الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على كل حال العبادة مندوبٌ إليها في كل وقت وفي كل حين، وجاء قوله عليه الصلاة والسلام:((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وجاء الحث على العبادات الخاصة والعامة في كل وقت وفي كل حين، وفي كل زمان، لكن العبادات في مثل هذه الظروف التي يغفل بها الإنسان، يعني مع كونها جالبة للحسنات هي تكفه في مثل هذه الظروف عن كثيرٍ من المشاكل والسيئات، فالإنسان إذا كان في وقت الرخاء مأمور بالعبادة فكيف بالعبادة إذا كانت عبادة من جهة، وصارف وواقي ومانع من الوقوع في المحرمات؟ لا شك أن مثل هذا يتضاعف، وأيضاً في مثل هذه الظروف القلوب تنشغل،. . . . . . . . . الناس، وينشغلون بالقيل والقال، ويستطلعون الأخبار، لكن ماذا عن شخصٍ لم يلقِ لهذه الأمور بالاً؟ لأنه لا حول له ولا قوة، لا يستطيع أن يقدم ولا يؤخر، فمثل هذا إذا التجأ إلى ربه، لجأ إلى الله بصدق، وعبده حق عبادته، مثل هذا لا شك أنه من أفضل الناس في هذه الظروف، اللهم إلا من يستطيع أن يؤثر على غيره وينفع، ويساهم بما يكشف هذه الفتن هذا أعظم من العبادات الخاصة.
قد يقول قائل: كثيرٌ من الناس لا يستطيع أن يؤثر في مثل هذه الظروف فهل العزلة مطلوبة؟ جاءت أحاديث تحث على العزلة: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، يفرُّ بدينه من الفتن)) يوشك: يقرب، يفر بدينه من الفتن هذا الكلام يتجه إلى شخص يخشى عليه من التأثر، ولا يرجى منه التأثير، بينما لو كان الأمر بالعكس شخص مؤثر، ويستطيع أن يقدم ما ينفع في كشف هذه الفتن، مثل هذا يتعين عليه الاختلاط، ولا تجوز له العزلة بحال، ثم يبقى بين هذين القسمين والنوعين سائر الناس ممن يستطيع أن يؤثر ويتأثر، ومن يتأثر كثيراً ويؤثر قليلاً، ومن قرب من هذا رجح فيه حكم هذا، ومن قرب من هذا ترجح فيه حكم هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شرح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم
-: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)):
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال الإمام أبو عبد الله البخاري -رحمه الله تعالى-: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
حدثنا عمر بن حفص قال: حدثني أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا شقيق، قال: قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني واقد عن أبيه عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا قرة بن خالد قال: حدثنا ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة وعن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال:((ألا تدرون أي يوم هذا؟ )) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال:((أليس بيوم النحر؟ )) قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة؟ )) قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ )) قلنا: نعم، قال:((اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغٍ يبلغه من هو أوعى له)) فكان كذلك، قال:((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) فلما كان يوم حرق ابن الحضرمي حين حرقه جارية بن قدامة قال: أشرفوا على أبي بكرة، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك، قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي عن أبي بكرة أنه قال: لو دخلوا على ما بهشت
…
عليّ، عليّ.
قال: لو دخلوا عليّ ما بـ
…
ما بَهَشْتُ.
قال: لو دخلوا على ما بهشت بقصبة.
حدثنا أحمد بن إشكاب قال: حدثني محمد بن فضيل عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك قال: سمعت أبا زرعة ابن عمرو بن جرير عن جده جرير، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((استنصت الناس)) ثم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) " لا ترجعوا: يعني لا ترتدوا، بعدي: أي بعد وفاتي، أو بعد كلامي هذا، كفاراً: إما أن يكون الكفر مخرجاً عن الملة، وذلك بالاستحلال، فإذا استحل الإنسان دم أخيه المسلم فإنه يكون بذلك مرتداً؛ لأنه استحل أمراً منكراً مجمعاً عليه معلومٌ تحريمه بالضرورة من دين الإسلام، أو يكون الكفر دون الكفر الأكبر، ولا يخرج حينئذٍ من الملة، لكنه من عظائم الأمور، ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) يعني: يقتل بعضكم بعض، ففيه التحذير الشديد، والوعيد على من ارتكب هذا الأمر الشنيع، وسبق الحديث عن حرمة القتل، وما ورد فيه من نصوص، ((ولا يزال المسلم في فسحة من دينه حتى يصيب دماً حراماً)).
((لا ترجعوا بعدي كفاراً)) إما أن يكونوا كفاراً بالمعنى المعروف من الكفر إذا أطلق، وهو الخروج من الملة، أو يكون المراد بذلك التشبيه، يعني كالكفار الذين من شأنهم أن يضرب بعضهم رقاب بعض.
يقول رحمه الله: "حدثنا عمر بن حفص -بن غياث- قال: حدثني أبي -حفص بن غياث- قال: حدثنا الأعمش -سليمان بن مهران- قال: حدثنا شقيق -هو ابن سلمة أبو وائل- قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) "((سباب المسلم فسوق)) السب: هو الشتم، السب والسباب كلاهما مصدر سب يسب سباً وسباباً، ومنهم من يقول: السباب أشد من السب؛ لأن السباب يكون بما في الإنسان وما ليس فيه، بخلاف السب.
((سباب المسلم فسوق)) الفسوق والفسق الخروج، وهو في الاصطلاح: الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، والفسوق أشدُّ من مجرد العصيان؛ لأنه وقع معطوفاً على الكفر، ثم عطف عليه العصيان على سبيل التدلي من الأعلى إلى الأدنى، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [(7) سورة الحجرات].
((سباب المسلم فسوق)) أي شتمه بما فيه مواجهةً أو في غيبته، وما ليس فيه من باب أولى فسوق، الفاسق له حكمه في الشرع مستحقٌ للتعزير، إذا لم يكن فيما ارتكبه حد فهو مستحقٌ للتعزير، لو سبه بما يوجب الحد أقيم على الحد، لكن إذا سبه بما لا يوجب حداً فإنه يجب تعزيره، وأخذ حق أخيه منه، إلا إذا عفا أخوه.
((وقتاله كفر)) قتاله: قتله ومقاتلته كفر، ويقال فيه مثل ما قيل سابقاً من أنه كفر مخرج عن الملة إن استحل ذلك، أو هو كفرٌ دون كفر إن لم يستحل ذلك، لما عرف عند أهل السنة قاطبة أن القتل كبيرة من كبائر الذنوب لكنه لا يخرج من الملة كغيره من الموبقات التي هي دون الشرك، نعم إن استحل خرج من الملة، فالذي يستحل حراماً مجمعاً عليه معلوم تحريمه بالدين، بالضرورة من دين الإسلام هذا يكفر، وعكسه إذا حرم أمراً مباحاً حلالاً عرف حله بالضرورة من دين الإسلام فإنه يكفر.
فالقتال أشد من السباب، القتال أشد من السباب؛ لأن حكم السباب الفسوق، وحكم القتال كفر، والكفر وإن كان دون الكفر الأعظم إلا أنه أعظم من مجرد الفسوق، وجاء في الصحيحين وغيرهما:((لعن المؤمن كقتله)) في حديث الباب فرق النبي عليه الصلاة والسلام بين مجرد السباب، وبين القتل في الحكم، فجعل السباب أنزل من القتل والقتال، وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام:((لعن المؤمن كقتله)) هنا مشبه وهو اللعن، ومشبه به وهو القتل، ووجه الشبه الجامع بينهما التحريم، كلٌ منهما محرم، ((لعن المؤمن كقتله)) في التحريم، ولا يلزم أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه، بل قد يكون التشبيه من وجهٍ دون وجه، فالسب والشتم كالقتل في الاشتراك بالتحريم، وترتيب العقوبة.
تشبيه الوحي بصلصلة الجرس، والوحي محمود، والجرس مذموم، هل يعني هذا أن الوحي مشبه للجرس من كل وجه؟ لا، فالجرس له أكثر من وجه، يمكن أن يشبه ببعضها دون بعض، فلا إشكال في الحديث؛ لأن اللعن أشبه القتل من وجهٍ دون وجه، من وجه الاشتراك في التحريم، كما أن الوحي أشبه صلصلة الجرس من وجهٍ دون وجه، فالجرس فيه قوة وتدارك في الصوت، وفيه أيضاً يعني جهة طنين، وجهة إطراب، فهو مشبهٌ بالجرس من جهة القوة والتدارك في الصوت، بينما جهة الإطراب التي وقع الذم من أجلها يفترقان.
ولذا آلات التنبيه التي ليس فيها إطراب لا تدخل في الجرس المنهي عنه، وإن سماه الناس جرس، يعني لو يضع الإنسان على بابه زر كهربائي ينبه من في الداخل إلى أنه يوجد عند الباب طارق، إن أطرب هذا المنبه دخل في الجرس المذموم، إن كان مجرد صوت لا يطرب السامع فإنه لا يدخل في المذموم، وقل مثل هذا في الآلات كلها، والناس مع الأسف الشديد يعانون مما يسمعون من الأجراس المطربة في مواطن العبادة، بل في أثناء العبادة بسبب الجوالات، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، والملائكة لا تصحب رفقةً فيها جرس، هذا جرس يا أخي، جرس مطرب وموسيقى، وجاء الوعيد الشديد فيمن يتخذ المعازف، وهذا نوعٌ منها، نسأل الله العافية، ويتضاعف التحريم بفضلِ المكان والزمان، مع الأسف نجد هذه الأجراس المطربة ترن في المساجد، بل في أشرف البقاع في المطاف، والله المستعان.
فتشبيه اللعن بالقتل لا يعني أنه مشبهٌ له من كل وجه، وهناك أمثلة كثيرة لهذا الضرب، تشبيه رؤية الباري -جل وعلا- برؤية القمر تشبيه للرؤية بالرؤية، وليس بتشبيه للمرئي بالمرئي، تشبيه النزول على اليدين في الصلاة ببروك البعير لا يقتضي أن من قدم يديه ووضع يديه على الأرض برفق أن يكون مشبهاً للبعير حتى ينزل على الأرض بقوة، ويثير الغبار، ويفرق الحصا، حينئذٍ يكون مشبهاً لبروك البعير، أما إذا وضع يديه على الأرض مجرد وضع لم يشبه البعير، على كل حال هذا لو ذهبنا نستطرد بذكر الأمثلة يمكن يستغرق الوقت كله.
بعد هذا يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "حدثنا الحجاج بن منهال –البصري- قال: حدثنا شعبة -بن الحجاج أبو بسطام- قال: أخبرني واقد" هذا من نسل عمر بن الخطاب، واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب "عن أبيه -محمد بن زيد- عن –جده- عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول -في حجة الوداع عند جمرة العقبة-:((لا ترجعوا بعدي كفاراً))، إما مرتدين أو كالكفار ((يضرب بعضكم رقاب بعض)) على ما تقدم تقريره.
ثم قال -رحمة الله عليه-: "حدثنا مسدد" مر بنا مراراً ابن مسرهد بن مسربل إلى آخر ما ركب من نسبه، والذي يغلب على الظن أنه تركيب: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن أرندل بن سرندل بن عرندل، ما يمكن تجتمع بهذه الصورة، لعله تركيب، "قال: حدثنا يحيى" وهو ابن سعيد القطان، "قال: حدثنا قرة بن خالد –السدوسي- قال: حدثنا ابن سيرين -محمد الإمام المعروف- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة -عن أبيه أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي- عن رجلٍ آخر"، هو حميد بن عبد الرحمن الحميري، "عن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة"، صرح بعبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأن المروي من طريقه مما وقع لأبيه، والإنسان يحرص على حفظ ما يتعلق به أو بأبيه أو بأسرته، وإلا من أبهم .. ، وحميد بن عبد الرحمن حميري أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأن ابن أبي بكرة دخل في الولايات، وأما حميد بن عبد الرحمن فقد زهد في الدنيا كلها فضلاً عن ولاياتها، ولا شك أن من مالت به الدنيا ومال بها معرض للخطر، بخلاف من عزف عنها، ولا يعني هذا أن أمور المسلمين تعطل، وكل الناس يزهد فيها، بل قد يتعين العمل فيها على بعض الناس، وإذا ألزم الإنسان من غير مسألة بهذه الولايات ونصح وبذل جهده واستفرغ وسعه في نصح الناس، والنصح لهم، لا شك أنه مثاب، بل ثوابه عظيم؛ لأن هذه أمور هي في الأصل خدمة للأمة، والله المستعان، لكنه في الغالب يعني امتحان قل أن ينجو منها، ((نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)) قلَّ من ينجو منها، ابن عباس قيل فيه هذا الكلام، جاء رجلٌ يسأل ابن عمر، فقال له: سل ابن عباس، فذكر له أن ابن عباس صار عنده شيء من التوسع في أمور الدنيا، يعني في المباحات، بينما ابن عمر زهد في هذه الأمور، فالناس لا شك أنهم يحسنون الظن، بمن لا نظر له في الدنيا، وإن كان أقل في العلم، والله المستعان.
"وعن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن أبي بكرة عن أبي بكرة" الصحابي الجليل نفيع بن الحارث، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس -يوم النحر بمنى- فقال:((ألا تدرون أي يوم هذا؟ )) " هذا للفت النظر من أجل الانتباه لما يلقى، ((ألا تدرون أي يوم هذا؟ )) قالوا: الله ورسوله أعلم"، لما سأل دهشوا هم يعرفون أن اليوم يوم النحر، لكنهم دهشوا لما سئل عن شيء معلوم بالبداهة، نعم لو سئلت عن شيء لا يخفى عليك حتى عند السائل يعرف أنه لا يخفى عليك ما تدري وإيش
…
؟ ماذا تجيب؟ لأن هذا معلومٌ عند الطرفين السائل والمسئول، إذاً لا بد أن يكون السائل أراد شيئاً آخر غير المسئول عنه، أو أن المسئول ما فهم السؤال على وجهه وحقيقته من الدهشة، "قالوا: الله ورسوله أعلم"، الصحابة -رضوان الله عليهم- سئلوا عن يوم النحر، فقالوا: الله ورسوله أعلم، وصغار طلاب العلم يسألون عن عضل المسائل فيجيبون بغير تردد الآن، والصحابة يتدافعون الفتيا، ولم يجيبوا عن اليوم الذي هم فيه، ولا يعني هذا أن الإنسان إذا عرف شيئاً من العلم واحتاج الناس إليه أنه يكتم ما عنده من العلم، لا، لكن المسألة التوسط في الأمر، من عنده شيء لا يجوز له أن يكتمه إذا تعين عليه، والذي ليس عنده من العلم ما يكفيه للإجابة على مسألة بعينها أو مسائل يقول: الله أعلم، ولا يضيره ولا ينقص من قدره، بل هذا فيه الرفعة في الدنيا والآخرة ولم يضر الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أكثر من ثلاثين، اثنتين وثلاثين أو ست وثلاثين بـ (لا أدري)، وهذا متوارث عند أئمة الهدى في المتقدمين والمتأخرين، والله المستعان، إلى أن وصل الحد بنا إلى أن صغار المتعلمين أو بعض من لا يمت إلى العلم الشرعي بصلة أن يتصدى ويتصدر لإفتاء الناس وتوجيههم، والله المستعان.
"قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ((أليس بيوم النحر؟ )) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((أي بلد هذا؟ )) " وجاء في بعض الروايات: "قلنا: الله ورسوله أعلم"، قال:((أليست بالبلدة؟ )) {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [(91) سورة النمل] البلدة: اسمٌ من أسماء مكة، كما أن الدار اسمٌ من أسماء المدينة، {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ} [(9) سورة الحشر] "قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) " جمع عرض، وهو موضع المدح والذم، ((وأبشاركم)) جلودكم، يعني الاعتداء على الإنسان بما يزهق روحه، ويريق دمه، وما يخدش جلده، يعني سواءً كان الاعتداء كبير أو صغير، ذليل أو حقير، ولذا قال:((وأبشاركم)) يعني مجرد خدش البشرة، يعني لو تمر من عند واحد أو شيء بظفرك تخدش بشرته أو بأي شيء، بآلةٍ هذا حرام، وتقدم أن من يأتي بالسهام لا بد أن يأخذ برؤوسها إذا مر بمجامع الناس؛ لئلا تصيب أحداً بأذى.
((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام)) هذه من الضروريات التي جاء الدين بحفظها، فالدماء شأنها عظيم، والأموال أيضاً لا يجوز الاعتداء عليها من قبل غير مالكها، ولا من مالكها في غير وجوهها، فقد جاء النهي عن إضاعة المال.
((وأعراضكم)) العرض الذي هو موضع المدح والذم لا يجوز النيل منه، ((وأبشاركم عليكم حرام)) وكل هذا إذا كان بغير حق، أما إذا كان بحق فالشرع جاء لإقرار الحق، فالقاتل يقتل، ما يقتل الإنسان ويقول:((إن دمائكم وأموالكم)) الغاصب يعاقب ويؤخذ منه ما اغتصب، وقد يعزر بأخذ شيء من ماله، مانع الزكاة قد يعزر بأخذ قدرٍ زائد، ((فإنا آخذوها، وشطر ماله)) المقصود أن حفظ هذه الأمور من الدماء والأموال والأعراض إذا كان ذلك بغير حق، الأعراض قد يكون النيل منها بحق إذا كان الهدف منه النصح في الاستشارة مثلاً، في الجرح والتعديل بالنسبة للرواة، وهذا وإن كان على خلاف الأصل إلا أنه محددٌ بقدر الحاجة، لا يجوز النيل من عرض مسلم إلا لحاجة، وأن يكون بقدر الحاجة، إذا كانت الحاجة تتأدى بكلمة لا يجوز الزيادة عليها.
جاءك شخصٌ يستشريك؛ لأنه تقدم لخطبة ابنته شخص، فإذا كان لا يشهد صلاة الفجر لا تزد على ذلك، قل: يا أخي لا يشهد صلاة الفجر، لا يجوز لك أن تقول: الخبيث المخبث الذي فيه ما فيه، الفاعل التارك، ما يشهد صلاة الفجر أكيد أنه بعد بيسوي كذا وكذا، ما عليك، أنت لا يجوز لك أن تقدح إلا بما تعلم، وهذا بقدر الحاجة، وإذا دعت إليه الحاجة، ومثله جرح الرواة، ومع الأسف أن نجد بعض من ينتسب إلى طلب العلم همه وديدنه الجرح والتعديل، الذي لا تدعو إليه الحاجة، ولا يترتب عليه أدنى مصلحة، وتجد القيل والقال كله في أعراض الأخيار أيضاً، مع سلامة الأشرار، الشيخ فلان قال كذا، الشيخ علان أفتى بكذا، تسامح بكذا، داهن في كذا، ما عليك منه، إن كان عندك له نصيحة اذهب إليه بعد أن تقدم ما يفتح قلبه لك، أما تأتي على سبيل المتعالي، أو على جهة التعالي لتنصح شخص أكبر من أبيك، نعم عليه أن يقبل، وعليك أن تقدم الأسلوب المقبول، أما أن تكون في المجالس فلان فعل وفلان
…
نعم من ظهر أمره واشتهر، وأعلن مخالفته، وخشي من ضرره على الناس لا مانع من التحذير منه؛ لأن ضرره إذا خشي منه أن يتعدى يحذر منه، فإن كان يكفي التلميح تعين، وإن لم يكفِ التلميح بل لا بد من التصريح صرح به، لكن أيضاً بقدر الحاجة.
((كحرمة يومكم هذا -يوم النحر- في شهركم هذا -في شهر ذي الحجة- في بلدكم هذا -في مكة- ألا هل بلغت؟ )) ألا هل بلغت؟ يعني ما أمرت بتبليغه، "قلنا: نعم" بلغت يا رسول الله، ونحن نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة على أكمل وجه، ونصح الأمة عليه الصلاة والسلام، "قال: ((اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب -يعني من حضر يبلغ من غاب- فإنه رب مبلغٍ -هذا تقليل- رب مبلغٍ يبلغه من هو أوعى منه)) وأحفظ، يعني رب مبلَّغ أو رب مبلِّغ من الحاضرين يبلغه لشخصٍ هو أوعى منه له، وأحفظ له، وأفهم، ورب هذه للتقليل؛ لئلا يقول قائل: إنه يوجد في هذه العصور من هو أفهم من الصحابة، نقول: لا ما هو بصحيح، قد يوجد من الصحابة -لأن هذا تقليل- واحد أو أفراد من الصحابة مع ما نالوه من شرف الصحبة، ورسوخ القدم في الديانة يكون فهمهم .. ؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، هؤلاء النفر اليسير قد يوجد فيمن جاء بعدهم من هو أحفظ وأوعى، وهكذا إلى قيام الساعة، يوجد في الزمان المتأخر من هو أحفظ وأوعى ممن هو ممن تقدم عليه في الزمن، وهذا قليلٌ نادر؛ لأن ربَّ تقتضي التقليل، وسبق الحديث:((فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه)) وهذا إجمالي، هذا إجمالي.
"فكان كذلك" كان الأمر كذلك، بلّغ الصحابي التابعي، وقد يكون في التابعين وهذا مثل ما ذكرنا نادراً الواحد أو الاثنين من هو أحفظ من الواحد أو الاثنين من الصحابة، "فكان كذلك، قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) " قال ابن أبي بكرة: "فلما كان يوم حُرِّق ابن الحضرمي" عبد الله بن عمرو "حين حرَّقه جارية بن قدامة" بن مالك بن زهير السعدي، السبب أن ابن الحضرمي وجهه معاوية رضي الله عنه يستنفر أهل البصرة إلى قتال علي رضي الله عنه، فوجه عليٌ -رضوان الله عليه- جارية ابن قدامة إلى ابن الحضرمي، فتحصن ابن الحضرمي في دار، في دار فحرَّق جاريةُ الدار بمن فيها، وهذه آثار الفتن، الفتن إذا قامت لا بد أن يوجد مثل هذه التصرفات، الفتن نسأل الله -جل وعلا- أن يقي المسلمين من شرها إذا قامت لا بد أن توجد مثل هذه التصرفات، يحصل أمور لا تخطر على البال، حتى على بال من فعلها، تطيش العقول في أوقات الفتن، يعني أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقتل في المدينة بين الصحابة، وقد قدم ما قدم للإسلام والمسلمين، وشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة، كل هذا سببه الفتن، قد يقول قائل: أليس في المسلمين قوة ومنعة أن يمنعوا خلفيتهم من أن يقتل؟ فيهم قوة ومنعة، لكن إذا حصلت هذه الأمور فتلافيها صعبٌ جداً، فعلى كل إنسان أن يساهم بقدرِ ما أُوتي في دفع الفتن وضرها وشرها؛ لأنها إذا بدأت ما انتهت، تأتي على الأخضر على الرطب واليابس، شخص يحرق بدار ومعه ما يقرب من سبعين، شخص من أبناء الصحابة، بل قال بعضهم ممن له صحبة يودع في جوف حمار ويحرق في جوف الحمار! هذا سببه إيش؟ سببه الفتن، كيف يتصرف الناس؟ إذا هاجت الفتن طاشت العقول، وصعبت الحلول، فإذا كان هذا وقع في عصر الصحابة فما شأنكم فيما يقع فيما بعدهم حينما يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويقل العمل؟ هذا والصحابة متوافرون تحصل مثل هذه الأمور، إذاً لا بد من أن يقضى على الفتن في مهدها، والله المستعان؛ لئلا تستشري.
يقول: "فلما كان يوم حرق ابن الحضرمي حين حرقه جارية بن قدامة قال جارية لجيشه: أشرفوا على أبي بكرة" أشرفوا على أبي بكرة، انظروا ماذا سيصنع أبو بكرة صحابي جليل يخشى إيش؟ أن يتدخل أبو بكرة فيحصل له شيءٌ من القتل فيبوء بإثمه من يقتله يقتل صحابي، ماذا صنع أبو بكرة؟ خشي جارية أن يتدخل أبو بكرة لسوء ما صُنع هؤلاء النفر، "فقالوا: هذا أبو بكرة يراك" أمامك، يراك أبو بكرة، لكن ماذا يصنع أبو بكرة؟ "قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: فحدثتني أمي -هالة بنت غليظ العجلية- عن أبي بكرة- يعني عن أبيه- أنه قال: لو دخلوا علي ما بهشت بقصبة" يعني ما دافعت عن نفسي، لو دخلوا عليَّ، بيتي، ما دافعت عن نفسي بقصبة، ما يدافع عن نفسه؛ لأنه حفظ من أحاديث الوعيد الشديد في القتل والقتال، قتال المسلمين ومقاتلتهم؛ لئلا يساهم في ما جاء فيه الوعيد الشديد، قال: "لو دخلوا عليَّ ما بهشت بقصبة".
ثم قال: "حدثنا أحمد بن إشكاب –الصفار- قال: حدثنا محمد بن فضيل -بن غزوان- عن أبيه -فضيل بن غزوان- عن عكرمة -مولى ابن عباس- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) "، ((لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) البخاري -رحمه الله تعالى- احتج بعكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة فيه كلام لأهل العلم، بل قال بعضهم: إنه يرى إيش؟ ها؟
طالب:. . . . . . . . .
لا القدر ما يجي هنا، يرى إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
يرى السيف، قالوا: يرى السيف، وهو مذهب الخوارج.
طالب:. . . . . . . . .
معروف كلام الذهبي في السير طويل، ودافعوا عنه، لكن نحن نريد أن نقرر شيء هنا، الحافظ العراقي رحمه الله يقول:
ففي البخاري احتجاجاً عكرمة
…
مع ابن مرزوقٍ وغير ترجمة