الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة:
{الأنفال}
الغنائم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة وسميت الغنائم به لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان، وتسمى صلاة التطوع نفلاً، وولد الولد نافلة لهذا المعنى قال لبيد:
إنَّ تقوى ربّنا خير نفل
…
وبإذن اللهِ ريثي والعجل
{وَجِلَتْ} الوجل: الخوف والفزع {ذَاتِ الشوكة} الشوكة: السلاح وأصلها من الشَّوك قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة الحد يقال: ما أشدَّ شوكة بني فلان أي حدّهم {تَسْتَغِيثُونَ} الاستغاثة: طلب النصرة والعون {مُرْدِفِينَ} متتابعين يتلو بعضهم بعضاً وردف وأردف بمعنى واحد أي تبع قال الطبري: العرب تقول: أردفته وردِفته بمعنى تبعته وأتبعته قال الشاعر: إِذا الجوزاء أردفت الثريا {بَنَانٍ} البنان: جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين قال عنترة:
{زَحْفاً} الزحف: الدنو قليلاً مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى سعلى أليته قليلاً قليلاً ثم سمي به الجيش الكثير العدد لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف زحفاً {مُتَحَيِّزاً} منضماً يقال: تحيّز أي
انضم واجتمع إِلى غيره {بَآءَ} رجع {مُوهِنُ} مضعف {تَسْتَفْتِحُواْ} استفتح: أي طلب الفتح والنصرة على عدوه.
ب - روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين» فنزلت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى
…
} الآية.
التفِسير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي؟ وكيف تقسم؟ {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} أي قل لهم: الحكم فيها لله والرسول لا لكم {فاتقوا الله} أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله، طاعة رسوله، وإِصلاح ذات البين {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله {إِنَّمَا المؤمنون} أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره، استعظاماً لشأنه، وتهيباً منه جلَّ وعلا {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن وازداد تصديقهم ويقينهم بالله {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه قال في البحر: أخبر عنهم باسم الموصول بثلاث مقامات عظيمة وهي: مقام الخوف، ومقام الزيادة في الإِيمان، ومقام التوكل على الرحمن {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي المتصفون بما
ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي لهم منازل رفيعة في الجنة {وَمَغْفِرَةٌ} أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الكاف يقتضي مشبّهاً قال ابن عطية: شهبت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، والمعنى: حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب وقال الطبري: المعنى: كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعدما تَبيَّن، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صلى الله عليه وسلم َ بعدما تبيّنوه هو القتال {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان، وكان جدالهم هو قولهم: ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} قال البيضاوي: أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إحدى الفرقتين أنها لكم غنية إِما العير أو النفير {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش قال المفسرون:
{وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم قال في البحر: والمعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة، وسلامة الأحوال، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، وإِعلاء الحق، والفوز في الدارين، وشتّان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلانهم، فنصركم
وهزمهم، وأذلهم وأعزكم {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إظهار الإِسلام وإِبطال الكفر {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي ولو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين، روي أن سول الله صلى الله عليه وسلم َ نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة {مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً قال المفسرون: ورد أن جبريل نزل بخمسائة وقاتل بها في يسار الجيش، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَاّ بشرى} أي وما جعل إمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم {وَمَا النصر إِلَاّ مِنْ عِندِ الله} أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} أي يلقي عليكم النوم أمناً من عند سبحانه وتعالى، وهذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رضي الله عنه:
«ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح» قال ابن كثير: وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً} تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجنايات {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش، قال البيضاوي: روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بنصر الله {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل قال الطبري: ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها {إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} أي اضربوهم على الأعناق كقوله {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] وقيل: المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي اضربوهم على أطراف الأصابع قال في التسهيل: وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العذاب الفظيع واقع عيلهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي ومن يخالف أمر الله رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأدبار} أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً {إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب «الحرب خدعة» {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} أي منضماً إلى جماعة المسلمين يستنجد بهم {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} أي فقد رجع بسخطٍ عظيم {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي بئس المرجع والمآل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير قال ابن عباس: أَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين {ولكن الله رمى} أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً} أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأحوالهم {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر، وأقطع للرحم، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} فكان
أبو جهل هو المستفتح {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} أي وإِن تعودوا الحربة وقتاله نعد لنصره عليكم {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي تسمعون القرآن والمواعظ {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم، فسماعهم كلا سماعٍ لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض {الصم البكم} أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به {الذين لَا يَعْقِلُونَ} أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد، وتوجهوا لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم َ مع أبي جهل، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ على عدم إِيمان الكافرين.
البَلَاغَة: 1 - {أولائك هُمُ المؤمنون} الإِشارة بالبعيد عن القريب لعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف.
2 -
{لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} استعار الدرجات للمراتب الرفيعة والمنازل العالية في الجنة.
3 -
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} التشبيه هنا تمثيلي.
4 -
{أَن يُحِقَّ الحَقَّ} بينهما جناس الاشتقاق.
5 -
{ذَاتِ الشوكة} استعيرت الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدّة بينهما.
6 -
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} كناية عن استئصالهم بالهلاك.
7 -
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} صيغة المضارع لاستحضار صورتها الغريبة في الذهن.
8 -
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً} تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر.
9 -
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} الخطاب للمشركين على سبيل التهكم كقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
10 -
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} شبّه الكفار بالبهائم بل جعلهم شراً منها، وذلك منتهى البلاغة ونهاية الإِعجاز، إِذ أن الكافر لا يسمع الحق والبهائم لا تسمع، ولا ينطق به والبهائم لا تنطق، ويأكل والبهائم تأكل، بقي أنه يضر والبهائم لا تضرُّ فكيف لا يكون شراً منها؟
تنبيه: ذكر تعالى في هذه السورة أنه أمدَّ المؤمنين بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدَّهم بثلاثة آلاف، ولا تعارض بن الآيات فإِنه تعالى ذكر هنا لفظ {مُرْدِفِينَ} ومعناه متتابعين فأمدهم أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف والله الموفق.
المناسَبَة: لما ذكر تعالى الكافرين، وشبّههم بالأنعام السارحة لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الله، أمر المؤمنين هنا بالاستجابة لله والرسول، وقبول دعوته التي فيها حياة القلوب، وبها السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
اللغَة: {مُكَآءً} المكاء: الصغير قال أبو عبيدة: والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصراخ والخوار والدُّعاء والنباح {تَصْدِيَةً} التصدية: التصفيق يقال: صدى تصدية إِذا صفق بيديه وأصله من الصَّدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل {فَيَرْكُمَهُ} الركم: الجمع قال الليث: هو أن تجمع الشيء فوق الشيء حتى تجعله ركاماً مركوما كركام الرمل والسحاب {سَلَفَ} مضى {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} عادة الله وسنته في إِهلاك المكذبين من الأمم السالفة {مَوْلَاكُمْ} ناصركم ومعينكم.
سَبَبُ النّزول: أخرج ابن جرير عن الزهري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما حاصر يهود بني قريظة طلبوا الصلح فأمرهم أن ينزلوا على حكم» سعد بن معاذ «فقالوا: أرسل لنا» أبا لبابة «فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إِليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم سعد؟ فأشار إِلى حلقه يعني أنه الذبح، قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فقال: لا والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ فنزلت الآية» {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ الله والرسول
…
.} الآية ثم نزلت توبته.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي أجيبوا دعاء رسوله إِذا دعاكم للإِيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الأبدية قال قتادة: هو القرآن فيه الحياة، والثقة، والنجاة، والعصمة في الدنيا والآخرة {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} أي أنه تعالى المتصرف في جميع الأشياء، يصرّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها، فيفسخ عزائمه، ويغيّر مقاصده، ويلهمه رشده، أو يُزيغ قلبه عن الصراط السوي، وفي الحديث:«يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» قال ابن عباس: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان قال أبو حيان: وفي ذلك حضٌ على المراقبة، والخوف من الله تعالى والمبادرة إِلى الاستجابة له جلَّ وعلا {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وأنه سبحانه إِليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم بأعمالكم {واتقوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} أي احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تعم الجميع، وتصل إِلى الصالح والطالح، لأو الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه وفي الحديث «إِن الناس إِذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده»
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، فيصيب الظالم وغير الظالم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ
العقاب} وهذا وعيد شديد أي شديد العذاب لمن عصاه {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} أي اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن كنتم قلة أذلة يستضعفكم الكفار في أرض مكة فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالأذى والمكروه {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} أي تخافون المشركين أن يختطفوكم بالقتل والسلب، والخطف: الأخذ بسرعة {فَآوَاكُمْ} أي جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وهو المدينة المنورة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أي أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره المؤزر حتى هزمتموهم {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} أي منحكم غنائمهم حلالاً طيبة ولم تكن تحل لأحد من قبل {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة فإِنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم َ في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، فعليهم أن يطيعوا الله ويشكروه على هذه النعمة {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ الله والرسول} أي لا تخونوا دينكم ورسولكم بإِطلاع المشركين على أسرار المؤمنين {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} أي ما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية كقوله {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض} [الأحزاب: 72] الآية قال ابن عباس: خيانة الله سبحانه بترك فرائضه، والرسول صلى الله عليه وسلم َ بترك سنته وارتكاب معصيته، والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أنه خيانة وتعرفون تبعة ذلك ووباله {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده قال الإِمام الفخر: وإِنما كانت فتنة لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجاباً عن خدمة المولى {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابه وعطاؤه خير لكم من الأموال والأولاد فاحرصوا على طاعة الله {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} أي إِن أطعتم الله واجتنبتم معاصيه يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل كقوله {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] وفي الآية دليل على أن التقوى تنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها {والله ذُو الفضل العظيم} أي واسع الفضل عظيم العطاء {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صلى الله عليه وسلم َ بعد تذكير المؤمنين بالنعمة العامة عليهم والمعنى: اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة {لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صلى الله عليه وسلم َ بين القبائل {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أي يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم {والله خَيْرُ الماكرين} أي مكره تعالى أنفذ من مكرهم وأبلغ تأثيراً قال الطبري في روايته عن ابن عباس: إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من العرب، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فقال انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ - فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من
أيديكم فيمنعوه منكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم َ فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.
. .} الآية {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} أي قالوا مكابرة وعناداً: قد سمعنا هذا الكلام ولو أردنا لقلنا مثله {إِنْ هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة سطروها وليس كلام الله تعالى قال أبو السعود: وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد، كيف لا، ولو استطاعوا لما تأخروا {فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر سنين؟ وقرَّعوا على العجز، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه، مع أنفتهم، وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان؟} {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها على قوم لوط {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بعذاب مؤلم أهلكنا به، وهذا تهكم منهم واستهزاء قال ابن كثير: وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إِكراماً لك يا محمد، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وما ان الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله، وهو إٍشارة إلى استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله صلى الله عليه وسلم َ، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ الله} أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو والضلال؟ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالهم الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عام الحديبية، وكما اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة، {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} أي
ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ المتقون} أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة فقد كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرام، نصد من نشاء، وندخل من نشاء.
. والغرض من الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة، ولكن الله رفعة عنهم إِكراماً لرسوله عليه السلام، ولاستغفار المسلمين المستضعفين {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البيت إِلَاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا تصفيراً وتصفيقاً، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم، والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فذوقوا عذاب القتل والأَسر بسبب كفركم وأفعالكم القبيحة، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام، ولحرب محمد عليه السلام، قال الطبري: لما أصيب كفار قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إِلى مكة قالوا: يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي فسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء كلمة الكفر {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة والاندحار
{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21]{والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة الأشرار، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ} أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي فيقذف بهم في نار جهنم {أولئك هُمُ الخاسرون} أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم، ثم دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال فقال سبحانه {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، إِن ينتهوا عن الكفر ويؤمنوا بالله ويتركا قتالك وقتال المؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام {وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي وإِن عادوا إِلى قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي، فكذلك نفعل بهم، وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة والعناد {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إِلا الله وحده، قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض وقال ابن جريج: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام قال الألوسي:
واضمحلاها إِما بهلاك أهلها جميعاً، أو برجوعهم عنها خشية القتل، لقوله عليه السلام «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله» {فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإِن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإِسلامهم {وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلَاكُمْ} أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره الله.
البَلَاغَة: 1 - {يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، شبه تمكنه تعالى من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء، بمن يحول بين الشيء والشيء، وهي استعارة لطيفة.
2 -
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة من تآمر المشركين على صاحب الرسالة عليه السلام.
3 -
{وَيَمْكُرُ الله} إِضافة المكر إِليه تعالى على طريق «المشاكلة» بمعنى إِحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وقد تقدم.
4 -
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البيت إِلَاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} تأمل التعبير الرائع في أسلوب القرآن حيث وضعوا المكاء والتصدية «التصفير والتصفيق» موضع الصلاة التي ينبغي أن تؤدى عند البيت فكانوا كالأنعام التي لا تفقه معنى العبادة، ولا تعرف حرمة بيوت الله، وهو على حد قول القائل:«تحية بينهم ضرب وجيع» .
5 -
{الخبيث مِنَ الطيب} كناية عن المؤمن والكافر وبين لفظ «الخبيث» و «الطيب» طباق وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: روى الحافظ ابن كثير عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: «كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم َ فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم صورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليخرج فذكرت له ذلك فقال {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
لطيفة: حكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملَّكُوا عليهم امرأة! فقال الرجل: أجهل من قومي قومك حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين دعاهم إِلى الحق {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقولوا: إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إِليه، فسكت معاوية رضي الله عنه.
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بقتال المشركين، وذكر فيما تقدم طرفاً من غزوة بدر، وكان لا بد بعد
القتال من أن يغنم المجاهدون الغنائم - وهي أموال المشركين - على طريق القهر والظفر، ذكر سبحانه هنا حكم الغنائم وكيفية قسمتها - ثم سرد بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة المجيدة «غزوة بدر» .
اللغَة: {الْعُدْوَةِ الدنيا} عدوة الوادي: جانبه وشفيره، والدنيا تأنيث الأدنى أي الأقرب والراد ما يلي جانب المدينة {العدوة القصوى} القصوى: تأنيث الأقصى أي الأبعد، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والمراد ما يلي جانب مكة {نَكَصَ} النكوص: الإِحجام عن الشيء {كَدَأْبِ} الدأب: العادة، وأصله في اللغة إِدامة العمل يقال: فلان يدأب في كذا أي يدوم عليه ويواظب ثم سميت العادة دأباً لأن الإِنسان مداوم على عادته {تَثْقَفَنَّهُمْ} قال الليث: يقال ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به {فَشَرِّدْ} التشريد: التفريق والتبديد يقال: شردت القوم إِذا قاتلتهم وطردتهم عنها حتى فارقوها.
التفسِير: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتوه من أموال المشركين في الحرب سواء كان قليلاً أو كثيراً {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعيظم كقوله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين {وَلِلرَّسُولِ} أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه وسلم َ {وَلِذِي القربى} أي قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم َ وهم بنو هاشم وبنو المطلب {واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة، والمنقطع في سفره من المسلمين {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} جواب الشرط محذوف تقديره: إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} وبما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم َ {يَوْمَ الفرقان} أي يوم بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل {يَوْمَ التقى الجمعان} أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، ومنه نصركم مع قلَّتكم وكثرتهم {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب إلى المدينة {وَهُم بالعدوة القصوى} أي وأعداؤكم المشركون بجانب الوادي الأبعد عن المدينة {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك قال كعب بن مالك: إِنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد قال الرازي: المعنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم، {ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أي ولكن جمع بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إِعزاز الإِسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، فكان أمراً متحققاً
واقعاً لا محالة قال أبو السعود: والغرض من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح، ليس إِلا صنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات، فيزدادوا إِيماناً وشكراً، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان {ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان، فإِن وقعة بدر من الآيات الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة، فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم قال مجاهد: أراه الله إِياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم َ أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل إِليه صلى الله عليه وسلم َ لأنه معصوم بل قال {لَّفَشِلْتُمْ} إِشارة إِلى أصحابه {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} أي ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم {ولكن الله سَلَّمَ} أي ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن، والصبر والجزع {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم قال أبو مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا، وفُلَّت شوكتهم، ورأوا ما لم يكن في الحسبان، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أي فعل ذلك فجؤَّأ المؤمنين على الكافرين، والكافرين على المؤمنين، لتقع الحرب ويلتحم القتال، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد، لا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد، {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إٍِذا لقيتم جماعة من الكفرة فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه وتفوزوا بالظفر عليهم {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي في جميع أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمرهما في شيء {وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها، فإِن الله
مع الصابرين بالنصر والعون {وَلَا تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء، والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل: والله لا نرجع حتى نَرد بدراً، فنشرب فيها الخمور وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان - المغنيات - وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً قال الطبري: فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي ويمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي وهو سبحانه عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام، وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس} أي لن يغلبكم محمد وأصحابه {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير ومعين لكم {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار {وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ} أي بريء من عهد جواركم، وهذا مبالغة في الخذلان لهم {إني أرى مَا لَا تَرَوْنَ} أي أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث
«ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، إِلا ما رأى يوم بدر، فإِنه رأى جبريل يزْعُ الملائكة» أي يصفها للحرب {إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب} أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه قال ابن عباس: جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة «سراقة بن مالك» فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قبضه من التراب فرمى بها وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي حين قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يذل من استجار به، حكيم في أفعاله وصنعه {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً فظيعاً وشأناً هائلاً قال أبو حيان: وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم، على
وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي ويقولون لهم: ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم من الكفر والآثام {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي وأنه تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب، وصيغة {ظَلَاّمٍ} ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى فتدبره {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر والإِجرام {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} أي جحدوا ما جاءهم به الرسل من عند الله {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم بكفرهم وتكذيبهم {إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} أي قوي البطش شديد العذاب، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} أي ذلك الذي حل بهم ن العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان، كتبديل كفار قريش نعمة الله من الخصب والسعة والأمن والعافية، بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين قال السدي: نعمة الله على قريش محمد صلى الله عليه وسلم َ فكفروا به وكذبوه، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم بما يفعلون {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف وبعضهم الحجارة، وبعضهم بالغرق ولهذا قال {وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ} أي أغرقنا فرعون وقومه معه {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه {الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان لذلك قال ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ألا يحاربوه فنقضوا العهد {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ} أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قد عاهد يهود بني قرظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه المشركين، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالئوا الكفار يوم الخندق {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} أي فإِن تظفر بهم في الحرب {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي فاقتلهم ونكل بهم تنكيلاً شديداً يشرد غيرهم من الكفرة المجرمين {
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما شاهدوا فيرتدعوا والمعنى: اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على محاربتك {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة ووضوح من الأمر قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى: وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} وهذا كالتعليل للأمر بنبذ العهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد {وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا} أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بد من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة، لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة: المادية، والمعنوية قال الشهاب: وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام، فنُبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} أي الخيل التي تربط في سبيل الله {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي وترهبون به آخرين غيرهم قال ابن زيد: هم المنافقون وقال مجاهد: هم اليهود من بني قريظة والأول أصح لقوله {لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمون ما هم عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله} أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً.
البَلَاغَة: 1 - {مِّن شَيْءٍ} التنكير للتقليل.
2 -
{على عَبْدِنَا} ذكره صلى الله عليه وسلم َ بلفظ العبودية وإِضافته إِلى الله للتشريف والتكريم.
3 -
{بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بين لفظ «الدنيا» و «القصوى» طباق.
4 -
{لِّيَهْلِكَ ويحيى} استعار الهلاك والحياة للكفر والإِيمان، وبين «يهلك» و «يحيا» طباقٌ.
5 -
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وشوكتكم وهو من باب الاستعارة أيضاً.
تنبيه: يأمرنا الله تعالى بإِعداد القوة لقتال الأعداء، وقد جاء التعبير عاماً {مِّن قُوَّةٍ} ليشمل القوة المادية، والقوة الروحية، وجميع أسباب القوة، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإِسلامية وهو لا يرى عندنا معامل للأسلحة، وذخائر للحرب، بل كلها مما يشتريه المسلمون من بلاد العدو؟ فلا بد لنا من العودة إِلى تعاليم الإِسلام إِذا ما أردنا حياة العزة والكرامة.
المنَاسَبَة: لما أمر الله تعالى بإِعداد العدة لإِرهاب الأعداء، أمر هنا بالسلم بشرط العزة والكرامة متى وجد السبيل إِليه، لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان، وحرية الأديان، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان، ثم تناولت الآيات الكريمة حكم الأسرى، وختمت السورة بوجوب مناصرة المؤمنين بعضهم لبعض، بسبب الولاية الكاملة وأخوة الإِيمان.
اللغَة: {جْنَحْ} مال يقال: جنح الرجل إِلى فلان إِذا مال إِليه وخضع له، وجنحت الإِبل: إِذا مالت أعناقها في السير، ومنه قيل للأضلاع جوانح {السلم} المسالمة والصلح قال الزمخشري: وهي تؤنث تأنيث ضدها وهي الحرب قال الشاعر:
السِّلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرع
{حَرِّضِ} التحريض: الحث على الشيء وتحريك الهمة نحوه كالتحضيض {يُثْخِنَ} قال الواحدي: الإِثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إِذا اشتدت قوته عليه، وأثخنته الجراح، والثخانة: والغلظة، والمراد بالإِثخان هنا المبالغة في القتل والجراحات.
سَبَبُ النّزول: أ - عن عمر رضي الله عنه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم َ أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة، وإِني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب! قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة على المشركين، هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فإِذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان، فقلت يا رسول الله: أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإِن وجدت بكاءً بكيت، وإِن لم أجد بكاءً تباكيت، فقال صلى الله عليه وسلم َ:«أبكي للذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة فأنزل الله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} الآية.
ب - لما وقع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم َ في الأسر كان معه عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم َ
«أضعفوا على العباس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقية فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: لقد تركتني أتكفَّف قريشاً ما بقيت، فقال له صلى الله عليه وسلم َ: وأين الذهب الذي تركته عند أم الفضل؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: إِنك قلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا! فإِن حدث بي حدث فهو لك ولولدك، فقال يا ابن أخي: من أخبرك بهذا؟ قال: الله أخبرني فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم، وأمر ابني أخيه فأسلما ففيهما نزلت {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} الآية.
التفسِير: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} أي إِن مالوا إِلى الصلح والمهادنة فمل إِليه وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان فيه مصلحة {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض الأمر إِلى الله ليكون عوناً لك على السلامة {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي هو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بنياتهم {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فإِن الله يكفيك وهو
حسبك، ثم ذكره بنعمته عليه فقال {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك بالمؤمنين قال ابن عباس: يعني الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم َ ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم بالإِيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي الله وحده كافيك، وكافي اتباعك، فلا تحتاجون معه إِلى أحد وقال الحسن البصري: المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي حض المؤمنين ورغبهم بكل جهدك على قتال المشركين {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} قال أبو السعود: هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى: إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم، بعون الله وتأييده {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} أي وإِن يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} الباء سببية أي سبب ذلك بأن الكفار قوم جهلة لا يفقهون حكمة الله، ولا يعرفون طريق النصر وسببه، فهم يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلذلك يُغلبون قال ابن عباس: كان ثبات الواحد للعشرة فرضاً، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ} أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء، يتغلبوا على ألفين من الأعداء {بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيله {والله مَعَ الصابرين} هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله معهم بالحفظ والرعاية والنصرة، ومن كان الله معه فهو الغالب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى: لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى
إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء حطام الدنيا ومتاعها الزائل؟ {والله يُرِيدُ الآخرة} أي يريد لكم الباقي الدائم، وهو ثواب الآخرة، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب، حكيم في تدبير مصالح العباد {لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده {لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى عذاب عظيم، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام
«لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر» {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً} أي كلوا يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي محللاً لكم {طَيِّباً} أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم، وفي الصحيح «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» {واتقوا الله} أي خافوا الله في مخالفة أمره ونهيه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة لمن تاب، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء، والمراد بهم أسرى بدر {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} أي إِن يعلم الله في قلوبكم إِيماناً وإِخلاصاً، وصدقاً في دعوى الإِيمان {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي واسع المغفرة، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب قال البيضاوي: نزلت في العباس رضي الله عنه حين كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يفدي نفسه وابني أخويه «عقيل» و «نوفل» فقال يا محمد: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال: أين الذهب الذي دفعته إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه، فإِن حدث بي حدث فهو كل ولعيالك! {فقال العباس: ما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهد أنك صادق، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحد، ولقد دفعته إِليها في سواد الليل} ! قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود - بقوله تعالى {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} أي فقد خانوا الله تعالى قبل هذه الغزوة غزوة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فقواك ونصرك الله عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بجميع ما يجري، يفعل ما تقضي به حكمته البالغة {إِنَّ الذين آمَنُواْ} أي صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُواْ} أي تركوا وهجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله، وهم المهاجرون {والذين آوَواْ
ونصروا} أي آووا المهاجرين في ديارهم ونصروا رسول الله وهم الأنصار {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في النصرة والإِرث، ولهذا أخى صلى الله عليه وسلم َ بين المهاجرين والأنصار {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} أي آمنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة {مَا لَكُمْ مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين، فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إخوانكم {إِلَاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد ومهادنة فلا تعينوهم عليهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمالكم فلا تخالفوا أمره.
ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، الأنصار، الذين لم يهاجروا، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة، ثم ذكر حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا بيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله، وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم {إِلَاّ تَفْعَلُوهُ} أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي تحصل في الأرض فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين، ثم عاد بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى الإِسلام {والذين آوَواْ ونصروا} وهم الأنصار أصحاب الإِيواء والإِيثار {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان، المتحققون في مراتب الإِحسان {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في جنات النعيم قال المفسرون: ليس في هذه الآيات تكرار، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين المؤمنين، وهذه تضمنت الثناء والتشريف، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق الكريم في دار النعيم {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين السابقين في الثواب والأجر {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب في حكم الله وشرعه قال العلماء: هذه ناسخة للإِرث بالخلف والإِخاء {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي أحاط بكل شيء علماً، فكل ما شرعه الله حكمة وصواب وصلاح، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو ختم للسورة في غاية البراعة.
البَلَاغَة: 1 - {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} هذا الأسلوب يسمى ب «الإِطناب» وفائدته التذكير بالمنة الكبرى والنعمة العظمى على الرسول والمؤمنين.
2 -
{إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ
…
} الآيات في البحر: انظر إِلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد
كونهم من الكفرة، وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد الطلب أثبت في جملتي التخفيف، ثم ختمت الآيات بقوله {والله مَعَ الصابرين} مبالغة في شدة المطلوبية، وهذا النوع من البديع يسمى «الاحتباك» . فلله در التنزيل ما أحلى فصاحته وأنضر بلاغته!!
اللغَة: {بَرَآءَةٌ} برئت من الشيء: إِذا قطعت ما بينك وبينه من سبب وأزلته عن نفسك، قال الزجاج: برئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض بُروءاً {فَسِيحُواْ} السياحة: السير في الأرض والذهاب فيها للتجارة أو العبادة أو غيرهما {أَذَانٌ} الأذان: الإِعلام ومنه أذان الصلاة {مَرْصَدٍ} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلاناً إِذا ترقبته قال الشاعر: إِن المنية للفتى بالمرصد {استجارك} طلب جوارك أي أمانك {إِلَاّ} الإِلُّ: العهد والقرابة وأنشد عبيدة:
أفسد الناس خلوف خلفوا
…
قطعوا الإِلَّ وأعراف الرحم
{نَكَثوا} النكث: النقض وأصله في كل ما فُتل ثم حل {وَلِيجَةً} بطانة ودخيلة، قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج، فالداخل في القوم وليس منهم يسمى وليجة وقال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يفشي إِليهم سره، ويعلمهم أمره. سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، وفيهم «العباس بن عبد المطلب» فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ
…
} الآية.
التفسِير: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} أي هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله ورسوله قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأمره الله بإِلقاء عهودهم إليهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب
البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه ويبن رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إباحة وفي ضمنه تهديد {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس} أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين {يَوْمَ الحج الأكبر} أي وم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} أي إعِلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم {إِلَاّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي لم ينقصوا من شروط الميثاق شيئاً {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأنتم صلى الله عليه وسلم َ إِليهم عهدهم {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر {واحصروهم} أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم قال في البحر: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي كفروا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَإِنْ
أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك {فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلَامَ الله} أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر أقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا، ثم بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} استفهام بمعنى الانكار والاستبعاد أي كيف يكون عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال {إِلَاّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} أي لكن من عهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم {لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم {وتأبى قُلُوبُهُمْ} أي وتمنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه وقال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة {وأولئك هُمُ المعتدون} أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ
الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل {َوَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي رؤساء وصناديد الكفر {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق ب «قاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} أي عزموا على تهجير الرسول صلى الله عليه وسلم َ من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} ؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إن تركتم أمره {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بما سواه.
. ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فتقالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} أي منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المؤمنين وَلِيجَةً} أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا
بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: إن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم:«لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوقة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار حهنم أبداً {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن من المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة {وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة} أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها {وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ الله} أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه
{عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جميع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من لا ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله} الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله {لَا يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم {والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال في البحر: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال {والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} ثم قال تعالى {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون {وأولئك هُمُ الفائزون} أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربِّ عظيم {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإِيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
البَلَاغَة: 1 - {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} التنوين للتفخيم والتقييد بأنها من الله ورسوله لزيادة التفخيم والتهويل.
2 -
{وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا يسمى «الأسلوب التهكمي» لأن البشارة بالعذاب تهكم به.
3 -
{فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} شبّه مضي الأشهر وانقضاءها بالإِنسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فهو من باب الاستعارة.
4 -
{والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ذكر الاسم الجليل مكان الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في القلب.
5 -
{وأولئك هُمُ الفائزون} الجملة مفيدة للحصر أي هم الفائزون لا غيرهم.
6 -
{وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة} في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
7 -
{بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} تنكير الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم أي برحمة لا يبلغها وصف واصف.
فَائِدَة: عمارة المساجد نوعان: حسية، ومعنوية، فالحسية بالتشييد والبناء، والمعنوية بالصلاة وذكر الله، وقد ربط الباري جل وعلا بين العمارة والإِيمان وفي الحديث «إِذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإِيمان لأن الله تعالى يقول {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم
الآخر} فالعلمارة الحقيقة بالصلاة وذكر الله.
لطيفَة: ذكر القرطبي أن أعرابياً قدم المدينة المنورة فقال: من يقرئني مما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم َ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} فقرأها عليه بالجرِّ {وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا أيضاً أبرأ من رسوله، فاستعظم الناس الأمر وبلغ ذلك عمر فدعاه فقال يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة فقلت إِن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال: ما هكذا الآية يا أعرابي؟ قال فكيف يا أمير المؤمنين! فقرأها عليه بالضم {وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يقرئ الناس إِلا عالم بلغة العرب.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قبائح المشركين، وأثنى على المهاجرين المؤمنين الذين هجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله، حذر هنا من ولاية الكافرين وذكر أن الانقطاع عن الآباء والأقارب واجب بسبب الكفر، ثم استطرد إِلى تذكير المؤمنين بنصرهم في مواطن كثيرة ليعتزوا بدينهم، ثم عاد إِلى الحديث عن قبائح أهل الكتاب للتحذير من موالاتهم، وأنهم كالمشركين يسعون لإِطفاء نور الله.
اللغَة: {أَوْلِيَآءَ} جمع ولي: وهو الناصر والمعين الذي يتولى شئون الغير وينصره ويقويه {وَعَشِيرَتُكُمْ} العشيرة: الجماعة التي يعتز ويحتمي بها الإِنسان قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهو من العِشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى {كَسَادَهَا} كسد الشيء كساداً وكسوداً إِذا بار ولم يكن له تفاق {عَيْلَةً} فقراً يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه
…
وما يدري الغني متى يعيل
{الجزية} ما أخذ من أهل الذمة سميت جزية لأنهم أعطوها جزءا ما مُنحوا من الأمن {يُضَاهِئُونَ} يشابهون والمضاهاة المماثلة والمحاكاة {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق والإِفك الصرف يقال: أُفك الرجل أي قلب وصرُف.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: لقد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إِلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وولده فيقولون: نشدناك الله إن تدعنا من غير شيء فنضيع، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزلت الآية تعاتبهم {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ
…
} الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فأَرْعٍها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه» والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي جماعتكم التي تستنصرون بهم {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} أي وأموالكم التي اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي تخافون عدم نفاقها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي وأحب إِليكم من الجهاد
لنصرة دين الله {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة {والله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إِلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله، أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد، ثم ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، ويخلي القليل فيهزم الكثير، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يفر: ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشية المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء:«كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه» {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إليها {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني الملائكة {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري {وذلك جَزَآءُ الكافرين} أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} أي قذر لخبث باطنهم قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد {فَلَا يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يجحدوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث
«وألاّ يحج
بعد هذا العام مشرك» وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية {إِن شَآءَ} أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين. . ولما ذكر حكم المشركين ذكر حكم أهل الكتاب فقال {قَاتِلُواْ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله وَلَا باليوم الآخر} أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عزير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحق} أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام، ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائحهم فقال {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان قال في التسهيل: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله
{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]{قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً {قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم
وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال عدي ابن حاتم: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟} فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم» {والمسيح ابن مَرْيَمَ} أي اتخذه النصارى رباً معبوداً {وَمَآ أمروا إِلَاّ ليعبدوا إلها وَاحِداً} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين {لَاّ إله إِلَاّ هُوَ} لا معبود بحق سواه {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك {ويأبى الله إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أي ولو كره الكافرون ذلك {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم َ بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي ليعليه على سائل الأديان {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره.
البَلَاغَة: 1 - {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} صيغته أمر وحقيقته وعيد كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] .
2 -
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} من باب عطف الخاص على العام للتنويه بشأنه حيث جاء النصر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة.
3 -
{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة والضيق النفسي بضيق الأرض على سعتها على سبيل الاستعارة.
4 -
{إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الصيغة لإِفادة الحصر واللفظ فيه تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الباطن وخبث الاعتقاد حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً ومثله {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} أي كالأرباب في طاعتهم وامتثال أوامرهم في التحريم والتحليل.
5 -
{فَلَا يَقْرَبُواْ المسجد} عبَّر عن الدخول بالقرب للمبالغة.
6 -
{يُطْفِئُواْ نُورَ الله} أراد به نور الإِسلام فإِن الإِسلام بنوره المضيء وحججه القاطعة يشبه الشمس الساطعة في نورها وضيائها فهو من باب الاستعارة. وهي من لطائف الاستعارات.
لطيفَة: قال العلامة القرطبي دل قوله تعالى {لَا تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآء} على أن
القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان، وقد أنشدوا في ذلك أبياتاً:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت
…
وأنت كئيبٌ إِن ذا لعجيب
فقلت: وما تغني ديارٌ قريبة
…
إِذا لم يكن بين القلوب قريب
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، وصفهم هنا بالطمع والجشع والحرص على أكل أموال الناس، تحقيراً لشأنهم وتسفيهاً لأحلامهم، لأنهم اتخذوا الدين مطية لنيل الدنيا، وذلك نهاية الذل والدناءة، ثم ذكر تعالى قبائحهم وقبائح المشركين، ثم دعا إِلى النفير العام وذكر موقف المنافقين المثبطين عن الجهاد في سبيل الله.
اللغَة: {الأحبار} علماء اليهود {الرهبان} علماء النصارى قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إِلا الملوك
…
وأحبار سوءٍ ورهبانها
{يَكْنِزُونَ} أصل الكنز في اللغة: الجمع والضم ومنه حديث «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة» أي يضمه لنفسه ويجمعه، ثم غلب استعماله على المدفون من الذهب والفضة قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إِلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها {تكوى} الكي: إِلصاق المحمي من الحديد وشبهه بالعضو حتى يتمزق الجلد وفي الأمثال «آخر الدواء لكي» {النسياء} التأخير يقال: نسأه وأنسأه إِذا أخره ومنه حديث «وينسأ له في أثره» أي يؤخر له في أجله قال الزمخشري: النسيء: تأخير حرمة الشهر إِلى شهر آخر {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا والمواطأة: الموافقة يقال: تواطأ القوم: إِذا اتفقوا على أمر خفية {انفروا} النفر: الخروج بسرعة ومنه {وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء: 46]{اثاقلتم} أصله تثاقلتم بمعنى تباطأتم ولم تسرعوا {عَرَضاً} العرض: ما يعرض للانسان من منافع الدنيا سمي عرضاً لأنه لا يدوم وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر» {صلى الله عليه وسلم َ صلى الله عليه وسلم َ mp;
;لشُّقَّةُ} المسافة البعيدة التي لا تقطع إِلا بمشقة قال الجوهري: الشقة السفر البعيد، وكأنه مأخذو من المشقة يقال: شقة شاقة.
سَبَبُ النّزول: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من الطائف وغزوة حنين، أمر الناس بالجهاد، لغزو اليوم، وذلك في زمن عسرة من البأس، وجدبٍ من البلاد، وشدةٍ من الحر، حين أثمرت النخل، وطابت الثمار، فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إِلى القتال فأنزل الله {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض
…
} الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود «الأحبار» وعلماء النصارى «الرهبان» {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات {وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت
زكاته فليس بكنز {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسملين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكون عبد بكنزٍ فيمن دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته، فإِذا جاء أعرض بجانبه، فإذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم
«ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار» {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذا عليها يدور فلك الأحكام الشرعية {فِي كِتَابِ الله} أي في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض} قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي منها أربعة شهور محرمة هي: «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب» وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات ويحرم القتال فيها {ذلك الدين القيم} أي ذلك الشرع المستقيم {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وراتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلوكم المشركون جميعاً {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حمره فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجمعون هذا مكان هذا والعكس {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي
ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة {والله لَا يَهْدِي القوم الكافرين} أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعه؟! {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلَاّ قَلِيلٌ} أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له، ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال {إِلَاّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي إِن لا تخرجوا إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خياً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسوله وأطوع {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل {إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي إِن لا تنصروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} والمعنى: إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجئوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطروا إِلى الهجرة {ثَانِيَ اثنين} أي أحد اثنين لا ثالث لهما هو أبو بكر الصديق {إِذْ هُمَا فِي الغار} أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه قال
«بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال أبو بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} أي
قواه بجنوده من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} أي وكلمة التوحيد «لا إِله إِلا الله» هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيئاً وشباناً، وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} أي جاهدوا بالاموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك قال في البحر: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله، ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباص سهل المنال {وَسَفَراً قَاصِداً} أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد {لَاّتَّبَعُوكَ} أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} تلطف في عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم َ حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخرنوج معك بمجرد الاعتذار!! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي لا يستأذنك يا
محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر {أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ {والله عَلِيمٌ بالمتقين} أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم {وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.
البَلَاغَة: 1 - {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} بين يحلون ويحرمون طباق وهو من المحسنات البديعية.
2 -
{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} استفهام يقصد به الإِنكار والتوبيخ.
3 -
{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} فيه إِيجاز بالحذف أي أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.
4 -
{فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أظهر في مقام الإِضمار لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها بالنسبة للآخرة.
5 -
{يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً} بينهما جناس الاشتقاق.
6 -
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} «كلمة الذين كفروا» استعارة عن الشرك كما أن «كلمة الله» استعارة عن الإِيمان والتوحيد.
7 -
{خِفَافاً وَثِقَالاً} بينهما طباق.
8 -
{بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على النفس.
9 -
{عَفَا الله عَنكَ} خبر يقصد تقديم المسرة على المضرة وقد أحسن من قال: إِن من لطف الله بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب.
فَائِدَة: روي أن أعرابياً قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤدّ زكاتها فويل له، إِنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله ظهرةً للأموال، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله تعالى!!
تنبيه: دلت الآية {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} على عظيم فضل الصديق وجليل قدره، إِذ جعله الله صاحب الرسول في الغار، ورفيقه في الهجرة، ولهذا قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لأنه رد كتاب الله تعالى.
لطيفَة: عن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت عليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إِليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي: استنفرنا الله خفاقاً وثقالاً، ألا إِنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإِنما يبتلي الله من بعاده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إِلا الله عز وجل.
أقول: رحم الله تلك الأنفس الزكية التي باعت أرواحها مي مرضاة الله تعالى.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وتاطؤهم عن الخروج للجهاد، ذكر هنا بعض أعمالهم
القبيحة من الكيد، والمكر، وإِثارة الفتن بين المسلمين، والفرح بأذاهم، وذكر تعالى أنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوا الجيش إِلا ضعفاً واندحاراً بتفريق الجماعة وتشتيت الكلمة، وذكر كثيراً من مثالبهم وجرائمهم الشنيعة.
اللغَة: {انبعاثهم} الانبعاث: الانطلاق في الأمر {فَثَبَّطَهُمْ} التثبيط: رد الإِنسان عن الفعل الذي همَّ به {خَبَالاً} الخبال: الشر والفساد في كل شيء ومنه المخبول للمعتوه الذي فسد عقله {ولأَوْضَعُواْ} الإِيضاع: سرعة السير قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع
…
أخبُّ فيها وأضع
يقال: وضع البعير إِذا أسرع السير، وأوضع الرجل إِذا سار بنفسه سيراً حثيثاً {يَجْمَحُونَ} جمح: نفر بإِسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام {يَلْمِزُكَ} اللمز: العيب يقال: لمزه إِذا غابه قال الجوهري: وأصله الإِشارة بالعين ونحوها ورجل لّماز أي عيَّاب {الغارمين} الغارم: المديون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللازم الشاق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً، وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: «لما أراد صلى الله عليه وسلم َ الخروج إِلى تبوك قال» للجد بن قيس «- وكان منافقاً - يا أبا وهب: هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال يا رسول الله: لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإِني أخشى إِن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذَنْ لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم َ وقال: قد أذنت لك فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} » الآية.
التفسِير: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أي ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك للجهاد أو كانت لهم نية في الغزو لاستعدوا له بالسلاح والزاد، فتركهم الاستعداد دليل على إِرادتهم التخلف {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي ولكن كره الله خروجهم معك {فَثَبَّطَهُمْ} أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} أي اجلسوا مع المخلفين من النساء والصبيان وأهل الأعذار، وهو ذم لهم لإِيثارهم القعود على الخروج للجهاد، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم َ على عدم خروج المنافقين معه إِذ لا فائدة فيه ولا مصلحة بل فيه الاذى والمضرة ولهذا قال {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} أي لو خرجوا معكم ما زادوكم إِلا شراً وفساداً {ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ} أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي يطلبون لكم الفتنة بإِلقاء العداوة بينكم {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي وفيكم ضعفاء قلوب يصغون إِلى قولهم ويطيعونهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي عالم بالمنافقين علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} أي طلبوا لك الشر
بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك كما فعل ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم يوم أحد {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أي دبروا لك المكايد والحيل وأداروا الآراء في إِبطال دينك {حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} أي حتى جاء نصر الله وظهر دينه وعلا على سائر الأديان {وَهُمْ كَارِهُونَ} أي والحال أنهم كارهون لذلك لنفاقهم {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب الأمر بالخروج قال ابن عباس: نزلت في «الجد ابن قيس» حين دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم َ إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في القعود عن الجهاد ولا تفتني بالنساء {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} أي ألا إِنهم قد سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} أي لا مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم فرحون مسرورون {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَاّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا هو مقدر علينا مكتوب عند الله {هُوَ مَوْلَانَا} أي ناصرنا وحافظنا {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله، ولا يعتمدوا على أحد سواه {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَاّ إِحْدَى الحسنيين} أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!! {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا {فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم، وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أي قل لهم انفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال فلن يتقبل الله منكم قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله
{استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله، ثم أكد هذا المعنى بقوله {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} أي وما منع من قبول النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {
وَلَا يَأْتُونَ الصلاة إِلَاّ وَهُمْ كسالى} أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإِكراه لأنهم يعدونها مغرماً قال في البحر: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأَيمان الفاجرة {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي حصناً يلجأون إِليه {أَوْ مَغَارَاتٍ} أي سراديب يختفون فيها {أَوْ مُدَّخَلاً} أي مكاناً يدخلون فيه ولو ضيقاً {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لأقبلوا إِليه يسرعون إِسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إلى أنَّ المنافقين لو قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم سخطوا عليك وعابوك قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقسم غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له «ذو الخويصرة» فقال: اعدل يا محمد فإِنك لم تعدل فقال صلى الله عليه وسلم َ:
«ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟» ، الحديث {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك القسمة وإِن قلَّت قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله وإِحسانه لراغبون، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لكان خيراً لهم قال الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل: لو جئتنا. . ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً، ثم ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا
الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش، والمسكين الذي لا شيء له قال يونس: سألت اعرابياً أفقير أنت؟ فقال: لا والله بل مسكين، وقيل: المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية {والعاملين عَلَيْهَا} أي الجباة الذين يجمعون الصدقات {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم قوم من أشراف العرب أعطاهم صلى الله عليه وسلم َ ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه لأحب الناس إِلي {وَفِي الرقاب} أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من الرق {والغارمين} أي المديونين الذين أثقلهم الدين {وَفِي سَبِيلِ الله} أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من السلاح والعتاد {وابن السبيل} أي الغريب الذي انقطع في سفره {فَرِيضَةً مِّنَ الله} أي فرضها الله جل وعلا وحددها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة قال في التسهيل: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في الصدقات.
البَلَاغَة: 1 - {أَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} بينهما جناس الاشتقاق وكذلك في قوله {اقعدوا مَعَ القاعدين} .
2 -
{ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ} قال الطيبي: فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إِفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل، والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم.
3 -
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} فيه استعارة حيث شبه وقوعهم في جهنم بإِحاطة العدو بالجند أو السوار بالمعصم، وإيثار الجملة الإِسمية للدلالة على الثبات والاستمرار.
4 -
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ. .} الآية فيها من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
5 -
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ} تقديم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة القصر، وإِظهار الاسم الجليل مكان الاضمار لتربية الروعة والمهابة.
6 -
{طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} بينهما طباق وكذلك بين الرضا والسخط في قوله {رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
7 -
{عَلِيمٌ حَكِيمٌ} صيغة فعيل للمبالغة أي عظيم العلم والحكمة.
لطيفَة: قال الزمخشري في قوله تعالى {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} هذا ذم لهم وتعجيز
وإِلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت على حد قول القائل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإِنك أنت الطاعم الكاسي
تنبيه: قال ابن كثير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم َ المدينة رمته العرب عن قوسٍ واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه - يعني أقبل - فدخلوا في الإِسلام ظاهراً، ثم كلما أعز الله الإِسلام وأهله، أغاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى {وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ} .
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين توضيحاً لخطرهم، وتحذيراً للمؤمنين من مكائدهم، وفي هذه الآيات ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائحهم، وهو إِيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم َ، وإِقدامهم على الإِيمان الكاذبة، واستهزاؤهم بآيات الله وشريعته المطهرة، إِلى غير ما هنالك من الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
اللغَة: {أُذُنٌ} قال الجوهري: قال رجل أذن إِذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع وقال الزمخشري: الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع. قال الشاعر:
قد صرت أذناً للوشاة سميعة
…
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
{يُحَادِدِ} المحادة: المخالفة والمعاداة كالمشاقة وهي أن يكون كل واحد من المتخاصمين في حد وشق غير ما عليه صاحبه {بِخَلاقِهِمْ} الخلاق: النصيب كقوله {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] وقد تقدم {وَخُضْتُمْ} الخوض: الدخول في اللهو والباطل وهو مستعار من الخوض في الماء {حَبِطَتْ} بطلت وذهب ثوابها {والمؤتفكات} الائتفاك: الانقلاب ويراد بهم قوم لوط لأن أرضهم ائتكفت بهم أي انقلبت، وقيل هو مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة
…
أعاليها بل أن تسود الأراذل
سَبَبُ النّزول: أ - كان جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال «الجلاس بن سويد» : نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ
…
} .
ب - قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم
…
} الآية.
التفسِير: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي
يصدِّق الله فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب إِيمانهم {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في الآخرة {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه السلام {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله ورسوله {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام للتوبيخ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} أي فقد حق دخوله جهنم وخلوده فيها {ذلك الخزي العظيم} .
أي ذلك هو الذل العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رءوس الأشهاد {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق {قُلِ استهزءوا} أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله، ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، في حقك وفي حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس قال الطبري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يسير في غزوته إِلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ، ثم كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال {لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إظهاركم الإِيمان {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم وإِخلاصهم {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي نعذب فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان، كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال في الكشاف: وأريد بقوله {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المعروف} أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل الله {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} أي اتركوا طاعته فتركهم من رحمته وفضله وجعلهم كالمنسيين {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل النفاق {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ} أي وعد الله المنافقين والمتجاهرين بالكفر بإِصلائهم في نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي هي كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها {وَلَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ} أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب {أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منكم أجساماً وأشد بطشاً {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً} أي وكانوا أوفر أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} أي وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه قال الطبري: المعنى سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حل بهم {أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً فلا ثواب لها إِلا النار {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} أي وأولئك هما الكاملون في الخسران {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم من العقوبة؟ {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان وقوم هود «عاد» الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح «ثمود» الذين أهلكوا بالصيحة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} الذين أهلكوا بسلب النعمة {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة {والمؤتفكات} قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذبين من أهل الإِجرام؟ ولما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم إِخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي الله، وينهونهم على كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف {وَيُقِيمُونَ الصلاة} أي
يؤدونها على الوجه الكامل {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء وجه الله {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض عليهم جلائل نعمته {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي غالب لا يٌغلب من أطاعه ويذل من عصاه {حَكِيمٌ} أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في النعمة والنقمة {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها أبداً، لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ومنازل يطيب فيها العيش في جنات الخلد والاقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} أي وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة:
«يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة بعده {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مسكنهم ومثواهم جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي بئس المكان الذي يصار إِليه جهنم {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} أي يحلف المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وانصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل «سمن كلبك يأكلك» فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي قول ابن سلول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} قال ابن كثير: هم نفر من المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم َ عند عودته من تبوك وكانوا بضعة عشر رجلاً {وَمَا نقموا إِلَاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته، ويُمن سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب.
. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} أي فإِن يتوبوا عن النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً} أي يعذبهم عذاباً شديداً {فِي الدنيا والآخرة} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم وينجيهم يوم الحساب.
البَلَاغَة: 1 - {هُوَ أُذُنٌ} أصله هو كالأذن يسمع كل ما يقال له، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه فصار تشبيهاً بليغاً مثل زيد أسد.
2 -
{يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} أبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً {يُؤْذُونَه} تعظيماً لشأنه عليه السلام وجميعاً له بين الرتبتين العظيمتين «النبوة والرسالة» وإِضافته إِليه زيادة في التكريم والتشريف.
3 -
{ذلك الخزي العظيم} الإِشارة البعيدة عن القريب للإيذان ببعد درجته في الهول والفظاعة.
4 -
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجودة والكرم.
5 -
{نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} من باب المشاكلة لأن الله لا ينسى أي تركوا طاعته فتركهم تعالى من رحمته.
6 -
{كالذين مِن قَبْلِكُمْ} إِلتفات من الغيبة إِلى الخطاب لزيادة التقريع والعتاب.
7 -
{فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ
…
} الآية فيه إِطناب والغرض منه الذم والتوبيخ لاشتغالهم بالمتاع الخسيس، عن الشيء النفيس.
8 -
{وَمَا نقموا إِلَاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله
…
} في الآية تأكيد المدح بما يشبه الذم على حد قول القائل «ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم» البيت.
فَائِدَة: روى ابن كثير عن علي كرم الله وجهه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بأربعة أسياف: سيف للمشركين {قَاتِلُواْ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله وَلَا باليوم الآخر. .} [التوبة: 29] وسيف لأهل الكتاب {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} وسيفٍ للمنافقين {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} وسيف للبغاة {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] .
لطيفَة: قال الإِمام الفخر: لما وصف تعالى المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض، ذكر بعده خمسة أمور بها يتميز المؤمن، عن المنافق، فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ولا يقوم إِلى الصلاة إِلا بكسل، ويبخل بالزكاة وسائر الواجبات، وإِذا أُمر بالمسارعة إِلى الجهاد فإِنه يتخلف ويثبط غيره، والمؤمن بالضد منه فإِنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويؤدي الصلاة على الوجه الأكمل، ويؤتي الزكاة، ويسارع إِلى طاعة الله ورسوله، ولهذا قابل تعالى بين صفات المؤمنين، وصفات المنافقين بقوله {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} كما يقابل في الجزاء بين نار جهنم والجنة فكانت مقابلة لطيفة.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم عن الإِسلام والمسلمين.
اللغَةَ: {أَعْقَبَهُمْ} قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:
أودى بني وأعقبوني حسرة
…
بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
{سِرَّهُمْ} السر: ما ينطوي عليه الصدر {نَجْوَاهُمْ} النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجين منعاً إِدخال غيرهما معهما {يَلْمِزُونَ} يعيبون واللمز: العيب {المخلفون} المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد {الطول} الغنى {المعذرون} جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال «أُعذر من أنذر» أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.
ب - عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت» فقيل لي {استغفر لَهُمْ} الآية ولو أعلم أني زدت على السبعين غفر له زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله {وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً
…
} الآية.
التفسِير: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله {بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جعل الله
عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ {وَأَنَّ الله عَلَاّمُ الغيوب} أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم َ، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم {استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر {والله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ الله} أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم َ مخالفة له حين سار وأقاموا {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق {وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الحر} أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم َ استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} على قوله «وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو» إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعلى رداً عليهم {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر
جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم َ في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف وهذا ولكنهم «كالمستجير من الرمضاء بالنار» {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم ما اجترحوا من فنون المعاصي {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك {فاقعدوا مَعَ الخالفين} أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان {وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة {وَلَا تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيادة والدعاء {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ} أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا} أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن {أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع رسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير {وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم
يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً {وأولئك لَهُمُ الخيرات} أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة {وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بالمطلوب {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لايثين في الجنة أبداً {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز راءه {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب} أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار تخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم «أسد» و «غطفان» استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلَا على المرضى} أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم {وَلَا عَلَى الذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد {حَرَجٌ} أي إِثم في القعود {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار {وَلَا عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم َ ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً} أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن {أَلَاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلَاغَة: 1 - {يَعْلَمُ
…
عَلَاّمُ الغيوب} بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.
2 -
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.
3 -
{استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.
4 -
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
5 -
{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رجيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.
6 -
{وَلَا عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.
فَائِدَة: قال الزمخشري عند قوله تعالى {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب.
لأصبحن العاص وابن العاصي
…
سبعين ألفاً عاقدي النواصي
فذكرها ليس لتحديد العدد، وإِنما هو المبالغة جرياً على أساليب العرب.
تنبيه: إِنما منع صلى الله عليه وسلم َ من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
لطيفَة: «اشتهر» حذيفة بن اليمان «بأنه صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم َ وقد قال له صلى الله عليه وسلم َ: إِني مسرٌ إِليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، نْرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين» .
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين «مسجد الضرار» الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإسلام والمسلمين، وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم َ من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.
اللغَة: {انقلبتم} رجعتم {رِجْسٌ} الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس {مَأْوَاهُمْ} قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوى إِليه ليلاً ونهاراً {الأعراب} جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب {أَجْدَرُ} أولى وأحق {مََغْرَماً} المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء {مَرَدُواْ} ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة
والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد ولا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له {مُرْجَوْنَ} الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل {ضِرَاراً} الضرار: محاولة الضر وفي الحديث «لا وضر ولا ضرار» {إِرْصَاداً} الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به {شَفَا} الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه {جُرُفٍ} : ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله {هَارٍ} ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.
سَبَبُ النّزول: «روي أن» أبا عامر الراهب «قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صلى الله عليه وسلم َ أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجدا فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صلى الله عليه وسلم َ بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم وأهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً
…
} الآية» .
التفسِير: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غوزة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم {قُل لَاّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي قد أخرنا الله بأحوالكم وما فيه من ضمائركم من الخبث والنفاق {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون {إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ} أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي جزاءً
لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لَا يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح {وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في صنعه {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليهم بأفعالهم {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله} أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته {وَصَلَوَاتِ الرسول} أي دعاء الرسول واستغفاره له {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي مقيمين فيها من غير انتهاء {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في
البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} وهناك قال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وهنا ختم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهناك ختم {ذلك الفوز العظيم} {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ} أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس:{سَكَنٌ لَّهُمْ} رحمة لهم {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لقولهم عليهم بنياتهم {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، {وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يتقبلها ممن أخلص النية {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله
{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} [غافر: 3]{وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم َ
عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالهم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} [التوبة: 118] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم «مسجد الضرار» {وَكُفْراً} أي نصرة للكفر الذي يخفونه {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الحسنى} أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم ابتدئ في بنائه {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي {والله يُحِبُّ المطهرين} أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي فسقط به البناء في نار جهنم {والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوافق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار أو شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه،
يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم {إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
البَلَاغَة: 1 - {الغيب والشهادة} بين الكلمتين طباق.
2 -
{لَا يرضى عَنِ القوم الفاسقين} الإِظهار في مضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.
3 -
{سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.
4 -
{عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} بين {صَالِحاً سَيِّئاً} طباق.
5 -
{إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
6 -
{هَارٍ فانهار} بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.
7 -
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى} في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.
تنبيه: كلمة «عسى» من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا الشمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة «عسى» أو «لعل» تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.
لطيفَة: روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى «زيد بن صوحان» وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! قال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد: صدق الله {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ
…
} الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال المنافقين، المتخلفين عن الجهاد، المثبطين عنه، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين، الذين باعوا أنفسهم لله. . ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى، ببعثة السراج المنير، النبي العربي، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
اللغَة: {أَوَّاهٌ} كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع، يقال: تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر:
إِذا ما قمت أُحلها بليلٍ
…
تأوه آهة الرجل الحزين
{حَلِيمٌ} الحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى {العسرة} الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك «غزوة العسرة» لما فيها من المشقة والشدة {يَزِيغُ} الزيغ: الميل: يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان {ظَمَأٌ} الظمأ: شدة العطش {نَصَبٌ} النصب: الإِعياء والتعب {مَخْمَصَةٌ} مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن {يَنَالُونَ} يصيبون، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه {غِلْظَةً} شدة وقوة وحمية {عَزِيزٌ} صعب وشاق {عَنِتُّمْ} العنت: الشدة والمشقة.
سَبَبُ النّزول: أ - «لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإِذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ
…
} الآية.
ب - لما حضرت أبا طالب الوفاة، «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم قل» لا إِله إِلا الله «كلمة لك بها عند الله، فقال أبو جهل وابن أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول» لا إِله إِلا الله «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ
…
} » ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
التفسِير: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أي اشترى أموال
المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائع فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عليه الصلاة والسلام ُ {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً {فِي التوراة والإنجيل والقرآن} أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة «التوراة، والإِنجيل، والقرآن» {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ {مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه {التائبون العابدون الحامدون} كلا مستأنف قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله
{وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء {السائحون} أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار {الراكعون الساجدون} أي المصلون {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} أي ولو كان المشركون أقرباء لهم {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار {إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ
مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله
{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان: ولما اكن استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي بعد أن وفقهم للإِيمان {حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي بيده وحده حياتهم وموتهم {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه املك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار} أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار {الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقد أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها
جاوزت العسكر {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي لطيف رحيم بالمؤمنين {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم «كعب، وهلال، ومرارة» {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي ضاقت عليهم مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب
«أن الرسول عليه السلام دار لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم» {وظنوا أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلَاّ إِلَيْهِ} أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ {وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام {ذلك بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش {وَلَا نَصَبٌ} أي ولا تعب {وَلَا مَخْمَصَةٌ} أي ولا مجاعة {فِي سَبِيلِ الله} أي في طرق الجهاد {وَلَا يَطَأُونَ مَوْطِئاً} أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم {يَغِيظُ الكفار} أي يغضب الكفار وطؤها {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً {إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله {إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} قال ابن عباس: تمرة فما فوقها {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً} أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً {إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ} أي أثبت لهم أجر ذلك {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن
جزاء {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} أي فإِذا لم يكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال
{ليعلموا} [الكهف: 21] بدل {َلِيُنذِرُواْ} و {لِّيَتَفَقَّهُواْ} بدل {يَحْذَرُونَ} لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي من سور القرآن {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي فأما المؤمنون فزداتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ماتوا على الكفر {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا} أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم َ نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي لقد جاءكم أيها
القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على هدايتكم {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي {لا إله إِلَاّ هُوَ} أي لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.
البَلَاغَة: 1 - {إِنَّ الله اشترى} استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء.
2 -
{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية.
3 -
{الراكعون الساجدون} يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) .
4 -
{وَبَشِّرِ المؤمنين} الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم.
5 -
{مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ} بينهما جناس الاشتقاق.
6 -
{لِيُضِلَّ
…
هَدَاهُمْ} بينهما طباق وكذلك بين {يُحْيِي
…
وَيُمِيتُ} وكذلك {ضَاقَتْ
…
رَحُبَتْ} .
7 -
{التواب الرحيم} من صيغ المبالغة.
8 -
{يَطَأُونَ مَوْطِئاً} جناس الاشتقاق وكذلك {يَنَالُونَ نَّيْلاً} .
9 -
{صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} طباق.
10 -
{فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} قال في تلخيص البيان: السورة لا تزيد الأرجاس رجساً، ولا القلوب مرضاً، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً، وحسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
اللغَة: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال الليث: القدم السابقة قال ذو الرمة:
وأنت امرؤٌ من أهل بيت ذُؤَابةٍ
…
لهم قدمٌ معروفةٌ ومفاخر
وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر فهو قدم وقال الأخفش: سابقة إخلاص {يُدَبِّرُ} التدبير القضاء والتقدير على حسب الحكمة {القسط} العدل {حَمِيمٍ} الحميم: الماء الحار الذي سخن بالنار حتى انتهى حره {يُفَصِّلُ} التفصيل: التبيين والتوضيح {مَأْوَاهُمُ} مثواهم ومقامهم {طُغْيَانِهِمْ} الطغيان العلو والارتفاع {يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون {خَلَائِفَ} جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شئونه.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم َ أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، أما وجد الله من يرسله إِلا يتيم أبي طالب؟ فأنزل الله {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس
…
} الآية.
التفسِير: {الر} إِشارة إِلى أن هذا الكلام البليغ المعجز، مكوّن من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب الحكيم، وهي في متناول أيديهم ثم يعجزون عن الإِتيان بمثل آية واحدة منه {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} أي هذه آيات القرآن المُحكْم المبين الذي لا يدخله شك، ولا يعتريه كذب ولا تناقض {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} أي أكان عجباً لأهل مكة إِيحاؤنا إِلى رجلٍ منهم هو محمد عليه السلام؟ والهمزة للإِنكار أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إِلى رسلهم ليبلغوهم رسالة الله {أَنْ أَنذِرِ الناس} أي أوحينا إِليه بأن خوِف الكفار عذاب النار {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} أي وأنْ بَشّرٍ المؤمنين بأنَّ لهم سابقةً ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموا من صالح الأعمال {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} أي ومع ضوح صدق الرسول صلى الله عليه وسلم َ قال المشركون: إٍِنَّ محمداً لساحرٌ ظاهر السحر، مبطلٌ فيما يدَّعيه قال البيضاوي: وفيه اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما جاء به خارجٌ عن طوق البشر {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إنَّ ربكم ومالك أمركم الذي ينبغي أن تفردوه بالعبادة هو الذي خلق الكائنات في مقدار سته أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهنَّ في لمحة ولكنه أراد تعليم العباد التأني والتثبت في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى
العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل قال ابن كثير: نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، وهو إِمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، والمتبادر إِلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإِن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، فقد سلك سبيل الهدى وقال أبو السعود: استوى على العرش على الوجه الذي عناه، وهو صفة له سبحانه بلا كيف، منزهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة ملكه وسلطانه، بعد بيان عظمة شأنه {يُدَبِّرُ الأمر} أي يدبّر أمر الخلائق على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قال ابن عباس: لا يشغله في تدبير خلقه أحد {مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إِلا بعد أن يأذن له في الشفاعة، وفي هذا ردٌّ على المشركين في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} أي ذلكم العظيم الشأن هو ربكم وخالقكم لا ربَّ سواه، فوحّدوه بالعبادة {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعتبرون؟ تعلمون أنه المتفرد بالخلق ثم تعبدون معه غيره {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي إِلى ربكم مرجعكم أيها الناس يوم القيامة جميعاً {وَعْدَ الله حَقّاً} أي وعداً من الله لا يتبدّل، وفيه ردٌّ على منكري البعث حيث قالوا
{مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدهر} [الجاثية: 24]{إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي كما ابتدأ الخلق كذلك يعيده {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي ليجزي المؤمنين بالعدل، ونوفيّهم أجورهم بالجزاء الأوفى {والذين كَفَرُواْ} أي والذين جحدوا بالله وكذبوا رسله {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي لهم في جهنم شرابٌ من حيمم، بالغ النهاية في الحرارة {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وإِشراكهم قال البيضاوي: والآية كالتعليل لما سبق فإِنه لما كان المقصود من البدء والإِعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إِليه لا محالة {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج {والقمر نُوراً} أي وجعل القمر منيراً بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء، لأنه هو الذي له شطوعٌ ولَمعان قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي لتعلموا أيها الناس حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلَاّ بالحق} أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة {يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يبيّن الآيات الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته قال أبو السعود: أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شئون مبدعها جل وعلا {إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار} أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار
فيذهب الليل {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} أي وما أوجد فيهما من أصناف المصنوعات {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون عذابه {إِنَّ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق لما بعد الممات {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} أي رضوا بالدنيا عوضاً من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس {واطمأنوا بِهَا} أي فرحوا بها وسكنوا إِليها {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي وهم عن الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا يتفكرون {أولئك مَأْوَاهُمُ النار} أي مثواهم ومقامهم النار {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب كفرهم وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم} أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم وهم مقيمون في جنات النعيم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم} أي دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث
«يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النّفس» أي كلامهم في الجنة تسبيح الله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} أي وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة {وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24]{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} قال مجاهد: هو دعءا الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم لا تبارك فيه قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت {فَنَذَرُ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون بالبعث {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقراً ونحو ذلك {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لكشف ذلك الضُر عنه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في الغيِّ والضلال {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي جاءوهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا
كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي وما آمنوا بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما آمنوا فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي مثل ذلك الجزاء - يعني الإِهلاك - نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم معاملة المختبر إِظهاراً للعدل وقال في التسهيل: معناه ليظهر في الوجود عملكم فتقوم عليكم به الحجة والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال {قَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، ولا يرجون الأجر والثواب {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر غير هذا القرآن، ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه على سبيل الاستهزاء والسخرية قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا يا محمد: ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيرّ أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ ربي، فأنا عبد مأمور، ورسولٌ مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخشى إِن خالفت أمره، وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوتُ هذا القرآن عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلَمكم به على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمنا طويلاً، مدة أربعين سنة من قبل القرآن لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال الإِمام الفخر، إِن الكفار شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من أول عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم، المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} استفهام انكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه نفي الكذب عن مقامه الشريف صلى الله عليه وسلم َ حيث زعم المشركون أن هذا القرآن من صنع محمد {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
المجرمون} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب الإِجرام وكذّب الرسل الكرام {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ} بيانٌ لقبائح المشركين أي ويعبدون الأوثان التي هي جمادات لا تقدر على جلب نفعٍ أو دفع ضر {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} أي يزعمون أن الأصنام تشفع لهم مع أنها حجارة لا تبصر ولا تسمع {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السماوات وَلَا فِي الأرض} ؟ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أتخبرون الله تعالى بشريكٍ أو شفيعٍ كائنٍ في السماوات أو الأرض لا يعلمه جلَّ وعلا، وهو علاّم الغيوب الذي أحاط علمه بجميع الكائنات؟ والاستفهام للتهكم والهزء بهم {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون، وينسبه إِليه المشركون {وَمَا كَانَ الناس إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} أي وما كان الناس إِلا على دين واحد هو الإِسلام من لدن آدم إِلى نوح فاختلفوا في دينهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعُبدت الأوثان والأصنام فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي ولولا قضاء الله بتأخير الجزاء إِلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي لعُجِّل عقابهم في الدنيا باختلافهم في الدين {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون هلاّ أنزل على محمد معجزة من ربه كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} أي قل لهم أمر الغيب لله وحده ولا يأتي بالآيات إِلا هو وإِنما أنا مبلّغ {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} أي فانتظروا قضاء الله بيننا فأنا ممن ينتظر ذلك.
البَلَاغَة: 1 - {الكتاب الحكيم} فعيل بمعنى مفعول أي المُحْكم الذي لا يتطرق إِليه الفساد ولا يعتريه الكذب والتناقض.
2 -
{أَنذِرِ
…
. وَبَشِّرِ} بينهما طباقٌ.
3 -
{قَدَمَ صِدْقٍ} كناية عن المنزلة الرفيعة، والعبارةُ غايةٌ في البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعطى بها.
4 -
{يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بين كلمتي البدء والإِعادة طباقٌ.
5 -
{لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} فيه التفاتٌ مع الإِضافة إِلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.
6 -
{الشر استعجالهم بالخير} أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم بالخير ففيه تشبيه مؤكد مجمل، وبين الشر والخير طباقٌ.
7 -
{لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في الكلام استعارة تمثيلية حيث شبّه حال العباد مع ربهم بحال رعية مع سلطانها في إِمهالهم للنظر في أعمالهم، واستعير الاسم الدال على المشَّبه به للمشبَّه على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى.
8 -
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ.
فَائِدَة: قال السيوطي في قوله تعالى {جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} إِن هذه الآية أصلٌ في علم المواقيت، والحساب، والتاريخ، ومنازل القمر.
لطيفَة: قال الحافظ ابن كثير: من قال مقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدَّ أن يُنْصَب عليه من الأدلة على برِّه أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإِن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم َ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وحنْدس الظلماء، قال عبد الله بن سلام:«لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ المدينة انجفل الناس (أي تفرق اليهود عنه) فكنت فيمن انجفل، فلما رأيتُه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول» يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلو الجنة بسلام «فقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى من الدلائل قال حسان:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيِّنةٌ
…
لكان منظرهُ يُنْبيك بالخبر
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأدلة على فساد عبادة الأوثان، وشبهات المشركين حول الرسالة والقرآن، ذكر هنا أن عادة هؤلاء الأشقياء المكرُ، والجحودُ، والعِنَاد، فإن أصابتهم الشدة تضرّعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا، ثم ضرب تعالى المثل بالحياة الدنيا في الزوال والفناء، ثم عاد إِلى ذكر الأدلة والبراهين، على وحدانية الله ربّ العالمين.
اللغَة: {عَاصِفٌ} العاصف: الريح الشديدة التي تعصف بالأوراق والأشجار، قال الفراء: يقال عصفت الريح وأعصفت أي اشتدت قال الشاعر:
إِن الرياح إذا ما أعصَفَتْ قَصَفَتْ
…
عيدانَ نجدٍ ولا يَعْبأنَ بالرّتم
{الموج} ما ارتفع من الماء فوق البحر، سُمّي موجاً لاضطرابه {زُخْرُفَهَا} الزخرف: كمالُ حسنِ الشيء ونضارتهُ، سُمّي زخرفاً لبهجته ونضارته {تَغْنَ} غني بالمكان إِذا أقام به وعَمره {يَرْهَقُ} يغشى ويعلو يقال: رهقه الذل أي غشيه {قَتَرٌ} القَتر والقترة: الغبار الذي معه سواد قال تعالى {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] أي تعلوها غَبَرة جهنم، وقيل: القَتَر الغبارُ وإن لم يكن معه سواد قال الفرزدق:
متوّجٌ برداء الملك يتبعه
…
موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقَتَرا
{زَيَّلْنَا} فرَّقنا وميّزنا {تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن الحق إِلى الباطل.
التفسِير: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} المراد بالناس كفار مكة رُوي أن الله سلّط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم َ أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان فلما رحمهم الله بإنزال المطر رجعوا إلى الكفر والعناد والمعنى: وإذا أذقنا هؤلاء المشركين رخاءً بعد شدة، وخصباً بعد جدب أصابهم {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيب {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي إنَّ الملائكة الحفظة يكتبون مكركم ويسجّلون إجرامكم، وفيه تنبيهٌ على أن ما دبَّروه غير خاف على
الحفظة فضلاً عن العليم الخبير {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير على وجه الماء {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي حتى إذا كنتم في البحر على ظهور هذه السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فيه التفات أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيَّر السفن {وَفَرِحُواْ بِهَا} أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أيقنوا بالهلاك {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي: وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي لئن أنقذتنا من هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين لك على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك قال في البحر: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام وغيرها وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي فلما خلّصهم وأنقذهم إذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس: يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي وبالُ البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أي تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية، التي تعقبها الحسرات الباقية {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجعكم بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدً وتهديد.
والآية الكريمة تمثيلٌ لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان، وتمادى في الشرِّ والطغيان. ثم ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصِّر مدة التمتع بها فقال {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ لون {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام} أي مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} أي أخذت حسنها وبهجتها {وازينت} أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار، وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون لثمرتها وغلّتها {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} أي جاءها قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها
كالذي حصد بالمناجل {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي كأنها لم تكن عامرة قائمة على ظهر الأرض قبل ذلك {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي مثل ما بينا هذا المثل الرائع للحياة الدنيا نبيّن الآيات ونضرب الأمثال لقوم يتفكرون فيعتبرون بهذه الأمثال قال الألوسي: وتخصيصُهم بالذكر لأنهم المنتفعون {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين الإِسلام {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي للذين أحسنوا بالإِيمان والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه الله الكريم {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار {وَلَا ذِلَّةٌ} أي هوانٌ وصغار {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على ذلك، فالحسنات مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم ذلة وهوان {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} أي كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي لا يخرجون منها أبداً {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا الله {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم والذين عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59]{وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله قال مجاهد: يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا كقوله {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166]{فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي تقول الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أي ما كنا عن عبادتكم لنا إِلا غافلين، لا نسمع ولا نبصر ولا تعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت {وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الحق} أي ردّوا إلى الله تعالى المتولي جزاءهم بالعدل والقسط {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه م أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم شيئاً {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد
لهؤلاء المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية {وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ؟ أي من يخرج الإِنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من الكافر؟ {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف شئون الكائنات؟ {فَسَيَقُولُونَ الله} أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقْمته بإِشراككم وعبادتكم غير الله؟ {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابت ربوبيتُه ووحدانيتُه بالبراهين القاطعة {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلَاّ الضلال} استفهام انكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال {فأنى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق {عَلَى الذين فسقوا} أي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي لأنهم لا يصدّقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم وضلالتهم {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشيء الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون مفترون، أُمر صلى الله عليه وسلم َ بالجواب {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟ {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} توبيخٌ آخر في صورة استفهام أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يهدي إِلَاّ أَن يهدى} أي أفمن يرشد إِلى الحق وهو سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب والإِنكار، ثم بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل التقليد فقال {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنّاً} أي وما يتبعون في اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير
مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام باطلة، وخرافات فاسدة {إِنَّ الظن لَا يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} أي ومثل هذا الاعتقاد المبني على الأوهام والخيالات، ظنٌ كاذب لا يغني من اليقين شيئاً، فليس الظنُّ كاليقين {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي عالمٌ بما هم عليه من الكفر والتكذيب، وهو وعيدٌ على اتباعهم للظنّ، وإعراضهم عن البرهان، ثم بيَّن تعالى صدق النبوة والوحي فقال {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} أي لا يصح ولا يعقل، ولا يستقيم لذي عقل سليم، أن يزعم أن هذا القرآن مفترى مكذوب على الله، لأنه فوق طاقة البشر {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكنّه جاء مصدقاً لما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل {وَتَفْصِيلَ الكتاب} أي وفيه تفصيلُ وتبيينُ الشرائع والعقائد والأحكام {لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} أي لا شك في أنه تنزيل ربّ العالمين {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن من قبل نفسه؟ وهو استفهام معناه التقريع {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أي إِن كان كما زعمتم فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرآن، وهو تعجيزٌ لهم وإقامة حجة عليهم {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} أي ادعوا من دونه تعالى من استطعتم من خلقه، من الإِنس والجن للاستعانة بهم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في أن محمداً افتراه قال الطبري: والمراد أنك إن لم تفعلوا فلا شك أنكم كذبة، لأن محمداً لن يَعْدو أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز الجميعُ من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، فالواحد منهم أن يأتي بجميعه أعجز، قال تعالى {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم، وساروا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه، والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي والحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد {كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم الخالية قبلهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} أي فانظر يا محمد كيف أخذهم الله بالعذاب والهلاك بسبب ظلمهم وبغيهم، فكما فعل بأولئك يفعل بهؤلاء الظالمين الطاغين.
البَلَاغَة: 1 - {أَسْرَعُ مَكْراً} تسمية عقوبة اله مكراً من باب «المشاكلة» .
2 -
{وَجَرَيْنَ بِهِم} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وحكمته زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار لعدم شكرهم النعمة.
3 -
{أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} هذا من بديع الاستعارة شبّه الأرض حينما تتزين بالنبات والأزهار بالعروس التي تتزين بالحليّ والثياب واستعير لتلك البهجة والنضارة لفظ الزخرف.
4 -
{أَتَاهَآ أَمْرُنَا} الأمر هاهنا كناية عن العذاب والدمار.
5 -
{أَحْسَنُواْ الحسنى} بينهما جناس الإِشتقاق.
6 -
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل} فيه تشبيه مرسلٌ مجمل.
7 -
{يَبْدَأُ
…
ثُمَّ يُعِيدُهُ} بينهما طباقٌ.
8 -
{فأنى تُؤْفَكُونَ} الاستفهام للتوبيخ، ومثله {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
9 -
{بَيْنَ يَدَيْهِ} استعارة لطيفة والمراد لما سبقه من التوراة والإِنجيل فإِنها قد بشرت به.
لطيفَة: يقول شهيد الإِسلام «سيد قطب» في تفسيره الظلال: «ما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزقٍ بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحياناً في الخير، ويستخدمونه أحياناً في الشر، حسبما تَسْلَم عقائدهم أو تعتل، وكلُّه من رزق الله المسخّر للإِنسان، فمن سطح الأرض أرزاق، ومن جوفها أرزاق، ومن سطح الماء أرزاق، ومن أعماقه أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى عفن الأرض كشف فيه العلم عن دواء وترياق» وصدق الله {مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} ؟
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن الكافرين طعنهم في أمر النبوة والوحي، ذكر هنا أنَّ منهم من يصدِّق بأن القرآن كلام الرحمن، ولكنه يكابر ويعاند، ومنهم من لا يصدّق به أصلاً لفرط غباوته، وسخافة عقله، واختلال تمييزه
…
ثم ذكر تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور، وأعقبه بذكر مآل المشركين في الآخرة.
اللغَة: {الصم} جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع {بَيَاتاً} ليلاً {تُفِيضُونَ} يقال أفاض فلانٌ في الحديث إذا اندفع فيه {يَعْزُبُ} يخْفى ويغيب {مِّثْقَالِ} وزن {سُلْطَانٍ} حجة وبرهان {سُبْحَانَهُ} تنزيهٌ لله جل وعلا عن النقائص.
التفسِير: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أُرسلت به {وَمِنْهُمْ مَّن لَاّ يُؤْمِنُ بِهِ} بل يموت على ذلك ويُبعث عليه {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} ؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع {وَلَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ} أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون؟ قال ابن كثير: المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلام الحسن، والقرآن النافع، ولكنْ
ليس أمر هدايتهم إليك، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لَا يُبْصِرُونَ} أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق، قال القرطبي: والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم َ أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان {إِنَّ الله لَا يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله قال الطبري: وهذا إعلامٌ من الله بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النهار} أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، لهول ما يرون من الأهوال {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول الواحد للآخر: أنت أغويتني وأضللتني، وليس تعارف محبة ومودّة {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبهم على ما اقترفوا {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} قال مجاهد: يعني يوم القيامة قُضِي بينهم بالعدل قال ابن كثير: فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي لا يُعذبون بغير ذنب {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} أي لا استطيع أن أدفع عن نفسي ضراً، ولا أجلب إليها نفعاً، وليس ذلك لي ولا لغيري {إِلَاّ مَا شَآءَ الله} أي إِلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب! {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً}
أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه؟ {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً: ماذا تجني على نفسك {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في الكلام حذفٌ تقديره: أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك، قال الطبري: المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي يقال لكم أيها المجرمون: الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب؟ {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم؟ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون: أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها، ومنافعها قاطبة {لَافْتَدَتْ بِهِ} أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى
{فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ} [آل عمران: 91] ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب قال الإِمام الجلال: أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعبير {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} أي قُضي بين الخلائق بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} «أَلَا» كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله، لا شيء فيها لأحدٍ سواه، هو الخالق وهو المالك {أَلَا إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم، واستيلاء الغفلة عليهم، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو سبحانه المحيي والمميتُ، وإِليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرآن العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} أي يشفي ما فيها من الشك والجهل {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال صاحب الكشاف: المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة، والتنبيه على
التوحيد، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به منكم {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} قال ابن عباس: فضل الله القرآن، ورحمته الإِسلام والمعنى: ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله، من القرآن والإِسلام، فإِنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والنعيم الزائل، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} خطابٌ لكفار العرب والمعنى: أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً} أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة، والسائبة، والميتة قال ابن عباس: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب، والحرث والأنعام {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أي قل لهم يا محمد أخبروني: أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم، فأنتم فيه ممتثلون لأمره، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال؟ {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة} أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة؟ كلَاّ بل سيصليهم سعيراً، وهو وعيدٌ شديد للمفترين {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم َ أي ما تكون يا محمد في أمر من الأمور، ولا عملٍ من الأعمال {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرآن {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر {إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي إلا كنا شاهدين رقباء، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} أي ما يغيب ولا يخفى على الله {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات {وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ قال الطبري: والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي الذين صدّقوا الله ورسوله، وكانوا يتقون ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث
«إن لله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداءَ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلَّنا نحبُّهم، قال: هم قومٌ تحابّوا
في الله، على غير أرحامٍ بيْنهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى منابرَ من نور، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله
…
.} »
{لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} أي لهم ما يسرهم في الدارين، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلَاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} أي لا إخلاف لوعده {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى {وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم: لستَ نبياً مرسلاً، ثم ابتدأ تعالى فقال {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، لله وحده، فهو ناصرك ومانعك ومعينك، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه، ويمنعها أعداءه {هُوَ السميع العليم} أي السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ} أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] أي يَحدْسون ويكذبون، يظنون الأوهام حقائق {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش {والنهار مُبْصِراً} أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله، لقوم يسمعون سمع اعتبار، ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، كما قال كفار مكة: الملائكة بناتُ الله {سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإِنه المستغني عن جميع الخلق، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتفٍ عنه {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي الجميع خلقه وملكه {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} أي ما عندكم من حجة بهذا القول {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي أتفترون على الله وتكذبون بنسبه الشريك والولد؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم.
{قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لَا يُفْلِحُونَ} أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح {مَتَاعٌ فِي الدنيا} أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ} أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله.
البَلَاغَة: 1 - {مَّن يُؤْمِنُ بِهِ
…
. ومَّن لَاّ يُؤْمِنُ بِهِ} بينهما طباقٌ السلب.
2 -
{تُسْمِعُ الصم
…
تَهْدِي العمي} الصُّمُ والعميُ مجازٌ عن الكافرين شبههم بالصُّم والعمي لتعاميهم عن الحق.
3 -
{ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} بينهما طباقٌ وكذلك بين {بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} وبين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وبين {يَسْتَقْدِمُونَ
…
ويَسْتَأْخِرُونَ} .
4 -
{شِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} مجاز مرسل أطلق المحلَّ وأراد الحالَّ أي شفاءٌ للقلوب لأن الصدور محلُّ القلوب.
5 -
{حَرَاماً وَحَلَالاً} بينهما طباق.
6 -
{والنهار مُبْصِراً} قال في تلخيص البيان: هذه استعارة عجيبة، سمّى النهار مبصراً لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له على طريق المبالغة كما قالوا: ليلٌ أعمى وليلةٌ عمياء إذا لم يبصر الناس فيها شيئاً لشدة إظلامها.
7 -
{أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} استفهام توبيخ وتقريع.
فَائِدَة: أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في هذه السورة {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} وفي سورة سبأ {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَا تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [الآية: 7] ذكره ابن كثير.
تنبيه: كلمة «أرأيتَ» تستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية، أو العلمية، وهذا أصل وضعها ثم استعملت بمعنى «أخبرني» فيقولون: أرأيت ذلك الأمر أي أخبرني عنه، والرؤية إما بصرية أو علمية والتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفت أمره العجيب؟ فأخبرني عنها، ولذا لم تستعمل في غير الأمر العجيب، {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} ؟ {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] ؟ وهكذا.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم َ وكفار مكة، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ ليتأسى بهم فيهون عليه ما يلقاه من الشدائد والمكاره، وقد ذكر تعالى هنا ثلاث قصص: 1 - قصة نوح عليه السلام مع قومه 2 - قصة موسى وهارون مع الطاغية فرعون 3 - قصة يونس مع قومه، وفي كل قصة عبرةٌ لمن اعتبر، وذكرى لمن تدبر.
اللغَة: {كَبِرَ} قال الواحدي: كَبِرَ يكْبَرُ كِبَراً في السنِّ، وكبُر الأمرُ والشيءُ يكبُرُ كُبْراً وكُبَارةً إِذا عَظُم {غُمَّةً} الإِجماع: الإِعداد والعزيمة على الأمر وأنشد الفراء:
يا ليتَ شعري والمُنَى لا ينفعُ
…
هلْ أغدْونْ يوماً وأمري مُجْمعُ
{فأجمعوا} مبهماً من قولهم غُمَّ علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس واستتر قال طَرفة:
لعمرك ما أمري عليَّ بِغُمَّةٍ
…
نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَد
{نَطْبَعُ} نختم {تَلْفِتَنَا} تصرفنا وتلوينا واللفت: الصرف عن أمر وأصله الليُّ يقال لفت عنقه إِذا لواها {الكبريآء} العظمة والملك والسلطان {عَالٍ} عاتٍ متكبر {المسرفين} المجاوزين الحد
في الضلال والطغيان {اطمس} الطمسُ: المسخ قال الزجاج: طمسُ إِذهابه عن صورته ومنه عينٌ مطموسة.
التفسِير: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي اقرأ يا محمد على المشركين من أهل مكة خبر أخيك نوحٍ مع قومه المكذبين {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي حين قال لقومه الجاحدين المعاندين يا قوم إِن كان عظمُ وشقَّ عليكم {مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله} أي طولُ مقامي ولبثي فيكم، وتخويفي إِياكم بآيات ربكم، وعزمتم على قتلي طردي {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} أي على الله وحده اعتمدت، وبه وثقت فلا أبالي بكم {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} أي فاعزموا أمركم وادعوا شركاءكم، ودبّروا ما تريدون لمكيدتي {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن أمركم في شأني مستوراً بل مكشوفاً مشهوراً، {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونَ} أي أَنْفذوا ما تريدونه في أمري ولا تؤخروني ساعة واحدة، قال أبو السعود: وإِنما خاطبهم بذلك إِظهاراً لعدم المبالاة، وثقةً بالل وبوعده من عصمته وكلاءته {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} أي فإِن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري فليس لأني طلبت منكم أجراص حتى تمتنعوا، بل لشقاوتكم وضلالكم {إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الله} أي ما أطلب ثواباً أو جزاءً على تبليغ الرسالة إِلا من الله، وما نصحتكم إلا لوجه الله لا لغرضٍ من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي من الموحدين لله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} أي فأصروا واستمروا على تكذيب نوح فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} أي جعلنا من معه من المؤمنين سكان الأرض وخلفاً ممن غرق {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي أغرقنا المكذبين بالطوفان {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي انظر يا محمد كيف كان نهاية المكذبين لرسلهم؟ والغرض: تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ والتحذير لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} أي أرسلنا من بعد نوح رسلاً إِلى قومهم يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإِبراهيم وشعيباً {فَجَآءُوهُمْ بالبينات} أي بالمعجزات الواضحات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي ما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به الرسل، ولم يزجرهم عقاب السابقين {كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} أي كذلك نختم على قلوب المجاوزين الحدَّ في الكفر والتكذيب والعناد {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي بعثنا من بعد أولئك الرسل والأمم موسى وهارون إِلى فرعون وأشراف قومه {بِآيَاتِنَا} أي بالبراهين والمعجزات الباهرة، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف
{فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] أي تكبروا عن الإِيمان بها وكانوا مفسدين، تعوّدوا الإِجرام وارتكاب الذنوب العظام {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي فلما وضح لهم الحق الذي جاءهم به موسى من اليد والعصا قالوا لفرط عتوهم وعنادهم: هذا سحرٌ ظاهرٌ بيِّن أراد به موسى أن يسحرنا {قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتقولون عن هذا الحق إِنه سحرٌ؟ ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام آخر {أَسِحْرٌ هذا} أي أسحرٌ هذا الذي جئتكم به؟ {وَلَا يُفْلِحُ الساحرون} أي والحال أنه لا
يفوز ولا ينجح الساحرون {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي أجئتنا لتصرفنا وتلوينا عن دون الآباء والأجداد؟ {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} أي يكون لك ولأخيك هارون العظمة والملك والسلطان في أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين لكما فيما جئتما به {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي ائتوني بكل ساحر ماهر، عليمٍ بفنون السحر {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} في الكلام محذوف تقديره فأتوه بالسحرة فلما جاءوا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم {فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} أي ما جئتم به الآن هو السحرُ لا ما اتهمتموني به {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه وسيذهب به ويظهر بطلانه للناس {إِنَّ الله لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي لا يصلح عمل من سعى بالفساد {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ} أي يثبت الله الحق ويقوّيه بحججه وبراهينه {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي ولو كره ذلك الفجرة الكافرون {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} أي فما آمن مع موسى ولا دخل في دينه، مع مشاهدة تلك الآيات الباهرة إِلا نفرٌ قليلٌ من أولاد بني إِسرائيل قال مجاهد: هم أولاد الذين أُرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أي على تخوف وحذر من فرعون وملأه أن يعذبهم ويصرفهم عن دينهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} أي عاتٍ متكبر مفسد في الأرض {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} أي المتجاوزين الحدَّ بادعاء الربوبية {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله} أي قال لقومه لما رأى تخوف المؤمنين من فرعون يا قوم إِن كنتم صدقتم بالله وبآياته {فَعَلَيْهِ توكلوا} أي على الله وحده اعتمدوا فإِنه يكفيكم كل شرٍّ وضُرّ {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} أي إِن كنتم مستسلمين لحكم الله منقادين لشرعه {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} أي أجابوا قائلين: على ربنا اعتمدنا وبه وثقنا {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلّطهم علينا حتى يعذبونا ويفتتنوا بنا فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} أي خلِّصنا وأنقذنا بفضلك وإِنعامك من كيد فرعون وأنصاره الجاحدين {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} أي اتخذا لهم بيوتاً للصلاة والعبادة {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} اي اجعلوها مصلّى تصلون فيها عند الخوف قال ابن عباس: كانوا خائفين فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي أدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي بشّر يا موسى أتباعك المؤمنين بالنصر والغلبة على عدوهم {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} أي قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، زينةً من متاع الدنيا وأثاثها، وأنواعاً كثيرة من المال {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} اللام لامُ العاقبة أي آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إِضلال الناس عن
دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} دعاءٌ عليهم أي أهلكْ أموالهم يا ألله وبدِّدْها {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي قسِّ قلوبهم واطبع عليها حتى لا تنشرح للإِيمان قال ابن عباس: أي امنعهم الإِيمان {فَلَا يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} دعاءٌ عليهم بلفظ النفي أي اللهمَّ فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإِنما دعا عليهم موسى لطغيانهم وشدة ضلالهم، وقد علم بطريق الوحي أنهم لن يؤمنوا فدعا عليهم قال ابن عباس: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فنسبت الدعوة إِليهما {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} أي قال تعالى قد استجبتُ دعوتكما على فرعون وأشراف قومه {فاستقيما} أي اثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة إِلى الله وإِلزام الحجة {وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لَا يَعْلَمُونَ} أي لا تسلكا سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الاطمئنان بوعد الله تعالى، قال الطبري: رُوي أنه مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ثم أغرق الله فرعون.
البَلَاغَة: 1 - {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} تقديم ما حقه التأخير لإِفاده الحصر أي على الله لا على غيره.
2 -
{وَيُحِقُّ الحق} بينهما جناس الاشتقاق.
3 -
{لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} عبَّر عن الالتباس والستر بالغُمة بطريق الاستعارة أي لا يكن أمركم مغطّى تغطية حيرة ومبهما فيكون كالغمة العمياء.
4 -
{واشدد على قُلُوبِهِمْ} الشدُّ استعارةٌ عن تغليظ العقاب، ومضاعفة العذاب.
تنبيه: قال ابن كثير: دعوة موسى على فرعون كانت غضباً لله ولدينه كما دعا نوح على قومه فقال {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} [نوح: 26 - 27] ولهذا استجاب الله لموسى دعوته التي شاركه فيها أخوه هارون، كما استجاب دعوة نوح عليه السلام.
المنََاسَبةَ: لّما ذكر تعالى دعاء موسى على فرعون لطغيانه، ذكر هنا ما حدث لفرعون وجنوده من الإِغراق في البحر نتيجة البغي والعدوان، وأن إِيمانه لم ينفعه لأنه إِيمان المضطر، ثم ذكر قصة يونس وتوبة الله تعالى على قومه، وختم السورة الكريمة ببيان حقيقة التوحيد، وأن الإِنسان لا ينجيه عند الله إِلا الإِيمان.
اللغَة: {بَوَّأْنَا} أنزلنا وأسكنّا {الممترين} الشاكّين، امترى: شكَّ وارتاب {فَلَوْلَا} لولا للتحضيض بمعنى هلاّ {الرجس} العذاب أو السخط {حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الباطلة كلِّها {يَمْسَسْكَ} يصبك {كَاشِفَ} دافع ومزيل يقال: كشف السوء أي أزاله {بِوَكِيلٍ} بحفيظ موكول إِليَّ أمركم.
التفسِير: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} أي قطعنا وعدَّينا ببني إِسرائيل البحر «بحر السويس» حتى جاوزوه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} أي لحقهم فرعونُ مع جنوده ظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء بغير حق {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} أي حتى إِذا أحاط به الغرق وأيقن بالهلاك {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} أي قال عندئذٍ أقررتُ وصدقتُ بأنه لا إِله إِلا اللهُ ربُّ العالمين، الذي آمنت وأقرت به بنو إِسرائيل {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} تأكيدٌ لدعوى الإِيمان أي وأنا ممَّن
أسلم نفسه لله، وأخلص في إِيمانه قال ابن عباس: جعل جبريل عليه السلام في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة، وقد عصيت الله قبل نزول نقمته بك، وكنتَ من الغالين في الضلال والإِضلال والصدِّ عن دين الله؟ {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي فاليوم نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لتكون عبرةً لمن بعدك من الناس، ومن الجبابرة والفراعنة، حتى لا يطغوا مثل طغيانك قال ابن عباس: إِن بعض بني إِسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ليتحققوا موته وهلاكه {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلنا وأسكنا بني إِسرائيل بعد إِهلاك أعدائهم منزلاً صالحاً مرضياً {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي اللذائذ الطيبة النافعة {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي فما اختلفوا في أمر الدين إِلا من بعد ما جاءهم العلم وهو التوراة التي فيها حكم الله، وهذا ذمٌ لهم لأن اختلافهم كان بسبب الدين، والدينُ يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتت وقال الطبري: كانوا قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم َ مجمعين على نبوته، والإِقرار بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم، وآمن البعض، فذلك اختلافهم {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} هذا على سبيل الفرض والتقدير: أي إِن فرض أنك شككت فاسأل قال ابن عباس: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم َ ولم يسأل وقال الزمخشري: هذا على الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإِن وقع شكٌ مثلاً، وخيَّل لك الشيطان خيالاً تقديراً فسل علماء أهل الكتاب، وفرقٌ عظيم بين قوله
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45] بإِثبات الشك على سبيل التأكيد والتحقيق وبين قوله {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} بمعنى الفرض والتمثيل وقال بعضهم: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم َ والمراد غيره {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} أي اسأل أهل الكتاب الذين يعرفون التوراة والإِنجيل، فإِن ذلك محقَّق عندهم كما قصصنا عليك، والغرضُ دفع الشك عن قصص القرآن {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي جاءك يا محمد البيانُ الحق، والخبر الصادق، الذي لا يعتريه شك {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي فلا تكن من الشاكين المرتابين {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} أي لا تكذّبْ بشيءٍ من آيات الله {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} أي فتصبح ممن خسر دنياه وآخرته، قال البيضاوي: وهذا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع المشركين عنه وقال القرطبي: الخطابُ في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم َ والمراد غيره {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي وجبت عليهم كلمة العذاب بإِرادة الله الأزلية {لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أي لا يصدقون ولا يؤمنون أبداً ولو جاءتهم البراهين والمعجزات {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي فحينئذٍ يؤمنون كما آمن فرعون ولكن لا ينفعهم الإِيمان {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ
إِيمَانُهَا} أي فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، ثابتْ عن الكفر وأخلصت الإِيمان عند معاينة العذاب فنفعها إِيمانها في ذلك الوقت {إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ} أي غير قوم يونس {لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} أي لما تابوا عن الكفر وآمنوا بالله رفعنا عنهم العذاب المخزي المهين في الحياة الدنيا {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي أخرناهم إِلى انتهاء آجالهم قال قتادة: روي أن يونس أنذرهم بالعذاب ثم خرج من بين أظهرهم، فلما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المُسُوح، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندم على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} أي لو أراد الله لآمن الناس جميعاً، ولكنْ لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للحكمة، فإِنه تعالى يريد من عباده إِيمان الاختيار، لا إِيمان الإِكراه والاضطرار {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ؟ أي أفأنت يا محمد تُكره الناس على الإِيمان، وتضطرهم إِلى الدخول في دينك؟ ليس ذلك إِليك، والآية تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم َ وترويحٌ لقلبه مما كان يحرص عليه من إِيمانهم قال ابن عباس: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة في الذكّر الأول، ولا يضلُّ إِلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} أي ما كان لأحدٍ أن يؤمن إِلا بإِرادته تعالى وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لَا يَعْقِلُونَ} أي ويجعل العذاب على الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم فيما ينفع {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار: انظروا نظر تفكر واعتبار، ما الذي في السماوات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته سبحانه؟ {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} أي وما تنفع الآيات والإِنذارات قوماً سبق لهم من الله الشقاء {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} أي فهل ينتظر مشركو مكة إِلا مثل أيام أسلافهم، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال؟ {قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} أي قل لهم يا محمد: انتظروا عاقبة البغي والتكذيب إِني من المنتظرين هلاككم ودماركم {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ} أي ثم إِذا نزل العذاب بالمكذبين نُنجّي الرسل والمؤمنين إنجاءً مثل ذلك الإِنجاء {حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} أي حقاً ثابتاً علينا من غير شك قال الربيع بن أنس: خوَّفهم عذابه ونقمته، ثم أخبرهم أنه إِذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِن كنتم في شك من حقيقة ديني وصحته {فَلَا أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي فلا أعبد ما تعبدون من الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} أي ولكني أعبد الله الذي يتوفاكم، وبيده محياكم ومماتكم، قال الطبري: وهذا تعريضٌ ولحنٌ من الكلام لطيف، وكأنه يقول: لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني، وإِنما ينبغي أن تشكّوا في عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فأما إِلهي الذي أعبده فهو الذي يقبض الخلق وينفع
ويضر {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي وأنا مأمور بأن أكون مؤمناً موحّداً لله لا أشرك معه غيره {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي وأمرتُ بالاستقامة في الدين، على الحنيفية السمحة ملةِ إِبراهيم {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} أي ولا تكوننَّ ممن يشرك في عبادة ربه {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} تأكيدٌ للنهي المذكور أي ولا تعبدْ غير الله ممّا لا ينفع ولا يضر كالآلهة والأصنام {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} أي فإِن عبدتَ تلك الآلهة المزعومة كنت ممن ظلم نفسه لأنك عرضتها لعذاب الله، والخطابُ هنا للرسول صلى الله عليه وسلم َ والمراد غيره كما تقدم {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ} أي وإِن أراد الله إِصابتك بضرُ فلا دافع له إِلا هو وحده {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} أي وإِن أراد إِصابتك بنعمة أو رخاء فلا يمنعه عنك مانع {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يصيب بهذا الفضل والإِحسان من شاء من العباد {وَهُوَ الغفور الرحيم} أي هو سبحانه الغفور لذنوب العباد، الرحيم بأهل الرشاد {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} أي جاءكم القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي من اهتدى بالإِيمان فمنفعة اهتدائه لها خاصة {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي ومن ضلَّ بالكفر والإِعراض فوبال الضلال مقصور عليها {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي ولست بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم إِنما أنا بشيرٌ ونذير {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} أي اتّبعْ يا محمد في جميع شئونك ما يوحيه إِليك ربك {واصبر حتى يَحْكُمَ الله} أي اصبر على ما يعتريك من مشاقّ التبليغ حتى يقضي الله بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي هو سبحانه خير من يفصل في الحكومة، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ ووعيدٌ للمشركين.
البَلَاغة: 1 - {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} الاستفهام للتوبيخ والإِنكار.
2 -
{بَوَّأْنَا
…
مُبَوَّأَ} يبنهما جناس الاشتقاق.
3 -
{كَلِمَتُ رَبِّكَ} كناية عن القضاء والحكم الأزلي بالشقاوة.
4 -
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} صيغة المضارع حكاية عن الماضي لتهويل أمرها باستحضار صورتها.
5 -
{مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} بينهما طباق.
6 -
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ
…
وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} بين الجملتين مقابلة لطيفة وهي من المحسنات البديعية.
7 -
{فَمَنِ اهتدى
…
وَمَن ضَلَّ} بينهما طباقٌ.
8 -
{يَحْكُمَ الله
…
الحاكمين} بينهما جناس الاشتقاق.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: آمن فرعون ثلاث مرات: أولها قوله {آمَنتُ} وثانيها قوله {لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} وثالثها قوله {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فما السبب في عدم قبول إِيمانه؟ والجواب: أنه إِنما آمن عند نزول العذاب، والإِيمانُ في هذا الوقت غير مقبول،
لأنه يصير الحال حال الإِلجاء فلا ينفع التوبة ولا الإِيمان قال تعالى {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] .
تنبيه: قال المفسرون: إِنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق، لأن قوماً اعتقدوا فيه الإِلهية، وزعموا أن مثله لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة، ليتحققوا موته، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إِلى الذل والهوان، فيكون عبرة للخلق، وزجراً لأهل الطغيان.