الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وموضع الخلاف هو ما قصه علينا الله أو رسوله من أحكام الشرائع السابقة، ولم يرد في شرعنا ما يدل على أنه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع عنا ومنسوخ، كقوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .
فقال جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية: أن يكون شرعاً لنا وعلينا اتّباعه وتطبيقه، مادام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه، لأنه من الأحكام الإلهية التي شرعها الله على ألسنة رسله، وقصه علينا ولم يدل الدليل على نسخها، فيجب على المكلفين اتّباعها. ولهذا استدل الحنفية على قتل المسلم بالذمي وقتل الرجل بالمرأة بإطلاق قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] .
وقال بعض العلماء: إنه لا يكون شرعاً لنا لأن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرره.
والحق هو المذهب الأول، لأن شريعتنا إنما نسخت من الشرائع السابقة ما يخالفها فقط، ولأن قص القرآن علينا حكماً شرعيا سابقا بدون نص على نسخه هو تشريع لنا ضمناً، لأنه حكم إلهي بلغه الرسول إلينا ولم يدل دليل على رفعه عنا، ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فما لم ينسخ حكما في أحدهما فهو مقرر له.
الدليل العاشر
مذهب الصحابي
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم طول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى أن منهم من كان يدونها من سنن الرسول،
فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث أن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أنه لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقد يكون حجة على المسلمين، لأنه لابد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها:"لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل"، فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي.
ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين، لأن اتفاقهم على حكم واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتّباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين.
وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة.
فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا، فهو لا يسوغ في القياس في الواقعة ما دام للصحابة في حكم الواقعة فيها بأي قول من أقوالهم. ولعل من وجهته أن اختلاف الصحابة في حكم الواقعة إلى قولين إجماع منهم على أنه لا ثالث، واختلافهم إلى ثلاثة أقوال إجماع منهم على أنه لا رابع، فالخروج من أقوالهم جميعا خروج عن إجماعهم.