ مِنَ
الْحُدُودِ أَوْ قَسْوَةٍ أَوْ خِزْيٍ أَوِ امْتِهَانِ نَفْسٍ، أَوْ لِعَدَاوَةِ اللَّهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، أَوْ سُخْرِيَّتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ الرَّبُّ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْحِلْمِ أَوْ بِالصَّفْحِ عَنْهُ، أَوْ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِخُبْثٍ أَوِ احْتِقَارٍ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ، أَوْ تَوَلِّي الشَّيْطَانِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصْفٍ بِصِفَةِ ذَمٍّ؛ مِثْلِ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَوْ بَغْيًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ إِثْمًا، أَوْ تَبَرَّأَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ أَوْ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ جَاهَرُوا فَاعِلَهُ بِالْعَدَاوَةِ، أَوْ نُصِبَ سَبَبًا لِخَيْبَةِ فَاعِلِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حِرْمَانٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، أَوْ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ حَمَّلَ فَاعِلَهُ إِثْمَ غَيْرِهِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ "لَا ينبغي هذا" و"لَا يَصْلُحُ" أَوْ أُمِرَ بِالتَّقْوَى عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوْ أُمِرَ بِفِعْلٍ يُضَادُّهُ، أَوْ هُجِرَ فاعله، أو يلاعن فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ وُصِفَ صَاحِبُهُ بِالضَّلَالَةِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَعَلَ اجْتِنَابَهُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، أَوْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ قِيلَ لِفَاعِلِهِ:"هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ" أَوْ نَهَى الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْعَادًا وَطَرْدًا، أَوْ لَفْظَةِ "قُتِلَ مَنْ فَعَلَهُ" أَوْ "قَاتَلَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَهُ" أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُزَكِّيهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُ، أَوْ لَا يَهْدِي كَيْدَهُ، أَوْ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُفْلِحُ، أو لا يكون في الْقِيَامَةِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ نَبَّهَ عَلَى وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ فَاعِلِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ قُيِّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، أَوْ جَعَلَ الْفِعْلَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قَلْبَ فَاعِلِهِ، أَوْ صَرْفِهِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَفَهْمِ الْآيَةِ، وَسُؤَالُهُ
سبحانه عن علة الفعل نَحْوُ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمن} ، {لم تلبسون الحق بالباطل} ، {ما منعك أن تسجد} ، {لم تقولون ما لا تفعلون} ، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ؛ فإذا قرن بِهِ جَوَابٌ كَانَ بِحَسْبِ جَوَابِهِ.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَطْرَدُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَرَاهَةِ.
وأما لفظ "يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، وَقَوْلُهُ:{عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَرَّمِ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ.
وَأَمَّا لَفْظُ "أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ" فَالْمُحَقَّقُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ كَقَوْلِهِ: "أَمَّا أنا فلا آكل متكئا"، وأما لفظ "مَا يَكُونُ لَكَ" وَ"مَا يَكُونُ لَنَا" فَاطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُحَرَّمِ، نَحْوُ:{فَمَا يَكُونُ لك أن تتكبر فيها} ، {وما يكون لنا أن نعود فيها} ، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق} .
فَصْلٌ
وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلَالِ، وَرَفْعِ الْجُنَاحِ، وَالْإِذْنِ وَالْعَفْوِ وَ، "إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ" وَ"إِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ" وَمِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بها
الْأَفْعَالِ؛ نَحْوُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} ، {وبالنجم هم يهتدون} وَمِنَ السُّكُوتِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَمِنَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ وَهُوَ نَوْعَانِ: إِقْرَارُ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِقْرَارُ رَسُولِهِ إِذَا عُلِمَ الْفِعْلُ، فَمِنْ إِقْرَارِ الرَّبِّ قَوْلُ جَابِرٍ:"كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ" وَمِنْ إِقْرَارِ رَسُولِهِ قَوْلُ حَسَّانَ: "كُنْتُ أَنْشُدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ".
فَائِدَةٌ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} جَمَعَتْ أُصُولَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَجَمَعَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ.
فَائِدَةٌ
تَقْدِيمُ الْعِتَابِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فقد عاتب الله سبحانه فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: فِي الْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةَ، وَالْأَحْزَابِ، وَالتَّحْرِيمِ،
وَعَبَسَ خِلَافًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ جَعَلَ الْعَتْبَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ.
فَائِدَةٌ
لَا يَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِمَمْنُوعٍ عَنْهُ؛ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ الِامْتِنَانُ إِلَى خَلْقِهِ لِلصَّبْرِ عَلَيْهِمْ
فَائِدَةٌ
التَّعَجُّبُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْفِعْلِ نَحْوِ: "عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ" وَ"تَعَجَّبَ رَبُّكَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ، وقوله:{بل عجبت ويسخرون} ، وقوله:{كيف تكفرون بالله} {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله} .
وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ حُسْنِهِ، كَقَوْلِهِ:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعند رسوله} .
وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَنْعِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُهُ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} .
قَاعِدَةٌ: فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ
إِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا نُظِرَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ اشْتِرَاطِ اللَّهِ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَمِنْهُ تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصين بها أو دين} وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ.
وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ.
وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} فَأَطْلَقَ الْإِحْبَاطَ عَلَيْهِ وَعَلَّقَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمُوَافَاةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {ومن يرتدد
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حبطت أعمالهم} وقيد الرِّدَّةَ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا وَالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَيْهَا وَأَلَّا يُقْضَى بِإِحْبَاطِ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَرَّعَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ.
وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْرِيمُ الدَّمِ وَتَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ.
وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وقال في موضع آخر: {منه} .
وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نؤته منها} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ! قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فَعَلَّقَ مَا يُرِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقوله: {ادعوني أستجب لكم} ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ.
تَنْبِيهٌ
اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ: هَلْ هُوَ مَنْ وضع اللغة أو بالقياس على مذهبين، والأولون يقولون: الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ
وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد} .
وَالْمُرَادُ "عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ" وَلَكِنْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالِاتِّحَادِ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَمَحْسُوسٌ تَعَدُّدُهَا، وَفِيهَا الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ، كَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّقَائِضِ الَّتِي لَا يُوصَفُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ بِأَنَّهُ اشتمل عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: كَإِطْلَاقِ صَوْمِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقُيِّدَتْ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الْأَصْلَ تَرَكْنَاهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَأَمَّا إِذَا حُكِمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ لَمْ يُحْكَمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ يَنْقُضُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَسُكِتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ، كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي إِبْدَالِ الطَّعَامِ عَنِ الصِّيَامِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ في قوله تعالى: {وأمهات نسائكم وربائبكم} أَنَّ اللَّامَ مُبْهَمَةٌ، وَعَنَوْا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً.
قَاعِدَةٌ: فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
لَا يُسْتَدَلُّ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ تَقْيِيدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ؛ وَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّفْظُ بَيِّنٌ فِي مَقْصُودِهِ وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة} لَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ في قليل الذهب والفضة وكثيره، وفي المتنوع مِنْهُمَا مِنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ مِنْهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَةِ الْمُتَوَعَّدِينَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا! وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي تَرْكِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} الْآيَةَ، الْقَصْدُ مِنْهَا مَدْحُ قَوْمٍ صَانُوا فُرُوجَهُمْ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَلَمْ يُوَاقِعُوا بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ.
ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ إِلَى ما قصد وتفصيله بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية.
كَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إلى قوله: {من الخيط الأسود} ، فلو تعلق متعلق بقوله:{وكلوا واشربوا} فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ أَوْ شُرْبِ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ لَكَانَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ غَفَلَ عَنْ أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ، بَلْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْفَجْرِ دَفْعًا لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَامَ، فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ إِبَاحَةَ مَا كَانَ مَحْظُورًا ثُمَّ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ذوالمباشرة لا مَعْنَى إِبَانَةِ الْحُكْمِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالدَّمِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا لَا يُبْتَغَى مِنْهُ الْوَلَدُ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي الْعُمُومِ إِلَى الْمَعَانِي لَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ قَالَ الْقَفَّالُ وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أفاد علما كثيرا
فصل
الأحكام المستنبطة من تنبيه الخطاب
ومما تستثمر مِنْهُ الْأَحْكَامُ تَنْبِيهُ الْخِطَابِ وَهُوَ إِمَّا فِي الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَنَهْيُهُ عَنِ الْقَلِيلِ مُنَبِّهٌ عَلَى الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ:{ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ وَالْإِتْلَافِ.
وإما في الخبر
فإما أَنْ يَكُونَ بِالتَّنْبِيهِ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الرِّطْلَ وَالْقِنْطَارَ لَا يَضِيعُ لَكَ عِنْدَهُ. وَكَقَوْلِهِ: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {ولا يظلمون نقيرا} {ولا يظلمون فتيلا} {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَقِيرًا أَوْ قِطْمِيرًا مَعَ قِلَّتِهِمَا فَهُوَ عَنْ مِلْكِ مَا فَوْقَهُمَا أَوْلَى وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْزُبْ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ فَهُوَ بِأَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُ الشَّيْءُ الْجَلِيلُ الظَّاهِرُ أَوْلَى.
وَإِمَّا بِالْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْكَ الدِّينَارَ وَمَا تَحْتَهُ ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ فَدَلَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّكَ لَا تَأْمَنُهُ بِقِنْطَارٍ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي فُرُشِ أهل الجنة: {بطائنها من إستبرق} وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَى مَا عِنْدَنَا هُوَ الْإِسْتَبْرَقُ الَّذِي هُوَ الْخَشِنُ مِنَ الدِّيبَاجِ فَإِذَا كَانَ بَطَائِنُ فُرُشِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوهَهَا فِي الْعُلُوِّ إِلَى غَايَةٍ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي شَرَابِ أَهْلِ الجنة: {ختامه مسك} وَإِنَّمَا يُرَى مِنَ الْكَأْسِ الْخِتَامُ وَأَعْلَى مَا عِنْدَنَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَهُوَ أَدْنَى شَرَابُ أَهْلِ الجنة فليتبين
اللبيب إذا كان الثفل الذي فيك الْمِسْكُ أَيْشِ يَكُونُ حَشْوُ الْكَأْسِ فَيَظْهَرُ فَضْلُ حَشْوِ الْكَأْسِ بِفَضْلِ الْخِتَامِ وَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ الخفي
وقوله: {الذي باركنا حوله} فَنَبَّهَ عَلَى حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْبَدِيعَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَتَقْيِيدُهُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَمَا فِي آيَةِ التَّأْفِيفِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ لِاحْتِرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا فَفَهِمْنَا مِنْهُ تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَلَوْ لَمْ يُفْهَمِ الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ اقْتُلْ قِرْنِي وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَيَكُونُ قَصْدُهُ الْأَمْنَ عَنْ مُزَاحَمَتِهِ فِي الْمُلْكِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا ابْتَنَى الْفَهْمَ عَلَى تَخَيُّلِ الْمَعْنَى كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
قِيلَ مَا يَتَأَخَّرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَا يَتَقَدَّمُ فَهْمُهُ عَلَى اللَّفْظِ وَيَقْتَرِنُ بِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ وَتَأَمُّلٍ فَإِنْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ اسْمَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مُضَايَقَةَ فِي التسمية.
فصل: في الحكم على الشيء مقيدا بصفة
وَقَدْ يُحْكَمُ عَلَى الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَا سُكِتَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَقَدْ يكون
مِثْلَهُ فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عدل منكم} وقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وقوله: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ؛ فَاشْتَرَطَ أَوْلَادَ الصُّلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى إِبَاحَةِ حَلَائِلِ أبناء الرَّضَاعِ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْحَلَائِلِ إِبَاحَةُ مَنْ وَطِئَهُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّوْعَانِ أَعَنِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن ولا أبنائهن} الْآيَةَ، فِيهِ وُقُوعُ الْجُنَاحِ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِمَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْأَجَانِبِ وَلَمْ يَكُنْ فيه إبداؤها لِقَرَابَةِ الرَّضَاعِ.
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قتل من النعم} فإن القتل إتلاف والإتلاف عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِذَا كَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مِثْلَهُ وَهَلَّا حُذِفَتِ الصِّفَةُ وَاقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: {ومن قتله منكم} ؟
قُلْنَا: لِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَوَائِدُ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي جِنْسِهِ بِشَيْءٍ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ؛ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ-أَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} .
إلى قوله: {فينتقم الله منه} إِنَّ الْمُتَعَمِّدَ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ.
وَمِنْهَا مَا يُخَصُّ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ عَلَى سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تظلموا فيهن أنفسكم} فَخَصَّ النَّهْيَ عَنِ الظُّلْمِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ تَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمًا لِلْوِزْرِ فِيهَا. وَقَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبِيبَةِ أَنَّهَا تكون في حجر أمها. ونحو: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَبَذُّلُ الْبَدَنِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِئْذَانَ فَيَجِبُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله} فالافتداء يجوز مع الأمر. وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إن خفتم} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} فَجَرَى التَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إِنَّمَا يُعْدَمُ غَالِبًا فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الرَّهْنِ إِلَّا فِي السَّفَرِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ