المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: {سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى من كل - صفوة التفاسير - جـ ٢

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: {سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى من كل

اللغَة: {سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى من كل سوء ونقصٍ وهو خاصٌ به سبحانه {أسرى}

‌ الإِسراء:

السيرُ ليلاً يقال: أسرى وسرى لغتان قال الشاعر:

ص: 139

سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ

كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم

{فَجَاسُواْ} قال الزجاج: طافوا، والجَوْسُ: الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي: الجوسُ هو التردُّد والطلب {الكرة} الدَّولة والغَلَبة {تَتْبِيراً} هلاكاً ودماراً {مَحَوْنَآ} طمسنا قال علماء اللغة: المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره {طَآئِرَهُ} عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال {مُتْرَفِيهَا} المُتْرفُ: المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش {يَصْلاهَا} يدخلها ويذوق حرَّها {مَّدْحُوراً} مطروداً مبعداً من رحمة الله.

التفسِير: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله، اللهُ العليُّ الشأن، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ في جزءٍ من الليل {مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام قال المفسرون: وإنما قال {لَيْلاً} بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ {سُبْحَانَ} الدال على كمال القدرة، وبالغ الحكمة، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، وكان الإِسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} أي لنريَ محمداً صلى الله عليه وسلم َ آياتنا العجيبة العظيمة، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض، فقد رأى صلوات الله عليه السماوات العُلى والجنة والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإِيمان {أَلَاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} أي لا تتخذوا لكم ربا تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون: لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} أي ليحصلنَّ منكم الإفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس: أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلمٍ

ص: 140

والعدوان وانتهاك محارم الله {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي أُولى المرتين من الإِفساد {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بختنصر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده، وذلك أول الفسادين {فَجَاسُواْ خِلَالَ الديار} أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلَة والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها، فهو الغني عن العباد، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإِذلال والقهر {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} أي لعل الله يرحكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و {عسى} من الله واجبة {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين، ثم بيًّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال {إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل، ولما هو أعدل وأصوب {وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم {وأَنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير

ص: 141

لهلك قال ابن عباس: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحبُّ أن يستجاب له: اللهمَّ أهلكه اللهمَّ دمْره ونحوه {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي ومن طبيعة الإِنسان العجلة، يتعجل بالدعاء على نفسه ويسارع لكل ما يخطر بباله، دون النظر في عاقبته، ثم أشار تعالى إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، التي كلٌ منها برهانٌ نيِّر على وحدانية الله فقال {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ} أي علامتين عظيمتين على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل} أي طمسنا الليل فجعلناه مظلماً لتسكنوا فيه {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} أي جعلنا النهار مضيئاً مشرقاً بالنور ليحصل به الإِبصار {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتطلبوا في النهار أسباب معايشكم {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي ولتعلموا عدد الأيام والشهور والأعوام، بتعاقب الليل والنهار، فالليل للراحة والسكون، والنهار للكسب والسعي {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي وكلَّ أمر من أمور الدنيا والدين، بينَّاه أحسن تبيين، وليس شيء من أمر هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجُزاف، وإنما هو بتقديرٍ وتدبيرٍ حكيم {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي أن الإِنسان مرهون بعمله مجزي به، وعملُه ملازم له لزوم القلادة للعُنُق لا ينفك عنه أبداً {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} أي نظهر له في الآخرة كتاب أعماله مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته فيرى عمله مكشوفاً لا يملك إخفاءه أو تجاهله {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} أي إقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت، لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي من اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلَّ فعقاب كفره وضلاله عليها {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي وما كنا معذبين أحداً من الخلق حتى نبعث لهم الرسل مذكرين ومنذرين فتقوم عليهم الحجة {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي وإذا أردنا هلاك قوم من الأقوام أمرنا المتنعمِّين فيها والقادة والرؤساء بالطاعة على لسان رسلنا فعصوا أمرنا وخرجوا عن طاعتنا وفسقوا وفجروا {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي فوجب عليهم العذاب بالفسق والطغيان فأهلكناهم إهلاكاً مُريعاً قال ابن عباس:{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} أي وكثير من الأمم الطاغية المكذبين للرسل أهلكناهم من بعد نوح كقوم عاد وثمود وفرعون قال ابن كثير: والآية إنذار لكفار قريش والمعنى إنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} أي كفى يا محمد أن يكون ربك رقيباً على أعمال العباد يدرك بواطنها وظواهرها ويجازي عليها {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط ولها يعمل ويسعى ليس له همٌّ إلا الدنيا عجلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها لا كلَّ ما يريد {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} أي ثم

ص: 142

جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمة الله {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإِيمان {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص، والعمل الصالح، والإِيمان.

كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول، مثاباً عليه {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أي ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير، وهذا شريف وذاك حقير {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {لَاّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

براعة الاستهلال {سُبْحَانَ الذي أسرى} لأنه لما كان أمراً خارقاً للعادة بدأ بلفظ يشير إلى كمال القدرة وتنزه الله عن صفات النقص.

2 -

إضافة التكريم والتشريف {بِعَبْدِهِ} .

3 -

جناس الاشتقاق {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً} {تَزِرُ وَازِرَةٌ} .

4 -

الطباق بين {أَحْسَنْتُمْ

وأَسَأْتُمْ} وبين {ضَلَّ

واهتدى} .

5 -

إيجاز بالحذف {اقرأ كتابك} أي يقال له يوم القيامة إقرأ كتابك {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا وفسقوا فيها.

6 -

المجاز العقلي {آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} لأن النهار لا يُبصر بل يُبْصر فيه فهو من إسناد الشيء إلى زمانه.

7 -

الاستعارة اللطيفة {طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} استعير الطائر لعمل الإِنسان، ولما كان العرب يتفاءلون ويتشاءمون بالطير سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.

لطيفَة: الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ثم عروجه من بيت المقدس إلى السماوات العلى أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن تنزل الوحي الإِلهي على الرسل الكرام، ولما كانت هذه الرحلة رحلة تكريم أراد تعالى أن يشرفهم بزيارته. ولهذا صلى بهم إماماً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

تنبيه: وصفه تعالى في هذه السورة بالعبودية {أسرى بِعَبْدِهِ} لأنه أشرف المقامات وأسمى المراتب العلية، كما وصفه في مقام الوحي كذلك {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] وفي مقام الدعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ولهذا قال القاضي عياض:

ص: 143

ومما زادني شرفاً وتيهاً

وكدتُ بأخمصي أطأ الثريّا

دخولي تحت قولك يا عبادي

وأن صيَّرت أحمد لي نبياً

ص: 144

المنَاسَبَة: لما جعل تعالى الإِيمان والعملَ الصالح أساساً للفوز بالسعادة الأبدية، وبيَّن حال المؤمن الذي أراد بعمله الدار الآخرة، ذكر هنا طائفةً من الأوامر والزواجر التي يقوم عليها بنيان

ص: 144

المجتمع الفاضل، ثم ذكر تعالى موقف المشركين المكذبين من هذا القرآن العظيم.

اللغَة: {أُفٍّ} كلمة تضجُّر وتبرُّم قال ابن الأعرابي الأفُّ: الضجر، وأصلها أنه إذا سقط تراب أو رماد فنفخ الإنسان ليزيله، فالصوت الحاصل هو أُفّ ثم توسعوا في الكلمة حتى أصبحت تقال لكل مكروه {تَنْهَرْهُمَا} النهْرُ: الزجرُ والغِلظة {الأَوَّابِينَ} جمع أوَّاب وهو كثير التوبة والإِنابة من الأَوْب بمعنى الرجوع {مَّحْسُوراً} منقطعاً عن النفقة والتصرف قال الفراء: تقول العرب للبعير هو محسور إذا انقطع سيره، وحَسرَت الدابة إذا انقطعت عن المسير لذهاب قوتها، فشُبّه حال من أنفق كلّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته {إِمْلاقٍ} فقر وفاقة، أملق الرجل إذا افتقر {خِطْئاً} قال الأزهري: خطيئ يَخْطَأُ خِطْأً إذا تعمَّد الخطأ، وأخطأ إذا لم يتعمد {القسطاس} الميزان مأخوذ من القِسْط وهو العدل {تَقْفُ} تَتَّبعْ مأخوذ من قفوتُ أثر فلان إذا اتبعت أثَره وأصله البهتُ والقذف بالباطل {مَرَحاً} المَرَح: شدة الفرح والمراد به هنا التكبر والخيلاء {صَرَّفْنَا} بيَّنا {أَكِنَّةً} جمع كِنان وهو الغطاء الذي يستر الشيء {وَقْراً} صمماً وثقلاً.

التفسِير: {وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} أي حكم تعالى وأمر بأن لا تعبدوا إلهاً غيره وقال مجاهد: {وقضى} يعني وصَّى بعبادته وتوحيده {وبالوالدين إِحْسَاناً} أي وأمر بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً قال المفسرون: قرن تعالى بعبادته برَّ الوالدين لبيان حقهما العظيم على الولد لأنهما السبب الظاهر لوجوده وعيشه، ولما كان إحسانهما إلى الولد قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسان الولد إليهما كذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} أي قد أوصيناك بهما وبخاصة إذا كبرا أو كبر أحدهما، وإنما خصَّ حالة الكِبَر لأنهما حينئذٍ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى {عِندَكَ} أي في كنفك وكفالتك {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي لا تقل للوالدين أقل كلمة تظهر الضجر ككلمة أفٍّ ولا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولو بكلمة التأفف {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أي لا تزجرهما بإغلاظٍ فيما لا يعجبك منهما {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي قل لهما قولاً حسناً ليناً طيباً بأدب ووقار وتعظيم {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} أي ألنْ جانبك وتواضعْ لهما بتذلّل وخضوع من فرط رحمتك وعطفك عليهما {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} أي أدع لهما بالرحمة وقل في دعائك يا رب ارحم والديَّ برحمتك الواسعة كما أحسنا إليَّ في تربيتهما حالة الصغر {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بما في نفوسكم من إرادة البر أو العقوق {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} أي إن تكونوا قاصدين للبِرّ والصلاح دون العقوق والفساد فإِنه جلَّ وعلا يتجاوز عن سيئاتكم ويغفر للأوابين وهم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين قال الرازي: والمقصود من هذه الآية أن الأولى لما دلَّت على وجوب تعظيم الوالدين ثم إنَّ الولد قد يظهر منه ما يخلُّ بتعظيمهما فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلَّة البشرية كانت في محل الغفران، وبمناسبة الإِحسان إلى الوالدين يأمر تعالى بالإِحسان إلى الأقارب

ص: 145

والضعفاء والمساكين {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} أي أعط كلَّ من له قرابة بك حقَّه من البر والإِحسان {والمسكين وابن السبيل} أي وأعط المسكين المحتاج والغريبَ المنقطع في سفره حقَّه أيضاً {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} أي لا تنفق مالكَ في غير طاعة الله فتكون مبذّراً، والتبذير الإِنفاق في غير حق قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كلَّه في الحق لم يكن مبذّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذّراً وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} هذا تعليل للنهي وهو غاية في الذم والتقبيح أي إن المبذرين كانوا أمثال الشياطين وأشباههم في الإِفساد، لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر والمعصية فهم أمثالهم {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} أي مبالغاً في كفران نعمة الله لا يؤدي حقَّ النعمة كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقُّها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي إن أعرضتَ عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدْهم وعداً جميلاً {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} تمثيلٌ للبخل اي لا تكنْ بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً كمن حبست يده عن الإِنفاق وشدَّت إلى عنقه {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} تمثيل للتبذير أي ولا تتوسع في الإِنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء، والغرض من الآية لا تكن بخيلاً ولا مسرفاً {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} أي فتصير مذموماً من الخَلْق والخالق، منقطعاً من المال كمن انقطع في سفره بانقطاع مطيته {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيِّق على من يشاء، وهو القابض، الباسط المتصرف في خلقه، بما يشاء حسب الحكمة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي إنه عالم بمصالح العباد، والتفاوتُ في الأرزاق ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح فهو تعالى يعمل من مصالحهم ما يخفى عليهم {وَلَا تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي لا تُقدموا على قتل أولادكم مخافة الفقر {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} أي رزقُهم علينا لا عليكم فنحن نرزقهم ونرزقكم فلا تخافوا الفقر بسببهم {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} أي قتلُهم ذنبٌ عظيم وجرمٌ خطير قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يئدون البنات مخافة الفقر أو العار فنهاهم الله عن ذلك وضمن أرزاقهم {وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى} أي لا تدنوا من الزنى وهو أبلغ من «لا تزنوا» لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنى كاللَّمس، والقُبلة، والنظرة، والغمز وغير ذلك مما يجرُّ إلى الزنى فالنهي عن القرب أبلغ من النهي عن الفعل {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي إن الزنى كان فعلة قبيحة متناهية في القبح {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي ساء طريقاً موصلاً إلى جهنم {وَلَا تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلَاّ بالحق} أي لا تقتلوا نفساً حرَّم الله قتلها بغير حقٍ شرعي موجبٍ للقتل كالمرتد، والقاتل عمداً، والزاني المحصن {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} أي ومن قُتل ظلماً بغير حقٍ يوجب قتله فقد جعلنا لوارثه سلطةً على القاتل بالقصاص منه، أو أخذ الدية، أو العفو {فَلَا يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} أي فلا يتجاوز الحدَّ المشروع بأن يقتل غير القاتل أو يُمثّل به أو يقتل اثنين بواحد كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فحسبُه أن الله قد

ص: 146

نصره على خصمه فليكن عادلاً في قصاصه {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلَاّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أحسن وهي حفظه واستثماره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي حتى يبلغ اليتيم سن الرشد ويحسن التصرف في ماله {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} أي وفّوا بالعهود سواءً كانت مع الله أو مع الناس لأنكم تُسألون عنها يوم القيامة {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} أي أتموا الكيل إذا كلتم لغيركم من غير تطفيفٍ ولا بَخْس {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} أي زنوا بالميزان العدل السويّ بلا احتيالٍ ولا خديعة {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خيرٌ في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتَّبعْ ما لا تعلم ولا يَعْنيك بل تثبَّتْ من كل خبر، قال قتادة: لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أي إن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن حواسه: عن سمعه، وبصره، وقلبه وعما اكتسبته جوارحه {وَلَا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي لا تمش في الأرض مختالاً مشية المعجب المتكبر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} هذا تعليل للنهي عن التكبر والمعنى أنك أيها الإِنسان ضئيل هزيل لا يليق بك التكبر؟ كيف تتكبر على الأرض ولن تجعل فيها خرقاً أو شقاً؟ وكيف تتطاول وتتعظَّمْ على الجبال ولن تبلغها طولاً؟ فأنت أحقر وأضعف من كل واحدٍ من الجماديْن فكيف تتكبر وتتعالى وتختال وأنت أضعف من الأرض والجبال؟ وفي هذا تهكم وتقريع للمتكبرين {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} أي كل ذلك المذكور الذي نهى الله عنه كان عمله قبيحاً ومحرماً عند الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} أي ذلك الذي تقدم من الآداب والقصص والأحكام بعضُ الذي أوحاه إليك ربك يا محمد من المواعظ البليغة، والحِكَم الفريدة {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} أي لا تشرك مع الله غيره من وثنٍ أو بشر فتلقى في جهنم ملوماً تلوم نفسك ويلومك اللهُ والخلق مطروداً مبعداً من كل خير قال الصاوي: ختم به الأحكام كما ابتدأها إشارةً إلى أن التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاها، وهو رأس الأشياء وأساسُها، والأعمالُ بدونه باطلةٌ لا تفيد شيئاً {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} خطابٌ على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى أفخصكم ربكم وأخلصكم بالذكور واختار لنفسه - على زعمكم - البنات؟ كيف يجعل لكم الأعلى من النسل ويختار لنفسه الأدنى! {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أي إنكم لتقولون قولاً عظيماً في شناعته وبشاعته حيث تنسبون إليه البنات وتجعلون لله ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} أي ولقد بيّنا للناس في هذا القرآن العظيم الأمثال والمواعظ، والوعد والوعيد، ليتذكروا بما فيه من الحجج النيِّرة والبراهين الساطعة، فينزجروا عما هم فيه من الشرك والضلال {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} أي وما يزيدهم هذا البيان والتذكير إلا تباعداً عن الحق، وغفلةً عن النظر والاعتبار {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} أي لو فرضنا أن مع الله آلهة أخرى كما يزعم هؤلاء المشركون إذاً لطلبوا طريقاً إلى مغالبة ذي العزة

ص: 147

والجلال ليسلبوا ملكه كما يفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} أي تنزَّه تعالى وتقدَّس عما يقول أولئك الظالمون، وتعالى ربنا عما نسبوه إليه من الزور والبهتان تعالياً كبيراً، فإن مثل هذه الفِرية مما يتنزّه عنه مقامه الأسمى قال الشهاب: وذكر العلُوَّ بعد عنوانه ب {ذِي العرش} في أعلى مراتب البلاغة لأنه المناسب للعظمة والجلال {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} أي تسبح له الكائنات، وتنزهه وتقدسه الأرض والسماوات، ومن فيهن من المخلوقات {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء في هذا الوجود إلا ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جلَّ وعلا، السماواتُ تسبّح الله في زرقتها، والحقولُ في خضرتها، والبساتينُ في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياهُ في خريرها، والطيورُ في تغريدها، والشمسُ في شروقها وغروبها، والسحبُ في إمطارها، والكل شاهد بالوحدانية لله.

وفي كل شيءٍ له آيةٌ

تدلُّ على أنه واحدُ

{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي ولكنْ لا تفهمون تسبيح هذه الأشياء لأنها ليست بلغاتكم {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي إنه تعالى حليم بالعباد لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، غفورٌ لمن تاب وأناب، ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} أي وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالآخرة جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفياً يحجب عنهم فهم القرآن وإِدراك أسراره وحِكمه {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي وجعلنا على قلوب هؤلاء الكفار أغطيةً لئلا يفهموا القرآن {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي صمماً يمنعهم من استماعه {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} أي وإذا وحدَّت الله وأنت تتلو القرآن فرَّ المشركون من ذلك هرباً من استماع التوحيد {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالغاية التي يستمعون من أجلها للقرآن وهي الاستهزاء والسخرية قال المفسرون: كان المشركون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم َ مظهرين الاستماع وفي الواقع قاصدين الاستهزاء فنزلت الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ وتهديداً للمشركين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى} أي حين يستمعون إلى قراءتك يا محمد ثم يتناجون ويتحدثون بينهم سراً {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي حين يقول أولئك الفجرة ما تتبعون إلا رجلاً سُحر فجُنَّ فاختلط كلامه {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ} أي انظر يا محمد وتعجَّب كيف يقولون تارة عنك إنك

ص: 148

ساحر، وتارة إنك شاعر، وتارة إنك مجنون {وقد ضلوا بهذا البهتان والزور {فَلَا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي لا يجدون طريقاً إلى الهدى والحق المبين.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

الاستعارة المكنية {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} شبَّه الذل بطائر له جناح وحذف الطائر ورمز له بشيء من لوازمه وهو الجناح على سبيل الاستعارة المكنية.

2 -

الاستعارة التمثيلية {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} مثَّل للبخيل بالذي حبست يده عن الإِعطاء وشدت إلى عنقه بحيث لا يقدر على مدها، وشبَّه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئاً.

3 -

اللف والنشر المرتب {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} عاد لفظ {مَلُوماً} إلى البخل ولفظ {مَّحْسُوراً} إلى الإِسراف أي يلومك الناس إن بخلت، وتصبح مقطوعاً إن أسرفت.

4 -

الطباق بين {يَبْسُطُ

وَيَقْدِرُ} .

5 -

جناس الاشتقاق {قَرَأْتَ القرآن} .

6 -

التوبيخ {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} ؟

7 -

الفرض والتقدير {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} .

لطيفَة: نقف هنا أمام مثلٍ من دقائق التعبير القرآني العجيبة ففي هذه السورة قدَّم تعالى رزق الأبناء على رزق الآباء {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وفي سورة الأنعام قدَّم رزق الآباء {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] والسرُّ في ذلك أن قتل الأولاد هنا كان خشية وقوع الفقر بسببهم فقدَّم تعالى رزق الأولاد، وفي الأنعام كان قتلهم بسبب فقر الآباء فعلاً فقدم رزق الآباء، فلله در التنزيل ما أروع أسراره}

ص: 149

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى موقف المشركين من القرآن العظيم، وذكر تعاميهم عن فهم آياته البينات، أردفه بذكر شبهاتهم في إنكار البعث والنشور وكرَّ عليها بالإبطال والتفنيد، ثم ذكر قصة آدم وإبليس للعظة والاعتبار، وأعقبها بذكر نعمه العظيمة على العباد ثم بالوعيد والتهديد إن أصرُّوا على الكفر والجحود.

اللغَة: {رُفَاتاً} الرُّفات: ما تكسِّر وبَلِيَ من كل شيء كالفُتات والحُطام والرُّضاض {يُنْغِضُونَ} قال الفراء: يقال أنغض فلانٌ رأسه إذا حرّكه إلى فوق وأسفل كالمتعجب من الشيء قال الراجز: «أَنْغَض نحوي رأسه وأقنعا» {يَنزَغُ} يفسد ويهيِّج الشر والنزغُ: الإفسادُ والإغراء {لأَحْتَنِكَنَّ} الاحتناك الأخذ بالكليَّةِ والاستئصال يقال: احتنك الجرادُ الزرعَ إذا ذهب به كلَّه {استفزز} اخدعْ واستخفَّ يقال: أفزَّه الخوف واستفزّه إذا أزعجه واستخفَّه {وَأَجْلِبْ} أصل الإِجلاب السوقُ بجلبَةٍ من السائق وهو الصياح، والجَلَب والجَلَبَةُ الأصوات {وَرَجِلِكَ} الرَّجِلُ جمع راجل وهو الذي يمشي على قدميه {يُزْجِي} يسوق {حَاصِباً} الحاصب والحصباء هي الحَصَى الصغار {قَاصِفاً} القاصف ما يقصف الشيء أي يكسره والريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه أي كسره بشدة، ورعد قاصف شديد الصوت {تَبِيعاً} طالباً يقال تابع وتبيع وهو النصير والمطالب.

سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: أن شئتَ أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئتَ

ص: 150

نعطيهم الذي سألوا فإن كفروا أُهلكوا، فقال: لا بل أستأني بهم» فنزلت {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون

} الآية.

ب - لما ذكر تعالى شجرة الزقوم في القرآن قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً يخوّفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تُحرق الشجر؟ ومحمد يزعم أن النار تُنْبِت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزُّبد، يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به فقال: تزقّموا من هذا الذي يخوّفم به محمد فأنزل الله تعالى {والشجرة الملعونة فِي القرآن وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} .

التفسِير: {وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} استفهام تعجب وإنكار أي قال المشركون المكذبون بالبعث أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة كالتراب {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي هل سنُبعث ونُخْلق خلقاً جديداً بعد أن نبلى ونفنى؟ {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} أي قل لهم يا محمد لو كنتم حجارةً أو حديداً لقدر الله على بعثكم وإحيائكم فضلاً عن أن تكونوا عظاماً ورفاتاً فإن الله لا يعجزه شيء، فالحجارة والحديد أبعد عن الحياة وهي أصلب الأشياء ولو كانت أجسامكم منها لأعادها الله فكيف لا يقدر على إعادتكم إذا كنتم عظاماً ورفاتاً؟ {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي أو كونوا خلقاً آخر أوغل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يصعب في نفوسكم تصوُّرُ الحياة فيه فسيبعثكم الله قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} ؟ أي من الذي يردنا إلى الحياة بعد فنائنا {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل لهم يعيدكم القادر العظيم الذي خلقكم وأنشأكم من العدم أول مرة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ متى هُوَ} ؟ أي يحركون رءوسهم متعجبين مستهزئين ويقولون استنكاراً واستبعاداً متى يكون البعث والإعادة؟ {قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي لعله يكون قريباً فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً} أي سيكون بعثكم يوم الحشر الأكبر يوم يدعوكم الرب جل وعلا للاجتماع في المحشر فتجيبون لأمره، وتظنون لهوْل ما ترون أنكم ما أقمتم في الدنيا إلا زمناً قليلا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} أي قل لعبادي المؤمنين يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلمة الطيبة ويختاروا من الكلام ألطفه وأحسنه وينطقوا دائماً بالحسنى {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي إن الشيطان يُفسد ويُهيج بين الناس الشرَّ ويُشعل نار الفتنة بالكلمة الخشنة يُفلت بها اللسان {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} أي ظاهر العداوة للإِنسان من قديم الزمان يتلمس سقَطَات لسانه ليُحدْث العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بدخائل نفوسكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإِيمان، وإن يشأ يعذبكم بالإِماتة على الكفر والعصيان {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي وما جعلناك يا محمد حفيظاً على أعمال الكفار كفيلاً عنهم لتقسرهم على الإِيمان إنما أرسلناك نذيراً فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض} إنتقالٌ من الخصوص إلى العموم أي ربك

ص: 151

جلَّ وعلا أعلمُ بعباده بأحوالهم ومقاديرهم فيخص بالنبوة من شاء من خلقه، وهو أعلم بالسعداء والأشقياء، والآية ردٌّ على المشركين حيث استبعدوا النبوة على رسول الله وقالوا: كيف يكون يتيم أبي طالب نبياً؟ وكيف يكون هؤلاء الفقراء الضعفاء أصحابه دون الأكابر والرؤساء؟ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} أي فضلنا بعض الأنبياء على بعض حسب علمنا وحكمتنا وخصصناهم بمزايا فريدة، فاصطفينا إبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالتكليم، وسليمان بالمُلْك العظيم، ومحمداً بالإِسراء والمعراج وجعلناه سيّد الأولين والآخرين، وكلُّ ذلك فعل الحكيم العليم الذي لا يصدر شيءٌ إلا عن حكمته {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} أي وأنزلنا الزبور على داود المشتمل على الحكمةِ وفصلِ الخطاب {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه تعالى قال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيراً فقد كانوا يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله {فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} أي فلا يستطيعون رفع البلاء عنكم ولا تحويله إلى غيركم {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم من دون الله هم أنفسهم يبتغون القرب إلى الله، ويتوسلون إليه بالطاعة والعبادة، فكيف تعبدونهم معه؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أي يرجون بعبادتهم رحمته تعالى ويخافون عقابه ويتسابقون إلى رضاه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي عذابه تعالى شديد ينبغي أن يُحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} أي ما من قريةٍ من القرى الكافرة التي عصتْ أمر الله وكذَّبتْ رسله إلا وسيهلكها الله إما بالاستئصال الكلي أو بالعذاب الشديد لأهلها {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} أي كان ذلك حكماً مسطراً في اللوح المحفوظ لا يتغيَّر {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} قال المفسرون: اقترح المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ معجزاتٍ عظيمة منها أن يقلب لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال فأخبره تعالى أنه إن أجابهم إلى ما طلبوا ثم لم يؤمنوا استحقوا عذاب الاستئصال، وقد اقتضَت حكمته تعالى إمهالهم لأنه علم أنَّ منهم من يؤمن وأن من أولادهم من يؤمن فلهذا السبب ما أجابهم إلى ما طلبوا أو المعنى ما منعنا من إرسال المعجزات والخوارق التي اقترحها قومك إلاّ تكذيبُ مَنْ سبقهم من الأمم حيث اقترحوا ثم كذبوا فأهلكهم الله ودمَّرهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} أي وأعطينا قوم صالح الناقة آيةً بينة ومعجزةً ساطعة واضحة فكفروا بها وجحدوا بعد أن سألوها فأهلكهم الله {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلَاّ تَخْوِيفاً} أي وما نرسل بالآيات الكونية كالزلازل والرعد والخسوف والكسوف إلا تخويفاً للعباد من المعاصي قال قتادة: إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويرجعون {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} أي واذكر يا محمد حين أخبرناك أن الله أحاط بالناس علماً في الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم وقد علم أنهم لن يؤمنوا ولو جئتهم بما طلبوا من الآيات والمعجزات {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} أي وما جعلنا الرؤية التي أريناكها عياناً

ص: 152

ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء إلا امتحاناً وابتلاءً لأهل مكة حيث كذبوا وكفروا وارتد بعض الناس لما أخبرهم بها قال البخاري عن ابن عباس: هي رؤيا عينٍ أُريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ ليلةَ أُسريَ به وليست برؤيا منام {والشجرة الملعونة فِي القرآن} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم إلا فتنةً أيضاً للناس قال ابن كثير: لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم كذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكماً: هاتوا لنا تمراً وزُبْداً وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقّموا فلا نعلم الزقوم غير هذا {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} أي ونخوّف هؤلاء المشركين بأنواع العذاب والآيات الزاجرة فما يزيدهم تخويفنا إلا تمادياً وغياً واستمراراً على الكفر والضلال، فماذا تنفع معهم الخوارق؟ ما زادتهم خارقة الإِسراء والمعراج، ولا خارقة التخويف بشجرة الزقوم إلا استهزاءً وإمعاناً في الضلال، ثم أَشار تعالى إلى أن هذا الطغيان سببه إغواء الشيطان ولهذا ذكر قصته عقب ذلك فقال {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إَلَاّ إِبْلِيسَ} أي أذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى افتخاراً على آدم واحتقاراً له {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} استفهامٌ إنكاري أي أأسجد أنا العظيم الكبير لهذا الضعيف الحقير الذي خلقته من الطين؟ كيف يصح للعالي أن يسجد للداني؟ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي قال إبليس اللعين جراءةً على الربّ وكفراً به: أتُرى هذا المخلوق الذي فضَّلته عليَّ وجعلتَه أكرَم مني عندك؟ {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} أي لئن أنظرتني وأبقيتني حياً إلى يوم القيامة لأستأصلنَّ ذريته بالإِغواء والإضلال قال الطبري: أقسم عدوُّ الله فقال لربه: لئن أخرتَ إهلاكي إلى يوم القيامة لأستأصلنَّهم ولأستميلنَّهم وأضلنَّهم إلا قليلاً منهم {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} أي قال الرب جلَّ وعلا: إذهب فقد أنظرتُك وابذل جهدك فيهم فمن أطاعك من ذرية آدم فإن جزاءك وجزاءهم نارُ جهنم جزاء كاملاً وافراً لا ينقص لكم منه شيء قال القرطبي: والأمر في {اذهب} أمرُ إهانة والمعنى اجهد جهدك فقد أنظرناك {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخفف واستجهل وحرِّكْ من أردتَ أن تستفزَّه فتخدعه بدعائك إلى الفساد قال ابن عباس: صوتُه كلُّ داعٍ يدعو إلى معصية الله تعالى وقال مجاهد: صوته الغناء والمزامير واللهو {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي صِحْ عليهم بأعوانك وجنودك من كل راكبٍ وراجل قال الطبري: المعنى اجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يصيح عليهم بالدعاء إلى طاعتك، والصرفِ عن طاعتي قال ابن عباس: خيلُه ورَجِله كلُّ راكبٍ وماشٍ في معصية الله تعالى وقال الزمخشري: الكلام واردٌ مورد التمثيل، مُثِّلَتْ حالُه في تسلطه على من يُغويه بفارسٍ مغوار أوقع على قومٍ فصوَّت بهم صوتاً يستفزهم عن أماكنهم، ويُقلقهم عن مراكزهم، وأجلبَ عليهم بجنده من خيَّالةٍ ورجَّالة حتى

ص: 153

استأصلهم {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} أي اجعل لنفسك شركة في أموالهم وأولادهم، أما الأموال فبكسبها من الحرام وإنفاقها في المعاصي، وأما الأولاد فبتحسين اختلاط الرجال بالنساء حتى يكثر الفجور ويكثر أولاد الزنى {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلَاّ غُرُوراً} أي عدْهم بالوعود المغرية الخادعة والأماني الكاذبة، كالوعد بشفاعة الأصنام، والوعد بالغِنى من المال الحرام، والوعد بالعفو والمغفرة وسَعَة رحمة الله، والوعد باللذة والسرور في ارتكاب الموبقات كقول الشاعر:

خذوا بنصيبٍ من سرورٍ ولذةٍ

فكلٌ وإن طال المدى يتصرَّم

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إنَّ عبادي المخلصين ليس لك عليهم تسلطٌ بالإِغواء لأنهم في حفظي وأماني {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي كفى بالله تعالى عاصماً وحافظاً لهم من كيدك وشرك، ثم ذكَّر تعالى العباد بإحسانه ونعمه عليهم وبآثار قدرته ووحدانيته فقال {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي ربكم أيها الناس هو الذي يُسيّر لكم السفن في البحر لتطلبوا من رزقه في أسفاركم وتجاراتكم {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أي هو تعالى رحيم بالعباد ولهذا سهَّل لهم أسباب ذلك {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} أي وإذا أصابتكم الشدة والكرب في البحر وخشيتم من الغَرَق ذهب عن خاطركم من كنتم تعبدونه من الآلهة ولم تجدوا غير الله مغيثاً يغيثكم، فالإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والوثن، والمَلك والفَلَك وإنما يتضرع إلى الله تعالى {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} أي فلما نجاكم من الغرق وأخرجكم إلى البَرِّ أعرضتم عن الإِيمان والإِخلاص {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} أي ومن طبيعة الإِنسان جحود نعم الرحمن، ثم خوَّفهم تعالى بقدرته العظيمة فقال {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} أي أفأمنتم أيها الناس حين نجوتم من الغرق في البحر أن يخسف الله بكم الأرض فيخيفكم في باطنها؟ إنكم في قبضة الله في كل لحظة فكيف تأمنون بطش الله وانتقامه بزلزالٍ أو رجفةٍ أو بركان؟ {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي يمطركم بحجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي لا تجدوا من يقوم بأموركم {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} أي يعيدكم في البحر مرةً أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح} أي يرسل عليكم وأنتم في البحر ريحاً شديدة مدمِّرة، لا تَمرُّ بشيءٍ إلا كسرته ودمَّرته {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي يغرقكم بسبب كفركم {ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} أي لا تجدوا من يأخذ لكم بالثأر منا أو يطالبنا بتبعة إغراقكم.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

الاستفهام الإِنكاري {أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً} وتكرير الهمزة في {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لتأكيد النكير وكذلك تأكيده بإنَّ واللام للإِشارة إلى قوة الإِنكار.

ص: 154

2 -

التعجيز والإِهانة في الأمر {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} .

3 -

الطباق بين {يَرْحَمْكُمْ

يُعَذِّبْكُمْ} وبين لفظ {البر

البحر} .

4 -

الإيجاز بالحذف {وَلَا تَحْوِيلاً} أي ولا تحويل الضر عنكم حُذف لدلالة ما سبق.

5 -

المقابلة اللطيفة بين الجملتين {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} ، {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} .

6 -

الإِسناد المجازي {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات} المنع محالٌ في حقه تعالى لأن الله لا يمنعه عن إرادته شيء فالمنع مجاز عن الترك أي ما كان سبب ترك إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين.

7 -

المجاز العقلي {الناقة مُبْصِرَةً} لما كانت الناقة سبباً في إبصار الحق والهدى نسب إليها الإِبصار ففيه مجاز عقلي علاقته السببية.

8 -

الاستعارة التمثيلية {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} مُثِّلَتْ حال الشيطان في تسلطه على من يغويه بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء لاستئصالهم.

9 -

التذييل {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} لأنه كالتعليل لما سبق من تسيير السفن وتسخيرها في البحر.

تنبيه: الغالب في لفظ {الرؤيا} أن تكون منامية وإذا كانت بالعين يقال {رؤية} بالتاء، وقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} جاءت على غير الغالب لأن المراد بها الرؤية البصرية التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الإِسراء والمعراج وقد تقدم قول ابن عباس:«هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليلة أُسري به» ولو كانت رؤيا منام لما كانت فتنةً للناس ولما ارتد بعضهم عن الإسلام.

ص: 155

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما امتنَّ به على الناس من تسيير السفن في البحر، ومن تنجيتهم من الغرق، تمّم ذكر المنَّة بما أنعم به على النوع الإِنساني من تكرمتهم، ورزقهم، وتفضيلهم على سائر المخلوقات، ثم ذكر أحوال الناس ودرجاتهم في الآخرة، ثم حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم َ من اتباع أهواء المشركين.

اللغَة: {بِإِمَامِهِمْ} الإِمام في اللغة: كل من يأتم به غيره سواء كان على هدى أو ضلال ويطلق الإِمام على كتاب الأعمال لأن الإِنسان يكون تابعاً لكتاب أعماله يقوده إلى الجنة أو النار {فَتِيلاً} الفتيل: القشرة التي في شق النواة ويضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير {تَرْكَنُ} تميل {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} الاستفزاز: الإِزعاج بسبب من الأسباب للحمل على الخروج من الوطن وغيره {تَحْوِيلاً} تغييراً وتبديلاً {لِدُلُوكِ} الدلوك: الغروب يقال دلكت الشمس أي غابت قال أبو عبيد وابن قتيبة: الدلوك الغروب وأنشد لذي الرمة:

مصابيحُ ليستْ باللواتي تقودها

نجومٌ ولا بالآفلات الدَّوَالكِ

وقال الأزهري: أصل الدلوك الميل يقال: مالت الشمس للزوال، ومالت للغروب {غَسَقِ} غسَقُ الليل: سواده وظلمته يقال: غسق الليل إذا اشتدت ظلمته {فَتَهَجَّدْ} التهجد: صلاة الليل بعد الاستيقاظ من النوم، والهجودُ: النوم، قال الشاعر:

أَلَا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود

فباتَتْ بعَلَاّتِ النَّوَال تَجُود

{زَهَقَ} زال وبطل {نَأَى} تباعد والنأي: البُعد {ظَهِيراً} مُعيناً ونَصيراً.

سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي

} الآية.

التفسِير: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ} أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات بالعقل، والعلم، والنطق، وتسخير جميع ما في الكون لهم {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} أي وحملناهم على

ص: 156

ظهور الدواب والسفن {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي من لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعلنا رزق الحيوان التبن والعظام وغيرها {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي اذكر يوم الحشر حين ننادي كل إنسان بكتاب عمله ليسلَّم له وينال جزاءه، والإِمام الكتاب الذي سجل فيه عمل الإِنسان ويقوّيه {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] قال ابن عباس: الإِمام ما عُمل وأُملي فكتب عليه، فمن بُعث متقياً لله جُعل كتابُه بيمينه فقرأه واستبشر {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فمن أُعطي كتاب عمله بيمينه وهم السعداء أولو البصائر والنُّهى المتقون لله {فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ} أي يقرءون حسناتهم بفرح واستبشار لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا يُنقصون من أجور أعمالهم شيئاً ولو كان بمقدار الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب، لا يهتدي إلى الحق ولا إلى الخير {فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأشدُّ ضلالاً عن طريق السعادة والنجاة قال قتادة: من كان في هذه الدنيا أعمى عمًّا عايَنَ من نعم الله وخلقه وعجائبه، فهو فيما يغيب عنه من أمر الآخرة أشد عمى وأضلُّ طريقاً {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي وإن كان الحال والشأن أن المشركين قاربوا أن يصرفوك عن الذي أوحيناه إليك يا محمد من بعض الأوامر والنواهي {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي لتأتي بغير ما أوحاه إليك وتخالف تعاليمه {وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك صاحباً وصديقاً قال المفسرون: حاول المشركون محاولات كثيرة ليثنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن المضي في دعوته منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء، فعصمه الله من شرّهم وأخبر أنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ} أي لولا أن ثبتاك على الحق بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} أي كدت تميل إليهم وتسايرهم على ما طلبوا {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي لو ركَنْتَ إليهم لضاعفنا لك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لأن الذنب من العظيم جرمٌ كبير يستحق مضاعفة العذاب، والغرضُ من الآية بيانُ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عن عصمته لمال إليهم بعض الشيء و {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود أي امتنع الركون إليهم لعصمته تعالى وتثبيته له، فليس في الآية ما يُنقص من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم َ وإنما هي بيان لفضل الله العظيم على

ص: 157

نبيه الكريم {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} أي لا تجد من ينصرك منا أو يدفع عنك عذابنا {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} أي وإن كاد المشركون بمكرهم وإزعاجهم أن يخرجوك يا محمد من أرض مكة {وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً} أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك إلا زمناً يسيراً وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من أوطانهم قال قتادة: همَّ أهلُ مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم َ من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكنَّ الله تعالى منعهم من إخراجه حتى أمره بالخروج {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} أي هذه عادة الله مع رسله في إهلاك كل أمةٍ أَخرجتْ رسولَها من بين أظهرهم {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي لن تجد لها تبديلاً أو تغييراً {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل} أي حافظ يا محمد على الصلاة في أوقاتها من وقت زوال الشمس عند الظهيرة إلى وقت ظلمة الليل {وَقُرْآنَ الفجر} أي وأقم صلاة الفجر، وإنما عبَّر عنها بقرآن الفجر لأنه تطلب إطالة القراءة فيها {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} أي تشهده ملائكة الليل والنهار كما في الحديث

«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر

.» الحديث، قال المفسرون: في الآية الكريمة إشارة إلى الصلوات المفروضة، فدلوكُ الشمس زوالُها وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقُ الليل ظلمتُه وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر، فالآية رمزٌ إلى الصلوات الخمس {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} أي وقم من الليل بعد النوم متهجداً بالقرآن فضيلةً وتطوعاً لك {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أي لعلَّ ربك يا محمد يقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وهو مقام «الشفاعة العظمى» قال المفسرون:{عسى} في كلام الله للتحقيق لأنه وعد كريم وهو لا يتخلف ولهذا قال ابن عباس: عسى من الله واجبة أي تفيد القطع {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي قل يا رب أدخلني قبري مُدْخل صدق أي إدخالاً حسناً {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي أخرجني من قبري عند البعث إخراجاً حسناً هذا قول ابن عباس، وقال الحسن والضحاك: المراد دخوله المدينة المنورة، وخروجه من مكة المكرمة وذلك حين أخرجه المشركون بعد أن تآمروا على قتله صلوات الله وسلامه عليه {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} أي اجعل لي من عندك قوةً ومَنَعة تنصرني بها على أعدائك وتُعزُّ بها دينك، وقد استجاب الله دعاءه فنصره على الأعداء، وأعلا دينه على سائر الأديان {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل} أي سطع نور الحق وضياؤه وهو الإسلام، وزهق الباطل وأنصاره وهو الكفر وعبادةُ الأصنام، فلا شرك ولا وثنية بعد إشراق نور الإِيمان {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} أي إن الباطل لا بقاء له ولا ثبوت لأنه يضمحل ويتلاشى، وإن كانت له صولةٌ وجولة فسرعان ما تزول كشعلة الهشيم ترتفع عالياً ثم تخبو سريعاً، روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما دخل مكة عام الفتح كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول:{جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} فما بقي

ص: 158

منها صنمٌ إلا خرَّ لوجهه ثم أمر بها فكسرت» {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي وننزّل من آيات القرآن العظيم ما يشفي القلوب من أمراض الجهل والضلال، ويُذهب صدأ النفس من الهوى والدَّنس، والشُّح والحسد، وما هو رحمة للمؤمنين بما فيه من الإِيمان والحكمة والخير المبين {وَلَا يَزِيدُ الظالمين إَلَاّ خَسَاراً} أي ولا يزيد هذا القرآن الكافرين به عند سماعه إلا هلاكاً ودماراً لأنهم لا يصدقون به فيزدادون كفراً وضلالاً {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي وإذا أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من صحةٍ، وآمنٍ، وغنىً أعرض عن طاعة الله وعبادته، وابتعد عن ربه غروراً وكِبْراً {وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} أي وإذا أصابته الشدائد والمصائب أصبح يائساً قانطاً من رحمة الله، والآية تمثيلٌ لطغيان الإنسان فإن أصابته النعم بطر وتكبَّر، وإن أصابته الشدة أيس وقنط كقوله

{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 19 - 21]{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} أي كل واحدٍ يعمل على نهجه وطريقته في الهدى والضلال، فإن كانت نفس الإِنسان مشرقةً صافية صدرت عنه أفعال كريمة فاضلة، وإن كانت نفسه فاجرةً كافرة صدرت عنه أفعال سيئةٌ شرّيرة {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} أي ربكم أعلم بمن اهتدى إلى طريق الصواب وبمن ضلَّ عنه وسيجزي كل عاملٍ بعمله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي يسألك يا محمد الكفار عن الروح ما هي؟ وما حقيقتها؟ فقل لهم إنها من الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا ربُّ البرية {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلَاّ قَلِيلاً} أي وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا شيئاً قليلاً لأن علمكم قليل بالنظر إلى علم الله {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لو أردنا لمحونا هذا القرآن الذي هو مِنَّةُ الرحمن من صدرك يا محمد فإن ذلك في قدرتنا {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده، وردّه إليك بعد ذهابه {إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي لكنْ رحمةً من ربك تركناه محفوظاً في صدرك وصدر أصحابك {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} أي فضل الله عليك عظيم حيث أنزل عليك القرآن، وأعطاك المقام المحمود، وجعلك خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والمقصود بالآية الامتنان على الرسول بالقرآن والتحذير له عن التفريط فيه، والخطاب له عليه السلام والمراد أمته {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} أي لو اتفق واجتمع أرباب الفصاحة والبيان من الإنس والجان وأرادوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن لما أطاقوا ذلك ولو تعاونوا وتساعدوا على ذلك جميعاً فإن هذا أمر لا يستطاع وليس بمقدور أحد {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي بيَّنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم بالحقَّ بالآياتِ والعِبَر، والترغيب والترهيب {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلَاّ كُفُوراً} أي ومع البراهين القائمة والحجج الواضحة أبى أكثر الناس إلا جحوداً للحق وتكذيباً لله ورسوله.

البَلَاغة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

الاستعارة {كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإِمام الذي يتقدم الناس في الصلاة وقد استعير هنا لكتاب الأعمال لأنه يرافق الإِنسان ويتقدمه يوم القيامة.

ص: 159

2 -

الاستعارة التمثيلية {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يضرب مثلاً للقلة أي لا ينقصون من ثواب أجورهما ولا بمقدار الخيط الذي في شق النواة.

3 -

الطباق {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} .

4 -

المجاز المرسل {وَقُرْآنَ الفجر} أطلق الجزء على الكل أي قراءة الفجر والمراد بها الصلاة لأن القراءة جزء منها فالعلاقة الجزئية.

5 -

الإِظهار في مقام الإِضمار لمزيد الاهتمام والعناية {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} بعد قوله {وَقُرْآنَ الفجر} .

6 -

التفصيل بعد الإِجمال {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ

وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} بعد ذكر كتاب الأعمال.

7 -

المقابلة اللطيفة بين {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} وبين {جَآءَ الحق} {وَزَهَقَ الباطل} .

8 -

إسناد الخير إلى الله والشر لغيره {أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان

. وَإِذَا مَسَّهُ الشر} لتعليم الأدب مع الله تعالى.

لطيفَة: ذكر أن عالماً ممن ينكر المجاز والاستعارة في القرآن الكريم جاء إلى شيخٍ فاضل عالم منكراً عليه دعوى المجاز - وكان ذلك السائل المنكر أعمى - فقال له الشيخ ما تقول في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} هل المراد بالعمى الحقيقة وهو عمى البصر، أم المراد به المجاز وهو عمى البصيرة؟ فبهت السائل وانقطعت حجته.

ص: 160

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى القرآن وما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على صدق النبي الأمي، وتحداهم فظهر عجزهم بوضوح إعجازه، ذكر هنا نماذج عن تعنت الكفار وضلالهم باقتراح خوارق مادية غير القرآن العظيم، ثم ذكر قصة موسى وتكذيب فرعون له مع كثرة الخوارق والمعجزات التي ظهرت على يديه تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن تكذيب المشركين، ثم ختم السورة الكريمة بدلائل القدرة والوحدانية.

اللغَة: {كِسَفاً} قِطَعاً جمع كِسْفَة كدمنة ودِمَن يقال: كسْفتُ الثوبَ أكسِفُه كِسَفاً إذا قطعته قطعاً قال الفراء: سمعت أعرابياً يقول للبزَّاز أعطني كِسْفةً يريد قطعة {قَبِيلاً} معاينةً {ترقى} تصعد {خَبَتْ} خبت النار: سكنَ لهبها، وخمدتْ: سكن جمرها، وهَمَدت: طفئت جملة {قَتُوراً} بخيلاً {مَثْبُوراً} الثبور: الهلاك يقال: ثَبَر اللهُ العدوَّ أهلكه {لَفِيفاً} اللفيف: الجمع من القوم من أخلاطٍ شتى قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتّى يقال: جاء القوم بلَفِّهم ولفيفهم {مُكْثٍ} المُكْث: التطاول في المدة يقال مكَثَ إذا أَطال الإِقامة {تُخَافِتْ} خافت في الكلام أَسَرَّه بحيث لا يكاد يسمع أحد {الأَذْقَانِ} جمع ذّقَن وهو مجتمع اللَّحْيَين قال الشاعر:

فخرّوا لأذقانِ الوجوه تنوشُهم

سباعٌ من الطير العوادي وتنتف

سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس «أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة فقالوا: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه إنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فجاءهم سريعاً - وكان حريصاً على رُشدهم - فقالوا يا محمد: إنّا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه ما أدخلتَ على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبتَ الدين، وسفَّهتَ الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إنما جئت بهذا لتطلب مالاً جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشَّرَف فينا سوَّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيا - أي تابعاً من الجنّ - بذلنا أموالنا في طلب

ص: 161

الطِبِّ حتى نبرئك منه أو نُعذَر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا المُلك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، فقالوا يا محمد إن كنت غير قابلٍ منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أشدَّ عيشاً منا، فسل ربك يُسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا حتى نسألهم أحقٌّ ما تقول؟ وسلْه أن يجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عنا فأنزل الله {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً

} »

الآية.

التفسِير: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} لما تبيّن إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات والخوارق والمعنى قال المشركون لن نصدِّقك يا محمد حتى تشقّق لنا من أرض مكة عيناً غزيرة {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي يكون لك بستانٌ فيه أنواع النخيل والأعناب {فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً} أي تجعل الأنهار تتفجّر فيها وتسير وسطها بقوةٍ وغزارة {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} هذا هو الاقتراح الثالث أي تجعل السماء تتساقط علينا قِطَعاً كما كنتَ تخوّفنا وتزعم أن الله سيعذبنا إن لم نؤمن بك قال المفسرون: أشاروا إلى قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} [سبأ: 9]{أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} أي تُحضر لنا اللهَ وملائكته مقابلةً وعياناً فنراهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} أي يكون لك قصرٌ مشيَّد عظيم من ذهبٍ لا من حجر أو طين {أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} هذا هو الاقتراح السادس والأخير، وكلُّها تدل على سفهٍ وجهلٍ كبير، بسنة الله في خلقه وبحكمته وجلاله أي أو تصعد يا محمد إلى السماء بِسُلَّم ولن نصدّقك لمجرد صعودك حتى تعود ومعك كتاب من الله تعالى منشور أنك عبده ورسولُه نقرؤه بأنفسنا {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} أي قل لهم يا محمد تعجباً من فرط كفرهم وعنادهم: سبحانَ الله هل أنا إله حتى تطلبوا مني أمثال هذه المقترحات؟ ما أنا إلا رسولٌ من البشر بعثني الله إِليكم فلم هذا الجحود والعناد؟! {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلَاّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} ؟ أي إن السبب الذي منع المشركين من الإِيمان بعد وضوح المعجزات هو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق من البشر، فلماذا يكون بشراً ولا يكون ملكاً؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي قل لهم يا محمد: لو كان أهل الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشي الناس ساكنين في الأرض مستقرين فيها {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} أي لنزلنا عليهم رسولاً من الملائكة ولكنَّ أهل الأرض بشرٌ

ص: 162

فالرسول إليهم بشرٌ من جنسهم، إذْ جرت حكمة الله أن يرسل إلى كل قومٍ رسولاً من جنسهم ليمكنهم الفهم عنه ومخاطبته، وهذا تسفيهٌ وتجهيل لمنطق المشركين {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى اللهُ شاهداً على صدقي {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي هو تعالى العالم بأحوال العباد وسيجازيهم عليها {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أي من يهده الله إلى الحق فهو السعيد الرشيد {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} أي ومن يضلله الله عن الحق بسبب سوء اختياره فلن تجد لهم أنصاراً يعصمونهم من عذاب الله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} أي يُسحبون يوم القيامة على وجوههم تجرُّهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم كما يُفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} أي يُحشرون حال كونهم عمياً وبكماً وصماً يعني فاقدي الحواس لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ثم يردُّ الله إليهم أسماعهم وأبصارهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم، عن أنس

«قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الناسُ على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي مستقرهم ومقامهم في جهنم كلما سكن لهبها وخمدت نارها زدناهم ناراً ملتهبة ووهجاً وجمراً {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله وتكذيبهم بالبعث والنشور وقولهم أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة سنُخلق ونبعث مرة ثانية؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله العظيم الجليل الذي خلق هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه قادرٌ على إعادة جسد الإِنسان بعد فنائه؟ فإن القادر على الإحياء قادر على الإِعادة بطريق الأحرى قال في البحر: نبَّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} وهو استفهام إِنكارٍ وتوبيخ على استبعادهم الإِعادة، واحتجاجٌ عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعضُ ما تحويه البشرُ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادته {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَاّ رَيْبَ فِيهِ} أي جعل لهؤلاء المشركين موعداً محدَّداً لموتهم وبعثهم، لا شك ولا ريب في مجيئه {فأبى الظالمون إِلَاّ كُفُوراً} أي أبى هؤلاء الكافرون الظالمون - مع وضوح الحق وسطوعه - إلا جحوداً وتمادياً في الكفر والضلال {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين المكابرين، المقترحين للخوارق والمعجزات: لو كنتم تملكون خزائن رزق الله ونِعَمه التي أفاضها على العباد {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} أي إذاً لبخلتم به وامتنعتم عن الإِنفاق خوفاً من نفادها {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} أي وكان الإِنسان شحيحاً مبالغاً في البخل قال ابن عباس {قَتُوراً} أي بخيلاً منوعاً وقال الزمخشري: ولقد بلغ هذا الوصف بالشُّحّ الغاية التي لا يبلغها الوهم. ثم ذكر تعالى أن كثرة

ص: 163

الخوارق لا تُنشئ الإِيمان في القلوب الجاحدة، وها هو ذا موسى قد أُوتِي تسع آيات بينات ثم كذَّب بها فرعون وملؤه فحلَّ بهم الهلاك جميعاً {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أعطينا موسى تسع آياتٍ واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي «العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنين» خمسٌ منها في سورة الأعراف

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلَاتٍ} [الأعراف: 133]{فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ} أي فاسألْ يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون فإنهم يعلمونها مما لديهم في التوراة قال الرازي: وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} أي إني لأظنك يا موسى قد سُحرت فتخبَّط عقلُك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلَاّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} أي قال له موسى توبيخاً وتبكيتاً: لقد تيقَّنت يا فرعون أن هذه الآيات التسع ما أنزلها إلا رب السماوات والأرض شاهدة على صدقي، تبصِّرُ الناس بقدرة الله وعظمته ولكنك مكابرٌ معاند {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} أي وإني لأعتقدك يا فرعون هالكاً خاسراً {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه من أرض مصر {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} أي فأغرقنا فرعون وجنده أجمعين في البحر {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} أي وقلنا لبني إسرائيل من بعد إغراق فرعون وجنده اسكنوا أرض مصر {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر مختلطين فيكم المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، ثم نفصل بينكم ونميّز السعداء من الأشقياء، ثم عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره فقال {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} أي وأنزلنا هذا القرآن متلبساً بالحقِّ، لا يعتريه شك أو ريب، فيه الحكم والمواعظ والأمثال التي اشتمل عليها القرآن وهكذا أُنزل من عند الله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة لمن أطاع، ومنذراً بالنار لمن عصى {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} أي وقرآناً نزّلناه مفرقاً منجماً لتقرأه على الناس على تُؤدةٍ ومهل، ليكون حفظه أسهل، والوقوف على دقائقه أيسر {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي نزّلناه شيئاً بعد شيء على حسب الأحوال والمصالح {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا} خطاب للمشركين الذين اقترحوا المعجزات على وجه التهديد والوعيد أي آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالاً، وتكذيبكم له لا يورثه نقصاً {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من صالحي أهل الكتاب إذا سمعوا القرآن تأثروا فخرّوا ساجدين للهِ رب العالمين، والجملة تعليل لما تقدم والمعنى: إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو خير منكم وأعلم {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي يقولون تنزّه الله عن إخلاف وعده إنه كان وعده كائناً لا محالة {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} أي ويخرُّون لناحية الأذقان ساجدين على وجوههم باكين عند

ص: 164

استماع القرآن ويزيدهم تواضعاً لله قال الرازي: والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهو خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} أي نادوا ربكم الجليل باسم {الله} أو باسم {الرحمن} {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} أي بأي هذين الإسمين ناديتموه فهو حسن لأن أسماءه جميعها حسنى وهذان منها قال المفسرون: سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم َ يدعو (يا الله، يا رحمن) فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحدٍ وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أنهما لمسمَّى واحد {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تجهر يا محمد بقراءتك في الصلاة فيسمعك المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ولا تُسرَّ بقراءتك بحيث لا تسمع من خلفك {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي اقصد طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله فنزلت {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} أي الحمد لله الذي تنزَّه عن الولد {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} أي ليس له شريك في ألوهيته {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} أي ليس بذليل فيحتاج إلى الوليّ والنصير {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي عظِّمْ ربك عظمةً تامة بلا ولد ولا شريك، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الاستفهام الإِنكاري {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} ؟ .

2 -

الالتفات من الغيبة إلى التكلم {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة} اهتماماً بأمر الحشر.

3 -

الطباق بين {وَمَن يَهْدِ

وَمَن يُضْلِلْ} وبين {مُبَشِّراً

وَنَذِيراً} وبين {تَجْهَرْ

وتُخَافِتْ} .

4 -

الجناس الناقص بين {مَسْحُوراً} و {مَثْبُوراً} لتغير بعض الحروف.

5 -

المقابلة اللطيفة {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} مقابل قولة فرعون {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} .

6 -

السجع الرصين الذي يزيد في جمال الأسلوب مثل {فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً

مُبَشِّراً وَنَذِيراً} ومثل {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً

وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} .

ص: 165

اللغَة: {بَاخِعٌ} قاتلٌ ومهلكٌ قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً وأصلُ البخع

ص: 167

الجهد كما قال الفراء {جُرُزاً} الجُرُز: الأرض التي لا نبات عليها {الكهف} النقب المتسع في الجبل وإذا لم يكن متسعاً فهو غار {والرقيم} اللوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف {شَطَطاً} الشطط: الجور والغلو وتعدي الحد قال الفراء: اشتط في الأمر جاوز الحد، وشطَّ المنزل بَعُدَ {تَّزَاوَرُ} تتنحَّى وتميل من الأزورار بمعنى الميل قال عنترة «وازْورَّ من وقع القنا بلبانه» {بالوصيد} الفِناء أي فناء الكهف {فَجْوَةٍ} متَّسع من المكان {بِوَرِقِكُمْ} الوَرِق: اسمٌ للفضة سواءً كانت مضروبةً أم لا {أَعْثَرْنَا} أطلعنا {تُمَارِ} تجادل والمراءُ: المجادلة.

التفسِير: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} أي الثناء الكامل مع التعظيم والإِجلال لله الذي أنزل على رسوله محمد القرآن نعمةً عليه وعلى سائر الخلق {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي لم يجعل فيه شيئاً من العوج لا في ألفاظه ولا في معانيه، وليس فيه أي عيبٍ أو تناقض {قَيِّماً} أي مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تناقض قال الطبري: هذا من المُقدَّم والمؤخر أي أنزل الكتاب قيّماً ولم يجعل له عِوَجاً يعني مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تفاوت، ولا اعوجاج ولا ميل عن الحق، {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} أي لينذر بهذا القرآن الكافرين عذاباً شديداً من عنده تعالى {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} أي ويبشّر المصدقين بالقرآن الذين يعملون الأعمال الصالحة {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أي أن لهم الجنة وما فيها من النعيم المقيم {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي مقيمين في ذلك النعيم الذي لا انتهاء له ولا انقضاء {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أي ويخوّف أولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد عذابه الأليم قال البيضاوي: خصَّهم بالذكر وكَّرر الإِنذار استعظاماً لكفرهم، وإِنما لم يذكر المُنْذَر به استغناءً بتقدم ذكره {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم بذلك الافتراء الشنيع شيءٌ من العلم أصلاً {وَلَا لآبَائِهِمْ} أي ولا لأسلافهم الذي قلَّدوهم فتاهوا جميعاً في بيداء الجهالة والضلالة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي عظمت تلك المقالة الشنيعة كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها؟ خرجت من أفواه أولئك المجرمين، وهي في غاية الفساد والبطلان {إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} أي يقولون إلا كذباً وسفهاً وزوراً {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} أي فلعلك قاتلٌ نفسك يا محمد ومهلكها غمّاً وحزناً على فراقهم وتوليهم وإِعراضهم عن الإِيمان {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن حسرةً وأسفاً عليهم، فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف عليهم، والآية تسليةٌ للنبي عليه السلام {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} أي جعلنا ما عليها من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها زينة للأرض كما زينا السماء بالكواكب {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} أي لنختبر الخلق أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي سنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التي لا نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء بهجة قال القرطبي: الآية وردت لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم َ والمعنى: لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإِنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر، ثم إن يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنَّ عليك كفرُهم فإنا

ص: 168

سنجازيهم {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} ؟ بدء قصة أصحاب الكهف، والكهفُ الغار المتسع من الجبل، والرقيمُ اللوح الذي كتب فيه أسماء أصحاب الكهف على المشهور والمعنى: لا تظننَّ يا محمد أن قصة أهل الكهف - على غرابتها - هي أعجبُ آيات الله، ففي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف قال مجاهد: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا؟ قد كان في آياتنا أعجب منهم {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} أي اذكر حين التجأ الشبان إلى الغار في الجبل وجعلوه مأواهم {فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً {وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أي أصلح لنا أمرنا كلَّه واجعلنا من الراشدين المهتدين {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} أي ألقينا عليهم النوم في الغار سنين عديدة {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} أي ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أيُّ الفريقين أدقُّ إحصاءً للمدة التي ناموها في الكهف؟ قال في التسهيل: والمراد

ص: 169

بالحزبين: أصحابُ الكهف، والذين بعثهم الله إليهم حتى رأوهم وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في المدة التي لبثوها في الكهف فقال بعضهم: يوماً أو بعض يوم وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم، والقول الأول مروي عن ابن عباس {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} أي نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادةٍ ولا نقصان {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أي إنهم جماعة من الشبان آمنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق معتزةً بالإِيمان {إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} أي حين قاموا بين يدي الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا ربنا هو خالق السماوات والأرض لا ما تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} أي لن نشرك معه غيره فهو واحد بلا شريك {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي لئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحقَّ، وحُدنا عن الصواب، وأفرطنا في الظلم والضلال {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} أي هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة {لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي هلاّ يأتون على عبادتهم لها ببرهان ظاهر، والغرض من التحضيض {لَّوْلَا} التعجيز كأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحجة ظاهرة على عبادتهم للأصنام فهم إذاً كذبة على الله {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك إليه تعالى {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ الله} أي وإِذْ اعتزلتم أيها الفتية قومكم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى {فَأْوُوا إِلَى الكهف} أي التجئوا إلى الكهف {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي يبسط ربكم ويوسّعْ عليكم رحمته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} أي يُسهّل عليكم أسباب الرزق وما ترتفقون به من غداء وعشاء في هذا الغار {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} أي ترى أيها المخاطب الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة اليمين {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} أي وإذا غربت تقطعهم وتُبعد عنهم جهة الشمال والغرض أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها كرامةً لهم من الله لئلا تؤذيهم بحرها {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أي في متَّسع من الكهف وفي وسطه بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار، ولا في آخره {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} أي ذلك الصنيع من دلائل قدرة الله الباهرة قال ابن

ص: 170

عباس: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يُقلَّبون لأكلتهم الأرض {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أي من يُوفقه الله للإيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} أي ومن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} أي لو رأيتهم أيها الناظر لظننتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} أي ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} أي وكلبهم الذي تبعهم باسطٌ يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، فرؤيتهم تثير الرعب إذ يراهم الناظر نياماً كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم من لنوم وأيقظناهم بعد تلك الرقدة الطويلة التي تشبه الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإقامتهم في الغار {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي قال أحدهم: كم مكثنا في هذا الكهف؟ فقالوا مكثنا فيه يوماً أو بعض يوم قال المفسرون: إنهم دخلوا في الكهف صباحاً وبعثهم الله في آخر النهار فلما استيقظوا ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً، ثم رأَوها لم تغرب فقالوا أو بعض يوم، وما دروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي قال بعضهم، الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل وراء البحث عنها فخذوا بما هو أهم وأنفع لكم فنحن الآن جياع {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} أي فأرسلوا واحداً منكم إلى المدينة بهذه النقود الفضية {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي فليختر لنا أحلَّ وأطيب الطعام فليشتر لنا منه {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} أي وليتلطف في دخول المدينة وشراء الطعام حتى لا يشعر بأمرنا أحد {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي إن يظفر يقتلوكم بالحجارة أو يردوكم إلى دينهم الباطل {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي وإن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخيرٍ أبداً، وهكذا يتناجى الفتية فيما بينهم خائفين حذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بالتلطف بالدخول والخروج وأخذ الحيطة والحذر {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لَا رَيْبَ فِيهَا} أي وكما بعثناهم من نومهم كذلك أطلعنا الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على إمكان البعث والنشور فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم ثلاثمائة عام قادر على بعث الخلق بعد مماتهم {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي حين تنازع القوم في أمر أهل الكهف بعد أن أطلعهم الله عليهم ثم قبض أرواحهم {فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} أي قال بعض الناس: ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علَماً عليهم {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي الله أعلم بحالهم وشأنهم {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} أي قال الفريق الآخر وهم الأكثرية الغالبة: لنتخذنَّ على باب الكهف مسجداً نصلي فيه ونعبد الله فيه {سَيَقُولُونَ

ص: 171

ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم َ من أهل الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب} أي ويقول البعض: إنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أي الله أعلم بحقيقة عددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ} أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة قال المفسرون: إن الله تعالى لما ذكر القول الأول والثاني أردفه بقوله {رَجْماً بالغيب} ولما ذكر القول الأخير لم يقدح فيه بشيء فكأنه أقر قائله ثم نبَّه رسوله إلى الأفضل والأكمل وهو ردُّ العلم إلى علام {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَآءً ظَاهِراً} أي فلا تجادل أهل الكتاب في عدتهم إلا جدال متيقنٍ عالم بحقيقة الخبر {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} أي لا تسأل أحداً عن قصتهم فإنَّ فيما أوحي إليك الكفاية {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} أي لا تقولنَّ لأمر عزمت عليه إني سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة فقلت إن شاء الله قال ابن كثير: سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما سئل عن قصة أصحاب الكهف قال: (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوماً {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي أذا نسيت أن تقول إن شاء الله ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرةً عظمة الله {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} أي لعلَّ الله يوفقني ويرشدني إلى ما هو أصلح من أمر ديني ودنياي {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} أي مكثوا في الكهف نائمين ثلاثمائة وتسع سنين، وهذا بيانٌ لما أُجمل في قوله تعالى {سِنِينَ عَدَداً} {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي الله أعلم بمدة لبثهم في الكهف على وجه اليقين {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض} أي هو تعالى المختص بعلم الغيب وقد أخبرك بالخبر القاطع عن أمرهم الحكيمُ الخبير {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} أي ليس للخلق ناصرٌ ولا معين غيره تعالى {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أي ليس له شريك ولا مثيل ولا نظير، ولا يقبل في قضائه وحكمه أحداً لأنه الغنيّ عما سواه.

البلاغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين {يُبَشِّرَ. . وَيُنْذِرَ} وبين {يَهْدِ. . ويُضْلِلْ} وبين {أَيْقَاظاً. . ورُقُودٌ} وبين {ذَاتَ اليمين. . وَذَاتَ الشمال} .

2 -

الطباق المعنوي بين {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ. . ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} لأن معنى الأول أنمناهم والثاني أيقظناهم.

3 -

الجناس الناقص بين {قَامُواْ. . وقَالُواْ} .

4 -

الإطناب بذكر الخاص بعد العام {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيدا} {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} لشناعة دعوى الولد لله، وفيه من بديع الحذف وجليل الفصاحة حذف المفعول الأول أي لينذر

ص: 172

الكافرين بأساً شديداً، ثم ذكر المفعول الأول وحذف الثاني في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} عذاباً شديداً فحذف العذاب لدلالة الأول عليه وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه، وهذا من ألطف الفصاحة.

5 -

صيغة التعجب {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} .

6 -

الاستعارة التمثيلية {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} شبَّه حاله عليه السلام مع المشركين بحال من فارقته الأحباب فهمَّ بقتل نفسه أو كاد يهلك نفسه حزناً ووجداً عليهم.

7 -

الاستعارة التبعية {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ} شبّهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان كما تضرب الخيمة على السكان وكذلك يوجد استعارة في {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} لأن الربط هو الشد والمراد شددنا على قلوبهم كما نشد الأوعية بالأوكية.

ص: 173

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة أهل الكهف وهي تُمثل صور التضحية والبطولة في سبيل العقيدة ممثلة في قصة الآخوين من بني إسرائيل: المؤمن املعتز بإيمانه، والكافر وهو صاحب الجنتين، وما فيها من عبر وعظات، وفي ثنايا الآيات جاءت بعض التوجيهات القرآنية الكريمة. اللغَة:{مُلْتَحَداً} ملجأ وأصله من لحَد إذا مال، ومن لجأتَ إليه فقد ملتَ إليه هكذا قال أهل اللغة {فُرُطاً} مجاوزاً للحد من قولهم فرسٌ فُرُط إذا كان متقدماً للخيل، قال الليث: الفُرُط الأمر الذي يفرَّط فيه قال الشاعر:

لقد كلفتني شَطاً

وأمراً خائباً فُرُطاً

{سُرَادِقُهَا} السُّرادق: السور والحائط {المهل} كل ما أذيب من المعادن قال أبو عبيدة: كل شيءٍ أذبته من ذهب أو نحاسٍ أو فضة فهو المُهل {سُنْدُسٍ} السندس: الرقيق من الحرير {وَإِسْتَبْرَقٍ} الاستبرق: الغليظ من الحرير وهو الديباج قال الشاعر:

تراهنَّ يلبسن المشاعر مرةً

واستبرق الديباج طوراً لباسها

{الأرآئك} جمع أريكة وهي السرير المزيَّن بالثياب والستور كسرير العروس {حُسْبَاناً} جمع حسبانه وهي الصاعقة {هَشِيماً} الهشيم: اليابس المتكسر من النبات {نُغَادِرْ} نترك.

سَبَبُ النّزول: روى أن أشراف قريش اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك فاطر هؤلاء الفقراء من عندك يعنون «بلالاً، وخباباً، وصهيباً» وغيرهم فإنا نأنف أن نجتمع بهم، وتعيِّن لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ. .} الآية.

ص: 174

التفسِير: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} أي إقرأ يا محمد ما أوحاه إليك ربك من آيات الذكر الحكيم {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا يقدر أحدٌ أن يغيّر أو يبدّل كلام الله {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي لن تجد ملجأ غير الله تعالى أبداً {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} أي احبس نفسك مع الضعفاء والفقراء من المسلمين الذين يدعون ربهم بالصباح والماء {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يبتغون بدعائهم وجه الله تعالى {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف قال المفسرون: كان عليه السلام حريصاً على إيمان الرؤساء ليؤمن أبتاعهم ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قط، فأمِر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين وأن يُعرض عن أولئك العظماء والأشراف من المشركين {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تبتغي بمجالستهم الشرف والفخر قال ابن عباس: لا تجاوزهم إلى غيرهم تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أي لا تطع كلام الذين سألوك طرد المؤمنين فقلوبهم غافلة عن ذكر الله، وقد شغلوا عن الدين وعبادةِ ربهم بالدنيا قال المفسرون: نزلت في عيُُينة بن حصن وأصحابه أتى النبي صلى الله عليه وسلم َ: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادةُ مضر وأشرافها إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحِّهمْ عنك حتى نتبعك، أو أجعل لنا مجلساً ولهم مجلس، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يجيبهم إلى ما طلبوا فلما نزلت الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يلتمس هؤلاء الفقراء فلما رآهم جلس معهم وقال

«الحمد لله الذي جعل أُمتي من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم» {واتبع هَوَاهُ} أي سار مع هواه وترك أمر الله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي كان أمره ضياعاً وهلاكاً ودماراً {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ظاهرُه أمرٌ وحقيقته وعيدٌ وإنذار أي قل يا محمد لهؤلاء الغافلين لقد ظهر الحق وبان بتوضيح الرحمن فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي هيأنا للكافرين بالله ورسوله ناراً حاميةً شديدة أحاط بهم سورها كإحاطة السوار بالمعصم {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} أي وإن استغاثوا من شدة العطش فطلبوا الماء أُغيثوا بماءٍ شديد الحرارة كالنحاس المذاب أو كعكر الزيت المحمى يشوي وجوههم إذا قَرُب منهم من شدة حره وفي الحديث «ماءٌ كعكر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» أي سقطت جلدة وجهه فيه أعاذنا الله من جهنم {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أي بئس ذلك الشراب الذي يُعاثون به وساءت جهنم منزلاً ومقيلاً يرتفق به أهل النار {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} لما ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر حال السعداء، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، أي إنا لا نضيع ثواب من أحسن عمله وأخلص فيه بل نزيده وننميه {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي لهم جنات إقامة {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي تجري من تحت غرفهم ومنازلهم أنهار الجنة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أي يُحلَّون في الجنة بأساوِر الذهب قال المفسرون: ليس

ص: 175

أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أساور: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، لأن الله تعالى: قال {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] وقال {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33] وفي الحديث «تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء» {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي وهم رافلون في ألوانٍ من الحرير، برقيق الحرير وهو السندس، وبغليظه وهو الاستبرق قال الطبري: معنى الآية أنهم يلبسون من الحلي أساور من ذهب، ويلبسون من الثياب السندس وهو ما رقَّ من الديباج، والاستبرق وهو ما غلظ فيه وثَخُن {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك} أي متكئين في الجنة على السرر الذهبية المزينة والستور قال ابن عباس: الآرائك الأسرة من ذهب وهي مكلَّلة بالدُر والياقوت عليها الحجال، الأريكةُ ما بين صنعاء إلى أيلة، وما بين عدن إلى الجابية {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي نعم ذلك جزاء المتقين، وحسنت الجنة منزلاً ومقيلاً لهم {اضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} أي اضرب لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن تطرد الفقراء هذا المثل قال المفسرون: هما أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، ورثا مالاً عن أبيهما فاشترى الكافر بماله حديقتين، وأنفق المؤمن ماله في مرضاة الله حتى نفد ماله فعيَّره الكافر بفقره، فأهلك الله مال الكافر، وضرب هذا مثلاً للمؤمن من الذي يعمل بطاعة الله، والكافر الذي أبطرته النعمة {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} أي جعلنا لأحدهما - وهو الكافر - بستانينِ من شجر العنب، مثمريْن بأنواع العنب اللذيد {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أحطناهما بسياجٍ من شجر النخيل {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ويتفجر بينهما نهر، وإنه لمنظرٌ بهيجٌ يصوره القرآن أروع تصوير، منظر الحديقتين المثمرتين بأنواع الكرم، المحفوفتين بأشجار النخيل، تتوسطهما الزروع وتتفجر بينهما الأنهار {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً} أي كلُّ واحدة من الحديقتين أخرجت ثمرها يانعاً في غاية الجودة والطيب ولم تنقص منه شيئاً {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي جعلنا النهر يسير وسط الحديقتين {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي وكان للأخ الكافر من جنتيه أنواع من الفواكه والثمار {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي قال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن وهو يجادله ويخاصمه ويفتخرعليه ويتعالى: أنا أغنى منك وأشرف، وأكثر أنصاراً وخدماً {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي أخذ بيد أخيه المؤمن ودخل الحديقة يطوف به فيها ويريه ما فيها من أشجار وثمار وأنهار وهو ظالم لنفسه بالعُجب والكفر {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} أي ما أعتقد أن تفنى هذه الحديقة أبداً {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} أي وما أعتقد القيامة كائنة وحاصلة، أنكر فناء جنته وأنكر البعث والنشور {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا} أي ولئن كان هناك بعثٌ - على - سبيل الفرض والتقدير كما تزعمُ - فسوف يعطيني الله خيراً من هذا وأفضل {مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة فكما أعطاني هذا في الدنيا فسيعطيني في الآخرة لكرامتي عليه {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي قال ذلك المؤمن الفقير وهو يراجع أخاه ويجادله {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي أجحدت الله الذي خلق أصلك من تراب ثم من منيّ ثم سوَّاك إنساناً سوياً؟ الاستفهام

ص: 176

للتقريع والتوبيخ {لكنا هُوَ الله رَبِّي} أي لكنْ أنا اعترف بوجود الله فهو ربي وخالقي {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أي لا أشرك مع الله غيره، فهو المعبودُ وحده لا شريك له {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} أي فهلاّ حين دخلتَ حديقتك وأُعجبت بما فيها من الأشجار والثمار قلت: هذا من فضل الله، فما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن {لَا قُوَّةَ إِلَاّ بالله} أي لا قدرة لنا على طاعته إلا بتوفيقه ومعونته {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} أي قال المؤمن للكافر: إن كنت ترى أنني أفقر منك وتعتزعليَّ بكثرة مالك وأولادك {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} جواب الشرط أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني جنةً خيراً من جنتك لإيماني به، ويسلب عنك نعمته لكفرك به ويخرّب بستانك {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} أي يرسل عليها آفةً تجتاحها أو صواعق من السماء تدمّرها {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي تصبح الحديقة أرضاً ملساء لا تثبت عليها قدم، جرداء لا نبات فيها ولا شجر {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي يغور ماؤها في الأرض فيتلف كل ما فيها من الزرع والشجر، وحينئذٍ لا تستطيع طلبّه فضلاً عن إعادته وردّه، وينتهي الحوار هنا وتكون المفاجأة المدهشة فيتحقَّق رجاءُ المؤمن بزاول النعيم عن الكافر وفجأة ينقلنا السياق من مشهد البهجة والازدهار إلى مشهد البوار والدمار {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي هلكت جنته بالكلية واستولى عليها الخراب والدمار في الزروع والثمار {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} أي يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفاً وحزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب قال القرطبي: أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ندماً لأن هذا يصدر من النادم {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي مهشمة محطمة قد سقطت السقوف على الجدران فأصبحت خراباً يباباً {وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي وهو نادم على إشراكه بالله يتمنى أن لم يكن قد كفر النعمة، ندم حين لا ينفع الندم قال تعالى {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} أي لم تكن له جماعة تنصره وتدفع عنه الهلاك {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي وما كان بنفسه ممتنعاً عن انتقام الله سبحانه، فلم تنفعه العشيرة والولد حين اعتزّ وافتخر بهم وما استطاع بنفسه أن يدفع عنه العذاب {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} أي في ذلك المقام وتلك الحال تكون النصرة لله وحده لا يقدر عليها أحد فهو الوليُّ الحق الذي ينصر أولياءه {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} أي الله خير ثواباً في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وهو خيرٌ عاقبةٌ لمن اعتمد عليه ورجاه {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} هذا مثلٌ آخر للدنيا وبهرجها الخادع يشبه مثل الجنتين في الفناء والزوال والمعنى اضرب يا محمد للناس مثل هذه الحياة في زوالها وفنائها وانقضائها بماءٍ نزل من السماء فخرج به النبات وافياً غزيراً وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح} أي صار النبات متكسراً من اليبس متفتتاً تنسفه الرياح ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} أي قادراً على الإِفناء والإِحياء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} أي الأموال والأولاد زينة هذه الحياة الفانية، ذاك مثلها وهذه زينتها والكل إلى فناء وزوال لا يغتر بها إلا الأحمق الجهول {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أعمال الخير تبقى ثمرتها أبد الآباد فهي خير ما يؤملها الإنسان ويرجوه عند الله قال ابن عباس: الباقيات الصالحات هي

ص: 177

الصلوات الخمس وعنه أيضاً أنها كل عمل صالحٍ من قول أو فعلٍ يبقى للآخرة وفي الحديث

«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنَّ الباقيات الصالحات» {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} لما ذكر القيامة وأهوالها أي واذكر يوم نزيل الجبال من أماكنها ونسيّرها كما نسيّر السحاب فنجعلها هباءً منيثاً {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} أي وترى الأرض ظاهرة للعيان ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، قد قلعت جبالها وهُدم بنيانها فهي بارزة ظاهرة {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي جمعنا الأولين والآخرين لموقف الحساب فلم نترك أحداً منهم {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} أي عُرضوا على رب العالمين مصطفّين، لا يحجبُ أحدٌ أحداً وفي الحديث «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً» قال مقاتل: يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة كل أمةٍ وزمرةٍ صفاً {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال للكفار على وجه التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي زعمتم أن لا بعث ولا جزاء، ولا حساب ولا عقاب {وَوُضِعَ الكتاب} أي وضعت صحائف أعمال البشر وعُرضت عليهم {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي فترى المجرمين خائفين مما فيه من الجرائم والذنوب {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} أي يا حسرتنا ويا هلاكنا على ما فرطنا في حياتنا الدنيا {مَالِ هذا الكتاب لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا} أي ما شأن هذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ضبطها وأحاط بها؟ قال تعالى {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} أي مكتوباً مثبتاً في الكتاب {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أي لا يعاقب إنساناً بغير جرم، ولا يُنقص من ثواب المحسن {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ} أي لا اذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة {فسجدوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي سجد جميع الملائكة لكن إبليس الذي هو من الجن خرج عن طاعة ربه، والآية صريحة في أن إبليس من الجن لا من الملائكة {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أفتتخذونه يا بني آدم هو وأولاده الشياطين أولياء من دون الله وهم لكم أعداء {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئست عبادة الشيطان بدلاً عن عبادة الرحمن {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض} أي ما أشهدت هؤلاء الشياطين الذين عبدتموهم من دوني خلق السماوات والأرض {وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أي وما كنت متخذ الشياطين أعواناً في الخلق فكيف تطيعونهم من دوني؟ {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أي ويوم يقول الله للمشركين: أُدعوا شركائي ليمنعوكم من عذابي ويشفعوا لكم كما كنتم تزعمون {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} أي جعلنا بين العابدين والمعبودين مهلكةً لا يجتازها هؤلاء وهي النار {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} أي عاينوها وهي تتغيظ حنقاً عليهم فأيقنوا أنهم داخلوها {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أي

ص: 178

لم يجدوا عنها معدلاً وذلك لأنها أحاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على الهرب منها.

البَلَاغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق {الغداة. . والعشي} وبين {فَلْيُؤْمِن. . فَلْيَكْفُرْ} .

2 -

المقابلة البديعة بين الجنة {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} والنار {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} .

3 -

التشبيه {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} ويسمى مرسلاً مفصلاً لذكر الأداة ووجه الشبه.

4 -

التشبيه التمثيلي {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد وكذلك يوجد التشبيه التمثيلي في {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ} .

5 -

المبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أي غائراً.

6 -

الكناية {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} كناية عن التحسر والندم لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.

7 -

الإنكار والتعجيب {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ؟ .

تنبيه: الجمهور على أن الباقيات الصالحات هن الكلمات المأثور فضلها «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وقد ورد بذلك حديث تقدم ذكره وفي الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «لقيتُ إبراهيم ليلةً أُسري بي فقال يا محمد: أقرئْ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» رواه الترمذي.

ص: 179

المنَاسَبَة: لما ضرب تعالى المثل في قصة صاحب الجنتين، وضرب المثل للحياة الدنيا وما فيها من نعيم خادع ومتاع زائل، نبَّه تعالى إلى الغاية من ذكر هذه الأمثال وهي «العظةُ والاعتبار» ثم ذكر القصة الثالثة «قصة موسى مع الخضر» وما فيها من أمور غيبيَّة عجيبة.

اللغَة: {قُبُلاً} مقابلةً وعياناً {مَوْئِلاً} ملجأ ومنجى قال ابن قتيبة: وأل فلان إلى كذا لجأ إليه وألاً ووءولاً والموئل: الملجأ قال الأعشى:

وقد أُخالِسُ ربَّ البيت غفلتَه

وقد يحاذِرُ مني ثم لا يئلُ

{حُقُباً} جمع حقبة وهي السنة والمراد بالحُقُب هنا الزمان الطويل {سَرَباً} السَّرب: المسلك في جوف الأرض {نَصَباً} النَّصب: التعب والمشقة {أمْراً} أمراً عظيماً يقال: إمِر الأمر إذا عظم {نُّكْراً} منكراً فظيعاً جداً.

التفسِير: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي بيّنا في هذا القرآن الأمثال وكرَّرنا الحجج والمواعظ {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي وطبيعة الإنسان الجدلُ والخصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} أي ما منع الناسَ من الإيمان حين جاءهم الهُدى من الله {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} أي ومن الاستغفار من الذنوب والآثام {إِلَاّ

ص: 180

أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} َ أي إلا انتظارهم أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً} أي يأتيهم عذاب الله عياناً ومقابلة ومعنى الآية أنه ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وُعدوا به عياناً ومواجهة كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي ما نرسل الرسل إلا لغرض التبشير والإِنذار لا للإِهلاك والدمار، مبشرين لأهل الإِيمان ومنذرين لأهل العصيان {وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي ومع وضوح الحق يجادل الكفار بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه فهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون العذاب لا يريدون الإيمان وإنما يستهزئون ويسخرون {واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أي أتخذوا القرآن وما خُوّفوا به من العذاب سخرية واستهزاءً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله البينة، وحججه الساطعة، فتعامى عنها وتناساها ولم يُلقِ لها بالاً {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي نسي ما عمله من الجرائم الشنيعة، والأفعال القبيحة، ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقه هذا القرآن وإدراك أسراره، والانتفاع بما فيه من المواعظ والأحكام {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي وفي آذانهم صمماً معنوياً يمنعهم أن يسمعوه سماع تفهم وانتفاع {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} أي وإن دعوتهم إلى الإيمان والقرآن فلن يستجيبوا لك أبداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، فللهدى قلوبٌ متفتحة مستعدة لقبول الإيمان وهؤلاء كالأنعام {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} أي وربك يا محمد واسع المغفرة عظيم الرحمة بالعباد مع تقصيرهم وعصيانهم {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} أي لو يعاقبهم بما اقترفوا من المعاصي والإجرام لعجَّل لهم عذاب الدنيا، ولكنه تعالى يمهلهم ويؤخر عنهم العذاب الذي يستعجلونه به رحمةً بهم، وقد جرت سنته بأن يمهل الظالم ولكن لا يهمله {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} أي لهم موعد آخر في القيامة يرون فيه الأهوال لن يجدوا لهم فيه ملجأ ولا منجى {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أي تلك هي أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية كقوم هود وصالح ولوط وشعيب أهلكناهم حين ظلموا {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} أي جعلنا لهلاكهم وقتاً محدَّداً معلوماً، أفلا يعتبر هؤلاء المكذبون المعاندون؟ والآية وعيد وتهديد لكفار قريش قال ابن كثير: والمعنى احذروا أيها المشركون أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أعظم نبيَّ وأشرف رسول، ولستم بأعزَّ علينا منهم فخافوا عذابي ونُذري {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة الكريمة والمعنى اذكر حين قال موسى الكليم لفتاة «يوشع بن نون» لا أزال أسير وأتابع السير حتى أصل الى ملتقى بحر فارس وبحر الروم مما يلي جهة المشرق وهو مجمع البحرين {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أي أسير زماناً إلى أن أبلغ ذلك المكان {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين نسي «يوشع» أن يخبر موسى بأمر الحوت وما شاهده منه من الأمر

ص: 181

العجيب، روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأخذ معه حوتاً فيجعله في مِكْتل فحيثما فقد الحوت فهناك الرجل الصالح {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً} أي اتخذ الحوت سبيله في البحر مسلكاً قال المفسرون: كان الحوت مشوياً فخرج من المِكْتل ودخل في البحر وأمسك الله جرية الماء فصار كالطاق عليه وجمد الماء حوله وكان ذلك آيةً من آيات الباهرة لموسى عليه السلام {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} أي فلما قطعا ذلك المكان وهو مجمع البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قال موسى لفتاه أعطنا طعام الغذاء {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} لقينا في هذا السفر العناء والتعب، وكان قد سار ليلة وجزءاً من النهار بعد أن جاوز الصخرة {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} أي قال الفتى «يوشع بن نون» حين طلب موسى منه الحوت للغذاء أرأيت حين التجأنا إلى الصخرة التي نمت عندها ماذا حدث من الأمر العجيب؟ لقد خرج الحوتُ من المكتل ودخل البحر وأصبح عليه مثل الكوة وقد نسيتُ أن أذكر لك ذلك حين استيقظت {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} أي وقد أنساني الشيطان أن أخبرك عن قصته الغريبة {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} أي واتخذ الحوتُ طريقة في البحر وكان أمره عجباً، يتعجب الفتى من أمره لأنه كان حوتاً مشوياً فدبَّت فيه الحياة ودخل البحر {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي قال موسى هذا الذي نطلبه ونريده لأنه علامة على غرضنا وهو لُقْيا الرجل الصالح {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} أي رجعا في طريقهما الذي جاءا منه يتتبعان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} وجدا الخضر عليه السلام عند الصخرة التي فقد عندها الحوت، وفي الحديث أن موسى وجد الخضر مسجَّى بثوبه مستلقياً على الأرض فقال له: السلام عليك فرفع رأسه وقال: وأنّى بأرضك السلام؟ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي وهبناه نعمة عظيمة وفضلاً كبيراً وهي الكرامات التي أظهرها الله على يديه {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} أي علماً خاصاً بنا لا يُعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب قال العلماء: هذا العلم الرباني ثمرة الإخلاص والتقوى ويسمى «العلم اللدُنِّي» يورثه الله لم أخلص العبودية له، ولا ينال بالكسب والمشقة وإِنما هو هبة الرحمن لمن خصَّه الله بالقرب والولاية والكرامة {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أي هل تأذن لي في مرافقتك لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ قال المفسرون: هذه مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع من نبي الله الكريم وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي قال الخضر: إِنك لا تستطيع الصبر على ما ترى قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي لأني علمتُ من غيب علم ربي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي كيف تصبر على أمرٍ ظاهرة منكرٌ وأنت لا تعلم باطنه؟ {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} أي قال موسى ستراني صابراً ولا أعصي أمرك إن شاء الله {قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} شرط عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له

ص: 182

سرها، فقبل موسى شرطه رعايةً لأدب المتعلم مع العالم، والمعنى لا تسألني عن شيء مما أفعله حتى أبيّنه لك بنفسي {فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا} أي انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفوا الخضر فحملوهما بدون أجر فلما ركبا السفينة عمد الخضر إلى فأس فقلع لوحاً من ألواح السفينة بعد أن أصبحت في لجة البحر {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} أي قال له موسى مستنكراً: أخرقت السفينة لتغرق الركاب؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} أي فعلت شيئاً عظيماً هائلاً، يروى أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فجعله مكان الخرق ثم قال للخضر: قومٌ حملونا بغير أجرٍ عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهل السفينة لقد فعلت أمراً منكراً عظيماً!! {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي ألم أخبرك من أول الأمر أنك لا تصبر على ما ترى من صنيعي؟ ذكَّره بلطفٍ في مخالفته الشرط {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي لا تؤاخذني بمخالفتي الشرط ونسياني العهد {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} أي لا تكلفني مشقةً في صحبتي إياك وعاملني باليُسر لا بالعُسر {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ} أي فقبل عذره وانطلقا بعد نزولهما من السفينة يمشيان فمرَّا بغلمانٍ يلعبون وفيهم غلام وضيء الوجه جميل الصورة فأمسكه الخضر واقتلع رأسه بيده ثم رماه في الأرض {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي قال موسى: أقتلت نفساً طاهرةً لم ترتكب جرماً ولم تقتل نفساً حتى تقتل به {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} أي فعلت شيئاً منكراً عظيماً لا يمكن السكوت عنه.

. لم يكن موسى ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً ولكنه قاصدٌ أن يُنكر المنكر الذي لا يصبر على وقوعه بالرغم من تذكره لوعده، وقال هنا {نُّكْراً} أي منكراً فظيعاً وهو أبلغ من قوله {أمْراً} في الآية السابقة، ذكر القرطبي أن موسى عليه السلام لما قال للخضر {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} غضب واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه فإذا مكتوب في عظم كتفه كافرٌ لا يؤمن بالله أبداً {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي ألم أقل لك أنتَ على التعيين والتحديد لن تستطيع الصبر على ما ترى مني؟ قال المفسرون: وقَّره في الأول فلم يواجهه بكاف الخطاب فلما خالف في الثاني واجهه بقوله {لَّكَ} لعدم العذر هنا، ويعود موسى لنفسه ويجد أنه خالف وعده مرتين، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ويجعلها آخر فرصةٍ أمامه {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} أي إن أنكرت عليك بعد هذه المرة واعترضتُ على ما يصدر منك فلا تصحبني معك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي قد أعذرت إليَّ في ترك مصاحبتي فأنت معذورٌ عندي لمخالفتي لك ثلاث مرات {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} أي مشيا حتى وصلا إلى قرية قال ابن عباس: هي انطاكية فطلبا طعاماً وكان أهلها لئاماً لا يطعمون جائعاً، ولا يتسضيفون ضيفاً، فامتنعوا عن إضافتهما أو إطعامهما {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي وجدا في القرية حائطاً مائلاً يوشك أن يسقط ويقع {فَأَقَامَهُ} أي مسحه الخضر بيده فاستقام، وقيل إنه هدمه ثم بناه وكلاهما مرويٌ عن ابن عباس {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قال له موسى لو أخذت منهم أجراً نستعين به على شراء الطعام! {أنكر عليه موسى صنيع المعروف مع غير أهله، روي أن

ص: 183

موسى قال للخضر: قومٌ استطعمناهم فلم يطعمونا، وضِفناهم فلم يضيّفونا ثم قعدت تبني لهم الجدار لو شئتَ لاتخذت عليه أجراً} {قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي قال الخضر: هذا وقت الفراق بيننا حسب قولك {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاث التي أنكرتها عليَّ ولم تستطع عليها وفي الحديث

«رحم الله أخي موسى لوددت أنه صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما ولو لبث مع صاحبه لأبصر العجب» {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} هذا بيانٌ وتفصيل للأحداث العجيبة التي رآها موسى ولم يطق لها صبراً والمعنى أما السفينة التي خرقتها فكانت لأناس ضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظَّلمة يشتغلون بها في البحر بقصد التكسب {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أردتُ بخرقها أن أجعلها معيبة لئلا يغتصبها الملك الظالم {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} أي كان أمامهم ملك كافر ظالمٌ {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي يغتصب كل سفينة صالحة لا عيب فيها {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} أي وأما الغلام الذي قتلتُه فكان كافراً فاجراً وكان أبواه مؤمنين وفي الحديث «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي فخفنا أن يحملهما حبُّه على اتّباعه في الكفر والضلال {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي فأردنا بقتله أن يرزقهما الله ولداً صالحاً خيراً من ذلك الكافر وأقربَ براً ورحمة بوالديه {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} أي وأما الجدار الذي بنيتُه دون أجر والذي كان يوشك أن يسقط فقد خبئ تحته كنزٌ من ذهب وفضة لغلامين يتيمين {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} أي وكان والدهما صالحاً تقياً فحفظ الله لهما الكنز لصلاح الوالد قال المفسرون: إن صلاح الأباء ينفع الأبناء، وتقوى الأصول تنفع الفروع {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} أي فأراد الله بهذا الصنيع أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي رحمةً من الله بهما لصلاح أبيهما {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي ما فعلتُ ما رأيتَ من خرْقِ السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدارعن رأيي واجتهادي، بل فعلته بأمر الله وإلهامه {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي ذلك تفسير التي لم تستطع الصبر عليها وعارضت فيها قبل أن أخبرك عنها.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

الطباق بين {مُبَشِّرِينَ.

. وَمُنذِرِينَ} وبين {نَسِيتُ. . وَأَذْكُرَ} .

2 -

اللف والنشر المرتَّب {أَمَّا السفينة} {وَأَمَّا الغلام} {وَأَمَّا الجدار} فقد جاء بها مرتبة بعد ذكر ركوب السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بطريق اللف والنشر المرتب وهو من المحسنات البديعية.

3 -

الحذف بالإيجاز {كُلَّ سَفِينَةٍ} أي صالحةٍ خذف لدلالة لفظ «أعيبها» وكذلك حذف لفظ كافر من {وَأَمَّا الغلام} لدلالة قوله تعالى {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} .

4 -

التغليب {أَبَوَاهُ} المراد باللفظ أبوه وأمه.

ص: 184

5 -

الاستعارة {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} لأن الإرادة من صفات العقلاء وإسنادها إلى الجدار من لطيف الاستعارة وبليغ المجاز كقول الشاعر:

يريد الرمحُ صدر أبي براءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل

6 -

التنكير للتفخيم والإضافة للتشريف {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} .

7 -

السجع مراعاة لرءوس الآيات مثل {نَصَباً. . سَرَباً. . عَجَباً} .

8 -

تعليم الأدب {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} وهناك قال {فَأَرَادَ رَبُّكَ} حيث أسند ما ظاهره شر لنفسه وأسند الخير إلى الله تعالى، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله جل وعلا.

«قصة موسى والخضر كما في الصحيحين»

عن أبيّ كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذْ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مِكْتل فحيثما فقدتَ الحوت فهو ثمَّ، فانطلق موسى: ومعه فتاه «يوشع بن نون» حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المِكْتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيه في البحر سرَباَ، وأمسك الله عن الحوت جريه الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً - قال ولم يجد موسى النَّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به - فقال فتاه {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} قال فكان للحوت سَرَباً ولموسى وفتاه عجَباً فقال موسى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجَّى بثوب فسلَّم عليه موسى فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم أتيتك لتعلمني مما عُلمت رُشداً {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . . يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه علَّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّّمكه لا أعلمه، فقال موسى {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} فقال الخضر {فَإِنِ اتبعتني فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} فانطلقا يمشيان على الساحل فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نوْل - أي بدون أجر - فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قومٌ قد حملونا بغير نوْل عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: وكانت الأولى من موسى نسياناً، وجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر: ما علمي وعلمكَ من علم الله

ص: 185

تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذْ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال سُفيان: وهذه أشدُ من الأولى {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} فانطلقا {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} فقال الخضر بيده هكذا - أي أشار بيده - فأقامه فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال الخضر:{هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:

«يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما» !! أخرجه الشيخان.

تنبيه: قال العلامة القرطبي: «كرامات الأنبياء ثابتة على ما دلت عليه الأخبار والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث هزَّت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ويدل أيضاً ما ظهر على يد الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار» أهـ. القرطبي 11/28

ص: 186

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة الخضر أعقبها بقصة ذي القرنين ورحلاته الثلاث إلى المغرب، والشرق، وإلى السَّدين، وبناؤه للسدّ في وجه «يأجوج ومأجوج» وهي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإيمان، وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة.

اللغَة: (ذو القرنين) هو الاسكندر المقدوني وهو ملِكٌ صالح أعطي العلم والحكمة، سمي بذي القرنين لأنه ملك مشارق الأرض ومغاربها وكان مسلماً عادلاً قال الشاعر:

قد كان دو القرنين قبلي مسلماً

ملكاً علا في الأرض غير مفنَّد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب مُلكٍ من كريم سيد

{حَمِئَةٍ} كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء {سَدّاً} السدُّ: الحاجز والحائل بين الشيئين {رَدْماً} الردَّم. السدُّ المنيع وهو أكبر من السدّ لأن الرَّدم ما جعل بعضه على بعض حتى يصبح كالحجاب المنيع قال الحاجز الحصين المتين {زُبَرَ الحديد} قطع الحديد مفردة زُبرة وهي القطعة {الصدفين} جانبا الجبل قال أبو عبيدة: الصَّدف كل بناء عظيم مرتفع {قِطْراً} القِطر: النحاس المذاب {نَقْباً} خرقاً وثقباً {دَكَّآءَ} مدكوكاً مسوَّى بالأرض قال الأزهري: دككته أي دققته {يَمُوجُ} يختلط ويضطرب {الفردوس} قال الفراء: البستان الذي فيه العنب وقال ثعلب: كل بستان يحوَّط عليه فهو فردوس.

سَبَبُ النّزول: أ - قال قتادة: إن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم َ عن ذي القرنين فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين. .} الآية.

ب - قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال يا رسول الله: إني أتصدق، وأصلُ الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيُذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأُعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ولم يقل شيئاً فأنزل الله {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .

التفسِير: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} أي يسألك اليهود يا محمد عن ذي القرنين ما شأنه؟ وما قصته؟ {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} أي قل لهم سأقص عليكم من نبأه وخبره قرآناً ووحياً {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} أي يسرنا له أسباب الملك والسلطان والفتح والعمران،

ص: 187

وأعطيناه كل ما يحتاج إليه للوصول إلى غرضه من أسباب العلم والقدرة والتصرف قال المفسرون: ذو القرنين هو «الاسكندر اليوناني» ملكَ المشرق والمغرب فسمي ذا القرنين، وكان ملكاً مؤمناً مكَّن الله له في الأرض فعدل في حكمه وأصلح، وكان في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما روي أن الذين ملكوا الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر {فَأَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك طريقه الذي يسره الله له وسار جهة المغرب {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي وصل المغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي وجد الشمس تغرب ما ماء وطين - حسب ما شاهد لا حسب الحقيقة - فإن الشمس أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض قال الرازي: إن ذا القرنين لما بلغ أقصى المغرب ولم يبق بعدة شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهذه مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشطَّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} أي وجد عند تلك العين الحارة ذات الطين قوماً من الأقوام {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم أو تدعوهم بالحسنى إلى الهداية والإيمان قال المفسرون: كانوا كفاراً فخيَّره الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإسلام فيُحسن إليهم {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي من أصرَّ على الكفر فسوف نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذاباً منكراً فظيعاً في نار جهنم {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} أي وأمّا من آمن بالله وأحسن العمل في الدنيا وقدَّم الصالحات فجزاءه الجنة يتنعَّم فيها {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي نيسر عليه في الدنيا فلا نكلفه بما هو شاق بل بالسهل الميسَّر.

اختار الملك العدل دعوتهم بالحسنى فمن آمن فله الجنة، والمعاملة الطيبة، والمعونة والتيسير، ومن بقي على الكفر فله العذاب والنكال في الدنيا والآخرة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك طريقاً بجنده نحو المشرق {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} أي حتى وصل أقصى المعمورة من جهة الشرق حيث مطلع الشمس في عين الرائي {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي وجد الشمس تشرقُ على أقوامٍ ليس لهم من اللباس والبناء ما يسترهم من حر الشمس فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب تحت الأرض، وإذا غربتْ خرجوا لمكاسبهم قال قتادة: مضى ذو القرنين يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلاّ من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً في أسراب عراة، ليس لهم طعام إلا ما أنضجته الشمس إذا طلعت، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم، وذُكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان ويقال إنهم الزنج {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} أي كذلك فعل بأهل المشرق من آمن تركه ومن كفر قتله كما فعل بأهل المغرب وقد أحطنا علماً بأحواله وأخباره، وعتاده وجنوده، فأمرُه من العظمة وكثرة المال بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك

ص: 188

طريقاً ثالثاً بين المشرق والمغرب يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي حتى إذا وصل إلى منطقة بين حاجزين عظيمين، بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان قال الطبري: والسَّدُ: الحاجز بين الشيئين وهما هنا جبلان سُدَّ ما بينهما، فردَم ذو القرنين حاجزاً بين يأجوج ومأجوج من ورائهم ليقطع مادة غوائلهم وشرهم عنهم {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَاّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي وجد من وراء السدين قوماً متخلفين لا يكادون يعرفون لساناً غيرلسانهم إلا بمشقة وعُسر قال المفسرون: إنما كانوا لا يفقهون القول لغرابة لغتهم، وبطء فهمهم، وبعدهم عن مخالطة غيرهم، وما فهم كلامهم إلا بواسطة ترجمان {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض} أي قال القوم لذي القرنين: إن يأجوج ومأجوج - قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويهٌ، منهم مفرطٌ في الطول، ومنهم مفرطٌ في القِصر - قوم مفسدون بالقتل والسلب والنهب وسائر وجوه الشر قال المفسرون: كانوا من آكلة لحوم البشر، يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي هل نفرض لك جزءاً من أموالنا كضريبة وخراج {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي لتجعل سدا يحمينا من شر يأجوج ومأجوج قال في البحر: هذا استدعاءٌ منهم لقبول ما بيذلونه على جهة حسن الأدب {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما بسطه الله عليَّ من القُدرة والمُلك خيرٌ مما تبذلونه لي من المال {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي لا حاجة لي إلى المال فأعينوني بالأيدي والرجال {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي أجعل بينكم وبينهم سدا منيعاً، وحاجزاً حصيناً، وهذه شهامة منه حيث رفض قبول المال وتطوَّع ببناء السد واكتفى بعون الرجال {آتُونِي زُبَرَ الحديد} أي أعطوني قطع الحديد واجعلوها لي في ذلك المكان {حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين} أي حتى إذا ساوى البناء بين جانبي الجبلين {قَالَ انفخوا} أي انفخوا بالمنافيخ عليه {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإحماء {قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي أعطوني أصبُّ عليه النحاس المذاب قال الرازي: لما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسدُّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبَّ النحاس المذاب على الحديد المحمي فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} أي فما استطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوروه لعلوه وملاسته {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} أي وما استطاعوا نقبه من أسفل لصلابته وثخانته، وبهذا السد المنيع أغلق ذو القرنين الطريق على يأجوج ومأجوج {قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أي قال ذو القرنين: هذا السدُّ نعمةٌ من الله ورحمة على عباده {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أي فإذا جاء وعد الله بخروج ياجوج ومأجوج وذلك قرب قيام الساعة {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي جعله الله مستوياً بالأرض وعاد متهدماً كأن لم يكن بالأمس {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أي كان وعده تعالى بخراب السدِّ وقيام الساعة كائناً لا محالة.

. وهاهنا تنتهي قصة ذي القرنين ثم يأتي الحديث عن أهوال الساعة وشدائد القيامة قال تعالى {

ص: 189

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي تركنا الناس يوم قيام الساعة يضطرب بعضهم ببعض - لكثرتهم - كاضطراب موج البحر {وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أي ونفخ في الصور النفخة الثانية فجمعناهم للحساب والجزاء في صعيد واحدٍ جمعاً لم يتخلف منهم أحد {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} أي أبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين يوم جمع الخلائق حتى شاهدوها بأهوالها عرضاً مخيفاً مفزعاً {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي هم الذين كانوا في الدنيا عُمياً عن دلائل قدرة الله ووحدانيته فلا ينظرون ولا يتفكرون {وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى لظلمة قلوبهم قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لإعراضهم عن الأدلة السمعية، وتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فكأنهم عمْيٌ صم {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ} الهمزة للإنكار والتوبيخ أي أفظنَّ الكافرون أن يتخذوا بعض عبادي آلهة يعبدونهم دوني كالملائكة وعزير والمسيح ابن مريم، وأن ذلك ينفعهم أو يدفع عنهم عذابي؟ قال القرطبي: جواب الاستفهام محذوف تقديره أفحسبوا أن ذلك ينفعهم، أولا أعاقبهم {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} أي هيأنا جهنم وجعلناها ضيافةً لهم كالنُزُل المعد للضيف قال البيضاوي: وفيه تهكمٌ بهم وتنبيهٌ على أن لهم وراءها من العذاب ما تستتحق جهنم دونه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً} أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين هل نخبركم بأخسر الناس عند الله؟ {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا} أي بطل عملهم وضاع في هذه الحياة الدنيا لأن الكفر لا تنفع معه طاعة قال الضحاك: هم القسيّسون والرهبان يتعبدون ويظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أي يظنون أنهم محسنون بأفعالهم {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي كفروا بالقرآن وبالبعث والنشور فبطلت أعمالهم {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي لهم عند الله قيمةٌ ولا وزن، ولا قدرٌ ولا منزلة وفي الحديث «يُؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة» {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} أي ذلك جزاؤهم وعقوبتهم نارُ جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي آمنوا بالله وعملوا بما يرضيه {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} أي لهم أعلى درجات الفردوس منزلا ً ومستقراً {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون عنها تحولاً قال ابن رواحة: في جنان الفردوس ليسَ يخافون: خُروجاً عنها ولا تحويلاً {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} هذا تمثيلٌ لسعة علم الله والمعنى لو كانت بحار الدنيا حبراً ومداداً وكتبت به كلمات الله وحكمه وعجائبه {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أي لفني ماء البحر على كثرته وانتهى، وكلامُ الله لا ينفد لأنه غير متناهٍ كعلمه جل وعلا {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} أي ولو أتينا بمثل ماء البحر وزدناه به حتى يكثر فإن كلام الله لا يتناهى {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي قل لهم يا محمد إنما أنا إنسان

ص: 190

مثلكم أكرمني الله بالوحي، وأمرني أن أخبركم أنه واحدٌ أحد لا شريك له {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي فمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي فليخلص له العبادة {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} أي لا يرائي بعمله ولا يبتغي بما يعمل غير وجه الله، فإن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.

البَلاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين {مَطْلِعَ. . مَغْرِبَ} .

2 -

التشبيه البليغ {جَعَلَهُ نَاراً} أي كالنار في الحرارة وشدة الإحمرار حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.

3 -

الاستعارة {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} شبّههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعضٍ بموج البحر المتلاطم واستعار لفظ يموج لذلك ففيه استعارة تبعية.

4 -

الاستعارة أيضاً {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي كانوا ينظرون فلا يعتبرون وتُعرض عليهم الآيات الكونية فلا يؤمنون، ولم تكن أعينهم حقيقةً في غطاء وحجاب وإنما هو تطريق التمثيل.

5 -

الجناس الناقص {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} لتغير الشكل وبعض الحروف، ويسمى أيضاً جناس التصحيف.

6 -

الاستفهام الذي يراد به التوبيخ والتقريع {أَفَحَسِبَ الذين كفروا} ؟

7 -

المقابلة اللطيفة {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} مقابل {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} الآية.

لطيفَة: كثيراً ما يرد في القرآن لفظ «حبط» وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تأكل نوعاً ساماً من الكلأ ثم تَلْقى حتفها، وهذا اللفظ أنسب شيء لوصف الأعمال فإنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة ثم تنتهي إلى البوار.

ص: 191

اللغَة: {وَهَنَ} ضعف يقال وَهَن يهنُ فهو وَاهِنٌ والوهنُ ضعفُ القوة {اشتعل} الاشتعال انتشار شعاع النار {عَاقِراً} العاقر: التي لا تلد لكبر سنها {عِتِيّاً} العِتيُّ: النهاية في الكبر واليبس

ص: 193

والجفاف يقال: عتا الشيخ كبر وولّى قال الشاعر:

إنما يُعذر الوليدُ ولا يُعذر

من كان في الزَّمان عِتّياً

{حَنَاناً} الحنان: الشفقة والرحمةُ والمحبةُ، وأصله من حنين الناقة على ولدها وحنانْيك تريد رحمتك قال طرفة:

أبَا منذر أفنيت فاسْبتق بعضّنا

حنانَيْك بعضُ الشر أهونُ من بعض

{انتبذت} ابتعدت وتنحَّت {سَوِيّاً} مستوي الخلقة {المخاض} اشتداد وجع الولادة والطلق {سَرِيّاً} السريُّ: النهر والجدول لأن الماء يسري فيه {فَرِيّاً} الفريُّ: العظيم من الأمر.

التفسِير: {كهيعص} حروفٌ مقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وتقرأ: «كافْ، هَا، يَا، عَيْنْ، صَادْ» {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} أي هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك لعبدِهِ زكريا نقصُّه عليك يا محمد {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} أي حين ناجى ربه ودعاه بصوتٍ خفي لا يكاد يسمع قال المفسرون: لأن الإخفاء في الدعاء أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} أي دعا في ضراعة فقال يا رب: لقد ضعف عظمي، وذهبتْ قوتي من الكِبر {واشتعل الرأس شَيْباً} أي انتشر الشيب في رأسي انتشار النار في الهشيم {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي لم تخيّب دعائي في وقت من الأوقات بل عودتني الإحسان والجميل فاستجب دعائي الآن كما كنت تستجيبه فيما مضى قال البيضاوي: هذا توسلٌ بما سلف له من الاستجابة، وأنه تعالى عوَّده بالإجابة وأطعمه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيَّب من أطمعه {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} أي خفت بني العم والعشيرة من بعد موتي أن يضيّعوا الدين ولا يُحسنوا وراثة العلم والنبوة {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي لا تلد لكبر سنها أو لم تلدْ قطُّ {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي فارزقني من محض فضلك ولداً صالحاً يتولاني {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي يرثني ويرث أجداده في العلم والنبوة قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورّثون المال {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} أي أجعله يا رب مرضياً عندك قال الرازي: قدًَّم زكريا عليه السلام على طلب الولد أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً، والثاني: أن الله ما ردَّ دعاءه البتة، والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم صرَّح بسؤال الولد وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الاعتماد على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسمه يحيى} أي نبشرك بواسطة الملائكة بغلامٍ يسمى يحيى كما في آل عمران {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى}

[آل عمران: 39]{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي لم يسمَّ أحدٌ قبله بيحيى فهو اسم فذٌّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه وقال مجاهد: ليس له شبيه في الفضل والكمال {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وهو استفهام تعجب وسرور بالأمر العجيب {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي والحال أن أمرأتي كبيرة السن لم تلد في شبابها فكيف وهو الآن عجوز!! {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} أي

ص: 194

بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مائةً وعشرين سنة، وامرأتهُ ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ {كُن فَيَكُونُ} وإنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي {قَالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ الناس ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإذا أراد الناس لم يستطع أن يكلمهم {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران {قَالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ الناس ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزاً} [آل عمران: 41] {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبُ فقال لهم: ما للَّعب خُلقت، وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} أي فعلنا ذلك رحمة منا بأبوية وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة {وَكَانَ تَقِيّاً} أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط قال ابن عباس: طاهراً لم يعلم بذنب {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} أي جعلناه باراً بأبيه وأمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة «ميلاد يحيى» لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيَّ بيت المقدس لتتفرع لعبادة الله {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي جعلت بينها وبين قومها

ص: 195

ستراً وحاجزاً {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} أي أرسلنا إليها جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أي تصوَّر لها في صورة البشر التام الخلقة قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعْدَ الشعر مستوى الخلقة قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتسأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرتْ ولم تقدر على السماع لكلامه، ودلَّ على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي فلما رأته فزعت وخشيتْ أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت: إني أحتمي وألتجئ إلى الله منك، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره إن كنت تقياً فاتركني ولا تؤذني {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} أي قال لها جبريل مزيلاً لما حصل عندها من الخوف: ما أنا إلا ملَكٌ مرسلٌ من عند الله إليك ليهبَ لك غلاماً طاهراً من الذنوب {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وعلى أيّ صفةٍ يوجد هذا الغلام مني؟ {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} أي ولستُ بذاتِ زوج حتى يأتيني ولد ولستُ بزانية {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي كذلك الأمر حكم ربُّك بمجيء الغلام منك وإن لم يكن لك زوج، فإنَّ ذلك على الله سهل يسير {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي وليكون مجيئه دلالةّ للناس على قدرتنا العجيبة ورحمة لهم ببعثته نبياً يهتدون بإرشاده {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} أي وكان وجوده أمراً مفروغاً منه لا يتغّير ولا يتبدل لأنه في سابق علم الله الأزلي {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلى مكان بعيد ومعنى الآية أنها حملت بالجنين فاعتزلت - وهو في بطنها - مكاناً بعيداً عن أهلها خشية أن يعيرّوها بالولادة من غير زوج {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} أي فألجأها ألم الطَّلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة لتعتمد عليه عند الولادة {قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} أي قالت يا ليتني كنت قد مِتُّ قبل هذا اليوم وكنت شيئاً تافهاً لا يُعرف ولا يُذكر قال ابن كثير: عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عاهرة زانية ولذلك قالت ما قالت {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَاّ تَحْزَنِي} أي فناداها الملك من تحت النخلة قائلاً لها: لا تحزني لهذا الأمر {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي جعل لك جدولاً صغيراً يجري أمامك قال ابن عباس: ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماءٍ عذب فجرى جدولاً {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} أي حركي جذع النخلة اليابسة {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} أي يتساقط عليك الرُّطب الشهيُّ الطريُّ قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولاً، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامة من الله لها {فَكُلِي واشربي} أي كلي من هذا الرطب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل {وَقَرِّي عَيْناً} أي طيبي نفساً بهذا المولود

ص: 196

ولا تحزني {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أي فإن رأيتِ أحداً من الناس وسألك عن شأن المولود {فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي نذرت السكوت والصمت لله تعالى {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} أي لن أكلّم أحداً من الناس.

. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها {قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي فلما وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أي وما كانت أمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيت طاهر معرفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلي: هارون رجل من عُباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله} أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى في الربوبية {آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} أي قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلني نبياً، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادته تحققه فإن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد.

. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى بن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله عن الولد والشريك {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى

ص: 197

معاناةٍ أو تعب، ومن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ قال المفسرون: وهذا كالدليل لما سبق كأنه قال: إن اتخاذ الولد شأن العاجز الضعيف المحتاج الذي لا يقدر على شيء، وأما القادر الغني الذي يقول للشيء {كُن فَيَكُونُ} فلا يحتاج في اتخاذ الولد إلى إحبال الأنثى وحيث أوجده بقوله {كُن} لا يسمى ابناً له بل هو عبده، فهو تبكيتٌ وإلزام لهم بالحجج الباهرة {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي وممّا أمرَ به عيسى قومَه وهو في المهد أن أخبرهم أن الله ربه وربهم فليفردوه بالعبادة هذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى وصاروا أحزاباً متفرقين، فمنهم من يزعم أنه ابن الله، ومنهم من يزعم أنه ابن زنى {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ويلٌ لهم من المشهد الهائل ومن شهود هول الحساب والجزاء {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وأبصرهم في ذلك اليوم الرهيب {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي لكنْ الظالمون في هذه الدنيا في بعدٍ وغفلة عن الحق واضح جلي {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي أنذر الخلائق وخوّفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسيء إذ لم يُحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير {إِذْ قُضِيَ الأمر} أي قُضي أمرُ الله في الناس، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي وهم اليوم في غفلةٍ سادرون {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بالبعث والنشور {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نحن الوارثون للأرض وما عليها من الكنوز والبشر {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي مرجع الخلائق ومصيرهم إلينا للحساب والجزاء.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

الكناية {وَهَنَ العظم مِنِّي} كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.

2 -

الاستعارة {اشتعل الرأس شَيْباً} شبّه انتشار الشيب وكثرته باشتعال النار في الحطب واستعير الاشتعال للانتشار واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر ففيه استعارة تبعية.

3 -

الطباق بين {وُلِدَ. . ويَمُوتُ} .

4 -

جناس الاشتقاق {نادى. . نِدَآءً} .

5 -

الكناية اللطيفة {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.

6 -

صيغة التعجب {أَسْمِعْ. . وَأَبْصِرْ} .

7 -

السجع {سَرِيّاً، بَغِيّاً، صَبِيّاً، نَبِيّاً} وهو من المحسنات البديعة.

تنبيه: في يوم القيامة تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم َ قال:«» إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون - أي يمدون أعناقهم - وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة. .} الآية «.

ص: 198

المنَاسَبَة: لم ذكر تعالى «قصة مريم» واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله، أعقبها بذكر «قصة إبراهيم» وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن من توحيد الربّ الديّان، وسواء في الضلال من عبد بشراً أو عبد حجراً، فالنصارى عبدوا المسيح، ومشركوا العرب عبدوا الأوثان.

اللغَة: {صِدِّيقاً} من أبنية المبالغة ومعناه كثير الصدق {مَلِيّاً} دهراً طويلاً من قولهم أمليتُ لفلان في الأمر إذا أطلت له قال الشاعر:

فتصدَّعت شُمُّ الجبال لموته

وَبكتْ عليه المُرْملاتُ مليّاً

{حَفِيّاً} الحفيُّ: المبالغ في البر واللطف به {خَلْفٌ} الخلف: بسكون اللام الذي يخلف سلفه بالشر وبفتحها الذي يخلفه بالخير يقال جعلك الله خير خلفٍ لخير سلف وقال الشاعر:

ص: 199

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

وبقيتُ في خَلْف كجلد الأجرب

{غَيّاً} : شراً وضلالاً قال أهل اللغة: كل شر عند العرب فهو غي، وكل خير فهو رشاد.

سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فنزلت الآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. .} الآية» .

التفسِير: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} أي اذكر يا محمد في الكتاب العزيز خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} أي ملازماً للصدق مبالغاً فيه، جامعاً بين الصّديقية والنبوة والغرضُ تنبيه العرب إلى فضل إبراهيم الذي يزعمون الانتساب إليه ثم يعبدون الأوثان مع أنه إمام الحنفاء وقد جاء بالتوحيد الصافي الذي دعاهم إليه خاتم المرسلين {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أي ناداه متلطفاً بخطابه، مستميلاً له نحو الهداية والإيمان، يا أبتِ لم تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك ضراً؟ {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} كرَّر النصح باللطف ولم يصف أباه بالجهل الشنيع في عبادته للأصنام وإنما ترفق وتلطف في كلامه أي جاءني من العلم بالله ومعرفة صفاته القدسية ما لا تعلمه أنت {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي اقبل نصيحتي وأطعني أرشدك إلى طريق مستقيم فيه النجاة من المهالك وهو دين الله الذي لا عوج فيه {ياأبت لَا تَعْبُدِ الشيطان} أي لا تطع أمر الشيطان في الكفر وعبادة الأوثان {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} أي إن الشيطان عاصٍ للرحمن، مستكبر على عبادة ربه، فمن أطاعه أغواه، قال القرطبي: وإنما عبّر بالعبادة عن الطاعة لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده {ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} تحذيرٌ من سوء العاقبة والمعنى أخاف أن تموت على كفرك فيحل بك عذاب الله الأليم وتكون قريناً للشيطان بالخلود في النيران قال الإمام الفخر: وإيراد الكلام بلفظ {ياأبت} في كل خطاب دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصواب، وقد رتَّب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبَّهه أولاً إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال وترك التقليد الأعمى، ثم ذكَّره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام مع رعاية الأدب والرفق، وقوله {إني أَخَافُ} دليلٌ على شدة تعلق قلبه بمصالحه قضاءً لحق الأبوَّة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} أي قال له أبوه آزر: أتارك يا إبراهيم عبادة آلهتي ومنصرفٌ عنها؟ استفهامٌ فيه معنى التعجب والإنكار لإعراضه عن عبادة الأوثان كأن ترك عبادتها لا يصدر عن عاقل قال البيضاوي: قابل أبوه استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظه وغلظة العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله {ياأبت} ب «يا ابني» وقدَّم الخبر وصدَّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل، ثم هدَّده بقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} أي لئن لم تترك شتم وعيب آلهتي لأرجمنك بالحجارة {واهجرني مَلِيّاً} أي اهجرني دهراً طويلاً قال السديُّ: أبداً.

. بهذه الجهالة تلقى «آزر»

ص: 200

الدعوة إلى الهدى، وبهذه القسوة قابل القول المؤدَّب المهذَّب، وكذلك شأن الكفر مع الإيمان، وشأن القلب الذي هذَّبه الإيمان، والقلب الذي أفسده الطغيان {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} أي قال إبراهيم في جوابه: أمَّا أنا فلا ينالك مني أذى ولا مكروه، ولا أقول لك بعدُ ما يؤذيك لحرمة الأبوَّة، وسأسأل الله أن يهديك ويغفر لك ذنبك {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي مبالغاً في اللطف بي والاعتناء بشأني {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي أترككم وما تعبدون من الأوثان وأرتحل عن دياركم {وَأَدْعُو رَبِّي} أي وأعبد ربي وحده مخلصاً له العبادة {عسى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي راجياً بسبب إخلاصي العبادة له ألَاّ يجعلني شقياً، وفيه تعريضٌ بشقاوتهم بدعاء آلهتم. . وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم للأوثان، وهجر الأهل والأوطان، فلم يتركه الله وحيداً بل وهب له ذريةً وعوَّضه خيراً {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قال المفسرون: لما هاجر إبراهيم إلى أرض الشام، واعتزل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خيرٌ منهم، فوهب له إسحاق ويعقوبُ أولاداً أنبياء، فآنس الله بهما وحشته عن فراق قومه بأولئك الأولاد الأطهار، ويعقوب ابن اسحاق، وهما شجرتا الأنبياء فقد جاء من نسلهما أنبياء بني إسرائيل قال ابن كثير: المعنى جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته بالنبوة ولهذا قال {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي كل واحدٍ منهما جعلناه نبياً {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا} أي أعطينا الجميعَ - إبراهيم وإسحاق ويعقوب - كل الخير الديني والدنيوي، من المال والولد والعلم والعمل {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي جعلنا لهم ذكراً حسناً في الناس، لأن جميع أهل الملل والأديان يثنون عليهم لما لهم من الخصال المرضية، ويُصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، قال الطبري: أي رزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل في الناس {واذكر فِي الكتاب موسى} أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ «كان» لتفخيم شأن النبي المذكور {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي أدنْيناه للمناجاة حين كلمناه قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجب حتى سمع صريف الأقلام قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال

{واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} [طه: 29 - 30] جعلناه له عضداً وناصراً ومعيناً {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك «إسماعيل» الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإكراماً،

ص: 201

ولأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح فلذلك أثنى الله عليه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي جمع الله له بين الرسالة والنبوة قال ابن كثير: وفي الآية دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وُصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، ومن إسماعيل جاء خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم َ {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} أي كان يحث أهله على طاعة الله، وبخاصة الصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي بها تتحقق سعادة المجتمع {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} أي نال رضى الله قال الرازي: وهذا نهاية المدح لأن المرضيَّ عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} أي اذكر يا محمد في الكتاب الجليل خبر إدريس إنه كان ملازماً للصدق في جميع أحواله، موحىً إلأيه من الله قال المفسرون: إدريس هو جدُّ نوح، وأول مرسل بعد بعد آدم، وأول من خط بالقلم ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} أي رفعنا ذكره وأعلينا قدره، بشرف النبوة والزلفى عند الله {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} أي أولئك المذكورون هم أنبياء الله ورسله الكرام، الذين قصصنا عليك خبرهم في هذه السورة - وهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - وهم الذين أنعم الله عليهم بشرف النبوة {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} أي من نسل آدم كإِدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} كإِبراهيم فإِنه من ذرية سام بن نوح {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} كإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} أي ومن ذرية إسرائيل وهو «يعقوب» كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ} أي وممن هديناهم للإيمان واصطفيناهم لرسالتنا ووحينا {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أي إذا سمعوا كلام الله سجدوا وبكوا من خشية الله مع ما لهم من علو الرتبة، وسموِّ النفس، والزلفى من الله تعالى، قال القرطبي: وفي الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيراً في القلوب {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} أي جاء من بعد هؤلاء الأتقياء قومٌ أشقياء، تركوا الصلوات وسلكوا طريق الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} أي سوف يلقون كل شرٍّ وخسارٍ ودمار، قال ابن عباس: عيٌّ وادٍ في جهنم، وإِن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إلا من تاب وأناب وأصلح عمله {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي فأولئك يُسعدون في الجنة ولا يُنقصون من جزاء أعمالهم شيئاً {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} أي هي جنات إقامة التي وعدهم بها ربهم فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها تصديقاً بوعده تعالى {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي إن وعده تعالى بالجنة آتٍ وحاصلٌ لا يُخلف {لَاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَاّ سَلَاماً} أي لا يسمعون في الجنة شيئاً من فضول الكلام، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم على وجه التحية والإكرام، والاستثناء منقطع {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي ولهم ما يشتهون في الجنة من أنواع المطاعم والمشارب بدون كدٍّ ولا تعب، ولا نتغصٍ ولا انقطاع {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ

ص: 202

عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها هي التي نورثها لعبادنا المتقين {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} هذا من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين احتبس عنه فترةً من الزمن والمعنى: ما نتنزَّل إلى الدنيا إلا بأمر الله وإِذنه {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} أي لله جل وعلا جميع الأمر، أمر الدنيا والآخرة، وهو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل شيء إلا بأمره وإِذنه؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي لا ينسى شيئاً من أعمال العباد {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده} أي هو ربُّ العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده {واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر على تكاليف العبادة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي هل تعلم له شبيهاً ونظيراً؟

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الكناية اللطيفة {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} كنَّى عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان لأن الثناء يكون باللسان فلذلك قال {لِسَانَ صِدْقٍ} كما يكنى عن العطاء باليد.

2 -

الاستعارة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} شبَّه المكانة العظيمة والمنزلة السامية بالمكان العالي بطريق الاستعارة.

3 -

المبالغة {صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} أي مبالغاً في الصدق.

4 -

الإشارة بالبعيد لعلو المرتبة {أولئك الذين أَنْعَمَ} فما فيه من معنى البعد للإشادة بعلو رتبهم وبُعد منزلتهم في الفضل.

5 -

الجناس الناقص {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} لتغير الحركات والشكل.

6 -

الطباق {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} وبين {بُكْرَةً. . وَعَشِيّاً} .

7 -

السجع الحسن الرصين {عَلِيّاً، حَفِيّاً، نَّبِيَّاً} .

فائِدَة: في قول إبراهيم عليه السلام «يا أبتٍ» تلطفٌ واستدعاء، والتاء عوضٌ عن ياء الإضافة لأن أصله «يا أبي» ولهذا لا يُجمع بينهما.

تنبيه: ذكر السيوطي في التحبير أن إبراهيم عليه السلام عاش من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة، وبينه وبين آدم ألفا سنة، وبينه وبين نوح ألف سنة، ومنه تفرعت شجرة الأنبياء.

ص: 203

المناسَبَة: لما ذكر تعالى طائفةً من قصص الأنبياء للعظة والاعتبار، وكان الغرضُ الأساسي للسورة الكريمة إثبات قدرة الله على الإحياء والإفناء، وإثباتُ يوم المعاد، ذكر تعالى هنا بعض شبهات المكذبين للبعث والنشور وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وختم السورة الكريمة ببيان مآل السعداء والأشقياء.

اللغَة: {جِثِيّاً} جمع جاثٍ يقال: جثا إذا قعد على ركبتيه من شدة الهول وهي قعدة الخائف الذليل قال الكُميت:

هُمُو تركوا سراتُهم جثّياً

وهم دُونَ السَّراة مقرَّنينا

{عِتِيّاً} عصياناً وتمرداً عن الحق {نَدِيّاً} النديُّ والنادي: الذي يجتمع فيه القوم للتحدث والمشورة قال الجوهري: النديُّ مجلس القوم ومتحدثهم وكذلك الندوة والنادي فإن تفرقوا فليس بندي {أَثَاثاً} الأثاث: متاع البيت {رِءْياً} منظراً حسناً {تَؤُزُّهُمْ} الأزُّ: التهييجُ والإِغراء، قال أهل اللغة: الأزُ والهزُّ والاستفزاز متقاربة ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ومنه أزيز المِرجل وهو غليانه وحركته {وَفْداً} جمع وافد وهو الذي يقدم على سبيل التكرمة معزَّزاً مكرَّماً {وِرْداً} مشاةً عطاشاً قال الرازي: والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش {إِدّاً} منكراً

ص: 204

عظيماً قال الجوهري: الإدُّ: الداهية والأمر الفظيع {رِكْزاً} الركز: الصوت الخفي.

سَبَبُ النّزول: عن خباب بن الأرت قال: كنتُ رجلاً قيناً - أي حداداً - وكان لي على العاص بن وائل دينٌ فأتيتُه أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث - أي تموت الآن وتبعث أمامي وهذا من باب المستحيل - قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثمَّ مالٌ فأعطيتك فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} .

التفسِير: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي يقول الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت على وجه الإِنكار والاستبعاد: أئذا متُّ وأصبحتُ تراباً ورفاتاً فسوف أخرج من القبر حياً؟ قال ابن كثير: يتعجب ويستبعد إِعادته بعد موته، واللام «لسوف» للمبالغة في الإنكار، وهو إنكار منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى، أين كان؟ وكيف كان؟ ولو تذكّر لعلم أن الأمر أيسر مما يتصور {أَوَلَا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي أولاً يتذكر هذا المكذّب الجاحد أول خلقه فيستدل بالبداءة على الإعادة؟ ويعلم أن الله الذي خلقه من العدم قادرٌ على أن يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء؟ قال بعضُ العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذْ لا شكَّ أنَّ الإعادة ثانياً أهونُ من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} أي فوربك يا محمد لنحشرنَّ هؤلاء المكذبين بالبعث مع الشياطين الذين أغووهم قال المفسرون: يُحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} أي محضر هؤلاء المجرمين حول جهنم قعوداً على الركب من شدة الهول والفزع، لا يطيقون القيام على أرجلهم لما يدهمهم من شدة الأمر {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أي لنأخذنَّ ولننتزعنَّ من كل فرقةٍ وجماعة ارتبطت بمذهب {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} أي من منهم أعصى لله وأشد تمرداً، والمراد أنه يؤخذ من هؤلاء المجرمين ليقذف في جهنم الأعتى فالأعتى قال ابن مسعود: يُبدأ بالأكابر جرماً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} أي نحن أعلم بمن هم أحق بدخول النار والاصطلاء بحرها وبمن يستحق تضعيف العذاب فنبدأ بهم {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} أي ما منكم أحدٌ من برٍ أو فاجر ألاً وسيرد على النار، المؤمن للعبور والكافر للقرار {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} أي كان ذلك الورود قضاءً لازماً لا يمكن خُلفه {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي ننجّي من جهنم المتقين بعد مرور الجميع عليها {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} أي ونترك الظالمين في جهنم قعوداً على الركب قال البيضاوي: والآية دليلٌ على أن المراد بالورود

ص: 205

والجثوُّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى جنة بعد نجاتهم، ويبقى الفجرة فيها على هيئاتهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات} أي وإذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، واضحات الإعجاز، بينات المعاني {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي قال الكفرة المترفون لفقراء المؤمنين أيُّ الفريقين: - نحن أو أنتم - أحسنُ مسكناً، وأطيب عيشاً، وأكرم منتدى ومجلساً؟ قال البيضاوي: إن المشركين لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم لقصور نظرهم، فردَّ الله عليهم بقوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} أي وكثير من الأمم المكذبين بآياتنا أهلكناهم بكفرهم كانوا أكثر من هؤلاء متاعاً، وأجمل صورةً ومنظراً، فكما أهلكنا السابقين نهلك اللاحقين، فلا يغترُّ هؤلاء بما لديهم من النعيم والمتاع {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أنهم على حق: من كان في الضلالة منا ومنكم فليمهله الرحمن فيما هو فيه، وليدعْه في طغيانه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله قال القرطبي: وهذا غايةٌ في التهديد والوعيد {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أي حتى يروا ما يحلُّ بهم من وعد الله {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} أي إمَّا عذاب الدنيا بالقتل والأسر، أو عذاب الآخرة بما ينالهم يوم القيامة من الشدائد والأهوال {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} أي فسيعلمون عندئذ حين تنكشف الحقائق أي الفريقين شرٌّ منزلة عند الله، وأقل فئة وأنصاراً، هل هم الكفار أم المؤمنون؟ وهذا في مقابلة قولهم {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} أي ويزيد الله المؤمنين المهتدين، بصيرةً وإيماناً وهداية {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ذخراً في الآخرة خير عند الله من كل ما يتباهى به أهل الأرض من حيث الأجر والثواب {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أي وخير رجوعاً وعاقبة، فإن نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ دائم {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} نزلت في العاص بن وائل، والاستفهام للتعجب أي تعجَّب يا محمد من قصة هذا الكافر الذي جحد بآيات الله وزعم أن الله سيعطيه في الآخرة المال والبنين {أَطَّلَعَ الغيب} أي هل اطَّلع على الغيب الذي تفرَّد به علاّم الغيوب؟ {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} أي أم أعطاه الله عهداً بذلك فهو يتكلم عن ثقةٍ ويقين؟ {كَلَاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ردٌّ عليه، ولفظةُ «كلا» للردع والزجر أي ليرتدع ذلك الفاجر عن تلك المقالة الشنيعة فسنكتب ما يقول عليه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} أي سنزيد له في العذاب ونطيله عليه جزاء طغيانه واستهزائه، ونضاعف له مدد العذاب مكان الإمداد بالمال والولد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي ونرثه وما يخلفه من المال والولد بعد إهلاكه، ويأتينا وحيداً لا مال معه ولا ولد، ولا نصير له ولا سند {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} أي واتخذ المشركون أصناماً عبدوها من دون الله لينالوا بها العزَّ والشرف {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ

ص: 206

عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا فإن الآلهة التي عبدوها ستبرأ من عبادتهم ويكونون له أعداء يوم القيامة {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي ألم تر يا محمد أنَّا سلَّطنا الشياطين على الكافرين تُغريهم إغراءٌ بالشر، وتهيّجُهم تهييجاً حتى يركبوا المعاصي قال الرازي: أي تغريهم على المعاصي وتحثُّهم وتهيّجهم لها بالوساوس والتسويلات {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أي لا تتعجل يا محمد في طلب هلاكهم فإِنه لم يبق لهم أيام وأنفاس نعدُّها عليهم عدّاً ثم يصيرون إلى عذاب شديد قال ابن عباس: نعدُّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدُّ عليهم سنيَّهم {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} أي يوم نحشر المتقين إلى ربهم معزَّزين مكرَّمين، راكبين على النوق كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإِنعامهم {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} أي ونسوق المجرمين كما تُساق البهائم مشاةً عطاشاً كأنهم إبلٌ عطاش تُساق إلى الماء وفي الحديث

«يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، واربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتُجرُّ بقيتهم إلى النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا»

{لَاّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} أي لا يشفعون ولا يُشفع لهم {إِلَاّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} الاستثناء منقطع أي لكنْ من تحلَّى بالإيمان والعمل الصالح فإنه يملك الشفاعة قال ابن عباس: العهدُ «شهادة أن لا إله إلا الله» {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} أي لقد أتيتم أيها المشركون بقولٍ منكر عظيم تناهى في القبح والشناعة {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي تكاد السماوات تتشقَّق من هول هذا القول {وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} أي وتنشقُّ كذلك الأرض وتندكُّ الجبال وتُهدُّ هداً استعظاماً للكلمة الشنيعة {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} أي ما يليق به سبحانه اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي المجانسة ويكون عن حاجة، وهو المنزَّه عن الشبيه والنظير، والغني عن المعين والنصير {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلَاّ آتِي الرحمن عَبْداً} أي ما من مخلوقٍ في هذا العالم العلوي والسفلي إلا وهو عبدٌ لله، ذليلٌ خاضعٌ بين يديه، منقادٌ مطيع له كما يفعل العبيد {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أي علم عددهم وأحاط علمه بهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} أي وكل فردٍ يأتي يوم القيامة وحيداً فريداً، بلا مالٍ ولا نصير، ولا معين ولا خفير {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} لما ذكر أحوال المجرمين ذكر أحوال المؤمنين والمعنى سيحدث لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً ومودة قال الربيع: يحبُّهم ويحببهم إلى الناس {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} أي فإِنما يسرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك العربي تقرأه، وجعلناه سهلاً يسيراً لمن تدبره، لتبشّر به المؤمنين المتقين، وتخوّف به قوماً معاندين شديدي الخصومة والجدال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أي كم من الأمم الماضية أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، و «كم» للتكثير {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي هل ترى منهم أحداً؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي

ص: 207

أو تسمع صوتاً خفياً؟ والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم الديار، وأوحشت منهم المنازل، فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.

البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1 -

ذكر العام وإرادة الخاص {وَيَقُولُ الإنسان} المراد به الكافر لأنه هو المنكر للبعث.

2 -

الطباق بين {مِتُّ. . حَيّاً} وبين {تُبَشِّرَ. . وَتُنْذِرَ} .

3 -

الاستفهام للإِنكار والتوبيخ {أَوَلَا يَذْكُرُ الإنسان} .

4 -

المقابلة اللطيفة بين المتقين والمجرمين وبين حال الأبرار والأشرار {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} .

5 -

الجناس غير التام {وَفْداً.

. وِرْداً} لتغير الحرف الثاني.

6 -

اللف والنشر المرتب في {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} حيث رجع الأول إلى {خَيْرٌ مَّقَاماً} والثاني إلى {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} كما يوجد بين {خَيْرٌ. . وشَرٌّ} طباق.

7 -

المجاز العقلي {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي نأمر الملائكة بالكتابة فهو من إسناد الشيء إلى سببه.

8 -

السجع الرصين مثل {عَبْداً، عَدّاً، فَرْداً، وُدّاً} وهو من المحسنات البديعية.

فَائِدَة: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُ فلاناً فأحبَّه فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء. .» الحديث وهو مصداق قوله تعالى {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} .

لطيفَة: روي أن المأمون قرأ هذه الآية {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} وعنده جماعة من الفقهاء فيهم ابن السماك فأشار إليه المأمون أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد قال الشاعر:

حياتكَ أنفاسٌ تُعدُّ فكلما

مضى نفس منك انتقصت به جزءاً

ص: 208