المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثالثةفي الواضح الدلالة ومراتبه - علم أصول الفقه ط مكتبة الدعوة

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف

- ‌افتتاحية الطبعة السابعةللشيخ محمد أبو زهرة

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947 م للمؤلف

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942 م

- ‌مقدمة(الفرق بين الفقه وعلم أصول الفقه)

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌الدليل الأولالقرآن

- ‌الدليل الثانيالسُّنَّة

- ‌الدليل الثالثالإجماع

- ‌الدليل الرابعالقياس

- ‌الدليل الخامسالاستحسان

- ‌الدليل السادسالمصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابعالعُرف

- ‌الدليل الثامنالاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشرمذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌1- الحاكم:

- ‌2- الحكم

- ‌أقسام الحكم التكليفي

- ‌1- الواجب

- ‌2- المندوب

- ‌3- المُحرّم

- ‌4- المكروه

- ‌5- المباح

- ‌أقسام الحكم الوضعي

- ‌1- السبب

- ‌2- الشرط

- ‌3-المانع

- ‌4-الرخصة والعزيمة

- ‌5-الصحة والبطلان

- ‌3- المحكوم فيه

- ‌4- المحكوم عليه

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولىفي طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانيةفي مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثةفي الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعةفي غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة:في المشترك ودلالته

- ‌القاعدةالسادسةفي العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعةفي الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولىفي المقصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانيةفيما هو حق الله، وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثةفيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعةفي نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسةفي التعارض والترجيح

الفصل: ‌القاعدة الثالثةفي الواضح الدلالة ومراتبه

مفهوم الغاية:

قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وفي كثير من القوانين هذا النص: يعمل بهذا القانون إلى أن يصدر ما يخالفه.

‌القاعدة الثالثة

في الواضح الدلالة ومراتبه

الواضح الدلالة من النصوص: هو ما دلّ على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي. فإن كان يحتمل التأويل والمراد منه ليس هو المقصود أصالة من سياقه، سمّى الظاهر؛ وإن كان يحتمل التأويل والمراد منه هو المقصود أصلاة من سياقه، سمّي النص؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ويقبل حكمه النسخ، سمّي المفسر؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ولا يقبل حكمه، سمّي المحكم.

وكل نصّ واضح الدلالة يجب العمل بما هو واضح الدلالة عليه، ولا يصح تأويل ما يحتمل التأويل منه إلا بدليل.

هذا القاعدة والقاعدة الرابعة الآتية، خاصتان ببيان الواضح الدلالة من النصوص الشرعية، وغير الواضح الدلالة منها، وبيان مراتب وضوح الواضح، ومراتب خفاء غير الواضح، وما يزال به هذا الخفاء.

وأساس التفريق بين الواضح وغير والواضح هو: دلالة النص بنفسه على المراد منه من غير توقف على أمر خارجي أو توقفه على أمر خارجي، فما فهم المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي فهو الواضح الدلالة، وما لم يفهم المراد منه إلا بأمر خارجي فهو غير الواضح الدلالة.

وأساس التفاوت في مراتب الوضوح هو: احتمال التأويل وعدم احتماله، فما

ص: 161

فهم معناه من نفس صيغته ولا يحتمل أن يفهم منه معنى غيره، أوضح دلالة مما فهم معنى منه ويحتمل أن يفهم منه معنى غيره.

وأساس التفاوت في مراتب الخفاء هو القدرة على إزالة الخفاء وعدمها، فما في دلالته خفاء، ولا سبيل إلى إزالة خفائه إلا بالرجوع إلى مصدره وهو الشارع، أخفى مما في دلالته خفاء، والطريق ممهدة لإزالة خفائه بالبحث والاجتهاد.

وقد قسم علماء الأصول الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام:

الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم: وهي في وضوح دلالتها على هذا الترتيب. فالمحكم أوضحها دلالة، ويليه المفسر، ثم النص، ثم الظاهر، وتظهر ثمرة هذا التفاوت عند التعارض.

1-

الظاهر:

الظاهر في اصطلاح الأصوليين هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف فهم المراد منه على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق، ويحتمل التأويل.

فمتى كان المراد يفهم من الكلام من غير حاجة إلى قرينة، ولم يكن المقصود الأصلي من سياقه، يعتبر الكلام ظاهرا فيه.

فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ظاهر في إحلال كل بين وتحريم كل ربا؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظي "أحلّ وحرّم" من غير حاجة إلى قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية، لأن الآية كما قدمنا مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع والربا ردا على الذين قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] لا بيان حكميهما.

وقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 4] ، ظاهر في إباحة نكاح ما حل من النساء لأن هذا

ص: 162

معنى يتبادر فهمه من لفظ، فانكحوا ما طاب لكم منهن من غير توقف على قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن المقصود أصالة من سياقها هو قصير العدد على أربع أو واحدة كما قدمنا.

وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] ظاهر في وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية، وليس هو المقصود أصالة من سياقه، لأن المقصود أصالة من سياقه هو: ما آتاكم الرسول من الفيء حين قسمته فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.

وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ظاهر في حكم ميتة البحر، لأن ليس المقصود أصالة من السياق، إذ السؤال خاص بماء البحر.

وحكم الظاهر: أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره، لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل.

وحكم الظاهر: أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره، لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل.

وأنه يحتمل التأويل أي صرفه عن ظاهره وإرادة معنى آخر منه، فإن كان الظاهر عاماً يحتمل أن يخصص، وإن كان مطلقاً أن يقيد، وإن كان حقيقة يحتمل أن يراد به معنى مجازي، وغير ذلك من وجوه التأويل.

وأنه يقبل النسخ، أي أن حكمه الظاهر منه يصح في عهد الرسالة وفي زمن التشريع، وأن ينسخ ويشرع حكم بدله متى كان من الأحكام الفرعية الجزئية التي تتغير بتغير المصالح وتقبل النسخ.

2-

النص:

النص في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ويحتمل التأويل. فمتى كان المراد متبادراً فهمه من اللفظ، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، وكان هو المقصود أصالة من السياق، يعتبر اللفظ نصاً عليه.

فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] نص على نفي المماثلة بين البيع والربا، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه.

ص: 163

وقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:4] نص على قصر أقصى عدد الزوجات على أربع، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه.

وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]

نص على وجوب طاعة الرسول في قسمة الفئ إعطاءً ومنعاً لأنه المقصود من سياقه.

وحكمه حكم الظاهر، فيجب العمل بما هو نص عليه، ويحتمل أن يؤول أي يراد منعه غير ما هو نص عليه، ويقبل النسخ على ما بينا فى الظاهر.

ولهذا أخذ من قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم

} [النساء:4] ، إباحة الزواج وقصر العدد على أربع أو واحدة.

فكل من الظاهر والنص واضح ألدلاله على معناه، أي لا يتوقف فهم المراد من كل منهما على أمر خارجي، ويجب العمل بما وضحت دلاله عليه إذا ما وجد ما يقضي هذا التأويل.

والتأويل معناه في اللغة: بيان ما يؤول إليه المر، وقال تعالى:{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، ومنه المال.

ومعناه في اصطلاح الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ومن المقرر أن الأصل عدم صرف اللفظ ظاهره، وأن تأويله أي صرفه عن ظاهره، ولا يكون صحيحاً إلا إذا بني على دليل شرعي من نص أو قياس، أو روح التشريع أو مبادئه العامة، وإذا لم يبن التأويل على دليل شرعي صحيح بل بني على الأهواء والأغراض والانتصار لبعض الآراء، كان تأويلاً غير صحيح، وكان عبثاً بالقانون ونصوصه، وكذلك إذا عارض التأويل نصاً صريحاً، أو كان تأويلاً إلى ما لا يحتمله اللفظ.

من أمثلة التأويل الصحيح: تخصيص عموم البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ

ص: 164

اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ، بالأحاديث التي نهت عن بيع الغرر، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وهذا من تأويل الظاهر، لأن الآية كما قدمنا، نص ظاهر في إحلال كل بيع ونص في المماثلة. وتخصيص عموم المطلقات في قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق:4] . وتقييد الدم المطلق في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} [المائدة:3]، بقوله تعالى:{أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام:145] . وهكذا من كل تخصيص أو تقييد، قضى به التوفيق بين نصوص القرآن والسنة.

وكذلك تأويل الشاة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((في كل أربعين شاة شاة)) ، والصاع من تمر في حديث المصرة:((من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار بين أن يمسكها وبين أن يردها وصاعا من تمر)) ، فإن ظاهر الحديث الأول أنه لا يجزئ في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزئ قيمتها، وظاهر الحديث الثاني أنه إذا رد المشتري الشاة المصراة لا يجزئ في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر.

وهذا الظاهر، تقتضي حكمة التشريع والأصول العامة في التضمين تأويله وصرفه عن ظاهره، وإرادة معنى آخر يتفق معهما، لأن الغرض من إيجاب الشاة زكاة للأربعين دفع حاجة الفقراء، وقد تكون دفع حاجة الفقير بقيمة الشاة أكثر توافراً، فيراد بالشاة شاة، أو ما يعادلها من كل مال متقوم، ولأن الغرض من إيجاب صاع من تمر هو تعويض البائع عما أتلفه من لبن شاته. وقد يتراضيان على التعويض بقيمة اللبن، أو بأي تعويض آخر غير الصاع من التمر، والمقصود هو مثل ما أتلف أو قيمته، وهذا هو الأصل العام شرعاً في ضمان المتلفات. وكذلك تأويل الثلث للأم بثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين في إحدى المسألتين الغراوين، منعاً من زيادة نصيبها في الإرث عن نصيب الأب.

ومن أمثلة ذلك في القانون الجنائي: لفظ الليل في جعله جريمة السرقة وفي جريمة إتلاف المزروعات ظرفاً مشدداً، فإذا أخذ بظاهر النص أريد بالليل من

ص: 165

غروب الشمس، إلى شروقها، ولكن هذا ربما لا يتفق وحكمة الشارع في جعل الليل ظرفاً مشدداً، لأن الغرض تشديد العقوبة على من يغتنم الظلام فرصة لارتكاب جريمته، فيراد بالليل إذا خيم الظلام، وربما لا يكون ذلك أثر غروب الشمس مباشرة.

ومن التأويل الذي هو موضع نظر: تأويل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، بإرادة عشرة مساكين أو مسكيناً واحد عشر مرات.

وقوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} (المجادلة:4) ، بإرادة ستين مسكيناً أو مسكيناً واحد ستين مرة.

وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] بإرادة الهبة، أي إذا وهب أحدكم هبة فليعوض الواهب خيراً منها أو مثلها.

وإغلاق باب التأويل كله والأخذ بالظاهر دائماً، كما هو مذهب الظاهرية، قد يؤدي إلى البعد عن روح التشريع والخروج عن أصوله العامة، وإظهار النصوص متخالفة.

وفتح باب التأويل على مصراعيه بدون حذر واحتياط، قد يؤدي إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الأهواء، والحق هو في احتمال التأويل الصحيح وهو ما دل عليه دليل من نص أو قياس أو أصول عامة، ولا يأباه اللفظ بل يحتمل الدلالة عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، ولم يعارض نصاً صريحاً.

4-

المفسر في اصطلاح الأصوليين:

هو ما دل بنفسه على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل. فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ، فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاً، وقوله تعالى:{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة:36] ، فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص، وكثير من مواد العقوبات التي حددت العقوبات

ص: 166

على جرائم معينة، ومواد القانون المدني التي حصرت أنواعاً من الديون أو الحقوق أو فصلت أحكاماً تفصيلاً لا احتمال معه للتأويل.

ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة، وألحقت من الشارع بيان تفسيري قطعي أزال إجمالها، وفصلها حيى صارت مفسرة لا تحتمل التأويل، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وكقوله {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، وكقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، فالصلاة والزكاة والحج والربا، كل هذه ألفاظ مجملة لها معان شرعية لم تفصل بنفس صيغة الآية. وقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم معانيها بأفعاله وأقواله، فصلى وقال:((صلي كما رأيتموني أصلي)) ، وحج وقال:((خذوا عني مناسككم)) ، وحصل الزكاة وفصل الربا المحرم. وهكذا كل مجمل في القرآن، مكملً له مادام قطعياً، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الحديث: التفسير التشريعي، أي الذي مصدره الشارع نفسه، فإن الرسول أعطاه الله سلطة التفسير والتفصيل بقوله سبحانه:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]

وحكم المفسر: أنه يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره، ويقبل حكمه النسخ إذا كان مما بيناه في الظاهر، أي حكماً فرعياً يقبل التبديل.

فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه، لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراًح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءاً مكملاً للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل المراد منه هو كذا لا غير.

ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلاً منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا ليحتمل أن يراد غيره.

ص: 167

4-

المحكم:

لمحكم في إصلاح الأصوليين: هو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالاً ولا تبديلاً بنفسه دلاله واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، فهو لا يحتمل التأويل أو إرادة معنى آخر غير ما ظهر منه، لأنه مفصل ومفسر تفسيراً لا مجال معه للتأويل، ولا يقبل النسخ في عهد الرسالة وفترة التنزيل ولا بعدها، لأن الحكم المستفاد منه، إما حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه، أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبر الوالدين، والعدل، أو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأييد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة)) .

وحكمه أنه يجب قطعاً العمل به، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا لا يقبل النسخ، لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخاً، ولا إبطالاً، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية، تملك إبطال ما جاء به أو تبديله، وسيأتي توضيح هذا في مبحث النسخ.

وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، ويظهر اثر هذا التفاوت عند التعارض.

فإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق، ولاشك في أن المقصود أصالة يتبادر إلى الفهم قبل غيره.

ص: 168