المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا سفينة تحملنا ولا خشبة نتعلق بها - صبرا آل ياسر

[مجدي الهلالي]

الفصل: ‌لا سفينة تحملنا ولا خشبة نتعلق بها

‌لا سفينة تحملنا ولا خشبة نتعلق بها

لو أن ريحًا شديدة، وموجة عاتية قد ضربت سفينة من السفن في ظلام الليل، وبدأت على إثرها تلك السفينة في التأرجح على سطح البحر .. ماذا سيفعل ركابها؟!

بلا شك أنهم جميعًا سيستشعرون الخطر المحدق بهم، ويتوجهون إلى الله بالدعاء والاستغاثة ليصرف عنهم هذه الغُمة، لكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن السفينة قوية ومحصنة، وستقاوم الرياح والأمواج، فإذا ما انكسرت السفينة، وتعلق كل واحد منهم بخشبة في عرض البحر فإنَّ استغاثتهم بالله ستزداد، ومع ذلك يظل وجود الخشبة يجعلهم يأملون أنها قد تحفظ حياتهم لبعض الوقت مما قد يتيح الفرصة لفِرق الإنقاذ أن تصل إليهم، فإذا ما اشتدت الأمواج وأبعدت عن كلٍ منهم خشبته التي يتعلق بها، فماذا تظن أن تكون قوة استغاثتهم بالله؟!

ألا توافقني أنها ستكون أشد وأخلص وأصدق من ذي قبل .. استغاثة حارة من أعماق أعماق قلوبهم؟!

وهذا هو المطلوب من الجميع الآن .. أن نتجه إلى الله ونستغيث به كأشد ما تكون الاستغاثة، فلا سفينة تحملنا، ولا خشبة نتعلق بها ..

لقد أغُلقت الأبواب الأرضية في وجوهنا، وانقطعت الأسباب، وأصبحنا في العراء، فماذا نحن فاعلون؟!

ألم يأن لنا أن نولي وجوهنا شطر ربنا، ونتجه إليه بقلوبنا، ونستغيث به استغاثة المشرف على الغرق؟!

اذكرني عند ربك:

لقد أنسى الشيطان نبي الله يوسف عليه السلام في لحظة من اللحظات هذه الحقيقة فقال لصاحبه الذي كان يتأهب للخروج من السجن، والالتحاق بخدمة الملك:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42].

فكان الرد الإلهي لهذا القول: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].

وكذلك أصحاب الدعوات: إن تعلقت قلوبهم بأحد من الناس فسيكون الرد الإلهي مثلما حدث ليوسف عليه السلام.

ومما يلفت النظر أن سورة يوسف قد نزلت أيام حصار المسلمين في شعب أبي طالب .. نزلت لتؤكد لهم أن الناصر هو الله، وأنه سبحانه يريد منهم تعلقًا تامًا به، وعدم التعلق بالناس، واليأس منهم في أنهم يملكون كشف الضر، وتفريج الكرب، والسورة كذلك نزلت لتؤكد أن الذي مكَّن يوسف عليه السلام هو الله عز وجل، وأن الذي حرك الأحداث في اتجاه هذا التمكين هو الله عز وجل {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].

ص: 7

هذه هي أهم الحقائق التي نزلت سورة يوسف لتؤكدها من خلال سياق الأحداث التي حدثت والنتائج التي تحققت، وحتى لا تُنسى هذه الحقائق في خضم أحداث القصة: جاءت نهاية السورة لتقررها بصورة مباشرة، وتقول لنا بأنه كلما تزلزلت تصوراتنا عن إمكانية وقوع الفرج وانكشاف الضر، ومجيء النصر من أحد دون الله، ويئسنا تمامًا من ذلك، واتجهت القلوب بكليتها إلى ربها، كان الفرج والنصر أقرب مما يتخيله الجميع ومن خلال أهون الأسباب {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].

هل نترك الأسباب؟!

وليس معنى هذا هو ترك الأخذ بالأسباب، وعدم بذل الجهد مع الناس، أو الانفصال عنهم، بل المقصد هو عدم التعلق القلبي بهم، أو الاعتقاد بأنهم يملكون كشف الضر عنا، أو أنهم يملكون القدرة على فك الحصار عن الدعوة ولو يسيرًا .. فالأمر كله لله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: 17].

إن إقامة المشروع الإسلامي والتمكين لدين الله في الأرض لن يتم إلا من خلال التعلق التام بالله عز وجل، مع بذل غاية الجهد واستنفاد جميع الأسباب المتاحة، ومد جسور التعاون مع الجميع، وكيف لا ونحن مأمورون بذلك:{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].

فالأخذ بالأسباب المشروعة جزء من شريعة الله، وجزء كذلك من قدر الله، وحين يتركها أهل الدعوة فهم مقصرون في أداء واجبهم، وفي نفس الوقت عليهم - مع بذلهم لعظيم الجهد واستنفادهم لجميع الأسباب المتاحة أمامهم - أن تكون قلوبهم متعلقة تمام التعلق بالله عز وجل من حيث كونه - سبحانه - هو مالك هذا الكون والمتصرف فيه، وأن الأمر كله بيده وأنه هو وحده القادر على كشف الضر وتفريج الكرب، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تضر الدعوة بشيء لم يأذن به الله فلن يتم لها ما أرادت {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102].

جهد البشر:

ومع التأكيد القرآني الدائم على أن الناصر هو الله، وأن كاشف الضر، وفارج الكرب هو الله، وأن الذي يمكن للعباد هو الله، إلا أنه يؤكد أيضًا على أن الفرج والنصر وكشف الضر يحتاج إلى ستار من الأسباب يتنزل عليه .. تأمل معي قوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15].

إن هذا الدين لن يقام إلا بجهد الفئة المؤمنة، وجهادها المرير، واستنفادها لجميع الأسباب المتاحة أمامها، مع يقينها بأن هذا كله لا يشكل سوى ستارًا يستدعي قدر الله بالنصر والتمكين، ولو تعلقت قلوب الفئة المؤمنة بهذا الستار ولو يسيرًا لتأخر الفرج والنصر حتى يخلص تعلقها بالله وحده.

ص: 8