الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقَدِّمَةُ الكِتَاب
اللهم يَا رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، سُبْحَانَكَ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ، عَزَّ جَارُكَ، وَجلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إلهَ غَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم. الحَمْدُ لِلّاهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنْهَا وَمَا
لَمْ نَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنْهَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، عَدَدَ خَلَائِقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْنَا مِنْهُمْ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المُصْطَفَى، وَرَسُولُهُ المُجْتَبَى، وَحَبِيبُهُ المُرْتَضَى، خاتَِمُ النَّبِيِّينَ، وَإِمَامُ المُرْسَلِينَ، وَقَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، الصَّادِقُ الوَعْدِ الأَمِينُ.
هُوَ السَّاجِدُ الرَّاكِعُ، الخَاشِعُ الخَاضِعُ، الحَلِيمُ المُتَوَاضِعُ، سَيِّدُ السَّادَاتِ، وَأَصْلُ البَرَكَاتِ وَمَنْبَعُ الخَيْرَاتِ. رُضَابُهُ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ، وَخَدُّهُ أَبْهَى مِنَ الوَرْدِ، وَعَرَقُهُ أَطْيَبَ مِنَ النَّدِّ. شَعَرُهُ كَشُذُورِ الذَّهَبِ، وَمِشْيَتُهُ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ. الرَّوْضُ الزَّاهِرُ، وَالبَحْرُ الزَّاخِرُ، الَّذِي جَمَعَ مَحَاسِنَ الأَوَائِلِ وَالأَوَاخِرِ، صَاحِبُ الأَخْلَاقِ العَظِيمَةِ، وَالشَّمَائِلِ الحَمِيدَةِ، وَالخَصَائِصِ الفَرِيدَةِ.
اللهم إنَّا نَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّكَ وَرَسُولَكَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ،
وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وتَرَكَنَا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِك. اللهم فَصَلِّ وَسَلِّمْ مِنَّا عَلَيْهِ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ نَبِيَّهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قُدْوَةً لِلنَّاسِ فَقَالَ عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [سُورَةُ الأَحْزَابِ: 21]. وَأَوْجَبَ اللهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَحَبَّتِنَا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَشَرْطًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْفَوْزِ بِمَحَبَّتِهِ عز وجل لَنَا وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِنَا فَقَالَ عز وجل:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 31].
وَلَمَّا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم قُدْوَةً لِلنَّاسِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ عَصَمَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، وَوَقَاهُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَطَهَّرَهُ مِنْ فِعْلِ مَا فِيهِ عَيْبٌ أَوْ خَلَلٌ، وَجَعَلَ خَلْقَهُ وَخُلُقَهُ، وَنَعْتَهُ وحِلْيَتَهُ، وَأَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ جَمِيعًا فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الجَمَالِ، وَأَقْصَى غَايَاتِ الكَمَالِ.
وَقَدْ تَفَنَّنَ الصَّحَابَةُ فِي وَصْفِ ذَلِكَ الجَمَالِ البَدِيعِ، وَاجْتَهَدُوا فِي الكَشْفِ عَنْ مَظَاهِرِ ذَلِكَ الكَمَالِ الرَّفِيعِ، فَاجْتَمَعَتْ مِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنَ كتب السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ وَمصنفات الحَدِيثِ الشَّرِيفِ. إِذِ
السُّنَّةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ هِيَ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.
وَمَعَ كَثْرَةِ التَّآلِيفِ فِي مَوْضُوعِ الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ بَيْنَ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَقَدِيمٍ وَحَدِيثٍ، فَإِنَّ المَكْتَبَةَ الإِسْلَامِيَّةَ لَا تَزَالُ تَحْتَاجُ إِلَى كِتَابٍ سَهْلٍ مُيَسَّرٍ عَلَى نَمَطِ كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ. إِذِ الكَلَامُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ حُدُودٌ، لكنَّ الكَلَامَ فِي وَصْفِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام غَيْرُ مَحْدُودٍ. وَلِكُلِّ كَلَامٍ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، إِلَّا وَصْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ لَهُ أَمَدٌ وَلَا غَايَةٌ.
وَكَيْفَ نَصِفُ خُلُقًا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَظِيمًا، وَسَمَّاهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا! أَمْ كَيْفَ نُنْصِفُ رَحْمَةً جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَامَّةً لِلْعَالَمِينَ!
وَأَنَّى لَنَا أَنْ نُدْرِكَ حَقَّهُ عَلَيْنَا وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا!
نَبِيٌّ أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ، وَحَنَّ الجِذْعُ إِلَيْهِ، وَتَفَجَّرَ المَاءُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
نَبِيٌّ انْشَقَّ لَهُ القَمَرُ، وَسَعَى إِلَيْهِ الشَّجَرُ، وَسَبَّحَ فِي كَفِّهِ الحَجَرُ.
نَبِيٌّ أَمْرُهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةٌ لِلّاهِ، وَبَيْعَتُهُ بَيْعَةٌ لِلّاهِ.
نَبِيٌّ مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
نَبِيٌّ سَمَّاهُ اللهُ نُورًا، وَجَعَلَهُ سِرَاجًا مُنِيرًا.
نَبِيٌّ أَخَذَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ المِيثَاقَ، وَعَرَجَ بِهِ فَوْقَ السَّبْعِ الطِّبَاقِ.
نَبِيٌّ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى مَلْجَأً لِلْخَلَائِقِ يَومَ الدِّينِ، وَخَصَّهُ بِالشَّفَاعَةِ العُظْمَى مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ المُرْسَلِينَ.
نَبِيٌّ كَانَ أَطْهَرَ النَّاسِ نَسَبًا، وَأَكْرَمَهُمْ مَعْدِنًا، وأَطْيَبَهُمْ أَصْلًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَدَبًا.
نَبِيٌّ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَأَعْلَى قَدْرَهُ.
نَبِيٌّ كَانَ أَبْهَى مِنَ الشَّمْسِ، وَأَحْلَى مِنَ القَمَرِ.
نَبِيٌّ كَانَتْ يَدُهُ شِفَاءً، وَرِيقُهُ دَوَاءً.
نَبِيٌّ كَانَ أَعْلَمَ الخَلْقِ بِاللهِ، وَأَخْشَاهُمْ وَأَتْقَاهُمْ لِمَوْلَاهُ.
نَبِيٌّ يُصَلِّي عَلَيْهُ اللهُ تَعَالَى وَمَلَائِكَتُهُ بِلَا انْقِطَاعٍ، وَتُبَلِّغُهُ المَلَائِكَةُ سَلَامَ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ مِنْ جَمِيعِ الأَصْقَاعِ.
نَبِيٌّ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الأُولَى، وَأَنَّ لَهُ أَنَّ رَبَّهُ سَوْفَ يُعْطِيهِ إِلَى أَنْ يَرْضَى.
نَبِيٌّ أَكْمَلَ اللهُ لَهُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَ أَتْبَاعَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ.
نَبِيٌّ اصْطَفَاهُ اللهُ تَعَالَى وَاجْتَبَاهُ، وَعَصَمَهُ وَطَهَّرَهُ وَآوَاهُ، وَأَيَّدَهُ وَكَفَاهُ، وَنَصَرَهُ فِي كُلِّ مَوطِنٍ وَكَانَ مَوْلَاهُ.
كَيْفَ لَا، وَهُوَ صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُودِ، وَاللِّوَاءِ المَعْقُودِ، وَالحَوْضِ المَوْرُودِ.
كَيْفَ لَا، وَهُوَ أَجَلُّ الأَنْبِيَاءِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهُمْ شَرَفًا وَمَجْدًا وَفَخْرًا
كَيْفَ لَا، وَهُوَ مَعْدِنُ الأَنْوَارِ، وَمَنْبَعُ الأَسْرَارِ، وَسَيِّدُ الأَبْرَارِ.
كَيْفَ لَا، وَهُوَ أَشْرَفُ العِبَادِ، وَأَفْضَلُ العُبَّادِ.
كَيْفَ لَا، وَهُوَ حَبِيبُ اللهِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الجَنَّةِ.
وَقَدْ قُلْتُ فِي مَدْحِهِ عليه الصلاة والسلام:
لَيْسَ لِلْعَينِ دُونَ رُؤْيَاكَ مَضْجَعْ
…
لا وَلِلْقَلْبِ قَبْلَ لُقْيَاكَ مَرْبَعْ
يَا حَبِيبًا لَهُ الفَضَائِلُ دَانَتْ
…
أَنْتَ مِنْ كُلِّ مَا بَرَا اللهُ أَرْفَعْ
يَا مَلِيكَ الجَمَالِ يَا مَنْ عَلى عَرْ
…
شِ الكَمَالِ ارْتَقَى الذُّرَى وَتَرَبَّعْ
قَدْ مَلَكْتَ القُلُوبَ فَاحْكُمْ بِمَا شِئْـ
…
ـتَ فَكُلُّ الوَرَى لَكَ يَخْضَعْ
أَنْتَ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ الأَنْـ
…
ـفُسِ بَلْ أَنْتَ حَاكِمٌ لَيْسَ يُدْفَعْ
أَنْتَ أَهْدَى لِلْحَقِّ أَزْكَى وَأَنْقَى
…
أَنْتَ أَتْقَى لِلّاهِ دَوْمًا وَأَخْشَعْ
أَنْتَ أَوْفَى لِلْخَلْقِ أَسْنَى وَأَسْمَى
…
أَنْتَ أَقْوَى وَفِي المَعَامِعِ أَشْجَعْ
أَنْتَ أَحْيَى مِنَ العَذارَى احْتِشَامًا
…
أَنْتَ أَنْدَى يَدًا وَأَسْخى وَأَوْرَعْ
أَنْتَ أَبْهَى مِنَ البُدُورِ وَأَحْلَى
…
أَنْتَ لِلْحُسْنِ وَالمَلاحَةِ مَنْبَعْ
أنْتَ بَابُ الهُدَى وَأَصْلُ المَزَايَا
…
أَنْتَ لِلْفَضْلِ وَالمَفَاخِرِ مَجْمَعْ
يَا حَبِيبِي عَطْفًا عَليَّ فَإِنِّي
…
لَيْسَ لي مِنْ سِوَاكَ يَا جَدُّ مَقْنَعْ
أفَيُلَامُ المُسْلِمُونَ إِنْ تَعَلَّقُوا بِجَنَابِهِ، أَوْ هَامُوا فِيهِ وَاشْتَاقُوا إِلَى رُؤْيَةِ أَنْوَارِهِ! وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الأَعْظَمُ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَيِّدِنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
فَازْدَدْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُبًّا تَزْدَدْ مِنَ اللهِ تَعَالَى قُرْبًا، وَأَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ ذِكْرَهُ ذِكْرٌ لِلّاهِ عز وجل، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَهِمْ فِي جَمَالِهِ وَتَوَلَّهْ فِي كَمَالِهِ، وَتَتَبَّعْ مَا شِئْتَ مِنْ أَوْصَافِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَأَصْبِحْ وَأَمْسِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَنَمْ وَقُمْ وَأَنْتَ مُشْتَاقٌ إِلَيْهِ، لِتَكُونَ أَيُّهَا الأَخُ المُحِبُّ الصَّادِقُ مِمَّنْ وَصَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:«مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَأَىنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ» .
وَقَدْ يَبْدُو لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام صَارَ أَمْرًا عَسِيرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدِ اجْتَاحَتْ بِلَادَ المُسْلِمِينَ ثَقَافَاتٌ غَرِيبَةٌ حَلَّتْ مَحَلَّ كَثِيرٍ مِنَ السُّنَنِ، وَفُتِنَ النَّاسُ بِلُغَةِ المُنْتَصِرِ، وَشُغِفُوا بثَقَافَتِهِ، وَتَعَلَّقُوا بعَادَاتِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ سُنَنٍ حَمِيدَةٍ، وَأَدَارُوا ظُهُورَهُمْ لِأَخْلَاقٍ مَجِيدَةٍ، حَتَّى صَارَتِ السُّنَنُ النَّبَوِيَّةُ غَرِيبَةً، يُنْكِرُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى فَاعِلِهَا، وَقَدْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالمُتَحَلِّي بِهَا، أَوْ صَارَتْ وَصْمَةً يُوصَمُ المُتَمَسِّكُ بِهَا بِالتَّطَرُّفِ، أَوْ يُوصَفُ
بِالتَّأَخُّرِ، كَإِطْلَاقِ اللِّحْيَةِ، وَلَعْقِ الأَصَابِعِ، وَلُبْسِ الإِزَارِ، وَاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ. وَكَثُرَتِ الفِتَنُ، وَتَشَعَّبَتِ الآرَاءُ، وَانْتَشَرَ الضَّلَالُ، وَعَمَّ الفَسَادُ، وَكَادَ يَصِيرُ الصَّوَابُ خَطَأً وَالخَطَأُ صَوَابًا.
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام، بِمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ بِمَا سَيَكُونُ، وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَا سَيَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ المُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ، أَخْبَرَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ الذي نحنُ فِيه، وَبَيَّنَ ثَوَابَ المُتَمَسِّكِينَ بِالسُّنَةِ فِيهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَزَّارُ عَنْ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:«إِنَّ مِنْ وَرَاءِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: مِنْكُمْ» .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَضَعْتُ هَذَا الكِتَابَ فِي شَمَائِلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَجَمَعْتُ فِيهِ خَمْسَمِائَةِ حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ شَرِيفٍ فِي صِفَةِ خَلْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلُقِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي العِبَادَةِ، وَمَعَ النَّاسِ فِي الدَّعْوَةِ، وَمَعَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَالكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالمَرْضَى وَالأَصِحَّاءِ، وَالأَصْحَابِ وَالأَعْدَاءِ، فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَالحِلِّ وَالتَّرْحَالِ، وَالسِّلْمِ وَالحَرْبِ، وَالبَيْتِ وَالمَسْجِدِ، وَالسُّوقِ وَالطَّرِيقِ.
وَلَمْ أَقْصِدْ فِي هَذَا الكِتَابِ حَصْرَ جَمِيعِ أَحَادِيثِ الشَّمَائِلِ، إِذْ تَبْلُغُ بِلَا مُبَالَغَةٍ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ بَيَانَ أُمَّهَاتِ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَقْدِيمَ
أَبْرَزِ الأَخْلَاقِ المُحَمَّدِيَّةِ، فَاخْتَرْتُ أَصَحَّ الأَحَادِيثِ فِي كُلِّ بَابٍ، تَيْسِيرًا عَلَى القَارِئِ المُتَعَطِّشِ لِمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ الحَمِيدَةِ، وَلَطَائِفِ الخِصَالِ المُحَمَّدِيَّةِ الفَرِيدَةِ. وَقَلِيلٌ يَنْتَفِعُ بِهِ القَارِئُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يَنْقَطِعُ عَنْ قِرَاءَتِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا القَلِيلَ الَّذِي جَمَعْتُهُ قَدْ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلٌ. فَإِنَّ كُلَّ قَطْرَةٍ مِنْ بِحَارِ الحَبِيبِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم دُرَّةٌ، وَكُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ أَنْوَارِهِ مَجَرَّةٌ.
وَنَظَمْتُ سِلْكَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا تَجْمَعُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ بَابًا، فَابْتَدَأْتُ بِالتَّعْرِيفِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ هُوَ، مُبَيِّنًا اصْطِفَاءَ اللهِ تَعَالَى لَهُ مِنَ الأَزَلِ، وَسَرَدْتُ نَسَبَهُ الشَّرِيفَ وَأَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ أَسْمَائِهِ. وَانْتَقَلْتُ إِلَى وَصْفِ الجَسَدِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ إِلَى مَظَاهِرِ الزِّينَةِ وَالمَلَابِسِ وَأَحْوَالِهِ فِي القِيَادَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَكَلَامِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَجَمَعْتُ أَخْلَاقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قِسْمٍ عُنْوَانُهُ: مَظَاهِرُ الكَمَالِ، وَأَحْوَالَهُ مَعَ النَّاسِ في قِسْمٍ سَمَّيْتُهُ المُعَامَلَاتِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قِسْمَ الرَّحِيلِ، وَخَتَمْتُ بِقِسْمِ المُبَشِّرَاتِ.
وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى أَهَمِّ المُخَرِّجِينَ لِلْحَدِيثِ، لِكَيْ لَا أُثْقِلَ الكِتابَ بِمَا يَصُدُّ القَارِئَ عَنْ قِرَاءَتِهِ أَوْ يَصْرِفُهُ عَنْ قَصْدِهِ. إِذْ إِنَّ مَلْءَ الحَوَاشِي بِالتَّخْرِيجَاتِ وَدِرَاسَةِ الأَسَانِيدِ بَابٌ آخَرُ مِنَ العِلْمِ، هُوَ بِطَلَبَةِ عُلُومِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ أَوْلَى. وَلَنَا بِالإِمَامِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ أُسْوَةٌ. وَالقَارِئُ يُرِيدُ خُلَاصَةَ الحُكْمِ، وَزُبْدَةَ الكَلَامِ، وَهَذَا مَا وَفَّقَنِي اللهُ تَعَالَى إِلَى
تَقْدِيمِهِ. فَإِذَا كَانَ الحَدِيثُ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ لَمْ أَتَجَاوَزْهُمَا. ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الكُتُبِ السِّتَّةِ اقْتَصَرْتُ فِي التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا غالِبًا إِلَّا لِفَائِدَةٍ فِي لَفْظِ الحَدِيثِ، وَأُشِيرُ إِلَى دَرَجَتِهِ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ أَنْقُلُ فِي الحَوَاشِي خُلَاصَةَ الحُكْمِ عَلَيْهِ عَنْ بَعْضِ الحُفَّاظِ. وَتَحَرَّيْتُ فِي اخْتِيَارِ الأَحَادِيثِ، فَلَمْ أُدْرِجْ فِي هَذَا الكِتَابِ حَدِيثًا مَوْضُوعًا، وَلَا حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ الحُفَّاظُ أَنَّهُ شَدِيدُ الضَّعْفِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَأَدْرَجْتُ فِي بِدَايَاتِ بَعْضِ الأَبْوَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَوْضُوعِ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِلَا شَكٍّ هُوَ أَعْظَمُ مَصْدَرٍ مِنْ مَصَادِرِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَخَيْرُ دَلِيلٍ إِلَى مَعْرِفَةِ عَظِيمِ قَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَشَرَحْتُ الأَلْفَاظَ الغَرِيبَةَ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ، لِكَيْ لَا يَخْرُجَ الكِتَابُ عَنِ المَقْصُودِ، وَهُوَ نَقْلُ القَارِئِ الكَرِيمِ إِلَى رُوحِ النَّصِّ، لِيَسِيرَ مَعَهُ فِي وَصْفِ الأَحْدَاثِ وَالمَشَاهِدِ، وَيَتَمَثَّلَ الصُّوَرَ وَيَشْهَدَ المَعَالِمَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدَ أَيَّ عَقَبَةٍ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
وَعِلْمُ الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ خَاصٌّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِوَصْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِسًّا وَمَعْنًى، أَيْ وَصْفِ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ، وَوَصْفِ أَخْلَاقِهِ، أَوْ بَيَانِ أَوْجُهِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ. وَهُوَ بِذَلِكَ عِلْمٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ عُلُومِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الأُخْرَى، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ، أَهَمُّهَا: المَغَازِي، وَالسِّيرَةُ، وَالمُعْجِزَاتُ، وَالخَصَائِصُ، وَالحُقُوقُ.
وَمِنَ المُصَنَّفَاتِ فِي المَغَازِي كِتَابُ المَغَازِي لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ القُرَشِيِّ (-141)،
وَكِتَابُ المَغَازِي لِمُحَمَدِ بْنِ عُمَرَ الوَاقِدِيِّ (130 - 207).
وَفِي السِّيرَةِ: كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ المَدَنِيِّ (85 - 151) وَقَدْ هَذَّبَهُ أبو محمد عَبْدُ المَلِكِ بْنِ هِشَامٍ الحِمْيَرِيُّ (-218).
وَفِي المُعْجِزَاتِ: كِتَابُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْحَافِظِ أَبِي نُعَيمٍ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَصْبَهَانِيِّ (336 - 430)، وَكِتَابُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ البَيْهَقِيِّ (384 - 458).
وَفِي الخَصَائِصِ: كِتَابُ الخَصَائِصِ الكُبْرَى المُسمَّى كِفايةَ الطالب اللبيب في خصائص الحبيب صلى الله عليه وسلم لِلْحَافِظِ جَلَالِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيِّ (849 - 911).
وَفِي الحُقُوقِ الوَاجِبَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم: كِتَابُ الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لِلْقَاضِي أَبِي الفَضْلِ عِيَاضِ بْنِ مُوسَى اليَحْصَبِيِّ (476 - 544).
وَتَفَرَّعَتْ عَنِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عُلُومٌ أُخْرَى اشْتَغَلَ العُلَمَاءُ بِهَا، مِنْهَا: الأَسْمَاءُ النَّبَوِيَّةُ، وَالنَّسَبُ النَّبَوِيُّ، وَالمَوْلِدُ النَّبَوِيُّ، وَالوَثَائِقُ النَّبَوِيَّةُ، وَالمَدَائِحُ
النَّبَوِيَّةُ، وَفَضَائِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَلَمْ يُوجَدْ شَخْصٌ فِي تَارِيخِ البَشَرِ وُصِفَ لَنَا بِدِقَّةٍ، وَنُقِلَتْ لَنَا أَخْبَارُهُ وَأَحْوَالُهُ بِالتَّفْصِيلِ كَمَا وُصِفَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَالكُتُبُ المُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أُلِّفَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي عُلُومِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ رُبَّمَا
تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ كِتَابٍ، فَكَيْفَ إِذَا جُمِعَتِ المُصَنَّفَاتُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ.
وَأَشْهَرُ مَنْ صَنَّفَ فِي عِلْمِ الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ الإِمَامُ الحَافِظُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ (209 - 279). وَقَدْ اعْتَنَى العُلَمَاءُ بِرِوَايَةِ كِتَابهِ وَسَمَاعِهِ، فَقُرِئَ وَدُرِسَ، وَمَرَّتْ قُرُونٌ وَلَمْ يَنْدَرِسْ، وَأُلِّفَ عَلَيْهِ كُلُّ شَرْحٍ نَفِيسٍ، وَعُقِدَتْ لَهُ مَجَالِسُ السَّمَاعِ وَالتَّدْرِيسِ. وَقَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ تَعَالَى بِإِقْرَائِهِ دِرَايَةً مَعَ الشَّرْحِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَرِوَايَةً مَعَ الضَّبْطِ نَحْوَ عِشْرِينَ مَرَّةً.
وَقَدْ تَلَمَّسْتُ خِلَالَ تَدْرِيسِهِ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى كِتَابٍ جَدِيدٍ سَهْلٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أُسْتَاذٍ. فَكِتَابُ الإِمَامِ التِّرْمِذِيِّ كِتَابٌ جَلِيلُ القَدْرِ، لَكِنَّهُ وُضِعَ لِلْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ، وَلَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا إِذَا تَمَّتْ دِرَاسَتُهُ عَلَى الشُّيُوخِ، أَوْ قُرِئَ مَعَ شَرْحٍ. وَمَا كُلُّ قَارِئٍ يَجِدُ الوَقْتَ لِذَلِكَ. وَمِنْ هُنَا نَشَأَتْ فِكْرَةُ وَضْعِ كِتَابٍ جَدِيدٍ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأُمَّةُ فِي هَذَا العَصْرِ هُوَ مَعْرِفَةُ أخْلاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَمَائِلِهِ، فَهِيَ مِفْتَاحُ المَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ وَالتَّعْظِيمِ وَالِاقْتِدَاءِ.
وَلَعَلَّ أَوْسَعَ كِتَابٍ أَلَّفَهُ الأَقْدَمُونَ فِي شَمَائِلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ هُوَ كِتَابُ الأَنْوَارِ فِي شَمَائِلِ النَّبِيِّ المُخْتَارِ صلى الله عليه وسلم تَأْلِيفُ الإِمَامِ رُكْنِ الدِّينِ مُحْيِي السُّنَّةِ الحُسَيْنِ بْنِ مَسْعُودٍ البَغَوِيِّ الفَرَّاءِ المُتَوَفَّى سَنَةَ 516 هِجْرِيَّةً، فَقَدَ حَوَى 1257 حَدِيثًا. وَقَدْ عَلَّقَ عَلَيْهِ العَلَّامَةُ الوَالِدُ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ اليَعْقُوبِيُّ رحمه الله وَخَرَّجَ أَحَادِيثَهُ، وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ خِلَالَ تَصْحِيحِ تَجَارِبِ الطَّبْعِ، وَتُوُفِّيَ
رَحِمَهُ اللهُ قَبْلَ صُدُورِهِ، فَأَعْدَدْتُ فَهَارِسَهُ وَقَدَّمْتُ لَهُ، وَقَرَأْتُهُ خِلَالَ ذَلِكَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. وَقَدْ نَشَرَتْهُ دَارُ الضِّيَاءِ بِدِمَشْقَ سَنَةَ 1409 وَأَعَادَتْ نَشْرَهُ دَارُ المَكْتَبِيِّ بِدِمَشْقَ أَيْضًا سَنَةَ 1420.
وَصَدَرَتْ مُنْذُ ذَلِكَ الوَقْتِ عِدَّةُ مُصَنَّفَاتٍ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالشَّمَائِلِ وَالفَضَائِلِ وَالدَّلَائِلِ كَانَتْ حَبِيسَةَ خَزَائِنِ المَخْطُوطَاتِ، مِمَّا أَتَاحَ لِلْمُشْتَغِلِينَ بِهَذِهِ العُلُومِ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُنُوزٍ مِنَ المُصَنَّفَاتِ فِي الجَنَابِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ. وَقَدِ اسْتَفَدْنَا مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ المُصَنَّفَاتِ عِنْدَ جَمْعِ هَذَا الكِتَابِ.
وَمِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا أَنَّهُ أَكْرَمَنَا حَالَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ بِتَحَمُّلِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ عَنِ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ بِطُرُقِ السَّمَاعِ وَالعَرْضِ وَالإِجَازَةِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. وَقَدِ اتَّصَلَتْ أَسَانِيدُنَا بِمَشَاهِيرِ الحُفَّاظِ بِطُرُقٍ مَتِينَةٍ عَالِيَةٍ. فَقَدْ قَرَأْتُ مُعْظَمَ الكُتُبِ السِّتَّةِ وَالمُوَطَّأَ بِرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ وَرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَالشَّمَائِلَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرَهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ المُشَرَّفَةِ عَلَى وَالِدِي عَلَّامِةِ الشَّامِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ اليَعْقُوبِيِّ (1343 - 1406). وَأَجَازَنِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مِرَارًا إِجَازَةً عَامَّةً بِالرِّوَايَةِ، وَإِجَازَةً خَاصَّةً بِالدِّرَايَةِ وَالأَهْلِيَّةِ لِلتَّدْرِيسِ وَالإِفْتَاءِ، وَهِيَ الإِجَازَةُ المُعْتَبَرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا المُعَوَّلُ، فَإِنَّ الإِجَازَةَ بِالرِّوَايَةِ لَيْسَتْ شَهَادَةً بِالأَهْلِيَّةِ، وَكَمْ رَأَيْنَا مِنَ المُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ فِي هَذَا العَصْرِ مِمَّنْ يَتَفَاخَرُ بِرِوَايَةِ الحَدِيثِ وَنَيْلِ الإِجَازَاتِ، ثُمَّ إِذَا قَرَأَ الحَدِيثَ لَحَنَ فِيهِ.
وَقَدْ أَجَازَنِي بِالرِّوَايَةِ سِوَى العَلَّامَةِ الوَالِدِ بِاسْتِجَازَتِهِ رحمه الله لِي جَمْعٌ مِنْ كِبَارِ العُلَمَاءِ، مِنْ أَعْلَاهُمْ رُتْبَةً وَإِسْنَادًا: مُفْتِي المَالِكِيَّةِ فِي الشَّامِ السَّيِّدُ مُحَمَّدٌ المَكَّيُّ الكَتَّانِيُّ (1312 - 1393) وَالعَلَّامَةُ الأَدِيبُ الشَّيْخُ زَيْنُ العَابِدِينَ الحُسَيْنِيُّ التُّوْنُسِيُّ (1305 - 1397) وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ وَفَا القَصَّابُ (1322 - 1397) وَشَيْخُ قُرَّاءِ حِمْصَ وَأَمِينُ الفَتْوَى فِيهَا العَلَّامَةُ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيزِ عُيُونُ السُّودِ (1335 - 1399) وَمُفْتِي الحَنَفِيَّةِ العَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ أَبُو اليُسْرِ عَابِدِينَ (1307 - 1401) وَالمُسْنِدُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ صَالِحٌ الخَطِيبُ (1313 - 1401) وَأَمِينُ الفَتْوَى فِي لُبْنَانَ الشَّيْخُ مُخْتَارٌ العَلَايِلِيُّ (1316 - 1404) وَالمُعَمَّرُ الصَّالِحُ الشَّيْخُ عُمَرُ الحِمْصِيُّ (1292 - 1405) وَالعَلَّامَةُ المَشْهُورُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ صَالِحٌ الفَرْفُورُ (-1406) وَالعَارِفُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ البُودِيْلِمِيُّ التِّلِمْسَانِيُّ (-1408).
وَقَدْ بَسَطْتُ بَعْضَ أَسَانِيدِنَا إِلَى أَشْهَرِ الأَثْبَاتِ فِي ذَيْلِ هَذَا الكِتَابِ، لِيَعْرِفَ العُلَمَاءُ وَالطَّلَبَةُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّوَايَةَ عَنَّا طُرُقَ اتِّصَالِنَا بِالأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَارُ الإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ:«الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلَا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ» . وَيَقُولُ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: «هَذَا الحَدِيثُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» . وَقَدْ خَتَمَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ كِتَابَهُ الشَّمَائِلَ بِهَذَا الحَدِيثِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَإِذْ أَضَعُ هَذَا الكِتَابَ بَعْدَ أَنْ تَمَّ بَيْنَ أَيْدِي المُحِبِّينَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي أَشْكُرُ اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ مِنْ إِنْجَازِ هَذَا الكِتَابِ، وَأَشْكُرُ كُلَّ مَنْ سَاعَدَ عَلى تَنْضِيدِهِ وَتَصْحِيحِهِ وَطَبْعِهِ وَنَشْرِه. وأَسْأَلُ اللهَ سبحانه وتعالى أَنْ يَتَكَرَّمَ عَلَيَّ بِقَبُولِه، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ كُلَّ مَنْ قَرَأَهُ وَنَظَرَ فِيهِ وَدَرَّسَهُ، وَأَنْ يُعِينَنِي وَإِيَّاكَ أَيُّهَا القَارِئُ الكَرِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ، وَأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا جَمِيعًا بِرُؤْيَتِهِ، وَأَنْ يَسْقِيَنَا جَمِيعًا مِنْ حَوْضِهِ الشَّرِيفِ شَرْبَةً هَنِيئَةً لَا نَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا شَفَاعَتَهُ وَمُرَافَقَتَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى مِنَ الجَنَّةِ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ لِلّاهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَكُتِبَ فِي الرِّبَاطِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ صَفَرِ الخَيْرِ سَنَةَ 1439
المُؤَلِّفُ
مُحَمَّدٌ أَبُو الهُدَى اليَعْقُوبِيُّ