المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الأولىفي طريق دلالة النص - علم أصول الفقه ط مكتبة الدعوة

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف

- ‌افتتاحية الطبعة السابعةللشيخ محمد أبو زهرة

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947 م للمؤلف

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942 م

- ‌مقدمة(الفرق بين الفقه وعلم أصول الفقه)

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌الدليل الأولالقرآن

- ‌الدليل الثانيالسُّنَّة

- ‌الدليل الثالثالإجماع

- ‌الدليل الرابعالقياس

- ‌الدليل الخامسالاستحسان

- ‌الدليل السادسالمصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابعالعُرف

- ‌الدليل الثامنالاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشرمذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌1- الحاكم:

- ‌2- الحكم

- ‌أقسام الحكم التكليفي

- ‌1- الواجب

- ‌2- المندوب

- ‌3- المُحرّم

- ‌4- المكروه

- ‌5- المباح

- ‌أقسام الحكم الوضعي

- ‌1- السبب

- ‌2- الشرط

- ‌3-المانع

- ‌4-الرخصة والعزيمة

- ‌5-الصحة والبطلان

- ‌3- المحكوم فيه

- ‌4- المحكوم عليه

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولىفي طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانيةفي مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثةفي الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعةفي غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة:في المشترك ودلالته

- ‌القاعدةالسادسةفي العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعةفي الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولىفي المقصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانيةفيما هو حق الله، وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثةفيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعةفي نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسةفي التعارض والترجيح

الفصل: ‌القاعدة الأولىفي طريق دلالة النص

اللغوية، لأن المقنن يراعي في تعبيره عرفه الخاص، فإذا لم يكن له عرف خاص يراعي العرف اللغوي العام.

‌القاعدة الأولى

في طريق دلالة النص

"النص الشرعي- أو القانوني - يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه، لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه".

"وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة".

المعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النص الشرعي، أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة، وليست دلالته قاصرة على ما يفهم من عبارته وحروفه، بل هو قد يدل أيضا على معان تفهم من إشارته ومن دلالته ومن اقتضائه، وكل ما يفهم منه من المعاني بأي طريق من هذه الطرق يكون من مدلولات النص ويكون النص دليلا وحجة عليه، ويجب العمل به، لأن المكلف بنص قانوني مكلف بأن يعمل بكل ما يدل عليه هذا النص، بأي طريق من طرق الدلالة المقررة لغة. وإذا عمل بمدلول النص من بعض الوجوه. ولهذا قال الأصوليون: يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص وما تدل عليه روحه ومعقولة، وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض.

أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة: فهو بيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة، وأمثلته من نصوص القوانين الشرعية والوضعية.

ص: 143

1-

عبارة النص:

المراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وجملة. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلول عبارة النص " ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص". فدلالة العبارة: هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها. سواء أكان مقصودا من سياقها أصالة أو مقصودا تبعا.

وأمثلة هذا لا تحصى، لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شعري أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكون، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعا.

قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منها مقصود من سياقه، أحدهما: أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما: أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم. فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصلاة، لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والثاني: مقصود من السياق تبعا، لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين، ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة، لقال: وليس البيع مثل الربا.

وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] .

يفهم من عبارة هذا النص ثلاث معان: إباحة زواج ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد للزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف

ص: 144

الجور وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة، لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى. فالله سبحانه نبههم إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم وبين عدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم ألا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع أو واحدة هو الواجب على من يخاف الجور، وهو المقصود أصالة من سياق الآية. وهذا استتبع بيان إباحة الزواج، فإباحة الزواج مقصود تبعا لا أصالة، والمقصود أصالة: قصر عدد الزوجات على أربع، أو واحدة. ولو اقتصر على الدلالة على المعنى المقصود من السياق لقال: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا على عدد الزوجات لا يزيد على أربع، فإن خفتم ألا تعدلوا بين العدد منهم فاقتصروا على واحدة.

2-

إشارة النص:

المراد بما يفهم من إشارة النص المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه ولا يقصد من سياقه ولكنه معنى لازم للمعنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام. ولكنه معنى إلتزامياً وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة. وقد يكون وجه التلازم ظاهرا، وقد يكون خفيا، ولهذا قالوا: إن ما يشير غليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر ومزيد تفكير، وقد يفهم بأدنى تأمل. فدلالة الإشارة هي دلالة النص عن معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه؛ يحتاج فهمه إلى فضل تأمل أو أدناه، حسب ظهور وجه التلازم وخفائه.

مثال هذا قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ،

ص: 145

يفهم من عبارة من عبارة هذا النصل أن نفقة الوالدات من رزق وكسوة، واجبة على الآباء، لأن هذا هو المتبادر من ألفاظه، المقصود من سياقه. ويفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لولده عليه،لأن أولاده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لغيره. وأن الأب له عند احتياج أن يتملك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حاجته لأن ولده له، فمال ولده له، وإنما فهمت هذه الأحكام من إشارة النص، لأن في ألفاظ النص نسبة المولود لأبيه بحرف اللام الذي يفيد الاختصاص "أنت ومالك لأبيك"، ومن لوازم هذا الاختصاص ثبوت هذه الأحكام، فهي أحكام لازمة لمعنى مفهوم من عبارة النصل وغير مقصودة من سياقه، ولذا كان فهمها من إشارته لا من عبارته.

مثال آخر: قوله تعالى في بيان من لهم نصيب في الفيء: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الحشر: 8] ، يفهم من عبارة هذا النص استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيبا من الفيء، ويفهم إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم، لأن النص عبّر عنهم بلفظ الفقراء، ووصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا يكون أموالهم باقية على ملكهم. فهذا حكم لازم لمعن لفظ في النص، ويغر مقصود من سياق النص.

مثال ثالث: قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاد طائفة من الأمة تمثلها وتستشار في أمرها لأن تنفيذ الأمر ومشاورة الأمة يستلزم ذلك.

مثال رابع: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ

ص: 146

فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاب أهل الذكر في الأمة.

مثال من قانون العقوبات. المادة (274) : "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ الحكم برضائه معاشرتها"

هذه المادة تدل بعبارتها على عقوبة الزوجة التي ثبت زناها، وعلى أن للزوج الحق في وقف تنفيذ هذه العقوبة، وتدل بإشارتها على أن زنا الزوجة ليس جناية على المجتمع في نظر الشارع المصري، وإنما هو جناية على الزوج، وهذا لازم لإثبات حق إسقاط عقوبته للزوج، إذ لو كان جناية على المجتمع كالسرقة ما ثبت لأحد حق إسقاط عقوبته.

مثال من القانون المدني - الملغي- مادة (155) : "يجب على الفروع وأزواجهم مادامت الزوجية قائمة أن ينفقوا على الأصول وأزواجهم"

ومادة (156) : كذلك يجب على الأصول القيام بالنفقة على فروعهم، وأزواج الفروع، والأزواج أيضا ملزمون بالنفقة على بعضهم"

ومادة (157) : تقدير النفقات يكون بمراعاة لوازم من تفرض لهم ويسر من تفرض عليهم، وعلى كل حال يلزم دفع النفقات شهرا بشره مقدما"

يفهم من عبارة كل مادة من هذه المواد حكم موضعي من أحكام النفقات، ويفهم منها بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى لازم لورود هذه المواد في القانون، وغير مقصود من سياق المواد فهو مفهوم بطريق الإشارة.

وكثير من النصوص القانونية الوضعية تدل عبارتها على أحكام، وتشير إلى أحكام، وهذا ما يعبر عنه رجال القانون بقولهم: النص صريح في كذا، ويؤخذ منه بطريق الإشارة كذا.

ص: 147

ويجب الاحتياط في الاستدلال بطريق الإشارة وقصره على ما يكون لازما لمعنى من معاني النص لزوما لا انفكاك له، لأن هذا هو الذي يكون النص دالا عليه، وإذ الدال على الملزوم دال على لازمه. أما تحميل النص معاني بعيدة لا تلازم بينهما وبين معنى فيه بزعم أنها إشارية فهذا شطط في فهم النصوص، وليس هو المراد بدلالة إشارة النص.

3-

دلالة النص:

المراد بما يفهم من دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقوله، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعه لعله بني عليها هذا الحم، ووجدت واقعة أخرى، تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها، وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس، فإنه يفهم لغة أن النص يتناول الواقعين، وأن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه الموافق له في العلة، سواء كان مساويا أم أولى.

مثال هذا قوله تعالى في شأن الوالدين: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، تدل عبارة هذا النص على نهي الولد أن يقول لوالديه " أُفٍّ "؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما. وتوجد أنواع أخرى أشد إيذاء وإيلاما من التأفف كالضرب والشتم، فيبادر إلى الفهم أنهما يتناولهما النهي، وتكون محرمة بالنص الذي حرم بالتأفف، لأن المتبادر لغة من النهي عن التأفف النهي عما هو أكثر إيذاء للوالدين بالأولى، فهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق.

مثال آخر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء: 10] يفهم من عبارة هذا النص تحريم أكل الأوصياء أموال اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف، لأن هذه الأشياء تساوى أكلها ظلما في أن كلا

ص: 148

منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، فيكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما؛ محرما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق.

فالفرق بين دلالة النص وبين القياس أن مساواة المفهوم الموافق النص تفهم بمجرد فهم اللغة من غير توقف على اجتهاد واستنباط، وأما مساواة المقيس للمقيس عليه، فلا تفهم بمجرد فهم اللغة، بل لابد من اجتهاد في استنباط العلة في حكم المقيس عليه، وفي معرفة تحققها في المقيس.

مثال من القانون المدني الملغي: نصت المادة (370) على أنه "لا يكلف المؤجر يعمل أي مرمة كانت إلا إذا اشترط في العقد إلزامه ذلك"، يفهم من دلالة هذا النص أنه لا يكلف المؤجر بإنشاء حجرة مثلا، لأن هذا أولى من عمل المرمة في تحقق علة المنع من التكليف به، وهي التراضي على المعقود عليه بحالة وقت العقد.

مثال من قانون العقوبات: نصت المادة (274) على أن "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحسب مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت". يفهم من دلالة هذا النص أن للزوج أن يطلب وقف السير في دعوة الزنا قبل الحكم فيها، لأن من ملك وقف تنفيذ الحكم بعد صدوره ملك بالأولى وقف إجراءات الدعوة بشأنه.

ونصت المادة (237)" على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين (234) ، (236) " يفهم من دلالة هذا النص أنه لو ضربها هي ومن يزني بها ضربا أحدث عاهة مستديمة تعتبر جريمة جنحة لا جناية، لان هذا أولى بالقتل من التخفيف.

وجاء في حكم محكمة بني سويف الابتدائية الصادر في 9 ديسمبر سنة 1922 (رقم 213 ص 243، ص 4 مجلة المحاماة) : "إن التي أدت بالشارع إلى سن قانون تشكيل اللجان لتخفيض إيجار الأطيان الزراعية إنما هو غلو المؤجرين في تقدير الإيجار نظرا لارتفاع أسعار القطن وأسعار سائر الحاصلات من حبوب

ص: 149

وغيرها، وما دامت هذه هي العلة التي اقتضت التخفيض في السنة التي زرعت فيها الأطيان قطنا لأنها تقضي من باب أولى التخفيض أيضا في السنة التي تزرع فيها الأطيان قطنا وزرعت حبوبا"

وهذا الطريق، أي طريق الدلالة، كما يسمى دلالة النص يسمى القياس الجلي لظهور فهم المساواة أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له، ويسمى حكمه مفهوم الموافقة أي المفهوم الذي وافق المنطوق في حكمه بناء على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة. ويسمى فحوى الخطاب أي روحه وما يعقل منه، لأن كل نص دل على حكم في محل العلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة بتبادر الفهم، أوتكون العلة أكثر توافراً فيه.

4-

اقتضاء النص:

المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعني الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه.

مثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسيانها أو مكرها عليه، وهذا معنى غير مطابق للواقع لأن الفعل إذا وقع لا يرفع، فصحة معنى هذه العبارة تقتضي تقدير ما تصح به، فيقدر هنا: رفع عن أمتي إثم الخطأ؛ فالإثم محذوف اقتضى تقديره صحة معنى النص، فيعتبر من مدلولات النص اقتضاء.

ومثال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ

} [النساء: 23] ، أي زواجهن، وقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، أي أكلها والانتفاع بها،

ص: 150

لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف فيقدر المقتضى في كل نص بما يناسبه.

ومثال هذا: من عبارات الواقفين قول الواقفين: جعلت الشروط العشرة لمن يكون ناظرا على وقفي، فإن هذا يدل اقتضاء على جعلها لنفسه، لأنه لا يملك أن يجعلها لغيره إلا إذا كانت له، فثبوت الشروط العشرة لناظر وقفه بعبارة نصه وثبوتها لنفسه باقتضائه.

ومن هذا قول إنسان لآخر يملك عبدا: "اعتق عبدك عني بألف"، فإن هذا يدل بمقتضاه على شراء عبده منه؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاء.

ومن هذا التفصيل يثبت ما قدمنه في الإجمال، وهو أن كل معنى فهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربع يكون من مدلولات النص، ويكون النص حجة عليه، لأن المعنى المأخوذ من عباراته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من إشارته هو المعنى اللازم لمعنى عبارته لزوما لا

ص: 151

ينفك، فهو مدلوله بطرق الالتزام، والمعنى المأخوذ من دلالته هو المعنى الذي تدل عليه روحه ومعقوله، والمفهوم اقتضاء هو معنى ضروري اقتضى تقديره صدق عبارة النص أو استقامة معناه.

وطريق العبارة أقوى دلالة من طريق الإشارة لأن الأول يدل على معنى متبادر فهمه مقصود بالسياق، والثاني يدل على معنى لازم غير مقصود بالسياق، وكل منهما أقوى من طريق الدلالة، لأن كلا منهما منطوق النص ومدلوله بصيغته وألفاظه، ولكن طريق الدلالة مفهوم النص ومدلوله بروحه ومعقوله. ولهذا التفاوت يرجح عند التعارض المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ويرجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة.

مثال التعارض بين المفهوم بالعبارة والمفهوم بالإشارة من النصوص الشرعية:

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، مع قوله سبحانه:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] ، تدل الآية الأولى بعبارتها على وجوب القصاص من القاتل، وتدل الآية الثانية بإشارتها على أن القاتل العامد لا يقتص منه، لأن في اقتصارها على أن جزاءه جهنم إشارة إلى هذا، إذ يلزم من هذا الاقتصار في مقام البيان أنه لا تجب عليه عقوبة أخرى، ولكن رجح مدلول العبارة على مدلول الإشارة ووجب القصاص.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة" مع قوله صلى الله عليه وسلم في تعليل نقصان الدين في النساء:"تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلي"، فإن الحديث الأول يدل بعبارته على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام، والحديث الثاني يدل بإشارته على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشرة يوما، لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض خمسة عشر يوما لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض نصف شره حتى يتحقق أنها في نصف عمرها لا تصلي، فلما تعارض المفهوم من عبارة النص الأول، والمفهوم من إشارة النص الثاني، رجح المفهوم من العبارة وهو تقدير أكثر مدة الحيض بعشرة أيام.

ص: 152