الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {بِقَبَسٍ} القَبسُ: شعلةٌ من نار {المقدس} الم
طهَّ
ر والمبارك {طُوًى} اسم للوادي {فتردى} تهلك والردى: الهلاك {أَهُشُّ} أخبط بها الشجر ليسقط الورق {مَآرِبُ} جمع مأْربه وهي الحاجة {جَنَاحِكَ} الجناح: الجَنب وجناحا الإنسان جنباه لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر {أَزْرِي} الأزر: القوة يقال: آزره أي قوّاه ومنه {فَآزَرَهُ فاستغلظ} [الفتح: 29] قال الشاعر:
أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أَزْره
…
وأوصى بَنيه بالطِّعان وبالضرب
{اليم} البحر {تَقَرَّ عَيْنُها} تُسرَّ بلقائك.
التفسِير: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما نزل عليه القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام فقالت
قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فنزلت هذه الآية {إِلَاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} أي ما أنزلناه إلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله قال في البحر: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى {الرحمن عَلَى العرش استوى} أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون وما بينهما من المخلوقات وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه أي وإن تجهزْ يا محمد بالقول أو {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسه والهاجس والخاطر. . والغرضُ من الآية طمأنينه قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإذا كان يدعوه جهراً فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرَّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم {الله لا إله إِلَاّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى} أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحسن وفي الحديث
«إن للهِ تسعةٌ وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة» {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ {إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} أي حين رأى ناراً فقال لامرأته أقيمي مكانك فإني أبصرتُ ناراً قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق وكانت ليلة مظلمة شاتية فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شَررٌ فبينما هو كذلك إذْ بصر بنارٍ من على يسار الطريق، فلما رآها ظنها ناراً وكانت من نور الله {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} أي أجد هادياً يدلني على الطريق {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إني أنا
ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} أي فإنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى} أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إليك قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} أي أنا الله المستحق للعبادة لا إله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} أي أقم الصلاة لتذكرني فيها قال مجاهد: إذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي إن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرَّد: وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} أي لتنال كلُّ نفس جزاء ما عملت من خير أو شر قال المفسرون: والحكمة من إخفائها وإخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَاّ يُؤْمِنُ بِهَا} أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها {واتبع هَوَاهُ} أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته {فتردى} أي فتهلك فإن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرضُ من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إلى ما سيبدوا من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة قال ابن كثير: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمَا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَر غير ذلك قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} أي فلما ألقاها
صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه وولّى هارباً قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منه {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} أي أدخل يدك تحت إِبطك صم أخرجاها تخرج نيِّرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص قال ابن كثير: كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة القمر من غير برصٍ ولا أذى {آيَةً أخرى} أي معجزة ثانية غير العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} أي لنريك بذلك بعض آياتنا العظيمة.
. أراه الله معجزتين «العصا، واليد» وهي ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أي إذهب بما معك من الآيات إلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدِّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} أي وسِّعه ونوِّره بالإيمان والنُبوّة {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي حلَّ هذه اللُّكنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون {اشدد بِهِ أَزْرِي} أي لتقوِّي به يا رب ظهري {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} أي أجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّر تعالى بالمنن العظام عليه {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى} أي ألهمنا ما يُلهم ممّا كان سبباص في نجاتك {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم} أي ألهمناها أن ألْقِ هذا لاطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} أي
يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال في البحر: {فَلْيُلْقِهِ} أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون قال ابن عباس: أحبَّه الله وحبَّبه إلى خلقه {وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي ولتُربى بعين الله بحفظي ورعايتي {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراض: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاعٍ هذا الطفل؟ فطلبوا منها إحضارها فأتت بأم موسى فلما أخرجت ثديها التقمه ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً وقالت لها: كوني معي القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت نعم وأحسنت إليها غاية الإحسان فذلك قوله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلَا تَحْزَنَ} أي رددناك إلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأ {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التشويق والحث على الإصغاء {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} .
2 -
الإطناب {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} وكان يكفي أن يقول: هي عصاي ولكنه توسّع في الجواب تلذذاً بالخطاب.
3 -
الاستعارة التصريحية {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} أصل الجناح للطائر ثم استعير لجنب الإنسان لأن كل جنب في موضع الجناح للطائر فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة.
4 -
الاحتراس وهو عند علماء البيان أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد مثل قوله {بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} فلو اقتصر على قوله {بَيْضَآءَ} لأوهم أن ذكل من بَرص أو بهَق ولذلك احترس بقوله {مِنْ غَيْرِ سواء} .
5 -
الاستعارة التمثيلية {وَلِتُصْنَعَ على عيني} تمثيل لشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة بمن يصنع بمرأى من الناظر لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه فمثَّل لذلك على عين الآخر.
6 -
السجع الحسن الذي يزيد الكلام جمالاً وبهاءً في أواخر الآيات (فتشقى، يخشى، أخفى، تسعى) الخ.
فَائِدَة: قال العلماء: ما نفع أخ أخاه كما نفع موسى هارون فقد طلب له من ربه أن يجعله وزيراً له ويكرمه بالرسالة فاستجاب الله دعاءه وجعله نبياً مرسلاً.
تنبيه: ذكر تعالى بعض المنن على موسى وعدَّد منها ستاً:
المنة الأولى: إلهام أُمه صنع الصندوق وإلقاءه في النيل ليربّى في بيت فرعون {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت} .
الثانية: إلقاء المحبة عليه من الله تعالى بحيث لا يراه أحد إلا أحبه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} .
الثالثة: حفظ الله ورعايته له بالكلاءة والعناية {وَلِتُصْنَعَ على عيني} .
الرابعة: ردُّه إلى أمه مع الإنعام والإكرام {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} .
الخامسة: إنجاء موسى من القتل بعد قتله القبطي و {نَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} .
السادسة: تكليم الله له بعد عودته من أرض مدين وتكليفه بالرسالة {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله ربْ العالمين.
اللغَة: {اصطنعتك} اصطفيتك واخترتك، وأصل الاصطناع: اتخاذ الصَّنيعة وهو الخير تُسْديه إلى إنسان {تَنِيَا} الونى: الضَّعف والفتور قال العجَّاج:
فما وَنى محمدٌ مُذْ أن غَفرْ
…
له الإلهُ ما مضَى وما غَبَر
{يَفْرُطَ} يتعجل ويبادر إلى عقوبتنا، ومنه الفارط الذي يتقدم القوم إلى الماء {يُسْحِتَكُم} يستأصلكم ويبيدكم وأصله استقصاء الحلق للشَّعْر قال الفرزدق:
وعضُّ زمانٍ يا ابن مروانَ لم يَدعْ
…
من المال إلا مُسْحتٌ أو مجُلَّف
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب، والسُّحت: المال الحرام لأنه يهلك الإنسان ويدمّره {النجوى} التناجي وهو الإسرار بالكلام {أَوْجَسَ} أضمر واستشعر الخوف في نفسه.
التفسِير: {واصطنعتك لِنَفْسِي} أي اخترتك لرسالتي ووحيي {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي اذهب مع هارون بحججي وبارهيني ومعجزاتي قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن
يطغى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف إن دعوناه إلى الإيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إلينا {قَالَ لَا تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} أي لا تخافا من سطوته إنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} أي إنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ {رَبِّكَ} لإعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إذْ كان يدَّعي الربوبية {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلقْ سراح بين إسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإيمان {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إليه يا موسى؟ فإني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربّي لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إلى موسى وهارون {مَن رَّبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية؟ لِم لَمْ يُبعثوا ولم يُحاسبوا إن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيء منها.
. ثم شرع موسى يبيّن له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي أنزل لكم السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإباحة تذكيراً لهم بالنِّعم {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي إنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب. . ثم أخبر تعالى عن عتوٍّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرنْا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوّة موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجرائد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وأبى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لَاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معَّين {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومٌ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار قال المفسرون: وإنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السَّحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصيّ {قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي خسر وهلك من كذب على الله.
. قدَّم لهم النصح والإنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى} أي أختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سراً {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي غرضُهما إفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي أحْكموا أمركم وأعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} أي فاز اليوم من علا وغلب قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 113 - 114]{قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} أي
قال السحرة لموسى: إمَّا أن تبدأ أنتَ بالإلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيَّروه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} أي قال لهم موسى: بل ادءوا أنتم بالإلقاء قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ونظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أي قلنا لموسى لا تخفْ ممّا توهمت فإنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا} أي ألقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ فمها ما صنعوه من السحر {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلَا يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إلا ابتلعته، والناس ينظرون إلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوا علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق ولطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي قال القرطبي: وإنما أراد فرعون بقوله أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب فقال {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباًَ وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {والذي فَطَرَنَا} قسمْ بالله أي مقسمين بالله الِذي خلقنا {فاقض مَآ
أَنتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} أي إنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله {والله خَيْرٌ وأبقى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحرة عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإن له نار جهنم {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يحيى} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء
{خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [النساء: 57] أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وذلك جَزَآءُ مَن تزكى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنسْ الكفر والمعاصي، وفي الحديث «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة {واصطنعتك لِنَفْسِي} شبَّه ما خوَّله به من القرب والاصطفاء بحال من يراه الملك أهلاً للكرامة وقرب المنزلة لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه لنفسه، ويختاره لخلَّته، ويصطفيه لأموره الجليلة واستعار لفظ اصطنع لذلك، ففيه استعارةً تبعية.
2 -
المقابلة اللطيفة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} حيث قابل بين {مِنْهَا} و {وَفِيهَا} وبين الخلق والإعادة وهذا من المحسنات البديعية.
3 -
إيجاز حذف {بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ} أي فألقوا فإذا حبالهم حذف لدلالة المعنى عله ومثله {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} بعد قوله {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} حذف منه كلام طويل وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر فاُلقي السحرة سجداً، وإنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه ويسمى إيجاز حذف.
4 -
الطباق بين {يَمُوتُ. . يحيى} وبين {نُعِيدُ. . ونُخْرِجُ} .
5 -
المقابلة بين {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} وبين {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} الخ والمقابلة هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
6 -
السجع الحسن غير المتكلف في مثل {سُوًى، ضُحًى، افترى، يحيى، تزكى} الخ.
7 -
المؤكدات {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أكّد الخبر بعدة مؤكدات وهي {إِنَّ} المفيدة للتأكيد، وتكرير الضمير {أَنتَ} وتعريف الخبر {الأعلى} ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل {الأعلى} ولله در التنزيل ما أبلغه وأروعه، وهذا من خصائص علم المعاني.
تنبيه: لم تذكر الآيات الكريمة أن فرعون فعل بالسحرة ما هدَّدهم به، وقد ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم فماتوا على الإيمان ولهذا قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بَرَرة.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإنجائهم وإهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومنته الكبرى على بني إسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بين إسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في آيات أخر.
اللغَة: {دَرَكاً} لَحاقاً مصدر أدركه إذا لحقه {تَطْغَوْاْ} الطغيان: مجاوزة الحدِّ إلى ما لا ينبغي {هوى} صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي إذا سقط من علوِ إلى سفل {بِمَلْكِنَا} الملك: بفتح الميم وسكون اللام: الطاقةُ والقدرة ومعناه بأمرٍ كنا نملكه من جهتنا {أَوْزَاراً} أثقالاً ومنه سمي الذنب وزراً لأنه يثقل الإنسان {خُوَارٌ} الخُوار: صوت البقر {يَبْنَؤُمَّ} أي يا ابن أمي واللفظة تدل على الاستعطاف {سَوَّلَتْ} حسَّنت وزيَّنت.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إسرائيل ليلاً من أرض مصر {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لَاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تخشى} أي لا تخاف لحافاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] {يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ} خطابٌ لبين إسرائيل بعد خروجهم من البحر وإغراق فرعون وجنوده والمعنى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} أي وعدنا موسى للمناجاة وإنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إليهم لكون منفعتها راجعة إليهم إذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم. . وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} أي وإني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحيُن إيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} أيْ أيُّ شيء عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور
على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} أي وعجلتُ إلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إلأيه لتزداد رضىً عني.
. أعتذر موسى أولاً ثم بينَّ السبب في إ سراعه قبل قومه وهو الشوق إلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمُ السامري} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة عضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} أي ألم يعدْكم بإنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وفضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار قال المفسرون: كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إليهم قال لهم السامري: إنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألفى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إلأهكم وإله موسى فنسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} أي
أفلا يعلمون أن العجل لاذي زعموا أنه إلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إليهم: إنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} أي وإنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} أي قالوا لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إلينا موسى فنظر في الأمر {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلَاّ تَتَّبِعَنِ} ؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه
{وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142]{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيْرة في الله ملكتْه {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إليهم لتتدارك الأمر بنفسك قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إلا دبَّت فيه الحياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا} أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنتْ لي نفسي {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ} أي قال موسى للسامريّ: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له في الدنيا وكأنَّ الله عز وجل شدَّّد عليه المحنة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} أي وإنَّ لك موعداً للعذاب في
الآخرة لن يتخلَّف {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي انظر إلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته {لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر {إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلَاّ هُوَ} أي يقول موسى لبني إسرائيل: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عله شيء في الأرض ولا في السماء.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 -
التهويل {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} .
2 -
الطباق بين {وَأَضَلَّ. . وَمَا هدى} .
3 -
الاستعارة {فَقَدْ هوى} استعار لفظ الهوي وهو السقوط من عُلوٍ إلى سُفل للهلاك والدمار.
4 -
صيغة المبالغة {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} أي كثير المغفرة للذنوب.
5 -
الطباق {ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} .
6 -
الايجاز بالحذف في مواطن عديدة بيناها في التفسير.
7 -
السجع الحسن غير المتكلف مثل {أَمْرِي، قَوْلِي، نَفْسِي} و {نَفْعاً، عِلْماً، نَسْفاً} الخ.
تنبيه: إنما عبد بنو إسرائيل العجل بسبب فتنة السامريّ وقد كانت بذور الوثنية راسخة في قلوبهم ولذلك لما نجَّاهم الله من طغيان فرعون طلبوا من موسى أن يصنع لهم تمثالاً ليعبدوه كما قال تعالى {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] فلا عجب إذاً أن يعكفوا على عبادة عجل من ذهب له خوار!!
المنَاسَبَة: لما ذكر تعلى قصة موسى بالتفصيل، أعقبها بذكر أنَّ هذا القصص وحيٌ من الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم َ ما كان له علم بهذه الأخبار والأنباء العجيبة لولا أن الله تعالى أوحى إليه، وذلك من أكبر الدلائل والبراهين على صدق الرسالة.
اللغَة: {قَاعاً} القاع: الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا بناء {صَفْصَفاً} الصَّفصفُ: المستوي من الأرض كأنه على صفٍّ واحد في استوائه {أَمْتاً} الأمْت: المكان المرتفع كالتلّ والهضبة {هَمْساً} صوتاً خفياً {عَنَتِ} ذلَّت وخضعت قال أميّة: «لعزَّته تعنو الوجوه وتسجد» قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذلَّ وأعناه غيره ومنه الآية {وَعَنَتِ الوجوه} {هَضْماً} الهضم: النقص يقال: هضمه خقه إذا أنقصه والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضمُ المنع من بعضه {تضحى} ضحى للشمس برز لها حتى يصيبه حرُّها قال ابن أبي ربيعة:
رأتْ رجلاً ايماً إذا الشمسُ عارضتْ
…
فيَضْحى وأمَّا بالعشيِّ فينحصر
{ضَنكاً} الضَّنْك: الضيق والشدة يقال: منزلٌ ضنْك وعيشٌ ضنْك إذا كان شديداً ضيقاً {سَوْءَاتُهُمَا} عوارتهما {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {الصراط السوي} الطريق المستقيم.
التفسِير: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون زما فيه من الأنباء الغريبة كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة قال في البحر: امتن تعالى عليه بإتيانه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إلا عشر ليال قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إلا يوماً واحداً {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إن ربي يفتِّتها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فيطيّرها {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء {لَاّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لَا عِوَجَ لَهُ} أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي ذلك وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا {فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْساً} أي لا تسمع إلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر {يَوْمَئِذٍ لَاّ تَنفَعُ الشفاعة إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله، قاله ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد
القهار جبار السماوات والأرض الذي لا يموت قال الزمخشري: المراد بالوجوه وجوهُ العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخبية والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوهُهم عانيةً أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العُناة وهم الأسارى كقوله
{سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27]{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي خسر من أشرك بالله، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من قدَّم الأعمال الصالحة بشرط الإيمان {فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} أي فلا يخاف ظلماً بزيادة سيئاته، ولا بخساً ونقصاً لحسناته {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي مثل إنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة أنزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} أي كررنا فيه الإنذار والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي أو يحدث لهم موعظة في القلوب ينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي {فتعالى الله الملك الحق} أي جلَّ الله وتقدَّس الملك الحق الذي قهر سلطانه كل جبار عمّا يصفه به المشركون من خلقه {وَلَا تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي إذا أقراك جبريل القرآن فلا تتعجل بالقراءة معه، بل استمعْ إليهِ واصبر حتى يفرغَ من تلاوته وحينئذٍ تقرأه أنت قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على حفظ القرآن ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذكل قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي سلْ الله عز وجل زيادة العلم النافع قال الطبري: أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ} أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة من القديم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أي نسي أمرنا ولم نجد له حزماً وصبراص عمّا نهيناه عنه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أبى} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير من الخلق أي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحيةٍ وتكريم فامتثلوا الأمر إلا إبليس فإنه أبى السجود وعصى أمر ربه قال الصاوي: كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن تعليماً للعباد امتثال الأوامر، واجتناب النواهي وتذكيراً لهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم {فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} أي ونبهنا آدم فقلنا له إن إبليس شديد العداوة لك ولحواء {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} أي لا تطيعاه فيكون سبباً لإخراجكما من الجنة فتشقيان، وإنما اقتصر على شقائه مراعاةُ للفواصل ولاستلزام شقائه لشقائها قال ابن كثير: المعنى إيّاك أن تسعى ف إخراجك من الجنة فتتعب وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيشٍ رغيدٍ، بلا كلفةٍ ولا مشقة {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تعرى} أي إنَّ لك يا آدم ألَاّ ينالك في الجنة الجوعُ ولا العريُ {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تضحى} أي ولك أيضاً ألاّ يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس، لأن الجنة دار السرور والحبور، لا تعب فيها ولا نصب، ولا حر ولا ظمأ بخلاف دار الدنيا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} أي حدَّثه خفيةً بطريق الوسوسة {قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لَاّ
يبلى} أي قال له إبليس اللعين: هل أدلك يا آدم على شجرة من أكل منها خُلّد ولم يمت أصلاً، ونال المُلك الدائم الذي لا يزول أبداً؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ومتى كان اللعين ناصحاً؟ {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس: عريا عن النور الذي كان الله تعالى قد ألبسهما إياه حتى بدت فروجهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} أي شرعا يأخذان من أوراق الجنة ويغطيان بها عوراتهما ليستترا بها {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} أي خالف آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة فضلَّ عن المطلوب الذي هو الخلود في الجنة حيث اغتر بقول العدوّ قال ابن السعود: وفي وصفه بالعصيان والغِواية - مع صغر زلته - تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} أي ثم اصطفاه ربه فقرَّبه إليه وقبل توبته وهداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب الطاعة {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي قال الله لآدم وحواء: إنزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين بعضُ ذريتكما لبعض عدوٌّ بسبب الكسب والمعاش واختلاف الطبائع والرغبات قال الزمخشري: لما كان آدم وحواء أصلي البشر جُعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} أي فإن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى} أي فمن تمسَّك بشريعتي واتَّبع رسلي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن با فيه ألاّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ومن أعرض عن أمري وما أنزلته على رسلي من الشرائع والأحكام فإن له في الدنيا معيشة قاسيةً شديدة وإن تنعَّم ظاهره {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} أي ونحشره في الآخرة أعمى البصر قال ابن كثير: من أعرض عن أمر الله وتناساه فإن له حياة ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّقٌ حرج لضلالة وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه في قلقٍ وحيرة وشك، وقيل: يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعة فيه {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} أي قال الكافر: يا رب بأي ذنبٍ عاقبتني بالعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً؟ {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} أي قال الله تعالى له: لقد أتتك آياتنا وضحة جلية فتعاميتَ عنها وتركتها، وكذلك تُترك اليوم في العذاب جزاءً وفاقاً {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات، ولم يصدّق بكلام ربه وآياته البينات {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} أي عذاب جهنم أشدُّ من عذاب الدنيا لأنَّ عذابها أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} أي أفلم يتبيَّن لكفار مكة الذين كذبوك كم أهلكنا قبلهم من الأمم الخالية المكذبين لرسلهم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي يرون مساكن عاد وثمود ويعانون آثار هلاكهم أفلا يتعظون ويعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي إنَّ
في آثار هذه الأمم البائدة لدلالات وعِبراً لذوي العقول السليمة {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي لولا قضاءُ الله بتأخير العذاب عنهم ووقتٌ مسمى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم قال الفراء: في الآية تقديم وتأخيرٌ والمعنى ولولا كلمةٌ وأجلٌ مسمَّى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم، وإنما أخَّره لتعتدل رءوس الآي {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي فاصبر يا محمد على ما تقول هؤلاء المكذبون من قومك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي صلٌ وأنت حامد لربك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر {وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} أي وصلِّ لربك في ساعات الليل وفي أول النهار وآخره {لَعَلَّكَ ترضى} أي لعلَّك تُعطى ما يرضيك قال القرطبي: أكثر المفسرين أن هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَآءِ الليل} صلاة العشاء {وَأَطْرَافَ النهار} صلاة المغرب والظهر، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أي لا تنظر إلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} أي زينة الحياة الدنيا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} أي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم قال المفسرون: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم َ والمراد به أُمته لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا وأشدَّ رغبة فيما عند الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} أي وأُمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة واصبر على أدائها بخشوعها وآدابها {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} أي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك بل نحن نتكفل برزقك وإياهم {والعاقبة للتقوى} أي العاقبة الحميدة لأهل التقوى قال ابن كثير: أي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله {وَقَالُواْ لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي قال المشركون هلاّ يأتينا بمعجزة تدل على صدقه؟ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} أي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام المحتوي على أخبار الأمم الماضية؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع قال في البحر: اقترح المشركون ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بأن هذا القرآن الذي سبق التبشير به في الكت الإلهية السابقة أعظم الآيات في الإعجاز وهو الآية الباقية إلى يوم القيامة {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} أي لو أنا أهلكنا كفار مكة من قبل نزول القرآن وبعثة محمد عليه السلام {لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أي لقالوا يا ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً حتى نؤمن به ونتَّبعه {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} أي فنتمسك بآياتك من قبل أن نذلّ بالعذاب ونفتضح على رءوس الأشهاد قال المفسرون: أراد تعالى أن يبيّن أنه لا حجة لأحد على الله بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب فلم يترك لهم حجة ولا عذراً {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين كلٌ منا ومنكم منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر {فَتَرَبَّصُواْ} أمر تهديد أي فانتظروا العاقبة والنتيجة {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحَابُ الصراط السوي} أي فستعلمون عن قريب من هم أصحاب الطريق المستقيم هل نحن أم أنتم؟ {وَمَنِ اهتدى} أي اهتدى إلى الحق وسبيل الرشاد ومن بقي على الضلال قال القرطبي: وفي هذا ضربٌ من الوعيد والتخويف والتهديد ختمت به السورة الكريمة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
1 -
التشبيه {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} وهو تشبيه مرسل مجمل.
2 -
الاستعارة {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} شبَّه الوزر بالحمل الثقيل بطريق الاستعارة التصريحية.
3 -
الكناية {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} كناية عن أمر الدنيا وأمر الآخرة.
4 -
الطباق بين {أعمى. . بَصِيراً} .
5 -
التشبيه التمثيلي {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} مثَّل لنعم الدنيا بالزهر وهو النور لأن الزهر له منظر حسن ثم يذبل ويضمحل وكذلك نعيم الدنيا.
6 -
الوعيد والتهديد {فَتَرَبَّصُواْ} .
7 -
جناس الاشتقاق {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} .
8 -
السجع اللطيف غير المتكلف مثل {ظُلْماً، هَضْماً، عِلْماً،} ومثل {تشقى، تعرى، ترضى} الخ
…
.
لطيفَة: قال الناصر: في الآية سرٌ بديع من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظر، وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، الغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلاً بشكله لتوهم أن المعدودات نعمة واحدة، على أن في الآية سراً آخر وهو قصد تناسب الفواصل، ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رءوس الآي.
فَائِدَة: قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال {عَشْراً} أو {يَوْماً} أو {سَاعَةً} حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه، بل المراد أنه لسرعة زواله عبرَّر عن قلته بما ذكر، فتفنن في الحكاية وأُتى في كل مقام بما يليق به.
اللغَة: {أَضْغَاثُ} أخلاط جمع ضغث وهي الأهاويل التي يراها الإنسان من منامه {قَصَمْنَا} القصْم: كسر الشيء الصلب يقال: قصمتُ ظهره وانقصمت سنُّة إذا انكسرت {يَرْكُضُونَ} الركضُ: العدو بشدَّة والركض ضرب الدابة بالرِّجل حثاً على العدو {خَامِدِينَ} خمدت النار طفئت والخمود الهمود ويراد به الموت تشبيهاً بخمود النار {فَيَدْمَغُهُ} دَمَغَه: أصاب دماغه نحو كَبَده ورَأسَه أصاب كبده ورأسه {يَسْتَحْسِرُونَ} يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب.
التفسِير: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورحَى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف
الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قريب {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} أي ما يأتيهم شيءٌ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير {إِلَاّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي إلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلة عن تدبر معناه {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً {هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} أي قال محمد صلى الله عليه وسلم َ إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض {وَهُوَ السميع العليم} أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} هذا إضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إنه أخلاط منامات {بَلِ افتراه} أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال في التسهيل: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم؟ {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإنجيل هل كان الرسل الذين جاءوهم بشراً أم ملائكة؟ إن كنتم لا تعلمون ذلك {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطعام} أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} اللام للقسم أي والله لقد
أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب فيه شرفُكم وعزكُم لأنه بلغتكم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام؟ {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين {لَا تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش {وَمَسَاكِنِكُمْ} أي ارجعوا إلى مساكنكم الطيبة {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء والتوبيخ {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إنا كنا ظالمين بالإشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدنها {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدبّر الحكيم {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد {لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي هالك تالف {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له؟ {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لَا يَفْتُرُونَ} أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارَ لا يضعفون ولا يسأمون {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و {أَمِ} منقطع بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً من الأرض قادرين على إحياء الموتى؟ كلا بل اتخذوا آلهة جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإِله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود
آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة؟ {فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيمٍ فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} كرَّر هذا الإنكار اسمتعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم؟ {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإنجيل ليس فيها ما يقتضي الإشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التنكير في غفلة للتعظيم والتفخيم {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} .
2 -
صيغة المبالغة {السميع العليم} .
3 -
الإضراب الترقي {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وهذا الاضطراب في وصف القرآن يدل على التردُّد والتحير في تزويرهم للحق الساطع المنيرفقولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني.
4 -
الإنكار التوبيخي {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟
5 -
التشبيه البليغ {حَصِيداً خَامِدِينَ} أي جعلناهم كالزرع المحصود وكالنار الخامدة. 6 - الاستعارة التمثيلية {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} شُبّه الحق بشيء صَلب والباطل تشيء رخو واستعير لفظ القذف والدمغ لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل فكأنه رمي بجرم صلب على رأس دماغ الباطل فشقّه وفي هذا التعبير مبالغة بديعة في إِزهاق الباطل.
7 -
طباق السلب {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
8 -
التبكيت وإِلقام الحجر للخصم {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ها} .
فَائِدَة: سئل كعب عن الملائكة كيف يسبّحون الليل والنهار لا يفترون؟ أما يشغلهم شأن، أما تشغلهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النَّفس، ألست تأكل وتشرب، وتقوم وتجلس، وتجيء وتذهب وأنت تتنفس؟ فكذلك جُعل لهم التسبيح.
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى أحوال المشركين وأقام الأدلة والبراهين على وحدانية الله وبطلان تعدد الألهة، ذكر هنا أن دعوة الرسل جميعاً إِنما جاءت لبيان التوحيد ثم ذكر بقية الأدلة على قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب.
اللغَة: {رَتْقاً} الرتق: الضمُّ والالتحام وهو ضد الفتق يقال رتقتُ الشيء فأرتق أي التأم ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج {تَمِيدَ} تتحرك وتضطرب {فِجَاجاً} جمع فجّ وهو المسلك والطريق الواسع {يَسْبَحُونَ} يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء {فَتَبْهَتُهُمْ} تدهشهم وتحيرهم قال الجوهري: بهته بهتاً أخذه بغتة وقال الفراء: بهَته إذا واجهه بشيء يحيّره {يَكْلَؤُكُم} يحرسكم ويحفظكم والكلاءة: الحراسة والحفظ.
سَبَبُ النّزول: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبيُّ بين عبد مناف!! فغضب أبو سفيان وقال: ما تنكر أن يكون لبني عبد منافٍ نبيٌّ؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى أبي جهل وقال له: ما أَراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمَّك الوليد بن المغيرة فنزلت {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً. .} الآية.
التفسِير: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} أي وما بعثنا قبلك يا محمد رسولاً من الرسل {إِلَاّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ أَنَاْ} أي إلا أوحينا إليه أنه لا ربَّ ولا معبود بحق سوى الله {فاعبدون} أي فاعبدوني وحدي وخصوني بالعبادة ولا تشركوا معي أحداً {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حيٌّ من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أي بل هم عبادٌ مبجَّلون اصطفاهم الله فهم مكرمون عنده في منازل عالية، ومقاماتٍ سامية وهم في غاية الطاعة والخضوع {لَا يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله شأنهُم شأن العبيد المؤدبين وهم بطاعته وأوامره يعملون لا يخالفون ربهم في أمرٍ من الأوامر {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي علمه تعالى محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} أي لا يشفعون يوم القيامة إلا لمن رضي الله عنه وهم أهل الإيمان كما قال بن عباس: هم أهل شهادة لا إله إلا الله {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من خوف الله ورهبته خائفون حذرون لأنهم يعرفون عظمة الله قال الحسن: يرتعدون من خشية الله {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} أي يقل من الملائكة إني إلهٌ ومعبودٌ مع الله {فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فعقوبته جهنم قال المفسرون: هذا على وجه التهديد وعلى سبيل الفرض والتقدير لأن هذا شرط والشرطُ لا يلزم وقوعه والملائكة معصومون {كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي من ظلم وتعدى حدود الله {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة وردٌّ على عبدة الأوثان أي أولم يعلم هؤلاء الجاحدون أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين
ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقرَّ الأرض كما هي؟ قال الحسن وقتادة: كانت السماوات والأرض ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء وقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسبباً للحياة فلا يعيش بدونه إنسان ولا حيوان ولا نبات {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدّقون بقدرة الله؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب فلا يستقر لهم عليها قرار {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي وجعلنا في هذه الجبال مسالك وطرقاً واسعة كي يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار قال ابن كثير: جعل في الجبال ثُغراً يسكلون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه فيجعل الله فيها فجوةً ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} أي جعلنا السماء كالسقف للأرض محفوظة من الوقوع والسقوط وقال ابن عباس: حفظت بالنجوم من الشياطين {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} أي والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأدلة والعبر معرضون لا يتفكرون فيما ابدعته يد القدرة من الخلق العجيب والتنظيم الفريد الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المشركين غفلوا عن النظر في السماوات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها، وما فيها من القدرة الباهرة إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعاً قادراً واحداً يستحيل أن يكون له شريك {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر} أي وهو تعالى بقدرته نوَّع الحياة فجعل فيها ليلاً ونهاراً هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أُخرى وبالعكس، وخلق الشمس والقمر آيتين عظيمتين دالتين على وحدانيته {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} أي وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك يا محمد البقاء الدائم والخلود في الدنيا {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} أي فهل إذا متَّ يا محمد سيخلَّدون بعدك في هذه الحياة؟ لا لن يكون لهم ذلك بل كلٌّ إلى الفناء قال المفسرون: هذا ردٌّ لقول المشركين
{شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] فأعلم تعالى بأن الأنبياء قبله ماتوا وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا تحفظ دينك وشرعك {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} أي كل مخلوقٍ إلى الفناء ولا يدوم إلا الحيُّ القيوم {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} أي ونختبركم بالمصائب والنِّعم لنرى الشاكرين من الكافر، والصابر من القانط قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، ولاصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون لنرى كيف صبركم!! {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي وإلينا مرجعكم فنجازيكم بأعمالكم {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن
يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً} أي إذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشياعه ما يتخذونك إلاّ مهْزُوءاً به يقولون {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} استفهام فيه إنكار وتعجيب أي هذا الذي يسب آلهتكم ويُسفّه أحلامكم؟ {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} أي وهم كافرون بالله ومع ذلك يستهزئون برسول الله قال القرطبي: كان المشركون يعيبون من جحد إِلهيةِ أصنامهم وهم جاحدون للإِلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي رُكّب الإنسان على العّجلة فخُلق عجولاً يستعجل كثيراً من الأشياء وإن كانت مضرَّة قال ابن كثير: والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم َ وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلوا ذلك ولهذا قال {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} أي سأوريكم انتقامي واقتداري على من عصاني فلا تتعجلوا الأمر قبل أوانه {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي يعدنا به محمد إن كنتم يا معشر المؤمنين صادقين فيما أخبرتمونا به قال تعالى {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ} أي لو عرف الكافرون فظاعة العذاب حين لا يستطيعون دفع العذاب عن وجوههم وظهورهم لأنه محيط بهم من جميع جهاتهم لما استعجلوا الوعيد قال في البحر: وجواب {لَوْ} محذوف لأنه أبلغ في الوعيد وأهيب وقدَّره الزمخشري بقوله: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكنَّ جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أي لا ناصر لهم من عذاب الله {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي بل تأتيهم الساعة فجأة فتدهشهم وتحيرهم {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أي فلا يقدرون على صرفها عنهم ولا يُمهلون ويُؤخرون لتوبةٍ واعتذار {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن استهزاء المشركين أي والله لقد اتستهزئ برسلٍ أولي شأن خطير وذوي عدد كثير من قبلك يا محمد {فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي فنزل وحلَّ بالساخرين من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به قال أبو حيان: سلاّه تعالى بأنَّ من تقدَّمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جَنَوْها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين من يحفظكم من بأس الرحمن في أوقاتكم؟ ومن يدفع عنكم عذابه وانتقامه إن أراد إنزاله بكم؟ وهو سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغْترُّوا بما نالهم من نعم الله {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي بل هؤلاء الظالمون معرضون عن كلام الله ومواعظه لا يتفكرون ولا يعتبرون {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} أي ألهم آلهة تمنعهم من العذاب غيرنا؟ {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أي لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟ {وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي وليست هذه الآلهة تستطيع أن تجير نفسها من عذاب الله لأنها في غاية العجز والضغف قال ابن عباس: يُصحبون: يُجارون أي لا يُجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب لجاره {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} أي
متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها؟ {أَفَهُمُ الغالبون} استفهام بمعنى التقريع والإنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي} أي قل لهم يا محمد إنما أخوفكم واحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال {وَلَا يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ} أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أي ولئن شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً {لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيءٌ على إساءته {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي وإن كان العمل الذي عملته زنة حبةٍ من خردل جئا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر {وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} أي وهم من أهوال يوم القيامة وشدائدها خائفون وجلون {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمن تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير أنزلناه عليكم بلغتكم {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 -
جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَا. . رَّسُولٍ} .
2 -
الاستفهام الذي معناه التعجب والإِنكار {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا} .
3 -
الطباق بين الرتق والفتق في قوله {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} .
4 -
التنكير للتعميم {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ} .
5 -
الالتفات من المتكلم إلى الغائب {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار} بعد قوله {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء} وذلك لتأكيد الاعتناء بالنعم الجليلة التي أنعم بها على العباد.
6 -
الطباق بين الشر والخير {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير} .
7 -
المبالغة {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من نفس العجل كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب وكوصف بعضهم قوماً بقوله «نساؤهم لُعُب ورجالهم طرب» .
8 -
الاستعارة {وَلَا يَسْمَعُ الصم الدعآء} استعار الصُمَّ للكفار لأنهم كالبهائم التي لا تسمع الدعاء ولا تفقه النداء.
9 -
الكناية {حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} كناية عن العمل ولو كان في غاية القلة والحقارة.
10 -
السجع اللطيف {يَهْتَدُونَ، يَسْبَحُونَ، يُنصَرُونَ} الخ.
تنبيه: سئل ابن عباس: هل الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم إلى السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
لطيفَة: عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما فقال له: إِذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك - يريد ابن عباس - فذهب إليه فسأله فقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تُمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل الى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر: قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عباس في تفسير القرآن، فالآن علمتُ بأنه قد أُوتي في القرآن علماً.
المناسَبَة: لمّا ذكر تعالى الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بذكر قصص الأنبياء، وما نال كثيراً منهم من الابتلاء تسليةً للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم َ ليتأسّى بهم في الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وتوطين النفس على مجابهة المشركين أعداء الله.
اللغَة: {رُشْدَهُ} هذه إلى وجوه الصلاح {التماثيل} جمع تمثال وهو الصورة والمصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى يقال: مثَّلت الشيء بالشيء أي شبتهته به واسم ذلك الممثَّل تمثال {جُذَاذاً} فتاتاً والجذُّ: الكسر والقطع قال الشاعر:
صلى الله عليه وسلم َ - gt;
…
بنوالمهلب جذَّ الله دابرهم
أمْسوا رماداً فلا أصلٌ ولا طرف
…
{نُكِسُواْ} النَّكْسُ: قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفل {نَافِلَةً} زيادة ومنه النفل لأنه زيادة على افرض الله ويقال لولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد {الكرب} الغم الشديد {نَفَشَتْ} النَّفش: الرعيُ بالليل بلا راع يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار إذا رعت بلا راع.
التفسِير: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي والله لقد أعطينا إبراهيم هُداه وصلاحه إلى وجوه الخير في الدين والدنيا {مِن قَبْلُ} أي من صغره حيث وفقناه للنظر والاستدلال إلى وحدانية ذي الجلال {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي عالمينأنه أهلٌ لما آتيناه من الفضل والنبوة {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هذا بيانٌ للرشد الذي أُوتيه إِبراهيم من صغرة أي حين قال لأبيه آزر
وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وفي قوله {مَا هذه التماثيل} تحقيرٌ لها وتصغيرٌ لشأنها وتجاهل بها مع علمه بتعظيمهم لها {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبدها تقليداً لأسلافنا قال ابن كثير: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي لقد كنتم وأسلافكم الذين عبدوا هذه الأصنام في خطأٍ بيّن بعبادتكم إِياها إِذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تسمع {قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي هل أنت جادٌّ فيما تقول أم لاعب؟ وهل قولك حقٌّ أم مزاح؟ استعظموا إِنكاره عليهم، واستبعدوا أن يكون ما هم عليه ضلالاً، وجوَّزوا أن ما قاله على سبيل المزاح لا الجد فأضرب عن قولهم وأخبر أنه جادٌّ فيما قال غير لاعب {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} أي ربكم الجدير بالعبادة هو ربُّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ وأبدعهنَّ لا هذه الأصنام المزعومة {وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} أي وأنا شاهد للَّهِ بالوحدانية بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي تقطع به الدَّعاوى {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} أي وأقسمُ بالله لأمكرنَّ بآلهتكم وأحتالنَّ في وصول الضر إليها بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم قال المفسرون: كان لهم عيد يخرجون إليه في كل سنة ويجتمعون فيه فقال آزر لإِبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا! {فخرج معهم إِبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكى رجلي فتركوه ومضوا ثم نادى في آخرهم {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فسمعها رجلٌ فحفظها {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} فسمعها رجلٌ فحفظها أي كسَّر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وحُطاماً {إِلَاّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي إلا الصنم الكبير فإنه لم يكسره قال مجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلَّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتجّ به عليهم {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه عمن كسَّر الأصنام فيتبين لهم عجزه وتقون الحجة عليهم {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} في الكلام محذوفٌ تقديره: فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إل آلهتهم ورأوا ما فُعل بها قالوا على جهة البحث والإِنكار والتشنيع والتوبيخ: إِنَّ من حطَّم هذه الآلهة لشديد الظلم عظيم الجرم لجراءته على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي قال من سمع إِبراهيم يقول {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} سمعنا فتى يذكرهم بالذم ويسبُّهم ويعيبهم يسمى إِبراهيم فلعله هو الذي حطَّم الآلهة} {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} أي قال نمرود وأشراف قومه أحضروا إِبراهيم بمرأى من الناس حتى يروه، والغرضُ أن تكون محاكمته على رءوس الأشهاد بحضرة الناس كلهم ليكون عقابه عبرة لمن يعتبر {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي لعلهم يحضرون عقابه ويرون ما يصنع به {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم} أي هل أنتَ الذي حطَّمت هذه الآلهة يا إِبراهيم؟ {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أي قال إِبراهيم بل حطَّمها الصنم الكبير لأنه غضب أن تعبدوا معه هذه الصغار فكسرها، والغرض بتكيتُهم وإِقامة الحجة عليهم ولهذا قال {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} أي اسألوا هذه الأصنام من كسرها؟ إن كانوا يقدرون على النطق قال القرطبي: والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا
يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله كما قال إِبراهيم لأبيه
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] فقال إِبراهيم {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ليقولوا إِنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من نفسه فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أي رجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم {فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي أنتم الظالمون في عبادة ما لا ينطق {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} أي أنقلبوا من الإِذعان إلى المكابرة والطغيان {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} أي قالوا في لجاجهم وعنادهم: لقد علمتَ يا إِبراهيم أن هذه الأَصنام لا تتكلم ولا تجيب فكيف تأمرنا بسؤالها؟ وهذا إِقرار منهم بعجز الآلهة، وحينئذٍ توجهت لإِبراهيم الحجة عليهم فأخذ يوبخهم ويعنّفهم {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ} أي أتعبدون جمادات لا تضر ولا تنفع؟ {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي قبحاً لكم ونتناً لكم وللأصنام التي عبدتموها من دون الله {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون قبح صنيعكم؟ {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ} لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب عدلوا إلى البطض والتنكيل فقالوا: احرقوا إِبراهيم بالنار انتقاماً لآلهتكم ونصرةً لها {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أَي إِن كنتم ناصريها حقاً {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} أي ذات بردٍ وسلامة وجاءت العبارةُ هكذا للمبالغة قال المفسرون: لما أرادوا إِحراق إِبراهيم جمعوا له حطباً مدة شهر حتى كانت المرأة تمرض فتنذر إِن عوفيت أن تحمل حطباً لحرق إِبراهيم، ثم جعلوه في حفرة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها لهب عظيم حتى إِن الطائر ليمرُّ من فوقها فيحترق من شدة وهجها وحرها، ثم أوثقوا إِبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار، فجاء إِليه جبريل فال: ألك حاجة؟ قال أمّا إِليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال:«حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم، ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وقال ابن عباس: لو لم يقل الله {وسلاما} لآذى إِبراهيم بردها {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} أي أرادوا تحريقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} أي أخسر الناس وأخسر من كل خاسر حيث كادوا لنبيّ اللهِ فردَّ الله كيدهم في نحورهم {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي ونجينا إِبراهيم مع ابن أخيه لوط حيث هاجرا من العراق إلى الشام التي بارك الله فيها بالخِصب وكثرة الأَنبياء ووفرة الأنهار والأشجار قال ابن الجوزي: وبركتُها أن الله عز وجل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخِصب والأنهار {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي أعطينا إِبراهيم - بعدما سأل ربه الولد - إسحاق وأعطيناه كذلك يعقوب نافلةً أي زيادة وفضلاً من غير سؤال قال المفسرون: سأل إِبراهيم ربه ولداً فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة زيادة على ما سأل لأنَّ ولد الولد كالولد {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلاً من إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب جعلناه من أهل الخير والصلاح {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي جعلناهم قدوةٌ ورؤساء لغيرهم يرشدون الناس إلى الدين بأمر الله {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ
فِعْلَ الخيرات} أي أوحينا إِليهم أن يفعلوا الخيرات ليجمعوا بين العلم والعمل {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة} أي وأمرناهم بطريق الوحي بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وإِنما خصهما بالذكر لأن الصلاة أفضلُ العبادات البدنية، والزكاة أفضلُ العبادات المالية {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} أي موحدين مخلصين في العبادة {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أي وأعطينا لوطاً النبوة والعلم والفهم السديد قال ابن كثير: كان لوط قد آمن بإِبراهيم عليه السلام واتَّبعه وهاجر معه كما قال تعالى
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] فآتاه الله حُكماً وعلماً وأوحى إِليه وجعله نبياً وبعثه إلى «سدوم» فكذبوه فأهلكهم الله ودمَّر عليهم كما قصّ خبرهم في غير موضع من كتابة العزيز {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} أي خلَّصناه من أهل قرية سدوم الذين كانواْ يعملون الأعمال الخبيثة كاللواط وقطع السبيل وغير ذلك {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} أي كانوا أشراراً خارجين عن طاعة الله {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصالحين} أي أدخلناه في أهل رحمتنا لأنه من عبادنا الصالحين {وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ} أي واذكر قصة نوح حين دعا على قومه من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين، دعا عليهم بالهلاك حين كذبوه بقوله {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] {فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي استجبنا دعاءه فأنقذناه ومن معه من المؤمنين - ركاب السفينة - من الطوفان والغرق الذي كان كرباً وغماً شديداً يكاد يأخذ بالأنفاس {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي منعناه من شر قومه المكذبين فنجيناه وأهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كانوا منهمكين في الشرّ فأغرقناهم جميعاً ولم نُبْق منهم أحداً {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي علمنا وألهمنا سليمان الحكم في القضية {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أي وكلاً من داود وسليمان أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة قال المفسرون: تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو الباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع! قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} أي جعلنا الجبال والطير تسبّح مع داود إذا سبّح قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور فكان إِذا ترنّم بها تقف الطير في الهواء فتجاوبه وتردُّ عليه الجبال تأويباً وإِنما قدَّم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي وكنا قادرين على فعل ذلك {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} أي علمنا داود صنع
الدروع بإِلانةِ الحديد له قال قتادة: أول من صنع الدروع داود وكانت صفائح فهو أول من سردها وحلَّقها {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} أي لتقيكم في القتال شرٌ الأعداء {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} استفهامٌ يراد به الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم، ولما ذكر تعالى ما خصَّ به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خصَّ به ابنه سليمان فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفةً أي شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} أي تسير بمشيئته وإرادته إلى أرض الشام المباركة بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، وكانت مسكنه ومقر ملكه {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أي وكنا عالمين بجميع الأمور فما أعطيناه تلك المكانة إِلا لما نعلمه من الحكمة {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا لسليمان بعض الشياطين يغوصون في الماء ويدخلون أعماق البحار ليستخرجوا له الجواهر واللآلئ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك} أي ويعملون أعمالاً أخرى سوى الغوص كبناء المدن والقصور الشاهقة والأمور التي يعجز عنها البشر {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي نحفظهم عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات من وجوه الفصاحة والبديع ما يلي:
1 -
الاستعارة اللطيفة {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.
2 -
الطباق بين {يَنفَعُكُمْ. . ويَضُرُّكُمْ} .
3 -
المبالغة {كُونِي بَرْداً} أطلق المصدر وأراد اسم الفاع ل أي باردة أو ذات برد.
4 -
عطف الخاص على العام {فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة} لأن الصلاة والزكاة من فعل الخيرات وإِنما خصهما بالذكر تنبيهاً لعلو شأنهما وفضلهما.
5 -
الاحتراس {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} دفعاً لتوهم انتقاص مقام داود عليه السلام.
6 -
المجاز المرسل {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ} أي في الجنة لأنها مكان تنزل الرحمة فالعلاقة المحلية.
7 -
السجع غير المتكلف {العَابِدِينَ الصابرين، الصالحين} الخ.
تنبيه: وصف تعالى الريح هاهنا بقوله {عَاصِفَةً} ووصفها في مكان آخر بقوله {رُخَآءً} [ص: 36] والعاصفة هي الشديدة، والرخاء هي اللَّينة، ولا تعارض بين الوصفين لأن الريح كانت ليّنة طيبة وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين فتدبر.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى جملةً من الأنبياء «إبراهيم، نوح، لوط، داود، سليمان» وما نال كثيراً منهم من الابتلاء، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاء الله له بأنواع المحن ثم أعقبها بذكر محنة يونس وزكريا وعيسى وكلُّ ذلك بقصد التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ ليتأسى بهم.
اللغَة: {ذَا النون} النون: الحوت وذا النون لقب ليونس بن متّى لابتلاع النون له {أَحْصَنَتْ} الإحصان: العفة يقال: رجل محصنٌ وامرأة محصنة أي عفيفة {رَغَباً وَرَهَباً} الرغب: الرجاء، والرهب: الخوف {كُفْرَانَ} الكفر والكفران: الجحود وأصله الستر لأن الكافر يستر
نعمة الله ويجحدها {حَدَبٍ} الحدب: ما ارتفع من الأرض مأخوذ من حدبة الظهر قال عنترة:
فما رعِشتْ يداي ولا ازدهاني
…
تواترهم إليَّ من الحِداب
{يَنسِلُونَ} يسرعون يقال: نسل الذئب ينسل نسلاناً أي أسرع {حَصَبُ} الحصب: ما توقد به النار كالحطب وغيره {زَفِيرٌ} أنين وتنفس شديد {حَسِيسَهَا} الحسيس: الصوتُ والحسُّ والحركة الذي يُحس به من حركة الأجرام {السجل} الصحيفة لأن بها يُسجل المطلوب.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} شقَّ ذلك على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا واتوا ابن الزَّبعري وأخبروه فقال: لو حضرتُه لرددتُ عليه قالوا: وما كنت تقول له؟ قال أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وهذا عزير تعبده اليهود؛ أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته وأوا أنَّ محمداً قد خصم فأنزل الله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} .
التفسِير: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} أي واذكر قصة نبيّ الله أيوب حين دعا ربَّه بتضرع وخشوع {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} أي نالني البلاء والكرب والشدة قال المفسرون: كان أيوب نبياً من الروم، وكان له أولاد ومال كثير، فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلَّط البلاء والمرض على جسمه فصبر فمر عليه ملأ من قومه فقالوا: ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم فعند ذلك تضرَّع إلأى الله فكشف عنه ضره {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} أي أكثرهم رحمة فارحني، ولم يصرّح بالدعاء ولكنه وصف نفسه بالعجز والضعف، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان فيه من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب {فاستجبنا لَهُ} أي أجبنا دعاءه وتضرعه {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} أي أزلنا ما أصابه من ضر وبلاء {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي أُحيوا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والمعنى أعطيناه أهله في الدنيا ورزقناه من زوجته مثل ما كان له من الأولاد والأتباع {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي من أجل رحمتنا إِيّأه {وذكرى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبوا كما صبر قال القرطبي: أي وتذكيراً للعُبَّاد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب ومحنته وصبره وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا مثل ما فعل أيوب وهو أفضل أهل زمانه، يُروى أنَّ أيوب مكث في البلاء ثمان عشرة سنة فقالت له امرأته يوماً: لو دعوتَ الله عز وجل فقال لها: كم لبثنا في الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: إني أستحيي من الله أن أدعوه وما مكثت في بلائي المدة التي مكثتها في رخائي {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل} أي واذكر لقومك قصة إسماعيل بن إِبراهيم وإِدريس بن شيث وذا الكفل {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} أي كل من هؤلاء الأنبياء من أهل الإِحسان والصبر، جاهدوا في الله
وصبروا على ما نالهم من الأذى {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي أدخلناهم بصبرهم وصلاحهم الجنة دار الرحمة والنعيم {إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين} أي لأنهم من أهل الفضل والصلاح {وَذَا النون} أي واذكر لقومك قصة يونس الذي ابتلعه الحوت، والنونُ هو الحوتُ نُسب إِليه لأنه التقمه {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} أي حين خرج من بلده مغاضباً لقومه إِذ كان يدعوهم إِلى الإِيمان فيكفرون حتى أصابه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله تعالى
{وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] ولا يصح قول من قال: مغاضباص لربه قال أبو حيان: وقولُ من قال مغاضباً لربه يجب طرحه إِذ لا يناسب مصب النبوة وقال الرازي: لا يجوز صرف المغاضبة إِلى الله تعالى لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهلث بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكوننبياً، ومغاضبتُه لقومه كانت غضباً لله، وأنفةً لدينه، وبغضاً للكفر وأهله {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظنَّ يونس أنْ لن نضيّق عليه بالعقوبة كفوله {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضُيّق عليه فيه فهو من القدر لا من القُدرة قال الإِمام الفخر: من ظنَّ عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إِلى الأنبياء عليهم السلام! روي أنه دخل ابن عباس على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقتُ فيها فلم أجدْ لي خلاصاً إِلا بك، فقال: وما هي؟ قال: يظنُّ نبيُّ الله يونس أن لن يقدر الله عليه؟ فقال ابن عباس: هذا من القدْر لا من القُدرة {فنادى فِي الظلمات} أي نادى ربه في ظلمة الليل وهو في بطن الحوت قال ابن عباس: جمعت الظلمات لأنها ظلمة الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت {أَن لَاّ إله إِلَاّ أَنتَ} أي نادى بأن لا إِله إِلا أنت يا رب {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} أي تنزَّهت يا ربّ عن النقص والظلم، وقد كنتُ من الظالمين لنفسي وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشفْ عني المحنة وفي الحديث
«ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إِلا استجيب له» {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أي استجبنا لتضرعه واستغاثته ونجيناه من الضيق والكرب الذي ناله حين التقمه الحوت {وكذلك نُنجِي المؤمنين} أي كما نجينا يونس من تلك المحنة ننجي المؤمنين من الشدائد والأهوال إذا استغاثوا بنا {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} أي واذكر يا محمد خبر رسولنا زكريا حين دعا ربه دعاء مخلص منيب قائلاً: ربّ لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث قال ابن عباس: كان سنُّه مائة وسنُّ زوجته تسعاً وتسعين {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} أي وأنت يا رب خير من يبقى بعد كل من يموت قال الألوسي: وفيه مدحٌ له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، واستمطارٌ لسحائب لطفه عز وجل {فاستجبنا لَهُ} أي أجبنا دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} أي رزقناه ولداً اسمه يحيى على شيخوخته {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقراً وقال ابن عباس: كانت سيئة الخُلُق طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخُلُق {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} أي إِنما استجبنا دعاء من ذُكر من
الأنبياء لأنهم كانوا صالحين يجدّون في طاعة الله ويتسابقون في فعل الطاعات وعمل الصالحات {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} أي طمعاً ورجاءً في رحمتنا وخوفاً وفزعاً من عذابنا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أي كانوا متذللن خاضعين لله يخافونه في السر والعلن {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم البتول التي أعفت نفسها عن الفاحشة وعن الحلال والحرام كقوله {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] قال ابن كثير: ذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه حينى لأن تلك مربوطة بهذه فإِنها إِيجاد ولدٍ من شيخ كبير قد طعن في السن وامرأة عجوز لم تكن تلد في حال شبابها، وهذه أعجب فإِنها إِيجاد ولدٍ من أنثى بلا ذكر ولذلك ذكر قصة مريم بعدها {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أي أمرنا جبريل فنفخ في فتحة درعها - قميصها - فدخلت النفخة إِلى جوفها فحملت بعيسى، وأضاف الروح إِليه تعلى على جهة التشريف {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا مريم مع ولدها عيسى علامةً وأعجوبة للخلق تدل عدرتنا الباهرة ليعتبر بها الناس {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي دينكم وملتكم التي يجب ان تكونوا عليها أيها الناس ملةٌ واحدة غير مختلفة وهي ملة الإِسلام، والأنبياء كلهم جاءوا برسالة التوحيد قال ابن عباس: معناه دينكم دينٌ واحد {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} أي وأنا إِلهكم لا برَّ سواي فأفردوني بالعبادة {وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين وأصبحوا فيه شيعاً وأحزاباً فمن موحّد، ومن يهودي، ونصراني ومجوسّي {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي رجوعهم إِلينا وحسابهم علينا قال الرازي: معنى الآية جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قِطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه تمثيلاً لاختلافهم في الدين وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من يعمل شيئاً من الطاعات وأعمال البرّ والخير بشرط الإِيمان {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا بُطلان لثواب عمله ولا يضيع شيء من جزائه {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نكتب عمله في صحيفته والمراد أمر الملائكة بكتابة أعمال الخلق {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي ممتنعٌ على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك إِلى الدنيا مرة ثانية وفي رواية عنه {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوبون قال ابن كثير: والأول أظهر وقال في البحر: المعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا إِهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إِلى الإِيمان إِلى أن تقوم الساعة فحينئذٍ يرجعون {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي حتى إذا فتح سدُّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أي وهم لكثرتهم من كل مرتفع من الأرض ومن كل أكمة وناحية يسرعون لالنزول والمرادُ أن يأجوج ومأجوج لكثرتهم يخرجون من كل طريق للفساد في الأرض {واقترب الوعد الحق} أي اقترب وقت القيامة قال المفسرون: جعل الله خروج يأجوج ومأجوج علماً على قرب الساعة قال ابن مسعود: الساعةُ من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل التمتّم لا يدري أهلُها متى تفْجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراًً {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} الضمير للقصة والشأن أي فإِذا شأن الكافرين أنَّ أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم لا تكاد تطرف
من الحيرة وشدة الفزع {ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} أي ويقولون يا ويلنا أي يا حسرتنا وهلاكنا قد كنا في غفلةٍ تامة عن هذا المصير المشئوم واليوم الرهيب {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أضربوا عن القول السابق وأخبروا بالحقيقة المؤلمة والمعنى لم نكن ف غفلةٍ حيث ذكَّرتنا الرسلُ ونبَّهتنا الآيات بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الإِيمان {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي إِنكم أيها المشركون وما تعبدونه من الأوثان والأصنام {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي حطب جهنم ووقودها قال أبو حيان: الحَصب ما يحصب به أي يُرمى بهْ في نار جهنم، وقبل أن يُرمى به لا يُطلق عليه حصبٌ إِلا مجازاً {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي أنتم داخلوها مع الأصنام، وإِنما جمع الله الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمّهم وحسرتهم برؤيتهم الآلهة التي عبدوها معهم في عذاب الجحيم {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} أي لو كانت هذه الأصنام التي عبدتموها آلهةً ما دخلوا جهنم {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي العابدون والمعبدون كلهم في جهنم مخلَّدون {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الكفرة في النار زفير وهو صوت النَّفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو يشبه أنين المحزون والمكلوم {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون في جهنم شيئاً لنهم يُحشرون صُماً كما قال تعالى
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97] قال القرطبي: وسماعُ الأشياء فيها روح وأُنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار وقال ابن مسعود: إِذا بقي من يُخلَّد في نار جهنم جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنه يُعذُب في النار غيره ثم تلا الآية {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} أي سبقت لهم السعادة {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي هم عن النار معبدون لا يصلون حرَّها ولا يذوقون عذابها قال ابن عباس: أولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرّاً أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثياً {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي لا يسمعون حسَّ النار ولا حركة لهبها وصوتها {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي وهم في الجنة دائمون، لهم فيها تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {لَا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} أي لا تصيبهم أهوال يوم القيامة والبعث لأنهم في مأمنٍ منها {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم قائلين {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا يوم الكرامة والنعيم الذي وعدكم الله به فأبشروا بالهناء والسرور {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} أي اذكر يوم نطوي السماء طياص مثل طيّ الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى «على» {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاةً عُراةً غُرْلاً على الصورة التي بدأنا خلقهم فيها وفي الحديث «إنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غُرلاً {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإِنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام. .» الحديث {وَعْداً عَلَيْنَآ} أي وعداً مؤكداً لا يُخلف ولا يبدّل لازم علينا إِنجازه والوفاء به {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي قادرين على ما نشاء، وهو تأكيد لوقوع البعث {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} أي سجلنا وسطرنا في الزبور المنزل على داود {مِن بَعْدِ
الذكر} أي من بعد ما سطرنا في اللوح المحفوظ أزلاً {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} أي أن الجنة يرثها المؤمنون الصالحون قال ابن كثير: أحبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال القرطبي: أحسن ما قيل فيها أنه يراد به أرض الجنة لأن الأرض في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم وهو قول ابن عباس ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض}
[الزمر: 74] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ، وقال مجاهد: الزبور: الكتب المنزلة، والذكرُ أمُّ الكتاب عند الله {إِنَّ فِي هذا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إِنَّ في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لكفايةً لقوم خاضعين متذللين لله جل وعلا، المؤثرين لطاعة الله على طاعة الشيطان {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي وما أرسلناك يا محمد إلا رحمة للخلق أجمعين وفي الحديث «إنما أنا رحمةٌ مهداة» فمن قَبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أوحى إِليَّ ربي أنَّ إِلهكم المستحق للعبادة إِله واحد أحد فرد صمد {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهام ومعناه الأمر أي فأسلموا له وانقادوا لحكمه وأمره {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام {فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} أي فقل لهم أعلمتكم بالحق على استواءٍ في الإِعلام لم أخصَّ أحداً دون أحد {وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أي وما أدري متى يكون ذلك العذاب؟ ولا متى يكون أجل الساعة؟ فهو واقع لا محالة ولكنْ لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي اللَّهُ هو العلام الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السرَّ وأخفى، وسيجازي كلاً بعمله {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} أي وما أدري لعل هذا الإِمهال وتأخير عقوبتكم امتحانٌ لكم لنرى كيف صنيعكم {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} أي ولعلَّ هذا التأخير لتستمتعوا إِلى زمنٍ معين ثم يأيكم عذاب الله الأليم {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وافصل بيننا بالحق {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي أستعين بالله على الصبر على تصفونه من الكفر والتكذيب. ختم السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم َ بتفويض الأمر إِليه وتوقع الفرج من عنده، فهو نعم الناصر ونعم المعين.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 -
التعرض للرحمة بطريق التلطف {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} ولم يقل: ارحمني.
2 -
جناس الاشتقاق {أَرْحَمُ الراحمين} .
3 -
الجناس الناقص {الصابرين. . الصالحين} .
4 -
الطباق بين {رَغَباً. . وَرَهَباً} وبين {بَدَأْنَآ. . ونُّعِيدُهُ} وبين {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ} .
5 -
التشريف {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أضاف الروح إِليه تعالى على جهة التشريف كقوله {نَاقَةَ الله} .
6 -
الاستعارة التمثيلية {وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} مثَّل اختلافهم في الدين وتفرقهم فيه إِلى شيع وأحزاب بالجماعة تتوزع الشيء لهذا نصيب، وهذا من لطيف الاستعارة.
7 -
الإِيجاز بالحذف {ياويلنا} أي ويقولون يا ويلنا، ومثلُه قوله {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ} أي تقول لهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
8 -
التشبيه المرسل المفصل {نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} أي طياً مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.
9 -
الاستفهام الذي يراد به الأمر {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي أسلموا.
10 -
السجع {فاعبدون، كَاتِبُونَ، رَاجِعُونَ} الخ وهو من المحسنات البديعية.
اللغَة: {زَلْزَلَةَ} الزلزلة: شدة الحركة وأصل الكلمة من زلَّ عن الموضع أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أي حركها، وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء {تَذْهَلُ} ذهل عن الشيء اشتغل عنه بشاغل من هم أو وجع أو غيره {مُّضْغَةٍ} المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يُمضغ {
مُّخَلَّقَةٍ} تامة الخِلْقة {بَهِيجٍ} حسن سار للناظر {عِطْفِهِ} العطف: الجانب ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه ويسمى الرداء العِطاف والمعطف لأنه يوضع على الجانبين {العشير} الصاحب والخليل.
التفسِير: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ} خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نه اك، وأن لا يفقدك حيث أمرك {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدون فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع {وَتَرَى الناس سكارى} أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع {وَمَا هُم بسكارى} أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يثول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرجد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَاّهُ} أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} أي فأن الشيطان يفويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ {وَيَهْدِيهِ} على سبيل التهكم، ولما ذرك تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} أي إن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم «أدم» من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثم جعلنا نسلة من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصوة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي
خلقناكم على هاذ النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على ان يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ} أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي إلأى زمن معين هو وقت الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم نخرج هاذ الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي كمال قوتكم وعقلكم {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلأى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى
{وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} [يس: 68]{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي واخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آار قدرته وشاهد بأن الله هو الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى} أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لَاّ رَيْبَ فِيهَا} أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية {وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رمماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} أي له هوان وذل في الحياة الدنيا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِّلعَبِيدِ} أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيلُ للمذبذبين الذين لا
يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرَ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خليه قال: هذا دين سوء {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ} أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ} أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدنيا والأخرة} أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية {ذلك هُوَ الخسران المبين} أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ} أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر {ذلك هُوَ الضلال البعيد} أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة} أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم َ في الدنيا والآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي ومثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله آيات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم {إِنَّ الذين آمَنُواْ} أي صدقوا الله ورسوله وهم أبتاع محمد عليه السلام {والذين هَادُواْ} أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {والصابئين} هم قوم يعبدون النجوم {والنصارى} هم
المنتسبون إلى ملة عيسى عليه السلام {والمجوس} هم عبدة النيران {والذين أشركوا} هم العرب عبدة الأوثان {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الصالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب} أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة.
والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} أي من اهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التشبيه البليغ المؤكد {وَتَرَى الناس سكارى} أي كالسكارى من شدة الهول، حذفت أداة التشبيه والشبه.
2 -
الاستعارة {شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} استعار لفظ الشيطان لكل طاغية متمرد على أمر الله
3 -
الطباق بين {يُضِلُّهُ. . وَيَهْدِيهِ} .
4 -
أسلوب التهكم {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} .
5 -
طباق السلب {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} .
6 -
الاستعارة اللطيفة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} شبه الأرض بنائم لا حركة له ثم يتحرك وينتعش وتدب فيه الحياة بنزول المطر عليه ففيها استعارة تبعية.
7 -
الكناية {ثَانِيَ عِطْفِهِ} كناية عن التكبر والخيلاء.
8 -
المجاز المرسل {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.
9 -
الاستعارة التمثيلية {مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} مثل للمنافقين وما هم فيه من قلق واضطراب في دينهم بمن يقف على شفا الهاوية يريد العبادة والصلاة، ويا له من تمثيل رائع!
10 -
المقابلة البديعة بين {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ. . وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ} .
11 -
الطباق بين {يَضُرُّهُ. . ويَنفَعُهُ} وبين {يُهِنِ. . فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} .
12 -
السجع اللطيف بين كثير من الآيات.
فَائِدَة: المُرضع التي شأنها أن ترضع، ولامرضعة هي التي في حال الإِرضاع ملقمة ثديها
لطفلها ولهذا قال {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} ولم يقل: مرضع ليكون ذلك أعظم في الذهول إذ تنزع ثديها من فم الصبي - أحب الناس إليها - وذلك غاية في شدة الهول والفزع.
تنبيه: روى ابن أبي حاتم أنه قيل لعلي: «إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة فاستدعاه فقال له، يا عبد الله: خلقك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال بل كما شاء، قال فيمرضك إذا أو إذا شئت، قل: بل إذا شائ، قال: فيشفيك إذا شاء أو إِذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال والله لو قلت غير ذكل لضربت الذي بين عينيك بالسيف» .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذي يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.
اللغَة: {يُصْهَرُ} الصهر: الإِذابة صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب {مَّقَامِعُ} المقامع: السياط جمع مقمعة سميت بذلك لأنها تقمع الفاجر {العاكف} المقيم الملازم {والباد} القادم من البادية {بَوَّأْنَا} أنزلنا وهيأنا وأرشدنا {رِجَالاً} جمع راجل وهو الماشي على قدميه {ضَامِرٍ} الضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر {تَفَثَهُمْ} التفث في اللغة: الوسخ والقذر قال الشاعر:
حفوا رءوسهم لم يحلقوا تفثاً
…
ولم يسلُّلوا لهم قملاً وصئباناً
قال الثعلبي: أصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك {المخبتين} المخبت: المتواضع الخاشع لله.
التفسِير: {هذان خَصْمَانِ} أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين {اختصموا فِي رَبِّهِمْ} أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى {قُطِّعَتْ} خيطت وسويت، وذرك بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} أي يصب على رءوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعا كما كان» قال الإِمام الفخر: والغرض أن الحميم إذا صب على رءوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} أي كلما أراد اهل النار الخروج من النار من شدة عمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهيها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي ويقال لهم: ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم فيه تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها {وَلُؤْلُؤاً} أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول} أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين، ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام} أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال {وَيَصُدُّونَ} بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله
{الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28]{الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم والحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت {أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود} أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقئمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، يوجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً
على جمل هزيل قد أعبه وأنهكه بعد المسافة {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل {يَأْتِينَ} تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال
{والعاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] في خلي الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} أي يلحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفخر الرازي: وانما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان {فَكُلُواْ مِنْهَا} أي كلوا من لحوم الأضاحي {وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طاوف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم سمي به لأنه أول بيت وضع للناس {ذلك} أي الأمر والشأن ذلك قال الزخمشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلَاّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها {واجتنبوا قَوْلَ الزور} أي واجتنبوا شهادة الزور {حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير} تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن التقوى في القلب وفي الحديث
«التقوى هاهنا» وأشار إلى صدره {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ
مُّسَمًّى} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعتاً في جميع الملل {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله} أي أمرناهم عند الذبح أو يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى {على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى انه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان {فإلهكم إله وَاحِدٌ} أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي فأخلصوا له العبدة واستسلموا لحكه وطاعته {وَبَشِّرِ المخبتين} أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليها فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون {والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ} أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض ولمصائب والمحن وسائر المكاره {والمقيمي الصلاة} أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا تينفقون في وجوه الخيرات {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أج سامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين انها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهم {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةٌ عن الموت {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، ولمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال {كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة اجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا} أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها {ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} أي ولكن يصل إلأيه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه {وَبَشِّرِ المحسنين} أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.
البَلَاغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِيجاز {اختصموا فِي رَبِّهِمْ} أي في دين ربهم فهو على حذف مضاف.
2 -
الاستعارة {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه.
3 -
الطباق بين {العاكف. . والباد} لأن العاكف المقيم في المدينة والباد القدم من البادية.
4 -
التأكيد بإعادة الفصل {1649;جْتَنِبُواْ الرجس مِنَ الأوثان} للعناية بشأن كل استقلالاً، ويسمى في علم البديع الإِطناب.
5 -
التشبيه التمثيلي {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
6 -
الجناس الناقص {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} .
7 -
الطباق بين {القانع والمعتر} لأنه القانع المتعفف والمعتر السائل.
8 -
السجع اللطيف مثل {عَميِقٍ، سَحِيقٍ، العتيق} ومثل {المحسنين، المخبتين} .
تنبيه: لم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لأنه المكان المقدس الذي يجب أن يكون فيه الإِنسان نقي القلب، طاهر النفس، صافي السريرة، خالصاً بكليته لله، فمن ينتهك حرمة الملك في حماه جدير بالجحيم والعذاب الأليم.
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، بيَّن هنا أنه يدافع عن المؤمنين وذكر الحكمة من مشروعية القتال ومنها الدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
اللغَة: {صَوَامِعُ} جمع صومعة وهي البناء المرتفع وهي مختصة بالرهبان {بِيَعٌ} جمع بيعة وهي كنيسة النصارى {وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود وقال الزجاج: وهي بالعبرانية صَلُوتا {نَكِيرِ} مصدر بمعنى الإِنكار قال الجوهري: النكيرُ والإِنكارُ تغيير المنكر {مُّعَطَّلَةٍ} متروكة وتعطيل الشيء إبطال منافعه {مَّشِيدٍ} مرفوع البنيان.
التفسِير: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} أي ينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس المشركين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} فيه محذوف تقديره: أُذن لهم في القتال بسبب أنهم ظُلموا قال ابن عباس: هذه أو لآيةٍ نزلت في الجهاد قال المفسرون: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بين مضروب ومسجوح ويتظلمون إلأيه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أزمر بقتالهم حتى هاجروا فأُنزلت هذه الآية وهي أول آيةٍ أُذن فيها بالقتال بعدما نهي عنه في أكثر من سبعين آية {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على نصر عباده من غير قتال ولكنه يريد منهم أن يبذلوا جهدهم في طاعته لينالوا أجر الشهداء {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} أي أُخرجوا من أوطانهم ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للإِخراج قال ابن عباس: يعني محمداً وأصحابه أُخرجوا
من مكة إلى المدينة بغير حق {إِلَاّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب إلا أنهم وحدوا الله ولم يشركوا به أحداً {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله من الجهاد وقتال الأعداء لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر ولكنه تعالى دفع شرهم بأن أمر بقتالهم {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} أي لتهدمت معابد الرهبان وكنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} أي كنائس اليهود {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} أي ومساجد المسلمين التي يعبد فيها الله بكرة وأصيلاً، ومعنى الآية أنه لولا كفُّه تعالى المشركين بالمسلمين، وإِذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم فهدموا موضع عباداتهم، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود كنائس، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون أهل الأديان، وإنما خص المساجد بهذا الوصف {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} تعظيماً لها وتشريفاً لأنها أماكن العبادة الحقة {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} قسمٌ أي والله سينصر الله من ينصر دينه ورسوله {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي إنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، عزيزٌ لا يُقهر ولا يغلب قال ابن كثير: وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} قال ابن عباس: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض وتملكاً واستعلاء عبدوا الله وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة {وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} أي دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} أي مرجع الأمور إلى حكمة تعالى وتقديره {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ ووعيد للمشركين أي إن كذبك أهل مكة فاعلم إنك لست أول رسول يكذبه قومه فقد كان قبلك أنبياء كُذبوا فصبروا إلى أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} أي وكذب قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب {وَكُذِّبَ موسى} أي وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته، وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم ثم أخذتهم بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام تقريري أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ألم يكن أليما ً؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالعمارة خراباً؟ فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم من قرية أهلكنا أهلها بالعذاب الشامل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وهي مشركة كافرة {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فهي مخربة مهدمة {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر عطلت فتركت لا يستقى منها لهلاك أهلها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} أي وكم من قصر مفرفوع البنيان أصبح خالياً بلا ساكن، أليس في ذلك عبرة للمعتبر؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} أي أفلم يسافر أهل مكة ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار! {وهلاّ عقلوا ما يجب أن يُعقل من الإِيمان والتوحيد} {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها المواعظ والزواجر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار
ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} أي ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة فمن كان أعمى القلب لا يعتبر ولا يتدبر، وذِكرُ الصدور للتأكيد ونفي توهم المجاز {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} أي ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب استهزاءً، وإن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه لأنه تعالى لا يخلف الميعاد {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} أي هو تعالى حليم لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه فلِم إذاً يستبعدونه ويستعجلون العذاب؟ ولهذا قال بعد ذلك {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وكثير من أهل قرية أخرت إهلاكهم وأمهلتهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير} أي ثم أخذتهم بالعذاب ذكر الآية تنبيهاً على أن السابقين أُمهلوا ثم أُهلكوا وأن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإن لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم {قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستعجلين للعذاب إنما أنا منذر لكم أخوفكم عذاب الله وأنذركم إنذاراً بيناً من غير أن يكون لي دخلٌ في تعجيل العذاب أو تأخيره {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي فالمؤمنون الصادقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح لهم عند ربهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في جنان النعيم قال الرازي: بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم وقال القرطبي: إذا سمعت الله تعالى يقول {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فاعلم أنه الجنة {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي كذبوا بآياتنا وسعوا في إبطالها مغالبين مشاقين يريدون إطفاء نور الله {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} أي فأولئك هم أصحاب النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، شبههم من حيث الدوام بالصاحب قال الرازي: فإن قيل: إنه عليه السلام بشر المؤمنين أولاً، وأنذر الكافرين ثانياً في هذه الآية فكان القياس أن يقال {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والجواب أن الكلام مسوق إلى المشركين وهم الذين استعجلوا العذاب و {ياأيها الناس} نداءٌ لهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة لغيظهم وإيذائهم {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمداً رسولاً ولا نبياً {إِلَاّ إِذَا تمنى} أي إلا إذا أحبَّ شيئاً وهويته نفسه {أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} أي ألقى الشيطان فيما يشتهيه ويتمناه بعض الوساوس التي توجب استغاله بالدنيا كما قال عليه السلام
«إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» قال الفراء: تمنى إذا حدَّث نفسه وفي البخاري: قال ابن عباس: «إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: كمينخ: قراءته ق لانحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأجله، ومعنى الآية: وما أرسلنا رسولاً ولا نبياً فحدث نفسه بشيء وتمنى لأمته الهداية والإِيمان إلا ألقى الشيطان الوساوس والعقبات في طريقه
بتزيين الكفر لقومه وإلقائه في نفوسهم مخالفةً لأمر الرسول وكأنَّ الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ تقول له: لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي يزيل ويبطل الله ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} أي يثبت في نفس الرسول آياته الدالة على الوحدانية والرسالة {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي مبالغٌ في العلم حكيم يضع الأشياء في مواضعها قال أبو السعود: وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام، وتطرق الورسوسة إليهم {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان} أي ليجعل تلك الشبه والوساوس التي يلقيها الشيطان {فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي فتنة للمنافقين الذين في قلوبهم شك وارتياب {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي وفتنةً لكلافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وهم خواص من الكفار عتاةٌ كأبي جهل، والنضر، وعتبه {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي وإن هؤلاء المذكورين من المنافقين والمشركين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، ووصف الشقاق بلفظ {بَعِيدٍ} لأنه في غاية الضلال والبعدِ عن الخير {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} أي وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق النازل من عند الله تعالى {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي يؤمنوا بهذا القرآن {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن له قلوبهم بخلاف من في قلبه مرض {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي مرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم ومنقذهم من الضلالة والغواية {وَلَا يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي ولا يزال هؤلاء المشركون في شك وريب من هذا القرآن {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي حتى تأتيهم الساعة فجأة دون أن يشعروا قال قتادة: ما أخذ الله قوماً قطُّ إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي أو يأتيهم عذاب يوم القيمة وسمي عقيماً لأنه لا يوم بعده قال أبو السعود: كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة أيضاً كأ نه قيل: أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ} أي الملك يوم القيامة لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يفصل بين عباده بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار
ولهذا قال {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم} أي فالذين صدقوا الله ورسوله وفعلوا صالح الأعمال لهم النعيم المقيم في جنات الخلد {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله لهم العذاب المخزي مع الإِهانة والتحقير في دار الجحيم {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي تركوا الأوطان والديار ابتغاء مرضاة الله وجاهدوا لإِعلاء كلمة الله {ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ} أي قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} أي ليعطينهم نعيماً خالداً لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي هو تعالى خير من أعطى فإنه يرزق بغير حساب {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي ليدخلنهم مكاناً يرضونه وهو الجنة التي فيها ملا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بدرجات العاملين حليم عن عقابهم {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي جازى الظالم بمثل ما ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} أي ثم اعتدى الظالم عليه ثانياً لينصرن الله ذلك المظلوم {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والغفران، وفيه تعريض بالحث على العفو والصفح، فإنه تعالى مع كمال قدرته على الانتقام يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن آيات قدرته إيلاج الليل في النهار أي أنه يدخل كلاً منهما في الآخر.
بأن ينقص من الليل فيزيد في النهار وبالعكس وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده بصير بأحوالهم لا تخفى عليه خافية {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي ذلك بأن الله هو الإِله الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} أي وأن الذي يدعوه المشركون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي لا يقدر على شيء {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} أي هو العالي على كل شيء ذو العظمة والكبرياء فلا أعلى منه ولا أكبر.
الَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
صيغة المبالغة {خَوَّانٍ كَفُورٍ} لأن فعال وفعول من صيغ المبالغة.
2 -
الحذف لدلالة السياق عليه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي أُذن بالقتال للذين يقاتلون.
3 -
تأكيد المدح بما يشبه الذم {إِلَاّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} أي لا ذنب لهم إلا هذا.
4 -
المقابلة اللطيفة بين {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وبين {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك أَصْحَابُ الجحيم} .
5 -
جناس الاشتقاق {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} .
6 -
الطباق بين {يَنسَخُ. . ثُمَّ يُحْكِمُ} .
7 -
الاستعارة البديعة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} وهذا من أحسن الاستعارات لأن العقيم المرأة التي لا تلد، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار لأن الزمان قد مضى، والتكليف قد انقضى، فجعلت الأيام بمنزلة الولدان لليالي، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيماً على طريق الاستعارة.
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى ما دلَّ على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.
اللغَة: {سُلْطَاناً} حجة وبرهاناً {يَسْطُونَ} يبطشون، والسطوة: القهر وشدة البطش يقال: سطا يسطو إذا بطش به {يَسْلُبْهُمُ} سلب الشيء: اختطفه بسرعة {قَدَرُواْ} عظموا {يَصْطَفِي} يجتبي ويختار {حَرَجٍ} ضيق {مِّلَّةَ} الملة: الدين.
التفسِير: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} استفهام تقريري أي ألم تعلم ايها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع {فَتُصْبِحُ} لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم
من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولها قال {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد} أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض} تذكير بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن {والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ} أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها {إِلَاّ بِإِذْنِهِ} أي إلا إذا شاء وذلك عند قيام الساعة {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي بعد موتكم للحساب والثواب والعقاب {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف! { {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعباداً ومهاجاً كقوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]{هُمْ نَاسِكُوهُ} أي هم عاملون به أي بذلك الشرع {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر} أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صلى الله عليه وسلم َ لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه {وادع إلى رَبِّكَ} أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وإِن خاصموك بعد ظ هور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون من أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض} الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلٌ عليه يسيرٌ لديه ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي ولا برهان من جهة الوحي والشرع {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي وما
ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للأباء {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس والكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا} أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته {وَبِئْسَ المصير} أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه {ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله} قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لَاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إلأيه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره {وافعلوا الخير} أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كثلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ
جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة {هُوَ اجتباكم} أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم مالا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين ابراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله
{دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161]{هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا} أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر: المعنى انه سبحانه في سائر المتقدمة على القرآن، بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة {واعتصموا بالله} أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم {هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} أي نعم هو تعالى الناصر والمعين.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الامتنان بتعداد النعم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي. .} الخ وكذلك الاستفهام الذي يفيد التقرير.
2 -
الطباق {يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} .
3 -
صيغة المبالغة {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي مبالغ في الجحود.
4 -
النهي الذي يراد منه الشيء {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} أي لا ينبغي لهم منازعتك فقد ظهر الحق وبان.
5 -
الاستعارة اللطيفة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح مثل قولهم: عرفت في وجه فلان الشر.
6 -
التمثيل الرائع {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة قال الزمخشري: سميت القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال.
7 -
المجاز المرسل {اركعوا واسجدوا} من إطلاق الجزء على الكل أي صلوا لأن الركوع والسجود من اركان الصلاة.
8 -
ذكر العام بعد الخاص لإِفادة العموم مع العناية بشأن الخاص {اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير} بدأ بخاص، ثم بعام، ثم بأعم.