الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِكْرُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ فِي حَيَاة إِسْرَائِيل
فَمن ذَلِك: قصَّة يُوسُف بن راحيل وَقد أنزل الله عزوجل فِي شَأْنِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ، لِيُتَدَبَّرَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَالْأَمْرِ الْحَكِيمِ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين ".
قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، فَمن أَرَادَ تَحْقِيقه فلينظره ثمَّ، وتكلمنا عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَقْصًى فِي مَوْضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا نُبَذًا مِمَّا هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالنَّجَازِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّهُ تَعَالَى يَمْدَحُ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، بَيِّنٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ، يَفْهَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ ذَكِيٍّ [زَكِيٍّ.
فَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَنْزَلَهُ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلْقِ (1) ] فِي أَشْرَفِ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، بِأَفْصَحِ لُغَةٍ وَأَظْهَرِ بَيَان.
(1) سقط من ا.
(*)
فَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ فِي الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْآتِيَةِ ذَكَرَ أَحْسَنَهَا وَأَبْيَنَهَا، وَأَظْهَرَ الْحَقَّ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَدَمَغَ الْبَاطِلَ وَزَيَّفَهُ وَرَدَّهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَأَعْدَلُ الشَّرَائِعِ وَأَوْضَحُ الْمَنَاهِجِ، وَأَبْيَنُ حُكْمًا (1) وَأَعْدَلُ حَكَمًا.
فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا (2) ".
يعْنى صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين " أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فِيهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامور (3) ".
وَقَالَ تَعَالَى: " كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة حملا (4) ".
يَعْنِي مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَاتَّبَعَ غَيره من الْكتب فَإِنَّهُ يَنَالهُ
(1) ا: حلما.
(2)
من الْآيَة: 115 من سُورَة الانعام.
(3)
آخرو سُورَة الشورى (4) الْآيَات: 99 - 11 من سُورَة طه.
(*)
هَذَا الْوَعِيدُ.
كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا:" مَنِ ابْتَغَى (1) الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ (2) بْنُ النُّعْمَانِ، حَدثنَا هِشَام، أَنبأَنَا خَالِد عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَغَضب وَقَالَ: " أتتهوكون (3) فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاء نقية، لَا تسألوهم عَن شئ فيخبروكم بِحَق فتكذبونه أَو بباطل فتصدقونه، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ".
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عمر وَفِيهِ: " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ".
وَقَدْ أَوْرَدْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ.
وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلم وخواتيمه، وَاخْتصرَ لى اختصارا، وَقد أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ ".
ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصَّحِيفَةِ فَمُحِيَتْ حرفا حرفا.
(1) ا: اتبع.
(2)
ا: جريج.
(3)
تتهوكون: تتحيرون أَو تتهورون.
(*)
" إِذْ قَالَ يُوسُف لابيه يَا أبث إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتهمْ لى ساجدين * قَالَ يَا بنى لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا، إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يحتبيك رَبك ويعلمك من تَأْوِيل الاحاديث، يتم نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْك من قبل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق إِن رَبك عليم حَكِيم " قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ لَهُ مِنَ الْبَنِينَ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا [ذَكَرًا](1) وَسَمَّيْنَاهُمْ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ، وَكَانَ أَشْرَفُهُمْ وَأَجَلُّهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ يُوسُفَ عليه السلام.
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ غَيْرُهُ، وَبَاقِي إِخْوَتِهِ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ.
وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ فِعَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ (2) يَدُلُّ عَلَى
هَذَا الْقَوْلِ.
وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط " وَزعم أَن هؤلاءهم الْأَسْبَاطُ فَلَيْسَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ شُعُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاء (3) وَالله أعلم.
وَمَا يُؤَيِّدُ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام هُوَ الْمُخْتَصُّ من بَين إخْوَته بالرسالة والنبوة - أَنه [مَا (3) ] نَص عَلَى وَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ سِوَاهُ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكرْنَاهُ
(1) لَيست فِي ا.
(2)
يُرِيد الْخَبَر الْمُتَقَدّم عَن إِسْحَق والعيص.
(3)
لَيست فِي ا.
(*)
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم ".
انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ.
فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَبْدَةَ عَنْ عبد الصَّمد ابْن عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَهُ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم بِمَا أغْنى عَن إِعَادَته هُنَا.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: رَأَى يُوسُفُ عليه السلام وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ، كَأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى بَقِيَّة إخْوَته، وَالشَّمْس وَالْقَمَر وهما عِبَارَةٌ عَنْ أَبَوَيْهِ، قَدْ سَجَدُوا لَهُ، فَهَالَهُ ذَلِكَ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ، فَعَرَفَ أَبُوهُ أَنَّهُ سَيَنَالُ مَنْزِلَةً عَالِيَةً
وَرِفْعَةً عَظِيمَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَته فِيهَا.
فَأمره يكتمانها وَأَنْ لَا يَقُصَّهَا عَلَى إِخْوَتِهِ ; كَيْلَا (1) يَحْسُدُوهُ وَيَبْغُوا لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَكِيدُوهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ [وَالْمَكْرِ](2) .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (3) .
وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: " اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِكِتْمَانِهَا، فَإِن كَانَ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ".
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعًا.
وَهُوَ غَلَطٌ [مِنْهُم](4) .
(1) ا: لِئَلَّا.
(2)
لَيست فِي ا.
(3)
يُرِيد عدم نبوتهم (*)
" وَكَذَلِكَ يجتبيك رَبك " أَيْ وَكَمَا أَرَاكَ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْعَظِيمَةَ، فَإِذَا كتمتها " يجتبيك رَبك " أَيْ يَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيل الاحاديث " أَيْ يُفَهِّمُكَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ وَتَعْبِيرِ الْمَنَامِ مَا لَا يفهمهُ غَيْرك.
وَيتم نعْمَته عَلَيْك " أَي بالوحى إِلَيْك " وعَلى آل يَعْقُوب " أَيْ بِسَبَبِكَ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِكَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
" كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق " أَيْ يُنْعِمُ عَلَيْكَ وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ، كَمَا أَعْطَاهَا أَبَاك يَعْقُوب، وَجدك إِسْحَق، وَوَالِدَ جَدِّكَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، " إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم " كَمَا قَالَ تَعَالَى:" اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسَالَته ".
لهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: " يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ".
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ
فِي مُسْنَدَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بن ظهير - وَقد ضعفه الائمة - عَمَّن السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: بُسْتَانَةُ الْيَهُودِيُّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ أَنَّهَا سَاجِدَةٌ لَهُ مَا أَسْمَاؤُهَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلم يجبهُ بشئ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِأَسْمَائِهَا، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: " هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمَائِهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: هِيَ جَرَيَان والطارق، وَالذَّيَّال، وَذُو الكتفان، وَقَابِس، وَوَثَّاب، وَعَمُودَان (1) وَالْفَيْلَق، وَالْمصْبح، وَالضَّرُوح، وَذُو الْفَرْع.
والضياء والنور ".
(1) ط: عمر دَان.
(*)
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: [إِي (1) ] وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا.
وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى: فَلَمَّا قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مُشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ، وَالشَّمْسُ أَبُوهُ وَالْقَمَرُ أُمُّهُ.
* * * " لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بعض السيارة إِن كُنْتُم فاعلين ".
يُنَبه تَعَالَى على مَا فِي هَذِه الْقِصَّة من الْآيَات وَالْحكم، والدلالات والمواعظ والبينات (2) .
ثمَّ ذكر حسد إخْوَة يُوسُف لَهُ على محبَّة أَبِيه لَهُ ولاخيه - يعنون شقيقه لامه بنيامين - أَكثر مِنْهُم، وهم عصبَة أَي جمَاعَة يَقُولُونَ: فَكُنَّا نَحن أَحَق بالمحبة من هذَيْن " إِن أَبَانَا لفى ضلال مُبين "
أَيْ بِتَقْدِيمِهِ حُبَّهُمَا عَلَيْنَا.
ثُمَّ اشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ يُوسُفَ أَوْ إِبْعَادِهِ إِلَى أَرْضٍ لَا يَرْجِعُ (3) مِنْهَا، لِيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِم أَيْ لِتَتَمَحَّضَ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ بَعْدَ (4) ذَلِكَ.
فَلَمَّا تَمَالَأُوا عَلَى ذَلِكَ وتوافقوا عَلَيْهِ " قَالَ قَائِل مِنْهُم " قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ يهوذا، وَقَالَ قَتَادَة وَمُحَمّد بن إِسْحَق: هُوَ أَكْبَرُهُمْ رُوبِيلُ: " لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غيابة الْجب يلتقطه
(1) لَيست فِي ا.
(2)
ا: وَالْبَيَان.
(3)
ا: لَا مرجع فِيهَا.
(4)
ا: على ذَلِك.
(*)
بعض السيارة " أَيِ الْمَارَّةِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ " إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " مَا تَقُولُونَ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَكُنْ هَذَا الَّذِي أَقُولُ لَكُمْ، فَهُوَ أَقْرَبُ حَالًا مِنْ قَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ وَتَغْرِيبِهِ.
فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى هَذَا، فَعِنْدَ ذَلِك " قَالُوا يَا أَبَانَا مَالك لَا تأمنا على يُوسُف وَإِنَّا لَهُ الناصحون * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون * قَالَ إنى ليحزني أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنحن عصبَة إِنَّا إِذا لخاسرون ".
طَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ أَنْ يُرْسِلُ مَعَهُمْ أَخَاهُمْ يُوسُفَ، وَأَظْهَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَرْعَى مَعَهُمْ، وَأَنْ يَلْعَبَ وَيَنْبَسِطَ، وَقَدْ أَضْمَرُوا لَهُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ.
فَأَجَابَهُمُ الشَّيْخُ، عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ: يَا بَنِيَّ يَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ أُفَارِقَهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَمَعَ هَذَا أَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا فِي لَعِبِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ (1) ، فَيَأْتِيَ الذِّئْبُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ لِصِغَرِهِ
وَغَفْلَتِكُمْ عَنْهُ ".
" قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذا لخاسرون " أَيْ لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا، أَوِ اشْتَغَلْنَا عَنْهُ حَتَّى وَقَعَ هَذَا وَنحن جمَاعَة، إِنَّا إِذا لخاسرون، أَيْ عَاجِزُونَ هَالِكُونَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَرَاءَهُمْ يَتْبَعُهُمْ، فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ حَتَّى أَرْشَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِمْ.
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ غَلَطِهِمْ وخطئهم فِي التَّغْرِيب ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام كَانَ أَحْرَصَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ يَبْعَثُهُ وَحْدَهُ.
(1) ا: عَلَيْهِ.
(*)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ".
لَمْ يَزَالُوا بِأَبِيهِمْ حَتَّى بَعَثَهُ مَعَهُمْ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنَيْهِ (1) ، فَجَعَلُوا يَشْتُمُونَهُ وَيُهِينُونَهُ بِالْفَعَالِ وَالْمَقَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، أَيْ فِي قَعْرِهِ عَلَى رَاعُوفَتِهِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي وَسَطِهِ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمَائِحُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ لِيَمْلَأَ الدِّلَاءَ إِذَا قَلَّ الْمَاءُ، وَالَّذِي يَرْفَعُهَا بِالْحَبْلِ يُسَمَّى الْمَاتِحَ.
فَلَمَّا أَلْقَوْهُ فِيهِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنه لابد لَكَ مِنْ فَرَجٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ أَنْتَ فِيهَا
عَزِيزٌ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْك خائفون مِنْك، " وهم لَا يَشْعُرُونَ ".
قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: وهم لَا يَشْعُرُونَ بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وهم لَا يَشْعُرُونَ " أَيْ لَتُخْبِرَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ لَا يَعْرِفُونَكَ فِيهَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ.
فَلَمَّا وَضَعُوهُ فِيهِ وَرَجَعُوا عَنْهُ، أَخَذُوا قَمِيصَهُ فَلَطَّخُوهُ بشئ مِنْ دَمٍ، وَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ عِشَاءً وَهُمْ يَبْكُونَ، أَيْ عَلَى أَخِيهِمْ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَغُرَنَّكَ بُكَاءُ الْمُتَظَلِّمِ فَرُبَّ ظَالِمٍ وَهُوَ باك! وَذكر بكاء إخْوَة
(1) ا: عينه (*)
يُوسُفَ وَقَدْ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، أَيْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ; لِيَكُونَ أَمْشَى لِغَدْرِهِمْ لَا لِعُذْرِهِمْ.
" قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا " أَي ثيابنا " فَأَكله الذِّئْب " أَيْ فِي غَيْبَتِنَا عَنْهُ فِي اسْتِبَاقِنَا.
وَقَوْلُهُمْ " وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ " أَي وَمَا أَنْت بمصدق لمنا فِي الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ مِنْ (1) أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ عِنْدَكَ.
فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي هَذَا؟ فَإِنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَضَمِنَّا لَكَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِكَثْرَتِنَا حَوْلَهُ، فَصِرْنَا غَيْرَ مُصَدَّقِينَ عِنْدَكَ، فَمَعْذُورٌ أَنْتَ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِكَ لَنَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
" وَجَاءُوا على قَمِيصه يدم كذب " أَيْ مَكْذُوبٍ مُفْتَعَلٍ ; لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى سَخْلَةٍ (2) ذَبَحُوهَا، فَأَخَذُوا مِنْ دَمِهَا فَوَضَعُوهُ عَلَى قَمِيصِهِ، ليوهموه أَن أَكَلَهُ الذِّئْبُ.
قَالُوا: وَنَسُوا أَنْ يَخْرِقُوهُ، وَآفَةُ الْكَذِبِ النِّسْيَانُ! وَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عَلَائِمُ الرِّيبَةِ لَمْ يَرُجْ صَنِيعُهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ ; فَإِنَّهُ كَانَ يفهم
عداوتم لَهُ، وَحَسَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، لِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ (3) الْجَلَالَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهَ أَنْ يَخُصَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ.
وَلِمَا رَاوَدُوهُ عَنْ أَخْذِهِ فَبِمُجَرَّدِ مَا أَخَذُوهُ أعدموه، وغيبوه عَن عَيْنَيْهِ وَجَاءُوا وهم يتباكون، وعَلى مَا تمالاوا يتواطاون.
وَلِهَذَا " قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ".
(1) ا: فِي (2) السخلة: ولد الشَّاة (3) امن المهابة وَالْجَلالَة (*)
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ رُوبِيلَ أَشَارَ بِوَضْعِهِ فِي الْجُبِّ لِيَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَردهُ إِلَى أَبِيه، فغافلوه وباعوه لتكل الْقَافِلَة.
فَلَمَّا جَاءَ روبيل آخِرِ النَّهَارِ لِيُخْرِجَ يُوسُفَ لَمْ يَجِدْهُ، فَصَاحَ وشق ثِيَابه، وَعَمَدَ أُولَئِكَ إِلَى جَدْيٍ فَذَبَحُوهُ، وَلَطَّخُوا مِنْ دَمِهِ جُبَّةَ يُوسُفَ، فَلَمَّا عَلِمَ يَعْقُوبُ شَقَّ ثِيَابَهُ، وَلَبِسَ مِئْزَرًا أَسْوَدَ وَحَزِنَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً.
وَهَذِهِ الرَّكَاكَةُ جَاءَتْ مِنْ خَطَئِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَالتَّصْوِيرِ.
* * * " وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فأدلى دلوه قَالَ يَا بشرى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نجزى الْمُحْسِنِينَ " يخبر تَعَالَى عَن قصَّة يُوسُف حِين وضع فِي الْجب: أَنه جليس ينْتَظر
فرج الله ولطفه بِهِ، فَجَاءَت سيارة، أَيْ مُسَافِرُونَ.
قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: كَانَتْ بِضَاعَتُهُمْ من (1) الفتسق وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ (2) قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ مِنَ الشَّامِ، فَأَرْسَلُوا بَعْضَهُمْ لِيَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَلَمَّا أَدْلَى أَحَدُهُمْ دَلْوَهُ تَعَلَّقَ فِيهِ يُوسُفُ.
فَلَمَّا رَآهُ ذَلِك الرجل " قَالَ يَا بشرى " أَي يَا بشارتى " هَذَا غُلَام
(1) ط: فِي.
(2)
البطم: الْحبَّة الخضراء.
(*)
وأسروه بضَاعَة " أَي أوهموا أَنه مَعَهم غُلَام مِنْ جُمْلَةِ مَتْجَرِهِمْ " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ، وَبِمَا يُسِرُّهُ وَاجِدُوهُ مِنْ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ لَهُمْ.
وَمَعَ هَذَا لَا يُغَيِّرُهُ تَعَالَى، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ وَالرَّحْمَة بِأَهْل مِصْرَ ; بِمَا (1) يُجْرِي اللَّهُ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي يَدْخُلُهَا فِي صُورَةِ أَسِيرٍ رَقِيقٍ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُمَلِّكُهُ أَزِمَّةِ الْأُمُورِ وَيَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، بِمَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ.
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِأخذ السيارة لَهُ لحقوقهم، وَقَالُوا هَذَا غُلَامُنَا أَبِقَ مِنَّا، فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، أَيْ قَلِيلٍ نَزْرٍ، وَقِيلَ هُوَ الزيف " دَرَاهِم مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ من لزاهدين ".
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَنَوْفٌ الْبِكَالِيُّ (2) وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، اقتسموها دِرْهَمَيْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُحَمّد بن إِسْحَق: أَرْبَعُونَ درهما.
وَالله أَعْلَمُ.
" وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أكرمي مثواه [أَيْ أَحْسِنِي إِلَيْهِ (3) ] " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نتخذه ولدا "، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ
وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَهِّلَهُ لَهُ (4) وَيُعْطِيَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَزِيزَهَا وَهُوَ الْوَزِيرُ بهَا،
(1) ا: فِيمَا.
(2)
هُوَ أَبُو زيد نوف بن فضاله البكالى.
وَهُوَ ابْن امْرَأَة كَعْب الاحبار.
تَابِعِيّ.
اللّبَاب 1 / 137.
(3)
لَيست فِي ا.
(4)
ا: لذَلِك.
(*)
الذى الخزائن مسلمة إِلَيْهِ.
قَالَ ابْن إِسْحَق: واسْمه إطفير ابْن روحيب قَالَ: وَكَانَ ملك مصر يَوْمئِذٍ الربان بْنَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ.
قَالَ: وَاسْمُ امْرَأَة الْعَزِيز: " راعيل " بنت رعاييل.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ اسْمُهَا " زَلِيخَا " وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبُهَا.
وَقِيلَ " فَكَا " بِنْتُ يَنُوسَ (1) ، رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَن ابْن هِشَام الرِّفَاعِي.
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمصْر - يعْنى الذى جلبه إِلَيْهَا - مَالك ابْن زعر بن نويب بْنِ عَفْقَا بْنِ مِدْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
فَاللَّهُ أعلم.
وَقَالَ ابْن إِسْحَق عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لامْرَأَته: " أكرمي مثواه "، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى:" يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الامين "، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما.
ثُمَّ قِيلَ: اشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ بِوَزْنِهِ مِسْكًا وَوَزْنِهِ حَرِيرًا
وَوَزْنِهِ وَرِقًا.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: " وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الارض " أَيْ وَكَمَا قَيَّضْنَا هَذَا الْعَزِيزَ وَامْرَأَتَهُ يُحْسِنَانِ إِلَيْهِ وَيَعْتَنِيَانِ بِهِ مَكَّنَّا لَهُ فِي أَرْضِ مصر " ولنعلمه من تَأْوِيل الاحاديث " أَيْ فَهْمِهَا، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِنْ ذَلِكَ.
" وَاللَّهُ غَالب على أمره " أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابًا وَأُمُورًا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعِبَادُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
(1) ا: بنت موسن.
(*)
" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نجزى الْمُحْسِنِينَ ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ وَهُوَ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْأَرْبَعِينَ الَّذِي يُوحِي اللَّهُ فِيهِ إِلَى عِبَادِهِ النَّبِيِّينَ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ: فَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ الْحُلُمُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة ".
* * * " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِنْ دُبُرٍ، وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لذنبك إِنَّك كنت من الخاطئين "
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عليه السلام عَنْ نَفْسِهِ وَطَلَبِهَا مِنْهُ مَالا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْمَالِ.
وَالْمَنْصِبِ وَالشَّبَابِ.
وَكَيْفَ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ، وَتَهَيَّأَتْ لَهُ وَتَصَنَّعَتْ، وَلَبِسَتْ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَأَفْخَرَ لِبَاسِهَا، وَهِيَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ امْرَأَةُ الْوَزير.
قَالَ ابْن إِسْحَق: وَبِنْتُ أُخْتِ [الْمَلِكِ](1) الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام شَابٌّ بَدِيعُ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَعَصَمَهُ رَبُّهُ عَنِ الْفَحْشَاء، وحماه عَن مَكْرِ النِّسَاءِ، فَهُوَ سَيِّدُ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ، السَّبْعَةِ الْأَتْقِيَاءِ، الْمَذْكُورِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ:" سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ مُعَلّق قبله بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لاتعلم شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَيْهَا وَحَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَقَالَ:" معَاذ الله إِنَّه ربى " يَعْنِي زَوْجَهَا صَاحِبَ الْمَنْزِلِ سَيِّدِي " أَحْسَنَ مَثْوَايَ " أَيْ أَحْسَنَ إِلَيَّ وَأَكْرَمَ مُقَامِي عِنْدَهُ " إِنَّهُ لَا يفلح الظَّالِمُونَ " وَقد تكلمنا على قَوْله تَعَالَى: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [لَوْلَا أَنْ رأى برهَان ربه (1) ] بِمَا فِيهِ كِفَايَة ومقنع فِي التَّفْسِير.
(1) لَيست فِي ا.
(*)
وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا مُتَلَقًّى مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى بِنَا.
وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ وَبَرَّأَهُ، وَنَزَّهَهُ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَحَمَاهُ عَنْهَا وَصَانَهُ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:" كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ".
" وَاسْتَبَقَا الْبَاب " أَي هرب مِنْهَا طَالبا الْبَابِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فِرَارًا مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ فِي أَثَرِهِ " وَأَلْفَيَا " أَيْ وَجَدَا " سَيِّدَهَا " أَيْ زَوْجَهَا لَدَى الْبَاب، فبدرته بِالْكَلَامِ وَحَرَّضَتْهُ عَلَيْهِ، " قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَاب أَلِيم " اتَّهَمَتْهُ وَهِيَ الْمُتَّهَمَةُ، وَبَرَّأَتْ عِرْضَهَا وَنَزَّهَتْ سَاحَتَهَا.
فَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عليه السلام: " هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفسِي "، احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
" وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ".
قِيلَ كَانَ صَغِيرًا فِي الْمَهْدِ.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ.
وَقِيلَ كَانَ رَجُلًا قَرِيبًا إِلَى " قطفير " بَعْلِهَا، وَقِيلَ قَرِيبًا إِلَيْهَا.
وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا: ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
فَقَالَ: " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ من الْكَاذِبين " أَيْ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَاوَدَهَا فَدَافَعَتْهُ حَتَّى قدت مقدم قَمِيصه.
" وَإِن كَانَ (21 - قصَص الانبياء 1)
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقين " [أَيْ](1) لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ هَرَبَ مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ وَتَعَلَّقَتْ فِيهِ فَانْشَقَّ قَمِيصُهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كيدكن عَظِيم " أَيْ هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ مَكْرِكُنَّ، أَنْتِ (2) راودتيه عَن نَفسه، ثمَّ اتهمتيه بِالْبَاطِلِ.
ثُمَّ أَضْرَبَ بَعْلُهَا [عَنْ هَذَا (3) ] صَفْحًا فَقَالَ: " يُوسُف أعرض عَن هَذَا " أَيْ لَا تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ، لِأَنَّ كِتْمَانَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْأَلْيَقُ وَالْأَحْسَنُ وَأَمَرَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةِ إِلَى رَبِّهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَأهْلُ مِصْرَ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيُؤَاخِذُ بِهَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ لَهَا بَعْلُهَا، وَعَذَرَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عَلَى مِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ عَفِيفٌ نَزِيهٌ (4) بَرِئُ الْعِرْضِ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ فَقَالَ:" استغفري لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ".
* * *
" وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سكينا، وَقَالَت اخْرُج
(1) لَيست فِي ا (2) ا: أَنْت الذى.
(3)
لَيست فِي ا (4) ا: نزه.
(*)
عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا، إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ".
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نِسَاءِ الْمَدِينَة، مِنْ نِسَاءِ الْأُمَرَاءِ وَبَنَاتِ الْكُبَرَاءِ فِي الطَّعْنِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَعَيْبِهَا، وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا فِي مراودتها فتاها، وحبها الشَّديد لَهُ، وَهُوَ لَا يُسَاوِي هَذَا ; لِأَنَّهُ مَوْلًى مِنَ الْمَوَالِي وَلَيْسَ مِثْلُهُ أَهْلًا لِهَذَا.
وَلِهَذَا قُلْنَ: " إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين " أَي فِي وَضعهَا الشئ فِي غير مَحَله.
" فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن " أَيْ بِتَشْنِيعِهِنَّ عَلَيْهَا وَالتَّنَقُّصِ لَهَا، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِالْعَيْبِ وَالْمَذَمَّةِ بِحُبِّ مَوْلَاهَا وَعِشْقِ فَتَاهَا، فَأَظْهَرْنَ ذَمًّا وَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلِهَذَا أَحَبَّتْ أَنْ تَبْسُطَ عُذْرَهَا عِنْدَهُنَّ، وَتُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفَتَى لَيْسَ كَمَا حَسِبْنَ، وَلَا مِنْ قبيل مالديهن.
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ فَجَمَعَتْهُنَّ فِي مَنْزِلِهَا، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ ضِيَافَةَ مِثْلِهِنَّ، وَأَحْضَرَتْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا
يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ، كَالْأُتْرُجِّ وَنَحْوِهِ، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا، وَكَانَتْ قَدْ هَيَّأَتْ يُوسُفَ عليه السلام، وَأَلْبَسَتْهُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَهُوَ فِي غَايَةِ طَرَاوَةِ الشَّبَابِ (1) وَأَمَرَتْهُ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ بِهَذِهِ (2) الْحَالَةِ، فَخَرَجَ وَهُوَ أحسن من الْبَدْر لَا محَالة.
(1) ا: وَكَانَ فِي غَايَة طرازة الشَّبَاب.
(2)
ا: فِي هَذِه.
(*)
" فَلَمَّا رأينه أكبرنه " أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَأَجْلَلْنَهُ وَهِبْنَهُ، وَمَا ظَنَنَّ أَنْ يكون مثلا هَذَا فِي بَنِي آدَمَ، وَبَهَرَهُنَّ حُسْنُهُ حَتَّى اشْتَغَلْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَجَعَلْنَ يَحْزُزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ بِتِلْكَ السَّكَاكِينِ وَلَا يَشْعُرْنَ بِالْجِرَاحِ، وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا ملك كريم.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عليه السلام، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَكَانَ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْحُسْنِ الْبَشَرِيِّ.
وَلِهَذَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ وَحُسْنِهِ.
وَيُوسُفُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ.
وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا ; كَمَا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أُنْثَى بَعْدَ حَوَّاءَ أَشَبْهَ بِهَا مِنْ سَارَةَ امْرَأَةِ الْخَلِيلِ عليه السلام.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَ وَجْهُ يُوسُفَ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَكَانَ إِذَا أَتَتْهُ امْرَأَةٌ لِحَاجَةٍ غَطَّى وَجْهَهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فِي الْغَالِبِ مُبَرْقَعًا لِئَلَّا يَرَاهُ النَّاسُ.
وَلِهَذَا لما قَامَ عذرن (1) امْرَأَةَ الْعَزِيزِ فِي مَحَبَّتِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَجَرَى لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ مَا جَرَى ; مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ بِجِرَاحِ السَّكَاكِينِ، وَمَا رَكِبَهُنَّ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالدَّهَشِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ.
" قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لمتننى فِيهِ " ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِالْعِفَّةِ (2) التَّامَّةِ فَقَالَتْ: " وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفسه فاستعصم " أَيِ امْتَنَعَ " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ ليسجنن وليكونا من الصاغرين ".
(1)
ط: عذر.
(2)
ط: بالعصمة.
(*)
وَكَانَ بَقِيَّةُ النِّسَاءِ حَرَّضْنَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِسَيِّدَتِهِ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَنَأَى لِأَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ:" رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين " يَعْنِي إِنْ وَكَلْتَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَيْسَ لِي مِنْ نَفْسِي إِلَّا الْعَجْزُ وَالضَّعْفُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
فَأَنَا ضَعِيفٌ إِلَّا مَا قَوَّيْتَنِي وَعَصَمْتَنِي وَحَفِظْتَنِي، وَحُطْتَنِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ; قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شئ، ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون * يَا صَاحِبي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ،
أَمَرَ ان لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثر النَّاس لَا يعْملُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأسه قضى الامر الذى فِيهِ تستفتيان ".
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ أَنَّهُمْ بَدَا لَهُمْ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ (1) بَعْدَ مَا عَلِمُوا بَرَاءَةَ يُوسُفَ أَنْ يَسْجُنُوهُ إِلَى وَقْتٍ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة، وَأحمد لِأَمْرِهَا، وَلِيُظْهِرُوا أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَسُجِنَ بِسَبَبِهَا، فَسَجَنُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
وَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَصَمَهُ بِهِ ; فَإِنَّهُ أَبْعَدُ لَهُ عَنْ مُعَاشَرَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ.
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِد!.
قَالَ الله: " وَدخل مَعَه السجْن فتيَان ": قِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ وَاسْمُهُ فِيمَا قيل " نبوا " وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ، يَعْنِي الَّذِي يَلِي طَعَامَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ التُّرْكُ:" الْجَاشَنْكِيرُ " وَاسْمُهُ فِيمَا قيل " مجلث " وَكَانَ الْملك قد اتَّهَمَهُمَا قى بَعْضِ الْأُمُورِ فَسَجَنَهُمَا.
فَلَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ فِي السجْن أعجبهما سمته (2) وهديه، ودله وطريقته، قَوْله وَفِعْلُهُ، وَكَثْرَةُ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ، وَإِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَرَأى كل وَاحِد مهما رُؤْيَا تُنَاسِبُهُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: رَأَيَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
أَمَّا السَّاقِي فَرَأَى كَأَنَّ ثَلَاثَ قضبان من حبلة (3) وَقد أَوْرَقَتْ وَأَيْنَعَتْ عَنَاقِيدُ الْعِنَبِ، فَأَخَذَهَا فَاعْتَصَرَهَا فِي كَأْسِ الْمَلِكِ وَسَقَاهُ.
وَرَأَى الْخَبَّازُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ سِلَالٍ مِنْ خُبْزٍ، وَضَوَارِي الطُّيُورِ تَأْكُلُ (4) من السل الاعلى.
(1) ا: المرائى.
(2)
ا: سيمته.
(3)
الحبلة: الكرمة.
(4)
ا: تَأْخُذ.
(*)
فقصاها عَلَيْهِ وطلبا مِنْهُ أَن يعبرها لَهما وَقَالا: " إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ " فَأَخْبرهُمَا أَنه عليم بتعبيرها خَبِير بأمرها، " وَقَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قبل أَن يأتيكما ".
قِيلَ: مَعْنَاهُ مَهْمَا رَأَيْتُمَا مِنْ حُلْمٍ فَإِنِّي أعبره لكم قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَمَا أَقُولُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أُخْبِرُكُمَا بِمَا يَأْتِيكُمَا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ مَجِيئه حلوا وحامضا، كَمَا قَالَ عِيسَى:" وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ".
وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ هَذَا مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ، لِأَنِّي مُؤْمِنٌ بِهِ مُوَحِّدٌ لَهُ، مُتَّبِعٌ مِلَّةَ آبَائِي الْكِرَامِ: إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
" مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شئ، ذَلِك من فضل الله علينا " أَي بِأَن هدَانَا لهَذَا، " وعَلى النَّاس " أَيْ بِأَنْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَنُرْشِدَهُمْ وَنَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ.
وَهُوَ فِي فِطَرِهِمْ مَرْكُوزٌ، وَفِي جِبِلَّتِهِمْ مَغْرُوزٌ " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ".
ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَذَمَّ عِبَادَةَ مَا سوى الله عزوجل، وَصغر أَمر الاوثان وحقرها، وَضعف أمرهَا فَقَالَ:" يَا صَاحِبي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سميتوها أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان، إِن الحكم إِلَّا الله "[أَي الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ (1) ]" أَمَرَ أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه "[أَي وَحده لَا شريك لَهُ (1) ] و " ذَلِك الدّين الْقيم " أَيِ الْمُسْتَقِيمُ وَالصِّرَاطُ الْقَوِيمُ " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ "
أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ مَعَ وُضُوحِهِ وظهوره.
(1) سَقَطت من ا.
(*)
وَكَانَت دَعوته لَهما فِي هَذَا الْحَالِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّ نُفُوسَهُمَا مُعَظِّمَةٌ لَهُ، مُنْبَعِثَةٌ عَلَى تَلَقِّي مَا يَقُولُ بِالْقَبُولِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَدْعُوَهُمَا إِلَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُمَا مِمَّا سَأَلَا عَنْهُ وَطَلَبَا مِنْهُ.
ثُمَّ لَمَّا قَامَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَى مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ قَالَ: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أما أَحَدكُمَا فيسقى ربه خمرًا "[قَالُوا وَهُوَ السَّاقِي (1) ]" وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير من رَأسه "[قَالُوا وَهُوَ الْخَبَّازُ (1) ]" قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان " أَيْ وَقَعَ هَذَا لَا مَحَالَةَ، وَوَجَبَ كَوْنُهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ (2) ; فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ ".
[وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسلم أَنَّهُمَا قَالَا: لما نَرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُمَا: " قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان (3) "]" وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجْن بضع سِنِين ".
يخبر تَعَالَى أَن يُوسُف قَالَ للذى ظَنّه ناجيا مِنْهُمَا وَهُوَ الساقى: " اذْكُرْنِي عِنْد رَبك "، يَعْنِي اذْكُرْ أَمْرِي وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ السَّجْنِ بِغَيْرِ جُرْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ (4) فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ.
وَقَوْلُهُ: " فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه " أَيْ فَأَنْسَى النَّاجِيَ مِنْهُمَا الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ عليه السلام.
قَالَهُ مُجَاهِد وَمُحَمّد بن
(1) سَقَطت من ا.
(2)
ا: مَا لم تقص.
(3)
سَقَطت من المطبوعة.
(4)
ا: السَّاعِي.
(*)
إِسْحَق وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَهْلِ الْكتاب.
" فَلبث " يُوسُف " فِي السجْن بضع سِنِين ".
وَالْبِضْعُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، وَقِيلَ إِلَى السَّبْعِ، وَقِيلَ إِلَى الْخَمْسِ، وَقِيلَ مَا دون الْعشْرَة حَكَاهَا الثَّعْلَبِيّ.
وَيُقَال بضع نشوة وَبِضْعَةُ رِجَالٍ.
وَمَنَعَ الْفَرَّاءُ اسْتِعْمَالَ الْبِضْعِ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ نَيِّفٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ "[وَقَالَ تَعَالَى: " فِي بضع سِنِين (1) "] .
وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ بِضْعَةَ عَشَرَ وَبِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى التِّسْعِينَ، وَلَا يُقَالُ: بِضْعٌ وَمِائَةٌ، وَبِضْعٌ وَأَلْفٌ.
وَخَالَفَ الْجَوْهَرِيُّ فِيمَا زَادَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ، فَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى تِسْعِينَ.
وَفِي الصَّحِيحِ: " الْإِيمَانُ بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة، وفى رِوَايَة وَسَبْعُونَ شُعْبَة، وأعلاها (2) قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الاذى عَن الطَّرِيق ".
وَمن قَالَ إِن الصمير فِي قَوْله: " فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه " عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ فَقَدْ ضَعُفَ مَا قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
تَفَرَّدَ بِإِسْنَادِهِ إِبْرَاهِيم بن يزِيد الخورى الْمَكِّيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَمُرْسَلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ لَا يقبل، وَلَا هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا قَول ابْن حبَان فِي صَحِيحه، عِنْد ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ
لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْحباب الجمحى، [حَدثنَا
(1) لَيست فِي ا.
(2)
اأرفعها.
(*)
مُسَدّد بن مسرهد، حَدثنَا خَالِد بن عبد الله، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ لَوْلَا الْكَلِمَة الَّتِى قَالَهَا " اذْكُرْنِي عِنْد رَبك " مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ "، قَالَ: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَهُ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ".
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ لَهُ أَشْيَاءُ يَنْفَرِدُ بِهَا وَفِيهَا نَكَارَةٌ.
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ أَنْكَرِهَا [وَأَشَدِّهَا (1) ] وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يَشْهَدُ بِغَلَطِهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عجاف، وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات، يَا أَيهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بعد أمة، أَنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سمان يأكلهن سبع عجاف، وَسبع سنبلات خضر وَأخر يَا بسات، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا، فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ
يغاث النَّاس وَفِيه يعصرون.
"
(1) لَيست فِي ا.
(*)
هَذَا كَانَ من جملَة أَسبَاب خُرُوج يُوسُف عليه السلام من السجْن على وَجه الاحترام والاكرام، وَذَلِكَ أَن ملك مصر، وَهُوَ الريان بن الْوَلِيد (1) ابْن ثروان بن أراشة بن فاران بن عَمْرو بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نوح، رأى هَذِه الرُّؤْيَا.
قَالَ أهل الْكتاب: رأى كَأَنَّهُ على حافة نهر، وَكَأَنَّهُ قد خرج مِنْهُ سبع بقرات سمان، فَجعلْنَ يرتعن فِي رَوْضَة هُنَاكَ، فَخرجت سبع هزال ضِعَاف من ذَلِك النَّهر، فرتعن مَعَهُنَّ ثمَّ ملن عَلَيْهِنَّ فأكلتهن، فَاسْتَيْقَظَ مذعورا.
ثمَّ نَام فَرَأى سبع سنبلات خضر فِي قَصَبَة وَاحِدَة، وَإِذا سبع أخر دقاق يَا بسات فأكلنهن، فَاسْتَيْقَظَ مذعورا.
فَلَمَّا قصها على ملئه وَقَومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها، بل " قَالُوا أضغاث أَحْلَام " أَيْ أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَعَلَّهَا لَا تَعْبِيرَ لَهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَا خِبْرَةَ لَنَا بِذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالُوا: " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بعالمين " فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ النَّاجِي مِنْهُمَا، الَّذِي وَصَّاهُ يُوسُف بِأَن يذكرهُ عِنْد ربه فنسيه إِلَى حِينِهِ هَذَا، وَذَلِكَ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عزوجل وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ.
فَلَمَّا سَمِعَ رُؤْيَا الْمَلِكِ، وَرَأَى عَجْزَ، النَّاسِ عَنْ تَعْبِيرِهَا، تَذَكَّرَ أَمْرَ يُوسُفَ، وَمَا كَانَ أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ التَّذْكَارِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وادكر " أَي تذكر " بعد أمة " أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ بِضْعُ سِنِين.
وَقَرَأَ بَعضهم
(1) هَذِه الاسماء والانساب لَيست ثَابِتَة وَلَا مدعمة من التَّارِيخ، وَقد كَانُوا يتكلفون
مَعْرفَتهَا.
وَمَا كَانَ أغناهم.
(*)
كَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ: " وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " أَيْ بَعْدَ نِسْيَانٍ.
وَقَرَأَهَا مُجَاهِدٌ: " بَعْدَ أَمْهٍ " بِإِسْكَانِ الْمِيمِ " وَهُوَ النِّسْيَانُ أَيْضًا.
يُقَالُ أَمِهَ الرَّجُلُ يَأْمَهُ أَمَهًا وَأَمْهًا، إِذَا نَسِيَ.
قَالَ الشَّاعِرُ.
أَمِهْتُ وَكُنْتُ لَا أنسى حَدِيثا * كَذَاك الدَّهْر يررى بِالْعَقُولِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ وَلِلْمَلِكِ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرسلون " أَيْ فَأَرْسِلُونِي إِلَى يُوسُفَ فَجَاءَهُ فَقَالَ: " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر، أخر يَابِسَاتٍ.
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ".
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا ذَكَرَهُ لَهُ الساقى، اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا رَآهُ فَفَسَّرَهُ لَهُ.
وَهَذَا غَلَطٌ.
وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ الله فِي كِتَابه الْقُرْآن لَا ماعربه هَؤُلَاءِ الجهلة الثيران ; من فرى وهذيان (1) .
فَبَذَلَ يُوسُفُ عليه السلام مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِلَا تَأَخُّرٍ وَلَا شَرْطٍ، وَلَا طَلَبَ الْخُرُوجَ سَرِيعًا ; بَلْ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَعَبَّرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ مَنَامِ الْمَلِكِ، الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ سَبْعِ سِنِينَ مِنَ الْخِصْبِ وَيَعْقُبُهَا سَبْعٌ جُدْبٌ " ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس " يَعْنِي يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ وَالْخِصْبُ وَالرَّفَاهِيَةُ " وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " يَعْنِي مَا كَانُوا يَعْصِرُونَهُ مِنَ الْأَقْصَابِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَغَيْرِهَا.
فَعَبَّرَ لَهُمْ وَعَلَى الْخَيْرِ دَلَّهُمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالَتَيْ خِصْبِهِمْ وَجَدْبِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنِ ادِّخَارِ حُبُوبِ سنى الخصب فِي (2) السَّبع الاول
(1) الاصل: وريان.
محرفة.
(2)
ا: من.
(*)
فِي سُنْبُلِهِ، إِلَّا مَا يُرْصَدُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَمِنْ تَقْلِيلِ الْبَذْرِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ فِي السَّبْعِ الثَّانِيَةِ، إِذِ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْبَذْرَ مِنَ الْحَقْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ على كَمَال الْعلم وَكَمَال الرى وَالْفَهْمِ.
* * * " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُف عَن نَفسه؟ قُلْنَ حاش الله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رب غَفُور رَحِيم ".
لَمَّا أَحَاطَ الْمَلِكُ عِلْمًا بِكَمَالِ [عِلْمِ (1) ] يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام، وَتَمَامِ عَقْلِهِ، وَرَأْيِهِ السَّدِيدِ وَفَهْمِهِ، أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ إِلَى حَضْرَتِهِ ; لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ خَاصَّتِهِ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، أَحَبَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنه حبس ظلما وعدوانا، وَأَنه برِئ السَّاحَةِ مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ بُهْتَانًا.
" قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبك " يَعْنِي الْمَلِكَ " فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قطعن أيهديهن، إنى ربى بكيدهن عليم " قيل مَعْنَاهُ: إِن سيدى الْعَزِيز يعلم برأتي مِمَّا نُسِبَ إِلَيَّ ; أَيْ فَمُرِ الْمَلِكَ فَلْيَسْأَلْهُنَّ: كَيْفَ [كَانَ (1) ] امْتِنَاعِي الشَّدِيدُ عِنْدَ مُرَاوَدَتِهِنَّ إِيَّايَ؟ وَحَثِّهِنَّ لِي عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ بِرَشِيدٍ وَلَا سديد؟
(1) لَيست فِي ا.
(*)
فَلَمَّا سُئِلْنَ عَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفْنَ بِمَا وَقَعَ من الْأَمْرِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ الْحَمِيدِ و " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سوء ".
فَعِنْدَ ذَلِك " قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز " وهى زليخا: " الْآن حصحص الْحق " أَيْ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ وَوَضَحَ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ.
" أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقين " أَي فِيمَا يَقُوله ; وَمن أَنَّهُ بَرِئٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَاوِدْنِي، وَأَنَّهُ حُبِسَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَزُورًا وَبُهْتَانًا.
وَقَوْلُهُ: " ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يهدى كيد الخائنين " قِيلَ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، أَيْ إِنَّمَا طَلَبْتُ تَحْقِيقَ هَذَا لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ.
وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا، أَيْ إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاوَدَةً لَمْ يَقَعْ مَعَهَا فِعْلُ فَاحِشَةٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَى الْأَوَّلِ.
" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رحم إِن ربى غَفُور رَحِيم " ; قِيلَ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ زَلِيخَا، وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ [الْأَوَّلَيْنِ (1) ] وَكَوْنُهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ وَأَقْوَى.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَيست فِي ا.
(*)
لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ، وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ".
لما ظهر للْملك بَرَاءَة عرضه، ونزاهة ساحته عَمَّا كَانُوا أظهرُوا عَنهُ مِمَّا نسبوه إِلَيْهِ، " قَالَ ائتونى بِهِ أستخلصه لنَفْسي " أَيْ أَجْعَلْهُ مِنْ خَاصَّتِي، وَمِنْ أَكَابِرِ دَوْلَتِي، وَمِنْ أَعْيَانِ حَاشِيَتِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ وَسَمِعَ مَقَالَهُ وَتَبَيَّنَ حَالَهُ " قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين " أَيْ ذُو مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ.
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِن الارض إنى حفيظ عليم " طَلَبَ أَنْ يُوَلِّيَهُ النَّظَرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْرَاءِ (1) ، لما يتَوَقَّع من حُصُول الْخلَل فِيهَا (2) بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِ سِنِيِّ الْخِصْبِ، لِيَنْظُرَ فِيهَا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ فِي خَلْقِهِ، مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَأَخْبَرَ الْمَلِكَ أَنَّهُ حَفِيظٌ، أَيْ قَوِيٌّ عَلَى حِفْظِ مَا لَدَيْهِ، أَمِينٌ عَلَيْهِ، عَلِيمٌ بِضَبْطِ الْأَشْيَاءِ وَمَصَالِحِ الْأَهْرَاءِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ وَالْكَفَاءَةَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ عَظَّمَ يُوسُفَ عليه السلام جِدًّا، وَسَلَّطَهُ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَأَلْبَسَهُ خَاتمه، وَألبسهُ الْحَرِير وطوقع الذَّهَبَ وَحَمَلَهُ عَلَى مَرْكَبِهِ الثَّانِي، وَنُودِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ: أَنْت رب وَمُسَلَّطٌ، وَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْظَمَ مِنْكَ إِلَّا بِالْكُرْسِيِّ.
قَالُوا: وَكَانَ يُوسُفُ إِذْ ذَاكَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سنة، وزوجه امْرَأَة عَظِيمَة
(1) الاهراء: خَزَائِن الطَّعَام.
(2)
ط: فِيمَا بعد.
(*)
الشَّأْنِ.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ عَزَلَ قِطْفِيرَ عَنْ وَظِيفَتِهِ (1) وَوَلَّاهَا يُوسُفَ.
وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ زَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ، لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، فَوَلَدَتْ لِيُوسُفَ عليه السلام رجلَيْنِ وهما: أفرايم (1) ومنسا.
قَالَ: وَاسْتَوْثَقَ لِيُوسُفَ مُلْكُ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ فَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.
وَحُكِيَ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ يَوْمَ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ عُمُرُهُ ثَلَاثِينَ سنة، وَأَن الْملك خاطبه بسبعين لُغَة، وفى كل (2) ذَلِكَ يُجَاوِبُهُ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْهَا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء " أَيْ بَعْدَ السَّجْنِ وَالضِّيقِ وَالْحَصْرِ، صَارَ مُطْلَقَ الرِّكَابِ بِدِيَارِ مِصْرَ، " يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ " أَيْ أَيْنَ شَاءَ حَلَّ مِنْهَا مُكْرَمًا مَحْسُودًا مُعَظَّمًا.
" نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أجر الْمُحْسِنِينَ "[من أَيْ (3) ] هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي آخِرَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّوَابِ الْجَمِيلِ.
وَلِهَذَا قَالَ ": وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ".
وَيُقَال إِن قطفير زَوْجَ زَلِيخَا كَانَ قَدْ مَاتَ، فَوَلَّاهُ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَزَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا، فَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ.
(1) ا: أفريثم.
(2)
ا: وكل.
(3)
من: ا (*)
وَذكر مُحَمَّد ابْن إِسْحَق أَنَّ صَاحِبَ مِصْرَ - الْوَلِيدَ بْنَ الرَّيَّانِ - أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ عليه السلام.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقد قَالَ بَعضهم: وَرَاء مضيق الْخَوْف متسع الامن * وَأول مفروح بِهِ غَايَة الْحُزْنِ (1)
فَلَا تَيْأَسَنْ، فَاللَّهُ مَلَّكَ يُوسُفًا * خَزَائِنَهُ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ السِّجْنِ * * * " وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ".
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدُومِ إِخْوَةِ يُوسُفَ عليه السلام إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَمْتَارُونَ طَعَامًا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِتْيَانِ سِنِيِّ الْجَدْبِ وَعُمُومِهَا عَلَى سَائِرِ الْعباد والبلاد.
وَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام إِذْ ذَاكَ الْحَاكِمَ فِي أُمُورِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ دِينًا وَدُنْيَا.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ مَا صَارَ إِلَيْهِ يُوسُفُ عليه السلام مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْعَظَمَةِ، فَلِهَذَا عَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ فَعَرَفَهُمْ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَعْرِفُوهُ فَأَغْلَظَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَقَالَ: أَنْتُم جواسيس، جئْتُمْ [لنا](2)
(1) ا: آخر الْحزن.
(2)
من ا.
(م 22 - قصَص الانبياء 1)(*)
لِتَأْخُذُوا خير بِلَادِي.
فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ ; إِنَّمَا جِئْنَا نَمْتَارُ (1) لِقَوْمِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ الَّذِي أَصَابَنَا، وَنَحْنُ بنوأب وَاحِدٍ مِنْ كَنْعَانَ، وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَصَغِيرُنَا عِنْدَ أَبِينَا.
فَقَالَ لابد أَنْ أَسْتَعْلِمَ أَمْرَكُمْ.
وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ حَبَسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ، وَاحْتَبَسَ شَمْعُونَ عِنْدَهُ
لِيَأْتُوهُ بِالْأَخِ الْآخَرِ.
وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ.
قَالَ الله تَعَالَى: " فَلَمَّا جهزهم بجهازهم " أَيْ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَته ; من إِعْطَاءِ كُلِّ إِنْسَانٍ حِمْلَ بِعِيرٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ " قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ "، وَكَانَ قد سَأَلَهُمْ عِنْد حَالِهِمْ، وَكَمْ هُمْ؟ فَقَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ وَبَقِيَ شَقِيقُهُ عِنْدَ أَبِينَا.
فَقَالَ: إِذَا قَدِمْتُمْ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأْتُونِي بِهِ مَعَكُمْ.
" أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْل وَأَنا خير المنزلين؟ " أَيْ قَدْ أَحْسَنْتُ نُزُلَكُمْ وَقِرَاكُمْ، فَرَغَّبَهُمْ لِيَأْتُوهُ [بِهِ (2) ] ثُمَّ رَهَّبَهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوهُ بِهِ فَقَالَ (3)" فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تقربون " أَيْ فَلَسْتُ أُعْطِيكُمْ مِيرَةً، وَلَا أَقْرَبُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، عَكْسُ مَا أَسْدَى إِلَيْهِمْ أَوَّلًا.
فَاجْتَهَدَ (4) فِي إِحْضَارِهِ مَعَهُمْ لِيَبُلَّ شَوْقَهُ مِنْهُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
" قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ " أَيْ سَنَجْتَهِدُ فِي مَجِيئِهِ مَعَنَا وَإِتْيَانِهِ إِلَيْكَ بِكُل مُمكن.
" وَإِنَّا لفاعلون " أَيْ وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَضَعُوا بِضَاعَتَهُمْ وَهِيَ مَا جَاءُوا بِهِ يتعوضون بِهِ
(1) ا: لنتمار.
(2)
لَيست فِي ا.
(3)
ا: قَالَ.
(4)
ا: فاجتهدوا.
(*)
عَنِ الْمِيرَةِ، فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا " لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ".
قِيلَ أَرَادَ أَنْ يَرُدُّوهَا إِذَا وَجَدُوهَا فِي بِلَادِهِمْ، وَقِيلَ خَشِيَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَقِيلَ تَذَمَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنِ الْمِيرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بِضَاعَتِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا.
وَعِنْدَ
أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهَا كَانَتْ صُرَرًا مِنْ وَرِقٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * " فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ، فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ، قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي؟ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا، وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ، فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ من الله من شئ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من شئ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ ".
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ بَعْدَ رجوعهم [إِلَى أَبِيهِم](1)
(1) لَيست فِي ا.
(*)
وَقَوْلهمْ لَهُ: " منع منا الْكَيْل "[أَيْ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا (1) ] إِنْ لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا (2) أَخَانَا، فَإِنْ أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَّا.
" وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِم قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغى؟ " أَي شئ نُرِيدُ وَقَدْ رُدَّتْ إِلَيْنَا بِضَاعَتُنَا؟ " وَنَمِيرُ أَهْلَنَا " أَيْ نَمْتَارُ لَهُمْ وَنَأْتِيهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ فِي سنتهمْ ومحلهم، " ونحفظ أخانا ونزداد " بِسَبَبِهِ
" كَيْلَ بَعِيرٍ ".
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " ذَلِكَ كيل يسير " أَيْ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ وَلَدِهِ الْآخَرِ.
وَكَانَ يَعْقُوب عليه السلام أضن شئ بِوَلَدِهِ بِنْيَامِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشُمُّ فِيهِ رَائِحَةَ أَخِيهِ وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ، وَيَتَعَوَّضُ بِسَبَبِهِ مِنْهُ.
فَلِهَذَا قَالَ: " لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يحاط بكم " أَيْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ.
" فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ، قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نقُول وَكيل ".
أَكَّدَ الْمَوَاثِيقَ وَقَرَّرَ الْعُهُودَ، وَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فِي وَلَدِهِ، وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ! وَلَوْلَا حَاجَتُهُ وَحَاجَةُ قَوْمِهِ إِلَى الْمِيرَةِ، لَمَا بَعَثَ الْوَلَدَ الْعَزِيزَ، وَلَكِنَّ الْأَقْدَارَ لَهَا أَحْكَامٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ لِيَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
قِيلَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُصِيبَهُمْ أَحَدٌ بِالْعَيْنِ، وَذَلِكَ لانهم كَانُوا
(1) لَيست فِي ا (2) ا: فَأرْسل مَعنا أخانا.
(*)
أَشْكَالًا حَسَنَةً وَصُوَرًا بَدِيعَةً.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ خَبَرًا ليوسف أَو يحدثُونَ عَنهُ بأثر.
قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَلِهَذَا قَالَ: " وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شئ ".
وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من شئ، إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ
لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ ".
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ هَدِيَّةً إِلَى الْعَزِيزِ مِنَ الْفُسْتُقِ وَاللَّوْزِ وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ وَالْعَسَل، وَأخذُوا الداراهم الاولى وعرضا (1) آخر.
" فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ؟ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ؟ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ، مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كل ذى علم عليم *
(1) ا: وعوضوا آخر.
(*)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أعلم بِمَا تصفون * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ، إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ".
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حِينَ دَخَلُوا بِأَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ عَلَى شَقِيقِهِ يُوسُفَ، وَإِيوَائِهِ إِلَيْهِ، وَإِخْبَارِهِ لَهُ سِرًّا عَنْهُمْ بِأَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَمْرِهِ بِكَتْمِ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَسَلَّاهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ احْتَالَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُ عِنْدَهُ دُونَهُمْ، فَأَمَرَ فِتْيَانَهُ
بِوَضْعِ سِقَايَتِهِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَشْرَبُ بهَا ويكيل بهَا للنَّاس الطَّعَام، عَن غرَّة (1) فِي مَتَاعِ بِنْيَامِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ سَرَقُوا صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَوَعَدَهُمْ جِعَالَةً عَلَى رَدِّهِ، حِمْلَ بَعِيرٍ، وَضَمِنَهُ الْمُنَادِي لَهُمْ.
فَأَقْبَلُوا عَلَى مَنِ اتَّهَمَهُمْ بِذَلِكَ فَأَنَّبُوهُ وَهَجَّنُوهُ فِيمَا قَالَهُ لَهُم: " قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الارض وَمَا كُنَّا سارقين " يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [مِنَّا](2) خِلَافَ مَا رَمَيْتُمُونَا بِهِ مِنَ السَّرِقَةِ.
" قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِك نجزى الظَّالِمين " [وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَتَهُمْ: أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
وَلِهَذَا قَالُوا: " كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ "(2) ] .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيه ثمَّ استخرجها من وعَاء أَخِيه " لِيَكُونَ [ذَلِكَ (2) ] أَبْعَدَ لِلتُّهْمَةِ وَأَبْلَغَ فِي الْحِيلَةِ، [ثمَّ (2) قَالَ
(1) ا: عَن غرته.
(2)
لَيست فِي ا.
(*)
اللَّهُ تَعَالَى: " كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك " أَيْ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، لَمَا كَانَ يَقْدِرُ يُوسُفُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ فِي سِيَاسَةِ مَلِكِ مِصْرَ، " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ من نشَاء " أَيْ فِي الْعِلْمِ " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليم ".
وَذَلِكَ لِأَنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَأَتَمَّ رَأْيًا وَأَقْوَى عَزْمًا وَحَزْمًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْ قُدُومِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا عَايَنُوا اسْتِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ حِمْلِ بِنْيَامِينَ " قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخ لَهُ من قبل " يَعْنُونَ يُوسُفَ.
قِيلَ كَانَ قَدْ سَرَقَ صَنَمَ جَدِّهِ
أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ.
وَقِيلَ كَانَتْ عَمَّتُهُ قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ ثِيَابِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ منْطقَة كَانَت لاسحق، ثمَّ استخرجوها من بَين ثِيَابه وَهُوَ لايشعر بِمَا صَنَعَتْ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا وَفِي حَضَانَتِهَا لِمَحَبَّتِهَا لَهُ.
وَقِيلَ كَانَ يَأْخُذُ الطَّعَامَ مِنَ الْبَيْتِ فَيُطْعِمُهُ الْفُقَرَاءَ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَلِهَذَا: " قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفسه " وَهِيَ كَلِمَتُهُ بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ:" أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَالله أعلم بِمَا تصفون " أَجَابَهُمْ سِرًّا لَا جَهْرًا، حِلْمًا وَكَرَمًا وَصَفْحًا وعفوا، فَدَخَلُوا مَعَه فِي الترفق وَالتَّعَطُّفِ فَقَالُوا:" يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبَا شيخ كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ " أَي إِن أطلقنا الْمُتَّهم وأخذنا البرئ، وَهَذَا مَالا نَفْعَلُهُ وَلَا نَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يُوسُفَ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ حِينَئِذٍ.
وَهَذَا مِمَّا غَلِطُوا فِيهِ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ جَيِّدًا (1) .
" فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا، قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ، فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا: يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ، وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ; عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ
تفتؤا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ".
يَقُول تَعَالَى مخبرا عَنْهُم لَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ: خَلَصُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ كَبِيرُهُمْ وَهُوَ رُوبِيلُ:" أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا من الله "، لتأتينى بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم؟ لَقَدْ أَخْلَفْتُمْ عَهْدَهُ، وَفَرَّطْتُمْ فِيهِ كَمَا فَرَّطْتُمْ فِي أَخِيهِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِي وَجْهٌ أُقَابِلُهُ بِهِ " فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ " أَيْ لَا أَزَالُ مُقِيمًا هَاهُنَا " حَتَّى يَأْذَنَ لى
(1) ا: جدا.
(2)
ا: مَعَهم.
(*)
أَبى " فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ؟ " أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي " بِأَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَى رَدِّ أَخِي إِلَى أَبِي، " وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ".
" ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق " أَيْ أَخْبِرُوهُ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ فِي ظَاهِرِ الْمُشَاهَدَةِ " وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِى أَقبلنَا فِيهَا "، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ [بِهِ](1) - مِنْ أَخْذِهِمْ أَخَانَا لِأَنَّهُ سَرَقَ - أَمْرٌ اشْتَهَرَ بِمِصْرَ وَعَلِمَهُ الْعِيرُ الَّتِي كُنَّا نَحْنُ وَهُمْ هُنَاكَ، " وَإِنَّا لَصَادِقُونَ "" قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أمرا فَصَبر جميل " أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لَمْ يَسْرِقْ فَإِنَّهُ لَيْسَ سجية لَهُ وَلَا خُلُقَهُ.
وَإِنَّمَا " سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أمرا، فَصَبر جميل ".
قَالَ ابْن إِسْحَق وَغَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُمْ فِي بِنْيَامِينَ مُتَرَتِّبًا عَلَى
صَنِيعِهِمْ (2) فِي يُوسُفَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا! ثُمَّ قَالَ: " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا " يَعْنِي يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ، " إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ " أَيْ بِحَالِي وَمَا أَنَا فِيهِ مِنْ فِرَاقِ الْأَحِبَّةِ " الْحَكِيمُ " فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَة وَالْحجّة القاطعة.
" وَتَوَلَّى عَنْهُم " أَيْ أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ " وَقَالَ يَا أَسَفَى على يُوسُف " ذَكَّرَهُ حُزْنُهُ الْجَدِيدُ بِالْحُزْنِ الْقَدِيمِ، وَحَرَّكَ مَا كَانَ كامنا، كَمَا قَالَ بَعضهم:
(1) لَيست فِي ا.
(2)
ا: صنعهم.
(*)
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى * مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ وَقَالَ آخَرُ: لَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى الْبُكَا * رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ (1) فَقَالَ: أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ؟ * لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ (2) فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى * فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ وَقَوْلُهُ: " وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ " أَي من كَثْرَة الْبكاء.
" فَهُوَ كظيم " أَي مكظم (3) مِنْ كَثْرَةِ حُزْنِهِ وَأَسَفِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى يُوسُفَ.
فَلَمَّا رأى بنوه مَا يقاسيه من الوجد وَأَلَمِ الْفِرَاقِ " قَالُوا " لَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ لَهُ والرأفة بِهِ والحرص عَلَيْهِ " تالله تفتؤ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ من الهالكين ".
يَقُولُونَ: لَا تَزَالُ تَتَذَكَّرُهُ (4) حَتَّى يَنْحَلَ جَسَدُكَ وَتَضْعُفَ قُوَّتُكَ، فَلَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ كَانَ أَوْلَى بِكَ.
" قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأعلم من الله مَالا تعلمُونَ "
يَقُولُ لِبَنِيهِ: لَسْتُ أَشْكُو إِلَيْكُمْ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا أَنَا فِيهِ، إِنَّمَا أشكوه إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِي مِمَّا أَنَا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَأعلم أَن رُؤْيا يُوسُف لابد أَن تقع، ولابد أَنْ أَسْجُدَ لَهُ أَنَا وَأَنْتُمْ حَسَبَ مَا رأى.
وَلِهَذَا قَالَ: " وَأعلم من الله مَالا تعلمُونَ "
(1) السوافك: المذروفة المنصبة.
(2)
اللوى: مَا التوى من الرمل.
والدكادك: مَا اسْتَوَى مِنْهُ وَتَلَبَّدَ.
(3)
ا: مكمد.
(4)
ا: تذكره.
(*)
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُحَرِّضًا عَلَى تَطَلُّبِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَأَنْ يَبْحَثُوا عَنْ أَمْرِهِمَا:" يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ " أَيْ لَا تَيْأَسُوا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَفَرَجِهِ، وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنَ الْمَخْرَجِ فِي الْمَضَايِقِ، إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
* * * " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصيرًا، وأتوني بأهلكم أَجْمَعِينَ ".
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رُجُوعِ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِلَيْهِ وَقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمِيرَةِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ إِلَيْهِمْ:" فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وأهلنا الضّر " أَيْ مِنَ الْجَدْبِ وَضِيقِ الْحَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، " وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة " أَيْ ضَعِيفَةٍ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا مِنَّا إِلَّا أَن تتجاوز عَنَّا.
قِيلَ كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً، وَقِيلَ قَلِيلَةً، وَقِيلَ حَبَّ الصَّنَوْبَرِ وَحَبَّ الْبُطْمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَلَقَ الْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَنَحْو ذَلِك.
" فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يجزى المتصدقين ".
قِيلَ بِقَبُولِهَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَقِيلَ بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم [وَنَزَعَ (1) ] بِهَذِهِ الْآيَةِ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَالِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ سِوَاهُ مِنْ ضَعِيفِ الْمَالِ، تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ، قَائِلًا لَهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَرَبِّهِمْ، وَقَدْ حَسَرَ لَهُمْ عَنْ جَبينه الشريف، وَمَا يحويه من الْحَال الذى يعْرفُونَ فِيهِ:" هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُم جاهلون ".
" قَالُوا " وتجبوا كُلَّ الْعَجَبِ، وَقَدْ تَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا عَدِيدَةً وهم لَا يعْرفُونَ أَنه هُوَ:" أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ ".
" قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أخى ".
يَعْنِي أَنَا يُوسُفُ الَّذِي صَنَعْتُمْ مَعَهُ مَا صَنَعْتُمْ، وَسَلَفَ مِنْ أَمْرِكُمْ فِيهِ مَا فَرَّطْتُمْ.
وَقَوله: " وَهَذَا أخى " تَأْكِيدٌ لِمَا قَالَ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا كَانُوا أضمروا لَهما من الْحَسَد، وَعمِلُوا فِي أَمْرِهِمَا مِنَ الِاحْتِيَالِ.
وَلِهَذَا قَالَ: " قَدْ من الله علينا " أَيْ بِإِحْسَانِهِ
إِلَيْنَا وَصَدَقَتِهِ عَلَيْنَا، وَإِيوَائِهِ لَنَا وَشَدِّهِ مَعَاقِدَ عِزِّنَا، وَذَلِكَ بِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ طَاعَة رَبنَا، وصبرنا على ماكان مِنْكُمْ إِلَيْنَا، وَطَاعَتِنَا وَبِرِّنَا لِأَبِينَا، وَمَحَبَّتِهِ الشَّدِيدَةِ لَنَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْنَا.
" إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ ".
(1) سَقَطت من ا.
(*)
" قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا " أَيْ فَضَّلَكَ وَأَعْطَاكَ مَا لَمْ يُعْطِنَا، " وَإِنْ كُنَّا لخاطئين " أَيْ فِيمَا أَسْدَيْنَا إِلَيْكَ، وَهَا نَحْنُ بَيْنَ يَديك.
" قَالَ لاتثريب عَلَيْكُم الْيَوْم " أَي لست أعاتبكم (1) على ماكان مِنْكُمْ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا.
ثُمَّ زَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: " يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " وَمن زعم أَن الْوَقْف على قَوْله " لاتثريب عَلَيْكُم " وابتدأ بقوله: " الْيَوْم يغْفر الله لكم " فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا بِقَمِيصِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ، فَيَضَعُوهُ عَلَى عَيْنَيْ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَصَرُهُ بعد ماكان ذَهَبَ، بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَهَذَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّاتِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، إِلَى الْخَيْرِ وَالدَّعَةِ وَجَمْعِ الشَّمْلِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، عَلَى أكمل الْوُجُوه وَأَعْلَى الامور.
" فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، قَالَ أَلَمْ أقل لكم إنى أعلم من الله مَالا تعلمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم ".
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول:" فَلَمَّا فصلت العير " قَالَ: لما
(1) ط: أعاقبكم.
(*)
خَرَجَتِ الْعِيرُ هَاجَتْ رِيحٌ، فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ فَقَالَ:" إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تفندون ".
قَالَ: فَوجدَ رِيحه من مسيرَة ثَلَاثَة (1) أَيَّام.
وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة وَغَيرهم عَنْ أَبِي سِنَانٍ (2) بِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ الْمَكِّيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ لَهُ (3) مُنْذُ فَارَقَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَوله: " لَوْلَا أَن تفندون " أَيْ تَقُولُونَ إِنَّمَا قُلْتَ هَذَا مِنَ الْفَنَدِ، وَهُوَ الْخَرَفُ (4) وَكِبَرُ السِّنِّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: " تُفَنِّدُونِ " تُسَفِّهُونِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: تُهَرِّمُونِ.
" قَالُوا تالله إِنَّك لفى ضلالك الْقَدِيم " قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: قَالُوا لَهُ كَلِمَةً غَلِيظَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ على وَجهه فَارْتَد بَصيرًا " أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ أَلْقَى الْقَمِيصَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَرَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَصِيرًا بَعْدَ ماكان ضَرِيرًا.
وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ (5) ذَلِكَ: " أَلَمْ أَقُلْ لكم إنى أعلم من الله مَالا تعلمُونَ " أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْمَعُ شَمْلِي بِيُوسُفَ، وَسَتَقَرُّ عَيْنِي بِهِ، وَسَيُرِينِي فِيهِ وَمِنْهُ مَا يَسُرُّنِي.
فَعِنْدَ ذَلِكَ " قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين ".
(1) ط: ثَمَانِيَة أَيَّام.
(2)
ا: عَن أَبى سعيد (3) ا: وَكَانَ لَهُ عَنهُ.
(4)
ا: وَهُوَ الْحزن.
(5)
ا: بعد ذَلِك.
(*)
طلبُوا مِنْهُ أَن يسْتَغْفر لَهُم الله عزوجل عَمَّا كَانُوا فَعَلُوا وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنِ ابْنِهِ، وَمَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِمُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
فَأَجَابَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَمَا عَلَيْهِ عَوَّلُوا قَائِلًا:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ".
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدثنَا ابْن إِدْرِيس [قَالَ (1) ] : سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَق يذكر عَن محَارب ابْن دثار قَالَ: كَانَ عمر (2) يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ إِنْسَانًا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ لِي " قَالَ: فاستمع إِلَى الصَّوْتَ فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ بقوله: " سَوف أسْتَغْفر لكم ربى ".
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " والمستغفرين بالاسحار ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (3) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ ".
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ: " أَنَّ يَعْقُوبَ أَرْجَأَ بَنِيهِ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ ".
قَالَ ابْن جرير: حَدَّثَنى الْمثنى ; قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو أَيُّوبَ (4) الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَن عَطاء وَعِكْرِمَة
(1) سَقَطت من ا (2) المطبوعة: كَانَ عَم لى.
وَهُوَ تَحْرِيف (3) ط: فِي الصَّحِيح.
(4)
ا: ابْن أَيُّوب.
(*)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي " يَقُول: " حَتَّى لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ ".
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ.
وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا.
* * * " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ; قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسلما وألحقني بالصالحين ".
هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ اجْتِمَاعِ الْمُتَحَابِّينَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الطَّوِيلَةِ، الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا ثَمَانُونَ سَنَةً! وَقيل ثَلَاث وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْحَسَنِ وَقِيلَ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذَكَرُوا أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ (1) أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ تَقْرِيبًا ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَاوَدَتْهُ وَهُوَ شَابٌّ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِيمَا قَالَه غير وَاحِد، فَامْتنعَ.
فَكَانَ
(1) ا: يدعونَ.
(*)
فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ; وَهِيَ سَبْعٌ عِنْدَ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ أُخْرِجَ فَكَانَتْ سَنَوَاتُ الْخِصْبِ السَّبْعُ، ثُمَّ [لَمَّا (1) ] أَمْحَلَ النَّاسُ فِي السَّبْعِ البواقى، جَاءَ إخْوَته يمتارون فِي السَّنَةَ الْأُولَى وَحْدَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ (2)[بِنْيَامِينُ (3) ] وَفِي الثَّالِثَةِ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِإِحْضَارِ أَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَجَاءُوا كُلُّهُمْ.
" فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ " وَاجْتمعَ بِهِمَا خُصُوصًا وَحْدَهُمَا دُونَ إِخْوَتِهِ، " وَقَالَ ادْخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين ".
قيل هَذَا من الْمُقدم والمؤخر ; تَقْدِيره [قَالَ (3) ] : ادْخُلُوا، مِصْرَ وَآوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ.
وَضَعَّفَهُ ابْنُ جرير وَهُوَ مَعْذُور.
وَقيل [بل (3) ] تَلَقَّاهُمَا وَآوَاهُمَا فِي مَنْزِلِ الْخِيَامِ، ثُمَّ لَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ بَابِ مِصْرَ " قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ الله آمِنين "، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا أَيْضًا، وَأَنَّهُ ضُمِّنَ قَوْلُهُ ادخُلُوا، بِمَعْنى اسْكُنُوا مِصْرَ، أَوْ أَقِيمُوا بِهَا، " إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " لَكَانَ صَحِيحًا مَلِيحًا أَيْضًا.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَاشِرَ - وَهِيَ أَرْضُ بُلْبَيْسَ - خَرَجَ يُوسُفُ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ بَعَثَ ابْنَهُ يَهُوذَا بَيْنَ يَدَيْهِ مُبَشِّرًا بِقُدُومِهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلِكَ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَ جَاشِرَ ; يَكُونُونَ فِيهَا، وَيُقِيمُونَ بهَا بن عمهم ومواشيهم.
و [قد (4) ] ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا أَزِفَ قُدُومُ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ - وَهُوَ إِسْرَائِيلُ -[أَرَادَ يُوسُفُ (4) ] أَنْ يَخْرُجَ لِتَلَقِّيهِ، فَرَكِبَ مَعَهُ الْمَلِكُ وَجُنُوده ; خدمَة ليوسف
(1) سَقَطت من ا.
(2)
ا: أخوهم.
(3)
من ا.
(4)
سَقَطت من ا.
(23 - قصَص الانبياء 1)(*)
وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّ اللَّهِ " إِسْرَائِيلَ " وَأَنَّهُ دَعَا لِلْمَلِكِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ سِنِيِّ الْجَدْبِ بِبَرَكَةِ قُدُومِهِ إِلَيْهِمْ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قَدِمَ مَعَ يَعْقُوبَ مِنْ بَنِيهِ وَأَوْلَادِهِمْ - فِيمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ إِنْسَانًا.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ إِنْسَانًا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَسْرُوقٍ: دَخَلُوا وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا.
قَالُوا: وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَفِي نَصِّ (1) أَهْلِ الْكتاب: أَنهم كَانُوا سبعين نفسنا وسموهم.
* * * قَالَ الله تَعَالَى: " وَرفع أبوبه على الْعَرْش " قِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ كَمَا هُوَ عِنْد عُلَمَاء التَّوْرَاة.
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: أَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ خَالَتُهُ " لَيَا " وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ: بَلْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي بَقَاءَ حَيَاةِ أُمِّهِ إِلَى يَوْمِئِذٍ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا خَالَفَهُ.
وَهَذَا قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَفَعَهُمَا عَلَى الْعَرْشِ، أَيْ أَجْلَسَهُمَا [مَعَهُ (2) ] على سَرِيره، " وخروا لَهُ سجدا " أَيْ سَجَدَ لَهُ الْأَبَوَانِ وَالْإِخْوَةُ الْأَحَدَ عَشَرَ، تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا.
وَكَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ حَتَّى حرم فِي ملتنا.
(1) ا: وَنَصّ أهل الْكتاب.
(2)
لَيست فِي ا (*)
" وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قبل " أَي هَذَا تَعْبِير ماكنت قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ: مِنْ رُؤْيَتِي الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، حِينَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وَأَمَرْتَنِي بِكِتْمَانِهَا، وَوَعَدْتَنِي [مَا وَعَدْتِنِي (1) ] عِنْدَ ذَلِكَ " قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أخرجنى من السجْن " أَيْ بَعْدَ الْهَمِّ وَالضِّيقِ، جَعَلَنِي حَاكِمًا نَافِذَ الْكَلِمَةِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَيْثُ شِئْتُ.
" وَجَاءَ بكم من البدو " أَيِ الْبَادِيَةِ.
وَكَانُوا يَسْكُنُونَ أَرْضَ الْعَرَبَاتِ مِنْ بِلَاد الْخَيل " مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتى " أَيْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ.
ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ ربى لطيف لما يَشَاء " أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَيَسَّرَهَا وَسَهَّلَهَا مِنْ وُجُوهٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعِبَادُ، بل يقدرها ويبسرها بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ.
" إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ " أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ " الْحَكِيمُ " فِي خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يُوسُفَ بَاعَ أَهْلَ مِصْرَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ تَحْتَ يَدِهِ، بِأَمْوَالِهِمْ كُلِّهَا ; مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْعَقَارِ وَالْأَثَاثِ، وَمَا يَمْلِكُونَهُ كُلَّهُ، حَتَّى بَاعَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فَصَارُوا أَرِقَّاءَ.
ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَعْتَقَ رِقَابَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا، وَيَكُونُ خُمْسُ مَا يستغلون من زُرُوعهمْ (2) وَثِمَارِهِمْ لِلْمَلِكِ فَصَارَتْ سُنَّةَ أَهْلِ مِصْرَ بَعْدَهُ.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْبَعُ فِي تِلْكَ السِّنِينَ، حَتَّى لَا يَنْسَى الْجِيعَانَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً وَاحِدَةً نِصْفَ النَّهَارِ.
قَالَ: فَمن ثمَّ اقْتدى بِهِ
(1) لَيست فِي ا (2) ط: زرعهم.
(*)
الْمُلُوك فِي ذَلِك.
قلت: و [قد (1) ] كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
رضي الله عنه، لَا يُشْبِعُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ حَتَّى ذَهَبَ الْجَدْبُ وَأَتَى الْخِصْبُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ لِعُمَرَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عَامُ الرَّمَادَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ! * * * ثُمَّ لَمَّا رَأَى يُوسُفُ عليه السلام نِعْمَتَهُ قَدْ تَمَّتْ، وَشَمْلَهُ قَدِ اجْتَمَعَ، عرف أَن هَذِه الدَّار لَا يقربهَا قَرَار، وَأَن كل شئ فِيهَا وَمَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَمَا بَعْدَ التَّمَامِ إِلَّا النُّقْصَانُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِعَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَسَأَلَ مِنْهُ - وَهُوَ خَيْرُ الْمَسْئُولِينَ - أَنْ يَتَوَفَّاهُ، أَي حِينَ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَهَكَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ:" اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ " أَيْ حِينَ تَتَوَفَّانَا.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ [عليه السلام، كَمَا سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ احْتِضَارِهِ (2) ] أَنْ يَرْفَعَ رُوحَهُ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالرُّفَقَاءِ الصَّالِحِينَ (3) مِنَ النَّبِيين والمرسليمن، كَمَا قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَضَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْجِزًا فِي صِحَّةٍ بدنه وسلامته، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَشِرْعَتِهِمْ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَمَنَّى نَبِيٌّ [قَطُّ (2) الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ.
(1) من ا (2) سَقَطت من ا.
(3)
الصلحاء.
(*)
فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَقَدْ نُهِيَ عَنِ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتَنِ ; كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ: " وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ ".
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " ابْنَ آدَمَ، الْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ
مِنَ الْفِتْنَةِ ".
وَقَالَتْ مَرْيَمُ عليها السلام: " يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا منسيا ".
وَتَمَنَّى الْمَوْتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، لَمَّا تَفَاقَمَتِ الْأُمُورُ وَعَظُمَتِ الْفِتَنُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ.
وَتَمَنَّى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ [أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (1) ] صَاحِبُ الصَّحِيحِ، لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَقِيَ مِنْ مُخَالِفِيهِ الْأَهْوَالَ.
فَأَمَّا فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يتمنين أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، إِمَّا مُحْسِنًا [فَلَعَلَّهُ (1) ] يزْدَاد، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ.
وَلَكِنْ لِيَقُلِ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ".
وَالْمُرَادُ بِالضُّرِّ هَاهُنَا، مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ فِي بَدَنِهِ ; مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، لَا فِي دِينِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ عليه السلام سَأَلَ ذَلِكَ، إِمَّا عِنْدَ احْتِضَارِهِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَن يكون كَذَلِك.
وَقد ذكر ابْن إِسْحَق عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ عِنْدَ يُوسُفَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ عليه السلام.
وَكَانَ قَدْ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ عليه السلام أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق.
قَالَ السدى:
(1) سَقَطت من ا (*)
فَصَبَرَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَدَفَنَهُ بِالْمَغَارَةِ (1) عِنْد أَبِيه إِسْحَق وَجَدِّهِ الْخَلِيلِ عليهم السلام.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ عُمُرَ يَعْقُوبَ يَوْمَ دَخَلَ مِصْرَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَرْضِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: فَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِهِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ وَهُوَ غَلَطٌ: إِمَّا فِي النُّسْخَةِ، أَوْ مِنْهُمْ، أَوْ قَدْ أَسْقَطُوا الْكَسْرَ وَلَيْسَ بِعَادَتِهِمْ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، فَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ [هَاهُنَا (2) ] ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى [فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ (2) ] :" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا، وَنَحْنُ لَهُ مُسلمُونَ " يوصى بَنِيهِ بِالْإِخْلَاصِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَبَشَّرَ يَهُوذَا بِخُرُوجِ نَبِيٍّ عَظِيمٍ مِنْ نَسْلِهِ تُطِيعُهُ الشُّعُوبُ، وَهُوَ عِيسَى بن مَرْيَمَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُ مِصْرَ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَأَمَرَ يُوسُفُ الْأَطِبَّاءَ فَطَيَّبُوهُ بِطِيبٍ وَمَكَثَ فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ يُوسُفُ مَلِكَ مِصْرَ فِي الْخُرُوجِ مَعَ أَبِيهِ لِيَدْفِنَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَكَابِرُ مِصْرَ وَشُيُوخُهَا.
فَلَمَّا وَصَلُوا حَبْرُونَ دَفَنُوهُ (3) فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي
(1) ا: فِي المغارة.
(2)
سَقَطت من ا.
(3)
ا: فدفنوه.
(*)
كَانَ اشْتَرَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ مِنْ عَفْرُونَ بْنِ صَخْرٍ الْحِيثِيِّ، وَعَمِلُوا لَهُ عَزَاءً سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
قَالُوا: ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَعَزَّى إِخْوَةُ يُوسُف يُوسُف فِي أَبِيهِمْ، وَتَرَقَّقُوا لَهُ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُمْ، فَأَقَامُوا بِبِلَادِ مِصْرَ.
ثُمَّ حَضَرَتْ يُوسُفَ عليه السلام الْوَفَاةُ، فَأَوْصَى أَنْ يُحْمَلَ مَعَهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ فَيُدْفَنَ عِنْدَ آبَائِهِ.
فَحَنَّطُوهُ وَوَضَعُوهُ فِي تَابُوتٍ، فَكَانَ
بِمِصْرَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مَعَهُ مُوسَى عليه السلام، فَدَفَنَهُ عِنْدَ آبَائِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالُوا: فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ.
هَذَا نَصُّهُمْ فِيمَا رَأَيْتُهُ وَفِيمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ [سَنَةٍ (1) ] وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوْصَى إِلَى أَخِيه يهوذا، صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه (2) .
(1) لَيست فِي ا.
(2)
ا: عليه السلام.
(*)
قصَّة أَيُّوب عليه السلام قَالَ ابْن إِسْحَق: كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ.
وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ موص بن رزاح بن الْعيص بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَيُّوبُ بن موص بن رعويل بن الْعيص بن إِسْحَق ابْن يَعْقُوبَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ.
وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ عليه السلام، وَقِيلَ كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام يَوْمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَلَمْ تَحْرِقْهُ.
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَرَّرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وهرون " الْآيَات مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ دُونَ نُوحٍ عليهما السلام.
وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى: " إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْكُم كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط وَعِيسَى وَأَيوب "
الْآيَةَ.
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَق.
وَامْرَأَتُهُ قِيلَ: اسْمُهَا " لَيَا " بِنْتُ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ رَحْمَة بنت أفراثيم (1) ، وَقيل [ليابنت (2) ] منسا (3) بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ.
وَهَذَا أَشْهَرُ فَلِهَذَا ذَكرْنَاهُ هَاهُنَا.
(1) ط: أفرايم.
(2)
سَقَطت من ا.
(3)
ا: بنت يُوسُف (*)
ثمَّ نعطف بِذكر أَنْبيَاء بنى إِسْرَائِيل بعذ ذِكْرِ قِصَّتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عندنَا وذكرى للعابدين (1) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة ص " وَاذْكُر عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أنس مسنى الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب * اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم رَحْمَة منا وذكرى لاولى الالباب وَخذ بِيَدِك ضعتا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب ".
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثمَّ إِبْرَاهِيم، ثمَّ إِسْمَاعِيل، ثمَّ إِسْحَق، ثُمَّ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ لُوطٌ، ثُمَّ هُودٌ، ثُمَّ صَالِحٌ، ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وهرون، ثُمَّ إِلْيَاسُ، ثُمَّ الْيَسَعُ، ثُمَّ عُرْفِيُّ [بْنُ سويلخ (1) ] بن أفراثيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتى من بنى يَعْقُوب، ثمَّ أبوب بن زراح بْنِ آمُوصَ بْنِ لِيفَرَزَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
وَفِي بَعْضِ هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ: [فَإِنَّ هُودًا وَصَالِحًا: الْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا بَعْدَ نُوحٍ وَقيل إِبْرَاهِيمَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) ]
* * * قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ ; مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي، والاراضي المتسعة
(1) الْآيَتَانِ: 83، 84 من سُورَة الانبياء (2) لَيست فِي ا.
(*)
بِأَرْض الثَّنية مِنْ أَرْضِ حُورَانَ.
وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ.
وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كثير.
فسلب مِنْهُ ذَلِك جَمِيعه، وابتلى فِي جسده بأنواع [من (1) ] الْبَلَاءِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل بِهِمَا.
وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، ذَاكِرٌ لله عزوجل فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ.
وَطَالَ مَرَضُهُ حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ، كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا.
فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ.
وَتَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ.
وَضَعُفَ حَالُهَا وَقَلَّ مَالُهَا حَتَّى كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ ; لِتُطْعِمَهُ وَتَقُومَ بأوده، رضى الله عمنها وأرضاها، وهى صابرة مَعَه على ماحل بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُصِيبَةِ بِالزَّوْجِ، وَضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ وَخِدْمَةِ النَّاسِ، بَعْدَ السَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْحُرْمَةِ.
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الامثل فالامثل " [وَقَالَ (2) ]
" يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ " وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ عليه السلام إِلَّا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا
(1) من ا.
(2)
لَيست فِي ا.
(*)
حَتَّى إِنَّ الْمَثَلَ لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ عليه السلام، وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ; فِي كَيْفِيَّةِ ذَهَابِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَبَلَائِهِ فِي جَسَدِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ عليه السلام أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ بَلْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ: فَزَعَمَ وهب أَن ابْتُلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ.
وَقَالَ أَنَسٌ: ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جسده حَتَّى فرج الله عَنهُ وَأعظم لَهُ الْأَجْرَ وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: مكث فِي بلواه ثَمَانِيَة عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهِ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا قَالَتْ: يَا أَيُّوبُ ; لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ لَفَرَّجَ عَنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا، فَهَل (1) قَلِيلٌ لِلَّهِ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً؟ فَجَزِعَتْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ وَتُطْعِمُ أَيُّوبَ عليه السلام.
ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَيُّوبَ، خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ بَلَائِهِ أَوْ تُعْدِيَهُمْ بِمُخَالَطَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَخْدِمُهَا، عَمَدَتْ فَبَاعَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا بِطَعَامٍ طَيِّبٍ كَثِيرٍ،
فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ، فَقَالَتْ: خَدَمْتُ بِهِ
(1) ا: فَهُوَ قَلِيل.
(*)
أُنَاسًا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا فَبَاعَتِ الضَّفِيرَةَ الْأُخْرَى بِطَعَامٍ فَأَتَتْهُ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا قَالَ فِي دُعَائِهِ:[رب] إنى مسنى الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ ".
وَقَالَ [ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (1) ] حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لايوب أَخَوان، فجَاء يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحه، فقاما من بعيد، قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا فَجَزِعَ أَيُّوبُ من قَوْلهمَا جزعا لم يحزع [مثله (1) ] من شئ قطّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانًا وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصَانِ قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي.
فَصُدِّقَ.
مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس ابْن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ لَهُ ; كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ:
تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ.
قَالَ لَهُ صَاحبه:
(1) لَيست فِي ا.
(*)
وماذاك؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ.
فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ؟ غَيْرَ أَن الله عزوجل يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا، كَرَاهِيَة أَن يذكر اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ.
قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: أَنِ " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ " فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبُ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أحسن ماكان، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ! هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ فَوَاللَّهِ القدبر عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا.
قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ (1) أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ ".
هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ بِتَمَامِهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَن مُحَمَّد ابْن الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بن إِسْمَعِيل، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَلْبَسُهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ فَتَنَحَّى أَيُّوبُ وَجلسَ فِي نَاحيَة، فَجَاءَت امْرَأَته
(1) الاندر: البيدر.
(*)
فَلم تعرفه، فَقَالَت: يَا عبد الله: أَيْن ذهب هَذَا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ، وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ! قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عبد الله؟ فَقَالَ: وَيحك أَنا أَيُّوب قدرد اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ، وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ ".
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ (1) بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ عليه السلام أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذهب، فَجعل يَأْخُذ [مِنْهُ (2) ] بِيَدِهِ وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ (3) ؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ؟ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ.
وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ [فَاللَّهُ أعلم (4) ] .
(1) ا: بشر (2) لَيست فِي ا (3) ا: مَا تشبع (4) لَيست فِي ا (*)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُرْسِلَ عَلَى أَيُّوبَ رِجْلٌ (1) مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا فِي ثَوْبِهِ، فَقِيلَ يَا أَيُّوبُ: أَلَمْ يَكْفِكَ مَا أَعْطَيْنَاكَ؟ قَالَ: أَيْ رَبِّ وَمَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِكَ!.
هَذَا مَوْقُوفٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَن همام بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رجل جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي (2) فِي ثَوْبه.
فناداه ربه عزوجل: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بلَى يَا رب، وَلَكِن لاغنى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَوله: " اركض برجلك " أَيِ اضْرِبِ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ، فَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ.
فَأَنْبَعَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بَارِدَةَ الْمَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهَا وَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ الله عَنهُ مَا كَانَ يحده مِنَ الْأَلَمِ وَالْأَذَى، وَالسَّقَمِ وَالْمَرَضِ، الَّذِي كَانَ فِي جَسَدِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صِحَّةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَجَمَالًا تَامًّا وَمَالًا كَثِيرًا ; حَتَّى صَبَّ لَهُ مِنَ الْمَالِ صَبًّا، مَطَرًا عَظِيمًا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ.
وَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم " فَقِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقِيلَ آجَرَهُ فِيمَنْ سَلَفَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَدَلَهُمْ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ بِكُلِّهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: " رَحمَه من عندنَا " أَي رفعنَا
(1) الرجل: الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة.
(2)
يحثى: يجمع (*)
عَنْهُ شِدَّتَهُ، وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، رَحْمَةً مِنَّا بِهِ وَرَأْفَةً وَإِحْسَانًا.
" وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " أَيْ تَذْكِرَةً لِمَنِ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، فَلَهُ أُسْوَةٌ بِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ ; حَيْثُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا اسْمَ امْرَأَتِهِ [فَقَالَ (1) ] : هِيَ " رَحْمَةُ " مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ أبعد النجعة وَأغْرقَ النَّزْعِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ [اللَّهُ (1) ] إِلَيْهَا شَبَابَهَا وَزَادَهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا.
وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعِينَ سَنَةً بِأَرْضِ الرُّومِ عَلَى دِينِ الْحَنِيفِيَّةِ، ثُمَّ غَيَّرُوا بَعْدَهُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَوْلُهُ: " وَخذ بِيَدِك ضعثا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب " هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَيُّوبَ عليه السلام، فِيمَا كَانَ مِنْ حَلِفِهِ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ.
فَقِيلَ حَلِفُهُ ذَلِكَ لبيعها ضفائرها، وَقيل لانه عارضها (2) الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ يَصِفُ لَهَا دَوَاءً لِأَيُّوبَ فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَحَلَفَ ليضربنها مائَة سَوط.
فَلَمَّا عافاه الله عزوجل أَفْتَاهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا وَهُوَ كَالْعِثْكَالِ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّمَارِيخَ، فَيَجْمَعَهَا كُلَّهَا وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ هَذَا مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ بِمِائَةِ سَوْطٍ وَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ.
وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَطَاعَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ الصَّابِرَةِ الْمُحْتَسِبَةِ، الْمُكَابِدَةِ الصِّدِّيقَةِ البارة الراشدة، رضى الله عَنْهَا.
(1) لَيست فِي ا.
(2)
ا: اعترضها.
(*)
وَلِهَذَا عقب الله الرُّخْصَةَ وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ: " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْد إِنَّه أواب ".
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ
وَالنُّذُورِ، وَتَوَسَّعَ آخَرُونَ فِيهَا حَتَّى وَضَعُوا كِتَابَ الْحِيَلِ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَصَدَّرُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَتَوْا فِيهِ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ: أَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَحْتَجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسُلَيْمَانَ عليه السلام عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَبِيُوسُفَ عليه السلام عَلَى الْأَرِقَّاءِ، وَبِأَيُّوبَ عليه السلام عَلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِمَعْنَاهُ.
وَأَنَّهُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ " حَوْمَلَ "، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ " بشر " ابْن أَيُّوبَ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنه " ذوالكفل " فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَاتَ ابْنُهُ هَذَا وَكَانَ نَبِيًّا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَكَانَ عُمُرُهُ مِنَ السِّنِينَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ.
وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا قِصَّةَ ذِي الْكِفْلِ ; إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ.
إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ عليهما السلام [وَهَذِه هِيَ (1) ] .
(1) لَيست فِي ا.
(24 - قصَص الانبياء 1)(*)
قِصَّةُ ذِي الْكِفْلِ الَّذِي زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ ابْن أَيُّوب قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ (1) قِصَّةِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ
الصَّالِحين ".
وَقَالَ تَعَالَى بعد قصَّة أَيُّوب أَيْضا فِي سُورَة ص: " وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الاخيار ".
فَالظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَقْرُونًا مَعَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نبى، على مِنْ رَبِّهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَقَدْ زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا (2) [عَادِلًا.
وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ] (3) .
وروى ابْن جرير وَأَبُو نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا [صَالِحًا (4) ] .
وَكَانَ قَدْ تَكَفَّلَ لبنى قومه أَن يكفيهم أَمرهم، وَيقْضى بَينهم بِالْعَدْلِ [فَفعل (4) ] فَسمى ذاالكفل.
(1) ا: فِي قصَّة أَيُّوب.
(2)
ا: وَحكما عدلا (3) لَيست فِي ا.
(4)
سَقَطت من ط (*)
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ: لَوْ أَنى اسْتخْلف رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي، حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ؟ فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: من يتَقَبَّل منى (1) بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفُهُ: يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ.
قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ أَنَا.
فَقَالَ: أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا تغْضب؟ قَالَ نعم.
قَالَ: فَرده ذَلِك الْيَوْم، وَقَالَ
مثلهَا [فِي](2) الْيَوْمَ الْآخَرَ، فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ.
قَالَ: فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَقُولُ لِلشَّيَاطِينِ: عَلَيْكُمْ بِفُلَانٍ، فَأَعْيَاهُمْ ذَلِكَ.
فَقَالَ دَعُونِي وَإِيَّاهُ، فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ فَقِيرٍ، وَأَتَاهُ حِين أَخذ مضجعه للقائلة، وَكَانَ لاينام اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةَ، فَدَقَّ الْبَابَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ.
قَالَ: فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَجَعَلَ يَقُصُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي وَفَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا، وَجَعَلَ يُطَوِّلُ عَلَيْهِ حَتَّى حضر الرواح وَذَهَبت القائلة.
فَقَالَ: إِذا رحت فإننى آخُذْ لَكَ بِحَقِّكَ.
فَانْطَلَقَ وَرَاحَ فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَتْبَعُهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَعَلَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمَظْلُومُ.
فَفَتَحَ لَهُ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذا قعدت فأتني؟
(1) ا: من يتَقَبَّل لى.
(2)
لَيست فِي ا.
(*)
قَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ، إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ، وَإِذَا قُمْتَ جَحَدُونِي.
قَالَ: فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي.
قَالَ: فَفَاتَتْهُ القائلة، فراح فَجعل ينتظره فَلَا يَرَاهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهله، لاتدعن أَحَدًا يَقْرُبُ هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ، فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ.
فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَرَاءَكَ وَرَاءَكَ.
فَقَالَ: قد أَتَيْته أمس وَذكرت لَهُ أَمْرِي.
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَدَعَ أَحَدًا يَقْرُبُهُ.
فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّةً فِي الْبَيْتِ فَتَسَوَّرَ
مِنْهَا، فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا هُوَ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ.
قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ آمُرْكَ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قبلى وَالله فَلم تُؤْتَ، فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَرَفَهُ.
فَقَالَ: أَعَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ، أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شئ فَفعلت كل مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ.
فَسَمَّاهُ اللَّهُ ذَا الْكِفْلِ، لانه تكفل بِأَمْر فوفى بِهِ! و [قد](1) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ هَذَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أبوالجماهر، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ كنَانَة بن الاخنس، قَالَ: سَمِعت الاشعري
(1) لَيست فِي ا.
(*)
- يَعْنِي أَبَا مُوسَى رضي الله عنه وَهُوَ على هَذَا الْمِنْبَر يَقُول: ماكان ذوالكفل نَبيا (1) وَلَكِن كَانَ رجل صَالح يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذوالكفل من بعده [فَكَانَ (2) ] يصلى كل يَوْم مائَة صَلَاة، فَسمى ذاالكفل.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مرار - لم أحدث بِهِ، وَلَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: " كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرجل من امْرَأَته أرعدت وبكت، فَقَالَ [لَهَا (2) ] مَا يبكيك؟ أأكرهتك؟ قَالَتْ لَا: وَلَكِنْ هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا حَمَلَتْنِي عَلَيْهِ الْحَاجَةُ.
قَالَ: فَتَفْعَلِينَ هَذَا وَلَمْ تَفْعَلِيهِ قَطُّ! ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ اذْهَبِي بِالدَّنَانِيرِ لَكِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْصِي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلْكِفْلِ! وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَقَالَ حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ فَوَقَفَهُ على ابْن عمر.
(1) ا: بنبى.
(2)
لَيست فِي ا.
(*)
فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعْدًا هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ.
وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ هَذَا.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ هُوَ ذَا الْكِفْلِ [وَإِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ الْكِفْلُ (2) ] مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ فَهُوَ رجل آخر غير الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن.
فَالله تَعَالَى أعلم.
(1) ا: وَلم يرو عَنهُ إِلَّا عبد الله.
(2)
لَيست فِي ا.
(*)