الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
(هي مدنية وآياتها أربع وستون آية)
وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعن عائشة قال: " لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء (1) وعلموهن الغزل وسورة النور "
أخرجه البيهقي والحاكم وابن مردويه، وعن مجاهد مرفوعاً قال:" علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نسائكم سورة النور " رواه البيهقي وابن المنذر وسعيد بن جبير وهو مرسل.
(1) لم يصح في خطر تعليم الكتابة للنساء حديث، ومن الثابت أن بعض نساء السلف كن عالمات فقيهات، والتاريخ يحفظ لنا أسماء الكثيرات.
" المطيعي "
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
(سورة) هي في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قول زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
…
ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي: منزلة وقرئ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: إن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير هذه سورة ورجحه الزجاج والفراء والمبرد، قالوا: لأنها نكرة ولا يبتدأ بها في كل موضع، والثاني: إن يكون مبتدأ؛ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله:
(أنزلناها) والخبر: الزانية والزاني وإلى هذا نحا ابن عطية، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختتم، وهذا معنى صحيح ولا وجه لما قاله الأولون وقيل التقدير فمما أوحينا إليك سورة وَرُدَّ بأن مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا، وقرئ بالنصب أي: اتل سورة أو اقرأ أو أنزلنا سورة أو دونك سورة، قاله الزمخشري ورده أبو حيان وقيل أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن.
(وفرضناها) قرئ بالتخفيف والتشديد، ومعنى المشدد قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض القطع والتشديد للتكثير أو للمبالغة أو لتأكيد الإيجاب أو لكثرة الفرائض فيها كالزنا والقذف اللعان والاستئذان وغض البصر وغير ذلك.
ومعنى المخفف أوحيناها وجعلناها مقطوعة، وقيل ألزمناكم العمل بها وقيل قدرنا ما فيها من الحدود والفرض التقدير، ومنه أن الذي فرض عليك القرآن، وقيل بيناها قاله ابن عباس، وقيل أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفى.
(وأنزلنا فيها آيات بينات) أي أنزلنا في غصونها وتضاعيفها آيات واضحة الدلالة على مدلولها وتكرير (أنزلنا) لكمال العناية بإنزال هذه السورة وشأنها لما اشتملت عليه من الأحكام المفروضة.
قال الرازي: ذكر الله في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله:(فرضناها) إشارة إلى الأحكام وقوله هذا إلى ما بين فيها من دلائل التوحيد ويؤيده قوله:
(لعلكم تذكرون) فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى نؤمر بتذكرها، أما دلائل التوحيد، فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها، فأمروا بتذكرها، قيل والمعنى تتعظون.
وقيل قوله:
(الزانية والزاني) تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح وقيل هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً و (الزانية) هي المرأة المطاوعة للزنا، الممكنة منه، كما تنبئ عنه الصيغة المكرهة، وكذلك (الزاني) وتقديم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع، قاله أبو السعود؛ إنما قدمت المرأة هنا وأخرت في آية حد السرقة لأن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع، وهي في المرأة أقوى وأكثر،
والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة، وهي في الرجل أقوى وأكثر، قاله الكرخي.
وقيل وجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن، وقيل لأن العار فيهن أكثر، إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكر الزانية تغليظاً واهتماماً.
(فاجلدوا) الجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وعلى مذهب سيبويه التقدير فيما يتلى عليكم حكم الزانية؛ ثم بين ذلك بقوله:(فاجلدوا) والخطاب في هذه الآية الكريمة للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
(كل واحد منهما مائة جلدة) هو حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو تغريب عام وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: التغريب إلى رأي الإمام، والحديث يرده، وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب، وتجلد المرأة ولا تغرب، وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسين جلدة لقوله سبحانه:(فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وهذا نص في الإماء وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.
وأما من كان محصناً من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة؛ وبإجماع أهل العلم، بل وبالقرآن المنسوخ لفظه، الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة، وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في شرحه للمنتقى، وقد مضى الكلام في
حد الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لأية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وزاد النسفي والتغريب منسوخ بالآية، وليس بصحيح فقد أثبتته السنة الصحيحة كما أشرنا إليه.
(ولا تأخذكم) بالتأنيث مراعاة للفظ، وبالياء لأنه مجازي، وللفصل بالمفعول والجار (بهما رأفة) يقال رأف يرأف رأفة، على وزن فعلة، ورأفة على وزن فعالة، مثل النشأة والنشاءة، وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة. وقيل هي أرق الرحمة وأشدها.
(في دين الله) أي في طاعته وحكمه، كما في قوله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، أي لا يأخذكم الدين في استيفاء الحدود فتعطلوها، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وقيل تخففوا الضرب، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حد الزنا والفرية، أي القذف، ويخفف في حد الشرب. وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد القذف ودونه في حد الشرب، ثم قال: مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم.
(إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر) أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال لا تعطلوا الحدود، وفي إلهاب الغضب لله ولدينه، وذلك لأن الإيمان بهما يقتضي التجلد في طاعة الله وفي إجراء أحكامه، وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة في الحدود وتعطيلها، والحاصل أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الحث والمتانة ولا يأخذهم اللين والهوان في استيفاء حدود الله، وكفى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في ذلك حيث قال:" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها "(1).
(1) مسلم 1688 - البخاري 1287.
(وليشهد عذابهما) أي لتحضر الجلد إذا أقيم عليهما زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما واشتهار فضيحتهما (طائفة من المؤمنين) ندباً، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف، وأقلها ثلاثة، لأنه أقل الجمع، وقيل اثنان. قاله عكرمة. وقيل واحد. قاله مجاهد. وقيل أربعة لأنهم عدد شهود الزنا. وقيل عشرة.
قال ابن عباس: الطائفة الرجل فما فوقه، ولا يجب على الإمام حضور رجم، ولا على الشهود، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، وتسمية الجلد عذاباً دليل على أنه عقوبة، ثم ذكر سبحانه شيئاً يختص بالزاني والزانية فقال:
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) يعني أن الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، والثانية لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة الألفة والتضامّ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأول: إن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله، وأنه محرم على المؤمنين، ويكون معنى (الزاني لا ينكح إلا زانية) الوطء لا العقد، أي الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان، وزاد ذكر المشركة والمشرك، لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا.
وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويردّ هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه. ومنه قول:(حتى تنكح زوجاً غيره) فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المراد به الوطء. ومن جملة القائلين بأن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم وعن ابن
عباس قال: ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع، لا يزني بها حين تزني إلا زانٍ أو مشرك.
الثاني: إن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون. خاصة بها، كما قال الخطابي عن ابن عمرو، قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن ينفق عليها، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم.
الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به، قاله مجاهد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة؛ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة فيها فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فلم يرد عليّ شيئاً. حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحه " ا (1)، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح.
الخامس: إن المراد بالزاني والزانية المحدودان. حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا لا يصح نظراً، كما لا يثبت نقلاً.
السادس: إن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: (وأنكحوا الأيامى
(1) أبو داوود كتاب النكاح باب 4.
منكم) قال النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء، والسابع أن هذا الحكم مؤسس على الغالب العام، والمعنى أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن. قال الكرخي: إن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يرغب في نكاح فاسقة مثله أو في مشركة؛ والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح بل تنفر عنه، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هاهنا والفرق بين قوله:(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وقوله: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) أن الكلام يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني؛ فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما تقدم.
وعن شعبة مولى ابن عباس قال: " كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس:(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنّها كن نساء بغايا متعاليات، يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس، يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية. تزوجها فما كان فيها من إثم فعليّ.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أبو داود وابن المنذر والحاكم وابن أبي حاتم وغيرهم (1). وعن علي أن رجلاً تزوج امرأة ثم إنه زنى
(1) أبو داوود كتاب النكاح باب 4 - الإمام أحمد 2/ 324.
فأقيم عليه الحد، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك.
وعن مجاهد قال: " كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين ". وهو مرسل.
وعن ابن عباس أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. وعنه قال كانت بغايا في الجاهلية، بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله:(الزاني لا ينكح إلا زانية) فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وعن الضحاك قال: إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: " الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا على المؤمنين.
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز، قال ابن مسعود:" إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً " وبه قال مالك.
(وحرم ذلك) أي الزنا أو نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب والتسبب لسوء المقالة وغير ذلك من المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة البغايا والقحاب وقيل هو مكروه فقط؛ وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر.
(على المؤمنين) الأخيار الأبرار فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت
هذه العادة ويتصون عنها، وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً، لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً في ذلك بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدئ الطلب.
(والذين يرمون) استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، أي يشتمون (المحصنات) أي النساء العفيفات بالزنا، وكذا المحصنين، وإنما خصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع، والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمع الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك.
وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير الأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله في آية أخرى:(والمحصنات من النساء)، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى؛ وقيل أراد بالمحصنات الفروج؛ كما قال:(والتي أحصنت فرجها)، فتتناول الآية الرجال والنساء؛ وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني؛ وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت.
قرئ المحصنات بفتح الصاد وكسرها، وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة.
(وقالوا) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك (هذا إفك مبين) أي كذب بين ظاهر مكشوف لا حقيقة له، وقوله:(لولا جاءوا عليه) من تمام ما يقوله المؤمنون، أي هلا جاء الخائضون في الإفك (بأربعة شهداء) يشهدون على ما قالوا.
(فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله) أي في حكمه وقضائه الأزلي، أو شرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة (هم الكاذبون) أي القاذفون الكاملون في الكذب، وهذا من باب الزواجر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى لولا أني قضيت عليك بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، والرحمة في الآخرة بالعفو.
(لمسّكم فيما أفضتم) أي بسبب ما أفضتم (فيه) من حديث الإفك، والإبهام لتهويل أمره، يقال: أفاض في الحديث واندفع، وخاض بمعنى (عذاب عظيم) أي لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك: وقيل المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً.
(إذ تلقونه بألسنتكم) من التلقي، والأصل تتلقونه.
قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقياً.
قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض، وقرئ الإلقاء ومعناها واضح، وقرئ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، وهي مأخودة من قول العرب: ألق (1) الرجل يَلَق ولقا إذا كذب، قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي
(1) الصحيح ولق يلق ولقاً وهي في الصحاح في مادة الواو، وفي القاموس في باب القاف فصل الواو ففاؤها واو وليس ألفاً.
" المطيعي "
شاهداً على غير المتعدي.
قال ابن عطية: وعندي أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.
وقال الخليل وأبو عمر: وأصل الولق الإسراع يقال جاءت الإبل تلق أي تسرع، وعن ابن جرير مثله وزاد الولق هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد وكلام في إثر كلام، وقرئ تألقونه من الألق وهو الكذب؛ وقرئ يلقونه وهو مضارع ولق بكسر اللام والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف، والأخذ بسرعة، وفي الثالث معنى الحذق والمهارة؛ وقال الراغب: في التلقن الحذق في التناول، وفي التلقف الاحتيال فيه.
(وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) معناه أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: يطير بجناحيه ونحوه.
(وتحسبونه) أي الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (هيناً) أي شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم (هو عند الله عظيم) ذنبه وعقابه والجملة في محل الحال؛ قيل جزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.
(ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له بمجرد أول السماع: ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاؤا بالإفك وأصله التنزيه لله سبحانه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي
هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها، ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال:
(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) أي ينصحكم أو يحرج الله عليكم، قاله ابن عباس أو يحرم عليكم أو ينهاكم كراهة أن تعودوا أو من أن تعودوا أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف؛ أو استماع حديثه مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) عائد إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل، كما وقع هنا من الإجماع واتفاق الأئمة الأربعة على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد، فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع عن قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى وحكى هذا الإجماع القرطبي.
قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمي غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) إلى قوله:
(إلا الذين تابوا) ولا
شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع، قال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته قال وقوله: (أبداً) أي ما دام قاذفاً كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، فإن معناه ما دام كافراً انتهى.
وعن ابن عباس في الآية قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك وعنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم، وعن ابن عباس أيضاً قال: من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
وفي الباب روايات عن التابعين وقصة المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة، وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ونزل جبريل فأنزل عليه
(والذين يرمون أزواجهم) حتى بلغ (إن كان من الصادقين) فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب؟ " ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا أنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج (1) الساقين فهو لشريك بن سحماء
(1) خدلج: ممتلىء لحماً.
فجاءت به كذلك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)" لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن "(1).
وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس مطولة وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، ولم يسمّوا الرجل ولا المرأة.
وفي آخر القصة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: " اذهب فلا سبيل لك عليها " فقال: يا رسول الله مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله أيقتل به؟ أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صك الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل، فقال: عويمر والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألنه فوجده قد أنزل عليه فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ففارقتها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذباً، فجاءت به مثل المنعت المكروه "(2).
وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية، وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً، ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال:
(1) البخاري تفسير سورة 24/ 3 - الترمذي تفسير سورة 24/ 3.
(2)
أبو داوود كتاب الطلاق باب 27.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
(والذين يرمون أزواجهم) جمع زوج بمعنى الزوجة فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها إلا في الفرائض، ولم يقيد هنا بالمحصنات إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج وفي قذف غيرها يسقط التعزير كأن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف قذف الصغيرة التي لا تحتمله، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار، فإن الواجب في قذفهما التعزير لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع وقد وقع قذف الزوجة بالزنا لجماعة من الصحابة كهلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي.
(ولم يكن لهم شهداء) يشهدون بما رموهن به من الزنا (إلا أنفسهم) بالرفع على البدل من شهداء، ولم يذكر الزمخشري غيره، وقيل إنه نعت له على أن إلا بمعنى غير وبالنصب على الاستثناء على الوجه المرجوح، ولا مفهوم لهذا القيد، بل يلاعن ولو كان واجداً للشهود الذين يشهدون بزناها لنفي ولد ولدفع العقوبة حداً أو تعزيراً.
(فشهادة أحدهم) أي الشهادة التي تزيل عنه حد القذف أو فالواجب شهادة أحدهم أو فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة، وقيل فعليهم أن يشهد
أحدهم (أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) فيما رماها به من الزنا وهي المشهود به.
(و) الشهادة (الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور (أن) بالتشديد ونافع بتخفيفها.
(ويدرأ) أي يدفع (عنها) أي عن المرأة (العذاب) الدنيوي وهو الحد، والمعنى أنه يدفع عن المرأة الحد (أن تشهد) أي شهادتها (أربع شهادات بالله إنه) أي الزوج (لمن الكاذبين) فيما رماني به من الزنا
(و) تشهد الشهادة (الخامسة أن غضب الله عليها إن كان) الزوج (من الصادقين) فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة ومع استكثارهن منه لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب.
(ولولا فضل الله عليكم) فيه التفات عن الغيبة، والخطاب لكل من الفريقين أي القاذفين والمقذوفات، ففي الكلام تغليب صيغة المذكور على صيغة الأناث؛ حيث لم يقل عليكم وعليكن (ورحمته) لنال الكاذب منهما عذاب عظيم قاله الزجاج أو لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان أو لفضحكم، فجواب (لو) محذوف، ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب، وعظيم حكمته البالغة فقال:
(وأنّ الله تواب) أي يعود على من تاب إليه ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له في ذلك وغيره (حكيم) فيما شرع لعباده من اللعان، وفرض عليهم من الحدود.
(إن الذين جاءوا بالإفك) هذا شروع في الآيات المتعلقة بالإفك، وهي ثمانية عشر تنتهي بقوله:(أولئك مبرءون) والإفك أسوأ الكذب وأفحشه وأقبحه وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، فالإفك هو الحديث المقلوب، لكونه مصروفاً عن الحق، وقيل هو البهتان.
وأجمع المسلمون على أنّ المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين، وإنما وصفه الله بأنه إفك لألن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك. قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والديانة وعلو النسب والسبب والعفة لا القذف، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه فهو إفك قبيح وكذب ظاهر.
(عصبة منكم) العصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة، حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومرّ بها صفوان بن المعطل وكان متأخراً عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا: هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك.
وجملة (لا تحسبوه شراً لكم) إن كانت خبراً لـ (إن) فظاهر، وإن كان الخبر (عصبة) فهي مستأنفة خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبو بكر وصفوان بن المعطل الذي قذف مع عائشة أم المؤمنين وتسلية لهم، والضمير المنصوب للإفك، والشر ما زاد ضره على نفعه.
(بل هو خير لكم) الخير ما زاد نفعه على ضره، وأما الخير الذي لا
شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار. ووجه كونه خيراً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين عائشة، وصيرورة قصتها هذه شرعاً عاماً، وهذا غاية الشرف والفضل، وفيه تهويل الوعيد لمن تكلم فيهم، والثناء على من ظن بهم خيراً.
(لكل امرئ منهم) أي من العصبة الكاذبة (ما اكتسب من الإثم) بسبب تكلمه بالإفك (والذي تولى) أي تحمل (كبره) أي معظمه (منهم) فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو ابن أبيّ، قرأ جماعة بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا، أي أكبره. وقرئ بكسرها. قيل هما لغتان. وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به، وقيل هو بالكسر الإثم.
فالمعنى أن الذي تولى معظم الإفك من العصبة (له عذاب عظيم) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم، فقيل هو عبد الله بن أُبي، وقيل هو حسان والأول هو الصحيح، وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل جلد عبد الله بن أبيّ وحسان وحمنة ولم يجلد مسطحاً لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل لم يجلد أحداً منهم.
قال القرطبي: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حُدّوا حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أُبَيّ.
ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذرى قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم، وسماهم حسان ومسطح وحمنة، واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ، فقيل لتوفير العذاب
العظيم له في الآخرة؛ وحد من عداه ليكون ذلك تكفيراً لذنبهم. كما ثبت صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال: " إنها كفارة لمن أقيمت عليه ".
وقيل ترك حده تألفاً لقومه واحتراماً لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لثائرة الفتنة، فقد كان ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في صحيح مسلم.
وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليّ فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أُبيّ قال: فقال لي فما كان جرمه؟ قلت حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري.
وقال يعقوب بن شيبة (1) في مسنده: دخل سليمان بن يسار على هشام ابن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال ابن أُبَيّ. قال كذبت هو عليّ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أبيّ، قال: كذبت، هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: " دخل حسان ابن ثابت على عائشة فشبب. وقال:
(1) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة.
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
حصان رزان ما تزن بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك؟ وقد أنزل الله فيه (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال:
(لولا) تحضيضية، أي هلا (إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً تأكيداً للتوبيخ والتقريع ومبالغة في معاتبتهم وشروعاً في توبيخهم وتعييرهم وزجرهم بتسعة زواجر. الأول هذا؛ والثاني
(لولا جاءوا عليه)، والثالث
(ولولا فضل الله). والرابع
(إذ تلقونه)، والخامس
(ولولا إذ سمعتموه)، والسادس
(يعظكم الله)، والسابع (إن الذين يحبون) والثامن (ولولا فضل الله عليكم) والتاسع (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان -إلى سميع عليم-).
ومعنى الآية كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فهو في أم المؤمنين أبعد.
وقيل كان ينبغي لكم بمجرد سماعه أن تحسنوا الظن في أم المؤمنين، فضلاً عن أن تتمادوا في سماعه؛ فضلاً أن تصرّوا عليه بعد السماع.
قال الحسن: معنى بأنفسهم بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة في اشتراك الكل في الإيمان، ألا ترى إلى قوله:(ولا تقتلوا أنفسكم)؟.
قال الزجاج: وكذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضاً أنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرد: ومثله قوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) قال النحاس: معنى (بأنفسهم) بإخوانهم. وقيل بأبناء جنسهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
قال العلماء: في الآية دليل على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك، ثم قال:(لولا إذ سمعتموه) الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة: يجلد ثمانين قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن تكون كما قال "(1) وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا؛ والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف؛ وبسط الكلام في هذا في كتب الفروع. ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال:
(ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن برؤيتهم. ولفظ (ثم) يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف. وبه قال الجمهور. وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن تكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن ومالك، وإذا لم يكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون حد القذف.
وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه. وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد في الصحابة. وقد اختلف في إعراب (شهداء) على أقوال، ثم بين الله سبحانه ما يجب على القاذف فقال:
(فاجلدوهم) أي كل واحد منهم (ثمانين جلدة) الجلد الضرب كما تقدم والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما، وقد تقدم بيان الجلد قريباً.
(ولا تقبلوا لهم شهادة) أي فاجمعوا لهم بين الأمرين، الجلد وترك
(1) مسلم 1660 - البخاري 2520.
قبول الشهادة في شيء لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. ومعنى (أبداً) ما داموا في الحياة، ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال:
(وأولئك هم الفاسقون) لإتيانهم كبيرة، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة لحد المعصية، وفيه دليل على أن القذف من الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، ثم بين الله سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) أي من بعد اقترافهم لذنب القذف (وأصلحوا) أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد (فإنّ الله غفور رحيم) يغفر ذنوبهم ويرحمهم، وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي عدم قبول الشهادة، والحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ وبعد إجماعهم أيضاً على أن الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؛ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق لأن سبب ردها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة.
وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وابن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف
وصف الفسق ولا تقبل شهادته أصلاً.
وذهب الشافعي والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب. إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان فحينئذ نقبل شهادته، وقول الجمهور هو الحق لأن تخصيص التقييد بالجملة الآخرة، دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لا قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهر.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل، كلا هو معروف عند من يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم أحياء، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ.
(ويبين الله لكم الآيات) في الأمر والنهي لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجروا عن الوقوع في محارمه (والله عليم) بما تبدونه وما تخفونه أو بأمر عائشة وصفوان (حكيم) في تدبيراته لخلقه أو في حكمه ببراءتهما ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
(إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) هي فاحشة الزنا، والقول السيئ، أي يحبون أن تفشوا الفاحشة وتنتشر من قولهم شاع الشيء يشيع شيوعاً وشيعاً وشيعاناً إذا ظهر وانتشر، والمراد بشيوعها شيوع خبرها. قال علي بن أبي طالب: قائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء.
(في الذين آمنوا) أي المحصنين العفيفين أو كل من اتصف بصفة الإيمان (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) بعذاب النار (والله يعلم) جميع المعلومات (وأنتم لا تعلمون) إلا ما علمكم به وكشفه لكم. ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف وعقوبة فاعله.
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) لعاجلكم بالعقوبة ومن رأفته لعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم، ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار وهو تكرير لما تقدم تذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعاجلة لهم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) جمع خطوة وهي ما بين القدمين والخَطوة بالفتح المصدر أي لا تتبعُوا مسألك الشيطان ومذاهبه وآثاره ولا تسلكوا طرائفه التي يدعوكم إليها، قرأ الجمهور: خطوات بفتح الخاء والطاء وقرئ بضم الخاء والطاء وبإسكان الطاء وهما سبعينان.
(ومن يتبع خطوات الشيطان) جواب الشرط محذوف تقديره فقد غوى وقيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له أعني قوله: (فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) أي فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأنّ دأبه أن يستمر آمراً لغيره بهما أو صار فيه خاصية الشيطان وهي الأمر بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل للشأن والأولى أن يكون عائداً إلى (من) لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر والآية عامة في حق كل واحد، لأن كل مكلف ممنوع من ذلك.
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته) قد تقدم بيانه، وجواب لولا هو قوله:(ما زكى منكم من أحد أبداً) أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً قرئ زكى مخففاً ومشدداً أي ما طهره الله، وقال مقاتل: ما صلح، والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير وهو الذي ذكره ابن قتيبة، وعن ابن عباس قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير، والآية على العموم وقيل خاصة بالذين خاضوا في الإفك وأنهم طهروا وتابوا غير عبد الله فإنه استمر على الشقاوة حتى هلك، والأول أولى.
(ولكن الله يزكي من يشاء) من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم (والله سميع) لما يقولونه (عليم) بجميع المعلومات، وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
(ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) لا ناهية والفعل مجزوم بحذف الياء لأنه معتل بها أي لا يحلف ووزنه يفتعل من الأليّة كهدية، يقال أليّة وألايا مثل هدية وهدايا، وهي اليمين يقال ائتلى يأتلي بوزن انتهى ينتهي إذا حلف، ومنه قوله سبحانه:(للذين يؤلون من نسائهم) وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا قصرت ومنه لم آل جهداً أي لم أقصر وكذا منه قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً) والأول أولى بدليل سبب النزول، قال ابن عباس: لا تقسموا أن لا تنفعوا أحداً.
أخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله هذه الآية، قالت فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير، وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين.
وعن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يَصِلُوه فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن لا يصلوا أرحامهم،
وأن لا يعطوهم من أموالهم، كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم ويعفي عنهم.
(أن يؤتوا) قال الزجاج أي على أن لا يؤتوا فحذف (لا) وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان من (أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرئ بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدباً آخر فقال:
(وليعفوا) عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم، وجناتهم التي اقترفوها، من عفا الربع أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع (وليصفحوا) بإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، والإعراض عن لومه، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جرمه. وقيل: العفو بالفعل والصفح بالقلب، وقرئ في الفعلين جميعاً بالفوقية ثم ذكر سبحانه ترغيباً عظيماً لمن عفا وصفح فقال:
(ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم، قال أبو بكر: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه (والله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم؟.
(إن الذين يرمون) بالزنا (المحصنات) العفائف قد مر تفسيرها، وذكرنا أن الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف (الغافلات) أي اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا
تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي ذلك من الدلائل على كمال النزاهة، وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل: هنّ السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات، وكذلك البله من الرجال الذين غلبت عليهم سلامة الصدور، وحسن الظن بالناس، لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا نفوسهم بها.
(المؤمنات) بالله ورسوله، وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة، فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة، وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أُبي، رأس المنافقين وقال الضحاك، والكلبي: هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أمهات المؤمنين فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية، أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة، كما تقدم في قوله (إلا الذين تابوا)، وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصرّ على القذف، ولم يتب، وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إِنما خرجت لتفجر.
وقيل إنها تعمّ كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره
النحاس وهو الموافق لما قرره أهل الأصول، من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة في قوله: (لعنوا في الدنيا والآخرة) الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة أهل الإيمان، وضرب الحد، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، واستيحاش أهل الإيمان منهم، وإن كان المراد بها ْمن قذف عائشة خاصة. كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة، فإنهم ملعونون في الدنيا والآخرة.
(ولهم عذاب عظيم) على ذنب عظيم، وجملة
(يوم تشهد عليهم ألسنتهم) مقررة لما قبلها، مبينة لحلول وقت ذلك العذاب بهم، وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب، الذي لا يحيط به وصف، قرئ تشهد بالفوقية، وبالتحتية، وهما سبعيتان، والمعنى تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به.
(وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) أي: بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل، وأن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود به محذوف. وهو ذنوبهم التي اقترفوها، أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
أخرج الطبراني، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال احلفوا فيحلفون. ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار "، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة.
(يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفراً. فالمراد بالدين هنا الجزاء بالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته، قرئ يوفيهم من أوفى مخففاً، ومن وفّى مشدداً، وقرئ الحقُ بالرفع على أنه نعت لله، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وبالنصب على أنه نعت لدينهم، قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتاً لله عز وجل، وليكون موافقاً
لقراءة أُبي، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ: يوفيهم الله الحق دينهم، قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضاً فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبيّ كذلك، لجاز أن يكون دينهم بدلاً من الحق وعن ابن عباس قال: دينهم أي حسابهم، وكل شيء في القرآن الدين فهو الحساب وأخرج الطبراني وغيره عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم.
(ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين) أي يعلمون عند معاينتهم لذلك، ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز، أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته، وأفعاله (المبين) المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره؛ وقد سمي بالحق أي الموجود لأن نقيضه الباطل، وهو المعدوم، وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها، وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب، ليس له كثير مناسبة للمقام، ولم يغلظ الله سبحانه وتعالى؛ في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة. فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر؛ وما ذلك إلا ما روي عن ابن عباس من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.
ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة، برأ يوسف بشاهد من أهلها، وموسى بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز؛ المتلو على وجه الدهر، بهذه المبالغات؛ فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك حيث لم يرض لها ببراءة صبي ولا نبي. حتى برأها بكلامه من القذف والبهتان؛ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسوله. والتنبيه على أنافة محله صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين.
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال:
(الخبيثات) من النساء (للخبيثين) من الرجال أي مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم، كلام مستأنف مؤسس على قاعدة السنة الإلهية الجارية فيما بين الخلق. على موجب أن الله تعالى ملكاً يسوق الأهل إلى أهلها (و) كذا (الخبيثون للخبيثات) أي مختصون بهن لا يتجاوزنهن لأن المجانسة من دواعي الانضمام.
(و) هكذا (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) قال مجاهد، وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات، وعن ابن عباس مثله، وزاد نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان، وعن قتادة نحوه، وكذا روي عن جماعة من التابعين قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا
الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة، بالخبث، ومدح للذين برءوها.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، وعن ابن زيد قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان، والفرية فبرأها الله من ذلك، وكان ابن أبيّ هو الخبيث؛ وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة، ويكون هو لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب.
(أولئك مبرءون مما يقولون) الإشارة إلى الطيبين والطيبات، أي هم مبرءون مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل إلى عائشة وصفوان فقط، قال الفراء: وجمع كما قال: فإن كان له إخوة، والمراد أخوان، قال ابن زيد: هاهنا برئت عائشة.
(لهم مغفرة) عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (ورزق كريم) هو رزق الجنة، روي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء لم تعطها امرأة غيرها، منها أن جبريل أتى بصورتها في خرقة حرير، وقال هذه زوجتك، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها وفي يومها. ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء؛ وقال حسان معتذراً في حقها:
حصان، رزان، ما تزن بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس، ديناً ومنصباً
…
نبي الهدى، والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
…
كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة، قد طيب الله خيمها
…
وطهرها من كل شين وباطل
ولما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضاً فإن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير فقال:
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) أي التي لستم تملكونها ولا تسكنونها، وليس لكم عليها يد شرعية أما المكتري. والمستعير، فكل منهما يدخل بيته، والمعنى لا تدخلوها إلى غاية هي قوله:(حتى تستأنسوا) الاستئناس: الاستعلام، والاستخبار أي حتى تستعلموا من في البيت والمعنى حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم، وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله (فإن آنستم منها رشداً) أي علمتم. قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره كقوله (إني آنست ناراً) أي أبصرت.
وقال ابن جرير: إنه بمعنى تؤنسوا أنفسكم، قال ابن عطية وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له فإذا أذن له استأنس. فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل وقيل: هو من الإنس وهو أن يتعرف هل ثَمَّ إنسان أم لا؟ قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا
ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأُبي وسعيد بن جبير أنهم قرءوا حتى تستأذنوا، قال ما لك فيما حكاه عنه ابن وهب: الاستئناس فيما نرى والله أعلم - الاستئذان؛ وعن ابن عباس قال: أخطأ الكاتب: حتى تستأذنوا.
(وتسلموا على أهلها) وفي مصحف عبد الله حتى تسلموا على أهلها، وتستأذنوا؛ وعن عكرمة نحوه: أخرج ابن أبي شيبة؛ والطبراني وغيرهما عن أبي أيوب قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله حتى تستأنسوا أو تسلموا على أهلها، هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس. قال:" يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة؛ ويتنحنح؛ فيؤذن أهل البيت " قال ابن كثير: هذا حديث غريب (1).
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الاستئناس أن تدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت، الذين تسلم عليهم " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك بها رأسه قال: " لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر "(2) وفي لفظ: إنما جعل الإذن من أجل البصر، وعن أنس قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية فما أدركتها: إن أستأذِنَ على بعض إخواني فيقول: إرجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم).
وعن ابن عباس قال: نسخ واستثنى من ذلك. فقال (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم) أخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من طريق كلدة أن صفوان بن
(1) ابن كثير 3/ 280.
(2)
مسلم 2156 - البخاري 2300.
أمية بعثه في الفتح بِلِبَأَ (1) وضَغابيس (2). والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أرجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟ " قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب؛ وأبو داود والبيهقي في السنن من طريق ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الإستئذان. فقل له: قل السلام عليكم أأدخل؟.
وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعاً. ولكنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: " قومي إلى هذا فعلميه " واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام؟ أو العكس؟ فقيل: يقدم الاستئذان فيقول أأدخل سلام عليكم؟ لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهو الحق لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا: وقيل: إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام: وإلا قدم الاستئذان.
(ذلكم) أي الاستئناس والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام (خير لكم) من التهجم بغير إذن ومن الدخول بغتة (لعلكم تذكّرون) أنّ الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر أي: أمرتم بالاستئذان والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به.
(1) ألِلّبَأ: هو أول ما يُحلَب عند الولادة، ولَبَأَتِ الشاة ولدَها أرضعته اللّبَأ (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/ 221، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة).
(2)
الضغابيس: صغار القِثّاء، وأحدها ضُغبوس، وقيل هي نبتٌ ينبت في أصول الثُمام، يُشبه الهِليون، يُسلَق بالخل والزيت ويؤكل (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/ 89).
(فإن لم تجدوا فيها) أي في البيوت التي لغيركم (أحداً) ممن يستأذن عليه، ويصلح للإذن، أو كان ولكنه لم يأذن أو لم يكن فيها أحد أصلاً (فلا
تدخلوها حتى يؤذن لكم) بدخولها من جهة من يملك الإذن فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوه وعن مجاهد قال: المعنى فإن لم تجدوا فيها أحداً، أي لم يكن فيها متاع. وضعفه ابن جرير. وهو حقيق بالضعف فإن المراد بالأحد المذكور أهل البيوت الذين يأذنون للغير بدخولها لامتاع الداخلين إليها.
(وإن قيل لكم) أي: إن قال لكم أهل البيت: (ارجعوا فارجعوا) ولا تعاودوهم بالاستئذان مرة أخرى ولا تنتظروا بعد ذلك أن يؤذن لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع. ولا تقفوا على الباب ملازمين، ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من الإلحاح وتكرير الاستئذان، والقعود على الباب، والإصرار على الانتظار، فقال:
(هو) أي الرجوع (أزكى لكم) أي: أفضل وأطهر من التدنس بالمشاحة على الدخول ومن اللج والعناد والوقوف على الأبواب، لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة والرذالة، وإذا حضر أحد إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز وكان ابن عباس يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فيراه ويقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أخبرتني بمكانك؟ فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم (والله بما تعملون عليم) لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، ومنه الدخول بإذن وغير إذن.
(ليس عليكم جُناح) في الدخول بغير استئذان (أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة) أي البيوت التي ليست بموضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل كانت موضوعة ليدخلها كل من له حاجة تقصد منها، وقد اختلف الناس في المراد