الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع السادس والأربعون: في أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ الْبَلِيغَةِ
وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بَيْتُ الْقَصِيدَةِ وَأَوَّلُ الْجَرِيدَةِ وَغُرَّةُ الْكَتِيبَةِ وَوَاسِطَةُ الْقِلَادَةِ وَدُرَّةُ التَّاجِ وَإِنْسَانُ الْحَدَقَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِلْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ شَرِيفُ الْمَحَلِّ عَظِيمُ الْمَكَانِ قَلِيلُ الطُّلَّابِ ضَعِيفُ الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ وَلَا ذَوُو بَصِيرَةٍ تَسْتَقْصِيهِ وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَهْوَلُ مِنَ الْبَحْرِ وَأَعْجَبُ مِنَ السِّحْرِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكَافِلُ بِإِبْرَازِ إِعْجَازِ النَّظْمِ الْمُبِينِ مَا أُودِعَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَبَرَاعَةِ التَّرْكِيبِ وَمَا تَضَمَّنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ وَجَلَّلَهُ فِي رَوْنَقِ الطَّلَاوَةِ مَعَ سُهُولَةِ كَلِمِهِ وَجَزَالَتِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَسَلَاسَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَرْجِعُ الْحُسْنُ إِلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى
وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَعُدَّ الْأَسَالِيبَ الْبَلِيغَةَ وَالْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ مَجْمُوعُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إِذِ اللَّفْظُ مَادَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ يَتَأَلَّفُ وَمَتَى أُخْرِجَتِ الْأَلْفَاظُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعًا خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْمُعْتَبَرَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلَّا بها
وَهَا أَنَا أُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ مَا يَقْضِي لَهُ الْبَلِيغُ عَجَبًا وَيَهْتَزُّ بِهِ الْكَاتِبُ طَرَبًا
فَمِنْهُ التَّوْكِيدُ بِأَقْسَامِهِ وَالْحَذْفُ بِأَقْسَامِهِ الْإِيجَازُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْقَلْبُ الْمُدْرَجُ الِاقْتِصَاصُ التَّرَقِّي التَّغْلِيبُ الِالْتِفَاتُ التَّضْمِينُ وَضْعُ الْخَبَرِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ وَضْعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ وَضْعُ جُمْلَةِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثُ الْمُذَكِّرِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَكْسُهُ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى النَّحْتُ الْإِبْدَالُ الْمُحَاذَاةُ قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ وَالصِّفَاتِ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ الْهَدْمُ التَّوَسُّعُ الِاسْتِدْرَاجُ التَّشْبِيهُ الِاسْتِعَارَةُ التَّوْرِيَةُ التَّجْرِيدُ التَّجْنِيسُ الطِّبَاقُ الْمُقَابَلَةُ إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ التَّقْسِيمُ التَّعْدِيدُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا تَارَةً وَمُفْرَدًا أُخْرَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى فِي الضَّمَائِرِ قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ الْخِطَابُ بِالِاسْمِ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ قَاعِدَةٌ فِي ذِكْرِ الْمَوْصُولَاتِ وَالظَّرْفِ تَارَةً وَحَذْفِهَا أُخْرَى قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ وَدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ وَمِلَاكُ ذَلِكَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً
وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
الْأُسْلُوبُ الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ
وَالْقَصْدُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لِيَصِيرَ وَاقِعًا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْكِيدُ الْمَاضِي وَلَا الْحَاضِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ الْمُسْتَقْبَلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَأْكِيدٌ وَلَا في اللغة بل لابد أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْأَوَّلِ وَاعْتَرَضَ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّأْكِيدَاتِ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ فِي النَّظْمِ إِيجَازُ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْنَى وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَا يُمَلُّ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ لِقُصُورِ النَّفَسِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُرَادِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لِسَانِ الْقَوْمِ وَفِي لِسَانِهِمُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرَارُ وَخِطَابُهُ أَكْثَرُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ إِذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إِلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
الثَّانِيَةُ: حَيْثُ وَقَعَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطرطوسي في العمدة ثُمَّ قَالَ وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُ إِذَا كَانَ
التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نَحْوُ عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَوَّلِ
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ
الرَّابِعَةُ: يَكْتَفِي فِي تِلْكَ بِأَيْ مَعْنًى كَانَ وَشَرْطٍ وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى يَحْذُوَ بِهِ حَذْوَ الْأَلْفَاظِ
الْخَامِسَةُ: فِي تَقْسِيمِهِ وَهُوَ صِنَاعِيٌّ -يَتَعَلَّقُ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ- وَمَعْنَوِيٌّ وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا
الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: التَّوْكِيدُ الصِّنَاعِيُّ
وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيِّ: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فجاجا سبلا} {ضيقا حرجا} في قراءة كسر الراء {وغرابيب سود}
وَجَعَلَ الصَّفَّارُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مكناكم فيه} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَاهُمَا لِلنَّفْيِ
وَاللَّفْظِيُّ يَكُونُ في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قواريرا. قوارير} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ مِنْهُ: {دَكًّا دكا} و {صفا صفا} وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ معنى دكا دكا دكا بَعْدَ دَكٍّ وَأَنَّ الدَّكَّ كُرِّرَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا وَأَنَّ مَعْنَى: {صَفًّا صَفًّا} أَنَّهُ تَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الثَّانِي مِنْهُمَا تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا وَعَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا
وَقَدْ ذِكْرَ ابْنُ جِنِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إذا رجت} أَنْ {رُجَّتِ} بَدَلٌ مِنْ {وَقَعَتْ} وَكُرِّرَتْ "إِذَا" تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ امْتِزَاجِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ
وَيَكُونُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون}
وَفِي الْجُمْلَةِ نَحْوُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} ولكون
الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ سَقَطَتْ مِنْ مُصْحَفِ ابْنِ مسعود ومن قراءته
والأكثر فصل الجملتين بثم كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أدراك} {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
ويكون فِي الْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجنة خالدين فيها} وَالْأَكْثَرُ فِيهِ اتِّصَالُهُ بِالْمَذْكُورِ وَزَعَمَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّهُ لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: وَالسَّمَاعُ يَرُدُّهُ قال تعالى: {وهم بالآخرة هم كافرون} فَإِنَّ "هُمُ" الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أَلَّا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فَأَكَّدَ "لَمَّا" وَبَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَأَصْلُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كفروا} فَكُرِّرَ لِلطُّولِ الَّذِي بَيْنَ "لَمَّا" وَجَوَابِهَا وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أنكم مخرجون} فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ "أَنَّ" بَعْدَ مَا فَصَلَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات للمؤمنين} .
رَيْبَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْهَلَاكِ وَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى اجْتَمَعُوا فِي النَّجَاةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن يوسف: {وأتوني بأهلكم أجمعين} فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ وَإِنْ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَعْنَى إِلَيْهِ وَأَلَّا
يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كلهم} يُفِيدُ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ: {أَجْمَعُونَ} قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ في السجود هذا في اللفظ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكُنْ لِيَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عنده ولاسيما وَقَدْ وُقَّتَ لَهُمْ بِوَقْتٍ وَحُدَّ لَهُمْ بِحَدٍّ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ وَنَفْخِ الرُّوحِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ عَلَى الْكُلِّ بدليل قوله: {أستكبرت أم كنت من العالين} مَرْدُودٌ بَلْ الْعَالُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَفِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ أَنَّ الْعَالِينَ هُمُ الْعُقُولُ الْعَاقَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْجُدُ وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الْفَلَاسِفَةُ
وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ عُنْصُرًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَتِ الْجَانُّ مِنَ النَّارِ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" وَهُوَ مِنْهُمْ حُكْمًا لِدُخُولِهِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لوط إنا لمنجوهم أجمعين} فَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ "كُلُّهُمْ" لَمَّا
لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْآيَةِ لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِدَلِيلِ الاستثناء بعده من قوله: {إلا امرأته}
وَمِنْهَا: قَصْدُ تَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني جاعل} فَأُكِّدَ بِإِنَّ وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَاكِّينَ فِي الْخَبَرِ
وَمِثْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ميتون}
وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ نُوحٍ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يضلوا عبادك}
وَمِنْهَا: قَصْدُ إِغَاظَةِ السَّامِعِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {إنك لمن المرسلين}
وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أَكَّدَهُ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ وَهِيَ إِنَّ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ وَالْمُبَالَغَتَانِ مَعَ الصِّفَتَيْنِ لَهُ لِيَدُلَّ عَلَى تَرْغِيبِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ طَمِعَ فِي عَفْوِهِ وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إن الله معنا}
وَمِنْهَا: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} دون الاقتصار على "يأتينكم هدى" قال المفسرونك فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشفاء لما في الصدور} {قد جاءكم برهان من ربكم}
وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ إني ظلمت نفسي} وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قَبُولِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطْلُبُ لِلنَّذْرِ ذَكَرًا
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِلْحَاجَةِ لِلتَّحَرُّزِ عن ذكر مالا فَائِدَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ سَاذَجًا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِيهِ حَسُنَ تَقْوِيَتُهُ بِمُؤَكَّدٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ تَأْكِيدُهُ وَيُرَاعَى فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْكِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عن رسل عيسى: {ربنا يعلم} الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا} والثاني قولهم: {ما أنزل الرحمن من شيء} والثالث قولهم: {إن أنتم إلا تكذبون} فَقُوبِلُوا عَلَى نَظِيرِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {ربنا يعلم} وُوجِهَ التَّأْكِيدُ فِيهِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى قَسَمٍ والثاني قوله: {إنا إليكم لمرسلون} وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ المبين}
وَقَدْ يَنْزِلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكَرِ وَعَكْسُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أكدت الإماتة تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيَتَرَدَّدَ فِيهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ
الثَّانِي: قَالَ التَّنُوخِيُّ في "أقصى القرب": إِذَا قَصَدُوا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ أَتَوْا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِنْ أَكَّدُوا فَبِالِاسْمِيَّةِ ثُمَّ بِإِنَّ ثُمَّ بِهَا وَبِاللَّامِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الْفِعْلِيَّةُ بِقَدْ وَإِنِ احْتِيجَ بِأَكْثَرَ جِيءَ بِالْقَسَمِ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الِاسْمِيَّةُ بِاللَّامِ فَقَطْ نَحْوُ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ وَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَلَى دَرَجَاتٍ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ لَقَدْ قَامَ -فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلِيَّةَ كَأَنَّهَا دُونَ الِاسْمِيَّةِ- ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ولزيد قائم
ما يلتحق بالتأكيد الصناعي
وَيَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} {وسلموا تسليما} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} {وهي تمر مر السحاب}
{فدكتا دكة واحدة} {إذا زلزلت الأرض زلزالها} {فيكيدوا لك كيدا} وَهُوَ كَثِيرٌ
قَالُوا: وَهُوَ عِوَضٌ عَنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ فَقَوْلُكَ ضَرَبْتُ ضَرْبًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْمُفْرَدِ
وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وتظنون بالله الظنونا} بل هو جمع الظن وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ قَالَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْفَعُ الْمَجَازَ عَنِ الْفَاعِلِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ اللِّصَّ ولا يكون باشر بل أمر به ضَرَبًا عُلِمَ أَنَّهُ بَاشَرَ
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور فِي شَرْحِ الْجَمَلِ الصَّغِيرِ
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْوَهْمَ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ احْتُمِلَ مَجَازَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ الضَّرْبِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ الْأَمِيرِ عَلَى أَمْرِهِ فَإِذَا أَرَدْتَ رَفْعَ الْأَوَّلِ أَتَيْتَ بِالْمَصْدَرِ فَقُلْتَ: ضَرْبًا وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ قُلْتَ: نَفْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ ضَعْفَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ
تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} فَإِنَّهُ لِمَا أُرِيدَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ قَالَ: {تَكْلِيمًا} وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً أَمَّا تَأْكِيدُ فَاعِلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَقَدْ سَخُفَ عَقْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ وَيُحْكَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِالْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُؤَكِّدُ فَسَلَّمَ الْمُعْتَزِلِيُّ لَهُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا هُوَ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بِنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَجَعَلَ مُوسَى فَاعِلًا بِـ كَلَّمَ وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَكَابَرَ فَقَالَ السُّنِّيُّ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فَانْقَطَعَ الْمُعْتَزِلِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَرَعْتُ ظَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ
وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْتُ الْهَوَى قَسْرًا
قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وأسررت لهم إسرارا} فَمَفْعُولُ {أَسْرَرْتُ} مَحْذُوفٌ أَيِ: الدُّعَاءَ وَالْإِنْذَارَ وَنَحْوَهُ
فَإِنْ قُلْتَ: التَّأْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُصَدِّرَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَتِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِمَصْدَرٍ {أَعْلَنْتُ} وَهُوَ مِثْلُهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ "أَسْرَّ" وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ مَفْعُولِهِ وَجُعِلَ نَسْيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ فُلَانٌ يُعْطَى وَيُمْنَعُ فَصَارَ لِذَلِكَ كَاللَّازِمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَجِيءِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ لَوْ كَانَ
ثُمَّ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ تَارَةً يَجِيءُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ وَتَارَةً يَجِيءُ مِنْ مُرَادِفِهِ كقوله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهارا} فَإِنَّ الْجِهَارَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: {لَيًّا بألسنتهم} فإنه منصوب بقوله: {يحرفون الكلم} لِأَنَّ {لَيًّا} نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيفِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون منه: {أتأخذونه بهتانا} لِأَنَّ الْبُهْتَانَ ظُلْمٌ وَالْأَخْذُ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظَلَمٌ وغيره
وزعم الزمخشري قوله: {نافلة لك} وضع {نافلة} مَوْضِعَ تَهَجُّدًا لِأَنَّ التَّهَجُّدَ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ فَكَانَ التَّهَجُّدُ وَالنَّافِلَةُ يَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ
وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا} قِيلَ: كَانَ الْأَصْلُ تَكْرَارَ الصِّدْقِ بِلَفْظِهِ فَاسْتُثْقِلَ التَّكْرَارُ لِلتَّقَارُبِ فَعُدِلَ إِلَى مَا يُجَارِيهِ خِفَّةً ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خِفَّةً وَوَزْنًا إِحْرَازًا لِلتَّنَاسُبِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا} فَفَائِدَةُ {إِخْرَاجًا} أَنَّ الْمَعَادَ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْهَا أَمْثَالُهُمْ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تعالى: {نبتكم من الأرض نباتا} فَإِنَّهُ أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ النَّبَاتِ
قُلْتُ: لَا جَرَمَ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ الْحَقِيقَةَ هُنَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الْقِيَاسِيِّ بَلْ عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ أَنْبَتَ الْإِنْبَاتُ وَالنَّبَاتُ اسْمُهُ لَا هُوَ كَمَا قيل في "الكلام" و"السلام": اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّسْلِيمُ وأما قوله: {وتبتل إليه تبتيلا} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى تَبَتُّلٍ لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى: بِتَّلْ نَفْسَكَ تَبَتُّلًا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَوْضِعُ تَعَالِيًا لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: {وَتَعَالَى} وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مَعْنَاهُ وَكَذَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَاعُلِ مِنَ التَّكَلُّفِ كَمَا يَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُمْلَةُ الْفَاعِلِيَّةُ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فِي مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنَّ الْمَجَازَ فِي: {تَمُورُ} وَأَنَّهَا مَا تَمُورُ بَلْ تَكَادُ أَوْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا تَمُورُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي السماء وأن المور الحقيقي لكنها وَأَهْلِهَا لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي {وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَإِذَا رُفِعَ الْمَجَازُ عَنْ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ نُفِيَ احْتِمَالُهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَأُجِيبَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ {مَوْرًا} فِي تَقْدِيرِ "تَمُورُ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمُورُ السَّمَاءُ تَمُورُ السَّمَاءُ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ تَسِيرُ الْجِبَالُ فَأَكَّدَ كُلًّا مِنَ الْجُزْأَيْنِ بِنَظِيرِهِ وَزَالَ الْإِشْكَالُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {شَيْئًا} مِنْ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بَيْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالتِّبْيَانِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَمْرًا أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَانْظُرْ كَيْفَ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ وَقَوْلُ الْبَيَانِيَّيْنِ: إِنَّهُ يَجِبُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ عَامًّا وَأَمَّا قوله تعالى: {دكا دكا} فَالْمُرَادُ بِهِ: التَّتَابُعَ أَيْ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ وكذا قوله: {صفا صفا} أَيْ: صَفًّا يَتْلُوهُ صَفٌّ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَحْتَمِلُ صَفًّا وَاحِدًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فَإِنَّ إِضَافَةَ الزِّلْزَالِ إِلَيْهَا يُفِيدُ مَعْنَى ذَاتِهَا وَهُوَ: زِلْزَالُهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا الْمَعْرُوفُ مِنْهَا الْمُتَوَقَّعُ كَمَا تَقُولُ غَضِبَ زَيْدٌ غَضَبَهُ وَقَاتَلَ زَيْدٌ قِتَالَهُ أَيْ غَضَبَهُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ وَقِتَالَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ:
*أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي*
وَاعْلَمْ أَنَّ القاعدة في المصدر والمؤكدأن يَجِيءَ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ نَحْوُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما} وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إليه تبتيلا} وقوله تعالى: {فإني أعذبه عذابا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} ولم يقل: "تبتلا" و"تعذيبا" و"إقراضا" و"إنباتا"
واختلف في ذلك على أقوال: أ
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَ الِاسْمَ مِنْهَا مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُجْرَى عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ دَلِيلًا عَلَى الْمُضْمَرِ فَالْمَعْنَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خَرُوفٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ يَعِيشَ وَنَازِعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَارِيَةً عَلَيْهَا
وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ غَيْرُ مُعَبِّرٍ بِمَعْنَى مَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} أَيْ: وَنَبَتُّمْ أَيْ وَسَاغَ إِضْمَارُهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُنْبِتُوا فَقَدْ نَبَتُوا وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُنْصَبَ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَصْدَرِ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَهُ أَوْ تَبْيِينُ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِنْبَاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُؤَكِّدُهُ أَوْ يُبَيِّنُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} فَإِنَّمَا ذِكْرُ قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} مَعَ {تَدَايَنْتُمْ} يَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يَذْكُرْهُ لَقَالَ: "فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ" ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ {تَدَايَنْتُمْ} لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ
الثَّانِي: أَنْ {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الدِّينِ فَاحْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لَا مِنَ الدِّينِ
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى إِرَادَةِ الدَّيْنِ
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {بِدَيْنٍ} إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيْعٌ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ
وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّيْنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَمَّا قَالَ: {بَدَيْنٍ} عُلِمَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أجله}
الْخَامِسُ: أَنَّ {تَدَايَنْتُمْ} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاقْتِرَاضِ وَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَذُكِرَ الدَّيْنُ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا
نِ دَنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ ظُهُورِهِ فِيمَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا ربها بقبول حسن} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سأل سائل} فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ فِيهِمَا أَوْ بِضَمِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا قَبِلَهُ
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كل شيء} فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تمر مر السحاب} لِأَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدَ الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} لِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كتابا مؤجلا} انْتَصَبَ {كِتَابًا} عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: "وَكَتَبَ اللَّهُ" لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى كَتَبَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} تأكيد لقوله: {حرمت عليكم} الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا وَانْتَصَبَ الْمَصْدَرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ فَعْلٌ تَقْدِيرُهُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ بـ "عليكم" عَلَى الْإِغْرَاءِ وَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ التقدير وقوله: {صبغة الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ به فقد اهتدوا} لِأَنَّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْأَمْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لأن الزلفى مصدر كالرجعى و"يقربونا" يَدُلُّ عَلَى "يُزَلِّفُونَا" فَتَقْدِيرُهُ: يُزَلِّفُونَا زُلْفَى
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ مَعَ حَذْفِ عَامِلِهِ كقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا تَمُنُّوا مَنًّا وَإِمَّا إِنْ تُفَادُوا فِدَاءً فَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ
وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا فَيَكُونُ {خَلَقَهُ} عَلَى مَعْنَى خَلَقَهُ خَلْقًا وَالضَّمِيرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ
قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَنَّ فِي هَذَا إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: "أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ وَهُوَ الْمُحَاوَلَةُ وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَإِذَا قَالَ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ
فَائِدَتَانِ
الْأُولَى: هَلِ الْأَوْلَى التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ أَوِ الْفِعْلِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَصْدَرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ اسْمٌ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْفِعْلِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ فَيَكُونُ جُمْلَةً فَيَزْدَادُ ثِقَلًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفِعْلَ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الثَّانِيَةُ: حَيْثُ أُكِّدَ الْمَصْدَرُ النَّوْعِيُّ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ مِنْهُ نَحْوُ:
قمت قياما حسنا {وسرحوهن سراحا جميلا} وقوله: {اذكروا الله ذكرا كثيرا}
وَقَدْ يُضَافُ الْوَصْفُ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيُعْطَى حُكْمَ الْمَصْدَرِ قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
الثَّانِي: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ وَهِيَ الْآتِيَةُ عَلَى حَالٍ واحدة عكس الْمُبِيِّنَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْتَقِلَةً وَهِيَ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لنفسه وسميت مؤكدة لأنها نعلم قَبْلَ ذِكْرِهَا فَيَكُونُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِهَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حيا}
وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
{فتبسم ضاحكا من قولها} لِأَنَّ مَعْنَى تَبَسَّمَ: ضَحِكَ مَسْرُورًا
وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ للناس رسولا}
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} وَذُكِرَ الْإِعْرَاضُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الضلال ومثله: {أقررتم وأنتم تشهدون} إِذْ مَعْنَى الْإِقْرَارُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالشَّهَادَةَ حَالَانِ لَهُمْ عِنْدَ التَّوَلِّي وَالْإِقْرَارِ
وقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}
وَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها} وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحَالِ الِانْتِقَالُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي غَيْرِ الْمُؤَكِّدَةِ وَلَمَّا لَمْ يَقِفِ ابْنُ جِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَدَّرَ مَحْذُوفًا أَيْ مُعْتَقَدًا خُلُودَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا سَاغَ مَجِيئُهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ مَفْهُومَهَا مَفْهُومُ عَامِلِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّبَسُّمُ وَالضَّحِكُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ"
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ والإدبار في قوله تعالى: {ولى مدبرا} {ثم وليتم مدبرين} فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَالتَّوْلِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ الشَّيْءَ ظَهْرَهُ وَالْإِدْبَارُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ فَلَيْسَ كُلُّ مُوَلٍّ مُدْبِرًا وَلَا كُلُّ مُدْبِرٍ مُوَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ مُقْبِلًا لَمْ يَسْمَعْ فَإِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنَ السَّمَاعِ فَإِذَا أَدْبَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ لِبُعْدِهِ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِدْبَارَ قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فإنه بمعنى الإقبال
وقوله: {ولم يعقب} إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الْهُرُوبِ وَعَدَمِ رُجُوعِهِ يُقَالُ: فُلَانٌ وَلَّى إِذَا رَجَعَ وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يلتفت وكذلك قوله: {وأرسلناك للناس رسولا} قِيلَ: لَيْسَتْ بِمُؤَكَّدَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ قَدْ لَا يَكُونُ رَسُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أرسلنا عليهم الريح العقيم} وقوله: {وهو الحق مصدقا} جَعَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْرِبِينَ مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ صِفَةَ الْحَقِّ التَّصْدِيقُ قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ الْعَامِلِ وَأَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ
وَدَعْوَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ فِيهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَقًّا وَكَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ {مُصَدِّقًا} حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُؤَكِّدَةٌ وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا الْحَقُّ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الثَّابِتِ وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ الْحَقُّ لِتَأَوُّلِهِ بِالْمُشْتَقِّ
وَقَوْلِهِ: {قَائِمًا بالقسط} فـ "قائما" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ فَهِيَ لَازِمَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَقَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ
قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى مَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ منفرد بالربوبية وقائم بالقسط فإنه سبحانه بِالصِّفَتَيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمَا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْأُخْرَى وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَزَلْ بِهِمَا لِأَنَّ صِفَاتِهِ ذَاتِيَّةٌ قديمة
فائدة
عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية
قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ: لَا تَقَعُ الْمُؤَكِّدَةُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ مُحْتَجًّا بِمَا سَبَقَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء إذا ولوا مدبرين} وقوله تعالى: {ولى مدبرا ولم يعقب} فمدبرين ومدبرا حال مؤكدة لفعل التولية
في أدوات التأكيد
مؤكدات الجمل الاسمية
الأول: التأكيد بـ "إن" قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عظيم} وَهِيَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ بِاللَّامِ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِ إِنَّ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ هُوَ الْجَوَابُ لَكِنْ بِشَرْطِ إِنْ يَكُونُ لِلسَّائِلِ فِيهِ ظَنٌّ بِخِلَافِ مَا أَنْتَ تُجِيبُهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ مَرَدَّ الْجَوَابِ أَصْلًا فِيهَا فَلَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلى قولك:
"صَالِحٌ" فِي جَوَابِ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ حَتَّى تَقُولَ: إِنَّهُ صَالِحٌ وَلَا قَائِلَ بِهِ بِخِلَافِ اللَّامِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا غَيْرُ أَصْلِ الْجَوَابِ
وَقَدْ يَجِيءُ مَعَ التَّأْكِيدِ فِي تَقْدِيرِ سُؤَالِ السَّائِلِ إِذَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ نَفْسَهُ لِلنَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم} أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَهَا مُجِيبًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَاصِفًا لَهَا بِأَهْوَلِ وَصْفٍ لِيُقَرِّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبَ
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ: لَا تَدْعُنِي فِي شَأْنِهِمْ وَاسْتِدْفَاعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِكَ لِأَنَّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ وَقَدْ جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَفِّهِ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّعَاءِ لِمَنْ وجبت شقاوته قوله تعالى: {يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إن ربي غفور رحيم} فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أَوْرَثَ لِلْمُخَاطَبِ حَيْرَةً كَيْفَ لَا يُنَزِّهُ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهَا مُطَمْئِنَةً زَكِيَّةً فَأَزَالَ حَيْرَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ {بِالسُّوءِ} إِلَّا الْمَعْصُومَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صلاتك سكن لهم}
واعلم أن كل جملة صدرت بإن مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَجَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فَإِنَّ الْفَاءَ
يَصِحُّ أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ إِنَّ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ حَسُنَ تَجْرِيدُهَا عَنْ كَوْنِهَا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ
وَإِنْ صُدِّرَتْ لِإِظْهَارِ فَائِدَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ قِيَامُ الْفَاءِ مَقَامَهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون} بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يسمعون}
وَمِنْ فَوَائِدِهَا: تَحْسِينُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا إِذَا فسر بالجملة الشرطية مالا يَحْسُنُ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} {أنه من يحادد الله ورسوله} {أنه من عمل منكم سوءا بجهالة} {إنه إنه لا يفلح الكافرون} وَأَمَّا حُسْنُهُ بِدُونِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هو الله أحد} فَلِفَوَاتِ الشَّرْطِ
الثَّانِي: "أَنَّ" الْمَفْتُوحَةُ نَحْوُ: عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَهِيَ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ كَالْمَكْسُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ يُفِدْ تَوْكِيدًا وَيُقَالُ التَّوْكِيدُ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِأَنَّ مَحَلَّهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْمَكْسُورَةِ لِلْإِسْنَادِ وَهَذِهِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
الثَّالِثُ: "كَأَنَّ" وَفِيهَا التَّشْبِيهُ الْمُؤَكِّدُ إِنْ كَانَتْ بَسِيطَةً وَإِنْ كَانَتْ مركبة من
كاف التشبيه وأن فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأَنَّ فِيهَا مَا سَبَقَ وَزِيَادَةٌ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ أَيْ بَيْنِ قَوْلِكَ: كَأَنَّهُ أَسَدٌ وَبَيْنَ أَنَّهُ كَالْأَسَدِ أَنَّكَ مَعَ كَأَنَّ بَانٍ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ
وَقَالَ الْإِمَامُ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ: اشْتَرَكَ الْكَافُ وَكَأَنَّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّشْبِيهِ وَكَأَنَّ أبلغ وبذلك جزم حازم في منهج الْبُلَغَاءِ وَقَالَ: وَهِيَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَقْوَى الشَّبَهُ حَتَّى يَكَادَ الرَّائِي يَشُكُّ فِي أَنَّ الْمُشَبَّهَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قالت بلقيس: {كأنه هو}
الرَّابِعُ: "لَكِنْ" لِتَأْكِيدِ الْجُمَلِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَالتَّنُوخِيُّ فِي "الْأَقْصَى" وَقِيلَ: لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ وَقِيلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ الْمُجَرَّدِ وَهِيَ أَنْ يُثْبِتَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا قَبِلَهَا وَمِثْلُهَا "لَيْتَ" و"لعل" وَ"لَعَنَّ" فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ هَمْزَةَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ عَيْنًا وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ التَّنُوخِيُّ
الْخَامِسُ: لَامُ الِابْتِدَاءِ نحو: {إن ربي لسميع الدعاء} وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا زَحْلَقُوهَا فِي بَابِ إِنَّ عَنْ صَدْرِ الْجُمْلَةِ كَرَاهِيَةَ ابتداء الكلام المؤكدين وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ بِجِهَةِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّ تَدُلُّ بِجِهَتَيْنِ الْعَمَلُ وَالتَّأْكِيدُ وَالدَّالُّ بِجِهَتَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ بِجِهَةٍ كَنَظِيرِهِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا جَاءَتْ مَعَ إِنَّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ إِنَّ أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا
وَعَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَإِنَّ لتأكيد الاسم وفيه تجوز لأن لتأكيد إِنَّمَا هُوَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَالْخَبَرِ
السَّادِسُ: الْفَصْلُ وَهُوَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْجُمْلَةِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَقَالَ: فِي قوله تعالى: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} {أَنَا} وَصْفٌ لِلْيَاءِ فِي {تَرَنِ} يَزِيدُ تَأْكِيدًا وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ يُؤَكِّدُ الضَّمِيرَ وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فَلَمْ يُعْهَدْ وَلِهَذَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ دُعَامَةً لِأَنَّهُ يُدَعَّمُ بِهِ الْكَلَامُ أَيْ يَقْوَى وَلِهَذَا قَالُوا لَا يُجَاءُ مَعَ التَّوْكِيدِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَخَالَفَ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ لَيْسَ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَإِمَّا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا لَأَنَّ اللَّفْظِيَّ إِعَادَةُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَزَيْدٍ زَيْدٍ أَوْ معناه كقمت أنا وَالْفَصْلُ لَيْسَ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ وَلَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَنِّيًا عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَلَا مُفَسِّرًا وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مَحْصُورَةٌ كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا مِنْهُ نَفْيٌ لِلتَّوْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ وَلَبْسٌ لِلْكَلَامِ
وَفِي الْبَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ عند قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} قَالَ سِيبَوَيْهِ: دَخَلَ الْفَصْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تجدوه عند الله هو خيرا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ "مَا" فِي قَوْلِهِ تعالى: {فبما رحمة} انْتَهَى
السَّابِعُ: ضَمِيرُ الْبَيَانِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْقِصَّةِ لِلْمُؤَنَّثِ وَيُقَدِّمُونَهُ قَبْلَ الْجُمْلَةِ نَظَرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُ الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ وَعَادَتُهُمْ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ جُمْلَةٍ قَدْ يُقَدِّمُونَ قَبْلَهَا ضَمِيرًا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهُ وَمُفَسِّرَةً لَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَطَلَّعَ السَّامِعُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْهُ وَطَلَبِ تَفْسِيرِهِ وَحِينَئِذٍ تُورَدُ الْجُمْلَةُ الْمُفَسِّرَةُ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا}
وَقَدْ يُفِيدُ مَعَهُ الِانْفِرَادُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قل هو الله أحد} أَيِ: الْمُنْفَرِدُ بِالْأُحْدِيَّةِ
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: هو ضمير الشأن و"الله" مبتدأ ثان و"أحد" خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَائِدٍ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تَفْسِيرٌ لَهُ وَلِكَوْنِهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ فَنَزَلَتْ
وَمِنْهُ: {وَأَنَّهُ لما قام عبد الله} وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مُؤَنَّثٌ كقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار} فَالْهَاءُ فِي {فَإِنَّهَا} ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَ {تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إِنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْلَمَ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ علماء بني إسرائيل}
بقراءة الياء و"أن يعلمه" مبتدأ وآية الْخَبَرُ وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَأَنَّثَ لِوُجُودِ آيَةٍ فِي الْكَلَامِ
الثَّامِنُ: تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ وَيَجِبُ أَنْ يُؤَكَّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقوله تعالى: {فاذهب أنت وربك}
وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّأْكِيدُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آباؤنا} فَعَطَفَ {آبَاؤُنَا} عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ وَلَيْسَ هُنَا تَأْكِيدٌ بَلْ فَاصْلٌ وَهُوَ "لَا"
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَأْتِي قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك}
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَاصِلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الملقين} فأكد السحر ضَمِيرَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِلْقَاءِ دُونَ ضَمِيرِ مُوسَى حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أَنْتَ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَبُّوا التَّقْدِيمَ فِي الْإِلْقَاءِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يُقَرِّرُ عَظَمَتَهُ فِي أَذْهَانِ الْحَاضِرِينَ فَلَا يَرْفَعُهَا مَا يَأْتِي بَعْدَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَءُوا بِمُوسَى
فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْبَدَاءَةَ بِالْإِلْقَاءِ عَلَى عَادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّنَّاعِ فِي تَأَدُّبِهِمْ مَعَ قُرَنَائِهِمْ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ تَأَدَّبُوا تَهَذَّبُوا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأْكِيدِ بِالتَّصْرِيحِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أول من ألقى} وَهَذَا جَوَابٌ بَيَانِيٌّ لَا نَحْوِيٌّ
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ هَذَا الْإِطْنَابِ وَهَلَّا قَالُوا إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين:
أحدهما: لفظي وهو المزاوجة لرءوس الْآيِ عَلَى سِيَاقِ خَوَاتِمِهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا
وَالثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُوسَى فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي "خَاطِرَيَاتِهِ" ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ فَيَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبُ مِنْ صِيغَةِ الْكَلَامِ! وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعْرُوفِ مَعَانِيهِمْ وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ
التَّاسِعُ: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرٍ مُبْتَدَأٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَلِهَذَا قِيلَ بِإِفَادَةِ الْحَصْرِ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَشَّافِهِ
قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مَعْنَاهُ الْحَصْرُ أَيْ: لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هُمْ
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من الأرض هم ينشرون} أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُنْشِرُ إِلَّا هُمْ وَإِنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يُلْزِمُهُمْ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ ثُمَّ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَمَّا خَالَفَ مَذْهَبَهُ الْفَاسِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ من النار} فَقَالَ: هُمْ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ:
*هُمْ يَفْرِشُونَ اللُّبَدَ كُلَّ طِمْرَةٍ*
فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ انْتَهَى
وَبَيَانُهُ أَنَّ مُقْتَضَى قَاعِدَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدُهُ فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّأْوِيلِ لِلْآيَةِ بِفَائِدَةٍ تَتِمُّ لَهُ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الْخُلُودِ لَهُمْ لَا اخْتِصَاصَهُ بِهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ خُلِّدُوا فِي النَّارِ عَلَى زَعْمِهِ إِلَّا أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَهُ أَحَقُّ بِالْخُلُودِ وَأَدْخُلُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَخَيَّلَ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الْمَعَانِي فِي اقْتِضَاءِ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الِاخْتِصَاصِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ أَقْوَى وَأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ إِفَادَةِ مُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَصَّ الْجُرْجَانِيُّ فِي دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ عَلَى أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاخْتِصَاصِ جَلِيلَةً وَأَمَّا إِرَادَةُ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهَا فَلَيْسَتْ جَلِيلَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ الْكَلَامِ عَنْ مَعْنَاهُ الْجَلِيِّ كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُوَحِّدٌ أَبَدًا فهذه
الْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى انْفِرَادِ الْكُفَّارِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مُوَافَقَةٌ وَلَا دَلِيلَ لِلْمُخَالِفِ سِوَى قَاعِدَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَإِلْزَامِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ وَتَحْقِيقِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النار نعوذ بالله من ذلك!
فائدة: مواضع إفادة الحصر
لَا تُخَصُّ إِفَادَةُ الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْفَاعِلُ أَوِ الْمَفْعُولُ أَوِ الْجَارُّ أَوِ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقَاتُ بِالْفِعْلِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي الإيمان بالله بل لابد مَعَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّوَكُّلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْقَدِيمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ قُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ لِيُؤْذِنَ بِاخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْهَا فَقَطْ وَاخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ بِخِلَافِ تأخيره في: {لا ريب فيه} لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ بَلْ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَذَلِكَ
الْعَاشِرُ: مِنْهَا "هَاءُ" التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا الْأَلِفُ وَالْهَاءُ اللَّتَانِ لَحِقَتَا "أَيًّا" تَوْكِيدًا فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ يَا مرتين إذا قلت يأيها وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا
هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَكَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا لِفَائِدَةِ تَبْيِينِ مُعَاضَدَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمُكَاتَفَتِهِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعِهَا عِوَضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ
الْحَادِي عَشَرَ: "يَا" الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَعِيدِ إِذَا نُودِيَ بِهَا الْقَرِيبُ الْفَطِنُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا
الثَّانِي عَشَرَ: الْوَاوُ زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} وقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَوْصُوفَ بِهَا لَا تَقْتَرِنُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَقَعُ فِي الصِّفَاتِ بَلِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ "قَرْيَةٍ" لِكَوْنِهَا عَامَّةً بِتَقْدِيمِ إِلَّا عَلَيْهَا
الثَّالِثَ عَشَرَ: "إِمَّا" الْمَكْسُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَصْلُهَا "إِنَّ" الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ "مَا" تَأْكِيدًا وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ اللَّحَاقِ نُونُ التَّوْكِيدِ
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِمُشَابَهَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَالْعَدَمِ فِي الْقَسَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ إِمَّا تَوْكِيدُهُ بِالنُّونِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّوْكِيدِ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَتَلْزَمُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ فِعْلَ الشَّرْطِ عِنْدَ وَصْلِ إِمَّا أَمْ لَا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَلْزَمُ وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا ضَرُورَةً وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: لَا تَلْزَمُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ حَذْفُ "ما" وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انْتَهَى وَجَاءَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ "إِمَّا" كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةً
فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا
الرَّابِعَ عَشَرَ: "أَمَّا" الْمَفْتُوحَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنه الحق من ربهم} إِنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ
الْخَامِسَ عَشَرَ: "أَلَا" الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ألا إنهم هم المفسدون} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لِلتَّحْقِيقِ أَيْ: تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِكَوْنِهَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ مِنَ التَّحْقِيقِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ نَحْوُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
السَّادِسَ عَشَرَ: "مَا" النَّافِيَةُ نَحْوُ: مَا زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ قَائِمٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ جَعَلَ سِيبَوَيْهِ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النفي جوابا لقد فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ
السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلَقٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: الْقَدِيمِ هِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَوْلُكَ: مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ جَوَابُ إِنَّ زَيْدًا لِمُنْطَلَقٍ مَا بِإِزَاءِ إِنَّ وَالْبَاءُ بِإِزَاءِ اللَّامِ وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ فَإِذَا كَانَتْ بِإِزَائِهَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ هَذَا كله في مؤكدات الجملة الاسمية
مؤكدات الجملة الفعلية
وَأَمَّا مُؤَكِّدَاتُ الْفِعْلِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: "قَدْ" فَإِنَّهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فقد هدي إلى صراط مستقيم م} مَعْنَاهُ: حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهَا فِي شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مُتَشَوِّقًا إِلَى سَمَاعِهِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَتَشَوَّقُ سَمَاعَ قُدُومِ زَيْدٍ قَدْ قَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَحْسُنِ الْمَجِيءُ بِهَا بَلْ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ
وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
مثل} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا منكم في السبت} قَدْ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلُ إِنَّ وَاللَّامِ فِي الِاسْمِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ
وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {قد أفلح من زكاها}
والمضارع نحو: {قد نعلم إنه ليحزنك} {قد يعلم ما أنتم عليه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتْ قَدْ لِتَوْكِيدِ الْعِلْمِ
وَيَرْجِعُ ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا تُفِيدُ التَّعْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ
وَقَالَ ابْنُ أَبَانٍ: تُفِيدُ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيلَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ فَالْأُولَى كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَدْ يَفْعَلُ كَذَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَثِيرِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الْمَعْنَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ مَا أَنْتُمْ عليه
ثانيا: السِّينُ الَّتِي لِلتَّنْفِيسِ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فسيكفيكهم الله} مَعْنَى السِّينِ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى حِينٍ
وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السِّينُ تُفِيدُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: "سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا" يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتَنِي وإن تبطأت
ونحوه: {سيجعل لهم الرحمن ودا} {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {سوف يؤتيهم أجورهم} لَكِنْ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُجُودَ الرَّحْمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفِعْلِ "لَا" مِنَ السِّينِ وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ لَا إِشْعَارَ لِلسِّينِ بِهِ
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ التَّأَخُّرِ فَإِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَيْسَ مَقَامَ تَأْخِيرٍ لِكَوْنِهِ بِشَارَةً تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الْوُقُوعِ وَتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ لَا مِنَ السِّينِ
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ يَحْصُلُ بِهَا تَرْتِيبُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ وَالْإِخْبَارُ بِطُرُقِهِ وَأَنَّهُ مُتَرَاخٍ فَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ وَتَعْيِينَ طُرُقِهِ مُؤْذِنٌ بِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ المخبر به
ثالثها: النُّونُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَبِالْخَفِيفَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذَكْرِهِ مَرَّتَيْنِ
قِيلَ: وَهَذَانَ النُّونَانِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِ الِاسْمِ بِأَنَّ وَاللَّامِ وَلَمْ يَقَعْ
فِي الْقُرْآنِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: {وليكونا من الصاغرين} وقوله تعالى: {لنسفعا بالناصية} وَلَمَّا لَمْ يُتَجَاوَزِ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ قَالَ تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَهَّلَ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدًا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُنَّ فِعْلَانِ وَاسْمُ فِعْلٍ
رَابِعًا: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ فِي تَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: لَا أَبْرَحُ فَإِذَا أَرَدْتَ تَأْكِيدَ النَّفْيِ قُلْتَ: لَنْ أَبْرَحَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: سَيَفْعَلُ يَعْنِي وَالسِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فَجَوَابُهَا كَذَلِكَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ "لَا" وَكَذَا قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ مَا تُعْطِيهِ "لَا" مِنْ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تراني} قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. ولن يتمنوه أبدا} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الآخرة فيقولون: {يا ليتها كانت القاضية} يَعْنِي: الْمَوْتَ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَنْفِي الْأَبَدَ وَلَكِنْ إِلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ النَّفْيَ بِلَا أَطْوَلُ مِنَ النَّفْيِ بِلَنْ لِأَنَّ آخِرَهَا أَلِفٌ وَهُوَ حَرْفٌ يَطُولُ فِيهِ النَّفَسُ فَنَاسَبَ طُولُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ "لَنْ"
ولذلك قال تعالى: {لن تراني} وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِدَارِ الدُّنْيَا
وَقَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الأبصار} وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تُشَاكِلُ الْمَعَانِيَ وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ لَا بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ
وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الزَّمْلِكَانِيُّ فِي التِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: "لا" تنفي ما بعد و"لن" تنفي ما قرب وبحسب الْمَذْهَبَيْنِ أَوَّلُوا الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} {ولا يتمنونه أبدا}
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ: {لَا يَتَمَنَّوْنَهُ} جَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الموت} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا لِيُعَمَّمَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ أَيْ زَعَمُوا ذَلِكَ فِي وَقْتِ مَا قِيلَ لَهُمْ تَمَنَّوُا الموت وأما {ولن يتمنوه} فَجَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عند الله خالصة} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الْآنَ اسْتِعْجَالًا لِلسُّكُونِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَعَلَى وَفْقِ هذا القول جاء قوله: {لن تراني}
قلت: والحق أن "لا" و"لن" لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالتَّأْبِيدُ وَعَدَمُهُ يُؤْخَذَانِ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لن يخلقوا ذبابا} عورض بقوله: {فلن أكلم اليوم إنسيا} وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ وبقوله: {ولن يتمنوه أبدا} ولو كانت
لتأبيد لَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ تَكْرِيرًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَبُقُولِهِ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} لَا يُقَالُ: هِيَ مُقَيَّدَةٌ فَلَمْ تُفِدِ التَّأْبِيدَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ "لَا" لِلِاسْتِغْرَاقِ الْأَبَدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} {ولا يؤوده حفظهما} وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ لِلتَّأْبِيدِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ "لَا" دُونَ "لَنْ" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالتَّأْبِيدُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ
الْقِسْمُ الثَّانِي: الصِّفَةُ
وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ إِنْ وَقَعَتْ صفة للنكرة وموضحة للمعرفة
الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها
وَتَأْتِي لِأَسْبَابٍ:
أَحَدُهَا: لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} فَلَيْسَ ذِكْرُ الْوَصْفِ هُنَا لِلتَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ-
حَتَّى يُوَضَّحَ بِالصِّفَةِ وَأَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا الْمَعْنَى فَذَكَرَ أَسَامِيَ بَعْضِ مَمْدُوحِهِ ثُمَّ قَالَ:
أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً
وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا
فَقَوْلُهُ: لَمْ تَزِدْهُ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِطْنَابِ وَالثَّنَاءِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّبْيِينِ
وَقِيلَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلَةٌ لَهُ لَا لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّنَاءِ لَكَانَ الِاخْتِيَارُ قَطْعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ نَبِيُّونَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ كَذَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَأُرِيدَ بِهَا التَّعْرِيضُ باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وَأَنَّ الْيَهُودَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف اإسلام عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَمْدُوحِ وَغَيْرِهِ بِالْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ وَالْإِسْلَامُ وَصْفٌ عَامٌّ فَوَصْفُهُمْ بِالْإِسْلَامِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا له أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ غَايَتَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ الرَّاجِعَيْنِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْعِبَادِ فَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِهَا فِي أَشْرَفِ حَالَاتِهِمْ وَأَكْمَلِ أَوْقَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ
وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} أَيْ: مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ لِقَضَائِكَ وَكَذَا قَوْلُ يُوسُفَ: {توفني مسلما} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} تَنْوِيهٌ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تُعَظَّمُ بِعِظَمِ مَوْصُوفِهَا كَمَا وُصِفَتِ الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} تَنْوِيهًا بِقَدْرِ الْإِيمَانِ وَحَضًّا لِلْبَشَرِ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ لِيَكُونُوا كَالْمُقَرَّبِينَ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ حَتَّى قِيلَ أَوْصَافُ الْأَشْرَافِ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ
الثَّانِي: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَتَعْرِيفُهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْإِضَافَةِ
فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الذِّهْنُ يَتَبَادَرُ إِلَّا إِلَيْهِ!
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} وفي موضع آخر: {رسل الله} وَفِي حَقِّ عِيسَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَفِي حَقِّ مُوسَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا}
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ أَوْ دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَوْقَهُ فَلَا لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ تَابِعَةٌ وَالتَّابِعُ دُونَ الْمَتْبُوعِ
فَإِنْ: قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُزَالَ إِبْهَامُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَبْهَمُ مِنْهُ؟
فَالْجَوَابُ إِنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ
الثَّالِثُ: لِتَعْيِينِهِ لِلْجِنْسِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يطير بجناحيه} لِأَنَّ الْمَعْنَى بِدَابَّةٍ وَالَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ الْجِنْسِيَّةُ لَا الْإِفْرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَجَمْعُ {أُمَمٍ} مُحَقِّقٌ إِرَادَةَ الْجِنْسِ مِنَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْجِنْسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَوْنُ الدَّابَّةِ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَوْنُ الطَّائِرِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ كَوْنُهُ طَائِرًا بِجَنَاحَيْهِ لِيَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ الْفَرْدِيَّةِ هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ
وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصْفَ لِيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ المنفية -لاسيما مَعَ "مِنْ" الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ- قَطْعِيَّةٌ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ: {فِي الْأَرْضِ} وَ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة
التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ لَمَّا كَانَ يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بجناحيه} لتوهم الاقتصار على حبسها مِمَّنْ يَعْقِلُ فَقِيلَ: {بِجَنَاحَيْهِ} لِيُفِيدَ إِرَادَةَ هَذَا الطَّيْرِ الْمُعْتَقَدِ فِيهِ عَدَمَ الْمَعْقُولِيَّةِ بِعَيْنِهِ
وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الْخِفَّةِ وَشِدَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
*طَارُوا إِلَيْهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا*
فَقَوْلُهُ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْمَعْنَى
وَقِيلَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الطَّائِرِ فَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} لَكَانَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ يُوهِمُ وَلَا طَائِرٍ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إِذَا قُيِّدَ بِظَرْفٍ أَوْ حَالٍ يُقَيَّدُ بِهِ الْمَعْطُوفُ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِطَيْرِ الْأَرْضِ الَّذِي لَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا قَالَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زَالَ هَذَا الْوَهْمُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَائِرٍ مُقَيَّدٍ إِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الدَّابَّةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لهم لا تفسدوا في الأرض} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْفَسَادَ
لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ قِيلَ فِي ذكرها تنبيه على أن الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ شَأْنُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ -وَهِيَ سُتْرَةُ أَمْوَالِكُمْ- جَدِيرٌ أَلَّا يُفْسَدَ فيه إذا مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير} لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قولهم بأفواههم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصدور} وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُقَيَّدِ -إِذِ الْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ وَالْأَكْلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ- فَفَوَائِدُهُ مُخْتَلِفَةٌ
فَقِيلَ: {بِأَفْوَاهِهِمْ} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّسَانِ أَيْ لَا يُعَضِّدُهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى تَحْتَهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُؤَثِّرٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنًى قَوْلٌ بِالْفَمِ وَمُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ مَقُولٌ بِالْفَمِ لَا غَيْرَ أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبُ أَيْ هُوَ مَذْهَبُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ لَا بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ تُوجِبُ اعْتِقَادَهُ بِالْقَلْبِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ رَافِعٌ لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ كَمَا في قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم}
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَأَفَادَ: {بِأَفْوَاهِهِمُ} التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنك} الْآيَةَ فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ
وَإِنَّمَا قَالَ: {في بطونهم نارا} لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ إِذَا أَمْعَنَ وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ إِذَا اقْتَصَرَ قَالَ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ -إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا
وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصدور} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير وَالتَّعَقُّلِ وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ!
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ لَمْ تَعْمَ عَنِ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِنْ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمُ الَّتِي فِي صُدُورِهِمْ
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ قَدْ يُعْنَى بِهَا الْقَلْبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذكري} جَازَ أَنْ يُعْنَى بِالْقَلْبِ الْعَيْنُ فَقَيَّدَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ مَحَلِّهَا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ غَيْرِهَا
وَقِيلَ: ذِكْرُ مَحَلِّ الْعَمَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الْعَمَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" أَيْ: هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْهُ فَعَمَى الْقَلْبِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ لَا عَمَى الْبَصَرِ فَأَعْمَى الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَعْمَى مِنْ أَعْمَى الْعَيْنِ فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {الَّتِي فِي الصدور} عَلَى أَنَّ الْعَمَى الْبَاطِنَ فِي الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّدْرُ لَا الْعَمَى الظَّاهِرُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْوَجْهُ
فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ
الْأُولَى: الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ
اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ لَا تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَصِيحِ إِذْ كَلُّ فَصِيحٍ مُتَكَلِّمٌ وَلَا عَكْسُ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أُشْكِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ
الوعد وكان رسولا نبيا} إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {نَبِيًّا} صِفَةٌ لِـ "رَسُولَ" لِأَنَّ النَّبِيَّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ إِذْ كُلُّ رَسُولٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسُ
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {رَسُولًا} وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي رَسُولَ مِنْ مَعْنَى يُرْسِلُ أَيْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ وَهِيَ حَالٌ مؤكدة كقوله: {وهو الحق مصدقا}
الثانية: تأتي الصفة لازمة لا للتقييد
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا برهان له به} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لم ينزل به سلطانا} وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ نَحْوَ قَوْلِهِ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} جِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ لَا أَنْ يَكُونَ فِي الآلهة ما يجوز أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِكَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ: لَا أَحَقَّ بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ فَاللَّهُ مُثِيبُهُ
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ خَاصَّةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَلَّا تَقُومَ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ لَا بَيَانُ أَنَّهُ نَوْعَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا طائر يطير بجناحيه} هُوَ بَيَانُ خَاصَّةِ الطَّيَرَانِ لَا أَنَّهُ نَوْعَانِ
وقوله: {سفها بغير علم} وَالسَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ وَقِيلَ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِمِقْدَارِ قُبْحِهِ وَقَوْلِهِ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغير الحق} وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِصِفَةِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِلْفِعْلِ كَمَا فِي عَكْسِهِ: {قال رب احكم بالحق} لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي التَّصْرِيحِ بِالصِّفَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ كَقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَلَدَهُ وَلَوْ وُجِدَ لَكَانَ بِحَقٍّ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا قَيَّدَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ شُبْهَةً
وَإِنَّمَا نَصَحُوهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَلَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا وَجْهًا يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْقَتْلَ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جدال في الحج} مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا لَكِنْ خُصِّصَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَخَطَرِهِ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ فِي الْحَجِّ كَيْفَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقَعُ فِي الْحَجِّ كَثِيرًا فَاعْتَنَى فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَاتِّبَاعُ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ
وَقِيلَ بَلْ يَكُونُ الْهَوَى فِي الْحَقِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فَإِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى حَسُنٌ لِمَنْ يُوقِنُ وَلِمَنْ لَا يُوقِنُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ ظُهُورَ حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن المؤمن هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْجَاهِلِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ فَفَائِدَتُهُ مُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ التَّحْرِيفَ بِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ فَإِنَّهُ يُقَالُ كَتَبَ فُلَانٌ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بَلْ أَمَرَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَلَيٍّ: "كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ".
الثَّالِثَةُ: قَدْ تَأْتِي الصِّفَةُ بِلَفْظٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لونها} قِيلَ: الْمُرَادُ سَوْدَاءٌ نَاصِعٌ وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بابها
ومنه قوله تعالى: {كأنه جمالت صفر} قِيلَ: كَأَنَّهُ أَيْنُقٌ سُودٌ وَسُمِّيَ الْأَسْوَدُ مِنَ الْإِبِلِ أَصْفَرُ لِأَنَّهُ سَوَادٌ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ
الرَّابِعَةُ: قَدْ تَجِيءُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْمِيمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّمَا يُؤْكَلُ إِذَا أَثْمَرَ
فَقِيلَ: فَائِدَتُهُ نَفْيُ تَوَهُّمِ تَوَقُّفِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالنُّضْجِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ أَوَّلِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حسد}
وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هي أحسن} فَإِنَّ غَيْرَ مَالِ الْيَتِيمِ كَذَلِكَ لَكِنْ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ النَّاصِرِ لَهُ بِخِلَافِ مَالِ الْبَالِغِ أَوْ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَجْمُوعِ الْحُكْمَيْنِ وَهُمَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ بِغَيْرِ الْأَحْسَنِ
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ وَقُصِدَ بِهِ لِيُعْلَمَ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْفِعْلِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى كقوله: {فلا تقل لهما أف}
الْخَامِسَةُ: قَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ السَّابِقَةِ
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إله واحد} فَإِنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ جَعَلُوهُ نَعْتًا قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يقول: إن إلهين مثنى والاثنان للتثنية فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدهما: قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ: إِنَّ فَائِدَتَهَا تَوْكِيدُ نَهْيِ الإشراك بالله سبحانه وذلك
لأن الْعِبْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ وَلَوْ وُصِفَ إِلَهَيْنِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ عَاجِزَيْنِ لَأَشْعَرَ بِأَنَّ الْقَادِرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَا فَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ فَسُبْحَانَ مَنْ دَقَّتْ حِكْمَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ!
وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: {فإن كانتا اثنتين}
الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ نَحْوَ: "إِنَّمَا زَيْدٌ رَجُلٌ وَاحِدٌ" فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا فَلَوْ قِيلَ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فَقَطْ لَصَحَّ فِي مَوْضُوعِهِ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً وَجَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَعْدَادُ آلِهَةٍ لِأَنَّهُ يطلق عليهم أنهم واحد لاسيما وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ لَا تَتَضَادُّ مَطْلُوبَاتُهُ فَيَصِحُّ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَيْنِ} بَيَّنَ فِيهِ قُبْحَ التَّعْدِيدِ لِلْإِلَهِ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَدَدِيَّةِ وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله: أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تَصِفْهُ بِوَاحِدٍ لَمْ يَحْسُنْ وَقِيلَ لَكَ إِنَّكَ نَفَيْتَ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ وَاقِعًا عَلَى التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَكَ: لَا تَتَّخِذْ ثَوْبَيْنِ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُلْتَ: ثَوْبَيْنِ اثْنَيْنِ عَلِمَ الْمُخَاطَبُ أَنَّكَ نَهَيْتَهُ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ وَأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى نَفْسِ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَدِ
فَأَتَى بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُعَدِّدِ الْآلِهَةَ وَلَا تَتَّخِذْ عَدَدًا تَعْبُدُهُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
الرَّابِعُ: أَنَّ "اتَّخَذَ" هِيَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيَكُونُ: {اثْنَيْنِ} مَفْعُولَهَا الْأَوَّلُ وَ {إِلَهَيْنِ} مَفْعُولَهَا الثَّانِي وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ إِلَهَيْنِ أَخَصُّ مِنَ اثْنَيْنِ وَاتِّخَاذُ اثْنَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَعَلَى مالا يَجُوزُ وَأَمَّا اتِّخَاذُ اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ فَلَا يَقَعُ إلا على ما يَجُوزُ وَقَدَّمَ إِلَهَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ اتِّخَاذُهُمَا إِلَهَيْنِ فَالنَّهْيُ وَقَعَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ الْآلِهَةُ الْمُتَّخَذَةُ وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذكر الاثنين والإلهين إِذْ هُمَا مَفْعُولَا الِاتِّخَاذِ
قَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَيِّدُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَهَيْنِ مَفْعُولَ تَتَّخِذُوا واثنين صِفَةً فَإِنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ اثْنَيْنِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ وَالْجِنْسِ وَالثَّانِي عَلَى مُجَرَّدِ الِاثْنَيْنِيَّةِ
قَالَ: وَهَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ كل زوجين اثنين} فِي دُخُولِ اثْنَيْنِ فِي حَدِّ الْوَصْفِ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ التَّنْوِينَ عِوَضًا عَنْهُ وَ {زوجين} مفعول "احمل" أو "فاسلك" و"اثنين" نعت ومن يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ لِكَوْنِهِ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا وَالتَّقْدِيرُ: احْمِلْ أَوِ اسْلُكْ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَمَنْ قَرَأَ بِإِضَافَةِ كُلٍّ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ اثْنَيْنِ المفعول والجار والمجرور متعلق
فعل الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي: جَعْلُ مِنْ زائدة على رأي الأخفش وكل هي المفعول واثنين صِفَةٌ
الْخَامِسُ: أَنَّهُ بَدَلٌ وَيُنْوَى بِالْأَوَّلِ الطَّرْحُ وَاخْتَارَهُ النِّيلِيُّ فِي شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فإن مروان بن سعد الْمُهَلَّبِيَّ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ فَقَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ؟ أَرَادَ مَرْوَانُ أَنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ فَمَا فَائِدَةُ تَفْسِيرِهِ الضَّمِيرَ الْمُسَمَّى بِاثْنَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ كَانَتَا ثَلَاثًا وَلَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَمْ يفصل الخبر الاسم في شيء؟ فَأَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ أَيْ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ كَبِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ صَالِحَتَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَتَيْنِ} أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثُّلُثَيْنِ لِلْأُخْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا اثْنَتَيْنِ فَقَطْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَرِّثُونَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ يَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَنْكِئُ الْعَدُوَّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِتَوْرِيثِ الْبَنَاتِ أَعْلَمَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أخذ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى العدد
قال الحريري: ولعمري لقد أَبْدَعَ مَرْوَانُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ وَسُؤَالِهِ وَأَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كَشْفِ إِشْكَالِهِ! وَلَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ هَذَا الْجَوَابَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ- وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَخْفَشِ- ثُمَّ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَاتِ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ خَبَرًا دَالًّا عَلَى التَّجْرِيدِ مِنَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِاللَّفْظِ ذَاتُهُ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ذَاتٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَجْرِيدٍ عَنْ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ عَقْلٍ فَكَذَلِكَ اثْنَتَيْنِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مُسَمَّى اثْنَتَيْنِ فَقَطْ فَلَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا إِذْ لَوْ صَحَّ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ حَصَلَ وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ فِي كَانَتَا عَائِدٌ عَلَى الْكَلَالَةِ وَالْكَلَالَةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَجَمَاعَةً فَإِذَا أَخْبَرَ بِاثْنَتَيْنِ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَةٌ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي كَانَتَا الْعَائِدُ عَلَى الْكَلَالَةِ هُوَ فِي مَعْنَى اثْنَيْنِ صَحَّ أَنَّ تُثَنِّيَهُ لِأَنَّ تَثْنِيَتَهُ فَرْعٌ عَنِ الْإِخْبَارِ بِاثْنَيْنِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَمْ تُسْتَفَدِ التَّثْنِيَةُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُمَاثِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يوصيكم الله في أولادكم} ثم قال: {فإن كن نساء} {وإن كانت واحدة} وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْكَلَالَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الضَّمِيرُ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ
وَالْجَوَابُ بِشَيْءٍ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ إِلَيْهِ وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِهِ فَإِذَا قُلْتَ إِذَا جَاءَكَ رِجَالٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ فَكَذَا صَحَّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْجَائِي وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَإِنْ كَانَ الْجَائِي مِنَ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِكَ: إِذَا جَاءَكَ وَالْآيَةُ سِيقَتْ لبيان
الْوَارِثِينَ الْأَوْلَادِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِنَ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَقَدْ دَخَلَتْ الِاثْنَانِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى
وَيَجُوزُ أَنَّ تَبْقَى الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَخْتَصُّ هَذَا الْجَوَابُ بِهَذِهِ
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أُخَرُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ فَإِنْ كَانَ من ترك اثنتين وهذا مفيد فَأَضْمَرَهُ عَلَى مَا بَعْدُ وَ"مَنْ" يَسُوغُ مَعَهَا ذِكْرُ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَإِذَا وَقَعَ الضَّمِيرُ مَوْقِعَ "مَنْ" جَرَى مَجْرَاهَا فِي جَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالِاثْنَيْنِ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى أُصُولِهَا الْمَرْفُوضَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْأَعْدَادِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَعْدُودِ كَثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ اثْنَيْنِ رَجُلٍ وَوَاحِدِ رَجُلٍ وَلَكِنَّهُمْ رَفَضُوا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَجِدُ لَفْظَةً تَجْمَعُ الْعَدَدَ وَالْمَعْدُودَ فَتُغْنِيكَ عَنْ إِضَافَةِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: رَجُلَانِ وَرَجُلٌ وليس كذلك ما فوق الاثنتين أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ثَلَاثَةُ لَمْ يُعْلَمِ الْمَعْدُودُ مَا هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ مَا هُوَ فَأَنْتَ مُضْطَرٌّ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: كَانَ الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنتين وَلَا الرَّجُلَانِ كَانَا اثْنَيْنِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالًا لِلشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ كَقَوْلِهِ:
*ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَلِ*
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الشِّعْرِ؟
قِيلَ: إِنَّا وَجَدْنَا فِي القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كاستحوذ وَنَظَائِرِهَا
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ قَالَهُ ابْنُ الضَّائِعِ النَّحْوِيُّ
قُلْتُ: وَنَظَائِرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم يكونا رجلين} فَإِنَّ الرُّجُولِيَّةَ الْمُثَنَّاةَ فُهِمَتْ مِنَ الضَّمِيرِ بِدَلِيلِ: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {رَجُلَيْنِ} حَالٌ لَا خَبَرٌ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا حَالَ كَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فَإِنَّ الْأُنُوثَةَ فُهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَضَعْتُهَا}
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمُ السُّؤَالَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي {يَكُونَا} لِلرَّجُلَيْنِ لِأَنَّ "الشَّهِيدَيْنِ" قُيِّدَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الرِّجَالِ فَكَأَنَّ الْكَلَامَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلَانِ رَجُلَيْنِ وَهَذَا مُحَالٌ
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْأَخْفَشُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: إِنَّ الْخَبَرَ هُنَا أَفَادَ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الصِّفَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ إِذْ وَضَعَ فِيهِ "الرَّجُلَيْنِ" مَوْضِعَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ تَجَوُّزٌ بَعِيدٌ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ الْمُجَرَّدُ مِنْهُمَا الرُّجُولِيَّةُ أَوِ الْأُنُوثِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِصِفَةٍ مَا دَالًّا عَلَى نَفْيِهَا!
عَلَى أَنَّ فِي جَوَابِ الْفَارِسِيِّ هُنَاكَ نَظَرًا فإنه لم يرد عَلَى أَنْ جَعَلَ نَفْسَ السُّؤَالِ جَوَابًا كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَ ذُكِرَ الْعَدَدُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلضَّمِيرِ فَقَالَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ فَلَمْ يَزِدِ الْأَلْفَاظَ تَجَرُّدًا
قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ {رجلين} منصوب على الحال المبينة وكان تَامَّةٌ فَهُوَ أَظْرَفُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عن وجه النظم وأسلوب البلاغة ونفي مالا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْحَشْوِ فَأَجَابَ بِالْإِعْرَابِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ السُّؤَالِ بِشَيْءٍ وَالَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ خَبَرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌ وَمَا زَادَنَا إِلَّا التَّكَلُّفَ فِي جَعْلِهِ حَالًا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ {شَهِيدَيْنِ} لَمَّا صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بِمَعْنَى شَخْصَيْنِ شَهِيدَيْنِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ثُمَّ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} عَلَى الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ وَكَانَ عَوْدُهُ عَلَيْهِمَا أَبْلَغَ لِيَكُونَ نَفْيُ الصِّفَةِ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ إِثْبَاتُهَا لَهُمَا فَيَكُونُ الشَّرْطُ مُوجَبًا وَنَفْيًا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كَالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ وَفِي النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الِارْتِبَاطِ وَجَرْيِ الكلام على نسق واحد مالا خَفَاءَ بِهِ وَأَمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ وُضِعَ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا لِبَيَانِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ ثُمَّ وُضِعَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ مَوْضِعَ الْوَارِثِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ لَمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْهُ الِاثْنَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوَارِثِ -وَإِنْ كَانَ جَمْعًا- بِاثْنَيْنِ فَفِيهِ تَفَاوُتٌ مَا لِكَوْنِهِ مُفْرَدَ اللَّفْظِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ بِحُسْنِ النَّظْمِ وَضْعُ الْمُضْمَرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ ثُمَّ يُجْرِي الْخَبَرَ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ -وَهُوَ الْوَارِثُ- فَيَجْرِي الْكَلَامُ فِي طَرِيقِهِ مَعَ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ المضمر الظَّاهِرِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَفَاوُتِ اللَّفْظِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ لَفْظٍ مُفْرَدٍ بِمُثَنَّى
وَنَظِيرُ هَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ اسْمٌ مَوْضِعَ غَيْرِهِ إِيجَازًا ثُمَّ جَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ فِي الْحَدِيثِ عَمَّنْ هُوَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} فَعَادَ هَذَا الضَّمِيرُ وَالْخَبَرُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ أُقِيمَتِ الْقَرْيَةُ فِي الذِّكْرِ مَقَامَهُمْ فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ مَعَ حُصُولِ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ الْقَرْيَةِ مَوْضِعَ أَهْلِهَا وَفُهِمَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الْإِنْسَانِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نفخة واحدة} قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَمَّا فُهِمَ مِنْهَا التَّأْكِيدُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الذَّاتِ وَلَيْسَ فِي {وَاحِدَةٌ} دَلَالَةً عَلَى نَفْخٍ فَدَلَّ عَلَى أنها ليست تأكيدا
وَفِي فَائِدَةِ {وَاحِدَةٌ} خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: "أَمْسِ الدَّابِرُ"
الثَّانِي: وَصْفُهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا إِذَا وُصِفَ وَرُدَّ بِأَنَّ تَحْدِيدَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مُصَحِّحٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْفَاعِلِ
الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَحْدَةَ لَمْ تُعْلَمْ مِنْ نَفْخَةٍ إِلَّا ضِمْنًا وَتَبَعًا لِأَنَّ قَوْلَكَ نَفْخَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ النَّفْخُ وَالْوَحْدَةُ فَلَيْسَتْ نَفْخَةٌ مَوْضُوعَةً لِلْوَحْدَةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ وَصْفُهَا
الرَّابِعُ: وصفه النفخة بواحدة لأجل نفي توهم الكثرة كقوله تعالى: {إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فَالنِّعْمَةُ فِي اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ وَقَدْ عَلَّقَ عَدَمَ الإحصاء بعدها
الْخَامِسُ: أَتَى بِالْوَحْدَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ كقوله: {وما أمرنا إلا واحدة} أَيْ: لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {وإلهكم إله واحد} قِيلَ: مَا فَائِدَةُ {إِلَهٍ} وَهَلَّا جَاءَ وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ أَوْجَزُ قِيلَ: لَوْ قَالَ: وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ لَكَانَ ظَاهِرُهُ إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا فِي إِلَهِيَّتِهِ يَعْنِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا عَنْ تَوَحُّدِهِ فِي ذَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كُرِّرَ ذِكْرُ الْإِلَهِ وَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْيِ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى إِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَالْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ أي الأصول كما أن زيدا واحدا وَأَعْضَاؤُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَمَّا قَالَ: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} دَلَّ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: {وَاحِدٌ} يَحْتَمِلُ الْأَحَدِيَّةَ فِي الذَّاتِ وَالْأَحَدِيَّةَ في الصفات سواء ذكر الإله أولا فلا يتم الجواب
ومنها قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} وَمَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ: {الثَّالِثَةَ} أَنَّهَا {الْأُخْرَى} وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَمِثْلُهُ عَلَى رَأْيِ الْفَارِسِيِّ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى}
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قِيلَ: بِمَعْنَى "عَنْ" أَيْ: خَرَّ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُ: اشْتَكَى فُلَانٌ عَنْ دَوَاءٍ شَرِبَهُ أَيْ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ فَخَرَّ لَهُمْ وَقِيلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ "عَلَى" فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ تَقُولُ خَرِبَتْ عَلَى فُلَانٍ ضَيْعَتُهُ كَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا
ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} {ويقولون على الله الكذب} {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: سَقَطَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ كَذَا إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَوْقِهِ بَلْ تَحْتَهُ فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ فوقهم} عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بنيانهم من القواعد} كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى رَأْسِهِ
السَّادِسَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ
إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ قُدِّمَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ ثُمَّ الظَّرْفُ أَوْ عَدِيلُهُ ثُمَّ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَوْلُهُ: {وَجِيهًا} حَالٌ وَكَذَلِكَ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَقَوْلُهُ: {يُكَلِّمُ} وَقَوْلُهُ {مِنَ الصَّالِحِينَ} فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ انْتَصَبَتْ عَنْ قَوْلِهِ "كَلِمَةٍ" وَالْحَالُ الْأُولَى جِيءَ بِهَا عَلَى الْأَصْلِ اسْمًا صَرِيحًا وَالثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَجِيءَ بِهَا هَكَذَا لِوُقُوعِهَا فَاصِلَةً فِي الْكَلَامِ وَلَوْ جِيءَ بِهَا اسْمًا صَرِيحًا لَنَاسَبَتِ الْفَوَاصِلَ وَالثَّالِثَةُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَالرَّابِعَةُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه} {قال
رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} وَلَمَّا كَانَ الظَّرْفُ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمُفْرَدِ وَشَبَهٌ مِنَ الْجُمْلَةِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا
وَقَدْ أَوْجَبَ ابن عصفور وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} وَلَا يُقَالُ: إِنَّ {أَذِلَّةٍ} بَدَلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَوَامِدِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا كتاب أنزلناه مبارك} فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {مُبَارَكٌ} خَبَرًا لِمَحْذُوفٍ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ
السَّابِعَةُ: فِي اجْتِمَاعِ التابع والمتبوع
فِي اجْتِمَاعِ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْمَتْبُوعَ فيقولون: أبيض ناصع وأصفر فاقع وأحمر قان وأسود غِرْبِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والمعنى: أن التبع فيه زِيَادَةِ الْوَصْفِ فَلَوْ قُدِّمَ لَكَانَ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وغرابيب سود} وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدِئَتْ فِيهَا الْأَذْهَانُ الصَّقِيلَةُ وَعَادَتْ بِهَا أَسِنَّةُ الْأَلْسِنَةِ مَفْلُولَةً وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَجَائِبِ أَنَّ شَيْخًا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُدَرِّسٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ السَّوَادَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْغِرْبَانِ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ فَلَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَابِيبَ هُوَ الْغُرَابُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله!
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِتَقْدِيمِ "الْغَرَابِيبِ" هُوَ تَنَاسُبُ الْكَلِمِ وَجَرَيَانُهَا عَلَى نَمَطٍ مُتَسَاوِي التَّرْكِيبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْبِيضُ والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النسق وترتيب النظام أني يَكُونَ السُّودُ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السُّودِ هُنَا زِيَادَةُ الْوَصْفِ كَانَ الْأَلْيَقُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يُتْبَعَ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَرَابِيبُ فَيُقَابِلُ حَظَّ اللَّفْظِ وَحَظَّ الْمَعْنَى فَوَفَّى الْخِطَابَ وَكَمُلَ الْغَرَضَانِ جَمِيعًا وَلَمْ يَطْرَحْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقَعُ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْحِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْغَرَابِيبِ عَلَى السُّودِ فَوَقَعَ فِي لَفْظِ الْغَرَابِيبِ حَظُّ الْمَعْنَى فِي زِيَادَةِ الْوَصْفِ وَفِي ذِكْرِ السُّودِ مُفْرَدًا مِنَ الْإِتْبَاعِ حَظُّ اللَّفْظِ إذا جَاءَ مُجَرَّدًا عَنْ صُورَةِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ فَاتَّسَقَتِ الْأَلْفَاظُ كَمَا يَنْبَغِي وَتَمَّ الْمَعْنَى كَمَا يَجِبُ وَلَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغَرَابِيبِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِمَعْنَى السُّودِ لئلا تتنافر الألفاظ فإن ضم الغرابيب إِلَى الْبَيْضِ وَالْحُمْرِ وَلَزَّهَا فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ:
*كَابْنِ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرْنٍ*
غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِتَلَاؤُمِ الْأَلْفَاظِ وَتَشَاكُلِهَا وَبِذِكْرِ السُّودِ وَقَعَ الِالْتِئَامُ وَاتَّسَقَ نَسَقُ النِّظَامِ وَجَاءَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي دَرَجَةِ التَّمَامِ وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَكِلُّ دُونَهَا الْعُقُولُ وَتَعْيَا بِهَا الْأَلْسُنُ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ! وَالْحَمْدُ لله
ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيَّ أَشَارَ إِلَى مَعْنًى غَرِيبٍ فَنَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ أَنَّ الْغِرْبِيبَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْآيَةِ وَسُودٌ عِنْدِي بَدَلٌ لَا نَعْتٌ وَإِنْ كَانَ الْغِرْبِيبُ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِذِكْرِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ قَلَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِنَبُ الَّذِي هُوَ اسْمُهُ خَاصَّةً فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التَّقْيِيدُ
الثامنة: عند تكرار النعوت لواحد
إذا تكررت النعوت لواحدة فَتَارَةً يُتْرَكُ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم وَتَارَةً تَشْتَرِكُ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ مَعَانِيهَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: دُخُولُ الْعَاطِفِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ صفة مستقلة
وَالْعَطْفُ أَحْسَنُ إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ نَحْوَ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} وَإِلَّا فَلَا
التَّاسِعَةُ: فَصْلُ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ المدح والذم أبلغ من جعلها نمط وَاحِدًا
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفتن وَعِنْدَ الْإِيجَازِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا
وَمِثْلُهُ فِي الْمَدْحِ قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصلاة والمؤتون الزكاة} فانتصب {والمقيمين} عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ {الْمُؤْمِنُونَ} وَقِيلَ: بَلِ انْتَصَبَ بِالْعَطْفِ عَلَى قوله: {بما أنزل إليك} وَهُوَ مَجْرُورٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَبِالْمُقِيمِينَ أَيْ بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلتَّفْخِيمِ فَالْأَلْيَقُ بِهِ إِضْمَارُ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ جُمْلَةً لَا مُفْرَدًا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ
وَجَوَّزَ السِّيرَافِيُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القربى} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالصَّابِرِينَ} وَرَدَّهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ تَمَامِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ {وَالصَّابِرِينَ} مَعْطُوفًا عَلَى {وَالسَّائِلِينَ} فَهُوَ مِنْ صِلَةِ " مَنْ " فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ
وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ " مِنْ " صِلَةِ مَنْ وَتَكُونُ الصلة كملت
عند قوله تعالى: {وآتى الزكاة} ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقَطْعِ
وَمِثَالُهُ فِي الذَّمِّ: {وامرأته حمالة الحطب} بِنَصْبِ {حَمَّالَةَ}
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْقَطْعُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مَعْلُومًا أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَجْهُولٍ وَقَوْلُنَا " أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ " لابد مِنْهُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي له ملك السماوات والأرض} رفع على الإبدال من {الذي نزل} أَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ نُصِبَ عَلَيْهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِبْدَالُ أَوْلَى لِأَنَّ مِنْ حَقِّ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وكونه تعالى {نزل الفرقان على عبده} لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْعَالَمِينَ فَأُبْدِلَ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بَيَانًا وَتَفْسِيرًا وَتَبَيَّنَ لَكَ المدح
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم وها هنا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَعْلُومِ وَجُعِلَتْ صِلَةً نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورُ
وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصفة للثناء والتعظيم
واشرط بَعْضُهُمْ ثَالِثًا وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِتْبَاعِ حَكَاهُ ابْنُ بابشاذ
وَزَيَّفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فَحِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ الْإِتْبَاعُ لِيَسْتَحْكِمَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ قَالَ: وَالْأَصْلُ -فِيمَا الصِّفَةُ فِيهِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ وَالْمَوْصُوفُ مَعْلُومٌ- قَطْعُ الضَّمِيرِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ أُورِدَ عَلَى دَعْوَى أَفْصَحِيَّةِ الْقَطْعِ عِنْدَ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ مَعَ حُصُولِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ
وَأَجَابَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْقَطْعِ مُطَّرِدٌ مَا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ لَا يَلِيقُ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا سِوَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قَلِيلٌ جِدًّا فَكَذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ سِيبَوَيْهِ بِاشْتِرَاطِهِ فَإِذَا كَانَتِ الصف مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ فِيهَا الْمَوْصُوفُ غَيْرَهُ وَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ فَالْوَجْهُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ وَرَدَ السَّمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطول} لَمَّا كَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِـ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَمَا بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِتْبَاعُ وَالْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُ الْإِتْبَاعُ فِي الْكُلِّ
وَهَذَا مَعَ تَكَرُّرِ الصِّفَاتِ وَذَلِكَ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الْقَطْعِ عَلَى صِفَةٍ مَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تقييد بصفة
وَأَمَّا الْإِتْبَاعُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى فَكَثِيرٌ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَارِدِ فِي سُورَةِ وَالنَّجْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى. وأنه هو رب الشعرى} فَوَرَدَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِيَتَحَدَّدَ بِمَفْهُومِهِ نَفْيُ الِاتِّصَافِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: " وَأَنَّهُ هُوَ لَا غَيْرُهُ " وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذكر والأنثى} لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَاطَاهُ أَحَدٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا ادِّعَاءً بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُمْرُوذَ
قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {التائبون العابدون} الآية وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مسلمات} الْآيَاتِ
وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْصَافِ الذَّمِّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ} الآية قَدْ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْإِتْبَاعِ وَلَمْ يَجِئْ فِيهَا الْقَطْعُ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: {عُتُلٍّ} بِالرَّفْعِ عَلَى الذَّمِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّانِي قَدْ يَلْتَبِسُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَدْحِ بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَيَّنَ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَصِبُ لَفْظًا يَتَضَمَّنُ نَفْسُهُ مَدْحًا نَحْوَ " هَذَا زِيدٌ عَاقِلُ قَوْمِهِ " وَفِي الِاخْتِصَاصِ لَا يَقْتَضِي اللفظ ذلك كقوله تعالى: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} فيمن نصب {أهل}
العاشرة: في وصف الجمع بالمفرد
يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ قَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} فَوَصَفَ الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الحسنى} فَوَصَفَ الْأَسْمَاءَ وَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ بِالْحُسْنَى وَهُوَ مفرد تأنيث الأحسن
وكذلك قوله تعالى: {قال فما بال القرون الأولى} فَإِنَّ الْأُولَى تَأْنِيثُ الْأَوَّلِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ
وَإِنَّمَا حَسُنَ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرِدِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَنَّثَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ بِخِلَافِ لفظ المذكر وأما قوله تعالى: {وكنتم قوما بورا} وَالْبُورُ الْفَاسِدُ فَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ جَمْعُهُ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ
وَقَدْ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ وَلَا يُوصَفُ مُفْرَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمُفْرَدِ وَمِنْهُ: {فَوَجَدَ فيها
رجلين يقتتلان} فَثَنَّى الضَّمِيرَ وَلَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ يَقْتَتِلُ
ومنه: {وأخر متشابهات} ولا يقال وأخرى متشابهة
الحادية عشر: قَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً تَأْكِيدًا
ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} قَالَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ دُخُولِ الْوَاوِ فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ
وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَالْقِيَاسُ مَعَ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّ الصِّفَةَ كَالْحَالِ فِي الْمَعْنَى وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِالْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامنهم كلبهم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ
لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ أَوِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِطَالَةِ لَا الِاخْتِصَارِ فَصَارَ مِنْ بَابِ نَقْصِ الْغَرَضِ
وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: عِنْدِي أَنَّ الْبَيَانَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعًا فَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ يُنْقِصُ الْغَرَضَ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَرَرْتُ بِطَوِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ قَوْسٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ظُهُورًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}
قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي صِفَةِ النَّكِرَةِ بين أن يذكر معها أولا
قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَدَلُ
وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيَانَ وَالتَّأْكِيدَ أَمَّا الْبَيَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فلأنه
عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا جَازَ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ رَأْسَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَإِذَا قُلْتَ " يَدَهُ " فَقَدْ رَفَعْتَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بَدَلِ الْكُلِّ أَوِ التَّضَمُّنِ كَمَا فِي بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ فَكَأَنَّكَ قَدْ ذَكَرْتَ الرَّأْسَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالتَّضَمُّنِ وَأُخْرَى بِالْمُطَابَقَةِ وَإِذَا قُلْتَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِكَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ أَنَّكَ لَمْ تَشْرَبْهُ كُلَّهُ فَجِئْتَ بِالْبَعْضِ تَأْكِيدًا
وَهَذَا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الِاسْمَ تَأْكِيدًا وَجَرَى مَجْرَى الصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو زَيْدًا ورأيت غلامك زيدا ومررت بِرَجُلٍ صَالِحٍ زَيْدٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامُكَ أَوْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَمَّا ذَكَرْتَهُمَا أُثْبِتَ بِاجْتِمَاعِهِمَا الْمَقْصُودُ
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وإنما يذكر الأولى لِتَجُوزَ التَّوْطِئَةُ وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهِمَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ فِي الْإِفْرَادِ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: لَيْسَ كُلُّ بَدَلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الصِّرَاطَ الثاني لم يشك أجد أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلِهَذَا جَوَّزُوا بَدَلَ الْمُضْمَرِ من المضمر كلقيته أباه انتهى
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكَرُّرِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لمن آمن منهم} وَبِدَلِيلِ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُظْهَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَهَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ فَكَمَا أُعِيدَتِ اللَّامُ الْجَارَّةُ فِي الِاسْمِ فَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَامِلِ الرَّافِعِ أَوِ النَّاصِبِ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرَارِ وَهُوَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبْيِينٌ لِلْأَوَّلِ كَالصِّفَةِ
وَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: كَيْفَ يَكُونُ الْبَدَلُ إِيضَاحًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جُمْلَتِهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاتَّصَلَ الْبَدَلُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ جَازَ أَنْ يُوَضِّحَهُ
وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَدَلِ التَّبْيِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ فَقَوْلُكَ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَفْضَلِهِمْ فُلَانٌ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ الْأَكْرَمُ وَالْأَفْضَلُ بِذِكْرِهِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} يُسَمَّى هَذَا بَدَلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ إِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْبَدَلَيْنِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ وَالثَّانِيَةُ بِالْخُصُوصِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذين}
{آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}
وقوله: {لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص عَلَى نَاصِيَةٍ وَالثَّانِيَةَ عَلَى عِلَّةِ السَّفْعِ لِيَشْمَلَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ كُلِّ نَاصِيَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا
وَيَجُوزُ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صراط الذين}
وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كاذبة} قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يَحْسُنُ بَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تُوصَفَ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا جَمِيعًا
وَالنَّكِرَةُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أترابا. وكأسا دهاقا} فَحَدَائِقَ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ " مَفَازًا "
وَمِنْهُ قوله تعالى: {وغرابيب سود} فَإِنَّ سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سُودٌ غَرَابِيبُ فَغَرَابِيبُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِسُودٍ وَنُزِعَ الضَّمِيرُ مِنْهَا وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهَا الَّذِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وقوله: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} فَهَذَا بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ فِيهَا بَيَانُ الْأُولَى
وَمِثْلُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مِثْلِهَا مُجَرَّدَةٍ وَبَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} لِأَنَّ " صِرَاطِ اللَّهِ " مُبَيِّنٌ إِلَى الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مَجِيءَ الْخَاصِّ وَالْأَخَصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَالْأَعَمِّ كَثِيرٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْحَذَّاقُ فِي قوله تعالى: {ما يلفظ من قول} إِنَّهُ لَوْ عُكِسَ فَقِيلَ " مَا يَقُولُ مِنْ لَفْظٍ " لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ
وَقَدْ يَجِيءُ لِلِاشْتِمَالِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِ الْبَعْضِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَعْضِ جَرَّ فِي الِاشْتِمَالِ وَصْفًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فَإِنَّ أَذْكُرَهُ بِمَعْنَى " ذِكْرَهُ " وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي {أَنْسَانِيهِ} الْعَائِدَةُ إِلَى الْحُوتِ وَتَقْدِيرُهُ: " وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ "
وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عن الشهر الحرام قتال فيه} فَـ {قِتَالٍ} بَدَلٌ مِنَ "الشَّهْرِ " بَدَلَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا كَانَ زَيْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ فَجَاءَ بِهِ تَأْكِيدًا
وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود. النار} فَالنَّارُ بَدَلٌ مِنَ " الْأُخْدُودِ " بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ " الْمُوقَدَةُ فِيهِ"
وَمِنْ بَدَلِ الْبَعْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلا} فَالْمُسْتَطِيعُونَ بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ
وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: بَلْ هَذِهِ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَجَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضَهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا
لكم} فِي أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ لِأَنَّ {النَّاسَ} فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {إِنَّ النَّاسَ} فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مُطَابِقٌ لِعِدَّةِ الْمُسْتَطِيعِينَ فِي كَمِّيَّتِهِمْ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ
وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ بَابَ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِي بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنْ يُذْكَرَ الْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ مُبَيِّنًا وَمُوَضِّحًا
وَلَا بُدَّ فِي إِبْدَالِ الْبَعْضِ مِنْ ضَمِيرٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض} {ويجعل الخبيث بعضه على بعض}
وَقَدْ يُحْذَفُ لِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حج البيت من استطاع} " مِنْهُمْ " وَهُوَ مُرَادٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ من آمن منهم} فَـ {مَنْ آمَنَ} بَدَلٌ مِنْ {أَهْلِهِ} وَهُمْ بَعْضُهُمْ
وَقَدْ يَأْتِي الْبَدَلُ لِنَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زَيْدٌ ثَوْبُهُ وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَلَا يَصِحُّ "غِلْمَانُهُ "
وَعَدَلَ عَنِ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يعقلون} لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْحَالِ الثاني وهو {ولو أنهم صبروا} فَلَوْ أُبْدِلَ لَأَوْهَمَ بِخِلَافِ " إِنَّكَ أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ لَكَ " الْبَدَلُ أَرْجَحُ
وَالْبَدَلُ فِي تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ وَلَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ
قَدْ يُكَرَّرُ عَامِلُهُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فَـ {طَلْعِهَا} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ {النَّخْلِ} وَكَرَّرَ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ "مِنْ"
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لمن آمن منهم} {لِمَنْ آمَنَ} بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنَ {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَقَدْ كَرَّرَ اللَّامَ
وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سقفا من فضة} فَقَوْلُهُ {لِبُيُوتِهِمْ} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّامَ الْأُولَى لِلْمِلْكِ وَالثَّانِيَةَ لِلِاخْتِصَاصِ فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكُونُ لَنَا عيدا لأولنا وآخرنا} فَـ {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {لَنَا} وَقَدْ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّفْصِيلُ
وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: جَازَ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ سَبَبِ الْجُثُوِّ
قِيلَ: وَلَمْ يَظْهَرْ عَامِلُ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ إِيذَانًا بِافْتِقَارِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَانْقَطَعَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ لَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْفِعْلِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَإِنْ كَانَ رَافِعًا أَوْ نَاصِبًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُجَوِّزُونَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أمدكم} يجوز أَنْ يَكُونَ {أَمَدَّكُمُ} الثَّانِي بَدَلًا مَنْ {أَمَدَّكُمْ} الْأَوَّلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ صِلَةَ " الَّذِي " كَالْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ شَارِحَةً لِلْأُولَى كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ رَأْسَ زَيْدٍ قَذَفْتُهُ بِالْحَجَرِ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتبعوا من لا يسألكم} من قوله: {اتبعوا المرسلين} لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَلَطُّفًا فِي اقْتِضَاءِ اتِّبَاعِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ له العذاب} فَـ {يَلْقَ} مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو
تقسيم البدل باعتبار آخر
وَيَنْقَسِمُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى بَدَلِ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ مِنْ جُمْلَةٍ وَقَدْ سَبَقَا وَجُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} وَقَوْلِهِ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَجَازَ إِسْنَادُ {يُقَالُ} إِلَى مَا عَمِلَتْ فِيهِ كَمَا جَازَ إِسْنَادُ {قِيلَ} فِي {وَإِذَا قِيلَ إن وعد الله حق} وَمِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ {النَّجْوَى}
وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما. يضاعف له العذاب} الْآيَةَ
وَالرَّابِعُ: بَدَلُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أنهم إليهم لا يرجعون} فَـ {أَنَّهُمْ} بَدَلٌ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَعَدَمَ الرُّجُوعِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ بَدَلًا لَكَانَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ؟
قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مَعْنَوِيٌّ
تنبيه في تكرار البدل
وَقَدْ يُكَرَّرُ الْبَدَلُ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه} فَقَوْلُهُ: {إِذْ هُمَا} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذْ أخرجه الذين كفروا} وقوله: {إذ يقول لصاحبه} بدل من {إذ هما في الغار}
تنبيه
في إعراب كلمة "آزر" في سورة الأنعام
أَعْرَبُوا {آزَرَ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأبيه آزر} بَدَلًا
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَيَانِ وَالْأَبُ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ حَسُنَ الْبَدَلُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ويعقوب} فَقَالَ " آزَرَ " لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ
هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ "آزَرَ" اسْمُ أَبِيهِ لَكِنْ فِي الْمُعْرَبِ لِلْجَوَالِيقِيِّ عَنِ الزَّجَّاجِ لَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ "تَارِحُ" وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ وَقِيلَ: آزَرُ ذَمٌّ فِي لُغَتِهِمْ وَكَأَنَّهُ يَا مُخْطِئُ وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِيِّ الَّذِي وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْعَرَبِيِّ نَحْوَ الْإِزَارُ وَالْإِزْرَةُ قَالَ تَعَالَى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ فِي قِرَاءَةِ {آزَرَ}
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: عَطْفُ الْبَيَانِ
وَهُوَ كَالنَّعْتِ فِي الْإِيضَاحِ وَإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ الْكَائِنِ فِيهِ
وَشَرَطَ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وُضُوحُهُ زَائِدًا عَلَى وُضُوحِ مَتْبُوعِهِ
وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ حُصُول زِيَادَةِ الْوُضُوحِ بِسَبَبِ انْضِمَامِ عَطْفِ الْبَيَانِ مَعَ مَتْبُوعِهِ لَا أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ أَوْضَحَ وَأَشْهَرَ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ بِاجْتِمَاعِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةُ وُضُوحٍ لَا تَحْصُلُ حَالَ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي " خَالِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٌ " مَعَ أَنَّ اللَّقَبَ أَشْهَرُ فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَفَاءٌ بِانْفِرَادِهِ وَيُرْفَعُ بِالِانْضِمَامِ
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جُعِلَ " يا هذا الحمد " عَطْفُ بَيَانٍ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَى ذِي اللَّامِ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْبَيَانِ مَعْرِفَةً وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِكَ: لَبِسْتُ ثَوْبًا جُبَّةً وَقَدْ أعرب الفارسي: {من شجرة مباركة زيتونة} وكذا: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين إنما هو إله واحد}
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ؟
قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الْإِيضَاحِ كَالْمَدْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الكعبة البيت الحرام} فَإِنَّ {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عَطْفُ بَيَانٍ جِيءَ بِهِ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ وَأَمَّا الصِّفَةُ فَوُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مُفِيدَةً لِلْإِيضَاحِ لِلْعِلْمِ بِمَتْبُوعِهَا مِنْ غَيْرِهَا
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} وقوله تعالى: {آيات بينات مقام إبراهيم}
وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيث سكنتم من وجدكم} أَنَّ {مِنْ وُجْدِكُمْ} عَطْفُ بَيَانٍ
وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُعَادُ فِي الْبَدَلِ لَا فِي عَطْفِ الْبَيَانِ
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَلِ؟
قُلْتُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ابْنُ كَيْسَانَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَدَلَ يُقَرِّرُ الثَّانِي فِي مَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَذْكُرِ الْأَوَّلَ وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَنْ تُقَدِّرَ أَنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالثَّانِي وَإِنْ ذَكَرْتَ الثَّانِي لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالْأَوَّلِ فَجِئْتَ بِالثَّانِي مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ قَائِمًا لَهُ مَقَامَ النَّعْتِ وَالتَّوْكِيدِ
قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي النِّدَاءِ تَقُولُ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ عَلَى الْبَدَلِ كَأَنَّكَ رَفَعْتَ الْأَوَّلَ وَقُلْتَ: يَا زَيْدُ أَقْبِلْ فَإِنْ أَرَدْتَ عَطْفَ الْبَيَانِ قُلْتَ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: ذِكْرُ الخاص بعدم العام
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه عَلَى فَضْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَامِّ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْمُتَنَبِّي قَوْلَهُ:
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
وَابْنُ الرُّومِيِّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ:
كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنِ ذُرَا شَرَفٍ
كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ
وَحَكَى الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَطْفَ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْصِيلًا
وَلَهُ شَرْطَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَالِكٍ: أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالثَّانِي كَوْنُ الْمَعْطُوفِ ذَا مَزِيَّةٍ وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ: هَلْ يتناول الخاص المعطوف عليه أولا يَتَنَاوَلُهُ؟ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مَسْأَلَةِ "نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ" عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْعَامِّ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَطْفُ الْخَاصِّ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَهُوَ نَظِيرُ بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا مِنْ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ يَتَقَوَّى هَذَا بِقَوْلِهِ
يَا حُبَّ لَيْلَى لَا تَغَيَّرْ وَازْدَدِ وَانْمُ كَمَا يَنْمُو الْخِضَابُ فِي الْيَدِ
وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَطْفِ الْعَامِّ
وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلَيْنِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قوله: {جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم}
وَقَدْ يُقَالُ: آيَةُ الشُّعَرَاءِ إِنَّمَا جَازَ فِيهَا الِاحْتِمَالَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ "جَنَّاتٍ" وَقَعَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَعُمَّ الْجِنْسَ وَأَمَّا الْآيَةُ السَّابِقَةُ فَالْإِضَافَةُ تَعُمُّ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ ورمان} أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَوْلُهُ: " فَاكِهَةٌ " مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِعَامٍّ
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهَا كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَالْعِيدِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالكتاب وأقاموا الصلاة} مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ يَشْمَلُ كُلَّ عِبَادَةٍ وَمِنْهَا الصَّلَاةُ لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِمَرْتَبَتِهَا لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} فَإِنَّ عَدَاوَةَ اللَّهِ رَاجِعَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ حِزْبِهِ فَيَكُونُ جِبْرِيلَ كَالْمَذْكُورِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ وَتَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ ثُمَّ عُمُومِ حِزْبِهِ ثُمَّ خُصُوصِهِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَدَدِ فَيَكُونُ الذِّكْرُ ثَلَاثًا وَذِكْرُهُمَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ -مَعَ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجِنْسِ- دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِهِمَا عَلَى أن التفصيل
إِنْ كَانَ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ فَقَدْ عَدَلَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلَهُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ وَقَدْ يُلْحَظُ شَرَفُهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا وَأَيْضًا فَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ الْعَامِّ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ فِرَارًا من التكرار أو يدخل
وفائدته التوكيد وحكاه الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" مِنْ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَخَرَّجَ عليه ما إذا أوصى رجل لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَزَيْدٌ فَقِيرٌ فَهَلْ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ مَا أَوْصَى لَدَيْهِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا أَرَادَ الْوَصِيُّ وَجْهَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطْعُ اجْتِهَادِ الْوَصِيِّ
قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ
وَأَيْضًا فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفَانِ هَلْ يُجْعَلُ الْآخَرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَا يَلِيهِ وَقَعَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكَشَّافِ تَجْوِيزُ الْأَمْرَيْنِ
فَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} أَنَّ " مُخْرِجًا " مَعْطُوفٌ عَلَى {فَالِقُ} لَا عَلَى {يُخْرِجُ} فِرَارًا مِنْ عَطَفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَوَّلَهُ
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغمام والملائكة
وقضي الأمر} عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى {اللَّهِ} لِأَنَّ قَضَاءَهُ قَدِيمٌ
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَانَ قَوْلُهُ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَنْشَأَهَا وَأَوْجَدَهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} يَعْنِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ هَذِهِ صِفَتُهَا وَإِنْ أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {خلق} عَطْفًا عَلَى {خَلَقَكُمْ} وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ التَّكْرَارِ
وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "جِبْرِيلَ" مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَلَوْ سَلَّمْنَا بِعَطْفِهِ عَلَى رُسُلِهِ فَكَذَلِكَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ لِعَطْفِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَلَيْسُوا مِنْهُ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ
أَحَدُهُمَا: لِمَ خَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ؟ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سبحانه وتعالى خَصَّهُمَا بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَلِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ النُّزُولِ فِي تَصْرِيحِ الْيَهُودِ بِعَدَاوَتِهِمَا
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ حَيَاةَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ
عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونخل ورمان} وَغَلَطَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَاكِهَةً نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا
وَهُوَ غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هَاهُنَا الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِ شَامِلًا لِلثَّانِي
وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ لِعُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَجْمُوعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَلَمَّا لَمَحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ وَهُوَ الْمُغَايِرَةُ لَمْ يُحَنِّثِ الْحَالِفَ عَلَى أَكْلِ الْفَاكِهَةِ بِأَكْلِ الرُّمَّانِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إِذِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وآمنوا بما نزل على مُحَمَّدٍ} وَالْقَصْدُ تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا نُزِّلَ عَلَيْهِ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ومشارب}
وَقَوْلُهُ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أشركوا} فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مَعَ دُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ النَّاسِ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ
وَقَوْلُهُ: {الذين يؤمنون بالغيب} فهذا عام {وبالآخرة هم يوقنون} وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يَشْمَلُهَا وَلَكِنْ خَصَّهَا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فَكَانَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ مَدْحٌ لَهُمْ
وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَعَمَّ بِقَوْلِهِ: {خَلَقَ} جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ ثُمَّ خَصَّ فقال: {خلق الإنسان من علق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دما مسفوحا أو لحم خنزير} فَإِنَّهُ عَطَفَ "اللَّحْمَ" عَلَى "الْمَيْتَةِ" مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ذَكَاةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْقَصْدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى شِدَّةِ التَّحْرِيمِ فِيهِ
تَنْبِيهٌ
ظَاهِرُ كَلَامِ الْكَثِيرِينَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ مَجِيئُهُ فِي "أَوْ" فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه} مَعَ أَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ
مِنْ عَمَلِ السُّوءِ فَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ السُّوءِ حَيْثُ دَسَّاهَا بِالْمَعْصِيَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فَإِنَّ الْوَحْيَ مَخْصُوصٌ بِمَزِيدِ قُبْحٍ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ الْعِقَابِ فِيهِ وَالْإِثْمِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ دَاخِلٌ فِيهِ قِيلَ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ النَّفْسِ وَهُوَ الرِّبَا أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ فَخَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ وَأُرِيدَ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ
الْقِسْمُ السَّادِسُ: ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ
وَهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ وُجُوَدَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ
وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاضِحَةٌ وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْعَامِّ قَبْلَهُ ثَابِتَانِ هُنَا أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ صلاتي ونسكي} وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب}
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم}
وقوله إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات}
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر} بعد قوله: {قل من يرزقكم}
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يَقَعَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَكِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ
الْقِسْمُ السَّابِعُ: عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ
وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِالْوَاوِ وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}
وَيَكْثُرُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استكانوا}
وقوله: {ثم عبس وبسر}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
وقوله: {لا تبقي ولا تذر}
وَقَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
وَقَوْلِهِ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَقِيلَ: الْأَمْتُ أَنْ يَغْلُظَ مَكَانٌ وَيَرِقَّ مَكَانٌ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي "الْمَقَايِيسِ" وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ
وَقَوْلِهِ: {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم}
وقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}
وقوله: {إلا دعاء ونداء}
وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ بِأَنَّ النِّدَاءَ قَدْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ "يَا" أَوْ "أَيَا" وَنَحْوَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ الِاسْمَ وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ الِاسْمُ نَحْوَ: يَا فُلَانُ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا}
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض}
وَقَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فَإِنَّ "نَصَبٌ" مِثْلُ "لَغَبٍ" وَزْنًا وَمَعْنًى وَمَصْدَرًا وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ ربهم ورحمة} عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ وَالْأَحْسَنُ خِلَافُهُ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لِلِاعْتِنَاءِ وَإِظْهَارِ الشَّرَفِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَيْنِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} إِنَّهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَوَّلًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ شَرْطَ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ تَغَايُرُ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ أَيِ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَغَايِرَةِ وَلَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْعَالِمُ فَإِنَّهُ تَكْرَارٌ وَالْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الذين يؤمنون بالغيب} وَالْمَعْطُوفُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليك} وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْغَيْبُ بِعَيْنِهِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْغَيْبِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْبٌ خَاصٌّ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب المنير} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
هو الزبور ونقله على إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّعْتِ كَمَا تُعْطَفُ النُّعُوتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا يَرُدُّهُ تَكْرَارُ الْبَاءِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَكْرَارِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِي العطف الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ وَبَيَانُهُ وَجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {جَاءَتْهُمُ} يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَاخِلًا فِي الْمُرْسَلِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ وقوله تعالى: {ثم أخذت الذين كفروا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَذَّبُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِقِيَامِ الحجة عليهم {بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} وَجَاءَ تَقْدِيمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْعَطْفِ اعْتِرَاضًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَمِثْلُهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تعالى: {فقد كذب رسل من قبلك} وَقَوْلُهُ: {جَاءُوا} انْصِرَافٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَاخِلًا فِي الضَّمِيرِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَأَقَامَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَائِبِ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَرَيْنَ بهم} وَفِيهِ وَجْهٌ مِنَ التَّعَجُّبِ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ إِذَا اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَيْبَةِ لِيَعُمَّ الْإِخْبَارُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْآيَتَيْنِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْكِتَابِ الْمُنِيرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ
فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بعدي اسمه أحمد}
وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا النَّوْعَ وَمَنَعَ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ كَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ بِالْوَاوِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ أُنِيبَتْ " أَوْ " عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} {ومن يكسب خطيئة أو إثما}
قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْخَطِيئَةِ مَا وَقَعَ خَطَأً وَبِالْإِثْمِ مَا وَقَعَ عَمْدًا قُلْتُ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نفسه}
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ"
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ قَدْ سَبَقَهُ بِهِ ثَعْلَبٌ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نذرا} الْعُذْرُ وَالنُّذْرُ وَاحِدٌ
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَبَعْضُهُمْ يُثَقِّلُ
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يُجْرَى فِي الْعَطْفِ بِثُمَّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ: مَعْنَاهُ: "وَتُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الِاسْتِغْفَارُ" وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ وجعل منه قوله تعالى: {وغرابيب سود} والغرابيب هي السود {سبلا فجاجا} {الرحمن الرحيم} وَغَيْرُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: مِمَّا يَدْفَعُ وَهْمَ التَّكْرَارِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ
الْقِسْمُ الثَّامِنِ: الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ
لِيُرَى الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ أَوْ لِيَكُونَ بَيَانُهُ بَعْدَ التَّشَوُّفِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلَذُّ لِلنَّفْسِ وَأَشْرَفُ عِنْدَهَا وَأَقْوَى لِحِفْظِهَا وَذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مقطوع مصبحين}
وقوله تعالى {قل هو الله أحد} فَإِنَّ وَضْعَ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ مَعْنَاهُ الْبَيَانُ أَوِ الْحَدِيثُ أَوِ الْأَمْرُ لِلَّهِ أَحَدٌ مَكْفُوًّا بها ثم فسر وكان أو قع فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ مُفَسَّرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ وَتُفِيدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادَ تَعْظِيمًا لَهُ
وَسَيَأْتِي عَكْسُهُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ
وَمِثْلُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}
وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة} وَأَعَادَ قَوْلَهُ: {أَرْبَعِينَ} وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الثلاثين والعشر أَنَّهَا أَرْبَعُونَ لِنَفْيِ اللَّبْسِ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَمَّا أَتَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُوَاعَدَةِ دَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُوَاعَدَةِ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَرْبَعِينِ نَفْيًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَدَدِ لِلْمُوَاعَدَةِ
وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} أَعَادَ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ تَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِبَاحَةِ وَقَوْلُهُ: {كَامِلَةٌ} تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ وَتَأْكِيدٌ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَ زَمَنُ الْمُوَاعَدَةِ أَرْبَعِينَ فَلِمَ كَانَتْ ثَلَاثِينَ ثُمَّ عشرا؟
أَجَابَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ" بِأَنَّ الْعَشْرَ إِنَّمَا فُصِلَ مِنْ أُولَئِكَ لِيَتَحَدَّدَ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعَدَةِ وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ حَاضِرَ الذِّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا لَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا جَعَلَ الْعَشْرَ فِيهَا إِتْمَامًا لَهَا اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ
قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّلَوُّمِ الَّذِي جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُفْصِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِ الْأَجَلِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ هَذَا
فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَعْنِي الْأَعْرَافَ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ الْعَشْرَ وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} وَلَمْ يَفْصِلِ الْعَشْرَ مِنْهَا
وَالْجَوَابُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْأَعْرَافِ ذِكْرَ صِفَةِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فَذَكَرَ عَلَى صِفَتِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مُجْمَلَةً فَقَالَ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وإذ أنجيناكم من آل فرعون}
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ جَوَابَانِ فِي ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ إِمَّا الْإِجْمَالُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ وَإِمَّا رَفْعُ الِالْتِبَاسِ وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ:
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا أَكْثَرَ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي الْحَجِّ وَيُكْمِلُ سَبْعًا إِذَا رَجَعَ
رَابِعُهَا: أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ أَنْ يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ وَيَكْسُوَهُمْ وَلَا الْمَظَاهِرَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَحِلُّ هَذَيْنِ الصَّوْمَيْنِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ صَارَا بِاخْتِلَافِ الْمَحِلَّيْنِ كَالْجِنْسَيْنِ وَالْجِنْسَانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ -وَهِيَ قَوْلُهُ: {تلك عشرة كاملة} -رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وَإِمَّا السَّبْعُ
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ كَمَالٍ لَا ذِكْرُ الْعَشَرَةِ فَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَشَرَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وإنما ذكر لتوصف بالكامل الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِصَّةِ
السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ أَلْجَأَنَا إِلَيْهِ
السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً كَكَفَّارَاتِ الْجِنَايَاتِ وَلَمَّا فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَ صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْطَارِ قَبْلَ صَوْمِهَا بِذِكْرِ الْفِدْيَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهِيَ كَالْمُتَّصَلَةِ
فَإِنْ قُلْتَ: فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَا يَجِبُ عَلَى
الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ
قُلْتُ: هِيَ فِي حُكْمِ الْمُتَتَابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَفَّفَ بِالتَّفْرِيقِ
ثَامِنُهَا: أَنَّ السَّبْعَ قَدْ تُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا الْعَدَدُ وَالَّذِي فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ الثَّمَانِيَةِ وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ أَيْ أَكْثَرَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ التَّضْعِيفَ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنَ السَّبْعِ وَلَفْظُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِآلَةِ الْجَمْعِ فَيُفْضِي إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ رَفْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ الْفَذْلَكَةِ وَلِلْعَرَبِ مُسْتَنَدٌ قَوِيٌّ فِي إِطْلَاقِ السَّبْعِ وَالسَّبْعَةِ وَهِيَ تُرِيدُ الْكَثْرَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ تَاسِعُهَا: أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْدَادِ فَقُيِّدَ بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَمُلَ وَقَطَعَ الزِّيَادَةَ الْمُفْضِيَةَ لِلتَّسَلْسُلِ
عَاشِرُهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أربعة أيام} أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خَلَقَ الْأَرْضَ
فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَنْدَفِعَ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَجَاءَ التَّقْيِيدُ بِالْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ التَّدَاخُلِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احْتِمَالَ التَّدَاخُلِ لَا يُظَنُّ إِلَّا بِعَدَدَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا جُمْلَةً فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَالتَّقْيِيدُ مَانِعٌ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ
وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ فَإِنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ رافع لذلك الاحتمال
الحادي عش: ر أَنَّ حُرُوفَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ مُشْتَبِهَةٌ فَأُزِيلَ الْإِشْكَالُ بقوله: {تلك عشرة كاملة} لِئَلَّا يَقْرَءُوهَا تِسْعَةً فَيَصِيرُ الْعَدَدُ اثْنَيْ عَشَرَ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا واحدا"
فائدة في التأكيد بمائة إلا واحدا
التأكيد بمائة إِلَّا وَاحِدًا لِإِزَالَةِ إِلْبَاسِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ بِالسَّبْعَةِ وَالسَّبْعِينَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْمُونٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهُ
الْقِسْمُ التَّاسِعُ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ
لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْبَيَانِيِّينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَقْسَامِ الْإِطْنَابِ
وَمِنْهُ بَيْتُ الْكِتَابِ:
إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلَلَاتِهَا
سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أظهرا
وَلَوْ أَتَى عَلَى وَجْهِهِ لَقَالَ: "إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّهَا"
وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَتِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ كَالْبَيْتِ سَهُلَ الْأَمْرُ لَكِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ فِيهِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الرَّافِعَ لِلْوَحْشِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ كَمَا يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ سَادٌّ مَسَدَّ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ قُدِّرَ رَفْعُ الْوَحْشِ بِالِابْتِدَاءِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ
وَيَسْهُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْكَرِيهَةَ أَوْشَكَتْ
حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تَقَطَّعَا
فَاخْتِلَافُ لَفْظَيْنِ ظَاهِرَيْنِ أَشْبَهَا لَفْظَيِ الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ فِي اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبي} ثم قال: {والذين يؤذون رسول الله} وَلَمْ يَقُلْ: يُؤْذُونَهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْظِيمِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "نَبِيُّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} الْآيَةَ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يُضْمَرْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ مُرْتَبِطَةً بِبَعْضِهَا ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان}
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ الشَّيْطَانُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى تَفْسِيرِهِ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ حَسُنَ الْإِظْهَارُ وَالْإِضْمَارُ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ رَجُلٌ فَاضِلٌ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ
وَقَوْلِهِ: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته}
وَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَبُحَ الْإِظْهَارُ وَلَمْ يَكَدْ يُوجَدُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
قَالَ: وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالِاسْمِ الثَّانِي حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الْإِظْهَارَ كَقَوْلِهِ: تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ. مَا الحاقة} و {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} وَالْإِضْمَارُ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وما أدراك ما هيه}
الخروج على خلاف الأصل وأسبابه
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً وَأَصْلُ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ كَذَلِكَ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ ثَانِيًا أَنْ يُذْكَرَ مُضْمَرًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ السَّابِقِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِعْرَابُ وَفِي الْأَفْعَالِ الْبِنَاءُ وَإِذَا جَرَى الْمُضَارِعُ مَجْرَى الِاسْمِ أُعْرِبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنه لا يحب الظالمين}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كان توابا}
وَلِلْخُرُوجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَسْبَابٌ:
أَحَدُهَا: قَصْدُ التَّعْظِيمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حزب الله هم المفلحون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تعملون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا} فَأَعَادَ ذِكْرَ الرَّبِّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ ولهضم للخضم
وقوله تعالى: {الله أحد. الله الصمد}
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالعباد}
{هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وما كان عطاء ربك محظورا}
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سعيرا}
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقوله تعالى: {الحاقة. ما الحاقة} {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} كَانَ الْقِيَاسُ ـ لَوْلَا مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ ـ " الْحَاقَّةُ مَا هِيَ "
وَمِثْلُهُ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أصحاب المشأمة} تَفْخِيمًا لِمَا يَنَالُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وأليم العقاب
الثاني: قصد الإهانة والتحقير
كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يتبع خطوات الشيطان}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حزب الشيطان}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كان للإنسان عدوا مبينا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصد عن السبيل وما كيد فرعون}
وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا لِلنَّوَى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي النَّوَى
وَعَهْدُ النَّوَى عِنْدَ الْفِرَاقِ ذَمِيمُ
وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ مَنْ يُنْشِدُ:
فَمَا لِلنَّوَى جَدَّ النَّوَى قَطَعَ النَّوَى
كَذَاكَ النَّوَى قَطَّاعَةٌ لِلْقَرَائِنِ
فَقَالَ: لَوْ قُيِّضَ لِهَذَا الْبَيْتِ شَاةٌ لَأَتَتْ عَلَيْهِ
الثَّالِثُ: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أنزلناه وبالحق نزل} إِنْ كَانَ الْحَقُّ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ
وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حيث نشاء} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْهَا" وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْجَنَّةَ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
كَرِّرْ عَلَى السَّمْعِ مِنِّي أَيُّهَا الْحَادِي
ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْأَطْلَالِ وَالنَّادِي
وَقَوْلُهُ:
يَا مُطْرِبِي بِحَدِيثِ مَنْ سَكَنَ الْغَضَى
هجت الهوى وقدحت في حراق
إن كررت حَدِيثَكَ يَا مُهَيِّجَ لَوْعَتِي
إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الحبيب تلاق
الرَّابِعُ: زِيَادَةُ التَّقْدِيرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نزل}
وقوله: {الله الصمد} بعد قوله: {الله أحد} وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّقْدِيرِ سَبَبُ نُزُولِهَا وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تدعوننا إليه فنزل: {الله أحد} مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي سَأَلْتُمُونِي وَصْفَهُ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ تَقْدِيرُ كَوْنِهِ اللَّهَ أُعِيدَ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يشكرون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما هو من عند الله}
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هو من الكتاب}
الْخَامِسُ: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمِيرُ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تشاء} لَوْ قَالَ: "تُؤْتِيهِ" لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السوء عليهم دائرة السوء} كرر السوء
لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لَالْتَبَسَ بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَنَظِيرُهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} وَتَبْيِينُهُ: الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الْوُجُودُ فِي الْجَنِينِ أَوِ الطِّفْلِ وَالثَّالِثُ الَّذِي بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَهُوَ أَرْذَلُ الْعُمُرِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ التَّحَرُّكَ وَالِاهْتِدَاءَ لِلثَّدْيِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ويؤيد الغيرية التنكير
ونحوه قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مشهودا} الْآيَةَ لَوْ قَالَ: "إِنَّهُ" لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفَجْرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نفس تجادل عن نفسها} فَلَمْ يَقُلْ: "عَنْهَا" لِئَلَّا يَتَّحِدَ الضَّمِيرَانِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا مَعَ أَنَّ الْمُظْهَرَ السَّابِقَ لَفْظُ النَّفْسِ فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ ضَرَبَ زَيْدٌ نَفْسَهُ
وَكَقَوْلِهِ تعالى: {ثم استخرجها من وعاء أخيه} وَإِنَّمَا حَسُنَ إِظْهَارُ الْوِعَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فَاسْتَخْرَجَهَا مِنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الْأَخِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَخَ مُبَاشِرٌ لَطَلَبِ خُرُوجِ الْوِعَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا فِي الْمُبَاشِرِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هذا
الله تبارك وتعالى الرب عز وجل وَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَرِ الْأَخُ فَيُقَالُ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَائِهِ لِأَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي {اسْتَخْرَجَهَا} لِيُوسُفَ عليه السلام فَلَوْ قَالَ مِنْ وِعَائِهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يُوسُفُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مذكور فأظهر لذلك
والثاني أن لأخ مَذْكُورٌ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ الْإِخْبَارِيَّةِ فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ مَا وَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَظْهَرَهُ أَيْضًا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال}
السَّادِسُ
أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ تَرْبِيَةَ الْمَهَابَةِ وَإِدْخَالَ الرَّوْعَةِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْخَلِيفَةُ لِمَنْ يَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا مَكَانَ أَنَا آمُرُكَ بِكَذَا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}
وَقَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
وَقَوْلُهُ {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وَلَمْ يَقُلْ لِخَزَنَتِهَا
السَّابِعُ: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} وَلَمْ يَقُلْ "عَلَيَّ" وَحِينَ قَالَ {عَلَى اللَّهِ} لَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ يُحِبُّ" أَوْ "إِنِّي أُحِبُّ" تَقْوِيَةً لِدَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ بِالتَّوَكُّلِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم}
الثَّامِنُ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}
وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانِ} وَلَمْ يَقُلْ: "خَلَقْنَاهُ" لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ
وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وكانت الجبال كثيبا مهيلا} فَإِنَّمَا أُعِيدَ لَفْظُ {الْجِبَالِ} وَالْقِيَاسُ الْإِضْمَارُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي "الم السَّجْدَةِ" فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ سِيقَتَا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ فَإِعَادَةُ الظَّاهِرِ أَبْلَغُ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ {الْجِبَالَ} لَاحْتُمِلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَرْضِ
التَّاسِعُ: أَنْ يُقْصَدَ التَّوَصُّلُ بِالظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْفِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يؤمن بالله وكلماته} بَعْدَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {إِنِّي رَسُولُ الله إليكم جميعا} {فآمنوا بالله ورسوله} دُونَ "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَبِي" لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَبِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنَا أَوْ غَيْرِي إِظْهَارًا لِلنَّصَفَةِ وَبُعْدًا مِنَ التَّعَصُّبِ لِنَفْسِهِ
الْعَاشِرُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قولا غير الذي قيل لهم}
وقوله: {فإن الله عدو للكافرين} أَعْلَمَنَا أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِهَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ هَذَا إِنْ خِيفَ الْإِلْبَاسُ لِعَوْدِهِ لِلْمَذْكُورِينَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ} دُونَ " فَإِنَّهُ "
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا من السماء} وَلَمْ يَقُلْ: "عَلَيْهِمْ" لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِنْ ذِكْرِ الظُّلْمِ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْعَذَابُ
وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}
وقوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين} والأصل "عليهم" لدلالة عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ لَحِقَتْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فَإِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَقَدَّمْتُ فِي الشَّرْطِ وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةٍ أُخْرَى زَائِدَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول} لِأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يفلح الظالمون} وَالْقِيَاسُ "أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ" وَلَوْ ذَكَرَ الظَّاهِرَ لَقَالَ: "لَا يُفْلِحُ الْمُفْتَرُونَ" أَوِ "الْكَاذِبُونَ" لَكِنْ صَرَّحَ بِالظُّلْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْفَلَاحِ الظُّلْمُ
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} وَلَمْ يَقُلْ: "أَجْرَهُمْ" تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صَلَاحَهُمْ عِلَّةٌ لِنَجَاتِهِمْ
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لربك وانحر} وَلَمْ يَقُلْ: "لَنَا" لِيُنَبِّهَ
عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنْ يُصَلِّيَ لَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ وَرَبَّاهُ بِنِعْمَتِهِ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ عَدُوًّا لَهُمْ فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ أَشْرَفُ وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ العقاب المهين
وَقَدْ أَدْمَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَذْهَبَهُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى النَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَهُوَ كَمَا قِيلَ:
وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِنَّ ذَا الْهَوَى
إِلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ الرِّجْلُ
وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُطِيعٍ:
أُمِّي الضَّرِيحَ الَّذِي أُسَمِّي
ثُمَّ اسْتَهِلُّ عَلَى الضَّرِيحِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ "عَلَيْهِ" لِأَنَّهُ بَاكٍ بِذِكْرِ الضَّرِيحِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِ وَيَحْزَنَ لِذِكْرَاهُ
الْحَادِي عَشَرَ: قَصْدُ الْعُمُومِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قرية استطعما أهلها} وَلَمْ يَقُلْ: "اسْتَطْعَمَهُمْ" لِلْإِشْعَارِ بِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا اسْتَطْعَمَاهُ وَأَبَى وَمَعَ ذَلِكَ قَابَلَهُمْ
بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسوء} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: "إِنَّهَا لَأَمَّارَةٌ" لَاقْتَضَى تَخْصِيصَ ذَلِكَ فَأَتَى بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْمِيمُ مَعَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بعده: {إلا ما رحم ربي وقوله: {إن ربي غفور رحيم} وَلَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ" إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ وَإِمَّا لِلِاسْتِلْذَاذِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رحمة فرح بها} ثم قال: {فإن الإنسان كفور} وَلَمْ يَقُلْ " فَإِنَّهُ" مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسِ شَأْنُهُ كُفْرَانُ النِّعَمِ
الثَّانِي عَشَرَ: قَصْدُ الْخُصُوصِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَلَمْ يَقُلْ: "لَكَ" لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَأُخِذَ جَوَازُهُ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وبنات عمك} فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ
الثَّالِثَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ
وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ برب الناس} السورة ذكره الشيخ عز الدين ابن عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ
كَقَوْلِهِ: {أَتَيَا أهل قرية استطعما أهلها}
الْخَامِسَ عَشَرَ: كَوْنُهُ أَهَمَّ مِنَ الضَّمِيرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُعِيدَ {إِحْدَاهُمَا} لِتَعَادُلِ الْكَلِمِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي التَّرْصِيعِ الْبَدِيعِيِّ بَلْ هَذَا أَبْلَغُ مِنَ التَّرْصِيعِ فَإِنَّ التَّرْصِيعَ تَوَازُنُ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ صِيَغِهَا وَهَذَا مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبِهَا فَكَأَنَّهُ تَرْصِيعٌ مَعْنَوِيٌّ وَقَلَّمَا يُوجَدُ إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْكَلَامِ وَقَدِ اسْتَغْرَبَ أَبُو الْفَتْحِ مَا حُكِيَ عَنِ المتنبي في قوله:
وقد جادت الأجفان قرحى من البكا
وعادت بَهَارًا فِي الْخُدُودِ الشَّقَائِقُ
قَالَ: سَأَلْتُهُ: هَلْ هُوَ "قَرْحَى" أَوْ "قَرْحًا مُنَوَّنٌ؟ فَقَالَ لِي: قَرْحًا مُنَوَّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهَا "وَعَادَتْ بَهَارًا" قَالَ: يَعْنِي أَنَّ بهارا جمع بهار وقرحى جَمْعُ قُرْحَةٍ ثُمَّ أَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُتَنَبِّي وَاسْتَغْرَبَ فِطْنَتَهُ لِأَجْلِ هَذَا وَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِقِسْمَيْنِ قِسْمُ الضَّلَالِ وَقِسْمُ التَّذْكِيرِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى ظَاهِرٍ حَيْثُ أَسْنَدَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يُوصَلْ بِضَمِيرٍ مَفْصُولٍ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ لَازِمًا فَأَتَى بِالثَّانِي عَلَى صُورَتِهِ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنِ الْمَفْعُولِ ثُمَّ أَتَى بِهِ خَبَرًا بَعْدَ اعْتِدَالِ الْكَلَامِ وَحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي تَرْكِيبِهِ
وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ حَرْفٌ لَكَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ الْأَخِيرُ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ ضَلَالٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ تَذْكِيرٌ مِنَ الْأُخْرَى وَقَدَّمَ عَلَى "الْأُخْرَى" لَفْظَ "إِحْدَاهُمَا" لِيُسْنِدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى مِثْلِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
السَّادِسَ عَشَرَ: كَوْنُ مَا يَصْلُحُ لِلْعَوْدِ وَلَمْ يُسَقِ الْكَلَامُ لَهُ
كَقَوْلِهِ: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعلم} وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَبْكِي عَلَى زَيْدٍ وَلَا زَيْدَ مثله
برئ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الْجَوَانِحِ
السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حُكْمِ الْأُولَى
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} فِي سُورَةِ الشُّورَى فَإِنْ {يَمْحُ} اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَلَى الْجَوَابِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وَلَيْسَ صَحِيحًا فِي {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لِأَنَّ مَحْوَ الْبَاطِلِ ثَابِتٌ فَلِذَلِكَ أُعِيدَ الظَّاهِرُ وَأَمَّا حَذْفُ الْوَاوِ مِنَ الْخَطِّ فَلِلَّفْظِ وَأَمَّا حذفها في الوقف كقوله تعالى: {يدع الداع} و {سندع الزبانية} فَلِلْوَقْفِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُقُوفُ يَعْقُوبَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ
وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبَزْدَوِيِّ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ وَهَذَا أَنَّا لا نسلم أن المعلق ها هنا بِالشَّرْطِ هُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا الْمَشِيئَةُ وَلَيْسَ الْمَحْوُ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ هُنَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ مَشِيئَةُ الْخَتْمِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْقُوَّةِ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهدى} {ولو شاء الله ما أشركوا} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} المعنى: "ولو شاء الله جمعهم لجمعهم""ولو شاء الله عدم إيمانهم ما أشركوا""ولو شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ قِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا"
قِيلَ: لَا يَكَادُ يَثْبُتُ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ إِلَّا نَادِرًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَذْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مَا ادَّعَيْنَاهُ فَإِنَّ مَحْوَ اللَّهِ ثَابِتٌ قَبْلَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْخَتْمَ
فَإِنْ قُلْتَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ لَكِنَّهَا إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِقَرِينَةِ الْجَوَابِ
وَالْجَوَابُ هُنَا شَيْئَانِ فَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأِ اللَّهُ الْخَتْمَ وَمَحْوَ الْبَاطِلِ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ الْبَاطِلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ مَا ادَّعَاهُ
وَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثابت وغير ممتنع ويمحو الْبَاطِلَ كَانَ ثَابِتًا فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهَذَا أَحْسَنُ جِدًّا
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ كُلًّا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ بَلْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ وَالْمَجْمُوعُ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا
الْأَوَّلُ
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ لِيَشْمَلَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ من أحسن عملا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يشاء} لِأَنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ هُنَا سَبَبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ " اللَّهِ " لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ
وَمِثْلُهُ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نشاء} كما سبق
وَمِنْ فَوَائِدِهِ: التَّلَذُّذُ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمُ الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ
وَمِنْ فَوَائِدِهِ: قَصْدُ الذَّمِّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويقول الكافر} فَقَالَ: الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الفاسقين} إِنَّ "الْفَاسِقِينَ" يُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَيَكُونُ قَدْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالتَّصْرِيحُ بِصِفَةِ الْفِسْقِ سَبَبٌ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ لِكُلِّ فَاسِقٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَكَذَا سَائِرُ هَذِهِ النَّظَائِرِ
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الباب قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين} أَيْ: فِي مُعَامَلَةِ الْأَبَوَيْنِ {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غفورا}
وقوله تعالى: {من كان عدوا لجبريل} إلى قوله: {فإن الله عدو للكافرين}
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ شَرْطٌ فَإِنَّ الشُّرُوطَ أَسْبَابٌ وَلَا يَكُونُ الْإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ اللَّهِ لِكُلِّ تَائِبٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُثَابَ غَيْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَكَذَلِكَ مُعَادَاةُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُعَادَاةِ كُلِّ كَافِرٍ فَتَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لَيْسَ إِلَّا
الثَّانِي
قَدْ مَرَّ أَنَّ سُؤَالَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الواحدة نحو: {الحاقة. ما الْحَاقَّةِ} فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ فِي جُمْلَتَيْنِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فَحَسُنَ فِيهِمَا مَا مالا يَحْسُنُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَتَكْرَارُ الْمَوْتِ فِي عَجُزِ الْبَيْتِ أَوْسَعُ مِنْ تَكْرَارِهِ فِي صَدْرِهِ لِأَنَّا إِذَا عَلَّلْنَا هَذَا إِنَّمَا نَقُولُ أَعَادَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لَمَّا أَرَادَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتِ وَتَهْوِيلِ أَمْرِهِ فَإِذَا عَلَّلَهَا مُكَرَّرَةً فِي عَجُزِهِ عَلَّلْنَاهُ بِهَذَا وَبِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَمِثَالُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} وَقَوْلِهِ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أهلها كانوا ظالمين}
وَقَدْ أُشْكِلَ الْإِظْهَارُ هَاهُنَا وَالْإِضْمَارُ فِي الْمِثْلِ قوله: {إلى فرعون وملإه إنهم كانوا قوما فاسقين} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ إِهْلَاكَ الْقُرَى صَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَلَاكُ كَأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظُّلْمَ مَعَهُمْ وَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ مَعَهُمْ إِذْ لِلْبِقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِهْلَاكُهُمْ بِصِفَاتِهِمْ حَيْثُ كَانُوا وَلَمْ يُهْلِكْ بَلَدَهُمْ أَتَى بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمَكَانِ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى طَالَ الْكَلَامُ حَسُنَ إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ كَيْلَا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ كَمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أعلم أم الله ومن أظلم} الْآيَةَ
وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إن الله بالناس}
وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال للناس}
وقوله: {رجال لا تلهيهم تجارة}
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ
تَجِيءُ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ بِصِيَغٍ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ
كَفَعَّالٍ وَفَعِيلٍ وَفَعْلَانٍ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ أَصْلَهُ وُضِعَ لِذَلِكَ فَإِنَّ ضَرُوبًا نَابَ عَنْ قَوْلِكَ ضارب وضارب وضارب ما جاء على فعلان
أَمَّا فَعْلَانُ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فَعِيلٍ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ الرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ فَعْلَانِ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ كَغَضْبَانَ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا وَلِهَذَا لا يحوز التَّسْمِيَةُ بِهِ وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ فِي تَأْلِيفِهِ الْمُفْرَدِ على البسملة
وأما قول الشاعر الْيَمَامَةِ:
* وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا *
فَهُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ كَذَا أَجَابَ بِهِ الزمخشري
ورده بعضهم بأن النعت لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ إِطْلَاقِهِمْ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الرَّحْمَنَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ مُضَافًا وَمُنَكَّرًا وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ
وَأَجَابَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ " لَا زِلْتَ ذَا رَحْمَةٍ " وَلَمْ يرد بالاسم الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ هَذَا الِاسْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فله الأسماء الحسنى} وأما قوله: {وما الرحمن} فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جَهِلُوا الصِّفَةَ دُونَ الْمَوْصُوفِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا "وَمَنِ الرَّحْمَنُ"
وَذَكَرَ الْبُرْزَابَاذَانِيُّ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَنِ حَيْثُ جَعَلُوهُ بِمَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ
قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الملك العظيم العادل لدليل: {الملك يومئذ الحق للرحمن} إِذِ الْمُلْكُ يَسْتَدْعِي الْعَظَمَةَ وَالْقُدْرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِخَلْقِهِ لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} وَإِنَّمَا يَصْلُحُ السُّجُودُ لِمَنْ لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ و {إني أعوذ بالرحمن} وَلَا يُعَاذُ إِلَّا بِالْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحِفْظِ والذب
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} أَيْ: وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْمُسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الْوَالِدِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
{الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {وخشعت الأصوات للرحمن}
{قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن} وَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى حَافِظٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ ذِي الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ
{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}
وَلَا مُنَاسَبَةَ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا "رَحِيمٌ" فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ كَقَوْلِهِمْ: "كَرِيمٌ" وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّحْمَنَ أَبْلَغُ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَحَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ عن الأكثرين
وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِمُ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ التَّنْبِيهِ وَالتَّنْبِيهُ تَضْعِيفٌ وَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ
وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّوْكِيدِ
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ قَالَ وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ زعم أن رحيما أبلغ من رحمن يجيد إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ وَلَوْ قِيلَ فَعْلَانٌ أَشَدُّ مُبَالَغَةً كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا خُصَّ بِاللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ وَأَرَادَ بِهِ مَنْعَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَّسِمُوا بِهِ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا التَّوْكِيدُ وَإِتْبَاعُ الْأَوَّلِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ
وَعَنِ الْخَطَّابِيِّ اسْتِشْكَالُ هَذَا وَقَالَ لَعَلَّهُ أَرْفَقُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ"
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الزَّاهِرِ: الرَّحِيمُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ
وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الرَّحْمَنَ جَاءَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّحِيمِ وَلَوْ كَانَ أَبْلَغُ لَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَقُولُونَ فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ فَلَمْ يَكُنْ لذكره معنى
وهذا قدر ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرْدَافِ وَأَنَّهُ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مارق منها ولطف
وفيه ضعف لاسيما إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ لَا صِفَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّحْمَنُ كَالْعَلَمِ إِذْ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ قُدِّمَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَعْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِفِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يُتْبَعَ الْأَنْكَرَ وَمَا كَانَ التَّعْرِيفِ أَنْقَصُ
قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَجَاءَ هَذَا عَلَى مِنْهَاجِ كَلَامِ الْعَرَبِ
وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ لِلْخَلْقِ وَالرَّحِيمَ لهم بالرزق والخلق قبل الزرق
وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي حَقِّهِ وَالنِّهَايَةُ فِي صِفَاتِهِ وَأَكْثَرُ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى فَعِيلٍ كَرَحِيمٍ وَقَدِيرٍ وَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَكَرِيمٍ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى فَعْلَانٍ إِلَّا قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ فَعْلَانٌ أَبْلَغَ لَكَانَ صِفَاتُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ
قُلْتُ: وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ وُرُودَ فَعْلَانٍ بِصِيغَةِ التَّكْثِيرِ كَانَ فِي عَدَمِ تَكْرَارِ الْوَصْفِ بِهِ بِخِلَافِ فَعِيلٍ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِقَّ فِي الْكَثْرَةِ رِقَّتَهُ كَثُرَ فِي مَجِيءِ الْوَصْفِ
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَعْلَانٍ مِنْ جهة موافقة لفظ التَّثْنِيَةِ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ فَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ كَعَبِيدٍ وَكَلِيبٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَكْثَرُ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَهَذَا أَحْسَنُهَا
قَالَ: وَقَوْلُ قُطْرُبٍ إِنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَيَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وهو ممتنع
تنبيهات
الْأَوَّلُ
نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الرَّشِيدِيِّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كَغَفَّارٍ وَرَحِيمٍ وَغَفُورٍ وَمَنَّانٍ كُلُّهَا مَجَازٌ إِذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ هِيَ أَنْ تُثْبِتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ وَصِفَاتُ اللَّهِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا وَالْمُبَالَغَةُ أَيْضًا تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى
وَذُكِرَ هَذَا لِلشَّيْخِ ابْنِ الْحَسَنِ السُّبْكِيِّ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا صِفَاتٌ
فَإِنْ قُلْنَا: أَعْلَامٌ زَالَ ذَلِكَ
قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ
وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جماعة متعددين
وعلى هذا التقسيم يحب تَنْزِيلُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَالرَّحْمَنِ وَالْغَفُورِ وَالتَّوَّابِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَبْقَى إِشْكَالٌ حِينَئِذٍ لِهَذَا قَالَ بَعْضُ المفسرين في حكم مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حِكَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ
يتوب إليه من عباده أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ نَزَّلَ صَاحِبَهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسِعَةِ كَرَمِهِ
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَهُوَ أَنَّ قَدِيرًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ مُحَالٌ إِذْ الِاتِّحَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ حملها على كُلُّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا وَالْمُبَالَغَةُ إِذَنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ التَّعَلُّقِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْوَصْفِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} يَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى نَفْسِ الْوَصْفِ إِذِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِيهِ فَيَجِبُ صَرْفُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ إِمَّا لِعُمُومِ كُلِّ أَفْرَادِهِ وَإِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الشَّيْءَ وَلَوَاحِقَهُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ
الثَّانِي
سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَلْ تَدْخُلُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: عَلَّامَةٌ؟ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْإِنَاثَ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ
حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ
الثَّالِثُ
أَنَّهُ لَوْ جُرِّدَ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لَمْ يُصْرَفْ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي آخِرِهِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ
وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَعْلَانٌ صِفَةً مِنَ الصَّرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُؤَنَّثُهُ فَعَلَى كَغَضْبَانَ وَغَضْبَى وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَنَّثُهُ فَعْلَى يَنْصَرِفُ كَنَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ رَحْمَنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى فَعْلَى فَلَيْسَ لَهُ مؤنث فَعْلَانَةٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا مؤنث له من لفظه ف إذا عُدِمَ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ أَلِفٍ وَنُونٍ زَائِدَتَانِ فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْبِهْ غَضْبَانَ وَلَمْ يُشْبِهْ نَدْمَانَ مِنْ جِهَةِ التَّأْنِيثِ فَلِمَاذَا تُرِكَ صَرْفُهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَغَضْبَانَ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَنَدْمَانَ فَلَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا لِأَنَّ الصَّرْفَ لَيْسَ بِالشَّبَهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَصْلِ وَعَدَمُ الصَّرْفُ بِالشَّبَهِ وَلَمْ يُوجَدْ
قُلْتُ: وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَدْفَعُ هَذَا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ نَعَمْ أَنْكَرَ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ تَمْثِيلَهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَقَالَ لَمْ يُمَثِّلْ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِهِ فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ بِالْغَلَبَةِ لله مُخْتَصٌّ بِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُجَرَّدْ مِنْ " الْ " وَلَمْ يُسْمَعْ مُجَرَّدًا إِلَّا فِي النِّدَاءِ قَلِيلًا مِثْلُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الآخرة
قال وقد أنكر على الشاطبي
*تَبَارَكَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَمَوْئِلًا*
لِأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ
وَلَمْ يَحْضُرِ الزَّمَخْشَرِيَّ هَذَا الْجَوَابُ فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ كَمَا سبق
ما جاء على فعيل
وَأَمَّا "فَعِيلٌ" فَعِنْدَ النُّحَاةِ أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ كَرَحِيمٍ وَسَمِيعٍ وَقَدِيرٍ وَخَبِيرٍ وَحَفِيظٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَعَلِيمٍ فَإِنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنْ "فَاعِلٍ" بِالنِّسْبَةِ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِلْفَاعِلِ لَا لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ وَالْقَتْلُ لَا يَتَفَاوَتُ
وَقَدْ يَجِيءُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} وقوله: {خلصوا نجيا} وَغَيْرُ ذَلِكَ
وَمِنَ الْمُشْكَلِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نسيا} فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ أَصْلِ النِّسْيَانِ وَهُوَ كَالسُّؤَالِ الْآتِي فِي {ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَيَخْتَصُّ هَذَا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله
ما جاء على فعال
وَأَمَّا "فَعَّالٌ" فَنَحْوَ غَفَّارٍ وَمَنَّانٍ وَتَوَّابٍ وَوَهَّابٍ {فعال لما يريد} {علام الغيوب} ونحو: {لكل صبار شكور} ونحو: {نزاعة للشوى}
وَمِنَ الْمُشْكَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيد} وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ وَالْوَاقِعُ نَفْيُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الناس شيئا} {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا:
أحدهما: أَنَّ "ظَلَّامًا" وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَكِنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابِلِهِ الْعَبِيدُ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ إِذَا قُوبِلَ بِهِمُ الظُّلْمُ كَانَ كَثِيرًا
وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ في موضع آخر: {علا م الغيوب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَعَّالٍ" بِالْجَمْعِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: {عالم الغيب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَاعِلٍ" الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله ولا الملائكة المقربون} حَيْثُ احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ على الأنبياء
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَابَلَ عِيسَى بِمُفْرَدِهِ بِمَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي تَفْضِيلِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ
الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ فَيَنْتَفِي الْقَلِيلُ ضرورة لأن الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ فَإِذَا تَرَكَ الظُّلْمَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ ظُلْمِهِ فِي حق من يجوز عليه النفع كَانَ الظُّلْمُ الْقَلِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَكْثَرَ
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النَّسَبِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَيْ: "ذَا ظُلْمٍ" كَقَوْلِهِ: "وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ" أَيْ: بِذِي نُبْلٍ أَيْ: لَا يُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ بَزَّازٍ وَعَطَّارٍ
الرَّابِعُ: أَنَّ فَعَّالًا قَدْ جاء غير مراد به الكثرة كقوله طَرَفَةَ:
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ
لَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَحُلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: "يَسْتَرْفِدِ القوم أرفد" هذا يدل عَلَى نَفْيِ الْحَالِ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ تمام المدح لا يحصل بِإِيرَادِ الْكَثْرَةِ
الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَقَدْ جَلَّ عَنْهُ لَكَانَ كَثِيرًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ
ذَكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي الدُّرَّةِ قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَوْلِهِ:
كَفُوفَةِ الظُّفْرِ تَخْفَى مِنْ حَقَارَتِهَا
وَمِثْلَهَا فِي سَوَادِ الْعَيْنِ مَشْهُورُ
السَّادِسُ: أَنَّ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ يَصْدُقُ بِنَفْيِ وَاحِدٍ وَيَصْدُقُ بِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُعَيَّنُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يظلم مثقال ذرة}
السَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهِ ذَلِكَ {وَمَا ربك بظلام}
الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ ظَلَّامٌ وَالتِّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ كَمَا إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ
التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: "بِظَلَّامٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَنْ يُعَذِّبُ غَيْرَهُ عَذَابًا شَدِيدًا ظَلَّامٌ قَبْلَ الْفَحْصِ عَنْ جُرْمِ الذَّنْبِ
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا وَغَيْرُ الْمُبَالَغَةِ سَوَاءً فِي الْإِثْبَاتِ جَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ ثَمَّةَ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ
وَأَمَّا "فُعَالٌ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ عُجَابٌ وَكُبَارٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال: {ومكروا مكرا كبارا} قَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي "اللَّامِعِ الْعَزِيزِيِّ": "فَعِيلٌ" إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ نُقِلَ بِهِ إِلَى "فُعَالٍ" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّالٌ" ذَلِكَ مِنْ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
{إن هذا لشيء عجاب} بِالتَّشْدِيدِ وَقَالُوا طَوِيلٌ وَطُوَّالٌ وَيُقَالُ نَسَبٌ قَرِيبٌ وَقُرَابٌ وَهُوَ أَبْلَغُ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ:
وَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ بَنِي لُؤَيٍّ
عَرَفْتُ الْوُدَّ والنسب القرابا
ما جاء على فعول
وَأَمَّا "فَعُولٌ" كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شكورا}
وَقَدْ أَطْرَبَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكور} فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا قَالَ "الشَّاكِرُ" فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إما شاكرا وإما كفورا} كَيْفَ غَايَرَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ وَجَعَلَ الْمُبَالَغَةَ مِنْ جَانِبٍ الْكُفْرَانِ؟
قُلْتُ: هَذَا سَأَلَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ فَأَجَابَ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ شُكْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا قَلِيلٌ وَكُلُّ كُفْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا عَظِيمٌ فَجَاءَ شَكُورٌ بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعُولٍ" عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الصَّاحِبِ
ما جاء على فعل
وَأَمَّا "فَعِلٌ" فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}
وقوله تعالى: {كذاب أشر} قرن "فعلا" بفعال
ما جاء على فعل
وَأَمَّا "فُعَلٌ" فَيَكُونُ صِفَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهْلَكْتُ مالا لبدا} اللُّبَدُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}
ويكون مصدر كَهُدَى وَتُقَى وَيَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ "أَفْعُلٍ" مِنْ كذا كقوله تعالى: {وأخر متشابهات} وقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} كما قال: {أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى}
ما جاء على فعلى
وَأَمَّا فُعْلَى فَيَكُونُ اسْمًا كَالشُّورَى وَالرُّجْعَى قَالَ الله تعالى: {إن إلى ربك الرجعى} وقال تعالى: {وكلمة الله هي العليا}
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى فِي تَأْنِيثِ الْأَسْوَأِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله}
قال الفارسي: يحتمل السوءى تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْنِيثَ "الْأَسْوَأِ" وَالْمَعْنَى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون
السوءى عَلَى هَذَا خَارِجَةً مِنَ الصِّلَةِ فَتُنْصَبُ عَلَى الْمَوْضِعِ وَمَوْضِعُ "أَنْ" نَصْبٌ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لِتَكْذِيبِهِمْ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السُّوأَى مَصْدَرًا مِثْلَ الرُّجْعَى وَعَلَى هَذَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَمُنْتَصِبَةٌ بِأَسَاءُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَيَكُونُ {أَنْ كَذَّبُوا} نَصْبًا لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ
وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ {السُّوأَى} وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةَ "الْعَاقِبَةِ" وَتَقْدِيرُهَا: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْمَذْمُومَةُ التَّكْذِيبَ
وَ"الْفُعْلَى" فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صِفَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ القصوى} وقوله تعالى: {فأراه الآية الكبرى} فَجَرَتْ صِفَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا فَإِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ تُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالْأَبْطَحِ وَالْأَجْرَعِ والأدهم