الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(مُقَدّمَة الْمُؤلف)
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه، عَلَيْهِ توكلت، وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم.
رب يسر يَا كريم.
الْحَمد لله حمدا يَلِيق بجلاله، ويستمطر من عطاياه غيث نواله، وَالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم الأتمان الأكملان على سيدنَا مُحَمَّد وَآله.
أما بعد: فَإِن من النَّصِيحَة الْوَاجِبَة فِي الدّين التَّنْبِيه على مَا يشْتَهر بَين النَّاس مِمَّا أَلفه الطَّبْع، وَلَيْسَ لَهُ أصل فِي الشَّرْع.
وَقد صنف الإِمَام تَاج الدّين الغزاري كتابا فِي فقه الْعَوام وإنكار أُمُور قد اشتهرت بَينهم لَا أصل لَهَا، أَجَاد فِيهَا الإنتقاد، وصان الشَّرِيعَة أَن يدْخل فِيهَا مَا خل بالإعتقاد، شكر الله صنعه، وأثاب جمعه.
وَقد رَأَيْت مَا هُوَ أهم من ذَلِك، وَهُوَ تَبْيِين الْأَحَادِيث المشتهرة على أَلْسِنَة الْعَوام، وَكثير من الْفُقَهَاء الَّذين لَا معرفَة لَهُم بِالْحَدِيثِ.
وَهِي: إِمَّا أَن يكون لَهَا أصل يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ، لغرابة مَوْضِعه، ولذكره فِي غير مظنه، وَرُبمَا نَفَاهُ بعض أهل الحَدِيث لعدم إطاعته عَلَيْهِ، والنافي لَهُ كمن نفى أصلا من الدّين، وضل عَن طَرِيقه الْمُبين.
وَإِمَّا لَا أصل لَهَا الْبَتَّةَ، فالناقل لَهَا يدْخل تَحت قَوْله صلى الله عليه وسلم:" من يقل عني مَا لم أقل، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
رَوَاهُ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ عَن مكي بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا يزِيد بن أبي عُبَيْدَة، عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع بِهِ. وَهُوَ من ثلاثياته.
وَقد أخبرنَا أَبُو الْفَتْح القلانسي، أخبرتنا خاتون ابْنة الْملك الْعَاقِل سيف الدّين أبي بكر بن أَيُّوب، أَنا أَبُو الْفَخر أسعد بن سعيد وَجَمَاعَة، أخبرتنا فَاطِمَة بنت عبد الله بن أَحْمد الجوزانية، أَنا ابْن زيد، أَنا الطَّبَرَانِيّ، ثَنَا خلف بن الْحسن الوَاسِطِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الشَّامي، ثَنَا سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن يحيى بن أبي كَبِير، عَن عبد الله بن قَتَادَة، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " هَلَاك أمتِي فِي ثَلَاث: فِي الْقَدَرِيَّة، والعصبية، وَالرِّوَايَة من غير ثَبت ".
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: " لم يروه عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَّا سُوَيْد، تفرد بِهِ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم " انْتهى.
وَكَذَا قَالَ ابْن عدي، وَقَالَ:" عَامَّة أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة ".
ثمَّ أخرجه من طرق من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقَالَ:" بلاؤها من هَارُون بن هَارُون، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث ".
وَأخرجه ابْن عبد الْبر فِي مُقَدّمَة التَّمْهِيد، من جِهَة بَقِيَّة، ثَنَا أَبُو الْوَلِيد، عَن أبي الْعَلَاء، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ:" هَذَا حَدِيث انْفَرد بِهِ بَقِيَّة عَن أبي الْعَلَاء، وَهُوَ إِسْنَاد فِيهِ ضعف، لَا تقوم حجَّة بِهِ، والْحَدِيث الضَّعِيف لَا يدْفع، وَإِن لم يحْتَج بِهِ، وَرب حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد صَحِيح الْمَعْنى " انْتهى.
قلت: أخرجه الطَّبَرَانِيّ من جِهَة سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن هَارُون بن هَارُون، عَن مُجَاهِد، بِهِ.
وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة، عَن الشَّافِعِي، أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فرق بَين الحَدِيث عَنهُ، والْحَدِيث عَن بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ:" حدثوا عني وَلَا تكذبوا عَليّ ".
وَذَلِكَ الْكَذِب الْمنْهِي عَنهُ هُوَ الْكَذِب الْخَفي، بِأَن يقبل الحَدِيث عَمَّن لَا يعرف صدقه.
وأباح قبُول الحَدِيث عَن بني إِسْرَائِيل عَمَّن حدث عَنْهُم، مِمَّن يقبل صدقه وَكذبه، وَلم يبحه عَمَّن يعرف كذبه؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" من حدث عني بِحَدِيث وَهُوَ يرَاهُ كذبا فَهُوَ أحد الْكَذَّابين ". انْتهى.
وَحَدِيث التَّفْرِيق أخرجه النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:" حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج، وَحَدثُوا عني وَلَا تكذبوا عَليّ ".
وَأخرجه مُسلم عَن أبي سعيد بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ.
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو، بِلَفْظ:" حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج، وَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
وَقد اخْتلف فِي أَنه خطاب للمحدث عَنْهُم وللمحدث.
فَقيل: خطاب للمحدث عَنْهُم، ثمَّ فِي الْمَعْنى قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه إِبَاحَة بعد حظر، وَلَيْسَ ثمَّ حظر صَرِيح، لكنه قد صَحَّ أَن عمر أته بِشَيْء من التَّوْرَاة، فَغَضب وَقَالَ:" اسهولون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب؟ " فَهَذَا نهي، فَكَأَنَّهُ أَبَاحَ الحَدِيث عَنْهُم بعد ذَلِك النَّهْي.
وَالثَّانِي: أَنه لما قَالَ: " حدثوا " كَانَ لفظ أَمر، فَأتبعهُ بقوله:" وَلَا حرج " ليعلم أَنه لَيْسَ بِأَمْر وجوب.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد حكى لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر، عَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ، أَنه قَالَ: معنى الحَدِيث: حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج إِن لم تحدثُوا.
وَقيل: إِنَّه خطاب للمحدث، وَقَوله " وَلَا حرج " لفظ خبر، وَمَعْنَاهُ الْأَمر، أَي لَا يحرج فِيهِ سامع لِكَثْرَة الْعَجَائِب، فَإِنَّهُ قد كَانَ فيهم عجائب.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه " معرفَة الرِّجَال ": سَأَلت أَبَا عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل، مَا الْحجَّة على من أنكر الْبَحْث وتفتيش الْخَبَر؟
قَالَ: الْحجَّة عَلَيْهِم مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق فِي الْجدّة، فَإِنَّهُ بلغنَا أَنه قَالَ: من عِنْده علم فِي الْجدّة؟ فَقَامَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَقَالَ: أشهد أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدس. فَقَالَ: هَل من آخر؟ فَقَامَ مُحَمَّد بن سَلمَة فَحكى مثل مَا حكى الْمُغيرَة. فَلم يكن هَذَا من أبي بكر تُهْمَة للْمُغِيرَة، إِذْ قَالَ: هَل من آخر؟ وَلكنه أَرَادَ بِهَذَا الِاحْتِيَاط فِي الدّين والتثبيت فِي الْأَحْكَام.
وَفِي هَذَا دلَالَة أُخْرَى على من أنكر الْبَحْث فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي الاسْتِئْذَان، لما حدث بِهِ عمر فَقَالَ:" لتَأْتِيني على مَا قلت بِشَاهِدين ". فَأتى حَلقَة الْأنْصَارِيّ، فَأخْبرهُم بِمَا قَالَ عمر، فَقَامَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، فَحدث عمر بِالْحَدِيثِ. فَلم يكن هَذَا من عمر لأبي مُوسَى على التَّكْذِيب، وَلكنه أَرَادَ الثَّبَات وَالْبَيَان لِئَلَّا يَأْتِي آتٍ فيدعي على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا لم يقلهُ.
قَالَ أَبُو عبد الله: وَقد بَلغنِي عَن أبي هُرَيْرَة أَنه حدث عمر بِحَدِيث، فَطلب مِنْهُ شَاهدا، فَأتى عمر شيخ قُرَيْش فَشهد لَهُ. وَكَانَ عَليّ رضي الله عنه. إِذا حَدثهُ أحد عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم استحلفه الله: أَنْت سَمِعت هَذَا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟
قَالَ: والاستحلاف لَعَلَّه السّكُون والطمأنينة، لقَوْله صلى الله عليه وسلم:" من حلف بِاللَّه فليصدق، وَمن حلف لَهُ فليصدق ".
وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد الْمروزِي ليحيى بن معِين: إِن هَاهُنَا من يُنكر الْبَحْث.
فَقَالَ يحيى: ذَلِك مبلغهم من الْعلم، كَيفَ يُنكر وَقد بحث الْأَئِمَّة من أَصْحَاب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كشفوا، وَإِنَّمَا يُنكر الْبَحْث من قصر عَلَيْهِ، وَقل فهمه.
وروى ابْن عدي عَن عَبده بن سُلَيْمَان الْمروزِي قَالَ: قيل لِابْنِ الْمُبَارك هَذِه الْأَحَادِيث المصنوعة. قَالَ: يعِيش لَهَا الجهابذة.
وَقَالَ عَبَّاس الدوري: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: إِن للنَّاس فِي أرباضهم وعَلى بَاب دُورهمْ أَحَادِيث يتحدثون بهَا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم نسْمع نَحن بِشَيْء مِنْهَا. انْتهى.
وَلما رَأَيْت الْحَال دائر بَين هذَيْن الْأَمريْنِ وَجَبت الْعِنَايَة من ذَلِك بِمَا وصل الْعلم إِلَيْهِ، وَوَقع الِاطِّلَاع عَلَيْهِ.
وَعَن الرّبيع بن حيثم قَالَ: " إِن للْحَدِيث ضوء كضوء النَّهَار تعرفه، وظلمة كظلمة اللَّيْل سكره ".
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الحَدِيث الْمُنكر يقشعر لَهُ جلد الصالب، وينفر مِنْهُ قلبه فِي الْغَالِب.
وسميته: " اللآلئ المنثورة فِي الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة "، ورتبته على أَبْوَاب:
الأول: فِيمَا اشْتهر على ألسنتهم من أَحَادِيث الْأَحْكَام.
وَالثَّانِي: فِي أَحَادِيث الحكم والآداب.
وَالثَّالِث: فِي الزّهْد.
وَالرَّابِع: فِي الطِّبّ وَالْمَنَافِع.
وَالْخَامِس: فِي أَبْوَاب الْفَضَائِل.
وَالسَّادِس: فِي الْأَدْعِيَة والأذكار.
وَالسَّابِع: فِي الْقَصَص وَالْأَخْبَار.
وَالثَّامِن: فِي الْفِتَن.
وَالتَّاسِع: فِي أُمُور منثورة.