الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب اسم الإشارة
وهو ما وضع لمسمى وإشارةٍ إليه، [وهو] في القرب مفردًا مذكرًا "ذا" ثم "ذاك" ثم "ذلك" و "آلك" وللمؤنثة "تي" و "تا" و "ته" و "ذي" و "ذه"، وتكسر الهاءان باختلاسٍ وإشباعٍ، و"ذات"، ثم "تيك" و "تيك" و"ذيك" ثم "تلك" و "تلك" و "تيلك" و "تالك".]-
ش: "ما وضع لمسمى" جنس يشمل كل ما وضع لمسمى، وهذا أقعد الأجناس إذ يدخل فيه النكرة والمعرفة، و"ما" مبهمة، فينبغي أن تُجنب الحدود والرسوم. و "إشارة" خرج بذلك ما سوى اسم الإشارة. وهذا الذي أورده ليس على سبيل الحدود ولا الرسوم؛ إذ لم يأت فيه بجنس وفصلٍ.
وأحسن ما قيل في حد اسم الإشارة: اسم الإشارة هو الموضوع لمعين في حال الإشارة. فـ "الموضوع لمعين" جنس يشمل المعارف، و "في حال الإشارة" فصل يُخرج سائر المعارف، ويخص اسم الإشارة.
وقوله وهو في القرب مفردًا مذكرا "ذا" وألفه منقلبة عن أصل عند البصريين، وزعم الكوفيون أن الألف زائدة، ووافقهم
السهيلي على ذلك، واحتجوا بقولهم في التثنية "ذان"، فالألف والنون هي للتثنية، فلم يبق سوى الذال.
وأجيبوا عن هذا بأنها ليست تثنية، بل هي صيغة موضوعة للتثنية. والدليل على ذلك عدم تنكيرها، ولو سلمنا أنها تثنية حقيقة لقلنا: سقطت الألف الأولى لالتقاء الساكنين، ولأنه قد عوض من الذاهب تشديد النون، فكأنه لم يذهب.
ورد مذهب الكوفيين بأنه ليس في الأسماء الظاهرة القائمة/ بنفسها ما هو على حرف واحد.
واختلف البصريون في ألف "ذا"، فقال بعضهم: هي منقلبة عن ياء، فالعين واللام المحذوفة ياءان، وهو ثلاثي الوضع في الأصل. وقال بعضهم: الألف منقلبة عن واو وجعلوه من باب طويت.
واحتج البصريون على أنها منقلبة عن أصل بقولهم في التصغير ذيا، وأصله عندهم: ذييا، فقد انقلبت الألف ياء، وأعيدت لام الكلمة ياء، وأدغم فيها ياء التصغير على ما قرر في باب التصغير.
ولو ذهب ذاهب إلى أن "ذا" ثنائي الوضع نحو "ما"، وأن الألف أصل بنفسها، وليست منقلبة عن شيء؛ إذ أصل الأسماء المبنية أن توضع على
حرف واحد أو على حرفين، لكان قد ذهب مذهبًا جيدًا سهلًا قليل الدعوى. وهذا الذي قدرنا أن لو قيل به وقفت عليه بعد ذلك للسيرافي، قال: ذا على حرفين كـ "ما"، فلما صغروا ألحقوا ياء ليتم التصغير، وكانت ياءً لأنها أكثر ما تلحق.
وذكر الخشني في شرحه كتاب س أن "ذا" لا يُطلب له وزن ولا أصل، كما لا يُطلب للحروف، وأن قومًا ذهبوا إلى ذلك، فالألف أصل على قول هؤلاء، كما هي أصل في "ما" و "لا"، قال: إلا أنه لما كان اسمًا يُثنى ويُجمع ويُحقر وجب أن يغلب عليها حكم الاسمية، وأن يطلب أصلها ووزنها، فنقول: هو اسم على حرفين، وأقل ما يكون الاسم على ثلاثة أحرف، فالساقط حرف، والأظهر أن يكون اللام، وأن يكون ياء لأن الياء تغلب على اللام، والواو على العين، إلا أن الإمالة سُمعت فيه، فوجب أن يكون ياءً، على أنه قد تُمال ذوات الواو، فمن جعل الألف منقلبة عن ياء لم يُجز في اللام أن تكون واوًا؛ لأن مثل حيوت غير موجود في الكلام إلا على مذهب أبي عثمان.
ثم هذه الألف تحتمل أن تكون العين، وأن تكون اللام: فمن قال هي العين قال: لأن الإعلال يسبق إلى اللام، فهي أحق بالحذف من العين. ومن قال الياء فيه هي العين قال: حكم اللام أن تكون ساكنة نحو ذي، فلا يجب قلبها ألفًا، فلما وجدنا هذه الألف استدللنا على أنها منقلبة عن حرف متحرك، وهي العين، إلا أن الذي يقول إنها اللام قلبت وإن كانت ساكنة لما دخل هذه الكلمة من الإعلال لم يبالوا بقلبها ألفًا وإن كانت ساكنة، كما قلبوها ساكنة في ياجل وطائي.
وأما وزنها فقيل: فعلٌ محرم العين. وقيل: ساكن لأنه الأصل، إلا أن الأظهر التحريك لأجل الانقلاب؛ لأن الانقلاب عن المحرك أولى، كانت عينًا أو لامًا، وإن كان يحتمل الانقلاب عن ساكن، لكن حمله على هذا
قليل. وسأل ابن مهلب أبا الحسن بن الأخضر عن وزن "ذا" فقال: هو فعل محرك. فقال له ابن مهلب: أخطأت. قال الخشني: فذكرت ذلك لأبي عبد الله، يعني ابن أبي العافية، فقال: الصواب ما قاله أبو الحسن، وما/ قاله ابن مهلب خطأ.
ولم يستوف المصنف ما يُشار به للواحد المذكر القريب، إذ يقال فيه "ذاء" بهمزة مكسورة بعد الألف، و "ذائه" بهمزة بعد ألف وهاءٍ تليها مكسورةٍ قال الراجز
ها ذائه الدفتر خير دفتر
وقوله ثم ذاك هذه الرتبة الوسطى للمفرد المذكر.
وقوله ثم ذلك وآلك هذه الرتبة القصوى للمفرد المذكر، ونقصه أن يقول: ذائك. وهذا التقسيم الذي ذكره المصنف من اعتبار المشار بمراتب ثلاث الدنيا والوسطى والقصوى هو مشهور قول النحويين، ويأتي قول من جعل ذلك مرتبتين الدنيا والبعدى عند ذكر المصنف ذلك.
وقوله وللمؤنثة إلى وذات هي عشرة ألفاظ مفهومة من الكتاب للمؤنثة المفردة في حالة القرب.
وقوله ثم تيك وتيك وذيك هذه المرتبة الوسطى للمؤنثة المفردة. وقال أحمد بن يحيى: لا يقال ذيك.
وقوله ثم تلك هذه المرتبة القصوى، و"تلك" بكسر التاء هي الأفصح،
وأما "تلك" بفتحها فحكاها هشام، و"تيلك"، أنشد الفراء:
بأية تيلك الدمن الخوالي عجبت منازلًا لو تنطقينا
و"تالك" أنشد الفراء للقطامي:
تعلم أن بعد الغي رشدًا وأن لتالك الغمر انقشاعا
وأنشد غيره:
إلى الجودي حتى عاد حجرًا وحان لتالك الغمر انحسار
-[ص: وتلي الذال والتاء في التثنية علامتها مجوزًا تشديد نونها، وتليها الكاف وحدها في غير القرب، وقد يقال "ذانيك". وفي الجمع مطلقًا "أولاء"، وقد ينون، ثم "أولئك"، وقد يُقصران، ثم "أولالك" على رأيٍ وعلى رأيٍ "أولاء" ثم "أولاك" ثم "أولئك" و "أولالك".
وقد يقال هلاء، وأولاء، وقد تُشبع الضمة قبل اللام. وقد يقال "هؤلاء" و "ألاك". ومن لم ير التوسط جعل المجرد للقرب وغيره للبعد. وزعم الفراء أن ترك اللام لغة تميم.]-
ش: تقول في تثنية المذكر في القرب: ذان، وفي تثنية المؤنثة: تان، فتحذف ألف ذا وألف تا، ولم يُثن غير هذين اللفظين.
وقوه مُجوزًا تشديد نونها فتقول: ذان وتان. وقد خالفت هذه التثنية تثنية الأسماء المتمكنة بشيئين:
أحدهما: حذف الألف، ولا تُحذف من المتمكن إلا شاذًا في بعض ألفاظه على حسب السماع، بل تُقلبُ في الاسم المتمكن.
الثاني: جواز تشديد النون، ولا يجوز/ ذلك في تثنية الاسم المتمكن. وظاهر كلام المصنف تجوير تشديد النون مطلقًا، أعني في الرفع والنصب والجر، وهذا هو مذهب الكوفيين.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز التشديد إلا مع الألف خاصة، ولا يجوز مع الياء، فتقول: ذان وتان، ولا يجوز: ذين ولا تين بالتشديد.
وقوله وتليها الكاف وحدها في غير القرب أي: وتلي النون الكاف في الحالة الوسطى والبعدى، فتقول: ذانك وتانك وذانك وتانك.
وقد يقال ذانيك: ظاهر كلام المصنف أنه في الحالة الوسطى والحالة البُعدى تقول: ذانك وتانك وذانك وتانك وذانيك.
وأصحابنا يقولون في الحالة الوسطى: ذانك وتانك بالنون خفيفة، وفي الحالة البُعدى: ذانك وتانك، وذانيك وتانيك بإبدال إحدى النونين ياء. ولم يذكر المصنف تانيك.
قال المصنف في الشرح: "وقلت "وحدها في غير القرب" ليعلم أن اللام لا تجتمع مع الكاف في التثنية كما اجتمعت في الإفراد، وأن لمُثنى المشار إليه في البُعد ما له مع التوسط؛ لأنهم استثقلوا اللام بعد النون. وزعم قوم أن من قال ذانك بتشديد النون قصد تثنية ذلك". يعني أن ذانك للبعد كما ذكره أصحابنا.
قال المصنف: "ويبطل هذا القول جواز التشديد في نون ذين وتين، بل التشديد جابرٌ لما فات من بقاء الألف التي حقها أن لا تُحذف كما لا تُحذف ألف المقصور. ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون اللذين واللتين ليكون جابرًا لما فات من بقاء ياء الذي والتي، كما تبقى ياء المنقوص حين يُثنى" انتهى كلامه.
وما زعم أنه يُبطل ذلك القول جواز التشديد في نون ذين وتين ليس بصحيح؛ لأن التشديد في نون ذين وتين، والحالة هذه، هو على سبيل الجواز، والتزامه في ذانك وتانك في حالة البعد هو على سبيل اللزوم، فلا يدل جوازه في حالة القرب على عدم جعله على سبيل اللزوم دليلًا على حالة البعد، بل قد يلزم الشيء دلالةً على شيء في حال، وإن كان جائزًا في حال أخرى.
وقوله "بل التشديد جابرٌ" لو كان جابرًا لكان لازمًا لأن حذف ألف "ذا" و "تا" في التثنية، وياء "الذي" و "التي" في التثنية لازم، فوجب أن يكون الجابر لازمًا، فكونه جاء جائزًا دليل على أنه ليس بجابر، فبطل ما زعم. وتقدم لنا أن البصريين لا يُجيزون تشديد النون مع الياء في حالة النصب والجر، وإذا كان المثني في حالة البعد التزموا الإبدال، فقالوا: ذينيك وتينيك، ولا يُجيزون تينك ولا ذينك بالتشديد.
وسألني شيخنا الإمام بها الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي رحمه الله عن قولهم "هذان" بالتشديد:/ ما النون المزيدة؟ قلت له: الأولى. قال: قال الفارسي في التذكرة: هي الثانية لئلا يُفصل بين ألف التثنية ونونها، ولا يُفصل بينهما. قلت له: يكثر العمل في
ذلك لأنا نكون زدنا نونًا متحركة، ثم أسكنا الأولى، وأدغمنا، أو زدناها ساكنة، ثم أسكنا الأولى، وأدغمنا، فتحركت لأجل الإدغام بالكسر على أصل التقاء الساكنين، وعلى ما ذكرته نكون زدنا نونًا ساكنة، وأدغمنا فقط، فهذا أولى عندي لقلة العمل ثم ظهر لي تقوية هذا الذي ذكرته بأن الألف والنون ليستا متلازمتين، فيكره الفصل بينهما؛ ألا ترى إلى انفكاكها منها بالحذف في الإضافة وتقصير الصلة.
وقوله وفي الجمع مطلقًا أولاء يعني بقوله "مطلقًا" أي في جمع المذكر والمؤنث، يعني أنهما يشتركان في هذا اللفظ، فتقول: أولاء خرجوا، وأولاء خرجن.
ووزنه عند أبي العباس وأبي علي فعال كالغثاء في الوزن لا في الانقلاب. فإذا قُصر فوزن فعل كهدى. وذهب أبو إسحاق إلى أن وزنهما معًا فعلٌ كهدى، زيد في آخره ألف، فانقلبت الثانية همزة، كما تقول في النزاء والدعاء: زدت ألفًا قبل حرف العلة، فانقلبت همزة. والفرق بينهما أن الهمزة في النزاء انقلبت عن ألفٍ انقلبت عن واو، وفي أولاء انقلبت عن ألف لم تكن منقلبةً عن شيء.
وقوله وقد يُنون حكي قُطرب تنونيه لغة، فتقول: أولاءٍ. قال المصنف في الشرح: "وتسمية تنوينًا مجازٌ لأنه غير مناسب لواحد من أقسام التنوين، والجيد أن يقال: إن صاحب هذه اللغة زاد نونًا بعد همزة أولاء، كما زيد بعد فاء "ضيف" نون، إلا أن ضيفًا مُعرب فلما زيد آخره
نونٌ صار حرف إعراب، فتحرك، وأولاء مبني، فلما زيد آخره نونٌ سكن؛ إذ لا مُوجب لتحركه، فإنه آخر مبنيٌ مسبوق بحركة" انتهى.
وليست هذه النون في الزيادة كنون "ضيفن"، لأن نون "ضيفن" زيدت للإلحاق بجعفر، فجيء بها لأجل الإلحاق، ونون "أولاءٍ" لم يُؤت بها لشيء. وأيضًا ففي نون "ضيفن" خلافٌ أهي زائدة، فيكون أصل الكلمة "ضيف"، أم أصليةٌ، فيكون وزنه فيعلا، ويكون من ضفن الرجل إذا جاء مع الضيف.
وقوله ثم أولئك وقد يقصران أي: يُقصر أولاء، فيقال أولى، ويقصر أولئك، فيقال أولاك. و"أولى" هو للرتبة القريبة، و "أولئك" للرتبة الوسطى، وعدوا أيضًا للرتبة الوسطى "ألاك" بشديد اللام، قال:
من بين ألاك إلى ألاكا
وقوله ثم أولالك على رأيٍ يعني أنه ليس للرتبة البعدى لفظ سوى "أولالك"، وقال الشاعر:
/أولالك قومي، لم يكونوا أشابةً وهل يعظ الضليل إلا أولالكا
وقوله وعلى رأيٍ أولاء ثم أولاك ثم أولئك وأولالك يعني أنه للرتبة الدنيا "أولاء" ثم للوسطى "أولاك"، ثم للقصوى لفظان، وهما "أولئك" و "أولالك"، فالخلاف وقع في "أولئك"، أهو للرتبة الوسطى أم للرتبة
البعدى. وحكى الفراء أن القصر في "أولى" و "أولاك" لغة بني تميم، وأن المد لغة الحجاز.
ومما يستدل به أن أولائك للوسطى مثل "أولاك" قول الشاعر:
يا ما أميلح غزلانًا، شدن، لنا من هؤليائكن الضال والسمر
ووجه الدلالة أنه قدر تقرر أن "ها" للتنبيه لا تُجامع اللام لأن اللام لا تكون إلا للبعد، وتُجامع القريب والوسط، فتقول: هذا وهذاك، ولا تقول: هذلك، وتقول: هؤلاء وهؤلاك وهؤلئك، فلو كانت أولئك للبعد لما دخلت عليه "ها" للتنبيه؛ لأن "ها" للتنبيه لا تُجامع البعيد. وأصل هؤليائكن قبل التصغير هؤلئكن، فدل ذلك على أنها للوسطى لا للبُعدى.
وقوله وقد يقال هُلاء هذا من إبدال الهمزة هاء كقولهم في إياك: هياك، وفي أما: هما، وفي أرقت: هرقت، وهو باب مُتسع.
وقوله وأولاء يعني بضم الهمزتين.
وقوله وأولاء وأولئك بإشباع الضمتين، وهاتان لغتان غريبتان، ذكرهما قُطرب.
وقوله وقد يقال هؤلاء وألاك أما هؤلاء فحكاها الأستاذ أبو علي عن
بعض العرب، وأنشد المصنف في نسخة من شرح هذا الكتاب"
تجلد لا يقل هؤلاء هذا بكى لما بكي أسفًا علينا
وأما "ألاك" بالقصر والتشديد فحكاها بعض اللغويين، وتقدم ذكرنا لها، وأنها في الرتبة الوسطى.
وقوله ومن لم ير التوسط إلى آخره هذا مذهب لبعض النحويين، جعل لأسماء الإشارة مرتبتين قريبة وبعيدة كالمنادى، فإن حروفه على قسمين، منها ما يكون للقريب، ومنها ما يكون للبعيد، فما كان مجردًا من كاف الخطاب فهو للقريب سواء أكان مصحوبًا بـ "ها" للتنبيه أم لم يكن، وهذا معنى قوله "جعل المجرد" يعني من كاف الخطاب، وما لم يتجرد منها يكون للبعيد. قال المصنف الشرح: "وهذا هو الصحيح، وهو الظاهر من كلام المتقدمين، ويدل على صحته خمسة أوجه:
أحدها: أن النحويين مجمعون على أن المنادى ليس له إلا مرتبتان مرتبة للقرب، تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة للبعيد أو ما هو في حكمه، تستعمل فيها بقية الحروف، والمشار إليه/ شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقًا للنظير بالنظير.
قلت ليس المشار إليه شبيهًا بالمنادى، وأي شبه بينهما؟ المشار إليه ليس مقبلًا عليه بالخطاب، وبل المقبل بالخطاب هو غيره، وهو اسم غائب يخبر عنه إخبار الغائب، وأما المنادى فهو المقبل عليه بالخطاب، فتقول: يا زيد لقد صنعت كذا، كما قال:
أداراً بحزوى هجت للعين عبرة فما الهوى يرفض، أو يترقرق
وقال:
ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام
ولو سلمنا أن بينهما شبهًا في شيء ما لم يلزم أن يشتركا في سائر الأحكام، فتكون رتبة المشار إليه مثل رتبة المنادى.
الثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذاك وتيك بلا لام، حيث يقول الحجازيون: ذلك وتلك باللام، وأن الحجازيون ليس من لغتهم استعمال الكاف بلا لام، وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام، فلزم هذا أن اسم الإشارة على اللغتين ليس إلا مرتبتان، إحداهما للقرب والأخرى لأدنى البعد وأقصاه.
قلت: لا يلزم ما ذكر لأنه يقتصر في بعض اللغات على معنى ما، ولا يكون لهم لفظ يعبر عن المعنى الآخر المقابل، ولا يلزم من تعقل معنى ما في الوجود أن يوضع له لفظ، فإن صح نقل الفراء فيكون بنو تميم لم يضغطوا لفظًا يعبر عن المرتبة البعدى، بل اقتصروا على المرتبة الوسطى، فقالوا: ذاك وتيك، ويكون الحجازيون أيضًا لم يضعوا لفظًا يعبر به عن المرتبة الوسطى، بل اقتصروا على الرتبة البعدى، فقالوا: ذلك وتلك،
وحصل من مجموع اللغتين استعمال اللغة العربية للمرتبتين الوسطى والقصوى، إذ قد يكون معنى ما وضعت له طائفة من العرب، ومعنى آخر مقابلة وضعت له طائفة من العرب.
الثالث: أن القرآن العزيز ليس فيه الإشارة إلا بمجرد اللام والكاف معًا أو بمصاحب لهما معًا، أعني غير المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى المتوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن العزيز غير جامع لوجوه الإشارة، وهذا مردود بقوله تعالى:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
قلت: هذا الوجه شبيه بكلام الوعاظ، ولا يلزم كونه لم يرد في القرآن لعدم وجوده في لسان العرب،/ فكم من قاعدة نحوية شهيرة فصيحة لم تأت في القرآن، ولا يدعي أحد أن القرآن أتى على جميع اللغات والقواعد النحوية، ولا انحصر ذلك فيه، هذه "رب" تجر الأسماء، وقد طفح بها لسان العرب نثرًا ونظمًا، حتى إنه قل قصيد لهم يخلو من ذلك، ولم تجئ في القرآن جارة الأسماء.
وأما استدلاله بقوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فليس المعنى أنه مبين لوجوه الإشارة وجميع المعاني الكلامية، وإنما هذا عام مخصوص، والمعنى: تبيانًا لأصل كل شيء من أصول الديانات وأصول الأحكام التكليفية، وإلا فعدد ركعات الصلوات الخمس لم يبين في القرآن، وكذلك ما تجب فيه الزكاة، وما يجب، ومتى يجب، وعلى من تجب.
الرابع: أن التعبير ب "ذلك" عن مضمون كلام على إثر انقضائه شائع سائغ في القرآن وغيره، ولا واسطة بين النطقين، كقوله تعالى (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ)، (ذَلِكَ تَاوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ
صَبْرًا)، (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ).
قلت: كون اللفظ الموضوع للبعد يستعمل في القرب لا يدل على أن المشار إليه له مرتبتان؛ إذ قد تقرر أنه قد يعبر بالبعيد عن القريب، وبالعكس، وسيذكر المصنف ذلك بعد هذا، ونتكلم عليه، ولا يدل ذلك الاستعمال على انحصار المشار إليه في مرتبتين.
الخامس: أنه لو كانت مراتب المشار إليه ثلاثًا لم يكتف في التثنية والجمع بلفظين؛ لأن في ذلك رجوعًا عن سبيل الإفراد، وفي اكتفائهم بقولهم هذان وذاك وهؤلاء وأولئك دليل على أن ذاك وذلك مستويان، وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان، ولا التفات إلى من قال إن تشديد نون "ذانك" دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، لأنه قد سبق الإعلام بأن التشديد عوض مما حذف من الواحد؛ لأنه يستعمل مع التجريد من الكاف كما يستعمل مع التلبس بها. وكذا لا يلتفت إلى قول من زعم أن "أولالك" للبعداء دون "أولئك" لقلة "أولائك" وكثرة الحاجة إلى جمع "ذلك"، ولأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعداء، وذلك باطل بمواضيع كثيرة من القرآن، فثبت ما أردناه، والحمد لله".
قلت: ولا أسلم أنه اكتفى في التثنية والجمع بلفظين. أما التثنية فإنهم قد قالوا في الوسطى: ذانك، وفي البعدى: ذانك بالتشديد، وذانيك بالإبدال، وقالوا في المؤنث: تانك في الوسطى، وفي البعدى: تأنك بالتشديد، وتانيك بالإبدال.
وأما قوله "ولا التفاف إلى من قال إن تشديد نون ذانك دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، وذكر/ التعليل، وقد تقدم إبطالنا لهذا التعليل، فلا التفاف لقوله هو.
وأما قوله "وكذا لا يلتفت إلى قول من زعم أن أولالك للبعداء دون أولئك لقلة أولالك وكثرة الحاجة إلى جمع ذلك" فقد بينا أن "أولئك" لا يمكن أن يكون للبعيد، وإنما هو في المرتبة الوسطى بدخول "ها" التنبيه عليه، وقد تقدم كلامنا على ذلك.
وأما قوله "ولأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعداء، وذلك باطل، فلا يلزم ذلك لأنه قد يستعمل للجماعة البعداء لفظ جماعة المرتبة الوسطى على سبيل المجاز والتوسع، ولا يدل كون "أولالك" لم يرد في القرآن أن لا يكون موضوعًا للرتبة العبدى في كلام العرب.
وفي كتاب أبي الفضل البطليوسي ما نصه: "لم يجعل س المشار ثلاث مراتب بل مرتبتين دنيا ومتراخ، فجعل "داك" التي هي وسطى بمنزلة أولئك وتلك، وهما للبعيد، ونقل الناس خلاف هذا على ما ذكر أبو موسى في كراسته، فربما لم يحفظ س تفصيلًا في هذا كله".
وفي البسيط: "قال الفراء: أهل الحجاز يقولون "ذلك" باللام، وبه جاء القرآن، وأهل نجد من تميم وأسد وقيس وربيعة بغير لام".
ص: وتصحب "ها" التنبيه المجرد كثيرًا، والمقرون بالكاف دون اللام قليلًا، وفصلها من المجرد بـ "أنا" وأخواته كثير، وبغيرها قليل، وقد تعاد بعد الفصل توكيدًا. والكاف حرف خطاب يبين أحوال المخاطب بما بينها إذا كان اسمًا. وقد يغني "ذلك" عن "ذلكم"، وربما استغنى عن الميم
بإشباع ضمة الكاف.
ش: يعني بالمجرد الخالي من كاف الخطاب، وذلك هو رتبة القرب، سواء أكان مفردًا أم مثنى أم مجموعًا، مذكرًا أم مؤنثًا، وهو كثير جدًا، ومنه قول الشاعر:
وليس لعيشنا هذا مهاه وليست دارنا هاتا بدار
وقوله والمقربون بالكف دون اللام قليلًا يشمل قوله المفرد المذكر والمؤنث ومثناهما ومجموعهما، فمثال ذلك في المذكر:"هذاك"، قال الشاعر:
رأيت بني غبراء لا ينكروني ولا أهل هذاك الطرف الممدد
ومثاله في المؤنث: هذيك وهاتاك وهاتيك، وقال ذو الرمة:
وقد احتملت مي، فهاتيك دارها بها السحم تردي والحمام المطوق
وعلى هذا الذي تقرر يجوز: هاتا وهاتاك.
وزعم ابن يسعون أن "تي" في المؤنث لا تستعمل إلا بـ "ها" في أولها، وبالكاف في آخرها، فتقول في المثنى: هذانك وهاذينك وهاتانك وهاتنك، وفي الجمع: هؤلاك وهؤلئك.
وقد زعم المصنف/ في الشرح أن المقرون بالكاف في التثنية والجمع لا تلحقها الهاء، فلا يقال: هذانك ولا هؤلائك، قال:"لأن واحدهما ذاك وذلك، فحمل على "ذلك" مثناه وجمعه لأنهما فرعاه، وحمل عليهما مثنى "ذاك" وجمعه لتساويهما لفظًا ومعنى" انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه المصنف مبني على زعمه أن المشار ليس له إلا مرتبتان القربي والبعدى، وقد بينا فساد دعواه في ذلك فيما تقدم، والسماع يرد عليه، قال:
يا ما أمليح غزلانًا، شدن، لنا من هؤليائكن الضال والسمر
فـ "هؤليائكن" تصغير "هؤلئكن"، وقد زعم هو أنه لا يقال "هؤلئك"، وهو باطل بهذا السماع الفاشي من العرب.
فإن كان اسم الإشارة باللام أو ربما قام مقامها مما هو يستعمل في الرتبة البعدى لم تدخل عليه "ها" التنبيه، فلا يقال: هذلك ولا هاتالك ولا هاتلك ولا هاتيلك ولا هذانك ولا هذينك ولا هاتانك ولا هاتينيك ولا هؤلالك ولا هؤلاك، وملخصه أنه لا تجامع "ها" التنبيه ما دل على الرتبة البعدى، وتجامع ما دل على الرتبة القربى والوسطى، وهذا مما يدل على أن المشار إليه له ثلاث مراتب كما زعن النحويون. وهذا المذهب الذي ذكره المصنف عن بعض النحويين أن له مرتبتين، واختاره هو، لم أقف عليه لأحد على كثرة مطالعتي لكتب هذا الشأن.
وعلل المصنف امتناع اجتماع الهاء واللام بأن العرب كرهت كثرة
الزوائد. وهذا تعليل ليس بجيد لأن كل زائدة منهما هي لمعنى لا تدل عليه الزائدة الأخرى، فاللام زائدة تشعر بالبعد، والكاف للمخاطب، والهاء تنبيه له.
وزعم بعض النحويين أن "ها" تنبيه، وأن اللام أيضًا تنبيه، فلا يجتمعان. وهذا ليس بشيء لأن اللام ليست للتنبيه، فقوله دعوى لا دليل عليها.
وقال السهيلي: "الأظهر أن اللام تدل على تراخ وبعد في المشار إليه، وأكثر ما تقال في الغائب وما ليس بحضرة المخاطب، و"ها" تنبيه للمخاطب لينظر، وإنما ينظر إلى ما بحضرته لا إلى ما غاب عن بصره، فذلك لم يجتمعا" انتهى.
وقوله وفصلها من المجرد بـ "أنا" وأخواته كثير أي: وفصل "ها" للتنبيه من اسم الإشارة المجرد من كاف الخطاب بـ "أنا" وأخواته من ضمائر الرفع المنفصلة يكثر، فتقول: هأناذا وهأناذي وها نحن أولاء، وها أنت ذا وها أنت ذي وها أنتما ذان وها أنتماتان وها أنتم أولاء، وها هوذا وها هي ذي وها هما ذان وها هما تان وها هم أولاء، وقال تعالى (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ)، وفي الحديث "هأناذا يا رسول الله"./ وهذه المسألة قد تكررت للمصنف في أول الفصل الثالث من باب "تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك"، وقيدنا ما أطلقه المصنف فيها في كتاب "التكميل" من تأليفنا، وأمعنا الكلام فيها، فتطالع هناك.
وقوله وبغيرها قليل أي: وبغير "أنا" وأخواته، ومن ذلك قول
الشاعر:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسمًا فالقدر بذرعك، وانظر أين تنسلك
ومنه عند الخليل "إي ها الله ذا"، ففصل بين "ها" للتنبيه وبين اسم الإشارة بالقسم- وهو "لعمر الله"- وقوله "الله"، وأنشد س:
ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا فقلت: لها هذا لها، ها وذا ليا
أراد: وهذا ليا، ففصل بالواو بين "ها" و"ذا". قال المصنف:
"ومن ذلك قول النابغة:
ها إن ذي عذره إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد"
وهذا ليس من جنس ما فصل به بين "ها" التنبيه واسم الإشارة؛ لأن "ذي" اسم "إن"، و"عذره" الخبر، فلا يمكن تركيب "ها" التنبيه و"ذي" في ذلك، فتقول فصل بينهما بـ "إن"؛ لأنك لو قلت "هذي إن عذره" لم يكن كلامًا، فـ "ها" هنا لم تدخل على اسم الإشارة.،
وقوله وقد تعاد بعد الفصل توكيدًا مثاله قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ). وهذا الذي ذكره المصنف مخالف ظاهره لما قال س، قال س: "وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون بمنزلتها في هذا، يدلك
على ذلك قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ)، فلو كانت ها المقدمة مصاحبة أولاء لم تعد مع أولاء" انتهى. ومعنى قول س أن "ها" في "ها أنت ذا" قد تتجرد للتنبيه غير مصحوبة لاسم الإشارة، فلا تكون مقدمة على الضمير من اسم الإشارة. وقوله "ولكنها تكون بمنزلتها في هذا" أي: تدل على التنبيه وإن لم تكن مع اسم الإشارة، كما تدل عليه مع اسم الإشارة. ثم استدل على ذلك بما ذكر. وهو استدلال واضح. وما ذكره المصنف يدل على أنها قدمت من اسم الإشارة، ثم أعيدت معه على سبيل التوكيد، وهو مخالف لظاهر كلام س.
وقوله والكاف حرف خطاب يبين أحوال المخاطب بما بينها إذا كان اسمًا يعني من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، فتقول: ذاك وذاك وذاكما وذاكم وذاكن، كما تقول أكرمك وأكرمك وأكرمكما وأكرمهم وأكرمكن. ولا خلاف في حرفيتها مع اسم الإشارة، ولا تتوهم فيه الاسمية وإضافة اسم الإشارة إليها لأن اسم الإشارة لا يضاف.
وقوله وقد يغني ذلك عن ذلكم أي: يكتفي/ بكاف الخطاب المتصل باسم الإشارة مفردة مذكرة في خطاب الجمع المذكر عن إتيانك به مقرونًا بميم الجمع، قال تعالى (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ) و (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ)، أغنى "ذلك" عن "ذلكم". ولا تغني الكاف المذكورة إذا كانت ضميرًا عن الكاف والميم، تقول: يا رجال أكرمكم زيد، ولا يجوز: يا رجال أكرمك زيد.
وما ذكره المصنف من أن الكاف المذكورة تغني عن الكاف والميم وليس مختصًا إغناؤها بذلك، بل لغة للعرب يكتفون في خطاب المثنى والمجموع
والمؤنث بخطاب المفرد المذكر إذا كان مع اسم الإشارة. قال الزجاجي: "كاف الخطاب قد تجيء في مثل هذا موحدة في الاثنين والجمع، تترك على أصل الخطاب". وقال أبو الحسن بن الباذش: "إفراد الكاف إذا خوطب به جماعة كقوله عز وجل} ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ {و} ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ {له تأويلان: أحدهما أن يقبل بالخطاب على واحد من الجماعة لجلالته، والمراد له ولهم. أو تخاطب الجماعة كلها، ويقدر لها اسم مفرد من أسماء الجموع، يقع على الجماعة، تقديره: ذلك يوعظ به يا فريق ويا جمع، وما أشبه ذلك من الأسماء المفردة المسمى بها الجمع. وقد يجوز في هذا الوجه الإفراد والتأنيث على تأويل الفئة والفرقة" انتهى.
وقال المصنف في الشرح: "ولم يغن أنت عن أنتم، وذلك أن الذال والألف قد يستغنى بهما عن الكاف عند تقدير القرب أو قصد الحكاية كقوله تعالى} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {و} هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ {،} وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ {، فجاز الاستغناء بالكاف عن مصحوبها، ولا يستغنى بالهمزة والنون عن التاء، فلم يجز الاستغناء بالتاء عن الميم" انتهى. وهذا تفريغ على مذهب جمهور النحويين أن التاء للخطاب، وليست ضميرا.
وقوله وربما استغنى عن الميم بإشباع ضمة الكاف أنشد بعض الكوفيين:
وإنما الهالك ثم التالك ذو حيرة ضاقت به المسالك
كيف يكون النوك إلا ذلك
قال المصنف: "أراد: ذلكم، فأشبع الضمة، واستغنى عن الميم بالواو الناشئة عن الإشباع" انتهى. ولا دليل في هذا على ما ادعاه المصنف، بل هذا عندي من باب تغيير الحركة لأجل القافية؛ لأن القوافي قبله مرفوعة، فاحتاج أن غير حركة الكاف التي هي الفتحة إلى الضمة، وقد جاء ذلك في كلامهم، قال:
سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز، فاستريحا
/غير الحركة لأجل القافية من الضمة إلى الفتحة، وهو ضرورة. وكان التغيير في هذا أوجه لأنها حركة بناء لم يقتضها عامل؛ بخلاف "فأستريحا"، فإن الضمة حركة إعراب، يقتضيها العامل، ومع ذلك فقد غيرت إلى الفتحة.
-[ص: وتتصل بـ "أرأيت" موافقة أخبرني هذه الكاف مغنيا لحاق علامات الفروع بها عن لحاقها بالتاء. وليس الإسناد مزالاعن التاء، خلافا للفراء. وتتصل أيضا بـ "حيهل" و "النجاء" و "رويد" أسماء أفعال. وربما اتصلت بـ "بلى" و "أبصر" و "كلا" و "ليس" و "نعم" و "بئس" و "حسبت".]-
ش: "رأيت" هذه العملية دخل عليها همزة الاستفهام، فهي تتعدى إلى اثنين، فإن استعملت على أصل موضوعها هذا جاز أن تتصل بها الكاف ضميرا منصوبا، ويطابق الضمير المرفوع المنصوب في إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، وكان الضمير مفعولا أول، وما بعده مفعول ثان،
وتعدى الفعل المسند إلى الضمير المرفوع المتصل إلى ضميره المنصوب المتصل لأن ذلك جائز في باب "ظننت" وأخواتها، فتقول: أرأيتك منطلقا، كما تقول: أعلمتك ذاهبا، أي: أعلمت نفسك، ورأيتك ذاهبة، وأر أيتماكما ذاهبين، وأر أيتموكم ذاهبين، وأرأيتنكن ذاهبات.
وإن ضمنت "أرأيت" معنى "أخبرني"، فصارت لا تدل على الاستفهام، ولا تقتضي جوابا، فيجوز أن تتصل بها كاف الخطاب. وفي المسألة إذ ذاك ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب البصريين، وهو أن الفاعل بهذا الفعل هو التاء، وهذا معنى قول المصنف "وليس الإسناد مزالا عن التاء"، ويبقى هذا الفاعل مفردا مذكرا، ودائما، وتظهر علامات الفروع في كاف الخطاب، فتقول: أرأيتك وأرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم وأرأيتكن. وليس لحرف الخطاب موضع من الإعراب؛ لأنها حروف تمحضت للخطاب كما تمحضت في "ذلك" وفروعه.
والمذهب الثاني: مذهب الفراء، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله "خلافا للفراء"، وذلك أن الفراء ذهب إلى أن التاء حرف خطاب، وليست اسما، كما نذهب نحن إليه في التاء في "أنت"، وأن الكاف هي الفاعل، فالفعل مسند إليها، وذلك أن التاء لما تجردت للخطاب، وأفردت له، لم يجز أن تكون مرفوعة لإفرادها، لأن التاء إذا كانت ضميرا لم تفرد مذكرة لمثنى ومجموع ومؤنث، بل تطابق ما كانت ضميرا له، فدل ذلك على سلب الاسمية منها، ولما ظهرت المطابقة في الكاف ادعينا أنها هي المسند إليها الفعل على جهة الفاعلية، ولما لم يمكن أن تطابق بضمير الرفع لقلق
اللفظ، فكان يقال: أرأيتتم، ولا أرأيتتما، استعير ضمير غير الرفع لذلك، فكان هو الفاعل.
وقد رد أبو علي على مذهب الفراء في مسائله العسكرية، فقال:"الذي يفسد قول من قال إنها رفع أن التاء هي الفاعلة، وموضعها رفع، فيمتنع إذا أن تكون الكاف مرفوعة لاستحالة كون فاعلين لفعل واحد في كلامهم على غير وجه الاشتراك لأحدهما بالآخر بغير حرف العطف، فهذا القول بعيد جدا" انتهى. ولا يلزم ما قال أبو علي على الفراء لأن الفراء لا يذهب إلى أن التاء هي الفاعلة، بل التاء عنده حرف خطاب، فلا يلزم على مذهبه أن يكون فاعلان لفعل واحد كما ذكر.
وقد رد المصنف في الشرح على الفراء بأن "التاء لا يستغنى عنها، والكاف يستغنى عنها، وما لا يستغنى عنه أولى بالفاعلية مما يستغنى عنه، ولأن التاء محكوم بفاعليتها مع غير هذا الفعل بإجماع، والكاف بخلاف ذلك، فلا يعدل عما ثبت لهما دون دليل".
والمذهب الثالث: قول بعضهم إن الكاف لها موضع من الإعراب، وهو النصب، وفي محفوظي أنه مذهب الكسائي.
ورد هذا المذهب بأنها لو كانت في موضع نصب لكانت المفعول الأول من المفعولين اللذين يقتضيهما "رأيت"، والمفعول الأول في المعنى هو المفعول الثاني، وأنت إذا قلت: أرأيتك زيدا ما فعل، و} أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ {استحال أن يكون المخاطب غائبا، فلا تكون إذا المفعول الأول، فإذا لم يكن إياه علمت أنه لا موضع له من الإعراب، وأن
"زيدًا" هو المفعول الأول، وما بعده في موضع المفعول الثاني.
وقال أبو علي: "فإن قلت: لم لا يكون "أرأيتك" من قبيل ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فيكون الأول ليس الثاني؟
قيل: ليس من تلك الأفعال، ولو كان منها لجاز أن تعديها إلى الثلاثة في غير هذا الموضع، وامتناعه من ذلك فيما عدا هذا يفسد هذا الاعتراض" انتهى ملخصا.
ولـ "أرايت" بمعني "أخبرني" أحكام تذكر إن شاء الله في "باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر".
وقوله وتتصل أيضا بـ "حيهل" و "النجاء" و "رويد" تقول حيهلك بمعنى: ائت، والنجاءك بمعنى: أسرع، ورويدك بمعنى: أمهل.
وقوله أسماء أفعال احتراز من أن يكون "النجاء" مصدرا لا يراد به اسم فعل، ومن أن يكون "رويد" لا يراد به اسم الفعل، وقد ذكرت أقسامه مستوفاة في باب أسماء الأفعال والأصوات".
وقوله وربما اتصلت ببلى وأبصر وكلا وليس ونعم وبئس وحسبت اتصالها بهذه الكلمات قليل جدا، مثال ذلك: بلاك، وأبصرك زيدا، تريد: أبصر زيدا، وكلاك، وليسك زيد قائما، قال الشاعر:
ألستك جاعلي كابني جعيل .............................
ونعمك الرجل زيد، وبئسك الرجل/ عمرو، وحسبتك عمر منطلقا، قال المصنف: "وأنشد أبو علي رحمه الله:
.............. وحنت، وما حسبتك أن تحينا
وأجاز أن تكون الكاف فيه حرف خطاب. وهو غريب. وحمله على ذلك وجود "أن" بعدها، فإنه إن لم يكن الأمر كما قال لزم الإخبار بـ "أن" والفعل عن اسم عين، وذلك لا سبيل إليه في موضع يخبر عنه فيه بمصدر صريح، نحو: زيد رضا، فكيف غي موضع بخلاف ذلك؟ " انتهى. فعلى هذا إذا كانت الكاف حرف خطاب تكون "أن" الناصبة وما بعدها سدت مسد مفعولي "حسبت"، كقراءة من قرأ} وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ {في قراءة من نصب "تكون".
ويحتمل البيت تخريجا آخر، وهو أن تكون الكاف ضميرا مفعولا أول، و "أن" زائدة، و "تحين" في موضع المفعول الثاني، فلا تكون "أن" مصدرية. وهذا على مذهب الأخفش في إجازته أن "أن" الزائدة تنصب، وقد ذكرنا ذلك في "باب إعراب الفعل وعوامله".
-[ص: وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مشارا بهما إلى ما ولياه، وقد يشار بما للواحدة إلى الاثنين وإلى الجميع.]-
ش: قال المصنف في الشرح: "من نيابه] ذي البعد عن [ذي القرب لعظمة المشير قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ، ولعظمة
المشار إليه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} ، و} فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ {بعد أن أشارت إليه النسوة بـ "هذا" إذ قلن} مَا هَذَا بَشَرًا {والمجلس واحد، إلا أن مرأى يوسف عند امرأة العزيز كان أعظم من مرآه عند النسوة، فأشارت إليه بما يشار إلى البعيد إعظاما وإجلالا.
ومثال حكاية الحال} كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ {،} فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ {.
ومثال التعاقب قوله متصلا بقصة عيسى- على نبينا وعليه السلام-} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ {، ثم قال} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ {،} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ {،} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {،} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى {،} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا {" انتهى ملخصا.
وما ذهب إليه المصنف من أنهما قد يتعاقبان، فيكون "ذلك" للحاضر بمعنى "هذا"، هو مذهب الجرجاني وطائفة، واحتجوا بقول الشاعر:
.................... تأمل خفافا، إنني أنا ذلكا
أي: أنا هذا.
قال السهيلي: وهذا باطل لأن الشاعر إنما أراد: ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به هو أنا، وإنما حداهم إلى هذا قوله تعالى} ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ {معناه عندهم: هذا الكتاب؛ ألا تراه قال في آية أخرى} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ {، فقد صار "هذا" و "ذلك" بمعنى واحد. فيقال لهم: لا سواء؛ لأن الإشارة في/ قوله} الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ {إلى ما حصل بحضرتنا، وانفصل عن حضرة الربوبية بالتنزيل، فصار مكتوبا بالحروف مقروءا بالألسنة، وصار معنى الكلام: ذلك الكتاب الذي عندك يا محمد، وإنما يقول المتكلم "هذا" لما عنده، و "ذلك" لما عند المخاطب أو عند غيره، وقوله} الم {لحروف التهجي، والتهجي وتقطيع الحروف وكتب القرآن بها حرفا بعد حرف واللفظ بها إنما هو في حقنا، وحين لم يذكر الحروف المقطعة قال} وهذا كتاب أنزلناه {لأنه عنده سبحانه على ما هو عليه حقيقة، وهو عندنا متلوا ومكتوبا على ما يليق به، فاقتضت البلاغة والإعجاز فصلا بين المقامين وتفرقة بين الإشارتين" انتهى كلامه.
وقوله وقد يشار بما للواحد إلى الاثنين والجمع من العرب من يجعل اسم الإشارة المثنى والمجموع والمؤنث كما يكون للواحد المذكر،
ومثلوا ما يقع من ذلك للاثنين بقوله تعالى} عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك {أي: بين الفارض والبكر، وقول الشاعر:
إن الرشاد وإن الغي في قرن بكل ذلك يأتيك الجديدان
وقول الآخر:
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
أي: وكلا ذينك، أي الخير والشر.
ومثلوا الإشارة بما يكون للواحد إلى الجمع بقول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس: كيف: لبيد؟
ومثله قول مسكين الدارمي:
وبينا الفتى يرجو أمور كثيرة أتى قدر من دون ذاك متاح
أي: من دون أولئك الأمور.
ويحتمل أن يكون "ذاك" في البيت عائدا على مفرد، وهو المصدر المفهوم من "يرجو" أي: من دون ذاك الرجاء.
-[ص: ويشار إلى المكان بـ "هنا" لازم الظرفية أو شبهها، معطى ما لـ "ذا" من مصاحبة وتجرد. وكـ "هنالك" "ثم" و "هنا" لفتح الهاء وكسرها، وقد يقال "هنت" موضع "هنا"، وقد تصحبها الكاف، وقد يراد بـ "هناك" و "هنالك" و "هنا" الزمان.]-
ش: "هنا" لازم الظرفية، فلا يقع فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ. ومعنى قوله "أو شبهها" هو جرها ببعض حروف الجر، نحو من وإلى، قال:
قد أقبلت من أمكنه من هنا ومن هنه
وتقول: تعال إلى هنا. ولما كانت أسماء الإشارة السابق ذكرها لا تختص، بل يشار/ بها إلى المعاني وإلى الأجرام وإلى غير ذلك ذكر هنا ما يختص ببعض الأشياء، فذكر "هنا" وأنها تكون إشارة للمكان.
وقوله معطى ما لـ "ذا" من مصاحبة وتجرد أي: من مصاحبة لـ "ها" التنبيه وكاف الخطاب، وتجرد منهما، فتقول في الإشارة إلى المكان القريب: هنا، وإلى الوسط: هناك، وإلى البعيد: هنالك. وتدخل الهاء في القرب والوسط، فتقول: ههنا وههناك كما قلت: هذا وهذاك، ولا تقول: ههنالك كما لا تقول: هذلك.
وقوله وكـ "هنالك""ثم" أي: أنها ظرف مكان يشار بها للبعيد منه، وتلتزم ظرفيته، وتجر بـ "من" وبـ "إلى"، فتقول: من ثم، وإلى ثم، قال تعالى} وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا {.
ولا يجوز أن تعرب (ثم) في الآية مفعولاً به، وإن كان قد ذهب إليه بعضهم لأن "ثم" ظرف لا يتصرف فيه بغير ما ذك رناه من حرف الجر، وإنما مفعول "رأيت" محذوف إما اختصاراً فيكون التقدير: وإذا رأيت ثم الموعود به، أو اقتصاراً أي: وإذا وقعت رؤيتك في ذلك المكان وقعت على نعيم وملك كبير.
وقوله وهنا بفتح الهاء وكسرها يعني: وتشديد النون، وحكمها حكم هنالك أنه يشار بها إلى مكان البعيد قال الشاعر:
كأن ورساً خالط ليرنا
…
خالطه من ههنا وهنا
وقال أعرابي من بني أسد:
فلما صار نصف الليل هنا
…
وهنا نصفه قسم السوي
دعوت فتي أجاب فتى دعاه
…
يلبيه أشم شمردلي
وقوله وقد يقال هنت موضعا هنا قال الشاعر:
وذكرها هنت، ولات هنت
أراد: هنا ولات هنا هكذا قال المصنف في الشرح
وقوله وقد تصحبها الكاف فتقول: هناك وهناك.
وقوله وقد يراد بهناك إلى آخره. ومن الإشارة بهنالك إلى الزمان قوله تعالى {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: في ذلك الزمان ابتلي المؤمنون، وقبله {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} الآية: وقال الأفواه:
وإذا الأمور تعاظمت وتشابهت فهناك يعترفون أين المفزع
وقال الآخر:
تلوم على أن أمنح الورد لقحة
…
وما تستوي والورد ساعة تفزع
إذا هي قامت حاسرا مشمعلة
…
نخيب الفؤاد ،رأسها ما يقنع
وقمت إليه باللحام ميسراً
…
هنالك يحزنني الذي كنت أصنع
بهذه استدل المصنف على أن "هنالك" و"هناك" قد يشار بهما إلى الزمان.
ولا حجة في ذلك لأنه يحتمل أن يشار بهما إلى المكان لأن الزمان يدل على المكان فكأنه قال: في ذلك المكان الذي كان حاكم الكفار في زمانه من فوقكم ومن أسفل منكم ابتلي المؤمنون. وكذلك تأويل الأبيات التي بعد الآية.
وقوله هنا مثال الإشارة بـ"هنا" للزمان قول الشاعر:
حنت نوار ولات هنا حنت وبدا الذي كانت نوار أجنت
فـ"هنا" عند المصنف إشارة إلى وقت وانتصب على الظرفية و"حنت" في موضع رفع بالابتداء وخبره في الظرف قبله، وأخبر عن الفعل مؤولاً بالمصدر والتقدير: ولا حنان في هذا الوقت.
وذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور إلى أن "لات" تعمل في اسم الزمان معرفة ونكرة فمن إعمالها فيه معرفة قول الأعشى:
لات هنا ذكرى جبيرة أو من جاء منها بطائف الأهوال
فـ"هنا" اسم زمان هنا مرفوع بـ"لات" و"ذكرى جبيرة" في موضع نصب على أنه خبر "لات" والتقدير: لات هنا حين ذكرى جبيرة أي: لآت هذا الحين حين ذكرى جبيرة.
وذهب بعض النحويين إلى أن "هنا" ظرف مكان بمعنى هنا، وذكرى: مبتدأ وخبره في ظرف المكان قبله، والجملة من المبتدأ والخبر منفية بـ"لا" و"هنا" تكون ظرف مكان وظرف زمان.
ونقل المصنف في الشرح أن بعض المتأخرين زعم أن "هنا" في
قوله "ولات هنا حنت" اسم "لات" والتقدير: ليس ذلك الوقت وقت حنت أي: وقت حنان. وقال في الشرح رادا عليه: "هذا الاستعمال مخالف لاستعمال لات ولاستعمال هنا ، أما استعمال لات فإن اسمها لا يكون إلا حين محذوفاً كقوله تعالى {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: ليس الحين حين مناص وهنا بخلاف ذلك، فلا تكون اسم لات. وأما استعمال هنا فإنها ملتزم فيها الظرفية ولا تفارقها إلا بدخول من أو إلى عليها، وارتفاعها على أن تكون اسم لات مخرج لها عما استقر فيها من الظرفية، فلا يصح" انتهى.
وما ذهب إليه من أن اسم "لات" لا يكون إلا الحين محذوفاً واستدلاله بالآية فليس كما ذكر، ألا ترى أن س حكي أنها ترفع الحين مثبتاً ومن ذلك قراءة بعضهم {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بالرفع.
وأما قوله"إن هنا ملتزم فيها الظرفية" فهذا ابن عصفور يخالفه في ذلك، ويزعم أن "لات" تعمل في اسم الزمان معرفة ونكرة وجعل "هنا" اسم " لات" وهذا كله مبني على أن "لات" تعمل، وأنها إذا عملت فتعمل عمل "ليس" وهذا فيه خلاف، وقد أمعنا الكلام في ذلك في " فصل ما" عقب" باب كان".
-[ص: وبني اسم الإشارة لتضمن معناها أو لشبه الحرف وضعاً وافتقاراً.]-
ش: الإشارة معنى من المعاني التي عبر عنها بالحروف كالاستفتاح
والتنبيه والترجي والتشبيه والنفي وغير ذلك من المعاني، فكان المناسب أن يوضع للإشارة حرف يدل عليها، لكن العرب لم تضع لها حرفاً يدل عليها، فلما تضمن اسم الإشارة معنى الحرف المتوهم، كما بينت أسماء الشرط وأسماء الاستفهام لما تضمنت معنى حرف الشرط وحرف الاستفهام. قال المصنف:" وهذا السبب يقتضي بناء كل اسم إشارة لكن عارضه في زين وتين شبههما بمثنيات الأسماء المتمكنة فأعربا" انتهى. وذان وتأن عند المحققين صيغ تثنية لا تثنية حقيقة وقدم لنا تبيين ذلك.
وأما شبه الحرف وضعاً فهو ما منها على حرفين نحو" ذا" و"ذي" وأشبهت الحروف بذلك فبنيت وحملت البواقي عليها لأنها فروع لها أو كالفروع ، نحو"هنا" وأخواتها فإنها ليست فروعاً لـ"ذا" و"ذي" لكنها كالفروع إذ قد يستغني عنها بـ"ذا" و"ذي".
وأما شبه الحرف افتقاراً فالمراد به هنا حاجة اسم الإشارة في إبانة مسماه إلى مواجهة أو ما يقوم مقامها مما يتنزل منه منزلة الصلة من الموصول وهذا سبب عام في جميع أسماء الإشارة.
وأما س فاعتل لبنائها بشدة توغلها في الإبهام فأشبهت الحروف، ألا ترى أن "من" تبعيض على الإطلاق وأي شيء أردت تبعيضه أتيت بـ"من" كما أن "ذا" يشار به إلى كل موجود ولا يختص موجوداً دون آخر.
واعتل ابن الطراوة لبنائها بعدم النقار على مسماها ألا ترى أن "ذا" لا يقع إلا في حالة الإشارة ولا يلزم لزوم "زيد" و"عمرو" الذي ليس موضوعاً
لمعنى، فيزول بزواله.
ورد عليه بأنه يلزمه أن تبني الصفات أجمع لأن ضاربا لا يكون مطلقاً على من اتصف به إلا ما دام موصوفاً به موجوداً فيه ذلك الوصف. وأما من علل بالافتقار لمشار فليس بشيء لأنه ميماها وكل اسم مفتقر إلى مسماه.