الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
(5)
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) قرأ الجمهور بسكون العين وقرئ بفتحها وهي لغة، وشكّهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في مكانه. والمعنى إن كنتم في شك من الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدأ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة.
(فإنا خلقناكم من تراب) في ضمن خلق أبيكم آدم وهذا أول تطور الإنسان في أطوار سبعة وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلاً وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر كما سيأتي تفصيل ذلك (ثم) خلقناكم (من نطفة) أي من مني سمي نطفة لقلته والنطفة القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه والنطفة القطرة، يقال نطف ينطف أي قطر: وليلة نطوف أي دائمة القطر (ثم من علقة) وهي الدم الجامد والعلق الدم العبيط أي الطري أو المتجمد وقيل الشديد الحمرة، والمراد الدم الجامد المتكون من مني (ثم من مضغة) وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ يتكون من العلقة (مخلَّقة) أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير (وغير مخلقة) أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها.
قال ابن عباس: المخلقة ما كان حياً تام الخلق وغير المخلقة ما كان
سقطاً، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وقال ابن الأعرابي: مخلّقة يريد قد بدا خلقه وغير مخلّقة لم تصوّر، قال: الأكثر ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح، قال الفرّاء: مخلّقة تام الخلق وغير مخلقة السقط.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفغ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها "(1)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
(لنبين لكم) أي خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم، كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته (ونقر) مستأنف أي نثبت (في الأرحام ما نشاء) فلا يكون سقطاً، ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ما نشاء بكسر النون (إلى أجل مسمى) وهو وقت الولادة (ثمّ نخرجكم) من بطون أمهاتكم (طفلاً) أي أطفالاً وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد.
قال الزجاج: طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة، يعني في
(1) مسلم 2643 - البخاري 1514.
(نخرجكم) والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة، والمعنى نخرج كل واحد منكم نحو القوم يشبعهم رغيف أي كل واحد منهم.
وقال المبرّد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد، والجمع قال الله تعالى:(أو الطفل الذين لم يظهروا)؛ ثم قيل نصبه على التمييز، قاله ابن جرير وفيه بعد، والظاهر أنه على الحال والطفل يطلق على الولد الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ، وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة.
(ثم لتبلغوا أشدّكم) كأنه قيل نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً، ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل أن ثم زائدة، والأشد هو كمال العقل، وكمال القوة والتمييز؛ قيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وهو في الأصل جمع شدة كأنعم جمع نعمة، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام (ومنكم من يتوفى) أي يموت قبل بلوغ الأشد الكبر، وقرئ مبنياً للفاعل أيضاً.
(ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسّه وأدونه وهو الهرم والخرف وهو خمس وسبعون سنة قاله علي، وقيل ثمانون سنة، وقال قتادة: تسعون سنة حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه (لكيلا يعلم) أي يعقل (من بعد علم) أي بعد عقله الأول (شيئاً) من الأشياء أو شيئاً من العلم، والمعنى أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها لا علم له ولا فهم كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة الرأي وقلة الفقه والعقل والفهم فينسى ما يعلمه، وينكر ما يعرفه، ومثله قوله تعالى:(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) وقوله: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق) قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة أي فهذا الرد والنكس خاص بغير قارئ القرآن والعلماء، وأما هؤلاء فلا يردّون في آخر عمرهم إلى الأرذل بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم.
(وترى الأرض هامدة) هذه حجة أخرى على البعث فإنّه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئاً، قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، وقيل دارسة، والهمود السكون والخشوع والدروس، وقيل هي التي ذهب عنها الندى؛ وقيل هالكة، ومعاني هذه الأقوال متقاربة.
(فإذا أنزلنا عليها الماء) أي ماء المطر والأنهار والبحار والعيون والسواقي (اهتزت) أي تحركت في رأي العين، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز أي حركته فتحرك، والمعنى تحركت بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقية، فسمّاه اهتزازاً مجازاً، وقال المبرّد المعنى اهتز نباتها، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض (وربت) أي ارتفعت، وقيل انتفخت وزادت، والمعنى واحد وأصله الزيادة؛ يقال: ربا الشيء يربو ربواً إذا زاد، ومنه الربا والربوة وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف، ويقال له راب ورابية وربيئة.
(وأنبتت) أي أخرجت (من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن ولون مستحسن سارّ للناظرين إليه والبهجة الحسن، قاله ابن عباس، يعني الشيء المشرق الجميل و (من) زائدة، والإسناد مجازي، لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
(ذلك) الصنع البديع حاصل (بأن) أي بسبب أن (الله هو الحق) وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق والموجد لا سواه من الأشياء فهذه الآثار الخاصة من فروع القدرة العامة التامة، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق في أفعاله.
قال الزجاج: ذلك في موضع رفع، أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق؛ والجملة مستأنفة ولما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه، وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره، قال بعد ذلك هذه المقالات.
(وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شيء) من الأشياء (قدير) والمعنى أنه المتفرد بهذه الأمور، وأنها من شأنه لا يدعي غيره أنه يقدر على شيء منها فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه
(وأن الساعة آتية) أي في مستقبل الزمان، قيل لا بد من إضمار فعل أي ولتعلموا أن الساعة آتية.
(لا ريب فيها) ولا تردد، ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال:(وأن الله يبعث من في القبور) فيجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً
فشر، وأن ذلك كائن لا محالة، والحاصل أنّه تعالى ذكر أسباباً خمسة، الثلاثة الأول مؤثرة، والأخيران غير مؤثرين.
(ومن الناس من يجادل في) شأن (الله) كقول من قال: إن الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وعزيراً ابن الله، قيل نزلت في النضر بن الحرث وقيل في أبي جهل، وقيل في رجل من بني عبد الدار، قاله ابن عباس، وقيل هي عامة لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم وعلى كل حال فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ وإن كان السبب خاصاً.
والمعنى ومن الناس فريق يجادل في الله فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله أو صفاته أو شرائعه الواضحة (بغير علم) أي كائناً بغير علم، قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري (ولا هدى) وهو العلم النظري الاستدلالي؛ لأن الدليل يهدي إلى المعرفة، والأولى حمل العلم على العموم وحمل الهدى على معناه اللغوي وهو الإرشاد.
(ولا كتاب) أي وحي (منير) وهو القرآن، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة والمنير: النير البيّن الحجة الواضح البرهان، وهو إن دخل تحت قوله بغير علم فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم، وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضرورياً كان أو استدلالياً، ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه وما ذكرناه أولى. قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى أعني قوله:(ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) وبذلك قال كثير من المفسرين والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول لرجل تذمّه وتوبّخه: أنت فعلت هذا! أنت
فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة ما وصفه به في الآية الأخرى، وقيل الآية الأولى واردة في المقلَّدين اسم فاعل، والثانية في المقلِّدين اسم مفعول، ذكره الزمخشري وقال وهو أوفق وأظهر بالمقام انتهى.
ولا وجه لهذا كما أنه لا وجه لقول من قال إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، والثانية عامة في كل إضلال وجدال.
(ثاني عطفه) حال أي لاوي عنقه، قاله قتادة، وعن ابن عباس والسدي وابن زيد وابن جريج أنه المعرض والعطف الجانب وعطفا الرجل جانباه من يمين وشمال، وفي تفسيره وجهان:
الأول: إن المراد به من يلوي عنقه مرحاً وكبراً ذكر معناه الزجاج قال: وهذا يوصف به المتكبر، قال ابن عباس: أي مستكبراً في نفسه، وقال المبرّد: العطف من انثنى من العنق.
الوجه الثاني: أنّ المراد بقوله: (ثاني عطفه) الإعراض أي معرضاً عن الذكر كذا قال الفرّاء والمفضّل وغيرهما كقوله تعالى: (ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها) وقوله: (لووا رؤوسهم) وقوله: (أعرض ونأى بجانبه) وقيل المعنى مانع تعطفه إلى غيره.
(ليضل عن سبيل الله) أي ليستمر أو ليزيد ضلاله، وإن ضلاله كالغرض له لكونه مآله، قرئ ليضل بفتح الياء وضمها والسبيل هنا الدين، يعني أن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك، وقيل هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله عائداً لجداله (له في الدنيا خزي) مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة والخزي والذل، وذلك بما يناله من العقوبة
في الدنيا ومن العذاب المعجل، وسوء الذكر على ألسن الناس، وقيل الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر.
(ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي عذاب النار المحرقة، ثم يقال له
(ذلك) أي ما تقدم من العذاب الدنيوي والأخروي (بما قدمت يداك) من الكفر والمعاصي والباء للسببية، وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب، وفي غير هذه السورة (أيديكم) لأن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحده وفي غيرها نزلت في جماعة تقدم ذكرهم.
(وأن الله ليس بظلام) أي بذي ظلم (للعبيد) أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب. وقد مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده
(ومن الناس من يعبد الله على حرف) هذا بيان لشقاق أهل الشقاق. قال أكثر المفسرين الحرف الشك. وأصله من حرف الشيء أي طرفه. مثل حرف الجبل والحائط فإن القائم عليه غير مستقر. والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطراباً ويضعف قيامه. فقيل للشاك في دينه إنه يعبد الله على حرف. أي متزلزلاً لأنه على غير يقين من وعده ووعيده بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف. ففي الآية استعارة تمثيلية.
وقيل الحرف الشرط. والشرط هو قوله: (فإن أصابه خير) دنيوي من رخاء وصحة وعافية وسلامة وخصب وكثرة مال (اطمأنّ به) أي ثبت على دينه واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه وسكن إليه (وإن أصابته فتنة) أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله وماله أو نفسه ومعيشته كالجدب والمرض وسائر المحن.
(انقلب على وجهه) أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من
الكفر، ثم بين حاله بعد انقلابه على وجهه فقال:(خسر الدنيا والآخرة) أي ذهبا منه وفقدهما فلا حظّ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن وصون المال والدم ولا في الآخرة من الأجر وما أعده الله للصالحين من عباده وقرئ خاسر الدنيا على اسم الفاعل.
(ذلك هو الخسران المبين) أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله. فإنه إذا لم ينضم إليه الأخروي أو بالعكس لم يتمحض خسراناً فلم يظهر كونه كذلك ظهوراً تاماً، فانحصر الخسران المبين فيه على ما دل عليه الإتيان بضمير الفصل. قاله الكرخي.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان ناس من الإعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا ما في ديننا هذا خير فأنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده. فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني أقلني، قال:" إن الإسلام لا يقال "، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال:" يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة "، فنزلت هذه الآية. أخرجه ابن مردويه.
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
(يدعو) أي يعبد هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر (من دون الله) أي متجاوزاً عبادة الله إلى عبادة الأصنام (ما لا يضره) إن ترك عبادته وعصاه (وما لا ينفعه) إن عبده وأطاعه؛ لكون ذلك المعبود جماداً لا يقدر على ضر ولا نفع، والجمع بين نفي النفع والضر هنا؛ وإثباتهما في قوله:(لمن ضره أقرب من نفعه)، الآية، كما سيأتي بأن معبوداتهم لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن بسبب عبادتها، فنسب الضرر إليها كما في قوله تعالى:(رب إنهنّ أضللن كثيراً من الناس)؛ حيث أضاف الإضلال إليها من حيث إنها كانت سبب الضلال.
وقال الشهاب: دفع التنافي بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر والإثبات باعتبار زعمهم الباطل. انتهى.
(ذلك) أي الدعاء المفهوم من يدعو (هو الضلال البعيد) عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيداً عنها. قال الفراء: البعيد الطويل.
(يدعو) أي يقول هذا الكافر يوم القيامة. (لمن ضرّه أكثر من نفعه) هذه الجملة مقررة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالاً بعيداً والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال، بل هي ضرر بحت لمن عبدها، لأنه دخل النار
بسبب عبادتها، وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي. أو ذلك من باب وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، واللام هي الموطئة للقسم و (من) موصولة أو موصوفة، وضره مبتدأ خبره أقرب، والجملة صلة الموصول وجملة (لبئس المولى ولبئس العشير) جواب القسم.
والمعنى أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة (لبئس المولى) أنت (ولبئس العشير أنت)، و (المولى) الناصر، و (العشير) الصاحب.
وقال الزجاج: أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، وعلى هذا قوله؛ من ضره كلام مستأنف مبتدأ، وخبره لبئس المولى، قال: وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن يكون (يدعو) مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم، والتقدير يدعو من لَضره أقرب من نفعه. وقال محمد بن يزيد: المعنى يدعو لن ضره أقرب من نفعه إلهاً، قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطاً منه.
وقال الفراء والقفال: اللام صلة، والمعنى يدعو من ضره أقرب من نفعه، واللام في (لبئس المولى ولبئس العشير) على هذا موطئة للقسم.
(إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) لما فرغ سبحانه في ذكر حال المشركين ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة، وهذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبده على حرف، وقد تقدم الكلام في جري الأنهار من تحت الجنات، وبينا أنه إن أريد بها الأشجار
المتكاثفة الساترة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها.
(إن الله يفعل ما يريد) تعليل لما قبلها، أي يفعل ما يريده من الأفعال لا يسئل عما يفعل، فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء، ويكرم من يطيعه، ويهين من يعصيه.
(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) قال النحاس، ومن أحسن ما قيل في هذه الآية إن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً " صلى الله عليه وسلم " وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم (فليمدد بسبب) أي فليطلب حيلة يصل بها (إلى السماء ثم ليقطع) النصر إن تهيأ له (فلينظر هل يذهبن كيده) وحيلته (ما يغيظ) إياه من نصر النبي " صلى الله عليه وسلم " وحمل (من) على الكفار يوافق كلام الجلال، ومثله في العمادي.
وقال أبو السعود: المعنى أنه تعالى ناصر لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في الجدّ كل حد معهود، فقصارى أثره وعاقبة أمره أن يختنق خنقاً مما يرى من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدمات مبادية.
وقيل المعنى فليشدد حبلاً في سقف بيته ثم ليقطع، أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً، والمعنى فليختنق غيظاً حتى يموت، فإن الله ناصره صلى الله عليه وسلم ومظهره ولا ينفعه غيظه. وبه قال ابن عباس. وقيل المعنى من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه، فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق؟.
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
(وكذلك) أي مثل ذلك الإنزال البديع من الآيات السابقة (أنزلناه) أي القرآن (آيات بينات) واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها (وأن الله يهدي من يريد) هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهدياً من قبل، ويضل من يريد ضلالته معطوف على هاء (أنزلناه) فـ " إن " وصلتها في محل نصب، ويصح أن تكون في موضع رفع خبر المبتدأ مضمر؛ أي والأمر أن الله الخ.
(إنّ الذين آمنوا) بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بما ذكر من الآيات البينات (والذين هادوا) هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى (والصابئين) هم قوم يعبدون النجوم؛ وقيل هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء (والنصارى) هم المنتسبون إلى ملة عيسى (والمجوس) هم الذين يعبدون النار ويقولون إن للعالم أصلين النور والظلمة.
وقيل هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل هم يستعملون النجاسات. وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح، وقيل إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى.
(والذين أشركوا) هم الذين يعبدون الأصنام؛ وقد مضى تحقيق هذا في البقرة، ولكنه سبحانه قدم هنالك النصارى على الصابئين وأخّرهم عنهم هنا، فقيل وجه التقديم هنالك أنهم أهل كتاب دون الصابئين، ووجه تقديمهم هنا أن زمنهم متقدم على زمن النصارى.
قال قتادة: الصابئون هم قوم يعبدون الملائكة ويصلّون للقبلة ويقرأون الزبور، والمجوس عبدة الشمس والقمر والنيران؛ والذين أشركوا عبدة الأوثان (إن الله يفصل) أي يقضي (بينهم يوم القيامة) فيُدخل المؤمنين منهم الجنة، والكافرين منهم النار، وقيل الفصل هو أن يُميز المُحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما.
وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد قال قتادة: الأديان ستة؛ فخمسة للشيطان وواحد للرحمن. وعن عكرمة قال: فصل قضاء بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة.
وعن ابن عباس قال: (والذين هادوا) اليهود والصابئون ليس لهم كتاب، والمجوس أصحاب الأصنام، والمشركون نصارى العرب (إن الله) تعليل لما قبلها وكأن قائلاً قال: أهذا الفصل عن علم أو لا؟ فقيل إن الله (على كل شيء) من أفعال خلقه وأقوالهم " شهيد " عالم علم مشاهدة لا يعزب عنه شيء منها، ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة، والظاهر تعميم الكلام لعبدة الأوثان ولعباد الشمس والقمر والنجوم. قاله الكرخي.
(ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، وذلك لأن رؤية سجود هذه الأشياء لله إنما جاءنا من طريق العقل لأنا لا نراه بأبصارنا، والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتى منه الرؤية، والمراد بالسجود هنا هو الانقياد الكامل لا سجود الطاعة
الخاصة بالعقلاء، سواء جعلت كلمة (مَنْ) خاصة بالعقلاء أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف.
(والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) على (من) فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنّما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت (من) على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعداً في العادة. وقوله:
(وكثير من الناس) مرتفع على الابتداء وخبره محذوف، تقديره وكثير من الناس يستحق الثواب، وإنما لم يرتفع بالعطف على (من) لأن سجود هؤلاء الكثير هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد فلو ارتفع بالعطف لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد، وأنت خبير بأنه لا ملجئ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم، لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه بالعطف لا بأس به، وإن أبي ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه.
(وكثير) مرتفع بالابتداء وخبره (حق عليه العذاب) قاله الكسائي والفراء وقيل معطوف على كثير، الأول أي وكثير من الناس يسجد؛ وكثير منهم يأبى ذلك. وقيل المعنى وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب. هكذا حكاه ابن الأنباري.
(ومن يهن الله) أي من أهانه الله بأن جعله كافراً شقياً (فما له من مكرم) يكرمه فيصير سعيداً عزيزاً. وحكى الأخفش والكسائي والفراء أي من إكرام؛ فهو على هذا مكرم بفتح الراء اسم مصدر.
(إن الله يفعل ما يشاء) من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون: شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
وهذه السجدة من عزائم السجود، فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجدا عند تلاوتها أو سماعها
(هذان خصمان) أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا، والخصم الآخر المسلمون فهما فريقان يختصمان قاله الفراء وغيره، وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار، قالت الجنة خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته وهو ضعيف، وقيل المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقد كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أيضاً عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة: وقال سبحانه.
(اختصموا) ولم يقل اختصما لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، قاله
الفراء (في) شأن (ربهم) أي في دينه أو في ذاته أو في صفاته أو في شريعته لعباده أو في جميع ذلك.
قال أبو حيان: الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله: فالذين كفروا، وإن قلنا هذا في الدنيا فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم صح جعل يوم القيامة ظرفاً له بهذا الاعتبار ثم فصّل سبحانه ما أجمله في قوله يفصل بينهم فقال:
(فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) أي قدرت لهم على قدر جثثهم لأن الثياب الجدد تقطع على مقدار بدن من يلبسها، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين، والظاهر أنه بعد ذلك جعل تقطيعها استعارة تمثيلية تهكمية شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل ثياب لهم وجمع الثياب لأن النار لتراكمها عليهم كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع بالجمع.
قال الأزهري: المعنى سوّيت وجعلت لبوساً لهم، وإنما شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقق وقوعه.
وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى، قاله سعيد بن جبير، وزاد ليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه، وقيل المعنى في الآية أحاطت النار بهم، والحق إجراء النظم القرآني على ظاهره ولا نرتضي تأويله بما يخالف لفظه ومعناه، وقرئ قُطِعَت بالتخفيف.
(يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) هو الماء الحار المغلي بنار جهنم انتهت حرارته، والجملة مستأنفة، قال النحاس: يذاب على رؤوسهم
(يصهر به) أي يذاب بالحميم (ما في بطونهم).
قال ابن عباس: تسيل أمعاؤهم (والجلود) قال ابن عباس: يتناثر
جلودهم، وعن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية فقال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفة فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان " أخرجه الترمذي (1) والحاكم وصححاه وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم.
وعن ابن عباس قال: يمشون وأمعاؤهم تتساقط وجلودهم، وعنه قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون، والصهر الإذابة والصهارة ما ذاب منه، يقال صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ويصهر به الجلود.
وقيل إنّ الجلود لا تذاب بل تحرق فيقدر فعل يناسب ذلك. ويقال وتحرق به الجلود ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى.
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 387.
(ولهم) يجوز في الضمير وجهان أظهرهما أنه يعود على الذين كفروا وفي اللام حينئذ قولان:
أحدهما: أنها للاستحقاق.
والثاني: أنها بمعنى على، كقوله. ولهم اللعنة وليس بشيء. الوجه الثاني: إن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم ويدل عليه سياق الكلام وفيه بعد.
وقوله (مقامع) جمع مقمعة ومقمع، يقال قمعته ضربته بالمقمعة وهي قطعة من حديد، يقال: قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره به ويذله والمقمعة المطرقة، وقيل السوط وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع
المضروب أي تذلُله، قال ابن السكيت: يقال: أقمعت الرجل عني إقماعاً إذا طلع عليك فرددته عنك، والمعنى لهم مقامع كائنة.
(من حديد) يضربون بها، أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان "(1).
(1) المستدرك، كتاب الأهوال 4/ 608.
(كلما أرادوا) الإرادة هنا مجاز عن القرب (إن يخرجوا منها) أي من النار (من) أجل (غم) شديد من ضموم النار يأخذ بأنفاسهم وهو بدل اشتمال من منها بإعادة الجار أو الأولى لابتداء الغاية، والثانية بمعنى من أجل أي من أجل غم يلحقهم فخرجوا.
(أعيدوا فيها) أي ردوا إليها بالضرب بالمقامع، وهي الجرز من الحديد؛ والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها، عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ. كلما أرادوا الآية (و) قيل لهم (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق الغليظ المنتشر العظيم الإهلاك البالغ نهاية الإحراق وأصل الحريق الاسم من الاحتراق تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقاً، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراك الألم، قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون.
(إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم بين بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال: (يُحَلَّوْنَ فيها) بالتشديد والبناء للمفعول، وقرئ مخففاً أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره (من) للتبعيض أي يحلون بعض (أساور) للبيان أو زائدة، وهي جمع أسورة، والأسورة جمع سوار، وفيه لغتان كسر السين وضمها، وفيه لغة ثالثة وهي أسوار.
(من ذهب) من للبيان (ولؤلؤاً) بالنصب أي ويحلون لؤلؤاً وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب، قال القرطبي: يسور المؤمن في الجنة بثلاثة أسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ.
(ولباسهم) أي جميع ما يلبسونه (فيها حرير) كما تفيده هذه الإضافة، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرماً عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس؛ وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه، وينال ما يريده.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة "(1) وفي الباب أحاديث. وغيّر الأسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريراً، للمحافظة على الفواصل، وللدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى الجملة الاسمية يدل على الدوام.
(1) مسلم 2073 - البخاري 2279.
(وهُدوا) أي: أرشدوا (إلى الطيب من القول) قيل هو لا إله إلا الله، وقيل الحمد لله، وقيل القرآن؛ وقيل هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه:(الحمد لله الذي صدقنا وعده) الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقل ابن عباس: هدوا أُلهموا، وعن أبي العالية قال: في الخصومة إذا قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم، وعن ابن زيد قال: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله الذي صدقنا وعده.
(و) معنى (هدوا إلى صراط الحميد) أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود، وهو الطريق الموصلة إلى الجنة أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام قاله الضحاك.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(إن الذين كفروا ويصدون) أي يمنعون (عن سبيل الله) ودينه من أراد الدخول فيه، وعطف المضارع على الماضي لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد ومثل هذا قوله:(إنّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، والمسجد الحرام)؛ أو المراد بالصد هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال؛ فصح عطفه بذلك على الماضي أي كفروا، والحال أنهم يَصدون، وقيل الواو زائدة، والمضارع خبر إنَّ، والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله الآتي (والباد) وذلك نحو خسروا أو هلكوا والمراد بالصد المنع.
(والسجد الحرام) قيل: المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني؛ وقيل: الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله:
(الذي جعلناه للناس) على العموم يصلّون فيه، ويطوفون به (سواء) مستويان (العاكف) المقيم (فيه) الملازم له، ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه (والباد) أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه المنتاب إليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، وقيل جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً للعاكف والبادي، سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة
من أهل العلم. ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وقضاء النسك فيه وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (1).
قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه، واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبي.
وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها.
والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأول ما في هذه الآية، هل المراد بالمسجد الحرام نفسه أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة. وهل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في أيدي أهلها على الخصوص أو جعلها لمن نزل بها على العموم، وقد أوضح الشوكاني هذا في شرحه على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة. ثم قال فيه بعد ذكر حجج الفريقين.
ومن أوضح الأدلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم، " وإنما أحلَّت لي ساعة من نهار "(2)، فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك بسفك الدماء بها وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده، ولو كانت مفتوحة صلحاً لما كان لذلك معنى، وقد ذكر المقبلي في الاتحاف أدلة قوية على أن المراد به نفس المسجد. وعن ابن عباس: المسجد الحرام الحرم كله خلق الله فيه سواء. وعن سعيد بن جبير مثله. وأيضاً قال: هم في منازل مكة سواء
(1) النسائي كتاب الحج باب 42.
(2)
البخاري كتاب العلم باب 37. 39 - أبو داوود كتاب المناسك باب 89.
فينبغي لأهل مكة أن يتوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. والبادي وأهل مكة سواء -يعني في المنزل والحرم. وعن ابن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطنه ناراً.
وعن عمر بن الخطاب أن رجلاً قال له عند المروة: أقطعني مكاناً لي ولعقبي فأعرض عنه وقال: هو حرم الله، سواء العاكف فيه والباد. وكان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاج في عرصات الدور.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " في الآية: " سواء المقيم والذي يدخل " أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي: بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر مرفوعاً قال: " مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها " أخرجه ابن مردويه.
وعن علقمة بن نضلة قال: " توفي رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وأبو بكر وعمر وما يدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى سكن. رواه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً " من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، وإليه ذهب أبو حنيفة وعلى القول الأول يجوز ذلك، وإليه ذهب الشافعي مستدلاً بقوله تعالى:(الذين أخرجوا من ديارهم) فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشتراء.
وقال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " يوم الفتح: " من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن "(1) والأول أقوى والله أعلم.
(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) مفعول (يرد) محذوف لقصد التعميم، أي من يرد فيه مراداً، أي مراداً بعدول عن القصد والاعتدال. والإلحاد في اللغة الميل، إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم. وقد اختلف في هذا
(1) مسلم 1780.
الظلم ماذا هو، فقيل هو الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيل صيد حيواناته وقطع أشجاره. وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة.
وقيل المراد المعاصي فيه على العموم حتى شتم الخادم، وقيل هو دخول الحرم بغير احرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم؛ وقيل احتكار الطعام، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " قال:" إن احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " أخرجه أبو داود (1).
وعن ابن عمر " بيع الطعام بمكة الحاد " وعنه سمعت رسول الله " صلى الله عليه وسلم " يقول: " احتكار الطعام بمكة إلحاد "(2) أخرجه البيهقي في الشعب، والباء في بإلحاد قيل ليست بزائدة إنْ كان مفعول (يرد) محذوفاً كما ذكرنا. وقيل زائدة، وبه قال الأخفش، والمعنى عنده ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال أهل الكوفة: المعنى بأن يلحد، وقيل من يرد الناس بإلحاد، وقيل إن يرد مضمناً معنى يهم، والمعنى من يهم فيه بإلحاد، والباء في بظلم للسببية وقيل غير ذلك.
(نذقه من عذاب أليم) في الآخرة إلا أن يتوب. قاله السدي، قيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان، وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا: لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله.
وعن ابن مسعود رفعه قال: لو أن رجلاً همّ بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري وقفه أشبه من رفعه. وعنه قال: من همّ بخطيئة فلم يعملها في
(1) أبو داوود كتاب المناسك 89.
(2)
مشكاة المصابيح 2723.
سوى البيت لم يكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم.
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنَيْس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)؛ يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد بميل عن الإسلام.
والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرد الإرادة للظلم فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا تقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه "(1)، فدخل النار هنا بمجرد حرصه على قتل صاحبه، وقد أفرد الشوكاني هذا البحث برسالة مستقلة.
(1) مسلم 2888 - البخاري 29.
(و) اذكر (إذ بوأنا لإبراهيم) يقال بوأته منزلاً وبوأت له، كما يقال مكنتك ومكنت لك، قال الزجاج: معناه جعلنا (مكان البيت) مبوأ لإبراهيم، وقيل معنى بوأنا بينا له، وقيل وطأنا، وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أسه القديم وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعاً بذراعهم؛ وأدخل الحجر في البيت ولم يجعل له سقفاً، وجعل له باباً وحفر له بئراً يلقى فيها ما يهدى للبيت وبناه قبله شيث وقبل شيث آدم وقبل آدم الملائكة وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة.
(إن لا تشرك بي شيئاً) أي أوحينا إليه أن لا تعبد غيري، قال المبرد: كأنه قيل له وحّدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي وحّدني. وقالت فرقة: الخطاب بقوله: (أن لا تشرك) لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف جداً.
(وطهر بيتي) من الشرك والأقذار وعبادة الأوثان، وفي الآية طعن على أن من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده، وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. والمعنى تطهيره من الكفر والأوثان والدماء والبدع وسائر النجاسات.
وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهماً والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم، وقيل المعنى نزهه أن يعبد فيه صنم، وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى.
(للطائفين) الذين يطوفون بالبيت (والقائمين) هم المصلون (و) ذكر قوله: (الركع السجود) بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، كالطواف عنده والصلاة إليه.
(وأذّن) أي ناد (في الناس بالحج) أي بدعوته والأمر به، وقرئ آذن بالمد والأذان الاعلام. وعن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: " قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق " فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون، وفي الباب آثار عن جماعة من
الصحابة؛ وبه قال جماعة من المفسرين، وزادوا: فعلا على المقام، فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال.
وقيل: علا على جبل أبي قبيس فلما صعده للنداء خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ونادى في الناس بالحج قال: يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كتب له أن يحج ممن كان في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك. قال القسطلاني: فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. انتهى، قيل: أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً.
وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله:(والركع السجود) وقيل إن خطابه انتهى عند قوله (مكان البيت)، وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول ذلك في حجة الوداع.
عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم " فقال: " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم (1)، قال في المدارك: والأول أظهر وقرأ الجمهور بالحج بفتح الحاء، وابن إسحاق في كل القرآن بكسرها.
(يأتوك رجالاً) هذا جواب الأمر وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل وقيل: جمع رجل، وقرئ بضم الراء رُجالاً، وقرئ على وزن كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، قال الكرخي: إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة وللراجل سبعمائة من حسنات الحرم، كل حسنة مائة
(1) مسلم 1337 - النسائي كتاب المناسك باب 1.
ألف حسنة، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين، انتهى.
أقول: المعتمد في الباب أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " حج راكباً كما في الروايات الصحيحة المشهورة، وفضيلة الاتباع تربو على غيره، وإن كان المشي فضيلة في نفسه سواء قدر على المشي أم لا قبل الإحرام وبعده، والحديث الذي ذكره الكرخي تبعاً للغزالي، والرافعي ضعيف على ما فيه، قاله ابن علان في مثير شوق الأنام إلى بيت الله الحرام، وممن ضعّفه ابن حجر المكي في شرح العباب وشرح المنهاج. والجواب عن التقديم أنه قد لا يفيد التفضيل قطعاً أو على الأصح، وقد يتقدم المفضول ويتأخر الأفضل، قال تعالى:(فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) وقال: (إن مع العسر يسراً) إلى غير ذلك من الآيات فليعلم، وقال:(يأتوك) وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه.
(وعلى كل ضامر) أي وركباناً على كل بعير، والضامر: البعير المهزول، الذي أتعبه السفر، يقال ضمر يضمر ضموراً؛ وضَمَر الفرس من باب دخل وضمُر أيضاً بالضم فهو ضامر فيهما، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضاً أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوماً، ووصف الضامر بقوله:(يأتين) باعتبار المعنى لأن ضامر في معنى ضوامر.
(من كل فج عميق) الفج الطريق الواسع، الجمع فجاج والعميق البعيد، قال النسفي: قدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشاة انتهى، وليس بشيء لأن الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة في الحديث الصحيح شرط في فريضة الحج واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجب الحج على راكب البحر، وهو استدلال ضعيف، لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين بمشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
(ليشهدوا) أي ليحضروا (منافع لهم) وهي تعمّ منافع الدنيا والآخرة وقيل المراد بها المناسك، وقيل المغفرة، وقيل التجارة كما في قوله:(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم).
قال ابن عباس: أسواقاً كانت لهم ما ذكر الله منافع إلا الدنيا، وعنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله؛ وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم، والذبائح والتجارات، ونكر منافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات، وللنسفي في هذا المقام كلام حسن من باب الاعتبار تركنا ذكره روما للاختصار فمن شاء إدراكه فليرجع إلى المدارك.
(ويذكروا اسم الله) عند ذبح الهدايا والضحايا، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه تنبيهاً على أن المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه (في أيام معلومات) هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله الآتي (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وبه قال ابن عمر والصاحبان، وقيل عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين والشافعي وأبي حنيفة.
قال ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وعنه قال: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وعنه قال: أيام التشريق؛ وعنه قال: قبل يوم التروية
بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده؛ والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث.
(على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا (فكلوا منها) أي من لحومها والأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب.
(وأطعموا البائس الفقير) البائس ذو البؤس، وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد من الإيضاح، وقال ابن عباس: البائس، الزّمِن (1) الذي لا شيء له والأمر هنا للوجوب؛ وقيل للندب.
(1) الزَمن بزاي مشددة مفتوحة بعدها ميم مكسورة وهو ذو العاهة.
(ثم) أي بعد حلهم خروجهم من الإحرام وبعد الإتيان بما عليهم من النسك (ليقضوا تفثهم) المراد بالقضاء هنا هو التأدية أي ليؤدوا إزالة وسخهم لأن التفث هو الوسخ والدرن، والشعث والقذارة من طول الشعر والأظفار، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا.
قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث، وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى. التفث، وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان، وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن، ولم يستحد فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه فهذا هو قضاء التفث قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال.
وعن ابن عمر قال: التَفثُ المناسك كلها، وعن ابن عباس نحوه،
وعنه قال: التفث حلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الابط وحلق العانة والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، وقص الأظفار، وقص الشوارب والذبح.
(وليوفوا) بالتخفيف والتشديد (نذورهم) أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذر هنا أعمال الحج، أو الهدايا والضحايا (وليطوفوا بالبيت العتيق) هذا الطواف هو طواف الإفاضة الواجب ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق.
قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه: (إنّ أول بيت وضع للناس) الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله منه، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان فإنه رفع في أيامه، وقيل لأنه لم يملك قط وقيل العتيق الكريم، وقد ورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وهو مطاف أهل الغبراء، كما أن العرش مطاف أهل السماء، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب، وجذبته جواذب الطلب، جعل يقطع مناكب الأرض مراحل، ويتخذ مسالك المهالك منازل فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً، ولم يفده باستلام الحجر إلا احتراقاً فيرده الأسف لهفان ويردده الكهف حوله في الدوران.
وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
(ذلك) أي الأمر ذلك، وهذا وأمثاله يطلق ويذكر للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا، وقد كان كذا، قاله أبو حيان في البحر، أو المعنى. افعلوا ذلك، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج (ومن يعظم حرمات الله) جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه.
قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه وهي في هذه الآية ما نهى عنها، ومنع من الوقوع فيها كالجدال والجماع والصيد، والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره، كما يفيده اللفظ، وإن كان السبب خاصاً وتعظيمها ترك ملابستها.
قال مجاهد: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وقيل هي البيت الحرام، والمشعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، والشهر الحرام، وتعظيمها القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها، وقيل هي مناسك الحج، وتعظيمها إقامتها وإتمامها.
(فهو) أي فالتعظيم (خير له) من التهاون بشيء منها (عند ربه) يعني في الآخرة، وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به أي قربة وطاعة يثاب عليها عند الله فهو عدة بخير.
(وأحلت لكم الأنعام) أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم كما تقدم (إلا ما يتلى عليكم) تحريمه في الكتاب العزيز من المحرمات وهي الميتة وما ذكر معها في آية المائدة فالاستثناء منقطع لما ذكر في آية المائدة بما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير، ويجوز أن يكون متصلاً بأن يصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه، وقيل وجه الانقطاع أنه ليس في الأنعام محرم، قاله الشهاب والسمين، وقيل في قوله:(إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم).
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الرجس: القذر والوسخ وعبادة الأوثان قذر معنوي والوثن التمثال وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه وسمى الصليب وثناً لأنه ينصب ويركز في مقامه فلا يبرح عنه، والمراد اجتناب عبادة الأوثان وسماها رجساً لأنها سبب الرجس، وهو العذاب، وقيل جعلها سبحانه رجساً حكماً والرجس النجس وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها، ولكنها
وصف شرعي فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء، قال الزجاج:(مِن) هنا لتخليص جنس من أجناس أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
وقال ابن عباس: يقول اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان (واجتنبوا قول الزور) الذي هو الباطل وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى:(تزاور عن كهفهم) وقوله: (مدينة زوراء) أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم فهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، والمشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان.
وقال الزجاج: المراد هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور، وقال ابن عباس: يعني الافتراء على الله والتكذيب به وقيل هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك
أخرج أحمد والترمذي وابن المنذر وغيرهم عن أيمن بن حريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ هذه الآية (1)، قال أحمد: غريب ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحن وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، قلنا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " (2).
(1) الترمذي كتاب الشهادات باب 3.
(2)
مسلم 87 - البخاري 1291.
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
(حنفاء لله) أي مستقيمين على الحق أو مائلين إلى الحق مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه، ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة، ويقع على الميل، وقيل معناه حجاجاً قاله ابن عباس.
وعن أبي بكر الصديق نحوه ولا وجه لهذا (غير مشركين به) شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم تأكيد لما قبله، وهما حالان من الواو في اجتنبوا، والأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة، قيل أن أهل الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين به.
(ومن يشرك بالله) مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب، والغرض بهذا ضرب المثل لمن يشرك بالله، والمعنى أن بعد من أشرك به عن الحق والإيمان (فكأنما خر) أي كبعد من سقط (من السماء) إلى الأرض، أي انحط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر.
(فتخطفه الطير) يقال خطفه يخطفه إذا سلبه، ومنه قوله:(يخطف أبصارهم) أي تخطف لحمه وتسلبه وتقطعه بمخالبها وتذهب به، وقرئ بتشديد الطاء وفتحها وبكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما.
(أو تهوي به الريح) أي تقذفه وترمي به (في مكان سحيق) يقال
سحق يسحق سحقاً فهو سحيق إذا بعد، أي بعيد فلا يصل إليه أحد بحال، قاله الزجاج وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق.
قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده هلاك، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير متفرقاً موزعاً في حواصلها، وعصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء المردية بالطير المختطفة، والشيطان الموقع في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
(ذلك ومن يعظم شعائر الله) جمع شعيرة أو شعارة بالكسر بوزن قلادة وهي كل شيء فيه لله شعار، ومنه شعار القوم في الحرب وهو علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البُدُن وهو الطعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله أعلام دينه، وتدخل فيها الهدايا في الحج دخولاً أولياً.
وعن ابن عباس في الآية قال: الشعار البدن والاستسمان والاستحسان والاستعظام وينبغي للإنسان أن يترك المشاحة في ثمنها.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار.
(فإنها) الضمير يرجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف، أي فإن تعظيم الشعائر (من تقوى القلوب) أي مبتدأ وناشئ من أفعال القلوب التي هي من التقوى، وإنما ذكر القلوب لأنها مراكز التقوى
(لكم فيها) أي في
الشعائر على العموم أو على الخصوص وهي البدن كما يدل عليه السياق واجبة أو مندوبة.
(منافع) ومنها الركوب والدر والنسل والصوف والوبر وغير ذلك مما لا يضرها (إلى أجل مسمى) وهو وقت نحرها، وقيل إلى أن تسمى بدناً، قاله ابن عباس، وعن مجاهد نحوه، وقال: في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها منافع إلى أن تسمى هدياً، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع.
(ثم محلِها) أي حيث يحل نحرها حين تسمى (إلى البيت العتيق) المعنى أنها تنتهي إلى البيت وما يلية من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية.
وقيل إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه. قال عكرمة: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها.
(ولكل أمة) هي الجماعة المجتمعة على مذهب واحد (جعلنا منسكاً) مصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، والذبيحة نسيكة، قال الأزهري: إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر، ويقال منسِك بكسر السين وفتحها لغتان. قال الفراء المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر، وقال ابن عرفة: منسكاً أي مذهباً من طاعة الله.
وروي عن الفراء أن المنسك العيد، وبه قال ابن عباس وقيل هو الحج. وقال مجاهد في الآية: إهراق الدماء، وعن عكرمة قال: ذبحاً، وعن
زيد بن أسلم قال: مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها، والأول أولى لقوله:
(ليذكروا اسم الله) والمعنى جعلنا لكل أهل دين من الأديان أو لجماعة مسلمة سلفت قبلكم ذبحاً يذبحونه ودماً يريقونه أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصاً به (على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) سماها بهيمة لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام لأن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها وإن أجاز أكله، وفي القاموس البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والجمع بهائم، والأبهم الأعجم، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام.
وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه، وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها. ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له فقال:
(فإلهكم إله واحد) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام والانقياد لطاعته وعبادته فقال:(فله أسلموا) أي انقادوا وأخلصوا وأطيعوا وتقديم الظرف على الفعل للقصر، والفاء كالفاء التي قبلها.
(وبشر المخبتين) من عباده، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين. وقال مجاهد: أي المطمئنين، وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا، وهو مأخوذ من الخبت وهو المنخفض من الأرض، والمعنى بشّرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحجاج لما فيهم من صفات المتواضعين، كالتجرد عن اللباس وكشف الرأس والغربة عن الأوطان، ولذا وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله:
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
(الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي خافت وحذرت مخالفته وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم (والصابرين على ما أصابهم) من البلايا والمصائب والمحن في طاعة الله (والمقيمي الصلاة) وصفهم بإقامة الصلاة، أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال لأن السفر مظنة التقصير فيها، ثم وصفهم سبحانه بقوله:
(ومما رزقناهم ينفقون) أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر ويضعونه في مواضع الخير، والمراد صدقة التطوع، ويعلم منه أنهم كانوا يتصدقون الصدقة الواجبة بالأولى.
(والبُدن) قرئ بضم الباء وسكون الدال وبضمهما وهما لغتان، وهذا الاسم خاص عند الشافعي بالابل، وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على الإبل والبقر، والأول أولى لا سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الابل، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالابل.
قال ابن لقيمة: فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري، وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح. وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق
البَدَنَةْ على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً (1)، كما صح في الحديث قال ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وقال أيضاً: البدن ذات الجوف وعن مجاهد قال: ليس البدن إلا من الإبل وعن عطاء نحو ما قال ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن. وقيل لا تسمى الغنم بدنة لصغرها.
(جعلناها لكم من شعائر الله) أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله تعالى وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها، وقيل لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي، وقد تقدم بيانه قريباً.
(لكم فيها خير) أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم، وهي جملة مستأنفة، مقررة لما قبلها أو حالية. قاله السمين.
(فاذكروا اسم الله عليها) أي على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك (صواف) أي أنها قائمات قد صفت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة وقرئ صوافي أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور، وواحد صوافي صافية. وفي قراءة ابن مسعود صوافن بالنون جمع صافنة، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى:(الصافنات الجياد)، وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة.
قال ابن عباس في الآية: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم والله أكبر.
وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها ْفقال ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وكون قيامها سنّة إنما
(1) ابن كثير 3/ 221.
هو على سبيل الندب، ويجوز نحرها وذبحها مضجعة على جنبها كالبقر.
(فإذا وجبت جنوبها) الوجوب السقوط، يقال وجبت الشمس أي سقطت ووجب الجدار سقط، ومنه الواجب الشرعي كأنه سقط علينا ولزمنا، أي فإذا سقط جنبها بعد نحرها على الأرض، وذلك عند خروج روحها فهو كناية عن الموت، وجمع الجنوب مع أن البعير إذا خر يسقط على أحد جنبيه، لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن.
(فكلوا منها) إن شئتم، ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب (وأطعموا القانع والمعتر) هذا الأمر قيل هو للندب كالأول، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج.
وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب، واختلف في القانع من هو؟ فقيل هو السائل؛ يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغنى ببلغة، ذكر معناه الخليل وبه قال ابن عباس، قال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن، وبالثاني قال عكرمة وقتادة.
وقال ابن عمر وابن عباس: القانع الذي يقنع بما آتيته. وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن: أنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل هو الذي يعتريك ويسألك، وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير والمعتر الزائر. وروي عن ابن عباس أن كليهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر، يقال اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه. ذكره النحاس.
قال ابن عباس: المعتر السائل، وعنه الذي يعترض، وعنه القانع الذي يجلس في بيته، وعنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: أما القانع فالقانع
بما أرسلت إليه في بيته، والمعتر الذي يعتريك. وعنه قال: القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل.
وقيل القانع المسكين، والمعتر الذي ليس بمسكين، وقيل القانع جارك الذي ينظر ما دخل عليك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه، وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك.
(كذلك) أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله صواف (سخرناها) أي ذللنا البدن (لكم) فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك (لعلكم تشكرون) هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.
(لن ينال الله) أي لن يصعد ولا يرفع إليه ولا يبلغ رضاه لا يقع موقع القبول منه (لحومها) التي تتصدقون بها (ولا دماؤها) التي تنصب عند نحرها من حيث أنها لحوم ودماء.
(ولكن يناله) أي يبلغ إليه (التقوى منكم) أي تقوى قلوبكم ويصل إليه إخلاصكم له في العمل الصالح وإرادتكم بذلك وجهه مع الإيمان، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه.
وقيل المراد أصحاب اللحوم والدماء، أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى.
قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به. وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطباتهم.
قال ابن عباس: " كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء، فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله (لن
ينال الله لحومها ولا دماؤها)، وعن ابن جريج نحوه.
(كذلك سخرها لكلم) كرر هذا للتذكير (لتكبروا الله) هو قول الناحر الله أكبر عند النحر فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها، وذكر هنا للتكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير وقيل المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء.
ومعني (على ما هداكم) على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها و (ما) مصدرية أو موصولة (وبشر المحسنين) قيل المراد بهم المخلصون، وقيل الموحدون، والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه.
(إن الله يدافع) وقرئ يدفع وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدل عليه القراءة الأخرى وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيراً مثل عاقبت اللص ونحو ذلك، وقد قدمنا تحقيقه وقيل إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة، وقيل للدلالة على تكرر الواقع.
(عن الذين آمنوا) أي يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين، وقيل يعلي حجتهم وقيل يوفقهم، وقال أبو حيان: لم يذكر الله ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، والجملة مستأنفة لِيُبيَن هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنه المتولي للمدافعة عنهم.
(إن الله لا يحب كل خوان كفور) مقررة لمضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أثم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له.
قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم أو كفر دون كفرهم.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(أذن للذين يقاتلون) قرئ أذن مبنياً للمفعول وللفاعل وكذلك يقاتلون وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال أو قاتلهم المشركون قاتلوهم، قال المفسرون: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: " اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال " حتى هاجر فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وقيل نزلت في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة، فأذن الله في قتال الذين يمنعونهم من الهجرة.
وهذه الآية مقررة أيضاً لمضمون قوله: (إن الله يدافع) فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في (بأنهم ظلموا) للسببية أي بسبب ما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد ثم وعدهم الله سبحانه النصر على المشركين على طريق الرمز والكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم فقال:
(وإن الله على نصرهم لقدير) وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضاً، أخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن ماجة، عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة.
قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون؛ ليهلكن القوم فنزلت: (أذن للذين يقاتلون) الخ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين، ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) المراد بالديار مكة (إلا أن يقولوا).
قال سيبويه: هو استثناء منقطع أي لكن لقولهم: (ربنا الله) أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم: ربنا الله وحده، وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله فيكون مثل قوله سبحانه: (وما تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا).
(ولولا دفع الله الناس) وقرئ دفاع (بعضهم) بدل بعض من الناس (ببعض لهدمت) بالتشديد للتكثير وبالتخفيف أي لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل؛ وتكرر الهدم لكثرة المواضع (صوامع) للرهبان ومعابدهم المتخذة في الصحراء، وقيل صوامع الصابئين وهي جمع صومعة وهي بناء مرتفع محدب يقال: صمع الثريدة إذا رفع رأسها ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة والأصمع من الرجال الحديد القول، وقيل الصغير الأذن ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام.
(وبيع) جمع بيعة وهي كنيسة النصارى في البلد، وقيل مساجد اليهود (وصلوات) هي كنائس اليهود وقيل النصارى، وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات وهي جمع صلاة وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتاً قاله السمين، ومعناه في لغتهم المصلى فلا يكون مجازاً، قاله الشهاب.
(ومساجد) للمسلمين، وقدمت الصوامع والبيع والصلوات على المساجد لكونها أقدم بناء وأسبق وجوداً أو ليكون فيه الانتقال من شريف إلى أشرف، والظاهر من الهدم معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره.
وقيل المعنى المجازي هو تعطيلها من العبادة، والمعنى لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء بعضهم ببعض، وإقامة الحدود لاستولى أهل الشرك وذهبت مواضع العبادة من الأرض، وقيل المعنى لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد.
قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل هذه الآية فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ، وقيل المعنى ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار.
وعن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت. الآية؟ قال أبو حيان: أجرى الله العادة في الأمم بذلك بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وقتل داود جالوت)، ثم قال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
(يذكر فيها اسم الله) ذكراً أو وقتاً (كثيراً) والجملة صفة للمساجد، وقيل لجميع المذكورات الأربع لأن كل واحد منها جمع (ولينصرن الله) اللام هي جواب لقسم محذوف أي والله لينصرن الله (من ينصره) أي دينه وأولياءه ومعنى نصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم ويكون النصر بالتجليد في القتال وبإيضاح الأدلة والبينات وبالإعانة على المعارف والطاعات.
(إن الله لقوي) على نصر أوليائه (عزيز) على انتقام أعدائه والقوي القادر على الشيء والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج، وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع
(الذين إن مكناهم في الأرض) بنصرهم على عدوهم، قيل المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقيل أهل الصلوات الخمس وقيل ولاة العدل وقيل غير ذلك وهو إخبار من الله بالغيب عما ستكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض.
وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، فتباً لمن يطعن بهم من أهل البدع والرفض بعد ذلك وتعساً لهم.
(أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) هذا جواب الشرط وفيه إيجاب الأمر بالمعروف، على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك، وقد تقدم تفسير الآية (ولله عاقبة الأمور) أي مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره.
وعن زيد بن أسلم في قوله: (الذين إن مكناهم في الأرض) قال: أرض المدينة (أقاموا الصلاة) قال: المكتوبة (وآتوا الزكاة) قال: المفروضة (وأمروا بالمعروف) قال: بلا إله إلا الله، (ونهوا عن المنكر) قال: عن الشرك بالله (ولله عاقبة الأمور) قال: وعند الله ثواب ما صنعوا، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم.
وعن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية أُخرجنا من ديارنا بغير حق ثم مُكِّنَّا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
(وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد) قوم هود (وثمود) قوم صالح
(وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين) هم قوم شعيب هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له، كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك، وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم.
والمعنى فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحدي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك فتسل بهم، قاله الخطيب، وتأنيث قوم باعتبار المعنى وهو الأمة أو قبيلة واستغنى في عاد وثمود عن ذكر قوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر، والأصل في التعبير العلم ولا علم لغيرهما فلهذا لم يقل: قوم هود وقوم صالح ولم يقل قوم شعيب لأن قومه يشملون أصحاب مدين وأصحاب الأيكة،
وأصحاب مدين سابقون على أصحاب الأيكة في التكذيب له، فخصوا في الذكر بسبقهم في التكذيب وإنما غير النظم في قوله:
(وكُذِّب موسى) فجاء بالفعل مبنياً للمفعول، ولم يقل وقوم موسى لأن قوم موسى لم يكذبوه، وإنما كذبه غيرهم من القبط (فأمليت للكافرين) أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم، والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب وفيه وضع الظاهر موضع الضمر زيادة في التشنيع عليهم، والنداء عليهم بصفة الكفر.
(ثم أخذتهم) أي أخذت كل فريق من المكذبين السبعة بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال (فكيف كان نكير) هذا الاستفهام للتقرير أي فانظر كيف كان إنكاري وتغييري ما كانوا فيه من النعم، وحمل الاستفهام على التعجب أوضح قال أبو حيان: ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب، فكأنه قيل ما أشد ما كان إنكاري عليهم والنكير اسم من المنكر ومصدر بمعنى الإنكار.
قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار، قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، فالمراد بالإنكار التغيير للضد بالضد، كالحياة بالموت، والعمارة بالخراب وليس بمعنى الإنكار اللساني والقلبي وأثبت ياء نكير حيث وقع في القرآن ورش في الوصل، وحذفها في الوقف، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً، ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال:
(فكأين من قرية أهلكناها) أي أهلها وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران (وهي ظالمة) المراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها، أي وأهلها ظالمون (فهي خاوية) الخوي بمعنى السقوط، أي فهي ساقطة (على عروشها) أي سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وإسناد السقوط على العروش إليها
لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة. قال قتادة:" خربة ليس فيها أحد ".
(وبئر) أي ومن أهل بئر (معطلة) هكذا قال الزجاج، يقال بأرت الأرض أي حفرتها، ومنه التأبير وهو شق كيزان طلع الإناث وذر طلع المذكور فيه، والبئر فعل بمعنى مفعول، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب، والمراد بالمعطلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم؛ وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية. قال قتادة: عطلها أهلها وتركوها. وقال ابن عباس: التي تركت لا أهل لها.
(وقصر مشيد) هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك. وعن قتادة أيضاً: شيّدوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه، وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن عباس: المراد بالمشيد المجصص مأخوذ من الشيد وهو الجص، وقيل المشيد الحصين، قاله الكلبي.
وقال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه والمشيد بالتشديد المطول. قال الكسائي للواحد من قوله تعالى:(في بروج مشيدة) وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء من شيَّده لأنه هنا وقع بعد جمع فناسب التكثير، وهنا وقع بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة. والمعنى وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة، ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهل أو من آلاته أو نحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: ويقال أن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل (1) لا يرتقي إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته. وحكى الثعلبي وغيره أن
(1) قُلة جبل بضم القاف أعلى الجبل.
البئر كان بعدن من اليمن في بلد الحضر، وأصحاب القصر الحضر وأصحاب البئر ملوك البدو.
وحكى الثعلبي وغيره أيضاً أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال له حضور أنزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمّي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراً؛ وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلاً منهم، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبياً يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم ثم ذكر قصة طويلة.
وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الإنس وإقفاره بعد العمران وأن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة.
قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: (وكم قصمنا من قرية)، فتعطلت بئرهم وخرت قصورهم. إهـ.
وقال النسفي: والأظهر أن البئر والقصر على العموم. ثم أنكر الله سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلاً:
(أفلم يسيروا في الأرض) حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم كما في قوله:(وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون)؛ وعلى هذا
فالاستفهامٍ ليس على حقيقته (فتكون لهم قلوب) تفريع على المنفي فهو منفي أيضاً.
(يعقلون بها) ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه، والعقل هنا بمعنى العلم، والمعنى أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه؛ وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل كما أن الآذان محل السمع وقيل إن العقل محله الدماغ، ولا مانع من ذلك فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه. وقد اختلف علماء العقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
(أو آذان يسمعون بها) ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة وما نزل بالمكذبين (فإنها لا تعمى الأبصار) قال الفراء: الهاء عماد، يجوز أن يقال فإنه وهي قراءة ابن مسعود والمعنى واحد، التذكير على الخبر والتأنيث على الأبصار، أو القصة أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة لا تعمى الأبصار، أي أبصار العيون (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما أصابت الآفة عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار.
قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم ويطير بجناحيه، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال:
(ويستعجلونك) أي يطلبون عجلتك (بالعذاب) لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشد إنكار، فاستعجالهم له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما يقوله الأنبياء عن الله
سبحانه من الوعد منه عز وجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال:(ولن يخلف الله وعده) قال الفراء: في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجهاً آخر فقال: أعلم أن الله لا يفوته شيء، وإن يوماً عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى.
والمعنى والحال أنه لا يخلف وعداً أبداً، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتماً أو الجملة اعتراضية مبينة لما قبلها. قال المحلي: أنجزه يوم بدر، أي أنزل العذاب بهم في الدنيا فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون.
(وإن يوماً) من أيام عذابهم (عند ربك) في الآخرة (كألف سنة مما تعدون) أي من سني الدنيا، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال وخطابهم في ذلك لبيان كمال حكمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله:(إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً). قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة في الثقل والاستطالة كألف سنة. وقيل المعنى وإن يوماً من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً، واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار.
وقرئ يعدون بالتحتية لقوله ويستعجلونك، وبالفوقية على الخطاب، واختار الأولى أبو عبيدة والثانية أبو حاتم.
وعن ابن عباس قال: إن يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض كألف سنة، وعن عكرمة قال: هو يوم القيامة، وعنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى منها ستة آلاف.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وأخرج ابن عدي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه، وتمام البحث في مدة الدنيا ماضيها وباقيها في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان:
(وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها) أي أهلها، هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوماً بعد الاملاء والتأخير، قيل وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد وليس بتكرار في الحقيقة، لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله:(فكيف كان نكير). والثاني سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله: (ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة) فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب، والمرجع للكل إلى حكمي. (و) جملة (إليَّ المصير) تذييل لتقرير ما قبلها
(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) أمره سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم،
فمن آمن وعمل صالحاً فاز بالمغفرة وستر الذنوب، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار. والرزق الكريم الجنة، والكريم من كل نوع ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.
(والذين سعوا في آياتنا) أي اجتهدوا في إبطالها حث قالوا القرآن شعر أو سحر أو أساطير الأولين.
(معاجزين) يقال عاجزه سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز
الآخر فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل معناه ظانين ومقدرين أن يعجز الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج. وقيل معاندين قاله الفراء وقال ابن عباس: مراغمين ومشاقين.
(أولئك أصحاب الجحيم) أي النار الموقدة
(وما أرسلنا من قبلك) من لابتداء الغاية، وهذا شروع في تسلية ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى.
(من رسول ولا نبي) من زائدة لتأكيد النفي، وفيه دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فقيل فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلثمائة وثلاثة عشر "(1)، والفرق بينهما أن الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً، والنبي الذي يكون وحيه إلهاماً أو مناماً.
وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب ولا بد لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة، وقرأ ابن مسعود ولا نبي ولا محدث، وعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى.
(إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) معنى تمنى تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه، قال الواحدي، قال المفسرون: معنى تمنى تلا، قال جماعة المفسرين، في سبب نزول هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في ناد من أنديتهم، وقد نزل عليه سورة
(1) الإمام أحمد 5/ 266.
(والنجم إذا هوى) فأخذها يقرأها عليهم حتى بلغ قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه: تلك الغرانيق (1) العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين بذلك وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل فقال ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا.
ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه؛ ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، حيث قال الله تعالى:(ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين)، وقوله:(وما ينطق عن الهوى).
وقوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون.
قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسناد متصل.
(1) هذه الرواية أدخلها على الإسلام يهودي تجلى الغموض عنه وإن وثقه بعض الناس؛ فإن هذه الرواية تشجب هذا التوثيق وتحجبه؛ ذلك أن ابن سعد في الطبقات يرويها عن رجل يدعى عبد الله بن حنطب ليس له صحبة، والطبري يرويها عن محمد بن كعب القرظي، كان أبوه من سبي بني قريظة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقه لأنه رآه دون البلوغ، فتزوج وخلّف محمداً هذا وقد ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ندرك أن هذه الرواية لم يجرؤ واحد على إسنادها لأحد الصحابة رضوان الله عليهم، وربما تكون قد دست من طريق بني قريظة وكان إرسالهم إياها عن طريق ابن حنطب وابن كعب. ويأتي بعد هذا ابن السائب الكلبي والواقدي فيرويانها عن ابن عباس؛ وحسبك فهما كذابان بالإجماع.
وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة، قال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت -فيما طريقه البلاغ- أنه معصوم فيه من الأخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً.
قال الرازي: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها، قال تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه، ويبطل قوله تعالى:(بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة انتهى ملخصاً، قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، وقد أسلفنا عن الحفاظ في هذا البحث ما فيه كفاية.
وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون، والمؤرخون المولعون بكل
غريب؛ الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم، وقد دل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها.
والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً، أخرجه البخاري ومسلم (1).
وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس رواه البخاري، فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره الفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي فهذا توهين هذه القصة.
وقد أجابوا عنه من حيث المعنى بوجوه أخرى يطول ذكرها بلا فائدة زائدة وقد استوفاها الخازن في تفسيره، والنسفي في المدارك ونبه الحافظ ابن حجر على ثبوت أصلها في الجملة، وقال إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح لكنها مراسيل، وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى. تمنى قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين.
قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى تمنى تلا، وقرأ كتاب الله ومعنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته وقراءته، قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله:(لا يعلمون الكتاب إلا أماني) وقيل معنى تمنى حدّث، ومعنى في أمنيته في حديثه، روي هذا عن ابن عباس، وقيل معنى تمنى قال، فحاصل معنى الآية أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جرى على لسانه فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
(1) مسلم 576 - البخاري 588.
أي لا يهولك ذلك ولا يحزنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء وعلى تقدير أن معنى تمنى حدّث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا: يقال تمنى إذا حدث نفسه، فالمعنى أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه.
قال ابن عطية: لا خلاف أن القاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة، قال القاضي عياض: وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه، وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل، وقال في أمنيته في تلاوته، وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة ويرد بقوله الآتي: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة.
وقيل إن ذلك جرى على لسانه سهواً ونسياناً وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز، كما هو مقرر في مواطنه، قال الضحاك: يعني بالتمني التلاوة، والقراءة فينسخ الله أي جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: إذا تمنى أي تكلم وأمنيته كلامه، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم، وقد شبق إلى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى قاله الحافظ في الفتح؛ ثم لما سلاه سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستحر تغرير الشيطان فقال:
(فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت (ثم يحكم الله آياته) أي يثبتها (والله عليم حكيم) أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
(ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) تعليل أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان ضلالة ومحنة وبلية (للذين في قلوبهم مرض) أي شكل ونفاق (والقاسية قلوبهم) هم المشركون فإن قلوبهم لا تلين للحق أبداً ولا ترجع إلى الصواب بحال ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين بأنهم ظالمون فقال:
(وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي عداوة شديدة ووصف الشقاق بالبعد مبالغة والموصوف به حقيقة من قام به ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق، فقال:
(وليعلم الذين أوتوا العلم) أي التوحيد والقرآن والتصديق بنسخ الله ما يشاء (أنه الحق من ربك) أي: الحق النازل من عنده، وقيل الضمير في (أنه) راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه؛ ولكنه يرد هذا قوله:(فيؤمنوا به) فإن المراد الإيمان بالقرآن أي يثبتوا على الإيمان به.
(فتخبت له قلوبهم) أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا لتمكين من الشيطان بل للقرآن (وإن
الله لهادي الذين آمنوا) في أمور دينهم (إلى صراط مستقيم) أي طريق صحيح قويم، لا عوج به وقرئ لهادٍ بالتنوين.
(ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) أي في شك من القرآن؛ وقيل من الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم، وقيل من الرسول وقيل من إلقاء الشيطان فيقولون ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم رجع عن ذلك؛ وقرئ مُرية بضم الميم، وهما لغتان مشهورتان، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان، قال السمين: ولا أحفظ الضم هنا.
(حتى تأتيهم الساعة) أي القيامة أو الموت (بغتة) أي فجأة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده فكان بهذا الاعتبار عقيماً وهو في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم، وقيل يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، قاله ابن عباس، وعن أبيّ بن كعب نحوه، وعن سعيد بن جبير وعكرمة مثله.
وعن مجاهد قال: يوم القيامة لا ليلة له، وعن الضحاك وسعيد مثله أيضاً؛ وقيل إن اليوم وصف بالعقم لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى:(فأرسلنا عليهم الريح العقيم) أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر وفيه استعارة بالكناية بأنه شبه اليوم المنفرد عن سائر الأيام، والزمان الذي لا خير فيه بالنساء العقم تشبيهاً مضمراً في النفس، وإثبات العقم تخييل؛ فإن الأيام بعضها نتائج لبعض، فكل يوم يلد مثله.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
(الملك يومئذ) أي السلطان الظاهر والاستيلاء التام يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم (لله) سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه (يحكم) أي يفصل (بينهم) مستأنفة أو هي حالية، ثم فسر هذا الحكم بقوله:
(فالذين آمنوا وعملوا الصالحات) كائنون (في جنات النعيم) مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها فضلاً من الله
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته (فأولئك لهم عذاب) متصف بأنه (مُهين) للمعذّبين بالغ منهم المبلغ العظيم بسبب كفرهم.
(والذين هاجروا في سبيل الله) أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف وتفخيماً لشأنهم، قال بعض المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل في سبيل الله وطاعته.
(ثم قتلوا) وقرئ مشدداً على التكثير (أو ماتوا) في حال المهاجرة (ليرزقنهم الله) جواب قسم محذوف (رزقاً) أي مرزوقاً (حسناً) أو مصدر مؤكد وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ومن يمنعه، فقوله مرجوح والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل هو الغنيمة
لأنه حلال، وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب: ورزقني منه رزقاً حسناً، والتسوية في الوعد بالرزق لا يدل على تفضيل في قدر المعطي ولا تسوية، فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، والمقرر في كتب الفروع أن المقتول أفضل لأنه شهيد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن سلمان الفارسي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، اقرأوا إن شئتم والذين هاجروا -إلى قوله- حليم ".
قلت: ويؤيد. هذا قوله سبحانه: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).
(وإن الله لهو خير الرازقين) أي أفضلهم فإنه سبحانه يرزق بغير حساب بمحض الإحسان، وكل رزق يجري على يد العباد بعضهم لبعض فهو منه سبحانه لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقررة لما قبلها.
ولما ذكر الرزق أعقبه بذكر المسكن بقوله:
(ليدخلنهم مدخلاً يرضونه) مستأنفة أو بدل من جملة ليرزقنهم الله، قرئ مُدخلاً بفتح الميم وبضمها وهو اسم مكان أريد به الجنة أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان، وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا.
(وإن الله لعليم) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم. وقيل بأحوال من قضى نحبه مجاهداً، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً (حليم) عن تفريط المفرطين منهم بإمهال من قاتلهم معانداً لا يعاجلهم بالعقوبة.
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
(ذلك) أي ما تقدم أو الأمر ذلك وما بعده مستأنف. وقال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قُتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف.
(ومن عاقب بمثل ما عوقب به) أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، والعقاب مأخوذ من التعاقب وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذ يسمى الابتداء عقاباً باسم الجزاء مشاكلة كقوله:(وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، أو من قبيل تسمية السبب باسم المسبب، والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه؛ والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه.
عن ابن جريج قال: تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً (ثم بغى عليه) أي أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى.
وقيل المراد بهذا البغي هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به. وقيل المعنى ثم كان المجازي
مبغياً عليه، أي مظلوماً، ومعنى (ثم) تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم، كما قيل في أمثال العرب: البادئ أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات.
(لينصرنّه الله) اللام جواب قسم محذوف، أي والله لينصرن الله المبغي عليه على الباغي (إنّ الله لعفوّ غفور) أي لكثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب أو القتال في الشهر الحرام وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو.
(ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) إشارة إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه والباء للسببية، أي ذلك النصر بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل. قاله الرازي. وقال البيضاوي: قادر على تقليب الأمور بعضها على بعض، جارية عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة، وعبر عن الزيادة بالإيلاج لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر.
وقيل يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار، وذلك بغيبوبة الشمس، ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس، فالمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر، وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج.
(وإن الله سميع) يسمع كل مسموع لا يشغله سمع عن سمع (بصير) يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون لا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات فلا يعزب عنه مثقال ذرة
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام (بأن الله هو الحق) أي هو سبحانه ذو الحق فدينه حق وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته كلها حق.
(وأن ما يدعون من دونه الباطل) قرئ بالفوقية على الخطاب
للمشركين وبالتحتية على الخبر وهما سبعيتان، والمعنى أن الذي يدعونه إلهاً وهي الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلهاً، أي المعدوم في حد ذاته والباطل ألوهيته، والباطل الزائل.
وقال مجاهد: الباطل هنا الشيطان (وأن الله هو العلي) أي العالي على كل شيء بقدرته وذاته، المتقدس عن الأشباه والانداد المتصف بصفات الكمال المتنزه عما يقوله الظالمون والمعطلون (الكبير) أي ذو الكبرياء الذي يصغر كل شيء سواه، هو عبارة عن كمال ذاته وعظيم قدرته وسلطانه وتفرده بالإقية، ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته فقال:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) الاستفهام للتقرير كما قاله الخليل وسيبويه، قال الخليل: المعنى الم تعلم أنه أنزل من السماء مطراً فكان كذا وكذا، ذكر هنا ستة أشياء أولها إنزال الماء الناشئ منه اخضرار الأرض كما قال:(فتصبح الأرض مخضرة) قال الفراء: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار، والمقصود إثباته.
قال ابن عطية: هذا لا يكون بعد الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة، والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها، لا باعتبار النبات فيها، كما في قوله:(فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)، والمراد بقوله:(إن الله لطيف) أي يصل علمه إلى كل دقيق وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل باستخراج النبات.
(خبير) أي أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم، وقيل خبير بما
ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر. وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
والثاني قوله:
(له ما في السماوات وما في الأرض) خلقاً وملكاً وتصرفاً وعبيداً، وكلهم محتاجون إلى رزقه (وإن الله لهو الغني) فلا يحتاج إلى شيء (الحميد) أي المستوجب للحمد في كل حال.
(ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) هذه نعمة أخرى ثالثة ذكرها الله سبحانه فأخبر عباده بأنه سخر لهم وذلل ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار والحجر. والحديد والنار لما يراد منها، والحيوان للأكل والركوب والحمل عليه والنظر إليه وجعله لمنافعهم (و) سخر لكم (الفلك) أي السفن في حال جريها.
(تجري في البحر بأمره) أي بتقديره وإذنه، فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف، وهذه نعمة رابعة. والنعمة الخامسة قوله:(ويمسك السماء) كراهة (أن تقع على الأرض) وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه، وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته لئلا تسقط فتبطل النعم التي امتن بها علينا.
(إلا بإذنه)، أي بإرادته ومشيئته، وذلك يوم القيامة، والظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال وهو لا يقع في الكلام الموجب إلا أن قوله:
(ويمسك السماء أن تقع على الأرض) في قوة النفي، أي لا يتركها تقع في حالة من الأحوال إلا في حالة كونها ملتبسة بمشيئته تعالى فالباء للملابسة.
(إن الله بالناس لرءوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده، وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم، تفضلاً منه على عباده وإنعاماً عليهم، ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى سادسة فقال:
(وهو الذي أحياكم) بعد إن كنتم جماداً، بل لم تكونوا شيئاً (ثم يميتكم) عند انقضاء أعماركم (ثم يحييكم) عند البعث للحساب والعقاب (إن الإنسان لكفور) أي لكثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة وعن الحسن في قوله (كفور)، قال: يعد المصيبات وينسى النعم. ثم عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال:
(لكل أمة جعلنا منسكاً) أي لكل قرن من القرون الماضية والباقية وضعنا شريعة خاصة بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى؛ لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وقيل عيداً. وقيل موضع قربان يذبحون فيه. وقيل موضع عبادة.
(هم ناسكوه) الضمير لكل أمة، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ والقرآن منسك المسلمين إلى يوم القيامة، والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ولا اعتبار بخصوص السبب.
(فلا ينازعنك في الأمر) الفاء لترتيب النهي على ما قبله والضمير
راجع إلى الأمم الباقية آثارهم. يعني قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته أو كناية عن نهيه عن الالتفات إلى نزاعهم له.
قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان، أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان، أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه.
وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعنك، أي فلا يجادلنك؛ قال ودل على هذا وإن جادلوك. وقرئ فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقرأ الجمهور فلا ينازعنك من المنازعة كما تقدم.
وقال ابن عباس: هم ناسكوه أي ذابحوه فلا ينازعنك في الأمر أي في الذبح، وعن عكرمة ومجاهد نحوه، وعن مجاهد قال: قول أهل الشرك، أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
(وادع) هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم (إلى) دين (ربك) وتوحيده والإيمان به (إنك لعلى هدى) أي طريق (مستقيم) لا اعوجاج فيه
(وإن جادلوك) أي وأن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم.
(فقل الله أعلم بما تعملون) فكل أمرهم إلى الله، وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد
(الله يحكم بينكم) أي بين المسلمين والكافرين (يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
وقيل إنها منسوخة بآية السيف وهذا إنما يصح إذا كان المراد من قوله: (وإن جادلوك) الكف عن قتالهم وهو غير متعين؛ بل يصح أن يكون المعنى: فاترك جدالهم وفوض الأمر إلى الله فيكون هذا وعيداً لهم على أعمالهم، وهذا المعنى لا تنسخه آية السيف، بل هو باق بعد مشروعية القتال لعدم المنافاة.
(ألم تعلم)؟ مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستفهام للتقرير أي قد علمت يا محمد وتيقنت (أن الله يعلم ما في السماء والأرض) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاختلاف (إن ذلك) الذي في السماء والأرض من معلوماته (في كتاب) أي مكتوب عنده في أم الكتاب.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على عرشه: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله سبحانه
للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) يعني ما في السماوات السبع والأرضين السبع، إن ذلك العلم في كتاب، يعني في اللوح المحفوظ، مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين.
(إن ذلك) يعني إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه (على الله يسير) أي هين أو أن إحاطة علمه بما في السماء والأرض جملة وتفصيلاً يسير عليه، وأن تعذر على الخلق.
(ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً) هذا حكاية لبعض فضائحهم أي أنهم يعبدون أصناماً: لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه فهو نفي للدليل السمعي (وما ليس لهم به علم) من دليل عقلي يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه (وما للظالمين) بالإشراك (من نصير) ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران.
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) من القرآن (بينات) أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة (تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) أي الأمر الذي ينكر وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها أو المراد بالمنكر الإنكار أي تعرف في وجوههم إنكارها والمنكر مصدر، وقيل هو التجبر والترفع وهذا من إيقاع الظاهر موقع المضمر للشهادة عليهم بوصف الكفر.
(يكادون يسطون) السطو: الوثب والبطش، والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب أو شتم أو أخذ باليد، وأصل السطو: القهر، وقال ابن عباس: أي يبطشون (بالذين يتلون عليهم آياتنا) هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة؛ كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟
فقيل: يكادون يسطون، وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة، مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين.
وقد رأينا وسمعنا من ذلك من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف والله ناصر الحق ومظهر الدين، ومدحض الباطل، ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل؛ ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال:
(قل أفأنبئكم) أي أخبركم (بشر من ذلكم) الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب وهو (النار) التي (وعدها الله الذين كفروا) وقيل المعنى أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم، وقرئ النار بالحركات الثلاث (وبئس المصير) أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.
(يا أيها الناس ضرب مثل) هذا متصل بقوله: (ويعبدون من دون الله)، وإنما قال ضرب مثل لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب إلى أفهامهم، قال ابن عباس: نزلت في صنم، قال الأخفش: ليس ثَمَّ مثل وإنما المعنى ضربوا لي مثلاً؛ قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلاً، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم، وقال القتيبي: معنى ضرب مثل أي عبدت آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً، وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضاء والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم وجعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية.
(فاستمعوا له) أي لضرب هذا المثل وتدبروه حق تدبره، فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع، والمعنى أن الكفار جعلوا لله مثلاً لعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيهاً في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه، ثم بين حالها وصفتها فقال:
(إن الذين تدعون من دون الله) المراد بهم الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها، وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله، لكونهم أهل الحل والعقد فيهم؛ وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل.
(لن يخلقوا ذباباً) واحداً مع ضعفه وصغره وقلته وهو اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة إذبة والكثرة ذبان بالكسر مثل غراب وأغربة وغربان وبالضم كقضبان.
وقال الجوهري: الذباب معروف، الواحد ذبابة، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره و (لن) لتأكيد النفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل، كأنه قال: محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته واستقذاره، والمعنى لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وهو أجهل الحيوانات، لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يوماً، وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض.
(ولو اجتمعوا له) أي لخلق الذباب، والتقدير لن يخلقوه على كل حال، ولو في هذه الحالة المقتضية لجمعهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام إن اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل
جعلها معبوداً كما أشار إليه في التقرير، ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال:
(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) أي إذا أخذ واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئاً من الأشياء بسرعة لا يقدرون على تخليصه منه؛ لكمال عزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والانقاذ التخليص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشد منه قوة وأعجز وأضعف، قال عكرمة: أي لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال:
(ضعف الطالب والمطلوب) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب، وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم قال ابن عباس: الطالب آلهتهم والمطلوب الذباب، ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال:
(ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد