المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الثانية: قدّم الإِضلال على الهداية {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ - صفوة التفاسير - جـ ١

[محمد علي الصابوني]

الفصل: الثانية: قدّم الإِضلال على الهداية {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ

الثانية: قدّم الإِضلال على الهداية {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفتُّ في أعضادهم، وأوثرت صيغة الاستقبال إِيذاناً بالتجدد والاستمرار، أفاده العلامة أبو السعود.

الثالثة: قال ابن جزي في التسهيل: وهذه الآية {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله تعالى {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر تكون {ثُمَّ} لترتيب الأخبار.

ص: 40

المنَاسَبَة: لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإِحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكّرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.

اللغَة: {وَإِذْ} ظرف زمان منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر حين أو اذكر وقت، وقد يصرح بالمحذوف كقوله تعالى:{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] قال المبرد: إذا جاء «إِذْ» مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} [الأنفال:‌

‌ 30]

معناه إِذْ مكروا، وإِذا جاء «إِذا» مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} [النازعات: 34] و {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله} [النصر: 1] أي يجيء. {خَلِيفَةً} الخليفة: من يخلف غيره وينوب منابه، فعيل بمعنى فاعل والتاء للمبالغة، سمي خليفة لأنه مستخلف عن الله عز وجل في إجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية قال تعالى {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26] الآية {وَيَسْفِكُ} السفك: الصب والإِراقة لا يستعمل إِلا في الدم قال في المصباح: وسفك الدم: أراقة وبابه ضرب {نُسَبِّحُ} التسبيح: تنزيه الله وتبرئته

ص: 40

عن السوء، وأصله من السَّبْح وهو الجري والذهاب قال تعالى {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] فالمسَبِّح جارٍ في تنزيه الله تعالى {وَنُقَدِّسُ} التقديس: التطهير ومنه الأرض المقدسة، وروح القدس، وضده التنجيس، وتقديس الله معناه: تمجيده وتعظيمه وتطهير ذكره عما لا يليق به وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كان يقول في ركوعه وسجوده «سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكةِ والرُّوح» {أَنْبِئُونِي} أخبروني والنبأ: الخبر الهام ذو الفائدة العظيمة قال تعالى {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67]{تُبْدُونَ} تظهرون {تَكْتُمُونَ} تخفون ومنه كتم العلم أي اخفاؤه.

التفِسير: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدمآء} أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظم أمرك ونطهرّ ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون {قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} أي أسماء المسمّيات كلها قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة {عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أي أخبروني {بِأَسْمَآءِ هؤلاء} أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أنكم الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَآ} أي ننزهك يا ألله عن النقص ونحن لا علم لنا إلا ما علمتنا إِياه {الحكيم} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها {فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السماوات والأرض عنكم {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي ما تظهرون {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم، روي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام، رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.

ص: 41

البَلَاغَة: 1 - التعرض بعنوان الربوبية {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} مع الإضافة إلى الرسول عليه السلام للتشريف والتكريم لمقامه العظيم وتقديم الجار والمجرور {لِلْمَلَائِكَةِ} للاهتمام بما قُدّم، والتشويق إلى ما أُخّر.

2 -

الأمر في قوله تعالى {أَنْبِئُونِي} خرج عن حقيقته إِلى التعجيز والتبكيت.

3 -

{فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} فيه مجاز بالحذف والتقدير: فأنبأهم بها فلما أنبأهم حذف لفهم المعنى.

4 -

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} هو من باب التغليب لأن الميم علامة الجمع للعقلاء الذكور، ولو لم يغلّب لقال {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أو عرضهن.

5 -

إِبراز الفعل في قوله {إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات} ثم قال {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} للإِهتمام بالخبر والتنبيه على إِحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإِطناب.

6 -

تضمنت آخر هذه الآية من علم البديع ما يسمى ب «الطباق» وذلك في كلمتي {تُبْدُونَ} و {تَكْتُمُونَ} .

الفوَائِد: الأولى: قال بعض العلماء: في إِخبار الله تعالى للملائكة عن خلق آدم واستخلافه في الأرض، تعليمٌ لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها.

الثانية: الحكمة من جعل آدم عليه السلام خليفة هي الرحمة بالعباد - لا لافتقار الله - وذلك أن العباد لا طاقة لهم على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، ولا بواسطة مَلَك، فمن رحمته ولطفه وإِحسانه إِرسال الرسل من البشر.

الثالثة: قال الحافظ ابن كثير: وقول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية ليس هذا على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، وإِنما هو سؤال استعلام واستكشاف عين الحكمة في ذلك، يقولون: ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض؟ وقال في التسهيل: وإِنما علمت الملائكة أن بني آدم يفسدون بإِعلام الله إِياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنٌ فأفسدوا، فبعث الله إِليهم ملائكة فقتلتهم، فقاس الملائكة بني آدم عليهم.

الرابعة: سئل الشعبي: هل لإِبليس زوجة؟ قال: ذلك عرسٌ لم أشهده؟ قال: ثم قرأتُ قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} [الكهف: 50] فعلمت أنه لا يكون له ذرية إِلا من زوجة، فقلت: نعم.

ص: 42

المنَاسَبَة: أشارت الآيات السابقة إلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف والتكريم لهذا النوع الإنساني ممتلأ في أصل البشرية آدم عليه السلام.

اللغَة: {اسجدوا} أصل السجود: الانحناء لمن يُسجد له والتعظيم، وهو في اللغة: التذلل والخضوع، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض {إِبْلِيسَ} اسم للشيطان وهو أعجمي، وقيل إنه مشتق من الإِبلاس وهو الإياس {أبى} امتنع، والإِباء: الامتناع مع التمكن من الفعل {واستكبر} الاستكبار: التكبر والتعاظم في النفس {رَغَداً} واسعاً كثيراً لا عناء فيه، والرغد: سعة العيش، يقال: رغد عيش القوم إِذا كانوا في رزقٍ واسع قال الشاعر:

بينما المرء تراه ناعماً

يأمن الأحداث في عيشٍ رغد

{فَأَزَلَّهُمَا} أصله من الزلل وهو عثور القدم يقال: زلت قدمه أي زلقت ثم استعمل في ارتكاب الخطيئة مجازاً يقال: زلّ الرجل إِذا أخطأ وأتى ما ليس له إتيانه، وأزله غيره: إِذا سبّب له ذلك {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار {وَمَتَاعٌ} المتاع ما يتمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوه {فتلقى} التلقي في الأصل: الاستقبال تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم، ثم استعمل في أخذ الشيء وقبوله تقول: تلقيت رسالة من فلان أي أخذتها وقبلتها {فَتَابَ} التوبة في أصل اللغة الرجوع، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإِذا عديت بعلى كان معناها قبول التوبة.

التفِسير: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة {اسجدوا لأَدَمَ} أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ} أي سجدوا جميعاً له غير إبليس {أبى واستكبر} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} أي أسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً} أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه {وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي لا تأكلا من هذه الشجرة قال ابن عباس: هي الكرمة {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أي فتصيروا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله {

ص: 43

فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم الجنة {وَقُلْنَا اهبطوا} أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله

{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6]{وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبل آدم دعوات من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الآية: 23] الآية {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قبل ربه توبته {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أي إِن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً} كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.

البَلَاغة: أولاً: صيغة الجمع {وَإِذْ قُلْنَا} للتعظيم، وهي معطوفة على قوله {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30] وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لتربية وإظهار الجلالة.

ثانياً: أفادت الفاء في قوله {فَسَجَدُواْ} أنهم سارعوا في الامتثال ولم يتثبطوا فيه، وفي الآية إيجاز بالحذف أي فسجدوا له وكذلك {أبى} مفعوله محذوف أي أبى السجود.

ثالثاً: قوله {وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة} المنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهي بالقرب منها {وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة} لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ كقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] فنهى عن القرب من الزنى ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه.

رابعاً: التعبير بقوله {مِمَّا كَانَا فِيهِ} أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات مما لو قيل: من النعيم أو الجنة، فإن من أساليب البلاغة في الدولة على عظم الشيء أن يعبّر عنه بلفظ مبهم نحو {مِمَّا كَانَا فِيهِ} لتذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إِليه.

خامساً: {التواب الرحيم} من صيغ المبالغة أي كثير التوبة واسع الرحمة.

الفوَائِد: الأولى: كيف يصح السجود لغير الله؟ والجواب أن سجود الملائكة لآدم كان للتحية وكان سجود تعظيم وتكريم لا سجود صلاةٍ وعبادة، قال الزمخشري: السجود لله تعالى على سبيل

ص: 44

العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم، ويعقوب وأبناؤه ليوسف.

الثانية: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإِخراج من دار الكرامة لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية فقال

{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] وقال الشاعر:

وإِذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ

جاءت محاسنة بألف شفيع

الثالثة: هل كان إِبليس من الملائكة؟ الجواب: اختلف المفسرون على قولين: ذهب بعضهم إِلى أنه من الملائكة بدليل الاستثناء {فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ} وقال آخرون: الاستثناء منقطع وإِبليس من الجن وليس من الملائكة وإِليه ذهب الحسن وقتادة واختاره الزمخشري، قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين، ونحن نرجح القول الثاني للأدلة الآتية: 1 - الملائكة منزهون عن المعصية {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وإِبليس قد عصى أمر ربه 2 - الملائكة خلقت من نور وإِبليس خلق من نار فطبيعتهما مختلفة 3 - الملائكة لا ذرية لهم وإِبليس له ذرية {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} [الكهف: 50] ؟ 4 - النص الصريح الواضح في سورة الكهف على أنه من الجن وهو قوله تعالى {إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ} [الآية: 50] وكفى به حجة وبرهاناً.

ص: 45

المنَاسَبَة: من بداية هذه الآية إلى آية /142/ ورد الكلام عن بني إسرائيل، وقد تحدث القرآن الكريم بالإِسهاب عنهم فيما يقرب من جزءٍ كامل، وذلك يدل على عناية القرآن بكشف حقائق اليهود، وإِظهار ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من خبثٍ وكيد وتدمير حتى يحذرهم المسلمون، أما وجه المناسبة فإِن الله تعالى لما دعا البشر إِلى عبادته وتوحيده، وأقام للناس الحجج الواضحة على وحدانيته ووجوده، ثم ذكّرهم بما أنعم به على أبيهم آدم عليه السلام، دعا بني إِسرائيل خصوصاً - وهم اليهود - إِلى الإِيمان بخاتم الرسل وتصديقه فيما جاء به عن الله، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد تفنّن في مخاطبتهم فتارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بالتخويف، وتارة بالتذكير بالنعم عليهم وعلى آبائهم، وأخرى بإقامة الحجة والتوبيخ على سوء أعمالهم وهكذا انتقل من التذكير بالنعم العامة على البشرية في تكريم أبي الإِنسانية، إلى التذكير بالنعم الخاصة على بني إسرائيل.

اللغَة: اسم أعجمي ومعناه: عبد الله وهو اسم {يعقوب} عليه السلام، وقد

ص: 45

صرَّح به آل عمران {إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} [الآية: 93]{وَأَوْفُواْ} الوفاء: الإِتيان بالشيء على التمام والكمال، يقال أوفى ووفّى أي أداه وافياً تاماً. {تَلْبِسُواْ} اللَّبْس: الخلط تقول العرب: لبَسْتُ الشيء بالشيء خلطته، والتبس به اختلطَ، قال تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وفي المصباح: لَبِسَ الثواب من باب تعب لُبْساً بضم اللام، ولَبَسْتُ عليه الأمر لَبْساً من باب ضرب خلطته، والتبس الأمر: أشكل. {الزكاة} مشتقة من زكا الزرع يزكو أي نما لأن إخراجها يجلب البركة، أي هي من الزكاة أي الطهارة لأنها تطهر المال قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 106] .

التفسير: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى {وَأَوْفُواْ بعهدي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {وَإِيَّايَ فارهبون} أي اخشوني دون غيري {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ} من القرآن العظيم {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة {وَلَا تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن {وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية {وَإِيَّايَ فاتقون} أي خافون دون غيري {وَلَا تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالهتان الذي تفترونه {وَتَكْتُمُواْ الحق} أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه السلام {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين} أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه السلام.

البَلَاغة: أولاً: في إِضافة النعمة إِليه سبحانه {نِعْمَتِيَ} إِشارة إِلى عظم قدرها، وسعة بِرّها، وحسن موقعها لأن الإِضافة تفيد التشريف كقوله {بَيتُ الله} و {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73] .

ثانياً قوله {وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي} الشراء هنا ليس حقيقياً بل هو على سبيل الاستعارة كما تقدم في قوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] .

ثالثاً: تكرير الحق في قوله {تَلْبِسُواْ الحق} وقوله {وَتَكْتُمُواْ الحق} لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح ما ليس في الضمير من التأكيد ويسمى هذا الإِطناب أضعف من سواه.

رابعاً: قوله {واركعوا مَعَ الراكعين} هو من باب تسمية الكل باسم الجزء أي صلوا مع المصلين أطلق الركوع وأراد به الصلاة ففيه مجاز مرسل.

خامساً: {وَإِيَّايَ فارهبون} و {وَإِيَّايَ فاتقون} يفيد الاختصاص.

فَائِدَة: قال بعض العارفين: عبيد النّعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إِسرائيل بنعمه عليهم، حتى يعرفوا نعمة المنعم فقال {اذكروا نِعْمَتِيَ} وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ فقد

ص: 46

ذكّرهم بالمنعم فقال {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ليتعرفوا من المنعم على النعمة وشتان بين الأمرين.

ص: 47

اللغَة: {بالبر} البِرُّ: سعة الخير والمعروف ومنه البرُّ والبِّرية للسعة، وهو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وفي الحديث «البِرُّ لا يبلى والذنب لا ينسى» {وَتَنْسَوْنَ} : تتركون والنسيان يأتي بمعنى الترك كقوله {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وهو المراد هنا ويأتي بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة كقوله {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]{تَتْلُونَ} : تقرءون وتدرسون {الخاشعين} الخاشع: المتواضع وأصله من الاستكانة والذل قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه، وخشعت الأصوات: سكنت {يَظُنُّونَ} الظنُّ هنا بمعنى اليقين لا الشك، وهو من الأضداد قال أبو عبيدة: العرب تقول لليقين ظنٌّ، وللشك ظن وقد كثر استعمال الظن بمعنى اليقين ومنه {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] {فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] ، {شَفَاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشَّفع ضد الوتر، وهي ضم غيرك إلى جاهك وسيلتك ولهذا سميت شفاعة، فهي إِذاً إِظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفّع {عَدْلٌ} بفتح العين فداء وبكسرها معناه: المِثْل يقال: عِدْل وعديل للذي يماثلك.

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إِلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.

سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.

التفِسير: يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإيمان بمحمد {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} أي حال كونكم تقرءون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه السلام {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح فترجعون عنه؟! ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {

ص: 47

واستعينوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها {بالصبر والصلاة} أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين {وَإِنَّهَا} أي الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} أي شاقة وثقيلة {إِلَاّ عَلَى الخاشعين} أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله {الذين يَظُنُّونَ} أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك {أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي معادهم إِليه يوم الدين. ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي فضلت آباءكم {عَلَى العالمين} أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء {واتقوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.

ثانياً: أتى بالمضارع {أَتَأْمُرُونَ} وإِن كان قد وقع ذلك منهم لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث، وعبّر عن ترك فعلهم بالنسيان {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} مبالغة في الترك فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلقه بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة، ولا يخفى ما في الجملة الحالية {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} من التبكيت والتقريع والتوبيخ.

ثالثاً: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فلما قال {اذكروا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] عمَّ جميع النعم فلما عطف {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} كان من باب عطف الخاص على العام.

رابعاً: {واتقوا يَوْماً} التنكير للتهويل أي يوماً شديد الهول، وتنكير النفس {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} ليفيد العموم والإقناط الكلي.

الفوَائِدَ: الفائدة الأولى: قال القرطبي: إِنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها وقد كان عليه السلام إِذ حزبه (أغمّه) أمرٌ فَزَع إلى الصلاة، وكان يقول:«أرحنا بها يا بلال»

الثانية: قال علي كرم الله وجهه: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك» ومن دعا غيره إِلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه قال الشاعر:

ابدأُ بنفسك فانهها عن غيّها

فإِذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إِن وعظتَ ويقتدى

بالرأي منك وينفع التعليم

وقال أبو العتاهية:

وصفتَ التُّقَى حتَّى كأَنَّك ذو تُقَى

وريحُ الخطايا من ثيابك تَسْطَع

ص: 48

وقال آخر:

وغيرُ تَقيٍّ يأْمر النَّاسَ

بالتُّقَى طَبيبٌ يداوي النَّاس وهُوَ عليل

ص: 49

المنَاسَبَة: لما قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر. . إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.

اللغة: {آلِ فِرْعَوْنَ} أصل «آل» أهل ولذلك يصغّر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً، وخُصَّ استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، فلا يقال آل الإِسكاف والحجام، {فِرْعَوْنَ} علمٌ لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى ملك الفرس، ولعتو الفراعنة اشتقوا تفرعن إذا عتا وتجبر {يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم من سامه إذا أذاقه وأولاه قال الطبري: يوردونكم ويذيقونكم. {وَيَسْتَحْيُونَ} يستبقون الإناث على قيد الحياة {بلاء} اختبار ومحنة، ويستعمل في الخير والشر كما قال تعالى {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] {فَرَقْنَا} الفرق: الفصل والتمييز ومنه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] أي فصلناه وميزناه بالبيان {بَارِئِكُمْ} الباري هو الخالق للشيء على غير مثال سابق، والبرية: الخلق.

التفِسير: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم} أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم َ إِلا أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} أي يذبحون الذكور من الأولاد {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من جهته تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {

ص: 49

فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون {ثُمَّ اتخذتم العجل} أي عبدتم العجل {مِن بَعْدِهِ} أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.

ثم بيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم {باتخاذكم العجل} أي بعبادتكم للعجل {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {ذلكم} أي القتل {خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أي عظيم المغفرة واسع التوبة.

البَلَاغَة: قال ابن جزي: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} أي يلزمونهم به وهو استعارة من السَّوْم في البيع وفسَّرَ سوء العذاب بقوله {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} ولذلك لم يعطفه هنا.

ثانياً: التنكير في كل من {بلاء} و {عَظِيمٌ} للتفخيم والتهويل.

ثالثاً: صيغة المفاعلة في قوله {وَإِذْ وَاعَدْنَا} ليست على بابها لأنها لا تفيد المشاركة من الطرفين، وإِنما هي بمعنى الثلاثي {وَإِذْ وَاعَدْنَا} .

رابعاً: قال أبو السعود: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} التعرض بذكر البارئ للإِشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم، الذي خلقهم بلطيف حكمته، إِلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة.

الفوَائِد: الأولى: العطف في قوله {الكتاب والفرقان} هو من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة والفرقان هو التوراة أيضاً وحسن العطف لكون معناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل.

الثانية: سبب تقتيل الذكور من بني إِسرائيل ما رواه المفسرون أن فرعون رأى في منامه كأنَّ ناراً

ص: 50