الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
تقدم في الأنعام
(إن الله لقوي) على خلق كل شيء (عزيز) غالب لا يغالبه أحد بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا يعقل ولا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء، ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في النبوات والإلهيات فقال:
(الله يصطفي من الملائكة رسلاً) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (1) والحفظة (و) يصطفي أيضاً رسلاً (من الناس) وهم الأنبياء فيرسل الملك إلى النبي والنبي إلى الناس أو يرسل الملك بقبض أرواح مخلوقاته أو لتحصيل ما ينفعه أو لإنزال العذاب عليهم.
أخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة "(2)؛ وأخرج عن
(1) لعل المصنف يريد بعزرائيل ملك الموت، ولم يثبت من طريق صحيح تسمية ملك الموت عزرائيل- المطيعي.
(2)
المستدرك كتاب التاريخ 2/ 5
75
.
أنس، وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" موسى بن عمران صفي الله "(1) قال المحلي: نزل لما قال المشركون: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) أي وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، والقائل هو الوليد بن المغيرة، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوءات، وقال الرازي: وجه المناسبة أنه لما أبطل فيما قبلها عبادة الأوثان أبطل هاهنا عبادة الملائكة.
(إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن يختاره من خلقه
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 576.
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما قدموا من الأعمال، وما يتركونه من الخير والشر، كقوله تعالى:(ونكتب ما قدموا وآثارهم) وقيل ما مضى ولم يأت وقيل ما عملوا وما سيعملونه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة.
(وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) لما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه، الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته، صرح بالمقصود فقال:
(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود، وخص، الصلاة لكونها أشرف العبادات، ثم عمم فقال:(واعبدوا ربكم) أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها، وقيل وحّدوه (وافعلوا الخير) أي ما هو خير وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة وقيل المراد بالخير هنا المندوبات ثم علل ذلك بقوله:
(لعلكم تفلحون) أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح، وفي هذا إشارة إلى أن دخول الجنة ليس مرتباً على هذه الأعمال مثلاً، بل هذه الأمور كلفنا الله بها شرعاً، وأما قبولها فشيء آخر يتفضل الله به علينا، وهذه الآية
من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية.
وقد اختلف في عدة سجود التلاوة فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكن الشافعي رحمه الله تعالى قال: في الحج سجدتان، وأسقط سجدة ص، وقال أبو حنفية: في الحج سجدة، وأثبت سجدة ص، وقيل خمس عشرة سجدة، وقال قوم: ليس في المفصل سجدة، فعلى هذا تكون إحدى عشرة سجدة، وسجود التلاوة سنة عند الشافعي؛ وواجب عند أبي حنيفة، ودلائل الأقوال مبسوطة في مواطنها، ثم أمرهم بما هو سنة الدين وأعظم أعماله فقال:
(وجاهدوا في الله) أي في ذاته من أجله، والمراد به الجهاد الأكبر وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين، وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة، وامتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم.
ومعنى (حقَّ جهاده) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد باستفراغ الطاقة لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق أي جهاداً خالصاً لله فعكس ذلك لقصد المبالغة وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له، ومن أجله، وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا يخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) كما أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته) منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ (وجاهدوا في الله حق جهاده) في آخر الزمان، كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى
ومتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء.
وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله "(1)، ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله:(هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه وفيه تشريف لهم عظيم، ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال:
(وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق وشدة، وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين، وقيل المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض وأكل الميتة عند الضرورة واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة وكذا في الفطر والأضحى، وقيل المعنى أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل.
وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة، وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة، والأرش أو القصاص في الجنايات ورد المال أو مثله، أو قيمته في الغصب ونحوه؛ فليس في دين الإسلام ما لا يجد العمد فيه سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب، وقيل المراد بالدين التوحيد ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف فإنه يكفِّر ما قبله من الشرك وإن امتد ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معين.
(1) الترمذي كتاب فضائل الجهاد الباب 2 أحمد بن حنبل 6/ 20 - 22.
وفي القرطبي. قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع؛ وأما السُّرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجاً من إلزام ثبات رجل لاثنين في سبيل الله، لكنه مع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، انتهى.
والمعنى الأول أولى، والظاهر أن الآية أعم من هذا كله فقط حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم أو بالتخفيف، وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه:(فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به) وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: " قد فعلت " كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية والأحاديث في هذا كثيرة.
وعن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: " الضيق ". وقال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: بلى؛ قال: فما هذه الآية؟ قال: الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وعن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج، توسعة الإسلام وما جعل الله من التوبة والكفارات، وعنه قال: هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه، وعنه سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلاً من هذيل فجاءه فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج، وفي لفظ قال الهذيلي: الشيء الضيق قال: هو ذاك، وعن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال: ادع لي رجلاً من بني مدلج وقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق.
(ملة إبيكم إبراهيم) أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم قاله الزمخشري وقال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم، وبه قال الحوفي، واتّبعه أبو البقاء، وقال الفراء: كملة أبيكم، وقيل التقدير وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم فأقام الملة مقام الفعل وقيل النصب على الإغراء وقيل على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن لى عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أباً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال السديّ: ملة أبيكم أي دين أبيكم.
(هو سماكم المسلمين من قبل) أي قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة، قال ابن عباس: الله عز وجل سماكم، وروي نحوه عن جماعة من التابعين، وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي وغيرهم، عن الحرث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من دعا بدعوى الجاهلية فإنّه من جثيِّ جهنم " قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: " نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله "(1)، وقيل إن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله:(ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فاستجاب الله دعاءه فينا.
(وفي هذا) أي في حكمه أن من اتبع محمداً (صلى الله عليه وسلم) فهو مسلم، قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة، وقيل أي في القرآن يعني فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله:(ليكون الرسول شهيداً عليكم) يوم القيامة بتبليغه إليكم
(1) الترمذي كتاب الأدب الباب 78.
(وتكونوا) أنتم (شهداء على الناس) أن رسلهم قد بلغتهم، فإن تسمية الله أو إبراهيم لهم حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول الداخل فيهم دخولاً أولياً وقبول شهادتهم على الأمم، قاله الشهاب، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في البقرة، ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال:
(فأقيموا الصلاة) بواجباتها وداوموا عليها (وآتوا الزكاة) بشرائطها وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما (واعتصموا بالله) أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون والتجئوا إليه في جميع أحوالكم ولا تطلبوا ذلك إلا منه، وقيل الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة، وقيل تمسكوا بدين الله، وقيل ثقوا به تعالى في مجامع أموركم (هو مولاكم) أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها (فنعم المولى) هو (ونعم النصير) أي الناصر لكم هو يعني لا مماثل له في الولاية لأموركم، والنصرة على أعدائكم.