الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمد والتسبيح
(1)
.
ويُسأل ابن حجر الهيتمي المكي (974) عن قول السراج البلقيني إن أفضل صيغ الحمد "الحمد لله رب العالمين"، فَسَردَ أقوال العلماء في أفضل الصيغ، ثم استحسن صيغة: لَفَّقَها من سائر الأقوال، وهي "الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه"
(2)
.
ولربما يتوجَّه السؤال إلى صيغةٍ بعينها للاستفسار عن ثبوتها، أو عما تحمله من المعاني؛ كما هو الحال في السؤال الذي وُجِّه إلى الإمام ابن القيم رحمه الله، وأجاب عنه بهذه الفتيا التي بين أيدينا.
مضمون الفتيا:
السؤال الموجَّه إلى الإمام ابن القيم رحمه الله يتعلق بصيغةٍ من صيغ الحمد، هي:
"الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"؛ عن ثبوتها وصحتها، وهل ما ذكره بعضهم من أن هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأكملها صحيحٌ أم لا؟.
فأجاب ببطلان ذلك، وبنفي ثبوت هذه الصيغة من جهتين: من جهة الرواية، ومن جهة الدراية.
فأما من جهة الرواية فذكر أن هذه الصيغة ليس لها إسنادٌ؛ فضلًا عن
(1)
انظر (الأجوبة المرضية) 3/ 908 - 911.
(2)
انظر (الفتاوى الكبرى الفقهية) 4/ 263.
ثبوتها أو صحتها، وإنما هو أثرٌ يرويه أبو نصر التمَّار عن آدم عليه السلام، وهذا الأثر لا تقوم به حجةٌ لانقطاعه.
ثم إنه لم يرد عن أحدٍ من خلق الله المكرمين التلفظ بمثل هده الصيغة؛ لا الملائكة، ولا النبيين، ولا خيار هذه الأمة وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ يطيل في سرد الآيات والأحاديث الواردة في صيغ الحمد، والتي ليس فيها هذه الصيغة المسئول عنها.
وأما من جهة الدراية فقد بيَّن رحمه الله أن هذه الصيغة قد تتضمن معنى فاسدًا.
ووجه ذلك؛ أن هذه الصيغة قد تفيد أن العبد بشكره للنِّعَم يكون قد أدى ما عليه من حقٍّ لله تعالى، وهذا فاسدٌ، لأنه يخالف المستفيض في النصوص الشرعية من أن نِعَم الله عز وجل لا يقوم بتمام شكرها أحدٌ، ولا يفي بحقها قول قائلٍ، فمهما أثنى العبد على ربه، وتقدم بين يديه بحمده وشكره، فحق الله أعظمُ، وإحسانه أعمُّ، ومِنَّتُه أكرم.
وهذا المعنى الذي ردَّه ابن القيم رحمه الله هو المنقول عن جماعةٍ من الأئمة المتقدمين، أنهم ردُّوه، وفنَّدوه، وأبطلوه، ومن ذلك ما قاله الإمام بكر بن عبد الله المزني رحمه الله:
"ما قال عبدٌ قطُّ (الحمد لله) إلا وجبت عليه نعمةٌ بقوله (الحمد لله)، فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول (الحمد لله)، فجاءت نعمةٌ أخرى، فلا تنفد نِعَمُ الله عز وجل"
(1)
.
(1)
أخرجه: ابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 7 و 98، والبيهقي في (شعب =
وقال الجنيد: سمعت السريَّ يقول:
"الشكر نعمةٌ، والشكر على النعمة نعمةٌ، أي إلى أن لا يتناهى الشكر إلى قرارٍ"
(1)
.
وقال طَلْقُ بن حبيب رحمه الله:
"إن حقَّ الله أثقلُ من أن يقوم به العباد، وإن نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن اصبِحُوا توَّابين، وامسُوا توَّابين"
(2)
.
وأنشد محمود الورَّاق رحمه الله:
إذا كان شكري نعمةَ اللهِ نعمةً
…
عليَّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
وكيف وقوعُ الشكرِ إلا بفضلِه
…
وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ
إذا مَسَّ بالسرَّاءِ عَمَّ سرُورُها
…
وإن مَسَّ بالضراءِ أعقبها الأجرُ
وما منهما إلا له فيه مِنَّةٌ
…
تضيقُ بها الأوهامُ والبرُّ والبحرُ
(3)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"إن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأَكْلَة فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَة فيحمده عليها، والثناءُ بالنِّعَم، والحمدُ عليها
= الإيمان) رقم 4095.
(1)
أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4096.
(2)
أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4204.
(3)
أخرجه: أبن أبي الدنيا في (الشكر) رقم 82، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم 4099.
وشكرُها عند أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلبًا للثناء، والله عز وجل أكرمُ الأكرمين، وأجودُ الأجودين، فهو يبذل نعمَهُ لعباده، ويطلب منهم الثناءَ بها، وذكرَها، والحمدَ عليها، ويرضى منهم بذلك شكرًا عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاحٍ إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحُه وكمالُه فيه. ومن فضله أنه نسب الحمدَ والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضَه، ومدحهم بإعطائه، والكلُّ ملكُه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك"
(1)
.
فهذا هو خلاصة الفتيا ومحتواها، وعين الخلاصة المذكور في هذه الفتيا قد ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب آخر له وهو "عدة الصابرين"
(2)
، وخَلَص فيه إلى نفس ما خلص إليه ههَنا في الفتيا مع إيجازٍ شديدٍ.
وقفةٌ مع الفتيا:
من المعروف عن ابن القيم رحمه الله أنه صاحب بَسْطٍ واستقصاءٍ؛ وذلك لما يتمتع به من سعةِ اطلاعٍ، وقوةِ ذاكرةٍ، وسيلانِ ذهنٍ، فقلَّ أن يفارقه الصواب في أجوبته.
وأول ما نقرؤه في مقدمة فتياه عن مسألة الحمد تأصيله لها بنفي وجود سندٍ لهذه الصيغة، وإنما غاية الأمر أنها أثرٌ مرويٌّ عن آدم عليه السلام،
(1)
(جامع العلوم والحكم) 2/ 82 - 83.
(2)
(عدة الصابرين) 228 - 229.
وهدا الأثر من غرائب أبي نصر التمَّار، ولا يُدرى من أين أخذه!.
والحقيقة أن كلامه هذا غايته عدم العلم بوجود السند للأثر المروي، ومن المقرر أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، إلا أن العبارات الكلِّية، والقضايا العامة، إذا خرجت من مثل الإمام ابن القيم رحمه الله فإن لها حظًّا عند العلماء؛ استرواحًا منهم لجلالة علومه، وغزارة معلومه.
وهذا ما حَدَا بالعلامة السَّفاريني رحمه الله إلى نقل فتوى ابن القيم رحمه الله إقرارًا له بتلك النتيجة؛ عندما تكلم عن صيغ الحمد في كتابه المشهور "غذاء الالباب"
(1)
.
وههنا أمور:
الأول: أن الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أن لهذا الأثر سندًا يرويه ابن الصلاح في أماليه.
وهدا الإسناد عزيز الوجود، ولهدا لما نقل الحافظ ابن حجر حكمَ ابن الصلاح عليه قال عقبه:"فكأنه عثر عليه حتى وصفه"
(2)
.
والثاني: أن أبا نصر التَّمار إنما يرويه عن: محمد بن النضر الحارثي عن آدم عليه السلام، فالأثر ليس من رواية أبي نصر عن آدم عليه السلام كما ذُكر، بل بينهما واسطة.
والثالث: أن الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله ذكر أن الحديث المسئول عنه قد روي مرفوعًا وموقوفًا، واكتفى بذلك ولم
(1)
(غذاء الألباب) 1/ 20.
(2)
(التلخيص الحبير) 4/ 317. ثم ذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف عليه بعد ذلك.
يَعْزُهما
(1)
.
فلعله أراد بالمرفوع ما روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:
"من قال: الحمد لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، على كل حالٍ، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده؛ ثلاث مراتٍ: فتقول الحفَظَةُ: ربَّنا؛ لا نُحْسِن كُنْهَ ما قدَّسك عبدُك هذا وحمدَكَ، وما ندري كيف نكتبه؟ فيوحي الله إليهم أن اكتبوه كما قال".
ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب"، وعزاه إلى البخاري في "الضعفاء"، وبيَّض له الألباني في الحكم عليه في "ضعيف الترغيب والترهيب"
(2)
.
وأما الموقوف فلم أقف عليه، إلا إن أراد به الموقوف على محمد بن النضر الحارثي! فالله أعلم.
والرابع: أن المعنى الذي قد يدل عليه الأثر "حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" ربما يُظَنُّ أنه قد جاء ما يؤيده، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من قال إذا آوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني، وآواني، والحمد لله الذي أطعمني، وسقاني، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ فأفْضَلَ"، فقد حَمِدَ الله بجميع محامد الخلق كلِّهم"
(3)
.
(1)
انظر (جامع العلوم والحكم) 2/ 83.
(2)
انظر (ضعيف الترغيب والترهيب) 1/ 477 - 478 رقم 962.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ: ابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم 722، والحاكم =