الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {سُلَالَةٍ} السُّلالة: الخلاصة مشتقة من السَّل وهو استخراج الشيء من الشيء، تقول: سللت الشَّعر من العجين، والسف من الغمد قال أمية:
خلق البريَّة من سلالة منتن
…
وإِلى السُّلالة كلُّها ستعود
ويقال: الولد سلالة أبيه لأنه انسلَّ من ظهر أبيه {مَّكِينٍ} ثابت راسخ تقول: هذا شيء مكين أي متمكن في الثبوت والرسوخ {طَرَآئِقَ} جمع طريقة والمراد بالطرائق السماوات السبع سميت بذلك لكون بعضها فوق بعض، ومنه قولهم: طارق النعل إِذا جعل إحداهما على الأخرى {صِبْغٍ} السبغ: الإِدام وأصله الصباغ وهو الذي يلون به الثوب قال الهروي: كل إِدامٍ يؤتدم به فهو صبغ {الأنعام} الحيوانات المأكولة «الإِبل، والبقر، والغنم» .
التفسِير: {قَدْ أَفْلَحَ
المؤمنون}
أي فاز وسعد وحصل على البغية والمطلوب المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة، و {قَدْ} للتأكيد والتحقيق فكأنه يقول لقد تحقَّق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإِيمان والعمل الصالح، ثم عدَّد تعالى مناقبهم فقال {الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: خاشعون: خائفون ساكنون أي هم خائفون متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} أي عن الكذب والشتم والهزل قال ابن كثير: اللغو: الباطل وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} هذا هو الوصف الرابع أي عفَّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يحل من الزنا والواط وكشف العورات {إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إِلا من زوجاتهم وإِمائهم المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإنهم غير مؤاخذين {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} أي فمن طلب غير الزوجات والمملوكات {فأولئك هُمُ العادون} أي هم المعتدون المجاوزون الحدَّ في البغي والفساد {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي قائمون عليها بحفظها وإصلاحها، لا يخونون إِذا ائتمنوا، ولا ينقضون عهدهم إِذا عاهدوا قال أبو حيان: والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قولٍ وفعلٍ واعتقاد، وما ائتمنه الإِنسان من الودائع والأمانات {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف السادس أي يواظبون على الصلوات الخمس ويؤدونها في أوقاتها قال في التسهيل: فإِن قيل كيف كرّر ذكر الصلوات أولاً وآخراً؟ فالجواب أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها، وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان {أولئك هُمُ الوارثون} أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف الجليلة هم الجديرون بوراثة جنة النعيم {الذين يَرِثُونَ الفردوس} اي الذين يرثون أعالي الجنة، التي تتفجر منها أنهار الجنة وفي الحديث
«إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإِنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة» {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم دائمون في ها لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً. . ثم ذكر تعالى الأدلة والبراهين على قدرته ووحدانيته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} اللام جواب قسم أي والله لقد خلقنا جنس الإِنسان من صفوة وخلاصة استلت من الطين قال ابن عباس: هو آدم لأنه انسلَّ من الطين {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي ثم جعلنا ذرية آدم وبنيه منيّاً ينطف من أصلاب الرجال {فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} أي في مستقر متمكن هو الرحم {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي ثم صيَّرنا هذه النطفة - وهي الماء الدافق - دماً جامداً يشبه العلقة {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً} أي صيَّرنا قطعة اللحم عظاماً صلبة لتكون عموداً للبدن {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي سترنا تلك العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي ثم بعد تلك الأطوار نفخنا فيه الروح فصيرناه خلقاً آخر في أحسن تقويم قال الرازي: أي جعلناه خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث صار إِنساناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع كل عضو من أعضائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي فتعالى الله في قدرته وحكمته أحسن الصانعين صنعاً {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} أي ثم إِنكم أيها الناس بعد تلك النشأة والحياة لصائرون إلى الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} أي تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة، ولما ذكر تعالى الأطوار في خلق الإِنسان وبدايته ونهايته ذكر خلق السماوات والأرض ولكها أدلة ساطعة على وجود الله فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} أي والله لقد خلقنا فوقكم سبع سماوات، سميت طرائق لأ ن بعضها فوق بعض {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} أي وما كنا مهملين أمر الخلق بل نحفظهم وندبر أمرهم {وَأَنزَلْنَا مِنَ
السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي أنزلنا من السحاب القطر والمطر بحسب الحاجة، لا كثيراً فيفسد الأرض، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} أي جعلناه ثابتاً مستقراً في الأرض لتنتفعوا به وقت الحاجة {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ أي ونحن قادرون على إِذهابه بالتغوير في الأرض فتهلكون عطشاً أنتم ومواشيكم قال ابن كثير: لو شئنا لجعلناه إذا نزل يغور في الأرض إلى مدى لا تصلون إِليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه تعالى ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً، فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع فيها فينفتح العيون والأنهار، ويسقى الزروع والثمار، فتشربون منه أنتم ودوابكم وأنعامكم {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي فأخرجنا لكم بذلك الماء حدائق وبساتين فيها النخيل والأعناب {لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي لكم في هذه البساتين أنواع الفواكه والثمار تتفكهون بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ومن ثمر الجنات تأكلون صيفاً وشتاءً كالرطب والعنب والتمر والزبيب، وإِنما خصَّ النخيل والأعناب بالذكر لكثرة منافعهما فإِنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإِدام، ومقام الفواكه رطباً ويابساً وهما أكثر فواكه العرب {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} أي وممَّا أنشأنا لكم بالمء أيضاً شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل الطور وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى {تَنبُتُ بالدهن} أي تُنبت الدهن أي الزيت الذي فيه منافع عظيمة {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} أي وإِدام للآكلين سمي صبغاً لأنه يلون الخبز إذا غُمس فيه، جمع الله في هذه الشجرة بين الأُدم والدهن، وفي الحديث
«كلوا الزيت وادهنوا به فإِنه من شجرةٍ مباركة» {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} أي وإن لكم أيها الناس فيما خلق لكم ربكم من الأنعام وهي «الإِبل والبقر والغنم» لعظةً بالغةً تعتبرون بها {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} أي نسقيكم من ألبانها من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أي ولكم في هذه منافع عديدة: تشربون من ألبانها، وتلبسون من أصوافها وتركبون ظهورها، وتحملون عليها الأحمال الثقال {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي وتأكلون لحومها كذلك {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي وتحملون على الإِبل في البر كما تحملون على السُّفن في البحر، فإِنَّ الإِبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِخبار بصيغة الماضي لإِفادة الثبوت والتحقق {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} كما أنَّ {قَدْ} لإِفادة التحقيق أيضاً.
2 -
التفصيل بعد الإِجمال {الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ. .} الخ.
3 -
إ نزال غير المنكر منزلة المنكر {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} الناس لا ينكرون الموت ولكنَّ غفلتهم عنه وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح يعدَّان من علامات الإنكار ولذلك نزلوا منزلة المنكرين وأُلقي الخبر مُؤكداً بمؤكدين «إٍنَّ واللام» .
4 -
الاستعارة اللطيفة {سَبْعَ طَرَآئِقَ} شبهت السماوات السبع بطرائق النعل التي يجعل بعضها فوق بعض بطريق الاستعارة.
5 -
التهديد {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} .
6 -
السجع غير المتكلف {خَاشِعُونَ، حَافِظُونَ، عَادُونَ} وكذلك {طِينٍ، مَّكِينٍ، الخالقين} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآيات من قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إلى قوله {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أربعة أنواع من دلائل قدرته تعالى، الأول: تقلب الإِنسان في أطوار الخلق وهي تسعة آخرها البعث بعد الموت، الثاني: خلق السماوات السبع، الثالث: إِنزال الماء من السماء، الرابع: منافع الحيوانات وذكر منها أربة أنواع «الانتفاع بالألبان، وبالصوف، وباللحوم، وبالركوب» .
فَائِدَة: روى الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان إِذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فلبثنا ذات يوم ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال» اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تُؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا «ثم قال: لقد أُنزل عليَّ عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} حتى ختم العشر»
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى دلائل التوحيد في خلق الإِنسان، والحيوان، والنبات، وفي خلق السماوات والأرض، وعدَّد نعمة عل عباده، ذكر هنا أمثالاً لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة وما نالهم من العذاب، فابتدأ بقصة نوح، ثم بقصة موسى وفرعون، ثم بقصة عيسى بن مريم، وكلُّها عبر وعظات للمكذبين بالرسل والآيات.
اللغَة: {جِنَّةٌ} بكسر الجيم أي جنون {فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا والتربص: الانتظار {مُبْتَلِينَ} مختبرين {هَيْهَاتَ} اسم فعل ماض بمعنى بَعُد قال الشاعر:
تذكرت أياماً مضين من الصبا
…
وهيهات هيهاتاً إِليك رجوعها
{غُثَآءً} الغثاء: العشب إِذا يبس، وغُثاء السيل: ما يحمله من الحشيش والقصب اليابس ونحوه {بُعْداً} هلاكاً قال الرازي: بعداً وسُحقاً ودماراً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها قال سبيويه وهي منصوبة بأفعال لا يستعمل إٍِظهارها ومعنى {بُعْداً} بعدوا بعداً أي هلكوا {قُرُوناً} أمماً {تَتْرَا} تتابع يأتي بعضهم إِثر بعض {أَحَادِيثَ} جمع أُحدوثة كأُعجوبة وهي ما يتحدث به عجباً وتسلية {مَعِينٍ} ماء جار ظاهر للعيون {رَبْوَةٍ} الربوة: المكان المرتفع من الأرض.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} أي والله لقد أرسلنا رسولنا نوحاً إلى قومه داعياً لهم إِلى الله قال المفسرون: هذه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ بذكر هذا الرسول، ليتأسى به في صبره، وليعلم أنَّ الرسل قبله قد كُذبوا {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده فليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلَا تَتَّقُونَ} زجرٌ ووعيد أي أفلا تخافون عقوبته بعبادتكم غيره؟ {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم الممعنون في الكفر والضلال {مَا هذا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي ما هذا الذي يريد أن يطلب الرياسة والشرف عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً. . واعجبْ بضلال هؤلاء استبعدوا أن تكون النبوة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحجر {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلَائِكَةً} أي لو أراد ال له أن يبعث رسولاً لبعث ملكاً
ولم يكن بشراً {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} أي ما سمعنا بمثل هذاكللام في الأمم الماضية، والدهور الخالية {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي ما هو إلا رجلٌ به جنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} أي انتظروا واصبروا عليه مدة حتى يموت {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} أي قال نوح بعد ما يئس من إِيمانهم: ربِّ انصرني عليهم بإِهلاكهم عامةً بسبب تكذيبهم إِياي {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} أي فأوحينا إِليه عند ذلك أن اصنع السفينة بمرأى منا وحفظنا {وَوَحْيِنَا} أي بأمرنا وتعليمنا {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} أي فإِذا جاء أمرنا بإِنزال العذاب {وَفَارَ التنور} أي فار الماء في التنور الذي يخبز فيه قال المفسرون: جعل الله ذلك علامة لنوح على هلاك قومه {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي فأدخل في السفينة من كل صنفٍ من الحيوان زوجين «ذكر وأنثى» لئلا ينقطع نسل ذلك الحيوان {وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي واحمل أهلك أيضاً إِلاّ من سبق عليه القول بالهلاك ممن لم يؤمن كزوجته وابنه {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي ولا تسألني الشفاعة للظالمين عند مشاهدة هلاكهم فقد قضيت أنهم مغرقون محكوم عليهم بالغرق {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} أي فإِذا علوت أنت ومن معك من المؤمنين على السفينة {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} أي احمدوا الله على تخليصه إِياكم من الغرق وإِنما قال {فَقُلِ} ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإِماماً فخطابه خطابٌ لهم {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أي أنزلني إِنزالاً مباركاً يحفظني من كل سوء وشر قال ابن عباس: هذا حين خرج من السفينة {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} أي أنت يا رب خير المنزلين لأوليائك والحافظين لعبادك {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} أي إِنَّ فيما جرى على أمة نوح دلائل وعبر يستدل بها أولوا الأبصار {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي وإِنَّ الحال والشأن كنا مختبرين للعباد بإِرسال المرسلين {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح قوماً آخرين يخلفونهم وهم قوم عاد {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي أرسلنا إِليهم رسولاً من عشيرتهم هو هود عليه السلام {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به أحداً لأنه ليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه وانتقامه إِن كفرتم؟ {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة} أي قال أشراف قومه الكفرة المكذبون بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا} أي وسَّعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا ونعمناهم في هذه الحياة {مَا هذا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي قالوا لأتباعهم مضلين لهم: ما هذا الذي يزعم أنه رسول إِلا إِنسان مثلكم {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إِلى الطعام والشراب {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} أي ولئن أطعتموه وصدقتموه فإِنكم لخاسرون حقاً حيق أذللتم أنفسكم باتّباعه قال أبو السعود: انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها؟ قاتلهم الله أنَّى يؤفكون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً} استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أيعدكم بالحياة بعد الموت أن تصبحوا رفاتاً
وعظاماً بالية؟ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} أي أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم وكرَّر لفظ {أَنَّكُمْ} تأكيداً لأنه لمّا طال الكلام حسن التكرار {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد بعُد هذا الذي توعدونه من الإِخراج من القبور، وغرضهم بهذا الاستبعاد انه لا يكون أبداً {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} أي لا حياة إِلا هذه الحياة الدنيا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموتُ بعضنا ويُولد بعضنا إِلى انقراض العصر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا بعث ولا نشور {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} أي ما هو إِلا رجل كاذب يكذب على الله فيما جاءكم به من الرسالة، والإِخبار بالمعاد {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا له بمصدقين فيما يقوله {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} لما يئس نبيُّهم من إِيمانهم ورأى إِصرارهم على الكفر دعا عليهم بالهلاك والمعنى ربّ انصرني عليهم بسبب تكذيبهم إِياي {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي قريب من الزمان سيصيرون نادمين على كفرهم {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق} أي أخذتهم صيحة العذاب المدمر عدلاً من الله لا ظلماً {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} أي هلكى كغثاء السيل قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاءً كغثاء السيل وهو الشيء التافه الحقير الذي لا ينتفع منه بشيء {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي فسحقاً وهلاكاً لهمم وظلمهم، وهي جملة دعائية كأنه قال: بعداً لهم من رحمة الله وهلاكاً ودماراً لهم {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أي أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أمماً وخلائق أخرين كقوم صالح وإِبراهيم وقوم لوط وشعيب قال ابن عباس: هم بنو إِسرائيل، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم دلَّ عليه قوله {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ما تتقدم أمةٌ من الأمم المهلكة عن الوقت الذي عُيّن لهلاكهم ولا تتأهر عنه {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} أي بعثنا الرسل متتالين واحداً بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضاً {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} تشنيع عليهم بكمال ضلالهم أي أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من سبقهم من الضالين المكذبين ولهذا قال {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي ألحقنا بعضهم في إِثر بعض بالهلاك والدمار {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً تُروى وأحاديث تُذكر، يتحدث الناس بما جرى عليهم تعجباً وتسلية {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} أي فهلاكاً ودماراً لقومٍ لا يصدّقون الله ورسله {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي أرسلناهما بآياتنا البينات قال ابن عباس: هي الآيات التسع «العصا، اليد، الجراد» الخ {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي وحجة واضحة ملزمة للخصم {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أرسلناهما إلى فرعون الطاغية وأشراف قومه المتكبرين {فاستكبروا} أي عن الإِيمان بالله وعبادته {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} أي متكبرين متمردين، قاهرين لغيرهم بالظلم {فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أي أنصدق رجلين مثلنا ونتَّبعهما؟ {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي والحال أن قوم موسى وهارون منقادون لنا كالخدم والعبيد؟ {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} أي فكذبوا رسولينا فكانوا من المغرقين في البحر {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي أعطينا موسى التوراة بعد غرق فرعون وملائه ليهتدي بها بنوا إِسرائيل {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي وجعلنا قصة مريم وابنها عيسى معجزةً عظيمة تدل على كمال قدرتنا {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} أي وجعلنا منزلهما ومأواهما إِلى مكانٍ مرتفع من أرض بيت المقدس قال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي مستوية يستقر
عليها وماءٍ جارٍ ظاهر للعيون قال الرازي: القرار: المستقر كل أرض مستوية مبسوكة، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وعن قتادة: ذات ثمارٍ وماء، يعني أنه لأجل الثمار يسقر فيها ساكنوها {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً} أي قلنا يا أيها الرسل كلوا من الحلال وتقربوا إِلى الله بالأعمال الصالحة، والنداء لكل رسولٍ في زمانه وصى به كل رسول إرشاداً لأمته كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعيدٌ وتحذير أي إِني عالم بما تعملون لا يخفى عليَّ شيء من أمركم، قال القرطبي: شمل الكل في الوعيد وإِذا كان هذا مع الرسل والأنبياء، فما ظنُّ كل الناس بأنفسهم؟ {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملتكم ملة واحدة وهي دين الإِسلام {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} أي وأنا ربكم لا شريك لي فخافوا عذابي وعقابي.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة البديعة {اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} عبَّر عن المبالغة في الحفظ والرعاية بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء في الأغلب يديم مراعاته بعينه فلذلك جاء بذكر الأعين بدلاً من ذكر الحفظ والحراسة على طريق الاستعارة.
2 -
الكناية {وَفَارَ التنور} كناية عن الشدة كقولهم حمي الوطيس، وأطلق بعض العلماء التنور على وجه الأرض مجازاً.
3 -
جناس الاشتقاق {أَنزِلْنِي مُنزَلاً} و {تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
4 -
الطباق بين {نَمُوتُ وَنَحْيَا} وكذلك بين {تَسْبِقُ. . ويَسْتَأْخِرُونَ} . 5 - الجناس الناقص {أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} لتغيير بعض الحروف مع الشكل.
6 -
التشبيه البليغ {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} أي كالغثاء في سرعة زواله ومهانة حاله، حذف وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً.
7 -
أسلوب الإِطناب {الذين كَفَرُواْ، وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا} ذماً لهم وتسجيلاً عليهم القبائح والشناعات.
8 -
السجع اللطيف مثل {تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، مُّخْرَجُونَ} ومثل {عَالِينَ، المهلكين، قَرَارٍ وَمَعِينٍ} .
فَائِدَة: لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع، فمن إِطلاقه على الواحد {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ؟ على إِطلاقه على الجمع {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} [مريم: 26]{وَمَا هِيَ إِلَاّ ذكرى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] أفاده صاحب الكشاف.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء والمرسلين، أتبعه بذكر أخبار الكفرة المتمردين من أقوامهم واختلافهم وتفرقهم في الدين حتى أصبحوا فرقاً وأحزاباً، ليجتنب الإِنسان طرق أهل الضلال.
اللغَة: {زُبُراً} قطعاً جمع زبور وهي القطعة من الفضة أو الحديد {غَمْرَتِهِمْ} الغمرة: الحيرة والضلالة وأصله في اللغة: الماء الذي يغمر القامة {يَجْأَرُونَ} يضجون ويستغيثون وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور {تَنكِصُونَ} النكوص: الرجوع إلى الوراء {نَاكِبُونَ} نكب عن الطريق نكوباً إِذا عدل عنه ومال إلى غيره.
التفسِير: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقٌّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم َ والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم {حتى حِينٍ} أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ ووعيدٌ للمشركين {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلَاّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال {بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] وفي
الحديث «إِن الله يعطي الدنيا لمن يُحبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ» ، ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي والبراهين الدالة على وجوده سبحانه
وفي كل شيءٍ له آيةٌ
…
تدلُّ على أنه واحد
{والذين هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه الله وطلباً لرضوانه {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً {أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن الآية الكريمة فقالت {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ فقال لها:
«لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل» {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي هم الجديرون بها والسابقون إِليه قال الإِمام الفخر: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإنسان {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم {بَلْ قُلُوبُهُمْ
فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} أي بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك} أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإشراك {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب} أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي إِذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين {لَا تَجْأَرُواْ اليوم} أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب {إِنَّكُمْ مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي لقد كنتم تسمعون آيات القرآن تقرأ عليكم {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره {سَامِراً تَهْجُرُونَ} أي متحدثين ليلاً تسمرون تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسبّ النبي عليه السلام {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} أي أم جاءهم من الله بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا ييكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم َ ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق} {بَلْ} للإضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} أي لو كان ما كرهوه من الحق - الذي هو التوحيد والعدل -
موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي فهم معرضون عن هذا القرآن العظيم وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ «الذكر» تعظيماً للقرآن {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبيلغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فيلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي وإنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة اللطيفة {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة، شبَّه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإِنسان من فرقة إلى قدمه على سبيل الاستعارة.
2 -
الاستفهام الإِنكاري {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} .
3 -
حذف الرابط في {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} حذف «به» أي نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه لاستطالة الكلام مع أمن اللبس.
4 -
الطباق بين {يُؤْمِنُونَ. . يُشْرِكُونَ} .
5 -
الاستعارة البديعة {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} النطق لا يكون إلا ممن يتكلم بلسانه، والكتاب ليس له لسان، فوصف سبحانه الكتاب بالنطق مبالغة وصفه بإِظهار البيان وإِعلان البرهان، وتشبيهاً باللسان الناطق بطريق الاستعارة.
6 -
جناس الاشتقاق {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} {أَعْمَالٌ. . هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
7 -
الاستعارة الفائقة {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} شبّه إِعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية.
8 -
السجع الرصين {مُّشْفِقُونَ، يُؤْمِنُونَ، يُشْرِكُونَ، سَابِقُونَ} الخ.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى إِعراض المشركين عن دعوة الإِيمان، ذكر هنا سبب الإِعراض وهو العناد والطغيان، ثم أردفه بإِقامة الأدلة على التوحيد، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إِلى سعداء
وأشقياء، وختم السورة ببيان الحكمة من حشر الناس إِلى دار الجزاء وأنه لولا لاقيمة لما تميز المطيع من العاصي ولا البرُّ من الفاجر.
اللغَة: {مُبْلِسُونَ} يائسون متحيرون، والإِبلاس: اليأس من كل خير {يُجْيِرُ} يمنع ويحمي من استغاث به يقال: أجرت فلاناً على فلان إِذا أغثته ومنعته منه {هَمَزَاتِ} جمع همزة وهي الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأزّ، وهمزات الشيطان: كيده بالوسوسة {بَرْزَخٌ} حاجز ومانع قال الجوهري: البرزخ: الحاجز بين الشيئين {كَالِحُونَ} الكلوح: أن تتقلَّص الشفتان وتتباعد الأسنان، وذلك نهاية القبح لوجه الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: نزلت في قصة «ثمامة بن أُثال» لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآيات.
التفسِير: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء {لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي حتى إ ِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم ثم ذكَّرهم تعالى ينعمة ودلائل وحدانيته فقال {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى
{فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] وخصَّ هذه
الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي قليلاً تشكرون ربكم، و {مَّا} لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يُحيي الِّمم ويميت الخلائق والأمم {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدلي على وجوده وقدرته {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟ {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} {بَلْ} للإضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ؟ أي إئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ} أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة {إِنْ هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} ؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك {قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم} ؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله {قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا {قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو
تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ ثم قال ثانياً {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً {فأنى تُسْحَرُونَ} وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق} أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد.
لمَّا بالغ في الحِجاج عليه بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد، ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لانفرد كلٌ بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون {عَالِمِ الغيب والشهادة} أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق {فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} هذا جواب الشرط {إِمَّا} وكرَّر قوله {رَّبِّ} مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمة {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلأى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} أي أعتصم بك من نزغات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت} عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده {قَالَ رَبِّ ارجعون} أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة
الجمع للتعظيم {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري {كَلَاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} {كَلَاّ} كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيافليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} أي فإِذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه {وَلَا يَتَسَآءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الطور: 25] لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة {فأولئك هُمُ المفلحون} أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت سيئاته على حسناته {فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث «تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته» {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن آيات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي غلبت علينا شقاوتنا {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب ابتاعنا للملذّات والأهواء {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي أخرجنا من النار وردُنَّا إلى الدنيا {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم العدوان.
أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال في التسهيل: اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين} قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ
تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تتضحكون عليهم في الدنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ} أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمَّرتم فيها من السنين؟ {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم {فَسْئَلِ العآدين} أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً} أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء {فَتَعَالَى الله} أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل {الملك الحق} أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإِعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائض وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم {لَا إله إِلَاّ هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره {رَبُّ العرش الكريم} أي خالق العرش العظيم وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ} أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له به ولا دليل {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} أي جزاؤه وعقابه عند الله {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وختمها بقوله {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام.
{وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
البّلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الامتنان {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} .
2 -
التفنن {السمع والأبصار} أفرد السمع وجمع الأبصار تفنناً.
3 -
التنكير للتقليل {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} و {مَّا} تأكيد للقلة المستفادة من التنكير والمعنى شكراً قليلاً وهو كناية عن عدم الشكر.
4 -
الاستفهام الذي غرضه الإِنكار والتوبيخ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ؟
5 -
الطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
6 -
حذف جواب الشرط ثقةً بدلالة اللفظ عليه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه.
7 -
طباق السلب {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلَا يُجَارُ} .
8 -
تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} أي ما اتخذ ولداً وكذلك {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ذكر {مِنْ} في الجملتين تأكيداً تثبيتاً للنفي.
9 -
الطباق في {عَالِمِ الغيب والشهادة} .
10 -
التأكيد بإِنَّ واللام {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} لإِنكار المخاطبين لذلك.
11 -
الطباق المعنوي {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} لأنه المعنى ادفع بالحسنة السيئة فهو طباق بالمعنى لا بالفظ.
12 -
واو الجمع للتعظيم {رَبِّ ارجعون} ولم يقل ارجعني تعظيماً لله جل وعلا.
13 -
المجاز المرسل {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} أطلق الكلمة على الجملة وهو من إِطلاق الجزء وإرادة الكل.
14 -
المقابلة اللطيفة بين {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} وبين {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ. .} الآيتان.
15 -
القصر {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} .
16 -
جناس الاشتقاق {وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} .
17 -
السجع الموزون الخالي من التكلف وهو كثير مشهور.
اللغَة: {سُورَةٌ} السورة في اللغة: المنزلة السامية والمكانة الرفيعة قال النابغة:
ألم تَرَ أن الله أعطاك سورة
…
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وسميت المجموعة من الآيات لها بدءٌ ونهاية سورة لشرفها وارتفاعها كما يسمى السور للمرتفع من الجدار {الزاني} الزنى: الوطء المحرم ويسمى الفاحشة لتناهي قبحه وهو مقصور وقد يمد على لغة أهل نجد فيقال الزناء قال الفرزدق:
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه
…
ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً
{رَأْفَةٌ} شفقة وعطف مأخوذ من رؤف إذا رق ورحم {المحصنات} العفيفات وأصل الإِحصان المنع سميت العفيفة محصنة لأنها منعت نفسها عن القبيح، ومنه الحصن لأنه يمنع من الأعداء {يَدْرَؤُاْ} يدفع والدرء: الدفع {تَشِيعَ} شاع الأمر شيوعاً إذا فشا وظهر وانتشر {عُصْبَةٌ}
العصبة: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن امرأةً تُدعى «ام مهزول» كانت من البغايا فكانت تُسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه، فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأنزل الله {الزانية لَا يَنكِحُهَآ إِلَاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} الآية.
ب - عن ابن عباس أن «هلال بن أُمية» قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم َ ب «شريك بن سحماء» فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ: «البيتةُ أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ والذي بعثك بالحق إني لصادقٌ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ. .} الآية.
التفسِير: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي أنزلنا فيها آياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم - أيها المؤمنون - قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين - غير المحصنين - مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتحففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} هذا من باب الإِلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنين حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةٌ من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب {الزاني لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية {والزانية لَا يَنكِحُهَآ إِلَاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإِمام الفخر: «من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث - الذي من شأنه الزنى والفِسق - لا يرغب في نكاحها الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها
من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لايفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا» {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة.
. ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال {والذين يَرْمُونَ المحصنات} أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهم بما نسبوا إليهم من الفاحشة {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس {وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه {وأولئك هُمُ الفاسقون} أي هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة الثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس {إِلَاّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب وأصلح سيرته وحاله.
. ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفون زوجاتهم بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ} أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة {إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى {والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه {إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى {والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين} أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها بالزنى {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ {وَلَوْلَا} محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف
لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل ضهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهادتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته. . ثم بيَّن تعالى «قصة الإِفك» التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكذب والبهتان فقال {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك} أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم {عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم «ابن سلول» رأس النفاق {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} أي لك فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو «ابن سلول» رأس النفاق {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي هلَاّ حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة {ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أي هلاّ طنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قوله عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، وري أن امرأة «أبي أيوب» قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذكل يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك، {وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين {لَّوْلَا جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود {فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيخُ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة} أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة {لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي لأصابكم
ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغُ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً} أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عابتهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة اي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول ما سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الرم قال الزمخشري: هو بمعنى العجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإيمان وازع عن مثل البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج {وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات {فِي الذين آمَنُواْ} أي في المؤمنين الأطهار {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا فإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإ نهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم َ وذلك كفرٌ وملعون صاحبه {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإِمام الفخر: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأنه محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} جواب {لَوْلَا} محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان
ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التنكير للتفخيم {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن، جليلة القدر أنزلها الله.
2 -
الإِطناب بتكرير لفظ {أَنزَلْنَا} في قوله {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} لإِبراز كمال العناية بشأنها، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام.
3 -
الاستعارة {يَرْمُونَ المحصنات} أصل الرمي القذفُ بالحجارة أو بشيء صلب ثم استعير للقذف باللسان لأنه يشبه الأذى الحسّي ففيه استعارة لطيفة.
4 -
التهييج والإِلهاب {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} كقولهم إن كنت رجلاً فاقدم.
5 -
صيغة المبالغة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} و {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فإن «فعول، وفعّال، وفعيل» من سيغ المبالغة وكلها تفيد بلوغ النهاية في هذه الصفات.
6 -
الطباق بين {الصادقين} و {الكاذبين} .
7 -
حذف جواب {لَوْلَا} للتهويل في {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وذلك حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان وأبعد في التهويل والزجر.
8 -
الطباق {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وكذلك {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} فقد طابق بين الشر والخير، وبين الهيّن والعظيم.
9 -
الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون} والأصل أن يقال ظننتم وإنما عدل عنه مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإيمان يقتضي ظنَّ الخير بالمؤمنين.
10 -
التحضيض {لَّوْلَا جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي هلَاّ جاءوا وغرضُه التوبيخ واللوم.
11 -
التعجب {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ففيه تعجب ممن يقول ذلك والأصل في ذكر هذه الكلمة {سُبْحَانَكَ} أن يُسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه، تنزيهاً له من أن يخرج مثله عن قدرته ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
فَائِدَة: لماذا بدأ الله في الزنى بالمرأة، وفي السرقة بالرجل؟ والجواب أن الزنى من المرأة أقبح، وجرمه أشنع فبدأ بها، وأما لاسرقة فالرجل عليها أجرأ وهو عليها أقدر ولذلك بدأ به {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} .
تنبيه: في التعبير بالإِحصان {والذين يَرْمُونَ المحصنات} إشارة دقيقة إلى أنَّ قذف العفيف من الرجال أو النساء موجب لحدِّ القذف، وأما إذا كان الشخص معروفاً بفجوره أو اشتهر بالاستهتار والمجون فلا حدَّ على قاذفه، لأنه لا كرامة للفاسق الماجن. فتدبر السر الدقيق.
لطيفَة: لماذا عدل عن قوله {تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} إلى قوله {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} كه م تلرجكو نمتسب تلنزبو؟ والجواب أن الله عز وجل أراد الستر على العباد بتشريع اللعان بين الزوجين، فلو لم يكن اللعان مشروعاً لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه، ولو اكتفى بلعانه لوجب على الزوجة حدُّ الزنى، فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعاص أن شرع هذا الحكم، ودرأ عنهما
العذاب بتلك الشهادات، فسبحانه ما أوسع رحمته، وأجل حكمته!! .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حادثة الإفك، أبتعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم ن حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان ببيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أبتعها بآيات غضِّ البصر.
اللغَة: {يَأْتَلِ} يحلف والأليَّةُ: اليمين ومنه {يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [البقرة: 226] اي يحلفون {المحصنات} العفائف الشريفات الطاهرات جمع محصنة وهي العفيفة {مُبَرَّءُونَ} منزهون والبراءة: النزاهة مما نسب للإِنسان من تهمة {تَسْتَأْنِسُواْ} تستأذنوا وأصله في اللغة: طلبُ الأنس بالشيء قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنستُ للذئب إِذْ
…
عوى وصوَّت إِنسانٌ فكدت أطير
{يَغُضُّواْ} غضَّ بصره: خفضه ونكَّسه وأصله إطباق الجفن على الجفن قال جرير:
فغُضَّ الطّرف إنك من نمير
…
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
{بِخُمُرِهِنَّ} جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها، وخمّروا الآنية أي غطوها {جُيُوبِهِنَّ} جمع جيب وهو الصدر {الإربة} الحاجة إلى النساء.
سَبَبُ النّزول: أ - كان أبو بكر الصدّيق ينفق على «مسطح بن أُثاثة» لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. .} الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
ب - عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم نيظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط «أي صدمه الحائط» فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليهوسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} الآيات.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا لآثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإِصغاء إِلى الإِفك والقول به {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر} أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم
وضمائركم {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كا نوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بلى أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل} وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب، ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {المؤمنات} أي المتصفاب بالإيمان مع طهارة القلب {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} أي طردوا وأُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم َ إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبه وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه.
. ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم َ وهذا قال {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب
والبهتان {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الجنة {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهم في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر الاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغي إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أرجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم َ أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليه ما كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانه؟ قال لا، قال فاستأذن عليها {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالجخول إليها {فَلَا تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي فاصبروا ولا تدخوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل جخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحًّوا {هُوَ أزكى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج {أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال ابو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات، ثم أرشد تعالى إلى الآجاب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها
…
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى عن الإِبداء والكشف {ذلك أزكى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ الله
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإِمام الفخر: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهم عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهم لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضر مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب وشعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدورهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي أو لآبائهن أن آباء أزواجهن وهو العم أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من
نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأَيامي جمع أَيَّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيَّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} أي وأنكحوا كذلك أهل التقى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانه التقى والصلاح في الإِنسان {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث
«ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في «عبد الله بن سلول» المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى «مُسَيْكة» والثانية تسمى «أميمة» فكان
يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذكل فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فنزلت الآية {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسنيتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة اللطيفة {لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة.
2 -
الإِيجاز بالحذف {أَن يؤتوا} أي أن لا يؤتوا حذفت منه {لا} لدلالة المعنى وهو كثير في اللغة.
3 -
صيغة الجمع للتعظيم {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} والمراد به أبو بكر الصدّيق.
4 -
الجناس الناقص بين {يَعْمَلُونَ} و {يَعْلَمُونَ} .
5 -
المقابلة اللطيفة بين {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ. . والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} .
6 -
الطباق بين {تُبْدُونَ. . تَكْتُمُونَ} .
7 -
الإِيجاز بالحذف {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} لأن المراد غض البصر عما حرَّم الله لا عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاءً بفهم المخاطبين.
8 -
المجاز المرسل {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المراد مواقع الزينة وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل قال الزمخشري: وذكرُ الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
فَائِدَة: قال بعض المحققين: إن يوسف لما رُمي بالفاحسة برّاه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله في كتابه العزيز، فما رضي الله لها ببراءة صبيٍّ ولا نبيّ حتى برّأها الله في القرآن من القذف والبهتان.
تنبيه: السرُّ في تقديم غضّ البصر على حفظ الفروج {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، وهو مقدمة للوقوع في الخطر كما قال الشاعر:
وكنتَ إذا أَرسلتَ طرفك رائداً
…
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيتَ الذي لا كلَّه أنت قادرٌ
…
عليه وعلى بعضه أنت صابر
لطيفَة: ذكر أن قسِّيساً أراد أن ينال من المسلمين بالطعن في أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، فقال: إن الناس رموها بالإِفك ولا ندري أهي بريئة أم متهمة؟ فأجابه بضع
الحاضرين بقوله: إسمعْ يا هذا، هناك امرأتان اتهمتا بالزنى وقد برأهما القرآن الكريم، إحداهما ليس لها زوج وقد جاءت بولد، والأخرى لها زوج ولم يأتها ولد - يقصد مريم وعائشة - فأيتهما أحرى بالتهمة؟ فخرس القسيس.
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل والحدانية والإيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الفرة في نهاية الظلمة
والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.
اللغَة: {مِشْكَاةٍ} المشكاة: الكُوَّة في الحائط غير النافذة، وأصلها لاوعاء يجعل فيه الشيء {دُرِّيٌّ} متلألئ وقّد يشبه الدر في صفائه ولمعانه {سَرَابٍ} السرابُ: ما يتراءى للعين وسط النهار عند اشتداد الحر يشبه الماء الجاري وليس بماء، سمي سراباً لأنه يسرب أي يجري كالماء قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
…
كلمع سراب بالفلا متألق
{قِيعَةٍ} قال الفراء: هو جمع قاع مثل جار وجيرة، والقاعُ المنبسط المستوي من الأرض وقال الزمخشري: القيعةُ بمعنى القاع وليس جمعاً، وهكذا قال أبو عبيدة {لُّجِّيٍّ} اللُّجيُّ: الذي لا يدرك قعره لعمقه، واللُّجةُ معظم الماء، والجمع لُجَج، والتجَّ البحر: تلاطمت أمواجه {يُزْجِي} الإزجاء: سوقُ الشيء برفقٍ وسهولة {رُكَاماً} مجتمعاً يركب بعضه بعضاً {الودق} : المطر قال الليث: الودقُ المطر كله شديده وهينه {سَنَا} : السنا الضوء واللمعان قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها
…
ليبصر ضوءها إلاّ البصير
{مُذْعِنِينَ} خاضعين منقادين، أذعن للأمر خضع له {يَحِيفَ} يجور ويظلم.
التفسِير: {الله نُورُ السماوات والأرض} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى
…
نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقال جرير «وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة» والناس يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: الله نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله:«الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم» وفي الحديث «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن» وقال ابن مسعود: «ليس عند ربكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه» وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وما قاله ابن مسعود أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها
بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال في التسهيل: المعنى صفةُ نور الله وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أحظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل {المصباح فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونَةٍ} أي هي من شجر الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي ليست في حهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول انهار لتكون ثمرتها أن ضح، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزينها {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُّورٌ على نُورٍ} أي نور قوف نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} أي يبين لهم الأمثال تقريباً لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {المصباح فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوَقَّد هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء م صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وأن تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد
بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} أي بعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء والمؤمنون قال ابن عباس: كلُّ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يليهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناء وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم، ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعلمه والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حتى إِذَا جَآءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي لم ير ماءً ولا شراباًً، وإنما رآى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {والله سَرِيعُ الحساب} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هي ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخلة ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان
الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُّورٌ على نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!! ولما وصف سبحانه أنوار قلوب وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوها؟ {والطير صَآفَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وإلى الله المصير} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهره كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي يجعله كثيفاً متراكماص بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بين السحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأ للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأبصار} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأبصار} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع
المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أو هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كا الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على لاسويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي يرشد من يشاء من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام، ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِّن بَعْدِ ذلك} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} أي وليس أولئك الذين يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم حكم الله أو حكم رسوله {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاءوا إلأى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحق لغيرهم؛ أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا على الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا
…
على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
{بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أن كان الواجب عليهم عندما يُدعون إلى رسول الله للفصل بينهم وبين خصومهم أن يسرعوا ويقولوا سمعاً وطاعة، فلو كان هؤلاء مؤمنين لفعلوا ذلك قال الطبري: ولم يقصد به الخبر ولكنه تأنيبٌ
من الله للمنافقين وتأدب منه لآخرين {وأولئك هُمُ المفلحون} أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل {وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره {فأولئك هُمُ الفآئزون} أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه. . ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما التوراة والإِنجيل.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
إطلاق المصدر على إسم الفاعل للمبالغة {الله نُورُ السماوات} بمعنى منوِّر لكل بحيث كأنه عين نوره قال الشريف الرضي: وفي الآية إستعارة - على تفسير بعض العلماء - والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة.
2 -
التشبيه التمثيلي {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} شبَّه نور الله الذي وضعه في قلب عبده المؤمن بالمصباح الوهّاج في كوة داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن الخ سمي تمثيلياً لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وهو من روائع التشبيه.
3 -
الإِطناب بذكر الخاص بعد العام تنويهاً بشأنه {عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} لأن الصلاة من ذكر الله.
4 -
جناس الاشتقاق {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب} .
5 -
التشبيه التمثيلي الرائع {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الخ وكذلك في قوله {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} وهذا من روائع التشبيه وبدائع التمثيل.
6 -
الطباق بين {يُصِيبُ. . وَيَصْرِفُهُ} .
7 -
الاستعارة اللطيفة {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار.
8 -
الجناس التام {يَذْهَبُ بالأبصار} {لأُوْلِي الأبصار} المراد بالأولى العيون وبالثانية الألباب.
لطيفَة: سمع بعض علماء الطبيعة من غير المسلمين هذه الآية {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ. .} الآية فسأل هل ركب محمد البحر؟ فقالوا: لا فقال أشهد أنه رسول الله قالوا: وكيف عرفت؟ فقال: إنَّ هذا الوصف للبحر لا يعرفه إلا من عاش عمره في البحار، ورأى الأهوال والأخطار، فلما أخبرت أنه لم يركب البحر عرفت أنه كلام الله تعالى.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والإِحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.
اللغَة: {الحلم} : الاحتلام في المنام قال في القاموس: الحلم: الرؤيا جمعه أحلام، والحُلم والاحتلام: الجماع في النوم وقال الراغب: هو زمان البلوغ سمي به لكون صاحبه جديراً بالحلم أي الأناة وضبط النفس {القواعد} جمع قاعد بغير تاء لأنه خاصٌ بالنساء كحائض وطامث وهي المرأة التي قعدت عن الزواج وعن الولد {أَشْتَاتاً} متفرقين جمع شتّ وهو الافتراق، والشتاتُ: الفرقة {يَتَسَلَّلُونَ} التسلل: الخروج خفية يقال: انسلَّ وتسلل إذا خرج مستتراً بطريق الخفية {لِوَاذاً} اللواذ: أن يستتر بشيء مخافة من يراه.
سَبَبُ النّزول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً، فدقَّّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فوجد الآية قد أنزلت {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم. .} فخرَّ ساجداً شكراً الله تعالى.
التفسِير: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمُْ} أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت {قُل لَاّ تُقْسِمُواْ} أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بصير لا يخفى عله شيء من خفاياكم ونواياكم {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول الاستجابة لأمره والتمسّك بهديه {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي على الرسولما كلف به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح {وَمَا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ المبين} أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عيه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عز وجل!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأض ومغاربها
لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم َ:
«إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]{يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف ي الأرض أي يوحدونني ويهلصون لي العبادجة، لا يعبدون إلهاً غيري {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} أي فمن جحد شكر النعم {فأولئك هُمُ الفاسقون} هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأان اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال {وَمَن كَفَرَ} أي كفر هذه النعمة {فأولئك هُمُ الفاسقون} {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأُدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة {لَا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم َ ووعدٌ له بالنُّصرة اي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين وأن {وَمَأْوَاهُمُ النار} أي مرجعهم نار جهنم {وَلَبِئْسَ المصير} أي بئس المرجع والمآل الذي يصيرون إليه {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ومنهاجاً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والاِماء الذين تملكونهم ملك اليمين {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} أي في ثلاثة أوقات {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} أي في الليل وقت نومك وخلودكم إلى الراحة {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} اي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة {طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيئون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات} أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات
كما يستأذن الرجال البالغون {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} اي يفصّل لكم أمور الشريعة والدين {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان {والقواعد مِنَ النسآء} أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن {اللاتي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً} أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} اي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في ان يضعن بعض ثيابهم كالرداء والجلباب، ويظهرن أمام الرجال بملابسهن المعادة التي لا تلفت انتباهاً، ولا تثير شهوة {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير متظاهرات بالزينةليظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أي وأن يستترن بارتداء الدلباب ولبس الثياب كا تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر {والله سَمِيعٌ عِلِيمٌ} أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلَا عَلَى المريض حَرَجٌ} أي ليس على أهل الأعذار «الأعمى، والأعرج، والمريض» حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم {وَلَا على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ م كسبه، وإنَّ ولده من كسبه {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادةأن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} أي البيوت التي توكّلون عليه وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قال عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يجل لنا ان نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت ف حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كان معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي
إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي حيُّوهم بتحية الإِسلام «السلام عليكم» وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأنه فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذي صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين {لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتعُرِّض بذم المنافقين {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأ ذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصداقاً ودليلاً على صحة الإِيمان {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إِن كان فيه حكمه ومصلحة {واستغفر لَهُمُ الله} أي وادع الله له بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم العفو واسع الرحمة {لَاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا: يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيه ومنهجه وسنته {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي
السماوات والأرض} أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي قد علم ما نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإخلاص أو الرياء {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدينا من صغيرٍ وكبير، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} أي لا يخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبيان نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة اللطيفة {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} شبَّه الأيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين فيها أقصى المراتب في الشدة والتوكيد بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة.
2 -
المشاكلة {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} أي عليه أمرُ التبليغ وعليكم وزر التكذيب.
3 -
الطباق بين الخوف والأمن {مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وكذلك بين الجميع والأشتات {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين.
4 -
الإِطناب بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلَا عَلَى المريض حَرَجٌ} .
5 -
صيغة المبالغة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
فَائِدَة: قال بعض السلف: من أمَّر السُنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر والهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لقوله تعالى {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} .
لطيفَة: قيل لبعضهم: من أحبُّ إليك أخوك أم صديق؟ فقال: لا أحب أخي إذا لم يكن صديقي. وقال ابن عباس: «الصديق أوكد من القريب ألا ترى استغاثة الجهنمييَّن حين قالوا {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات» .
تنبيه: كان بعض العرب يرى أحدهم أن عاراً وخزياً عليه أن يأكل وحده ويبقى جائعاص حتى يجد من يؤاكله ويشاربه واشتهر هذا عن حاتم فكان يقول:
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له
…
أكيلاً فإني لست أكله وحدي
وهذا من مآثر العرب ومفاخرهِم، فقد اشتهروا بالجود والكرم، وقرى الضيف.
اللغَة: {تَبَارَكَ} من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ويأتي بمعنى التمجيد والتعظيم قال الشاعر:
تباركت لا معطٍ لشيء منعته
…
وليس لما أعطيت يا رب مانع
{نَذِيراً} النذير: المحذِّر من الهلاك {نُشُوراً} النشور: الإِحياء بعد الموت {مُّقَرَّنِينَ} مربوطين بالسلاسل قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
…
وأُبنا بالملوك مقرَّنينا
التفسِير: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} أي تمجَّد وتعظَّم وتكاثر خير الله الذي نزَّل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم َ {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} أي ليكون محمد نبياً للخلق أجمعين مخوفاً لهم من عذاب الله {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي هو تعالى المالك لجميع ما في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وعبيداً {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} أي وليس له ولدٌ كما زعم اليهود والنصارى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} أي وليس معه إِله كما قال عبدة الأوثان {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي أوجد كل شيء بقدرته مع الإِتقان والإِحكام قال في التسهيل: الخلق عبارة عن الإِيجاد بعد العدم، والتقدير عبارةٌ عن اتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوق بمقداره وصنعته، وزمانه ومكانه، ومصلحته وأجله وغير ذلك وقال الرازي: وصف سبحانه ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء: الأول: أنه المالك للسماوات والأرض وهذا كالتنبيه على وجوده والثاني: أنه هو المعبود أبداً والثالث: أنه المنفرد بالألوهية والرابع: أنه الخالق لجميع الأشياء مع الحكمة والتدبير {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} أي عبد المشركون غير الله من الأوثان والأصنام {لَاّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي لا يقدرون على خلق شيء أصلاً بل هم مصنوعون بالنحت والتصوير فكيف يكونون آلهة مع الله؟ {وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} أي لا يستطيعون دفع ضرٍ عنهم ولا جلب نفع لهم {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} أي لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تُحيي أحدا ً ولا أن تبعث أحداً من الأموات قال الزمخشري: المعنى أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة لا يقدرون على شيء، وإِذا عجزوا عن دفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور الذي لايقدر عليها إِلا الله أعجز {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلَاّ إِفْكٌ افتراه} أي وقال كفار قريش ما هذا القرآن إِلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي وساعده على الاختلاق قومٌ من أهل الكتاب {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} أي جاءوا بالظلم والبهتان حيث جعلوا العربي يتلقَّنُ من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب فكان كلامهم فيه محض الكذب والزور {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها} أي وقالوا في حق القرآن أيضاً إِنه خرافات الأمم السابقين أمر أن تكتب له {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي فهي تُلقى وتُقرأ عليه ليحفظها صباحاً ومساءً قال ابن عباس: والقائل هو «النضر بن الحارث» وأتباعه والإِفكُ أسوأ الكذب {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} هذا ردٌّ عليهم في تلك المزاعم أي قل لهم يا محمد أنزله الله العليم القدير الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي إِنه تعالى لم يعجّل لكم العقوبة بل أُمهلكم رحمة بكم لأنه واسع المغفرة رحيم
بالعباد {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} أي وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم الرسالة يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب المعاش كما نمشي؟ إِنه ليس بمَلَك ولا مَلِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذّل في الأسواق، وفي قولهم {مَالِ هذا الرسول} مع إِنكارهم لرسالته تهكم واستهزاء {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا} أي هلاّ بعث الله معه ملكاً ليكون له شاهداً على صدق ما يدعيه { {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي يأتيه كنزٌ من السماء فيستعين به ويستغني عن طلب المعاش {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي يكون له بستان يأكل من ثماره {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي وقال الكافرون ما تتبعون أيها المؤمنون إِلا إِنساناً سحر فغلب على عقله فهو يزعم أنه رسول الله {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ} أي انظر كيف قالوا في حقك يا محمد تلك الأقاويل العجيبة، الجارية لغرابتها مجرى الأمثال} وكيف اخترعوا تلك الصفات والأحوال الشاذة فضلُّوا بذلك عن الهدى! {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي فلا يجدون طريقاً إلى الحق بعد أن ضلوا عنه بتكذيبك وإِنكار رسالتك، ذكروا له عليه الصلاة والسلام ُ خمس صفات وزعما أنه اتُخلُّ بلارسالة زعماً منهم أنَّ فضيلة الرسول على غيره تكون بأمورٍ جسمانية وهي غاية الجهالة والسفاهة فردَّ الله عليهم بأمرين: الأول: تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم َ من تناقضهم فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأُخرى يقولون إِنه مجنون حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني: أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيَّه خيراً مما اقترحوا وأفضل مما يتصورون وهو المراد بقوله {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} أي تمدَّد وتعظّم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً منذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنةً واحدة كما قالوا {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك قال الضحاك: لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بافاقةحزن عليه السلام فنزل جبريل معزياً له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فُتح باب من السماء فقال جبريل: أبشرْ يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك فسلَّم عليه وقال: ربك يخيّرك بين أن تكون نبياً ملكاً، وبين أن تكون نبياً عبداً - ومعه سفط من نور يتلألأ - ثم قال: هذه مفاتيح خزائن الأرض فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «بل نبياً عبداً» فكان عليه اسلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} أي بل كذبوا بالقيامة {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} أي وهيأنا لمن كذَّب بالآخرة ناراً شديدة الاستعار قال الطبري: المعنى ماكذب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به من الحق من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ولكنْ من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد تكذيباً منهم بالقيامة وأعددنا لمن كذَّب بالبعث ناراً تُسعَّر عليهم وتتَّقد {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي إِذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة وهي خمسمائة عام {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها كالغضبان إِذا غلا صدره
من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إن الرجل ليجرُّ إلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر رفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد {مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} فيه مزيد تهويل لأمرها {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكان ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - {مُّقَرَّنِينَ} أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت {لَاّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون} ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد: هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا هيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر؟ قلنا: هذايحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل لاتوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك؟ {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً} أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} أي لهم في الجنة ما يشاءون من النعيم {خَالِدِينَ} أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيخ قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم؟ {قَالُواْ سُبْحَانَكَ} أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر} أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً} أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً
للعذاب عنكم ولا نصراً لأنفسكم من هذا البلاء {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} أي ومن يشرك منكم بالله فيظلم نفسه نذقه عذاباً شديداً في الآخرة {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد أحداً من الرسل إِلا وهم يأكلون ويشربون ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة، فتلك هي سنة المرسلينمن قبلك فلم ينكرون ذلك عليك؟ وهو جواب عن قولهم {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} ؟ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي جعلنا بعض الناس بلاءً لبعض ومحنة، ابتلى الله الغنيَّ بالفقير، والشريف بالوضيع، والصحيح بالمريض ليختبر صبركم وإِيمانكم أت شكرون أم تكفرون؟ قال الحسن: يقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرا} أي عالماً بمن يصبر أو يجزع، وبمن يشكر أو يكفر.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِضافة للتشريف {على عَبْدِهِ} ولم يذكره باسمه تشريفاً له وتكريماً.
2 -
الاكتفاء بأحد الوصفين {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} أي ليكون بشيراً ونذيراً واكتفى بالإِنذار لمناسبته للكفار.
3 -
الجناس الناقص {يَخْلُقُونَ. . ويُخْلَقُونَ} سمي ناقصاً لتغايره في الشكل.
4 -
الطباق بين {ضَرّاً. . ونَفْعاً} وبين {مَوْتاً. . وحَيَاةً} .
5 -
الاستفها للتهكم والتحقير {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} ؟
6 -
الاستعارة التمثيلية {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} شبَّه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه وهو تمثيل وصف النار بالاهتياج والاضطرام على عدة المغيظ والغضبان.
7 -
جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَا. . المرسلين} .
8 -
الجناس غير التام {تَصْبِرُونَ. . بَصِيراً} لتقديم بعض الحروف وتأخير البعض.
لطيفَة: نبّه تعالى بقوله {الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} على أنه تعالى يعطي العباد على حسب المصالح، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويسد عليه أبواب الدنيا، ويفتح آخر أبواب الرزق ويحرمه لذة الفهم والعلم، ولا اعتراض عليه لأنه فعال لما يريده.
المنَاسَبَة: لما حكى تعلى إِنكار المشركين لنبوة محمد عليه السلام وتكذيبهم للقرآن، أعقبه بذكر بعض جرائمهم الأخرى، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء وما حلَّ بأقوامهم المكذبين تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام ُ.
اللغَة: {حِجْراً} بكسر الحاء حراماً من حَجره إِذا منعه قال الشاعر:
«ألا أصبحت أسماء حجراً محرَّماً»
…
أي حراماً محرماً {هَبَآءً} قال أبو عبيدة: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس {مَّنثُوراً} المنثور: المتفرق {مَقِيلاً} المقيل: زمان القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار إِذا اشتدَّ الحر {تَبَّرْنَا} التتبير: التدمير والتكسير قال الزجاج: كلُّ شيء كسّرته وفتَّته فقد تبرته.
سَبَبُ النّزول: روي أن «عقبة بن أبي معيط» وكان صديقاً لأُبي بن خل ف صنع وليمة فدعا إِليها قريشاً ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلما قُدم الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما أنا بأكل طعامك حتى تشهد أني رسول الله ففعل فأكل رسول الله من طعامه فلما بلغ «أُبي بن خلف» ذلك قال لصديقه عقبة صبأت قال: لا ولكن دخل عليَّ رجل عظيم فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له بالرسالة فقال له أبي: وجهي من وجهك حرام إِن رأيت محمداً حتى تبزق في وجهه وتطأ على عنقه وتقول كيت وكيت، ففعل عدوُّ الله ما أمره به خليله فأنزل الله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ. .} الآية.
التفسِير: {وَقَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي قال المشركون الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يخشون عقابه لتكذيبهم بالبعث والنشور {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} أي هلاّ نزلت الملائكة علينا
فأخبرونا بصدق محمد {أَوْ نرى رَبَّنَا} أي أو نرى الله عياناً فيخبرنا أنك رسوله قال أبو حيان: وهذا كله على سبيل التعنت وإِلا فما جاءهم به من المعجزات كافٍ لو وُفّقوا {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ} أي تكبروا في شأن أنفسهم حين تفوهوا بمثل هذه العظيمة، وطلبوا ما لا ينبغي {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} أي تجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان، حتى بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لَا بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} أي يوم يرى المشركون الملائكة حين تنزل لقبض أرواحهم وقت الاحتضار لن يكون للمجرمين يومئذٍ بشارة تسرهم بل لهم الخيبة والخسران {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أي تقول الملائكة لهم: حارم ومحرم عليكم الجنة والبُشرى والغفران قال ابن كثير: وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول للكافر عند خروج روحه: أُخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أُخرجي إِلى سمومٍ وحميم وظلٍ من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه بمقامع الحديد، بخلاف المؤمنين حال احتضارهم فإِنهم يُبشرون بالخيرات وحصول المسرات
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلَاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]{وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} أي عمدنا إِلى أعمال الكفار التي يعتقدونها براً كإِطعام المساكين وصلة الأرحام ويظنون أنها تقربهم إِلى الله {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} أي جعلناه مثل الغبار المنثور في الجو، لأنه لا يعتمد على أساس ولا يستند على إِيمان قال الطبري: أي جعلناهباطلاً لأنهم لم يعملوه لله، وإِنما عملوه للشيطان، والهباء هو الذي يُرى كهيئة الغبار إِذا دخل ضوء الشمس من كو، والمنثور المتفرق وقال القرطبي: إِن الله أحبط أعمالهم بسبب الكفر حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} لما بيَّن تعالى حال الكفار وأنهم في الخسران الكلي والخيبة التامة، شرح وصف أهل الجنة وأَنهم في غاية السرور والحبور، تنبيهاً على أن السعادة كل السعادة في طاعة الله عز وجل، ومعنى الآية: أصحابُ الجنة يوم القيامة خيرٌ من الكفار مستقراً ومنزلاً ومأوى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي وأحسنُ منهم مكاناً للتمتع وقت القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار، فالمؤمنون في الآخرة في الفردوس والنعيم المقيم، والكفار في دركات الجحيم قال ابن مسعود:«لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أحل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب يوم تتشقَّق السماء وتنفطر عن الغمام الذي يُسود الجو ويُظلمه ويغم القلوب مرآه لكثرته وشدة ظلمته {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} أي ونزلت الملائكة فأحاطت بالخلائق في المحشر {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} أي الملك في ذلك اليوم لله الواحد القهار، الذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة، لا مالك يومئذٍ سواه كقوله {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} أي وكان
ذلك اليوم صعباً شديداً على الكفار قال أبوا حيان: ودل قوله {عَلَى الكافرين} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث «إِنه يهون حتى يكون على المؤمن اخف عليه من صلاةٍ مكتوبة صلاها في الدنيا» {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} أي واذكر يوم يندم ويتحسر الظالم على نفسه لما فرَّط في جنب الله، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الندم والحسرة، والمراد بالظالم «عُقبة بن أبي معيط» كما في سبب النزول، وهي تعمُّ كل ظالم قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم َ وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإِذا كان يوم القيامة ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم َ وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإِذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً، وسواءٌ كان نزولها في «عقبة بن معيط» أو غيره من الأشقياء فإِنها عامةٌ في كل ظالم {يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} أي يقول الظالم يا ليتني اتبعتُ الرسول فاتخذت معه طريقاً إِلى الهدى ينجيني من العذاب {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} أي هلاكي وحسرتي يا ليتني لم أصاحب فلاناً واجعله صديقاً لي، ولفظ {فُلَان} كناية عن الشخص الذي أضلَّه وهو «أُبي بن خلف» قال القرطبي: وكنى عنه ولم يصرّح باسمه ليتناول جميع من فعل مثل فعله {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي} أي لقد أضلني عن الهدى والإِيمان بعد أن اهتديت وآمنت ثم قال تعالى {وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} أي يُضله ويُغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء فلا ينقذه ولا ينصره {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم َ وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء طهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم َ بالتأسي بغيره من الأنبياء {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} أي وكفى أن يكون ربك يا يمحمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي وقال كفار مكة {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلَاّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاص قال قتادة: أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بالحق} أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلاأتيناك يا محمد بالحق
الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث «قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه علىوجهه يوم القيامة» ، ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإِرهاباً للمكذبين فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً له يناصره ويُؤآزره {فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي فأهلكناهم إِهلاكاً لما كذبوا رسلنا {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوانوحاً وحده لأن تكذبيه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس} أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراً {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية «سدوم» عُظمى قرى قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} ؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى
{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137]{بَلْ كَانُواْ لَا يَرْجُونَ نُشُوراً} أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الترجي {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} لأن لولا بمعنى هلاّ للترجي.
2 -
جناس الاشتقاق {وَعَتَوْا. . عُتُوّاً} و {حِجْراً. . مَّحْجُوراً} .
3 -
المبالغة بنفي الجنس {لَا بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} ومعناها لا يبشر يومئذٍ المجرمون وإِنما عدل عنه للمبالغة.
4 -
التشبيه البليغ {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاص.
5 -
الكناية اللطيفة {يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} كناية عن الندم والحسرة، كما أن لفظه {فُلَان} كناية عن الصديق الذي أضله.
6 -
الإِسناد المجازي {شَرٌّ مَّكَاناً} لأن الضلال لا ينسب إلى المكان ولكن إلى أهله.
لطيفَة: قال ابن القيم رحمه الله: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإِيمان به. والثاني: هجر العمل به وإِن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إِليه. والرابع: هجر تدبره وتفهم معانيه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وكلُّ هذا داخل في قوله تعالى {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} وإن كان بعض الهجر أهونُ من بعض.
المنَاسَبة: لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.
اللغَة: {سُبَاتاً} السُّبات: الراحة جعل النوم سُباتاً لأنه راحة للأبدان وأصل السبت: القطع ومنه السبت لليهود لانقطاعهم فيه عن الأعمال {نُشُوراً} النشور: الانتشار والحركة، والنهار سببٌ للانتشار من أجل طلب المعاش {أَنَاسِيَّ} جمع إِنسي مثل كراسي وكرسي قال الفراء: الإِنسي والأناسي اسم للبشر وأصله انسان ثم أُبدلت من النون ياء فصار إِنسي {مَرَجَ} خلَّى وأرسل وخلط يقال مرجته إِذا خلطته و {اأَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] أي مضطرب مختلط {فُرَاتٌ} شديد العذوبة {أُجَاجٌ} شديد الملوحة {بَرْزَخاً} حاجزاً.
التفسِير: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً} أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً؟ {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} أي إِن كان ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واسمتسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أهم أم محمد؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإِذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلَاّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مآلاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم، ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن
جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل «وبضدها تتميز الأشياء» {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين.
ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً} أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها {والنوم سُبَاتاً} أي وجعل النوم راحةٌ لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة {طَهُوراً} بناء مبالغة في «طاهر» فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال {أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي بشراً كثيرين لأن «فعيل» يراد به الكثرة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} أي
ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلَاّ كُفُوراً} أي أبى الكثير من البشر إلا الجحود والتكذيب {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فتعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذره، ولكنا خصصناك بالبعثة إلأى جميع أهل الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق {فَلَا تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً} أي لا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي بليغ الملوحة، مرٌّ شديد المرارة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال هاهنا بيّن لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً} أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي قسمهم من نطفةٍ واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إِلى الآباء كما قال الشاعر:
فإِنما أمهاتُ الناس أوعيةٌ
…
مستودعات وللآباء أبناء
وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى. . ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معانة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراًَ للكافرين بعذاب الجحيم {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل لهم يا يمحمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ً {إِلَاّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل
كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لَا يَمُوتُ} أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عله شيء منها قال الإِمام الفخر: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إل غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على ان يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تعطيل {الرحمن} أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان {قَالُواْ وَمَا الرحمن} ؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} اي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستفهام للتهكم والاستهزاء {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} ؟
2 -
التعجيب {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول اعتناءً بالأمر المتعجب منه والأصل «اتخذ هواه إِلهاً له» .
3 -
التشبيه البليغ {جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً} أي كاللباس الذي يغطي البدن ويستره حذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
4 -
المقابلة اللطيفة بين الليل والنهار والنوم والانتشار {جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} .
5 -
الاستعارة البديعة {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} استعار اليدين لما يكون أمام الشيء وقدَّامه كما تقول: بين يدي الموضوع أو السورة.
6 -
الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتعظيم {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء} بعد قوله {اأَرْسَلَ الرياح} .
7 -
المقابلة اللطيفة {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي نهاية في الحلاوة ونهاية في الملوحة.
تنبيه: الفرق بين {مَيْت} بالتخفيف و {مَّيْت} بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة والثاني لمن سيموت قال الشاعر:
أيا سائلي تفسير مَيْتٍ ومَيِّتٍ
…
فدونَك قد فسرتُ ما عنه تسأل
فما كان ذا روحٍ فذلك مَيِّتٌ
…
وما المَيْتُ إِلا من إِلى القبر يُحمل
اللغَة: {بُرُوجاً} البروج: منازل الكواكب السيارة سميت بالبروج لأنها تشبه القصور العالية وهي للكواكب كالمنازل للسكان وقيل: هي الكواكب العظيمة {غَرَاماً} لازماً دائماً غير مفارق ومنه الغريم لملازمته {الغرفة} الدرجة الرفيعة في الجنة وهي في اللغة العلية، وكل بناءٍ عالٍ فهو غرفة {يَعْبَأُ} يبالي ويهتمُّ قال أبو عبيدة: ما أعبأ به أي وجودُه وعدمه عندي سواء، والعبء في اللغة الثقل {لِزَاماً} ملازماً لكم.
التفسِير: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} أي وجعل فيها الشمس المتوهجة
في النهار، والقمر المضيء بالليل {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي لمن اراد أن يتذكَّر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي أراد شكر الله على إِفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَاماً} أي وإذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءٌ قالوا قولاً يسْلًمون فيه من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} أي يُحيْون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار ومن وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي لازماً دائماً غير مفارق {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيّقين بحيث يصبحون بخلاء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] الآية وقال مجاهد: «لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سرَفاً» {والذين لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين {وَلَا يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلَاّ بالحق} أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً {وَلَا يَزْنُونَ} أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي من أفحش الجرائم {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله {يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} أي إلاّ من
تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث «إيني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها هاهنا، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى بدتْ نواجذه» {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي واسع المغفرة كثير الرحمة {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً} أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى {والذين لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أي وإ ِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي اجعل لنا في الأزواجِ والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً} أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى
{وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] الآية {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَآؤُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِضافة للتشريف والتكريم {وَعِبَادُ الرحمن} .
2 -
الطباق بين السجود والقيام {سُجَّداً وَقِيَاماً} وكذلك بين الإِسراف والتقتير {أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} .
3 -
المقابلة اللطيفة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} مقابل قوله عن أهل النار {سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} .
4 -
الاستعارة البديعة {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي لم يتغافلوا عن قوارع النذر حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر وهذا من أحسن الاستعارات.
5 -
الكناية {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} كناية عن الفرحة والمسرَّة كما أن {الغرفة} كناية عن الدرجات العالية في الجنة.
تنبيه: قال القرطبي: وصف تعالى «عباد الرحمن» بإِحدى عشرة خصلة هي أوصافهم الحميدة من التحلِّي، والتخلِّي وهي «التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإِقتار، والبعد عن الشرك، والنزاهة عن الزنى والقتل، والتوبة، وتجنب الكذب، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله» ثم بين جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة أي الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا.
اللغَة: {بَاخِعٌ} مهلك وقال وأصل البخع: أن يبلغ بالمذبوح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وهو أقصى حدِّ الذبح {فَعْلَتَكَ} الفَعْلة بفتح الفاء المرة من الفعل {تَلْقَفُ} تبتلع {يَأْفِكُونَ} من الإِفك وهو الكذب {لَا ضَيْرَ} لا ضرر، والضرُّ والضير بمعنى واحد قال الجوهري: ضارة يضوره ضيْراً أي ضرَّه قال الشاعر:
فإِنك لا يضورك بعد حولٍ
…
أظبيٌ كان أمك أم حمار
{مُنقَلِبُونَ} راجعون {مِّنْ خِلَافٍ} أي يخالف بين الأعضاء فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
التفسِير: {طسم} إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن بأمله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لعلك يا محمد مهلكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إِيمانهم {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً} أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: املعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن} أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن {مُحْدَثٍ} أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت {إِلَاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا بما فيه من المواعظ والعِبَر {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزءوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلاله قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم على بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر {العزيز} على {الرحيم} لأنه ربما قيل: إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإِنه رحيم بعباده، فإِن الرحمة إذا كانت
مع المقدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه {أَنِ ائت القوم الظالمين} أي بأن أئت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد {أَلا يَتَّقُونَ} ؟ أي ألا يخافون عقاب الله؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي ويضيق صدري من تكذيبهم أياي {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسه كما في قوله
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 27 - 28] ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أن قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به {قَالَ كَلَاّ} أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإِنهم لا يقدرون على قتلك {فاذهبا بِآيَاتِنَآ} أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع «معكم» أريد به التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظيماً {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} أي فائتيا فرعو الطاغية وقولا لا: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سييلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟ {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك؟ قال مقاتل: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادُه قتل القبطي {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم
أتعمد قتله ولكنْ أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس:{وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي الجاهلين {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} أي فأعطاني الله النبوة والحكمة {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين} أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليِّ وقد استعبدتَ قومي؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً؟ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه
{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]{قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} أي قال موسى: هو خالق السماوات والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلٌ عن التعريف الام إلى التعريف الخاص لأنَّ الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ ثالث أوضح من الثاني {قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمروذ
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداً بالبطش والعنف {قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل «لأسجننَّك» وإِنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان
أشدَّ من القتل قال في التسهيل: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال {وَمَا رَبُّ العالمين} أجابه موسى بقوله {رَبُّ السماوات والأرض} فقال {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب} لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحداً جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقى؟ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي رمى موسى عصاه فإذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله: إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر.
. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برمية بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فأي شيء تأمروني وبما تشيرون عليَّ أن أصنع به؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلأى مشاورتهم بعد أن كان مستبدأ بالرأي والتدبير {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخِّرْ أمرهما {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي يجيئوك بكل ساحر ماهرٍ، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رءوس الأشهاد كما قال تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} أي قيل للناس: بادروا إلى الإِجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من القربين عندي ومن خاصة جلسائي {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} في الطلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عند ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون نحن الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي
ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا الغالبون لموسى {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي فألقى موسى العصى فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصيّ التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ} أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة واتركه حتى الموت {قَالُواْ لَا ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها {أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي: 1 - الكناية اللطيفة {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} كنّى به عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء. 2 - الوعيد والتهديد {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . 3 - التوبيخ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض} الاستفهام للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار. 4 - المقابلة اللطيفة بين {وَيَضِيقُ صَدْرِي} {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} . 5 - جناس الاشتقاق {رَسُولُ. . أَرْسِلْ} . 6 - الجناس الناقص {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} فقد اتفقت الحروف بين (فعلتَ وبين فعْلة) واختلف الشكل فأصبح جناساً غير تام. 7 -
الإِيجاز بالحذف {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} دلَّ على هذا الحذف السياق تقديره فأتيا فرعون فقالا له ذلك فقال لموسى {أَلَمْ نُرَبِّكَ} وكذلك هناك إيجاز في {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} قال الزمخشري: أصلُه أرسلْ جبريل إلى هارون واجعله نبياً وآزرني به واشدد به عضدي فأحسن في الاختصار غاية الإِحسان. 8 - صيغة التعجيب {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} . 9 - التأكيد بإِنَّ واللام لأن السامع متشكك ومتردد {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ومثله قول السحرة في بدء المناظرة {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} وهذا من خصائص علم البيان. 10 - الطباق بين {المشرق. . والمغرب} ثم توافق الفواصل وهو من السجع البديع. لطيفَة: إن قيل كيف قال موسى في بدء مناظرته لفرعون وقومه {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} ثم قال آخراً {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فالجواب أنه تلطَّف ولاين أولاً طمعاً في إِيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ. . لَمَجْنُونٌ} فسلك موسى طريق الحكمة.
المنَاسَبَة: ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم َ عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام. اللغَة:{أَسْرِ} من الإِسراء وهو السير ليلاص فلا يقال لمن سار نهاراً أسرى وإِنما هو خاصٌ بالليل {شِرْذِمَةٌ} الشرذمة: الجمع القليل الحقير والجمع شراذم قال الجوهري: الشرذمة الطائفةُ من الناس، والقطعةُ من الشيء، وثوبٌ شراذم أي قطع {أَزْلَفْنَا} قرَّبنا ومنه {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرّبت قال الشاعر:
وكلُّ يوم مضى أو ليلةٍ سلفَتْ
…
فيها النفوسُ إلى الآجال تزَّدلفُ
{فَكُبْكِبُواْ} كَبْكَبَ الشيء: قلبَ بعضه على بعض قال ابن عطية: وهو مضاعف من كبَّ وهو قول الجمهور مثل صرّ، وصَرْصَر، وقال الزمخشري: الكبكبة: تكرير الكبِّ جُعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا أُلقي في جهنم ينكبُّ مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها {فَكُبْكِبُواْ} الحميم: الصديق الخالص الذي يهمه ما أهمَّك {كَرَّةً} الكرة: العودة والرجوع مرة أُخرى.
التفسِير: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى {إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} أي أرسل فرعون في طلبهم حين أَخبر بمسيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} أي وإنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلايُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي فلحقوهم وقت شروق الشمس {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} أي فلما رأى كلٌّ منهما اللآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونُهم {قَالَ كَلَاّ} أي قال موسى كلَاّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما أن ربه معه وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني قوله {سَيَهْدِينِ} أي إلأى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه {فانفلق} أي فضربه فانشق وانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس: صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل {وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} أي أندينا موسى والمؤمنين معه جميعاً {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار في اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون! فبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ ووعيدٌ لمن عصاه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم الهام وشأنه العظيم {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَِ} أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ملا لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها،
قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي قال هم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟ {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي وهل يبذلونلكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟ {قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي انه لا سند لهم سوى التقليد، وهاذ من علامات انقطاع الحجة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون} أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلَاّ رَبَّ العالمين} أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً به وهو أبلغ في النصيحة من التصريح {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وإنما أسند المرض إلى نفسه {مَرِضْتُ} وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازى العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} أي اجعلْ لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً {فِي الآخرين} أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جناتِ الخُلد {واغفر لأبي} أي اسفح عنه واهده إلى الإيمان {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له انه لا يفي تبرأ منه {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تُذلَّني ولا تُهِنيِّي يومَ بتعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه امام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] الآية {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد {إِلَاّ مَنْ أَتَى} إي إلا من جاء ربَّه في الآخرة {الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي بقلب نقيٍّ
طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرِّبت الجنة للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} أي وأُظهرتِ النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنون يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان {وَقِيلَ لَهُمْ} أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي أين آلهتكم الذين عبدتموهم من الأصنام والأنداد؟ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسه؟ وهذا كله توبيخ {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم {هُمْ والغاوون} أي الأصنامُ ولامسركون والعابدون والمعبودون كقوله
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} أي حين عبدناكم من عربّالعلامين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَاّ المجرمون} أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن لنا رجعةً إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} اي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِيجاز بالحذفِ {فانفلق} أي فضرب البحر فانفلق.
2 -
التشبيه المرسل المجمل {كالطود العظيم} أي كالجبل في رسوخه وثباته ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
3 -
الطباق بين {يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} وكذلك بين {يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} .
4 -
مراعاة الأدب {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} لم يقل: وإِذا أمرضني بل أسند المرض لنفسه تأدباً مع الله لأنَّ الشرَّ لا يُنسب إليه تعالى أدباً، وإِن كان المرضُ والشفاء كلاهما من الله.
5 -
الاستعارة اللطيفة {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن وهو من ألطف الاستعارات.
6 -
المقابلة البديعة {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} مقابل قوله عن السعداء {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} .
7 -
مراعاة الفواصل في أواخر الآيات مثل {الْمُتَّقِينَ، الْغَاوِينَ، ضَلَالٍ مُّبِينٍ} وهو من السجع الحسن الذي يزيد في جمال البيان.
المنَاسَبَة: لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله عقاب المكذبين.
اللغَة: {المشحون} المملوء يقال: شحنَ السفينةَ أي ملأها بالناس والدواب والطعام {رِيعٍ} الرِّيع: ما ارتفع من الأرض، والرِّيعُ: الطريق {مَصَانِعَ} المراد بها الحصون المشيَّدة وهو قول ابن عباس قال الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قِفازاً
…
وهدَّمنا المصانع والبروجا
{بَطَشْتُمْ} البطش: السطوةُ والأخذ بالعنف يقال: بطَش يبطِشُ إذاأخذه بشدة وعنف {الجبلة} الخليقة قال الهروي: الجبلَّة والجِبلُّ: الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [يس: 62] أي ناساً كثيرين ويقال: جُبل فلانٌ على كذا أي خُلق {كِسَفاً} جمع كِسْفة وهي القطعة من الشيء.
التفسِير: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} أي كذِّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال {المرسلين} لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحاداً منهم لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذامن قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ومنه بيت الحماسة «لا يسألون أخاهم حين يندبهم» {أَلَا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي خافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم {إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على رَبِّ العالمين} أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيداً وتنبهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول {واتبعك الأرذلون} أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم، وقصور رأيهم فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بدعوة نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما إليَّ ظاهرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يطرد من آمن من الضعفاء {إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءٌ كان شريفاً أو وضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً {قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي قال نوح يا ربّ إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا بي {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي وما أكثر الناس بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «هود» فقال {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً
فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على رَبِّ العالمين} أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بلك موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث؟ قال ابن كثير: الرَّيع المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهرة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضيينعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون؟ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول دعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئه {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكْرهم نعم الله فقال {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والنهار، وأغذق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم واشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان.
. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قولهوعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وانه كاذبٌ فيما ادَّعاه {إِنْ هذا إِلَاّ خُلُقُ الأولين} أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذاتِ البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم
كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعباده المؤمنين، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «صالح» فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم «صالحاً» ومن كذَّب رسولاً ققد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على رَبِّ العالمين} كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهنآ آمِنِينَ} أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى
{واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في بساتين وأنهار جاريات {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل الرطب اللين؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكّرهم صالحٌ بنعم اله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى «الهضيم» اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم «هود» هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم «صالح» هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبينة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم {وَلَا تطيعوا أَمْرَ المسرفين} أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين {الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلَا يُصْلِحُونَ} أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]{قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} أي من
المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسَّر مبالغةٌ من المسحور {مَآ أَنتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك {قَالَ هذه نَاقَةٌ} أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين توسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربُهم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى {وَلَا تَمَسُّوهَا بسواء} أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ} أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل {فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعظةٌ وعبرة لمن عقل وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} تقدم تفسيرهخا فيما سبق، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «لوط» فقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} أي كذبوا رسولهم لوطاً {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على رَبِّ العالمين} نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق؟ {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال لمجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من
الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} اي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عَجُوزاً فِي الغابرين} أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي أهلكناهم اشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} تقدم تفسيره، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «شعيب» فقال:{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين} أي كذَّب أضحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على رَبِّ العالمين} سبق تفسيره {أَوْفُواْ الكيل} أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} أي زنوا بالميزان العدل السويّ {وَلَا تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي لا تُنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبنأو الغصب ونحو ذلك {وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} أي خافوا الله لاذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك {وَمَآ أَنتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} أي أنزلْ علينا العذاب قِطِعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب {قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإِن كنتم تستحقون عقاباص آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذاب يوم الظلة وهي السحابة التي أظلتهم، قال المفسرون: بعث الله
عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإِنما كرر في نهاية كل قصة قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
إطلاق الكل وإِرادة البعض {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} أراد بالمرسلين نوحاً وإِنما ذكره بصيفة الجمع تعظيماً له وتنبيهاً على أن من كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين.
2 -
الاستفهام الإِنكاري {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} ؟
3 -
الاستعارة اللطيفة {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل، استعار الفتاح للحاكم والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر ففيه استعارة تبعية.
4 -
الطباق {يُفْسِدُونَ. . وَلَا يُصْلِحُونَ} .
5 -
الجناس غير التام {قَالَ. . القالين} الأول من القول والثاني من قلى إذا أبغض.
6 -
الإِطناب {أَوْفُواْ الكيل وَلَا تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران، وفائدته زيادة التحذير من العدوان.
7 -
المبالغة {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} والمسحَّر مبالغة عن المسحور.
8 -
توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {يُفْسِدُونَ، يُصْلِحُونَ، الأرذلون} .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء لرسوله صلى الله عليه وسلم َ أتبعه بذكر ما يدل على نبوته من تنزيل هذا القرآن المعجز على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين.
اللغَة: {زُبُرِ} الزُّبُر: الكُتُب جمع زَبور كرسول ورُسُل {الأعجمين} جمع أعجمي وهو الذي لا يُحسن العربية، يقال: رجل أعجمي إذا كان غير فصيح وإِن كان عربياً، ورجلٌ عجمي أي غير عربي وإن كان فصيح اللسان {بَغْتَةً} فجأة {مُنظَرُونَ} مؤخرون وممهلون يقال: أنْظره أي أمهله {أَفَّاكٍ} كذَّاب {مُنقَلَبٍ} مصير.
التفسِير: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربٌ الأرباب {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام {على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا: ما فائدة كلامٍ لا نفهمه؟ قال ابين كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} أي وإن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ} أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين} أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القرآن إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي فيأتيهم
عذاب الله فجأة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} اي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون {ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وحالُهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟ {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش {ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به {مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} ؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟ {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم {إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ} أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين {ذكرى} أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم.
. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} أي أنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه اسلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإِضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر {فَلَا تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم َ والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر {فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صلى الله عليه وسلم َ قام حين نزلت عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} فقال:«يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللَّهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بنَ عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً» قال المفسرون: وإِنما أُمر صلى الله عليه وسلم َ بإنذار أقاربه
أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباه واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم {وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} أي فوّض جميع أمورك إلأى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} ؟ أي قل يا محم لكفار مكة: هل أخبركم على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين {تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا علىسيّد ولد عدنان {يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث
«تلك الكلمةُ من الحقِّ يخْطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبه» {يُلْقُونَ السمع} هم الشياطين كانواقبل أن يُحجبوا بالرجم يسمَّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة «وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال {إِلَاّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم وديدنهم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي هجوا المشركين دفاعاً عن
الحق ونصرةً للإِسلام {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا} وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون والمعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه؟ وأي مصير يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التأكيد بإِنَّ واللام {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} لأن الكلام مع المتشككين في صحة القرآن فناسب تأكيده بأنواع من المؤكدات.
2 -
الاستفهام للتوبيخ والتبكيت {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟
3 -
جناس الاشتقاق {يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ} .
4 -
المجاز المرسل {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} المراد به أهلها.
5 -
أسلوب التهييج والإلهاب {فَلَا تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَر} الخطابُ للرسول بطريق التهييج لزيادة إخلاصه وتقواه.
6 -
الاستعارة التصريحية {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} شبه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الانحطاط فأطلق على المشبّه اسم الخفض بطريق الاستعارة المكنيَّة.
7 -
صيغتا المبالغة {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لأن فعّال وفعيل من صيغ المبالغة أي كثير الكذب كثير الفجور.
8 -
الطباق بين {يَقُولُونَ. . ويَفْعَلُونَ} وبين {انتصروا. . وظُلِمُواْ} .
9 -
الاستعارة التمثيلية البديعة {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} مثَّل لذهابهم عن سنن الهدى وإِفراطهم في المديح والهداء بالتائه في الصحراء الذي هام على وجه فهو لا يدري أين يسير، وهذا من ألطف الاستعارات، ومن أرشقها وابدعها.
10 -
جناس الاشتقاق {مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} .
11 -
مراعاة الفواصل مما يزيد في جمال الكلام ورونقه مثل {يَهِيمُونَ، يَنقَلِبُونَ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} الخ.
لطيفَة: ذُكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} ؟ ثم يبكي وينشد:
نهارُك يا مغرور سهْوٌ وغفلة
…
وليلُك نومٌ والرَّدى لك لازم
تُسرُّ بما يَفنى وتفرح بالمُنى
…
كما سُرَّ باللَّذات في النوم حالمُ
وتسْعى إلى ما سوف تكره غبَّه
…
كذلك في الدنيا تعيشُ البهائم
تنبيه: الشعر بابٌ من الكلام حسنُه حسنٌ، وقبيحُه قبيحٌ، وإِنما ذمَّ تعالى الشعر لما فيه من المغالاة والإِفراط في المديح أو الهجاء، ومجاوزة حدِّ القصد فيه حتى يفضّلوا أجبن الناس على
عنترة، وأشحَّهم على حاتم، ويبهتوا البريء ويفسّقوا التقي، وربما رفعوا شخصاً إلى الأوج ثم إِذا غضبوا عليه أنزلوه إلى الحضيض، وهذا مشاهد ملموس في أكثر الشعراء إلا من استثناهم الله عز وجل، والشاعر قد يمدح الشيء ويذمه بحلاوة لسانه وقوة بيانه، ومن ألطف ما سمعتُ من بعض شيوخي ما قاله بعض الشعراء في العسل:
تقولُ: هذا مُجاج النَّحل تمدحُه
…
وإِنْ تعب قلت: ذا قيءُ الزنابير
مدحاً وذماَ وما جاوزت وصفهما
…
سحرُ البيان يرى الظلماء كالنور
لطيفَة: ذُكر أن الفرزدق أنشد أبياتاً عند «سليمان بن عبد الملك» وكان في ضمنها قوله في النساء العذارى:
فبتْن كأنهنَّ مُصرَّعاتٌ
…
وبتُّ أَفُضُّ أغلاقَ الخِتام
فقال له سليمان: قد وجب عليك الحد، فقال أمير المؤمنين إن الله قد درأ عني الحدَّ بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} فعفا عنه.
اللغَة: {يَعْمَهُونَ} يترددون ويتحيرون، والعَمَهُ: التحير والتردُّد كما هو حال الضال عن الطريق قال الزاجر: «أعْمى الهُدى بالحائرين العُمَّه» {قَبَسٍ} القَبس: النار المقبوسة من جمرٍ وغيره {تَصْطَلُونَ} اصطلى يصطلي إذا استدفأ من البرد قال الشاعر:
النارُ فاكهةُ الشتاءِ فمن يُرد
…
أكْلَ الفواكه شاتياً فليصْطَلِ
{بُورِكَ} من البركة وهي زيادة الخير والنماء قال الثعلبي: العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربعُ لغات قال الشاعر:
فبوركتَ مولوداًَ وبركت ناشئاً
…
وبوركتَ عن الشيب إِذْ أنت أشيب
{يُوزَعُونَ} أصل الوزع الكفُّ والمنع يقال: وزَعه يزعه إذا كفَّه عن الشيء ومنعه ومنه قول عثمان «إن الله ليزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» قال النابغة:
على حين عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا
…
وقلتُ ألمَّا أصّحُ والشيبُ وازع
التفسِير: {طس} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها {تِلْكَ آيَاتُ القرآن} أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي آياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه
الأحكام، وهدى به الأنام {هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تلك آيات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم جنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإِمام الفخر: والجملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإِيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإِيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يجملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان {يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} ما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإِيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة إسمية وأُكدت بتكرار الضمير {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال {إِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي لا يصدّقون بالبعث {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح {أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب} أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد {وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن} أي وإِنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تستدفئوا بها {فَلَمَّا جَآءَهَا} أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقداً ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك وهم الملائكة قال ابن عباس: معنى {بُورِكَ} تقدَّس {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكةُ قال أبو
حيان: وبدؤه بالنداء تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته، وجدير أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير {وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد:«لم يُعقّب» لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذ رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه {ياموسى لَا تَخَفْ} أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} أي فأنت رسولي ورسلي الذي اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة {إِلَاّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء} الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82]{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} هذه معجزة أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي هاتان المعجزتان «العصا واليد» ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح {وَجَحَدُواْ بِهَا} أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق {واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي جحدوا بها ظلم ا ً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صلى الله عليه وسلم َ أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه
أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة «داود وسليمان» والمعنى واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه {وَقَالَا الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} أي وقلا شكراً لله الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء {وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلَّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} أي إن ما أُطعيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير} أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنسِ والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل} أي حتى إذا وصلوا إلأى وادٍ بالشام كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} أي قالت إحدى الن ملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا} أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان {وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} أي وأدخلني الجنة دار الرحمة عبادك الصالحين.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِشارة بالبعيد عن القريب {تِلْكَ آيَاتُ القرآن} للإِيدان ببعد منزلته في الفضل والشرف.
2 -
التنكير للفخيم والتعظيم {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي كتابٍ عظيم الشأن رفيع القدر.
3 -
ذكر المصدر بدل اسم الفاعل للمبالغة {هُدًى وبشرى} أي هادياً ومبشراً.
4 -
تكرير الضمير لإِفادة الحصر والاختصاص {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} ومثله {وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} وفيه المقابلة اللطيفة بين الجملتين.
5 -
التأكيد بإِنَّ واللام {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن} لوجود المتشككين في القرآن.
6 -
إيجاز الحذف {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} حذفت جملة فألقاها فانقلبت إلى حية الخ وذلك لدلالة السياق عليه.
7 -
الطباق {حُسْناً بَعْدَ سواء} . وبين {ولى مُدْبِراً. . وَلَمْ يُعَقِّبْ} .
8 -
الاستعارة {آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} استعار لفظ الإِبصار للوضوح والبيان لأن بالعينين يبصر الإِنسان الأشياء.
9 -
التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فصار مرسلاً مجملاً.
10 -
حسن الاعتذار {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
لطيفَة: قال بعض العلماء هذه الآية {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ. .} من عجائب القرآن لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبَّهت «النمل» عيَّنت «ادخلوا» أمرت «مساكنكم» نصَّت «لا يحطمنكم» حذَّرت «سليمان» خصت «وجنوده» عمَّت «وهم لا يشعرون» اعتذرت، فيا لها من نملة ذكية!!
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن «سليمان بن داود» الذي جمع الله له بين «النبوة والمُلْك» فكان نبياً ملكاً، وسخر له الإِنس والجن وعلمه منطق الطير، وتذكر الآيات هنا قصته مع «بلقيس» ملكة سبأ وما كان من الأمور العجيبة التي حدثت في زمانه.
اللغَة: {تَفَقَّدَ} التفقد: طلب ما غاب عن الإِنسان {الخبء} : الشيءُ المخبوء من خبأتُ الشيء أخبؤه خبأَ إذا سترته {صَاغِرُونَ} أذلاء مهانون من الصَّغار وهو الذل {عِفْرِيتٌ} العفريب: القويُ المارد من الشياطين ومن الإِنس، والخبيث الماكر {الصرح} القصر، وكلُّ بناءٍ عال مرتفع يسمى صرحاً ومنه قول فرعون «يا هامان ابن لي صَرْحاً» {مُّمَرَّدٌ} الممرَّد: المملَّس، والأمرد الذي لم تخرج لحيته بعد إداركه، وشجرةٌ مرداء: لا ورقَ عليها {قَوارِيرَ} جمع قارورة وهي الزجاجة.
التفسِير: {وَتَفَقَّدَ الطير} أي بحث سليمان وفتش عن جماعة الطير {فَقَالَ مَالِيَ لَا أَرَى الهدهد} أي لم لا أرى الهُدهد هاهنا؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: هاهنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} أمْ منقطعة بمعنى «بل» أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي لأعقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي وأتيتك من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هام، وأمر صادقٍ وخطير {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي
يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدرة وخطره، لا عِظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس:{عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي حسَّن لهم إبليسعبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً {أَلَاّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم {فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي فانظر ماذا يردون من الجواب؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره {أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين {قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} أي أشيروا عليَّ في الأمر {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال
والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب {والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} ؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاوة حسنة من الجيمع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِلجةٍ يضطرب ثدياها، فلا قالوا لها ما قالوا كان هي أحزم منهم رأياً وأعلم {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد {وكذلك يَفْعَلُونَ} أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} أي وإِني سأبعث إلأيه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أن يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها!! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبِلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم؟ {فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك والواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد {ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على مقاتلتها {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلْت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد {قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ؟ أي قال سليمان لأشراف من حضره من جنده: أيكم يأتيني بسريرها المرصَّع بالجواهر قبل أن تصل إليَّ مع قومها مسلمين؟ قال البيضاوي: أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب، الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكّر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟ {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي قال ماردٌ من مردة الجنِّ: أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس الحكم - وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم - وغرضُه أنه يأتيه به في أقل من نصف نهار {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي وإِني على حمله لقادرٌ، وأمينٌ على ما فيه من الجواهر والدُّر وغير ذلك {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال المفسرون:
هو «آصف بن برخيا» كان من الصِّدقين يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو الذي أتى بعرش بلقيس وقال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك أي آتيك به بلمح البصر فدعا الله فحضر العرشُ حالاً {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي} أي فلما نظر سليمان ورأى العرش - السرير - حاضراً لديه قال: هذا من فضل الله عليَّ، وإِحسانه إليَّ {ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} ؟ أي ليختبرني أأشكر إنعامه، أم أجحد فضله وإِحسانه؟ {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن شكر فمنفعة الشكر لنفسه، لأنه يستزيد من فضل الله
{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي ومن لم يشكر وجحد فضل الله فإِن الله مستغنٍ عنه وعن شكره، كريمٌ بالإِنعام على من كفر نعمته. . ولما قرُب وصولُ ملكة سبأ إلى بلاده أمر بأن تُغيَّر بعضُ معالم عرشها امتحاناً لها {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيّروا بعض أوصافه وهيئته كما يتنكر الإِنسان حتى لا يُعرف {نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لَا يَهْتَدُونَ} أي لننظر إذا رأته هل تهتدي إلى أنه عرشها وتعرفه أم لا؟ أراد بذلك اختبار ذكائها وعقلها {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ؟ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ رئلا يكون تلقيناً لها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} أي يشبهه ويقاربه ولم تقل: نعم هو، ولا ليس هو قال ابن كثير: وهذا غاية في الذكاء والحزم {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} هذا من قول سليمان أي قال سليمان تحدثاً بنعمة الله: لقد أوتينا العلم من قبل هذه المرأة بالله وبقدرته وكنا مسلمين لله من قبلها، فنحن أسبقُ منها علماً وإِسلاماً {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} أي منعها عن الإِيمان بالله عبادتُها القديمة للشمس والقمر {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين {قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح} أي ادخلي القصر العظيم الفخم {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} أي فلما رأت ذلك الصرح الشامخ ظنته لجة ماء - أي ماءً غمراً كثيراً - وكشفت عن ساقيها لتخوض فيه {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} أي قال سليمان: إنه قصر مملَّس من الزجاج الصافي {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي قالت بلقيس حينئذٍ: ربّ إني ظلمت نفسي بالشرك وعبادة الشمس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} أي وتابعتُ سليمان على دينة فدخلت في الإِسلام مؤمنةً برب العالمين، قال ابن كثير: والغرضُ أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلاله ما هو فيه وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبيٌ كريم، وملِكٌ عظيم، وأسلمت لله عز وجل.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
أسلوب التعجب {مَالِيَ لَا أَرَى الهدهد} ؟
2 -
التأكيد المكرر {لأُعَذِّبَنَّهُ. . أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ. . أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} لتأكيد الأمر.
3 -
طباق السلب {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وكذلك {تهتدي. . لَا يَهْتَدُونَ} .
4 -
الجناس اللطيف {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} ويسمى الجناس الناقص لتبدل بعض الحروف.
5 -
الطباق في اللفظ {تُخْفُونَ. . وتُعْلِنُونَ} وكذلك {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} .
6 -
الطباق في المعنى {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} .
قال علماء البيان: والمطابقة هنا بالمعنى أبلغ من اللفظ لأنه عدول عن الفعل إلى الإِسم فيفيد الثبات فلو قال «أصدقت أم كذبت» لما أدَّى هذا المعنى لأنه قد يكذب في هذا الأمر ولا يكذب في غيره، وأما قوله {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} فإِنه يفيد أنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة فلا يوثق به أبداً.
7 -
جناس الاشتقاق {أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} وكذلك {أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} .
8 -
التشبيه {كَأَنَّهُ هُوَ} أي كأنه عرشي في الشكل والوصف ويسمى «مرسلاً مجملاً» .
9 -
الاستعارة البديعة {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} شبَّه سرعة مجيئه بالعرش برجوع الطرف للإِنسان، وارتدادُ الطرف معناه التقاء الجفنين وهو أبلغ ما يمكن أن يوصف به في السرعْة ومثله «وما أمرُ الساعةِ إلا كلمح البصر أو هو أقرب» فاستعار للسرعة الفائقة ارتداد الطرف.
10 -
توافق الفواصل في كثير من الآيات، ولها وقعٌ في النفس رائع مثل {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} إلى آخر ما هنالك.
لطيفَة: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى {وَتَفَقَّدَ الطير} استحباب تفقد الملك لأحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء، والإِخوان، والخلان وأنشد بعضهم:
سنَّ سُليمانُ لنا سُنَّةً
…
وكان فيما سنْه مُقْتدى
تفقَّد الطيرَ على مُلْكه
…
فقال: مالِيَ لا أرى الهُدْهد؟
المناسبة: لما ذكر تعالى في أول السورة قصة موسى، ثم أعقبها بقصة داوْد وسليمان وما فيها من العجائب والغرائب، ذكر هنا قصة «صالح» ثم قصة «لوط» وكلُّ هذه القصص غرضُها التذكير والاعتبار، وبيانُ سنة الله في إهلاك المكذبين، ثم أتبعها بذكر البراهين الدالة على الوحدانية، والعلم، والقدرة.
اللغَة: {اطيرنا} من التطير وهو التشاؤم قال الزجاج: أصلُها تطيَّرنا فأُدغمت التاء في الطاء واجْتُلبت الألف لسكون الطاء {خَاوِيَةً} خالية من خوى البطنُ إذا خلى، وخوى النجم إذا سقط {الفاحشة} الفعلة القبيحة الشنيعة {حَدَآئِقَ} جمع حديقة وهي البستان الذي عليه سور قال الفراء: الحديقةُ البستانُ الذي عليه حائط فهو البستان {قَرَاراً} مستقراً يثبت عليه الشيء {حَاجِزاً} الحاجز: الفاصل بين الشيئين.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله} اللام جواب قسم محذوف أي والله لقد ارسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم - في النسب لا في الدين - صالحاً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} أي فإِذا هم جماعتان: مؤمنون وكافرون يتنازعون في شأن الدين قال مجاهد: «فريقان: مؤمنٌ، وكافر» واختصامُهم: اختلافهم وجدالهم في الدين، وجاء الفعل بالجمع {يَخْتَصِمُونَ} حملاً على المعنى {قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} أي قال لهم صالح بطريق التلطف والرفق: يا قومِ لم تطلبون العذاب قبل الرحمة؟ ولأي شيء تستعجلون بالعذاب ولا تطلبون الرحمة؟ {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي هلاّ تتوبون
إلى الله من الشرك لكي يتوب الله عليكم ويرحمكم؟ قال المفسرون: كان الكفار يقولون لفرط الإِنكار: يا صالح ائتنا بعذاب الله فقال لهم: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإ ِن استعجال الخير أولى من استعجال الشر! { {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أي تشاءمنا بك يا صالح وبأتباعك المؤمنين فإِنكم سبب ما حلَّ بنا من بلاء، وكانوا قد أصابهم القحط وجاعوا {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} أي حظكم في الحقيقة منخيرٍ أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. . لمّا لاطفهم في الخطاب أغلظوا له في الجواب وقالوا تشاءَمنا بك وبمن معك، فأخبرهم أن شؤمهم بسبب عملهم لا بسبب صالح والمؤمنين {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي بل الحقيقةُ أنكم جماعة يفتنكم الشيطان بوسوسته وإِغوائه ولذلك تقولون ما تقولون {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي وكان في مدينة صالح - وهي الحِجْر - تسعةُ رجالٍ من أبناء أشرافهم قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلَا يُصْلِحُونَ} أي شأنهم الإِفساد، وإِيذاء العباد بكل طريق ووسيلة قال ابن عباس: وهم الذين عقروا الناقة {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله} أي قال بعضُهم لبعض: احلفوا باللهِ {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي لنقتلنَّ صالحاً وأهله ليلاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ثم نقول لوليّ دمه ما حضرنا مكان هلاكه ولا عرفنا قاتله ولا قاتل أهله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ونحلف لهم إِنا لصادقون قال ابن عباس: أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم قال تعالى {وَمَكَرُواْ مَكْراً} أي دبَّروا مكيدةً لقتل صالح {وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي جازيناهم على مكرهم بتعجيل هلاكهم، سمَّاه مكراً بطريق المشاكلة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي من حيث لا يدرون ولا يعلمون قال أبو حيان: ومكرُهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكرُ الله إهلاكُهم من حيث لا يشعرون {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فتأملْ وتفكرْ في عاقبة أمرهم ونتيجة كيدهم، كيف أنَّا أهلكناهم أجمعين وكان مآلهم الخراب والدمار} {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا} أي فتلك مساكنهم ودورهم خاليةً بسبب ظلمهم وكفرهم لأنه أهلها هلكوا {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي إن في هذا التدمير العجيب لعبرة عظيمة لقوم يعلمون قدرة الله فيتعظون {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي وأنجينا من العذاب المؤمنين المتقين الذين آمنوا مع صالح {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا «لوطاً» حين قال لقومه أهل سدوم {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي أتفعلون الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواطة {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أي وأنتم تعلمون علماً يقيناً أنها فاحشة وأنها عملٌ قبيح؟ {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء} تكريرٌ للتوبيخ أي أئنكم أيها القوم لفرط سفهكم تشتهون الرجال وتتركون النساء؟ ويكتفي الرجال بالرجال بطريق الفاحشة القبيحة {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي بل أنتم قوم سفهاء ماجنون ولذلك تفضلون العمل الشنيع على ما أباح الله لكم من النساء {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} أي فما كان جواب أولئك المجرمين إلا أن قالوا أخرجوا لوطاً وأهله من بلدتكم {إِنَّهمْ
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي إنهم قوم يتنزهون عن القاذورات ويعدّون فعلنا قذراً، وهو تعليلٌ لوجوب الطرد والإِخراج قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء وقال ابن عباس: هو استهزاء يستهزئون بهم بأنهم يتطهرون عن أدبار الرجال {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امرأته} أي فخلصناه هو وأهله من العذاب الواقع بالقوم إلا زوجته {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين} أي جعلناها بقضائنا وتقديرنا من المهلكين، الباقين في العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أي أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتْهُم {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} أي بئس العذاب الذي أُمطروا به وهو الحجارة من سجيلٍ منضود، ولما ذكر تعالى قصص الأنبياء أتبعه بذكر دلائل القدرة والوحدانية فقال {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلَامٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} أي قل يا محمد الحمدُ للهِ على إفضاله وإِنعامه، وسلامٌ على عباده المرسلين الذين اصطفاهم لرسالته، واختارهم لتبليغ دعوته قال الزمخشري: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم َ أن يتلو هذه الآيات الدالة على وحدانيته، الناطقة بالبراهين على قدرته وحكمته، وأن ستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه، وفيه تعليمٌ حسن، وتوقيفٌ على أدبٍ جميل، وهو حمد الله والصلاة على رسله، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسوله أمام كل علم، وقبل كل عظة وتذكرة {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} تبكيتٌ للمشركين وتهكمٌ بهم أي هل الخالق المبدع الحكيم خيرٌ أم الأصنام التي عبدوها وهي لا تسمع ولا تستجيب؟ {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} برهان آخر على وحدانية الله أي أمَّن أبدع الكائنات فخلق تلك السماواتِ في ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها الكواكب المنيرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والسهول والأنهار والبحار، خيرٌ أمّا يشركون؟ {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي وأنزل لكم بقدرته المطر من السحاب فأخرج به الحدائق والبساتين، ذات الجمال والخضرة والنضرة، والمنظر الحسنِ البهيج {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم، وليس بمقدورهم ومستطاعهم أن يُنبتوا شجرها فضلاً عن ثمرها {أإله مَّعَ الله} استفها إنكار أي هل معه معبود سواه حتى تسوّوا بينهما وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي بل هم قوم يشركون بالله فيجعلون له عديلاً ومثيلاً، ويسوّون بين الخالق الرازق والوثن {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} برهان آخر أي جعل الأرض مستقَراً للإنسان والحيوان، بحيث يمكنكم الإِقامة بها والاستقرار عليها {وَجَعَلَ خِلَالَهَآ أَنْهَاراً} أي وجعل في شعابها وأوديتها الأنهار العذبة الطيبة، تسير خلالها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي وجعل جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد وتضطرب بكم {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} أي وجعل بين المياه العذبة والمالحة فاصلاً ومانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يُفسد ماء البحار المياهَ العذبة {أإله مَّعَ الله} أي أمع الله معبودٌ سواه؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي أكثر المشركين لا يعلمون الحق فيعلمون الحق فيشركون مع الله غيره {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} برهانٌ ثالث أي أمّن يجيب المكروب المجهود الذي مسَّه الضر فيستجيب دعاءه
ويلبي نداءه؟ {وَيَكْشِفُ السواء} أي ويكشف عنه الضُرَّ والبأساء؟ {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض} أي ويجعلكم سكان الأرض تعمرونها جيلاً بعد جيل، وأُمةً بعد أُمة {أإله مَّعَ الله} ؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك حتى تعبدوه؟ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي ما أقلَّ تذكركم واعتباركم فيما تشاهدون؟ {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} ؟ برهان رابع أي أم من يرشدكم إلى مقاصدكم في أسفاركم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار؟ والبلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار؟ {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ؟ أي ومن الذي يسوق الرياح مبشرةً بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد؟ {أإله مَّعَ الله} ؟ أي أإلهٌ مع الله يقدر على شيءٍ من ذلك؟ {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعظَّم وتمجَّد الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} برهانٌ خامس أي أمَّنْ يبدأ خلق الإِنسان ثم يعيده بعد فنائه؟ قال الزمخشري: كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإِعادة؟ والجواب أنه قد أُزيحت علَّتُهم بالتمكين من المعرفة والإِقرار، فلم يبق لهم عذرٌ في الإِنكار {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} أي ومن يُنزل عليكم من مطر السماء، ويُنبتُ لكم من بركات الأرض الزروع والثمار؟ قال أبو حيان: لما كان إِيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإِحساناً عليهم، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء} أي بالمطر {والأرض} أي بالنبات {أإله مَّعَ الله} ؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك؟ {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلَاّ الله} أي هو سبحانه وحده المختص بعلم الغيب، فلايعلم أحدٌ من ملك أو بشر الغيب إلا اللهُ علامُ الغيوب قال القرطبي: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم َ عن قيام الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ؟ أي وما يدري ولا يشعر الخلائق متى يُبعثون بعد موتهم؟ {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أي هل تتابع وتلاحق علمُ المشركين بالآخرة وأحوالها حتى يسألوا عن الساعة وقيامها؟ إنهم لا يصدقون بالآخرة فلماذا يسألون عن قيام الساعة؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} إضراب عن السابق أي هم شاكون في الآخرة لا يصدّقون بها ولذلك يعاندون ويكابرون {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أي بل هم في عمَىً عنها، ليس لهم بصيرةٌ يدركون بها دلائل وقوعها لأن اشتغالهم باللذات النفسانية من شهوة البطن والفرج صيّرهم كالبهائم والأنعام لا يتدبرون ولا يبصرون قال ابن كثير: هم شاكون في وقوعها ووجودها، بل هم في عماية وجهلٍ كبير في أمرها.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {يُفْسِدُونَ. . وَلَا يُصْلِحُونَ} .
2 -
التحضيض {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ الله} أي هلاّ تستغفرون الله.
3 -
جناس الاشتقاق {اطيرنا. . طَائِرُكُمْ} .
4 -
المشاكلة {وَمَكَرُواْ. . وَمَكَرْنَا} سمَّى تعالى إهلاكهم وتدميرهم مكراً على سبيل المشاكلة.
5 -
الطباق {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} ؟
6 -
الاستفهام التوبيخي {أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟
7 -
أسلوب التبكيت والتهكم {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟
8 -
الاستعارة اللطيفة {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أمام نزول المطر فاستعار اليدين للأمام.
9 -
الطباق {يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} .
10 -
الاستعارة {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} استعار العمى للتعامي عن الحق وعدم التفكر والتدبر في آلاء الله.
11 -
مراعاة الفواصل مما يزيد في رونق الكلام وجماله، وله على السمع وقع خاص مثل {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَآ أَنْهَاراً} ومثل {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} . وأمثاله كثير، وفي القرآن روائع بيانية يعجز عن التعبير عنها اللسان، فسبحان من خصَّ نبيَّه الأمي بهذا الكتاب المعجز!!
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، ذكر هنا شبهات المشركين في الإِيمان بالآخرة والبعث والنشور، وأردفها بذكر الدلائل القاطعة، وذكر بعض الأهوال التي تكون بين يدي الساعة.
اللغَة: {رَدِفَ} اقترب ودنا {تُكِنُّ} تُسِرُّ وتخفي {دَاخِرِينَ} ذليلن صاغرين {فَوْجاً} الفوج: الجماعة {جَامِدَةً} الجمود: سكون الشيء وعدم حركته {أَتْقَنَ} الإِتقان: الإِتيانُ بالشيء على أحسن حالاته من التمام والكمال والإِحكام {كُبَّتْ} الكبُّ: الطرح والإِلقاء يقال: كببتُ الرجل ألقيتُه على وجهه، وكببتُ الإِناء قلبتُه.
التفسِير: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} أي قال مشركو مكة المنكرون للبعث: أئذا متنا وأصبحنا رفاً وعظاماً باليه، فهل سنخرج من قبورنا ونحيا مرة ثانية؟ {لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أي لقد وَعدنا محمدٌ بالبعث كما وعَدَ من قبله آباءنا الأولين، فلو كان حقاً لحصل {إِنْ هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا إلا خرافات وأباطيل السابقين. ينكرون البعث ونسون أنهم خُلقوا من العدم، وأن الذي خلقهم أولاً قادر على أن يعيدهم ثانياً! {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} أي قل لهؤلاء الكفار: سيروا في أرجاء الأرض {فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أي فانظروا - نظر اعتبار - كيف كان مآل المكذبين للرسل؟ ألم يهلكهم الله ويدمّرهم؟ فما حدث للمجرمين من قبل، يحدث للمجرمين من بعد، والآيةُ وعيدٌ وتهديد {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} تسلية للرسول عليه السلام أي لا تحزن يا محمد ولا تأسف على هؤلاء المكذبين إنْ لم يؤمنوا، ولا يضيقْ صدرك من مكرهم فإِن الله يعصمك منهم {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي يقولون استهزاءً: متى يجيئنا العذاب إن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم َ والمؤمنين {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} أي لعلَّ الذي تستعجلون به من العذاب قد دنا وقرُب منكم بعضه قال المفسرون: هو ما أصابهم من القتل والأسر يوم بدر {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذو إفضالٍ وإِنعامٍ على الناس بترك تعجيل عقوبتهم على معاصيهم وكفرهم {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعرفون حقَّ النعمة، ولا يشكرون ربهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي وإِنه تعالى ليعلم ما يُخْفون وما يعلنون من عداوة
الرسول وكيدهم له وسيجازيهم عليه {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السمآء والأرض إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي ليس من شيء في غاية الخفاء على الناس والغيبوبة عنهم إلا وقد علمه الله وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ عنده، فلا تخفى عليه سبحانه خافية قال ابن عباس: معناه ما من شيءٍ سرٌّ في السماوات والأرض أو علانية إلا وعند الله علمه {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} لما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد والنبوة، وكان القرآن من أعظم الدلائل والبراهين على صدق محمد وصدق ما جاء به، أعقبه هنا بذكر القرآن المجيد وذكر أوصافه والمعنى: إن هذا القرآن المنزَّل على خاتم الرسل لهو الكتاب الحق الذي يبين لأهل اكلتاب ما اختلفوا فيه من أمر الدين، ومن جملته اختلافهم في أمر المسيح وتفرقُهم فيه فرقاً كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً، فلو كانوا منصفين لأسلموا، لأن القرآن جاءهم بالرأي الساطع، والخبر القاطع {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} أي وإِنه لهداية لقلوب المؤمنين من الضلالة، ورحمة لهم من العذاب، قال القرطبي: وإِنما خصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به {إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} أي إن ربك يا محمد يفصل بين بني إسرائيل يوم القيامة بحكمه العادل، وقضائه المبرم، فيجازي المحقَّ والمبطل {وَهُوَ العزيز} أي المنيع الغالب الذي لا يُردُّ أمره {العليم} أي العليم بأفعال العباد فلا يخفى عليه شيء منهم {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوِّضْ إليه أمرك، واعتمد عليه في جميع شئونك فإنه ناصرك {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} أي إنك يا محمد على الدين الحق، الواضح المنير، فالعاقبة لك بالنصر على الكفار {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الموتى} أي لا تُسمع الكفار لتركهم التدبر والاعتبار، فهم كالموتى لا حسَّ لهم ولا عقل {وَلَا تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} أي ولا تُسمعهم دعاءَك ونداءك إِذا ذكَّرتهم بالله أو دعوتهم إلى الإِيمان، لأنهم كالصُّم الذين في آذانهم وقرٌ، فلا يستجيبون الدعاء، لا سيما إذا تولَّوا عنك معرضين، فإِن الأصمَّ إذا تولى مدبراً ثم ناديته كان أبعد عن السماعحيث انضمَّ إلى صممه بُعدُ المسافة {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ} أي وليس بوسعك يا محمد أن تصرف عُمي القلوب عن كفرهم وضلالهم {إِن تُسْمِعُ إِلَاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} أي ما تُسمع - سماع تدبر وإِفهام - إلا المؤمنين، ولا يستجيب لدعوتك إلاّ أهل الإيمان، وهم الذين انقادوا وأسلموا وجوههَم للرحمن.
. شبَّه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء، ثم شبههم ثانياً بالصم وبالعُمي وإِن كانوا سليمي الحواس، وأكَّد عدم سماعهم بقوله {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لأن الأصمَّ، وكالعُمي، لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل الكونية، أو الآيات القرآنية {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} هذا بيان لما يكون بين يدي الساعة أي وإِذا قَرُبَ نزول العذاب وقيام الساعة، وحان وقت عذاب الكفار {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} أي أخرجنا للكفار هذه الآية الكبيرة «دابة الأرض» تكلم الناس وتناظرهم وتقول من جملة كلامها: ألا لعنةُ الله على الظالمين، الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون بآيات
الله، وخروجُ الدابة من أشراط الساعة وفي الحديث
«لا تقوم الساعةُ حتى تروا عشر آياتٍ. . وعدَّ منها طلوع الشمس من مغربها، وخروجَ الدابة. .» الحديث قال ابن كثير: هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، عند فساد الناس وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، فتكلم الناس وتخاطبهم مخاطبة قال ابن عباس: تكلمهم كلاماً فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وروي أن خروجها حي ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيبٌ ولا تائب، وهي آية خاصة خارقة للعادة، ثم ذكر تعالى بعض مشاهد القيامة فقال {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أي واذكر يوم نجمع للحساب والعقاب من كل أمةٍ من الأمم جماعة وزمرة {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} أي من الجاحدين المكذبين بآياتنا ورسلنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُجمعون ثم يُساقون بعنف {حتى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} أي حتى إذا حضروا موقف الحساب والسؤال قال لهم تعالى مُوبِخاً ومُقرِّعاً: أكذبتم بآياتي المنزلة على رسلي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو معرفة صدقها؟ {أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقريع وتوبيخ آخر أيْ أيَّ شيء كنتم تعملون في الدنيا؟ وبَّخهم أولاً بقوله {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي} ثم اضرب عنه إلى استفهام تقرير وتبكيت كأنه قيل: دَعُوا ما نسبتُه إليكم من التكذيب وقولوا لي: أيَّ شيءٍ كنتم تعملونه في الدنيا غير التكذيب؟ {وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ} أي بُهِتوا فلم يكن لهم جواب، وقامت عليهم الحجة وحقَّ عليهم العذاب، بسبب ظلمهم وهو تكذيبهم بآيات الله {فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} أي فهم لا يتكلمون لأنه ليس لهم عذر ولا حجة، وقد شُغلوا بالعذاب عن الجواب. . ثم لما ذكر تعالى أهوال القيامة ذكر الأدلة والبراهين على التوحيد والحشر والنشر مبالغةً في الإِرشاد إلى الإِيمان فقال:{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} أي ألم يروا قدرة الله فيعتبروا أنه تعالى جعل الليل مظلماً ليناموا ويستريحوا من تعب الحياة، وجعل النهار منيراً مشرقاً ليتصرفوا فيه في طلب المعاش والرزق؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمةٍ إلى نور لآيات باهرة، ودلائل قاطعة على قدرة الله لقومٍ يصدّقون فيعتبرون، ثم أشار تعالى إلى أحوال الناس في الآخرة فقال {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلَاّ مَن شَآءَ الله} أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور «نفخة الفزع» فلا يبقى أحدٌ من أهل السماوات والأرض إلا خاف وفزع إلا من شار الله من الملائكة والأنبياء والشهداء قال المفسرون: هذه نفخة الفزع، ثم تتلوها نفخة الصَّعق - وهو الموت - ثم بعد ذلك نفخة النشور من القبور وهي نفخة القيام لرب العالمين، قال أبو هريرة: إن الملك له في الصور ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفزع - وهو فزع الحياة الدنيا - وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصَّعْق، ونفخة القيام من القبور {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أي وكلٌّ من الأموات الذين أُحيوا أتَوْا ربَّهم صاغرين مطيعين لم يتخلف منهم أحد {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي وترى أيها المخاطب الجبال وقت النفخة الأولى تظنها ثابتة في مكانها وواقفة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أي وهي
تسير سيراً سريعاً كالسحاب قال الإِمام الفخر: ووجه حسبانهم أنها جامدة أن الأجسام الكبار إذا تحركت سريعة على نهجٍ واحد ظنَّ الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً سريعاً {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي ذلك صنعُ الله البديع، الذي أكحم كل شيء خلقه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي هو عليم بما يفعل العباد من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
. ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم الرهيب فقال {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات، فإِن الله يضاعفها له إلى عشر حسنات، ويعطيه بالعمل القليل الثواب الأبدي {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} أي وهم من خوف ذلك اليوم العصيب آمنون كما قال تعالى {لَا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} قال ابن عباس: لاسيئة: الإِشراك بالله أي ومن جاء يوم القيامة مسيئاً لا حسنة له أو مشركاً بالله فإِنه يكبُّ في جهنم على وجهه منكوساً، ويُلقى فيها مقلوباً {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم توبيخاً: هل تُجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من سيء الأعمال؟ {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا} أي قل لهم يا محمد: لقد أُمرت أن أخصَّ الله وحده بالعبادة ربَّ لابلد الأمين الذي جعل مكة حرماً آمناً لا يُسفك فيها دم، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها ولا يُختلى خلاها كما جاء في الحديث الصحيح {وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} أي هو تعالى الالق والمالك لكل شيء فهو رب كل شيء ومليكه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي وأُمرتُ أن أكون من المخلصين لله بالتوحيد، المنقادين لأمره، المستسلمين لحكمه {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} أي أُمرتُ أيضاً بتلاوة القرآن لتنكشف لي حقائقه الرائعة، وأن أقرأه على الناس {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي فمن اهتدى بالقرآن، واستنار قلبه بالإِيمان، فإِن ثمرة هدايته راجعة إليه {وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين} أي ومن ضلَّ عن طريق الهدى، فوبالُ ضلاله مختص به، إذْ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغتكم رسالة الله {وَقُلِ الحمد للَّهِ} أي قل يا محمد: الحمد لله على ما خصني به من شرف النبوة والرسالة، وما أكرمني من رفيع المنزلة والمقام {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} تهديد ووعيد أي سيريكم آياته الباهرة الدالة على عظيم قدرته وسلطانه في الأنفس والآفاق فتعرفونها حين لا تنفعكم المعرفة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي وما ربك بغافل عن أعمال العباد بل هو على كل شيء شهيد، وفيه وعدٌ ووعيد.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستفهام الإِنكاري {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وتكرير الهمزة {أَإِنَّا} للمبالغة في التعجب والإِنكار.
2 -
الوعيد والتهديد {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} .
3 -
التأكيد بإِن واللام {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ} {وَإِنَّهُ لَهُدًى} .
4 -
الطباق {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} لأن معنى {تُكِنُّ} تخفي.
5 -
الاستعارة البديعة {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ} لأن القصص لا يوصف به إلا الناطق المميز، ولكنَّ القرآن لما تضمَّن نبأ الأولين، كان الشخص الذي يقصُّ على الناس الأخبار ففيه استعارةٌ تبعية.
6 -
المبالغة {العزيز العليم} لأن صيغة فعيل من صيغ المبالغة.
7 -
الاستعارة التمثيلية {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الموتى} التعبير بالموتى، والصم، والعمي، جاء كله بطريق الاستعارة، وهو تمثيل لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإِيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.
8 -
أسلوب التوبيخ والتأنيب {أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؟
9 -
الطباق {مَن جَآءَ بالحسنة. . وَمَن جَآءَ بالسيئة} .
10 -
التشبيه البليغ {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أي تمرُّ كمرِّ السحاب في السرعة، حذفت الأداة ووجه الشبه فأصبح تشبيهاً بليغاً مثل محمد قمر.
11 -
الإِحتباك {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} حُذف من أوله ما أُثبت في آخره وبالعكس، أصله جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً للتصرفوا فيه فحذف «مظلماً» لدلالة «مبصراً» عليه، وحذف «لتتصرفوا فيه» لدلالة {لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} وهذا النوع يسمى الإِحتباك وهم من المحسنات البديعية.
اللغَة: {شِيَعاً} فِرقاً وأصنافاً {يَسْتَحْيِي} يتركه حيّاً ولا يقتله {نَّمُنَّ} نتفضل وننعم {اليم} البحر {فَارِغاً} خالياً {المراضع} جمع مُرضِع، وأما المرضعة فجمعها مرضعات وهي التي ترضع الطفل اللبن {عَن جُنُبٍ} عن بعد ومنه الأجنبي للبعيد غير القريب {وَكَزَهُ} الوكز: الضرب بجُمْع الكف أي بكفه مجموعةً قال أهل اللغة: الوكزُ واللكز كلاهما بمعنى واحد وهو الضرب بجمع
الكفّ على الصدر، وقيل: الوكز في الصدر، واللكزُ في الظهر، وجمع الكف: الكف المقوضةُ الأصابع {ظَهِيراً} عوناً {يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ لأن المستغيث يصرخ ويرفع صوته طلباً للغوث قال الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فرعٌ
…
كان الصراخ له قرع الظنابيب
{يَبْطِشَ} البطش: الأخذ بالشدة والعنف، بطش ويبطش ويبطش بالكسر والضم.
التفسِير: {طسم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق} أي نقرأ عليك يا محمد بواسطةالروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقومٍيصدقون بالقرآن فينتفعون. . ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأرض} أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أيجعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنوا إسرائيل فيسومهم سوء العذاب {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس:{أَئِمَّةً} قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض} أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعيد للتسليط وإطلاق الأمر {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره «هامان» والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل {وَأَوْحَيْنَآ
إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على «عمران بن حصين» فلم يكن نبياً {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - {وَلَا تَخَافِي وَلَا تحزني} أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءٍ وهلاك قال القرطبي: اللام في «ليكون» لا العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صال لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر:
وللمنايا تُربِّي كلُّ مرضعةٍ
…
ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها
{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى {لَا تَقْتُلُوهُ} أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد {عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيه سيكون على يديه وبسببه {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أي صار قلبها خاليا ً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي إنها كادت ان تشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قالت أم موسى لأخت موسى: إتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد: قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به؟ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته،
لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ} أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي اي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه؟ {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل هديٍ إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} أي أعدناه إليها تحقيقاً للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أَكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى} أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي مثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ} أي فاستنجد الإِسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم على فعله {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} أي إني ظلمت نفسي بقتل النفس فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد
موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه {قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيَّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى؟ {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي {قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس؟ {إِن تُرِيدُ إِلَاّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 -
الإِشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبته في الكمال {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} .
2 -
حكاية الحالة الماضية {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} لاستحضار تلك الصورة في الذهن.
3 -
إيثارالجملة الإِسمية على الفعلية {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} ولم يقل سنرده ونجعله رسولاً وذلك للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الإِسمية تفيد الثبوت والإِستمرار.
4 -
الاستعارة {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع واستعار لفظ الربط للصبر.
5 -
صيغة التعظيم {لَا تَقْتُلُوهُ} تخاطب فرعون ولم تقل لا تقتله تعظيماً له.
6 -
صيغة المبالغة {جَبَّار، غَوِيٌّ، مُّبِينٌ} لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
7 -
الطباق المعنوي {جَبَّاراً. . وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} لأن الجبار المفسد المخرّب، المكثر للقتل وسفك الدماء ففيه طباق في المعنى.
8 -
الاستعطاف {رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} .
9 -
توافق الفواصل في كثير من الآيات مثل {وَهُمْ لَا يَشْعُرُون} {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: «حكى العلَاّمة القرطبي عن الأصمعي أنه قال سمعت جارية أعرابية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كله
…
قتلتُ إنساناً بغير حلِّه
مثل الغزال ناعماً في دله
…
انتصف الليل ولم أُصلِّه
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أو يعد فصاحة مع قول الله عز وجل {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلَا تَخَافِي وَلَا تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} فقد جمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين» .
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى، وقد تناولت الآيات السابقة قصة ولادته وإرضاعه، وتربيته في بيت فرعون إلى أن شبَّ وبلغ سنَّ الرشد والكمال، ثم قتله للفرعوني، وتتحدث الآيات هنا عن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب، ثم عودته إلى مصر، ونزول النبوة عليه، وهلاك فرعون على يديه.
اللغَة: {يَأْتَمِرُونَ} يتشاورون قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً {تَذُودَانِ} ذاد يذود إذا حبس ومنع، طرد قال الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم
…
فما تدري بأي عصى تذود
{خَطْبُكُمَا} الخطب: الشأن قال رؤية: «يا عجباً ما خطبه وخطبي» {الرعآء} جمع راعٍ مثل صاحب وصحاب وهو الذي يرعى الغنم {حِجَجٍ} جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة {جَذْوَةٍ} الجذوة: الجمرة الملتهبة {رِدْءاً} عوناً قال الجوهري: أرادأتُه أعنته، وكنتُ له ردءاً أي عوناً {المقبوحين} الهالكين المبعدين أو القبيحين في الصورة يقال: قَبَّحه إذا جعله قبيحاً.
التفسِير: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس: هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي قال له موسى: إن أشراف فرعون، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك {فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصودي قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر - مركب - وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ} أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء {قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا} ؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء؟ ولم لا تسقيان مع السقاة؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان: فيه اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيهٌ على ان اأباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطافٌ لموسى في إعانتهما {فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل} أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك: مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس: سار موسى من مصر إلأى «مدين» ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمره {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء} في الكلام اختصار تقديره: فذهبنا إلى أبيهما سريعتين، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي.
. الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر: لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجه ولَاّجه {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير: وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب: لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره} أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان: وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذ اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود، روي أن شعيباً قال لها: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فقالت: إنه رفع الصخرةالتي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي: كوني من ورائي ودليني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزيجه بإحدى بناته {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي وما أُريد أن أوقعك
في المشقة باشتراط العشر {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة، ليِّن الجانب، وفيأ بالعهد قال القرطبي: في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل، وهذه سُنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم َ فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداءً بالسلف الصالح {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي قال موسى: إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراص عن بعد قال لامفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله لاطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على لاطريق فذلك قوله تعالى {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي لعلي آتيكم بخيبر الطريق وأرى من يدلني عليه {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة {أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} اي نودي يا موسى إأن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصى إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السَريعة مع عِطِم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها حادرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك {ياموسى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ
الآمنين} أي فنودي يا موسى: إرجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فعادت عصا {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةُ منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعن واشراف قومه الطُغاة المتجبرين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} أي هو أوضح بياناً، وأطلق لساناً، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين {إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني، قال الرازي: والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إِظهار الحجة والبيان، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول ل: صدقتَ، أو يقول للناس: صدقَ موسى، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل به الكفار {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له: سنقوّيك بأخيك ونعينك به، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى
{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]{فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة، والمعجزات القاطعة، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله {قَالُواْ مَا هاذآ إِلَاّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله {وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى - التوحيد - في آبائنا وأجدادنا السابقين {وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى: إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون، ويعلم من
تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً، كاذباً على الله {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم: ما علمتُ لكم إليهاً غيري قال ابن عباس: كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] أربعون سنة، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً} أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} أي وإني لأظن موسى كاذباً ف يادعائه أن في السماء رباً قال تعالى {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإِيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم {وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مآل هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات؟ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال {وَيَوْمَ القيامة لَا يُنصَرُونَ} أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} أي جعلنا اللغنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين} أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عز وجل.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التأكيد بإِنَّ واللام {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} مناسبةً لمقتضى الحال.
2 -
الاستعطاف والترحم {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .
3 -
جناس الاشتقاق {وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} .
4 -
التشبيه المرسل المجمل {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حذف وجه الشبه فأصبح مجملاً.
5 -
الطباق بين {يُصَدِّقُنِي. . ويُكَذِّبُونِ} .
6 -
الكناية {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنى عن اليد بالجناح، لأنها للإنسان كالجناح للطائر.
7 -
المجاز المرسل {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} من إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة، قال الشهاب، ويمكن أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية، شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بيد شديدة.
لطيفَة: قال الزمخشري: إنما {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} أي أوقد لي النار فأتخذ منه آجراً ولم يقل «أطبخ لي الآجر» لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وهامان وزيره ومدبّر رعيته.
المنَاسَبَة: بعد أن ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل بإهلاك فرعون رأس الطغيان وتخليصهم من شره، ذكر هنا ما أنعم عليهم من إنزال التوراه التي فيها الهدى والنور، كما ذكر نعمته على العرب بإنزال القرآن العظيم خاتمة الكتب السماوية.
اللغَة: {ثَاوِياً} مقيماً وثوى بالمكان أقام به قال الشاعر:
…
{يَدْرَؤُنَ} يدفعون، والدرءُ: الدفع وفي الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات» {يجبى} يجمع، جبى الماء في الحوض جمعه، والجابية: الحوض العظيم {بَطِرَتْ} البطر: الطغيان في النعمة {الأنبآء} الأخبار جمع نبأ وهو الخبر الهام.
سَبَبُ النّزول: لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: يا عم قل «لا إله إلا الله» أشهد لك بها يوم القيامة أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله عز وجل {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} .
التفسِير: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} اللام موطئة للقسم أي والله لقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وغيرهم من المكذبين لرسلهم {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} أي ضياءً لبني إسرائيل ونوراً لقلوبهم يتبصرون بها الحقائق، ويميزون بها بين الحق والباطل {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي وهدى من الضلالة، ورحمة لمن آمن بها ليتعظوا بما فيها من المواعظ والإِرشادات الإِلهية {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الذي كلّم الله تعالى به موسى {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} أي حين أوحينا إلى موسى بالنبوة وأرسلناه إلى فرعون وقومه {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي وما كنت من الحاضرين في ذلك المكان، ولكن الله أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهاناً على صدقك قال ابن كثير: يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم َ حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأنَّ سامعه شاهد وراء لما تقدَّم، وهو رجل أُميّ لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه إليك لتخبرهم بتلك المغيبات {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} أي ولكنَّنا خلقنا أُمماً وأجيالاً من بعد موسى، فتطاول عليهم الزمان، وطالت الفترة فنسوا ذكر الله، وبدَّلوا وحرفوا الشرائع فأرسلناك يا محمد لتجدّد أمر الدين قال أبو السعود: المعنى ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى فروناً كصيرة، فتمادى عليهم الأمر، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء فأوحينا إليك، فحذف المستدرك اكتفاءً بذكر الموجب {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي وما كنتَ يا محمد
مقيماً في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي ولكنا أرسلناك في أهل مكة وأخبرناك بتلك الإخبار، ولولا ذلك لما علمتها {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي وما كنتَ أيضاً بجانب جبل الطور وقت ندائنا لموسى وتكليمنا إياه {ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} أي لم تشاهد شيئاً من أخبار وقصَص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، رحمةً من ربك لتخوّف قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما جئتهم به من الآيات البينات، فيدخلوا في دينك قال المفسرون: المراد بالقوم الذي نكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وهي نحوٌ من ستمائة سنة {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي ولولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي فيقولوا عند ذلك ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فتتبعها ونكون من المصدقين بها! {قال القرطبي: وجواب {لولا} محذوف وتقديره لما بعثنا الرسل، وقال في التسهيل:{لولا} الأولى حرف امتناع، و {لولا} الثانية عرضٌ وتخضيض، والمعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإِعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك ونكون من المؤمنين، ثم أخبر تعالى عن عناد المشركين وتعنتهم في ردِّ الحق فقال {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} أي فلما جاء أهل مكة الحقُّ المبين وهو محمد بالقرآن المعجز من عندنا قالوا - على وجه التعنت والعناد - هلاّ أُعطي محمد من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة مثل ما أُعطي موسى من العصا واليد} {قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ؟} أي أو لم يكفر البشر بما أُوتي موسى من تكل الآيات الباهرة؟} قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد: ائتنا بمثل ما جاء به موسى من المعجزات، فردَّ الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، فالضمير في {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ} لليهود، وهذا اختيار ابن جرير وقال أبو حيان: ويظهر عندي أن الضمير عائد على قريش الذين قالوا لولا أُوتي محمد مثل ما أُوتي موسى، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم َ تكذيبٌ لموسى، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء من وادٍ واحدٍ فمن نسب إلأى أحدٍ من الأنبياء ما لا يليق كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء، وتتناسق حينئذٍ الضمائر كلُّها {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي وقال المشركون ما التوراة والقرآن إلا من قبيل السحر، فهما سحران تعاونا بتصديق كل واحدٍ منهما الآخر قال السُدّي: صدَّق كل واحدٍ منهما الآخر {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي إنّا بكل من الكتابين كافرون قال أبو السعود: وهذا تصريحٌ بكفرهم بهما وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ} أمرٌ على وجه التعجيز أي قل لهم يا محمد إنكم إذْ
كفرتم بهذين الكتابين مع ما تضمنا من الرائع والأحكام ومكارم الأخلاق فائتوني بكتاب منزلٍ من عند الله أهدى منهما وأصلح أَتمسك به {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في انهما سحران قال ابن كثير: وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب ان الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم َ وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى، وهو الكتاب الذي قال فيه
{إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] والإِنجيلُ إنما أُنزل متمماً للتوراة ومُحلاً لبعض ما حُرم على بني إسرائيل {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} أي فإن لم يجيبوك إلى ما طلبته منهم فاعلم أن طفرهم عنادٌ واتباع للأهواء لا بحجةٍ وبرهان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} أي لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه بغير رشادٍ ولا بيانٍ من الله {إِنَّ الله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوفق للحق من كان معانداً ظالماً، بالانهماك في اتباع الهوى، والإِعراض عن سبيل الهدى {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن - من مسلمي أهل الكتاب - هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ من أهل الكتاب {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ} أي وإذا قرئ عليهم القرآن قالوا صدقنا بما فيه {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمد ونيزل عليه القرآن قال تعالى {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث
«ثلاثة يُؤْتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي. .» الحديث {بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرهم على اتباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم َ فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبد الله بن سلام {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة} أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه {وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا طريقنا ولكم طريقكم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي سلام متاركة ومباعدة قال
الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة {لَا نَبْتَغِي الجاهلين} أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لك أعرضتم عن دينكم وتركتموه! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالكم. مدحهم تعالى بالإِيمان، ثم مدحهم بالإِحيان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان، ثم قال تعالى مخاطباً رسوله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإِيمان فيهديه قال المفسرون: نزلت في عمه «أبي طالب» حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى قال أبو حيان: ومعنى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ثم قال: ولا تنافي بين هذا وبين قوله {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] لأن معنى هذا: وإنك لترشد، وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في «أبي طالب» ثم ذكر تعالى شبهةً من شبهات المسركين وردَّ عليها بالبيان الواضح فقال {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} أي وقال كفار قريش: إن اتبعناك يا محمد على دينك وتركنا ديننا نخاف أن تتخطفنا العرب فيجتمعون على محاربتنا، ويخرجوننا من ارضنا، قال المبرد: والتخطُّف الانتزاع بسرعة، قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} أي أولم نعصمْ دماءهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن، بحرمة البيت العتيق؟ فكيف يكونالحرم آمناً لهم في حال كفرهم، ولا يكون آمناً لهم في حال إسلامهم؟ {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} أي تُجْلب إليه الأرزاق من كل مكان مع أنه بوادٍ غيرذي زرع رزقاً لهم من عندنا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة لا يتفكرون في ذلك ولا يتفطنون قال أبو حيان: قطع الله حجتهم بهذا البيان الناصع إذْ كانوا وهم كفارٌ بالله، عباد أصنام قد أمِنوا في حرمهم، والناصُ في غيره يتقاتلون وهم مقيمون في بلدٍ غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثيرمن أهل قريةٍ طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فدمَّر الله عليهم وخرب ديارهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَاّ قَلِيلاً} أي فتلك مساكنهم خاويةً بما ظلموا لم تسكن من بعد تدميرهم إلَاّ زماناً قليلاً إذْ لا يسكنها إلا المارَّةُ والمسافرون يوماً أو بعض يومٍ {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} أي وكنا نحن الوارثين لأملاكهم ودجيارهم قال في البحر: والآية تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن، وخفض العيش، فكفروا النعمة وقابلوها بالاشر والبطر فدمرهم الله وخرب ديارهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} أي ما جرت عادة الله جل شأنه أن يهلك أهل القرى الكافرة {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي حتى يبعث في أصلها وعاصمتها رسولاً يبلغهم رسالة الله لقطع الحجج والمعاذير {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلَاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي وما كنا لنهلك القرى إلا وقد استحق أهلها
الإِهلاك، لإِصرارهم على الكفر بعد الإِعذار إليهم ببعثة المرسلين قال القرطبي: أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإِهلاك بظلمهم، وفي هذا بيانٌ لعدله وتقدّسه عن الظلم، ولا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلاّ بعد تأكيد الحجة والإِلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه تعالى بأحوالهم حجة عليهم {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا} أي وما أعطيتم أيها الناس من مالٍ وخيرٍ فهو متاعٌ قليل تتمتعون به في حياتكم ثم ينقضي ويفنى قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} أي وما عنده من الأجر والثواب، والنعيم الدائم الباقي خير وأفضل من هذا النعيم الزائل {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ توبيخٌ لهم أي أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟ قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى ان منافع الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ، بل المضارُّ فيها أكثر، ومنافع الآخرة غير منقطعة، بينما منافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحدٍ من الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر، فمن لم يرجَّح منافع الآخرة على منافع الدنيا يكون كأنه خارجٌ عن حدّ العقل {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ} أي أفمن وعدناه وعداً قاطعاً بالجنة وما فيها من النعيم المقيم الخالد، فوه لا محالة مدركه لن وعد الله لا يتخلف {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا} ؟ أي كمن متعناه بمتاع زائل، مشوب بالأكدار، مملوءٍ بالمتاعب، مستتبع للحسرة على انقطاعه؟ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} أي ثم هو في الآخرة من المحضرين للعذاب، فهل يساوي العاقل بينهما؟ قال ابن جزي: والآية ايضاحٌ لما قبلها من البون الشاسع بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه المؤمنين، وبمن متعناه الكافرين {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي واذكر حال المشركين يوم يناديهم الله فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: أين هؤلاء الشركاء والآلهة من الأصنام والأنداد الذين عبدتموهم من دوني، وزعمتم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم؟ {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي قال رؤساءهم وكبراؤهم الذين وجب عليهم العذاب لضلالهم وطغيانهم {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ} أي هؤلاء أتباعنا الذين أضللناهم عن سبيلك {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي أضللناهم كما ضللنا، لا بالقس والإِكراه ولكن بطريق الوسوسة وتزيين القبيح فضلّوا كما ضللنا نحن {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي بترأنا إليك يا ألله من عبادتهم إيانا، فما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} أي وقيل للكفار استغيثوا بالتهكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم عذاب الله، وهذا على سبيل التهكم بهم {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، وهذا من سخافة عقولهم {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} أي وتمنَّوا حين شاهدوا العذاب لو كانوا مهتدين قال الطبري: أي فودُّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين} توبيخٌ آخر للمشركين
أي ويم يناديهم الله ويسألهم: ماذا أجبتم رسلي؟ هل صدقتموهم أم كذبتموهم؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَآءَلُونَ} أي فخفيت عليهم الحجج، وأظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون، فهم حيارى واجمون، لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والحيرة {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي فأمّا من تاب من الشرك، وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح فعسى أنيكون من الفائزين بجنات النعيم قال الصاوي: والترجي في القرآن بمنزلة التحقق، لأنه وعد كريم من ربٍّ رحيم، ومن شأنه تعالى أنه لا يخلف وعده {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} أي هو تعالى الخالق المتصرف، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه قال مقاتل: نزلت في «الوليد بن المغيرة» حين قال
{لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]{مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي مان أحدٍ من العباد اختيار، إنما الاختيار والإِرادة لله وحده {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله العظيم الجليل وتقدس أن ينازعه أحدٌ في ملكه، أو يشاركه في اختياره وحكمته قال القرطبي: المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، والخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة، فليس لأحدٍ من خلقه أن يختار عليه {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي هو تعالى العالم بما تخفيه قلوبهم من الكفر والعداوة للرسول والمؤمنين، وما يظهرونه على ألسنتهم من الطعن في شخص رسوله الكريم حيث يقولون: ما أنزل الله الوحي إلا على يتيم أبي طالب! {وَهُوَ الله لا إله إِلَاّ هُوَ} أي هو جل وعلا اللهُ المستحقُ للعبادة، لا أحد يستحقها إلا هو {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} أي له الثناء الكامل في الدنيا والفصل بين العباد {وَلَهُ الحكم} أي وله القضاء النافذ والفصل بين العباد {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، فيجازي كل عاملٍ بعمله.
البَلَاغَة: تضمنت الآياتُ الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التشبيه البليغ {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} أي أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حذف أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً قال في حاشية البيضاوي: أي مشبهاً بأنوار القلوب من حيث إن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء لا تستبصر، ولا تعرف حقاً من باطل.
2 -
المجاز العقلي {أَنشَأْنَا قُرُوناً} المرادبه الأمم لأنهم يخلقون في تلك الأزمنة فنسب إلأى القرون بطريق المجاز العقلي.
3 -
جناس الاشتقاق {تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} .
4 -
المجاز المرسل {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} والمراد بما كسبواوهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي.
5 -
حذف الجواب لدلالة السياق {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} حذف منه الجواب وتقديره: ما أرسلناك يا محمد رسولاً إليهم وهو من باب الإِيجاز بالحذف.
6 -
التخضيض {لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} أي هلَاّ أُوتي فهي للتحضيض وليست حرف امتناع لوجود.
7 -
التعجيز {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ} فالأمر خرج عن حقيقته إلى معنى التعجيز.
8 -
طباقُ السلب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي. . ولكن الله يَهْدِي} .
9 -
المجاز العقلي {حَرَماً آمِناً} نسب الأمن إلى الحرم وهو لأهله.
10 -
أسلوب السخرية والتهكم {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ .
11 -
التشبيه المرسل {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} . 12 - الاستعارة التصريحية التبعية {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء} قال الشهاب: استعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وأصله «فعموا عن الأنباء» وضُمّن معنى الخفاء فعدي ب {على} ففيه أنواعٌ من البلاغة: الاستعارة، والقلب، واتلضمين.
13 -
الطباق بين {مَا. . ويُعْلِنُونَ} وبين {الأولى. . والآخرة} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: ما ذُكر أن «أبا طالب» مات على غير الإِيمان هو الصحيح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، ونقل عن بعض شيوخ الصوفية أنه أسلم قبل موته، وهو معارضٌ للنصوص الكريمة ولعلهم أخذوه من بعض أشعار أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمتُ بأنَّ دين محمدٍ
…
من خير أديان البرية ديناً
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أُوسَّد في التراب دفيناً
أقول: ماذا يعني هذا الكلام بعد امتناعه عن الدخول في الإسلام والنطق بالشهادة؟
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أنه هو الخالق المختار، وسفَّه المشركين في عبادتهم لغير الله، عقَّبه بذكر بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه، تذكيراً للعباد بوجوب شكر المنعم، ثم ذكر قصة «قارون» وهي قصة الطغيان بالمال، وما كان من نهايته المشئومة حيث خسف الله به وبكنوزه الأرض، وهذه نتيجة الاستعلاء والغرور والطغيان.
اللغَة: {سَرْمَداً} السرمد: الدائم الذي لا ينقطع ومنه قول طرفه:
لعمرك ما أمري عليَّ بغمةٍ
…
نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد
{مَفَاتِحَهُ} جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وأما المفتاح فجمعه مفاتيح. {تَنُوءُ} ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله قال ذو الرمَّة:
تنوء بأُخراها فلأْياً قيامها
…
وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فتبهر
{العصبة} الجماعة الكثيرة ومثلها العصابة ومنه قوله تعالى {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] سميت الجماعة
عُصبة لأن بعضهم يتعصب لبعض ويتقوى به {وَيْكَأَنَّ} قال الجوهري: «ويْ» كلمةُ تعجب وقد تدخل على «كأن» فتقول: ويكأنَّ، وقيل إنها كلمة تستعمل عند التنبه للخطأ وإظهار الندم قال الخليل، إن القوم تنهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ {ظَهيراً} معيناً ومساعداً.
التفسِير: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة: أخبروني لو جعل الله عليكم اللل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} ؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى؟ {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي من هو الإِله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى؟ {أَفلَا تُبْصِرُونَ} أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار} أي ومن آثار قدرته، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر: نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولولا الراحة والسكون بالليل، فلا بدَّ منهما في الدنيا، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قال ابن كثير: هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر، يناديهم الرب على رءوس الأشهاد: أين شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا؟ {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، هذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ} أي فلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله، وأنه لا إله إلا هو {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد، ثم ذكر تعالى قصة «قارون» ونتيجة الغرور والطغيان فقال {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى} أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس: كان ابن عم موسى {فبغى عَلَيْهِمْ} أي تجبر وتكبر على قومه، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري: أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} أي أعطيناه من الأموال الوفيرة، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح
خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الفرحين} أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة} أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} قال الحسن: أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} أي أحسن إلى عبادِ الله كما أحسن الله إليك {وَلَا تَبْغِ الفساد فِي الأرض} أي لا تطلب بهذا المال البغي والتطاول على الناس، والإِفساد في الأرض بالمعاصي {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ المفسدين} أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى: إنما أُعطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال {قال تعالى رداً عليه {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً؟} قال البيضاوي: والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لنه عالمٌ بكل شيء، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة، ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي فخرج قارون على قومه في أظهر زينةٍ وأكملها قال المفسرون: خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، علىخيولٍ موشحةٍ بالذهب، ومعها اجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا: يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم} أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري: أصل {وَيْلَكُ} الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع، والبعث على ترك ما لا يرتضى {وَلَا يُلَقَّاهَآ إِلَاّ الصابرون} أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه، جزاءً على عتوه وبطره {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ} أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه
عذاب الله {الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} أي وما كان المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} أي وصار الذين تمنوا منزلتُه وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني: اعجبوا أيها القوم من صنع الله، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه، ويضيّق الرزق على من يشاء من عباده - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه!! قال الزمخشري:{وَيْكَأَنَّ} كلمتان «وَيْ» مفصولة عن «كأنَّ» وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا {لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا} أل لولا أنَّ الله لطف بنا، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة، ولم يعطنا ما تمنيناه {لَخَسَفَ بِنَا} أي لكان مصيرنا مصير قارون، وخسف بنا الأرض كما خسفها به {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في ادنيا، ولا في الآخرة.
. وإلى هنا تنتهي «قصة قارون» وهي قصة الطغيان بالمال، بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى، ثم يأتي التعقيب المباشر في قوله تعالى {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلَا فَسَاداً} الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلَا يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلَاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس: معناه لرادك إلى مكة، وقال الضحال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم َ من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه هذه الآية {قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء، ويجازي كلاً بعمله، وهو جواب لقول كفار مكة: إنك يا محمد في ضلالٍ مبين {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي وما كنت تتطمع أن تنال النبوة، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال
الفراء: وهذا استثناء منقطع والمعنىإلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ} أي لا تكن عوناً لهم على دينهم، ومساعداً لهم على ضلالهم، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون: دعا المشركون الرسول إلى دين آبائه، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات {وادع إلى رَبِّكَ} أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} أي بمسايرتهم على أهوائهم، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم {وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا تعبد إلهاً سوى الله {لَا إله إِلَاّ هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي: وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة، أطلق الوجه وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي، الحيُّ القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26 - 27]{لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي له القضاء النافذ في الخلق، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التبكيت والتوبخ {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} ؟ ومثله {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ} ؟ .
2 -
اللَّف والنشر المرتب {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار} جمع الليل والنهار ثم قال {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} فأعاد السكن إلى الليل، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار، ويسمى هذا عند علماء البديع اللف والنشر المرتب، لأن الأول عاد على الأول، والثاني عاد على الثاني وهو من المحسنات البديعية.
3 -
جناس الاشتقاق {لَا تَفْرَحْ. . الفرحين} ومثله {الفساد. . المفسدين} .
4 -
تأكيد الجملة ب {إِنَّ} و (اللام){إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} لأن السامع شاك ومتردّد.
5 -
الكناية {تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} كنَّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس.
6 -
الطباق {يَبْسُطُ الرزق. . وَيَقْدِرُ} .
7 -
المقابلة اللطيفة {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلَا يُجْزَى. .} الآية.
8 -
المجاز المرسل {إِلَاّ وَجْهَهُ} أطلق الجزء وأراد الكل أي ذاته المقدسة ففيه مجاز مرسل.
لطيفَة: قال بعض العلماء: من لم تشبعه القناعة لم يكفه ملك قارون وأنشدوا:
هي القناعة لا تبتغي بها بدلاً
…
فيها النعيم وفيها راحةُ البدن
انظر لم ملك الدنيا بأجمعها
…
هل راح منها بغير القطن والكفن؟
اللغَة: {فِتْنَةَ} الفتنة: الابتلاء والاختبار {أَثْقَالَهُمْ} جمع ثقل وهو الحمل الثقيل الذي ينوء به الإِنسان، والمراد بالأثقال هنا الذنوب والأوزار {لَبِثَ} أقام ومكث {إِفْكاً} كذباً وزوراً {تُقْلَبُونَ} تُرجعون وتُردون.
سَبَبُ النزول: عن سعد بن أبي وقاص قال: «كنت رجلاً باراً بأمي فلما أسلمتُ، قالت: ما هذا الدين الذي أحدثت يا سعد؟ لتدَعن دينك هذا أو لا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه، قلتُ: لا تفعلي يا أماه، فإِني لا أدع ديني هذا لشيءٍ أبداً، قال: فمكثتْ يوماً وليلةً لا تأكل، فأصبحت قد جُهدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلةً لا تأكل، فلما رأيتُ ذلك قلت: تعلمين واللهِ يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائةُ نفسٍ فخرجت نفساً نفْساً ما تركتُ ديني هذا لشيءٍ أبداً، فإِن شئت فكلي، وإِن شئتِ فَدعي، فلم رأتْ ذلك أكلت فأنزل الله هذه الآية {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَآ. .} الآية.
التفسِير: {الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتنان لمجرد قولهم باللسان آمنا؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي: نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، منهم» عمار بن ياسر «وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، لوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبات على الإِيمان، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان، وبين الكاذبين فيه، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل {الذين صَدَقُواْ} وعن الكاذبين باسم الفاعل {الكاذبين} للإِشارة إلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف
الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد، قال الإِمام الفخر: إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه، والفعل الماضي لايدل عليه كما يقال: فلانٌ شرب الخمر، وفلانٌ شاربُ الخمر، فإِنه لايفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا؟ {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يظنون قال الصاوي: والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان، وكلُّ ما هو آتٍ قريب، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم {وَهُوَ السميع العليم} أي هو تعالى السميع لأقوال العباد، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، والكف عن الشهوات، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه {إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} أي مستغنٍ عن العباد، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إِيمانهم وعملهم الصالح {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم لاصالحة وهو الطاعات {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصواي: وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَآ} أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأجازي كلاً بما عمل، وفيه وعدٌ حسن لمن برَّ والديه وابتع الهدى، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي: كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس إلى نيل مراتبهم، وفي {الصالحين} مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} أي ومن الناس
فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله، فإِذا أُوذي أحدهم بسبب إِيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإِيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإِنسان عن الكفر قال المفسرون: التشبيه {كَعَذَابِ الله} من حيث إِن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإِيمان، وكان مقتضى إِيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة، وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين قال الإِمام الفخر: أقسام المكلفين ثلاثة: مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإِيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} ذكر القسم الثالث هنا {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله} واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر، وخسَّة المنافق الكافر، فقال هناك: أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإِيمان، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون: إنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} ؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر، ولما في قلوب الناس من إِيمان ونفاق؟ بلى إِنه بكل شيء عليم، ثم أكد تعالى ذلك بقوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون: والمراد {وَلَيَعْلَمَنَّ الله} إِظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم، وإِلا فالله عالم بما كان، وما يكون، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية، فهو إِذاً علمٌ إِظهار وإِبداء، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة لله تعالى، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإِثم والعقاب، إِن كان هناك عقاب قال ابن كثير: كما يقول القائل: افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي، فإِن قيل {وَلْنَحْمِلْ} صيغة أمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص؟ فنقول: الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إِن اتبعتمونا حملنا خطاياكم {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ} أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم، لأنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وإِنهم لكاذبون في ذلك، ثم قال تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أزوار أولئك شيء كما في الحديث
«ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من اتّبعه من غير أن يَنْقص من آثامهم» {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة} أي وليسألنَّ سؤال توبيخ وتقريع {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي
عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله عز وجل، ثم ذكر تعالى لرسوله صلى الله عيه وسلم قصة نوح تسليةً له عما يلقاه من أذى المشركين فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} أي ولقد بعثنا نوحاً إلى قومه فمكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة سنة يدعوهم إلى توحيد الله جلَّ وعلا، وكانوا عبدة أصنام فكذبوه {فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأهلكهم الله بالطوفان وهم مصرّون على الكفر والضلال قال أبو السعود: والطوفان: كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة، من السيل والريح والظلام، وقد غلب على طوفان الماء قال الرازي: وفي قوله {وَهُمْ ظَالِمُونَ} إِشارة إلى لطيفة، وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم، وإِنما يعذب على الإِصرار على الظلم ولهذا قال {وَهُمْ ظَالِمُونَ} يعني أهلكهم وهم على ظلمهم {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} أي فأنجينا نوحاً من الغرق ومن ركب معه في السفينة من أهله وأولاده وأتباعه المؤمنين {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا تلك الحادثة الهائلة عظة وعبرة للناس بعدهم يتعظون بها {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه} قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله «إِبراهيم» إِمام الحنفاء، أنه دعا قومه إِلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإِخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده، وتوحيده في الشكر فإِنه المشكور على النعم لا مُسدي لها غيره {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي عبادة الله وتقواه خير لكم من عبادة الله الأوثان إِن كنتم تعلمون الخير من الشر وتفرقون بينهما {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي أنتم لا تعبدون شيئاً ينفع أو يضر، وإِنما تعبدون أصناماً من حجارة صنعتموها بأيديكم {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي وتصنعون كذباً وباطلاً قال ابن عباس: تنحتون وتصورون إِفكاً {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي إِن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يقدرون على أن يرزقوكم {فابتغوا عِندَ الله الرزق} أي فاطلبوا الرزق من الله وحده، فإِنه القادر على ذلك {واعبدوه واشكروا لَهُ} أي وخصوه وحده بالعبادة واخشعوا واخضعوا له، واشكروه على نعمة التي أنعم بها عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إِليه لا إِلى غيره مرجعكم يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد أي وإِن تكذبوني فلن تضروني بتكذيبكم وإِنما تضرون بأنفسكم فقد سبق قبلكم أمم كذبوا رسلهم فحلَّ بهم عذاب الله، وسيحل بكم ما حلَّ بهم {وَمَا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ المبين} أي وليس على الرسول إِلا تبليغ أوامر الله، وليس عليه هداية الناس قال الطبري: ومعنى {البلاغ المبين} أي الذي يبينُ لمن
سمعه ما يُراد به، ويفهم منه ما يعني به {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} الاستفهام لتلوبيخ لمنكري الحشر أي أولم ير المكذبون بالدلائل الساطعة كيف خلق تعالى الخلق ابتداءً من العدم، فيستدلون بالخلقة الأولى على الإِعادة في الحشر؟ قال قتادة: المعنى أولم يروا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي سهل عليه تعالى فكيف ينكرون البعث والنشور؟ فإِن من قدر على البدء قدر على الإِعادة، قال القرطبي: ومعنى الآية على ما قاله البعض: أولم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً، وكذلك يبدأ خلق الإِنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً، وكذلك سائر الحيوان، فإِذا رأيتم قدرته على الإِبداء والإِيجاد، فهو القادر على الإِعادة لأنه إِذا أراد أمراً قال له كن فيكون {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} أي قل لهؤلاء المنكرين للبعث سيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف أن الله العظيم القدير خلق الخلق علىكثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إِلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم الله، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله عز وجل! {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة} أي ثم هو تعالى ينشئهم عند البعث نشأةً أخرى {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه تعالى شيء ومنه البدء والإِعادة {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله الخلق والأمر، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي وإِليه تُرجعون يوم القيامة {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} أي لا تفوتون من عذاب الله، وليس لكم مهربٌ في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كقوله
{وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]{وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي ليس لكم غير الله وليٌّ يحميكم من بلائه، ولا نصير ينصركم من عذابه {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ} أي كفروا بالقرآن والبعث {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أي أولئك المنكرون الججاحدون قنطوا من رحمتي قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم عذاب موجع مؤلم {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين دعاهم إلأى الله ونهاهم عن الأصنام إِلا أن قال كبراؤهم المجرمون: اقتلوه لتستريحوا منه أو حرّقوه بالنار {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي فألقوه في النار فجعلها برداً وسلاماً عليه {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إِنَّ في إِنجائنا لإِبراهيم من النار لدلائل وبراهين ساطعة على قدرة الله لقوم يصدقون بوجود الله وكمال قدرته وجلاله {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي قال إبراهيم لقومه توبيخاً لهم وتقريعاً: إِنما عبدتم هذه الأوثان والأصنام وجعلتموها آلهة مع الله {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا} أي من أجل أن تدوم المحبة والألفة بينكم في هذه الحياة باجتماعكم على عبادتها {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي ثم في الآخرة ينقلب الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة عداوةً وبغضاء
حيث يقع التناكر ويتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة، لأن صداقتهم في الدنيا لم تكن من أجل الله {وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي ومصيركم جميعاً جهنم وليس لكم ناصر أو معين يخلصكم منها {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي فآمن معه لوط وصدَّقه وهو ابن أخيه وأول من آمن به لما رأى من الآيات الباهرة {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} أي وقال الخليل إِبراهيم، إِني تاركٌ وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله قال المفسرون: هاجر من سواد العراق إلأى فلسطين والشام ابتغاء إِظهار الدين والتمكن من نشره {إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم} أي هو العزيز الذي لا يذل من اعتمد عليه، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} أي وهبنا لإِبراهيم - لما فارق قومه في الله - ولداً صالحاً هو إِسحق وولد ولدٍ وهو يعقوب بن اسحاق {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} أي خصصناه بهذا الفضل العظيم حيث جعلنا كل الأنبياء بعد إِبراهيم من ذريته، وجعلنا اللكتب السماوية نازلةً على الأنبياء من بنيه قال ابن كثير: وهذه خصلة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إِياه خليلاً، وجعله إِماماً للناس، أن جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فل يوجد نبيٌ بعد إِبراهيم إِلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إِسرائيل من سلالة ولده «يعقوب» ولم يوجد نبي من سلالة «إسماعيل» سوى النبي العربي عليه أفضل الصلاة والتسليم {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} أي وتركنا له الثناء الحسن في جميع الأديان {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي وهو في الآخرة في عداد الكاملين في الصلاح، وهذا ثناءٌ عظيم على أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع فيما يلي:
1 -
الاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا} .
2 -
الطباق بين {صَدَقُواْ.
. والكاذبين} وبين {آمَنُواْ. . والمنافقين} وبين {يُعَذِّبُ. . وَيَرْحَمُ} وبين {يُبْدِئُ. . يُعِيدُهُ} .
3 -
التأكيد بإِنَّ واللام {فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} لأن المخاطب منكر.
4 -
صيغة المبالغة {السميع العليم} .
5 -
الجناس غير التام {يَسِيرٌ. . وسِيرُواْ} .
6 -
التشبيه المرسل المجمل {فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
7 -
التفنن في التعبير {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} لم يقل إِلا خمسين سنة تفنناً لأن التكرار في الكلام الواحد مخالف للبلاغة إِلا إِذا كان لغرضٍ من تفخيم أو تهويل مثل {القارعة مَا القارعة} .
8 -
أسلوب الإِطناب {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً. . إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} لغرض التشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
9 -
أسلوب الإِيجاز {اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} أي حرقوه في النار ثم قال {فَأَنْجَاهُ الله} أي ففعلوا فأنجاه الله من النار.
10 -
الاستعارة اللطيفة {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} شبّه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل كاهل الإنسان.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة نوح وإِبراهيم، وما فيهما من مواطن العظة والعبرة، ذكر هنا قصص الأنبياء «لوط، شعيب، هود، صالح» على سبيل الاختصار لبيان عاقبة الله في المكذبين. . وكلُّ ذلك لتأكيد ما ورد في صدر السورة الكريمة من أن الابتلاء سنة الحياة، وأنه من السنن الكونية على مر العصور والدهور.
اللغَة: {الفاحشة} الفعلة المتناهية في القبح قال أهل اللغة: الفاحشةُ: القبيح الظاهر قبحه، وكل فعلٍ زاد في القبح والشناعة فهو فاحشة {نَادِيكُمُ} النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم للسَّمر أو المشورة أو غيرهما {تَعْثَوْاْ} العُثُوُّ والعُثيُّ أشدُّ الفساد يقال: عثي يعثى، وعثا يعثو بمعنى
واحد {رِجْزاً} عذاباً {جَاثِمِينَ} جثم: إِذا قعد على ركبتيه {سَابِقِينَ} فائتين من عذابنا {أَوْهَنَ} أضعف، والوهنُ: الضعف.
التفسِير: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا لوطاً عليه السلام حين قال لقومه {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} أي إِنكم يا معشر القوم لترتكبون الفعلة المتناهية في القبح {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين} أي لم يسبقكم بهذه الشنيعة، والفعلة القبيحة - وهي اللواطة - أحدٌ من الخلق، ثم فسر تلك الشنيعة فقال {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} أي إِنكم لتأتون الذكور في الأدبار وذلك منتهى القذارة والخسَّة قال المفسرون: لم يقدم أحد قبلهم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإِفراط قبحها حتى أقدم عليها قوم لوط، ولم ينز ذكرٌ على ذكر قبل قوم لوط {وَتَقْطَعُونَ السبيل} أي وتقطعون الطريق على المارة بالقتل وأخذ المال، وكانوا قطاع الطريق قال ابن كثير: كانوا يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} أي وتفعلون في مجلسكم ومنتداكم ما لا يليق من أنواع المنكرات علناً وجهاراً، أما كفاكم قبحُ فعلكم حتى ضممت إِليه قبح الإِظهار!؟ قال مجاهد: كانوا يأتون الذكور أمام الملأ يرى بعضهم بعضاً، وقال ابن عباس: كانوا يحذفون بالحصى من مرَّ بهم مع الفحش في المزاح، وحل الإِزار، والصفير وغير ذلك من القبائح {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين نصحهم وذكرهم وحذَّرهم {إِلَاّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله} أي إِلا أن قالوا على سبيل الاستهزاء: ائتنا يا لوط بالعذاب الذي تعدنا به {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي كنت صادقاً فيما تهددنا به من نزول العذاب قال الإِمام الفخر: فإِن قيل إِن الله تعالى قال هاهنا {إِلَاّ أَن قَالُواْ ائتنا} وقال في موضع آخر {إِلَاّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: 56] فكيف وجه الجمع بينهما؟ فنقول: إِن لوطاً كان ثابتاً على الإِرشاد، مكرراً عليهم النهي والوعيد، فقالوا أولاً: ائتنا بعذاب الله، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا آل لوط، ثم إِن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله {قَالَ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} أي قال لوط ربّ أهلكهم وانصرني عليهم فإِنهم سفهاء مفسدون لا يُرجى منهم صلاح وقد أغرقوا في الغيّ والفساد قال الرازي: واعلم أن نبياًمن الأنبياء ما طلب هلاك قوم إِلا إِذا علم أن عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح
{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} [نوح: 27] فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، ولا يرجى منهم صلاح في المآل طلب لهم العذاب {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} المراد بالرسل هنا «الملائكة» والبشرى هي تبشير إبراهيم بالولد، أي لما جاءت الملائكة تبشّر إِبراهيم بغلام حليم {قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} أي جئنا لنهلك قرية قوم لوط {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي لأنَّ أهلها ممعنون في الظلم والفساد، طبيعتهم البغيُ والعناد قال المفسرون: لما دعا لوط على قومه، استجاب الله دعاءه، وأرسل ملائكته لإِهلاكهم، فمروا بطريقهم على إِبراهيم أولاً فبشروه بغلامٍ وذرية
صالحة، ثم أخبروه بما أُرسلوا من أجله، فجادلهم بشأن ابن أخيه لوط {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أي كيف تهلكون أهل القرية وفيهم هذا النبي الصالح «لوط» ؟ {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} أي نحن أعلم به وبمن فيها من المؤمنين قال الصاوي: وهذا بعد المجادلة التي تقدمت في سورة هود {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] حيث قال لهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا لا، إِلى أن قال: أفرأيتم إِن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا لا فقال لهم {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} فأجابوه بقولهم {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} ثم بشروه فإِنجاء لوط والمؤمنين {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي سوف ننجيه مع أهله من العذاب، إِلا امرأته فستكون من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على الكفر، ثم ساروا من عنده فدخلوا على «لوط» في صورة شبان حسان {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي ولما دخلوا على لوط حزن بسببهم، وضاق صدره من مجيئهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم من قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه {وَقَالُواْ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} أي لا تخف علينا ولا تحزن بسببنا، فلن يصل هؤلاء المجرمون إِلينا {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَاّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي كانت من الهالكين الباقين في العذاب {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي منزلون عليهم عذاباً من السماء بسبب فسقهم المستمر قال ابن كثير: وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم، وأرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، وجعل مكانها بحيرةً خبيثةً منتنة، وجعلهم عبرةً إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أي ولقد تركنا من هذه القرية علامةً بينةً واضحة، هي آثار منازلهم الخربة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لقومٍ يتفكرون ويتدبرون ويستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، ثم أخبر تعالى عن قصة شعيب فقال {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} أي وأرسلنا إلى قوم مدين أخاهم شعيباً {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر} أي فقال لقومه ناصحاً ومذكراً: يا قوم وحّدوا الله وخافوا عقابه الشديد في اليوم الآخر {وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي لا تسعوا بالإِفساد في الأرض بأنواع البغي والعدوان {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي فكذبوا رسولهم شعيباً فأهلكهم الله برجفةٍ عظيمة مدمرة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة هائلة أخرجت القلوب من حناجرها {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأصبحوا هلكى باركين على الركب ميتين {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} أي وأهلكنا عاداً وثمود، وقد ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آيتنا في هلاكهم أفلا يعتبرون؟ {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الكفر والمعاصي حتى رأوها حسنة {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أي فمنعهم عن طريق الحق، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، لكنهم لم يفعلوا تكبراً وعناداً {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي وأهلكنا كذلك الجبابرة الظالمين، {قَارُونَ} صاحب الكنوز الكثيرة {وَفِرْعَوْنَ} صاحب الملك والسلطان، ووزيره {وَهَامَانَ} الذي كان يُعينُه على الظلم والطغيان {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات} أي ولقد جاءهم موسى بالحجج الباهرة،
والآيات الظاهرة {فاستكبروا فِي الأرض} أي فاستكبروا عن عبادة الله وطاعة رسوله {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي وما كانوا ليفلتوا من عذابنا قال الطبري: أي ما كانوا ليفوتونا بل كنا مقتدرين عليهم {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي فكلاً من هؤلاء المجرمين أهلكناه بسبب ذنبه وعاقبناه بجنايته قال ابن كثير: أي وكانت عقوبته بما يناسبه {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي ريحاً عاصفة مدمرة فيها حصباء «حجارة» كقوم لوط {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} أي ومنهم من أخذته صيحةُ العذاب مع الرجفة كثمود {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض} أي خسفنا به وبأملاكه الأرض حتى غاب فيها كقارون وأصحابه {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} أي أهلكناه بالغرق كقوم نوح وفرعون وجنده {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي وما كان الله ليعذبهم من غير ذنب فيكون لهم ظالماً {ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب والدمار، ثم ضرب تعالى مثلاً للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله فقال {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} أي مثل الذين اتخذوا من دون الله أصناماً يعبدونها في اعتمادهم عليها ورجائهم نفعها كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى قال القرطبي: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي وإِن أضعف البيوت لبيتُ العنكبوت لتفاهته وحقارته، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ما عبدوها {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} أي هو تعالى عالم بما عبدوه من دونه لا يخفى عليه ذلك، وسيجازيهم على كفرهم {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو جل وعلا العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي وتلك الأمثال نبينها للناس في القرآن لتقريبها إلى أذهانهم {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ العالمون} أي وما يدركها ويفهمها إِلا العالمون الراسخون، الذين يعقلون عن اللع عز وجل مراده {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي خلقهما بالحق الثابت لا على وجه العبث واللعب {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي إِن في خلقهما بذلك الشكل البديع، ولاصنع المحكم لعلامة ودلالة للمصدقين بوجود الله ووحدانيته {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} أي اقرأ يا محمد هذا القرآن المجيد الذي أوحاه إِليك ربك، وتقرّب إِليه بتلاوته وترداده، لأن فيه محاسن الآداب ومكارم الأخلاق {وَأَقِمِ الصلاة} أي دم على إِقامتها بأركانها وشروطها وآدابها فإِنها عماد الدين {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} أي إِنَّ الصلاة الجامعة لشروطها وآدابها، المستوفية لخشوعها وأحكامها، إِذا أداها المصلي كما ينبغي، وكان خاشعاً في صلاته، متذكراً لعظمة ربه، متدبراً لما يتلو، نهته عن الفواحش والمنكرات {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} أي ولذكر الله أكبر من كل شيء في الدنيا، وهو أن تتذكر عظمته وجلاله، وتذكره في صلاتك وفي بيعك وشرائك، وفي أمور حياتك ولا تغفل عنه في جميع شؤونك {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها أحسن المجازاة، قال أبو العالية: إن الصلاة فيهاثلاث خصال: الإِخلاص، والخشية، وذكر الله؛ فالإِخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله -
القرآن - يأمره وينهاه فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التأكيد بعده مؤكدات والاطناب بتكرار الفعل تهجيناً لعملهم القبيح وتوبيخاً {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة. . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} الآية.
2 -
الاستهزاء والسخرية {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} وجواب الشرط محذوف دل عليه السابق أن إِن كنت صادقاً فائتنا به.
3 -
التنكير لإِفادة التهويل {رِجْزاً مِّنَ السمآء} أي رجزاً عظيماً هائلاً.
4 -
تقديم المفعول للعناية والاهتمام، والإِجمال ثم التفصيل {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} الخ.
5 -
التشبيه التمثيلي {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} شبَّه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتاً ضعيفاً واهياً يتهاوى من هبة نسيم أو من نفخة فم، وسمي تمثيلياً لأن وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد.
6 -
توافق الفواصل في الحرف الأخير وما فيه من جرس عذب بديع مثل {انصرني عَلَى القوم المفسدين. . إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} ومثل {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت} ومثل {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ. . آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الخ وهو من خصائص القرآن.
تنبي: أفادت الآية أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما قيل له: إِن فلاناً يصلي الليل سرق فقال: «ستمنعه صلاته» رواه البزار، يريد عليه السلام أن الصلاة إذا كانت على الوجه الأكمل، تنهى صاحبها عن الفحشاء، ولا تزيده بعداً بل تزيده قرباً.
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى ضلال من اتخذ أولياء من دون الل، وضرب المثل ببيت العنكبوت، أمر هنا بالتلطف في دعوة أهل الكتاب إلى الإِيمان، ث ذكر البارهين القاطعة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم َ وصحة القرآن، وختم السورة الكريمة ببيان المانع من التوحيد وهو اغترار الناس بالحياة الدنيا الفانية، وبيَّن أن المشركين يوحدون الله وقت الشدة، وينسونه وقت الرخاء.
اللغَة: {بَغْتَةً} فجأة يقال: بَغَتَه إذا دهمه على حين غفلة {يَغْشَاهُمُ} يجللهم ويغطيهم من فوقهم، والغشاء: الغطاء {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بوَّاه: أنزله في لمكان على وجه الإِقامة {غُرَفَاً} منازل رفيعة عالية في الجنة {يُؤْفَكُونَ} يُصرفون عن الحق إلى الباطل {يَبْسُطُ} يوسّع {وَيَقْدِرُ} يضيق {مَثْوًى} المكان اليذي يقيم فيه الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أمر المؤمنين بالهجرة حين آذاهم المشركون فقال لهم: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لَاّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ. .} الآية.
التفسِير: {وَلَا تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلَاّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تدعو أهل الكتاب إلى الإِسلام وتناقشوهم في أَمر الدين إلا بالطريقة الحسنى كالدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه وبيناته {إِلَاّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} أي إلا من كان ظالماً، محارباً لكم، مجاهداً في عداوتكم،
فجادلوهم بالغلظة والشدة قال الإِمام الفخر: إن المشرك لما جاء بالمكر الفظيع كان اللائق أن يُجادل بالأخشن، ويُبالغ في توهين شبهه وتهجين مذهبه، وأما أهل اكلتاب فإنهم آمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام، فلمقابلة إحسانهم يُجادلون بالأحسن إلا الذين ظلموا منهم بإثبات الولد لله، والقول بثلاث ثلاثة فإنهم يُجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم، وتين جهالتهم {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا وبالتوراة والإِنجيل التي أنزلت إليكم، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسورنها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية، ونحن له مطيعون، مستسلمون لحكمه وأمره {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} أي وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد وأمره {فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي فالذين أعطيناهم الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى يؤمنون بالقرآن {وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَاّ الكافرون} أي وما يكذب بآياتنا وينكرها مع ظهورها وقيام الحجة عليها إلا المتوغلون في الكفر، المصرّون على العناد قال قتادة: وإنما يكون الجحود بعد المعرفة {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي وما كنتَ يا محمد تعرف القراءة ولا الكتابة قبل نزول هذا القرآن لأنك أميٌ قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب {إِذاً لَاّرْتَابَ المبطلون} أي لو كنت تقرأ أو تكتب إذاً لشك الكفار في القرآن وقالوا؛ لعله التقطه من كتب الأوائل ونسبه إلأى الله، والآيةُ احتجاجٌ على أن القرآن من عند الله، لأنه النبي أميّ وجاءهم بهذا الكتاب المعجز، المتضمن لأخبار الأمم اسابقة، والأمور الغيبية، وذلك أكبر برهان على صدقه صلى الله عليه وسلم َ قال ابن كثير: المعنى قد لبثت في قومك يا محمد - من قبل أن تأتي بهذا القرآن - عمراً لا تقرأ كتاباً، ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط حرفاً ولا سطراً بيده، بل كان له كتَّاب يكتبون له الوحي {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون بل هو آيات واضحاتُ الإِعجاز، ساطعات الدلالة على أنها من عند الله، محفوظة في صدور العلماء، قال المفسرون: من خصائص القرآن العظيم أنَّ الله حفظه من التبديل والتغيير بطريقين: الأول: الحفظُ في السطور، والثاني: الحفظُ في الصدور، بخلاف غيره من الكتب فإنها مسطْرة لديهم غير محفوظة في صدروهم ولهذا دخلها التحريف، وقد جاء في صفة هذه الأمة «أنا جيلُهم في صدروهم» وقال الحسن: أُعطيت هذه الأمة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم
إلا نظراً، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَاّ الظالمون} أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} أي وقال كفار مكة: هلَاّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى!! {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} أي قل لهم يا محمد: إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي، إن شاء أرسلها، وإن شاء منعها، وليس لأحدٍ دخلٌ فيها {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله، وليس من شأني أن آتي بالآيات {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} ؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك؟ قال ابن كثير: بيَّن تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم َ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى؟ ولهذا قال بعده {إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة، وتذكة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أي قل لهم: كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي، يسهد لي أني رسولُه {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني {والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون} أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإِيمان {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون
{أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] وهو استعجال على جهة التكذيب والاستهزاء {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} أي لولا أن الله قدَّر لعذابهم وهلاكهم وقتاً محدوداً لجاءهم العذاب حين طلبوه {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي وليأتينهم فجأة وهم ساهون لاهون لا يشعرون بوقت مجيئه {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} تعجبٌ من قلة فطنتهم ومن تعنتهم وعنادهم والمعنى: كيف يستعجلون العذاب والحال أن جهنم محيطةٌ بهم يوم القيامة كإحاطة السوار بالمعصم، لا مفرَّ لهم منها؟ ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم بهم فقال {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي يوم يجللهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، ومن جميع جهاتهم {وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويقول الله عز وجل لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا من الاستهزاء والإِجرام، وسيء الأعمال، ثم لما بيَّن تعالى حال المكذبين الجاحدين، أعقبه بذكر حال الأبرار المتقين فقال {ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} خطابُ تشريفٍ للتحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أي يا من شرفكم الله بالعبودية له هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإِيمان فيها،
ولا تجاوروا الظلمة فأرضُ الله واسعة قال مقاتل: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة {فَإِيَّايَ فاعبدون} أي فخصوني بالعبادة ولا تعبدوا أحداً سواي {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي أينما كنتم يدرككم الموتُ، فكنوا دائماً وأبداً في طاعة الله، وحيث أُمرتم فهاجروا فإن الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه، ثم إلأى الله المرجع والمآب {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جمعوا بيت إخلاص العقيدة وإخلاص العمل {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} أي لننزلنَّهم أعالي الجنة ولنسكننهم منازل رفيعة فيها {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها إلى غير نهاية لا يخرجون منها أبداً {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي نعمت تلك المساكن العالية في جناتِ النعيم أجراً للعاملين {الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا بيانٌ للعاملين أي هم الذين صبروا على تحمل المشاقّ من الهجرة والأذى في سبيل الله، وعلى ربهم يعتمدون في جميع أمورهم قال في البحر: وهذان جماع الخير كله: الصبر، وتفويض الأمر إلأيه تعالى {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لَاّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي كم من دابة ضعيفة لا تقدر على كسب رزقها ولكنَّ الله يرزقها مع ضعفها {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي الله تعالى يرزقها كما يرزقكم، وقد تكفل برزق جميع الخلق، فلا تخافوا الفقر إن هاجرتم، فالرازق هو الله قال في التسهيل: والقصدُ بالآية التقوية لقلوب المؤمنين إذا خافوا الفقر والجوع في الهجرة من أوطانهم، فكما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم {وَهُوَ السميع العليم} أي هو السميع لأقوالكم، العليمُ بأحوالكم، ثم عاد الحديث إلى توبيخ المشركين في عبادة غير الله فقال {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله} أي ولئن سألت المشركين من خلق العالم العلوي والسفلي وما فيهما من العجائب والغرائب؟ ومن ذلَّل الشمس والقمر وسخرهما لمصالح العباد يجريان بنظام دقيق؟ ليقولون: الله خالق ذلك {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي فكيف يُصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟ {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي هو جلَّ وعلا الخالق وهو الرازق، يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده امتحاناً، ويضيّق الرزق على من يشاء ابتلاءً، ليظهر الشاكر والصابر {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي إنه تعالى واسع العلم يفعل ما تقتضيه الحكمة والمصلحة {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} توبيخٌ آخر وإقامة حجة أخرى عليهم أي ولئن سألت المشركين من الذي أنزل المطر من السماء فأخرج به أنواع الزروع والثمار بعد جدب الأرض ويبسها؟ ليقولون: الله فاعلُ ذلك {قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أي قل يا محمد: حمداً لله على ظهور الحجة، بل أكثرهم لا يعقلون، حيث يقرون بأن الله هو الخالق الرازق ويعبدون غيره {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي وما الحياة في هذه الدنيا إلا غرور ينقضي سريعاً ويزول، كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} أي وإن الآخرة لهي الحياة الحقيقية التي لا موت فيها ولا تنغيص {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لو كان عندهم علم لم يُؤْثروا دار الفناء على دار البقاء،
لأن الدنيا حقيرة لا تزن عند الله جناح بعوضه، ولقد أحسن من قال
تأملْ في الوجود بعين فكر
…
ترى الدنيا الدنيَّة كالخيال
ومَنء فيها جميعاً سوف يفنى
…
ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} إقامة حجة ثالثة على المشركين في دعائهم الله عند الشدائد، ثم يشركون به في حال الرخاء والمعنى إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق دعوا الله مخلصين له الدعاء، لعلمهم أنه لا يكشف الشدائد عنهم إلاّ هو، وفي لفظ {مُخْلِصِينَ} ضربٌ من التهكم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي فلما خلَّصهم من أهوال البحر، ونجاهم إلى جانب البر إذا هم يعودون إلى كفرهم وإشراكهم، ناسين ربهم الذي أنقذهم من الشدائد والأهوال {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} أمرٌ على وجه التهديد أي فليكفروا بما أعطيناهم من نعمة الإِنجاء من البحر، وليتمتعوا في هذه الحياة الدنيا بباقي أعمارهم، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} أي أولم ير هؤلاء الكفار، رؤية تفكر واعتبار، أنا جعلنا بلدهم «مكة» حرماً مصوناً عن السلب والنهب، آناً أهله من القتل والسبي، والناسُ حولهم يُسبون ويقتلون؟ قال الضحاك:{وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} أي يقتل بعضُهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} أي أفبعد هذه النعم الجليلة يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ} أي لا أحد أظلم ممن عبد غير الله وكذَّب بالقرآن حين جاءه {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} ؟ أي أليس في جهنم مأوى وموضع إقامة للكافرين بآيات الله جزاء افترائهم وكفرهم؟ {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي والذين جاهدوا النفس والشيطان والهوى ولكفرة أعداء الدين ابتغاء مرضاتنا لنهدينهم طريق السير إلينا {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} أي مع المؤمنين بالنصر والعون.
البّلَاغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التحضيض {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} .
2 -
الطباق {آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله} .
3 -
إفادة القصر {أولئك هُمُ الخاسرون} أي لا غيرهم.
4 -
الإطناب بذكر العذاب مراتٍ للتشينع على المشركين {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى} {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ} {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب} الخ.
5 -
الإضافة للتشريف والتكريم {ياعبادي الذين آمنوا} .
6 -
الطباق {يَبْسُطُ الرزق. . وَيَقْدِرُ} ومثله {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} .
7 -
المجاز العقلي {حَرَماً آمِناً} أي آمناً أهله.
8 -
التشبيه البليغ {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي كاللهو وكاللعب حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً على حد قولهم: «زيدٌ أسد» .
9 -
الإِيجاز بحذف جواب الشرط لدلالة السياق عليه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولا الفانية على الباقية.
10 -
مراعاة الفواصل لما لها من وقع عظيم على السمع يزيد الكلام رونقاً وجمالاً مثل {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} الخ.
تنْبيه: لا ينبغي لمسلمٍ أن يبقى بأرض لا يتيسر له فيها عبادة الله، فأرض الله واسعة، وقد أشارت الآيات إلى وجوب الهجرة إلى دار الإِسلام وكما قيل «وكل مكان يُنبت العزَّ طيّب» .