المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج شيخ الإسلام فيدفع شبهات الروافض - شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن ناصبيا

[سليمان الخراشي]

الفصل: ‌منهج شيخ الإسلام فيدفع شبهات الروافض

‌منهج شيخ الإسلام في

دفع شبهات الروافض

ص: 45

علمنا أن شيخ الإسلام يواجه كتاباً قد ألفه رجل من طائفة جاهلة ظالمة قد عرف أفرادها بالكذب المختلق لا يفوقهم فيه أحد، فهذا الرافضي قد حشد أكاذيبه في هذا الكتاب من جهتين: من جهة الغلو في علي رضي الله عنه بشتى الأكاذيب والموضوعات، ومن جهة الطعن في الصحابة الآخرين رضي الله عنهم فصاحب هذا الكتاب مندفع بحماسة إلى تقرير مذهبه الباطل بأي وسيلة، ولو كانت الافتراءات والأكاذيب.

وشيخ الإسلام أمام سيل جارف من الغلو المكذوب في علي رضي الله عنه وأمام حمم متدفقة من الأكاذيب في سبيل الطعن في الصحابة - رضوان الله عليهم - فماذا يصنع؟

إن المتأمل لهذه الظروف التي عاشها شيخ الإسلام أمام هذا الكتاب يجد أن له خيارين:

الخيار الأول: وهو المشهور عند العلماء وأصحاب التآليف: هو أن يقوم شيخ الإسلام بدفع الطعون عن الصحابة ببيان كذبها وأنها مختلقة، فكلما رمى الرافضي بشبهة أو طعن على صحابي قام شيخ الإسلام بردها أو برده بكل اقتدار لينفيه عن هذا الصحابي. هذا هو الخيار الأول، وهو في ظني الخيار الذي كان الحافظ ابن حجر يريد لشيخ الإسلام أن يسلكه مع الرافضي.

وهو خيار جيد ومقبول لو كان الخصم غير الرافضي، أي لو كان الخصم ممن يحتكمون في خلافاتهم إلى النقل الصحيح أو العقل الصريح، أما مع الرافضي فإن هذا الأسلوب لا يجدي، ولن

ص: 47

يكف بأسه عن أعراض الصحابة، فإنك مهما أجدت في رد الشبهة أو الطعن فإنه لن يقتنع بذلك أبداً - كما علم من طريقة القوم - ومهما أفنيت عقلك وجهدك في دفع أكاذيبه فإنه لن يألو جهداً في اختلاف غيرها من الأكاذيب.

إذاً فهذا الخيار الأول لن يثني الرافضي عن هدفه من النيل من الصحابة - رضوان الله عليهم -

نعم هو سينفع أهل السنة، ولكنه لن يضر الروافض ولن يسكتهم.

الخيار الثاني: وهو الذي اختاره شيخ الإسلام لأنه يراه ذا مفعول فعال في مواجهة أكاذيب الروافض وغلوهم المستطير وهذا الخيار يرى أن أجدى طريقة لكف بأس الروافض هو مقابلة شبهاتهم بشبهات خصومهم من الخوارج والنواصب، أي مقابلة هذا الطرف بذاك الطرف المقابل له، ليخرج من بينهما الرأي الصحيح الوسط.

فكلما قال الرافضي شبهة أو طعناً في أحد الخلفاء الثلاثة - أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قابلها شيخ الإسلام بشبهة مشابهة للنواصب والخوارج في علي رضي الله عنه.

وهو لا يقصد بهذا تنقص على رضي الله عنه والعياذ بالله، وإنما يقصد إحراج الروافض، وكفهم عن الاستمرار في تهجمهم على الصحابة، لأنه ما من شئ من الطعون والتهم

ص: 48

سيثبتونه على واحد من الصحابة إلا وسيثبت الخوارج والنواصب مماثلاً له في علي رضي الله عنه.

وهذا مما يخرس ألسنة الروافض، لأنهم في النهاية سيضطرون إلي أن تضع حربهم على الصحابة أوزارها عندما يرون شبههم وأكاذيبهم تقابل بما يناقضها في على رضي الله عنه فعندها سيبادرون إلى أن يختاروا السلم وعدم ترديد الشبهات حفاظاً على مكانة علي أن يمسها أحد بسوء.

فهذه (حيلة) ذكية من شيخ الإسلام ضرب بها النواصب بالروافض ليسلم من شرهم جميعاً، وهذا ما لم يفهمه أو تجاهل عنه من بادر باتهامه بتلك التهمة الظالمة.

وشيخ الإسلام - أيضاً - يعلم أن الروافض والنواصب جميعاً أصحاب كذب وغلو، ولكنه يقابل غلو هؤلاء وكذبهم بغلو أولئك وكذبهم، ليسكت الجميع ويدفعهم عن الخوض في أعراض الصحابة.

فطريقة شيخ الإسلام أنه رأى قوماً يغلون في شخص من الأشخاص، ويتنقصون من يكون مثله أو أفضل منه، أن يقابل هؤلاء بمن يناقضهم في القول لكي يدفع الغلو عن الشخصين الفاضلين جميعاً.

وهذا مما قد تقرر عند علماء السنة ولم يستنكروه.

وأما أهل الباطل من الغلاة فإنهم يتهمون كل من لم يكن

ص: 49

على مثل غلوهم بأنه عدو لذاك الفاضل.

يقول العلامة المعلمي في كتابه " التنكيل ":

(ومن أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفضل ومعاداتهم، ويرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو، لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره، ومقتهم الجمهور وأوذوا، فثبطهم هذا عن الانكار، وخلا الجو للشيطان، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين)

قلت: وأما شيخ الإسلام فإنه لم يأبه لتلك الاتهامات التي يلمز بها أهل الباطل كل من لم يكن على طريقتهم في الغلو، وإنما كان رحمه الله ينزل كل إنسان منزلته التي أنزله الله تعالى.

وكان كثيراً ما يجري المقارنات بين الأشخاص الذين غلا فيهم قوم، وجفا عنهم آخرون، فيصد غلو هؤلاء بجفاء أولئك، ويخرج من بينهما الرأي الصحيح في ذا ك الشخص الفاضل.

ص: 50

فهذه الطريقة تميز بها شيخ الإسلام، ولم يستخدمها مع على رضي الله عنه والخلفاء الثلاثة كما يعتقد أعداؤه، وإنما هي طريقة مطردة له رحمه الله في كل موقف مشابه.

فمن ذلك أنه رحمه الله عقد مقارنة بين ما ثبت لموسى من فضائل وما ثبت لعيسى عليهما السلام قاصداً من ذلك الرد على النصارى الذين يغلون في عيسى عليه السلام ويحطون من قدر غيره من الأنبياء.

قال رحمه الله (إنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى، فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصعقة) ثم أحياهم الله بعد موتهم، وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنيباء والنصارى يصدقون بذلك.

وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة وأما جعل خشبة يابسة حيواناً تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القدرة وأقدر، فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حياة.

وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء

ص: 51

ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلو أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والمسك وغيرهما، وذكرت له نحواً من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وإن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه.

وأما خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد، فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم)

قلت: إذاً فشيخ الإسلام عندما عقد هذه المقارنة بين موسى وعيسى عليهما السلام وما ثبت لهما من فضائل إنما يريد الرد على من يغلو في عيسى عليه السلام مستغلاً ما ثبت له من خصائص على حساب غيره من الأنبياء، فأراد شيخ الإسلام أن يوقف غلوه هذا ببيان أن ما ثبت لعيسى من خصائص فإنها ثابتة لغيره من الأنبياء، مثلها أو أعظم منها، فلماذا هذا الغلو؟

ص: 52

وهو بهذا الموقف يحفظ لكل أنبياء الله حقوقهم، ويدفع عنهم طعن الطاعنين وازدراء الشانئين، ويصرف عنهم غلو الغالين، ولا يقول عاقل قط بأن صنيع شيخ الإسلام هذا فيه ازدراء وتنقص لعيسى عليه السلام

لأنه رحمه الله لم يتنقصه، وحاشاه أن يفعل ذلك، أو أن يظن به ذلك، وإنما ذب عن عرض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام دون أدنى تعرض لمقام عيسى عليه السلام.

وقارن بين صنيعه رحمه الله مع عيسى وموسى عليهما السلام وقارنه مع صنيعه مع على والخلفاء الثلاثة - رضوان الله عليهم - تجد أن الموقف متشابه وأن منهج شيخ الإسلام واحد لا يتغير أمام غلاة الكفار وغلاة المبتدعة الذين يغلون في شخوص بعض الأنبياء أو بعض الأولياء، ويذمون غيرهم.

قلت: وفي موضع آخر يجري شيخ الإسلام مقارنة بين موسى وعيسى عليهما السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم وذلك رداً على اليهود والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى عليهما السلام ولا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الشيخ: (إن الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى، ومعجزاته أعظم من معجزات غيره، والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره، والشريعة التي جاء بها

ص: 53

أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا. ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن مثله وأكمل منه ، وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل، فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى، وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا، لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك، فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجل الناس وأضلهم، أو أعظمهم عناداً واتباعاً لهواه)

قلت: تأمل قوله: (فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى)

إذا تأملت هذه العبارة تبين لك بوضوح منهج شيخ الإسلام المطرد في مثل هذه المواضع التي يعظم فيها نبي أو صحابي أو ولي على حساب نبي أو صحابي أو ولي آخر، فإنه رحمه الله يلزم ذلك المعظم الجهول أن يعظم الجميع ويثني عليهم وإلا فإنه لا يستقيم له أن يعظم بعضهم ويطعن في بعضهم، لأنه ما من طعن

ص: 54

أو اتهام باطل يمكن أن يوجه لأحدهم إلا سيوجه للآخر مثله أو أعظم منه. لأن النفس الدنيئة لن تعدم مثل هذه الاتهامات الباطلة على الأفاضل، فإذا كان أصحاب الإفك كاليهود مثلاً قد مسوا جانب الله وعظمته في فولهم (يد الله مغلولة) فما ظنك ببني البشر؟ مهما علت منزلتهم.

إذاً: فخلاصة منهج شيخ الإسلام في مثل هذه المقامات التي يمجد فيها شخص على حساب آخر، ويكونان جميعاً من أهل الفضل، أو يكون المطعون فيه أفضل من الممجد كأبي بكر مع على مثلاً، فإن الشيخ رحمه الله يبين لهم أنكم إذا طعنتم في هذا الشخص الفاضل بالطعونات الباطلة فسيأتي قوم مثلكم لا خلاق لهم يطعنون فيمن مجدتموه بنفس طعونكم، فماذا سيكون موقفكم تجاههم؟ إلا الكف عن الأفاضل وإنزالهم منزلتهم التي أرادها الله لهم.

هذا هو منهج شيخ الإسلام، وليس معنى هذا أنه يطعن فيمن مجده الغلاة، لأن هذا الأمر لم يخطر بباله أصلاً، لأنه ينقض شبهة هؤلاء بشبه غيرهم من أهل الباطل، كاليهود مع النصارى، والروافض مع النواصب، ثم يبرز منهج الأسلام أو منهج أهل السنة، كما فعل مع علي رضي الله عنه مثلاً، حيث أكثر من ذكر فضله ومكانته في كتابه " منهاج السنة " الذي يدعي خصومة أنه تنقصه فيه، وما كان لمثل شيخ الإسلام أن يتناقض فوله لا سيما في كتاب واحد ولكن القوم لم يفهموا مقصد شيخ

ص: 55

الإسلام من عباراته تلك فبادروه بتلك التهمة، ولا سيما والنفوس مولعة بالطعن فيمن على صيته وانتشرت تزكيته في الآفاق كشيخ الإسلام الذي لن يعدم حاسداً أو حاقداً فوق كل أرض وتحت أي سماء.

قلت: ومن هذه المقارنات التي يقوم بها شيخ الإسلام للحاجة أنه أجرى مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما ليبين الفرق بين الحفظ وبين الاستنباط فيقول: (وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره، واستنباطه، ومن فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها)

ومن ذلك أيضاً أنه أجرى مقارنة بين صالحي بني آدم وبين الملائكة ليبين رأيه في هذه المسألة التي طال فيها الجدل بين العلماء قبل شيخ الإسلام.

قال رحمه الله: (وأما الصفات التي تتفاضل، فمن ذلك: الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة، وليس للملك أكثر من هذا، وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت

ص: 56

أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين، حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة.

فنقول: غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر، فإن الوحي للرسل على أنحاء، كما قال تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآي حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء) فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه: منها واحد يكون يتوسط الملك. ووجهان أخران ليس للملك فيهما وحي، وأين الملك من ليلة المعراج، ويوم الطور، وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك؟)

قلت: وبهذه الأمثلة السابقة تعلم طريقة شيخ الإسلام ومنهجه الذي يسير عليه في هذه الظروف والقضايا المتشابهة، ومنها قضية الرافضة مع علي رضي الله عنه حيث غلا فيه الروافض ورفعوه فوق مقامه الذي أراده الله له، ولم يكفهم ذلك، بل تنقصوا من يزيدون عليه في الفضل والمرتبة.

ولهذا فشيخ الإسلام رحمه الله في كتابه ساوى بين الروافض وبين النصارى الذين غلوا في عيسى - علية السلام - وتنقصوا غيره من الأنبياء عليهم السلام

يقول شيخ الإسلام في كلام بديع له، يبين فيه منهجه الذي

ص: 57

سبق أن عرفناه، ويدلل عليه بالأمثلة من القرآن، ومن أفعال العلماء السابقين، فتأمله وتدبره فإنه يلخص لك هذه الرسالة كلها.

يقول شيخ الإسلام: (أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله، ولا يغلون فيه غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود. والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وابراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل، كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع على كمحمد بن أبي بكر، والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له، فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي، فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعاً مع اليهودي، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن قدح في نبوته بشئ من الأشياء، لم يمكنه أن يقول شيئاً إلا قال له اليهودي في للمسيح ما هو أعظم من ذلك، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح، وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى، وإن كان القدح في المسيح باطلاً فالقدح في محمد أولى

ص: 58

بالبطلان، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات.

ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية، فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره، فخافوا أن لايسجد للملك إذا دخل، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنياً، ففطن لمكرهم فدخل مستديراً متلقياً لهم بعجزه، ففعل نقيض ما قصدوه، ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين، فقال له: ما قيل في عائشة امرأة نبيكم؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضاً، فقال القاضي: ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذباً: ومريم وعائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارى.

وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور

ص: 59

براءة مريم، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم، فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى.

ومثل هذه المناظر أن يقع التفضيل بين طائفتين، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم، ومساويها أقل وأصغر، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم، كقوله تعالى:(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) ثم قال: (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) ، فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فقال تعالى: هذا كبير، وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.

لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم، بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين، وأدله أحد الصنفين أقوى وأظهر، وشبهته أضعف وأخفى، فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى.

ص: 60

وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة.

وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة - فضلاً عن إمامته - إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان، وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة، فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون علياً أو النواصب الذين يفسقونه: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه، فهذا الكلام إن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهاً مقبولاً فهذا أولى بالتوجه والقبول، لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم، ومن غير أن يضرب أحداً لا بسيف ولا عصا، ولا أعطى أحداً ممن ولاه مالاً، واجتمعوا عليه فلم يول أحداً من أقاربه وعترته، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم، وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك، حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: أتسلب هذا آل أبي بكر؟

ص: 61

قال: كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا. وقال: يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك.

ثم مع هذا لم يقتل مسلماً على ولا يته، ولا قاتل مسلماً بمسلم، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار، حتى شرع بهم في فتح الأمصار، واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان.

فإن جاز للرافضي أن يقول: إن هذا كان طالباُ للمال والرياسة، أمكن الناصبي أن يقول: كان علي ظالماً طالباً للمال والرياسة، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضاً ولم يقاتل كافراَ، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم.

فإن جاز أن يقال: علي كان مريداً لوجه الله، والتقصير من غيره من الصحابة، أو يقال: كان مجتهداً مصيباً وغيره مخطئاً مع هذه الحال، فأن يقال: كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين، والرافضة مقصرون في معرفة حقهم، مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى، فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك، وشبهة الخوارج الذين ذموا علياً وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وعثمان وكفروهم، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه؟ فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أولئك قالوا: ما

ص: 62

يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمناه، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالماً، وليس علينا أن نبايع عاجزاً أو ظالماً.

وهذا الكلام إذا كان باطلاً، فبطلان قول من يقول: إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة أبطل وأبطل، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمراً على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم، أو أنه إله أو نبي، بل أين شبهة الذين رأوا أن يولو معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك.

ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان على وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه: لا نسلم أنه كان مؤمناً بل كان كافراً أو ظالماً - كما يقولون هم في أبي بكر وعمر - لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل.

فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار، فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعي النفاق،

ص: 63

وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها.

وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان، أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول: كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد بينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة، حتى سعي في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضاً له وعداوة، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة، وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية، فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك، وإلا فكان في الباطن معهم، ولهذا كانت الباطنية من أتباعه، وعندهم سره، وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه.

ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة، لأن شبه الرافضة أظهر فساداً من شبه الخوارج والنواصب، والخوارج أصح منهم عقلاً وقصداً، والرافضة أكذب وأفسد ديناً.

وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه.

قيل لهم: القرآن عام، وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعي اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر، فباب الدعوى بلا حجة ممكنة، والدعوى في فضل الشيخين أمكن

ص: 64

منها في فضل غيرهما.

وإن قالوا: ثبت ذلك بالنقل والرواية، فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر، فإن ادعوا تواتراً فالتواتر هناك أصح، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر.

ثم هم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفراً قليلاً، فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد؟ ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم، فطريق النقل مقطوع علهيم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين.

وهذا كمن أراد إن يثبت فقه ابن عباس دون علي، أو فقه أبن عمر دون أبيه، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشئ حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل) .

قلت: ويقول شيخ الإسلام - أيضاً -

(والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع، فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة، تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا، والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً فيظهر جهلهم وتناقضهم، كاليهودي

ص: 65

والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى، مع قدحه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه، فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت بنوة محمد بمثلها أو بما هو أقوى منها، وما شبهة تعرض في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتعرض في بنوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين، أو مدح الشئ وذم ما هو من جنسه، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل)

قلت: وبعد أن عرفنا طريق شيخ الإسلام في دفع شبهات الروافض مما اضطره إلى تلك العبارات التي أسئ فهمها منه لغرض أو لآخر، سأذكر في المباحث التالية ما ينقض تلك الفرية بوضوح من كلام شيخ الإسلام في ذم النواصب، وكلامه في فضل علي رضي الله عنه ثم ذكر المواضع التي حسبوها تنتقص من مكانة على رضي الله عنه مع توجيهها التوجيه الصحيح، لكي لاتحمل على ما لم يرده شيخ الإسلام.

ص: 66