المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب المبتدأ - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب المبتدأ

/ص:‌

‌ باب المبتدأ

وهو ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا من مخبر عنه، أو وصف سابق رافع ما انفصل وأغنى، والابتداء كون ذلك كذلك، وهو يرفع المبتدأ، والمبتدأ الخبر، خلافا لمن رفعهما به أو بتجردهما للإسناد، أو رفع بالابتداء المبتدأ وبهما الخبر، أو قال ترافعا. ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل، ولذلك لا يصغر ولا يوصف ولا يعرف ولا يثنى ولا يجمع إلا على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة". ولا يجري ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي، خلافا للأخفش، وأجري في ذلك "غير قائم" مجرى "ما قائم".

ش: قوله "ما" يشمل الاسم والمقدر به، نحو} وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ {أي: صومكم. ويشمل المخبر عنه في نحو: زيد قائم، والوصف الذي ذكر نحو: ما قائم الزيدان، فزيد وقائم لم يدخل عليهما عامل لفظي حقيبة. والذي لم يدخل عليه عامل لفظي حكما هو ما جر بـ "من" الزائدة أو بالباء، نحو} هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ {و: بحسبك درهم، فـ (خالق) و "حسبك" مبتدآن، وقد عدما عاملا لفظيا حكما لا حقيقة لأنهما قد دخل عليهما عامل لفظي حقيقة، لكنه جعل دخوله كلا دخول، ولا يختص ذلك

ص: 250

بحرف الجر الزائد كما ذكره المصنف وغيره، بل من الحروف ما ليس بزائد، وجعل حكمه في دخوله على المبتدأ حكم الحرف الزائد، وذلك "رب"، تقول: رب رجل عالم أفادنا، فـ "رجل" موضعه رفع بالابتداء، وهو مبتدأ، وقد جر بحرف جر غير زائد، وسيذكر ذلك في "حروف الجر" إن شاء الله.

وشمل قوله "من مخبر عنه" ما أخبر عن لفظه نحو: زيد ثلاثي، و {وأَن تَصُومُوا} ناصب ومنصوب، وعن مدلوله نحو: ويد قائم، و {وأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: صومكم، فـ "خير" خبر عن (أن تصوموا) باعتبار المعنى.

قال المصنف في الشرح: "ومن الإخبار باعتبار المعنى والمخبر عنه في اللفظ غير اسم قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه" انتهى.

وظاهر كلام المصنف أن (سواء) خبر مقدم، والجملة في موضع المبتدأ. وقد أجازوا العكس، وهو أن يكون (سواء) مبتدأ، والجملة موضع الخبر. والقولان عن أبي علي الفارسي. وقال في "الإغفال":(سواء) مبتدأ، والجملة خبره، ولم تحتج لضمير لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل. وبه قال الزجاج.

وأجاز بعض النحويين أن يكون (سواء) مبتدأ، والجملة في موضع/ الفاعل المغني عن الخبر، والتقدير: استوى عندي أقمت أم قعدت،

ص: 251

فيكون نحو قولهم "نولك أن تفعل" لما كان في معنى "ينبغي".

وأكثر ما جاء "سواء" بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بـ "أم"، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، نحو قوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) أي: سواء عليكم أصبرتم أم لم تصبروا.

ويأتي بعدها الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء على أي الرجال ضربت، قال:

سواء عليه أي حين أتيته أساعة نحس تتقى أم بأسعد

وقد جاء بعد ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال:

....... سواء صحيحات العيون وعورها

وأشعر قول المصنف "عاملًا لفظيًا" بان له عاملًا معنويًا.

وقوله من مخبر عنه احتراز من المضارع العاري من ناصب وجازم، فإنه يصدق عليه أنه عدم عاملًا لفظيًا حقيقة.

وقوله أو وصف المراد ما كان كضارب ومضروب من الأسماء المشتقة أو الجاري مجراها باطراد، نحو: أقائم الزيدان؟ وما مضروب العمرون، وما ذاهبة جاريتاك، وما قرشي أبواك، وما كريمةٌ نساؤكم،

ص: 252

وأقرشي قومك؟ وأقرشي أبواك؟ قال س: "ومن قال: أذهب فلانة؟ قال: أذهب فلانة؟ وأحاضر القاضي امرأة؟.

ويرد على المصنف مسألة "لا نؤلك أن تفعل"، فإن "نؤلك" ليس وصفًا، وقد جعلوه بمنزلة: أقائك الزيدان؟، فنولك: مبتدأ، وأن تفعل: فاعل به؛ إذ معناه: لا ينبغي لك أن تفعل. وقد حكي "نؤلك أن تفعل" دون "لا"، بمعنى: ينبغي لك أن تفعل، فهو من باب "قائم الزيدان" في مذهب أبي الحسن.

وقوله سابق احتراز من نحو: أخواك خارج أبوهما.

وقوله رافع يشمل ما رفع الفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله.

وقوله ما انفصل احتراز من المتصل، فإن هذا الوصف المبتدأ لا يسد الضمير المتصل فيه مسد الخبر. وشمل قوله "ما انفصل" الاسم الظاهر، نحو قول الشاعر:

أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنًا إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا

وقال آخر:

أمرتجع لي مثل أيام حنة وأيام ذي قار على الرواجع

والضمير المنفصل. وفي هذا الوصف الضمير المنفصل خلاف:

ص: 253

ذهب البصريون إلى جواز ذلك، فيقولون: أذاهب أنتما؟ وما ذاهب أنتم.

وذهب/ الكوفيون إلى منع ذلك، فإذا قلت: أقائم أنت؟ جعلوا قائمًا خبرًا مقدمًا، وأنت مبتدأ. والبصريون يجيزون هذا الوجه، ويجيزون أن يكون أنت فاعلًا بقائم. وثمرة الخلاف تظهر في التثنية والجمع، فالكوفيون لا يجيزون إلا: أقائمان أنتما؟ وأقائمون أنتم؟

واحتج الكوفيون لمذهبهم بأن هذا الوصف إذا رفع الفاعل الساد مسد الخبر كان جاريًا مجري الفعل، والفعل لا ينفصل منه الضمير في قولك: أيقومان؟ وأيقومون؟ فلا ينبغي أن ينفصل مما جرى مجراه، وإن لم يجز انفصاله وجب أن يقال: أقائمان أنتما؟ وأقائمون أنتم؟ حتى يكون الضمير الذي في "قائم" متصلًا به كاتصاله بالفعل في أيقومان؟ وأيقومون؟ إلا أن الفعل مستقل بنفسه، والاسم الذي فيه ضمير مستتر غير مستقل بنفسه، فلذلك احتاج إلى مرافع، وهو أنتما وأنتم.

والصحيح ما ذهب إليه البصريون. واستدلوا على ذلك بالقياس والسماع.

أما القياس فهو أن الصفة إذا جرت على غير من هي له برز منها الضمير المرفوع بها، نحو: زيد هند ضاربها هو، بلا خلاف بين أحد من النحويين في جواز ذلك، مع أنها إذ ذاك جارية مجرى الفعل، ولو وقع الفعل موقعه لم يبرز الضمير فيه، بل كنت تقول: زيد هند يضربها. فكما خالف اسم الفاعل الفعل في هذا الموضع مع أنه جار مجراه، فكذلك لا ينكر أن يخالف اسم الفاعل الفعل بانفصال الضمير منه في "أقائم أنتما" وشبهه.

ص: 254

وأما السماع فقول الشاعر:

خليلي ما واف بعهدي أنتما إذا لم تكونا لي على من أقطاع

وقول الآخر:

فما باسط خيرًا، ولا دافع أذى من الناس إلا أنتم آل دارم

في "أنتما" مرفوع بـ "واف"، و"أنتم" مرفوع بـ "باسط" أو بـ "دافع"، وهما ضميران منفصلان لم يطابقا الوصف، فلو عطفت على هذا الوصف بـ "بل" انفصل الضمير، فتقول: أقائم الزيدان بل قاعد هما؟ قاله المزني. ولو قال قائل "زيد قائم" لجاز أن تقول منكرًا عليه: أقائم هو؟ ترفع "هو" بـ "قائم". وتقول: "أقائم أخواك أم قاعد؟ هذا القياس والوجه. وحكى أبو عثمان: "أم قاعدان"، فأضمر المتصل على حد ما يضمر في اسم الفاعل، وعلى هذا قول الشاعر:

أناسية ما كان بيني وبينها وتاركة عقد الوفاء ظلوم

فأيهما أعمل في "مظلوم" من اسمي الفاعل لزم الإضمار في الآخر منفصلًا، لكن البيت/ جاء على ما حكاه أوب عثمان.

وقوله وأغنى يغني وأغنى عن الخبر. واحترز من نحو: أقائم أبواه زيد؟ فإن الفاعل فيه غير مغن، إذ لا يحسن السكوت عليه، فزيد: مبتدأ، وقائم: خبر مقدم، وأواه: مرتفع به. قال المصنف: "ويجوز أن يكون "قائم"

ص: 255

مبتدأ و"زيد" خبر، مع أن قائمًا نكرة وزيد معرفة، كما قال س في: مررت برجل خير منه أبوه، فـ "خير" عنده مبتدأ، و"أبوه" خبره. ويأتي بيان مثل هذا إن شاء الله".

وأورد على المصنف أنه إذا كان "أقائم" مبتدأ، و"أبواه" فاعل به، و"زبد" خبر "أقائم"، لزم من ذلك أن يكون المبتدأ قد اشتمل بمتعلقة على ضمير يعود على الخبر، وهو متأخر لفظًا ورتبة، وذلك لا يجوز لأنه ليس من المواضع التي يفسر فيها الضمير ما بعده.

واعترض على هذا الرد بأنه مثل ما أجاز أبو الفتح في قولهم: "ضرب غلامه زيدًا"؛ لأن الضمير فيه عاد على ما بعده لفظًا ورتبة، وهو المفعول لأنه متأخر لفظًا ورتبة.

وقد ذهل المصنف والراد عليه والمعترض عن قاعدة في الباب، وهو أن هذا الوصف القائم مقام الفعل لا يكون مبتدأ حتى يكون مرفوعة أغنى عن الخبر؛ لأن مرفوعة هو المحدث عنه، فلا يجتمع هو وخبر عن الوصف، و"أبواه" في هذه الصورة لا يغني عن الخبر لأنه لا يستقل مع الوصف كلامًا من حيث الضمير، فلا يجوز في الوصف أن يكون مبتدأ البتة، فيتعين أن يكون خبرًا مقدمًا، و"أبواه" فاعل به، و"زيد" مبتدأ.

وهذا الحد الذي ذكره المصنف فيه إبهام بلفظ "ما"، وترديد في قوله "أو حكمًا"، وفي قوله "أو وصف" حيث أتى بـ "أو". ثم هو حد يخالف فيه الكوفيون، فإنهم يزعمون ان المبتدأ مرفوع بالخبر، فإذا ما عدم عاملًا لفظيًا.

وقد حددته بحد مختصر، وهو: المبتدأ هو الاسم المنتظم منه مع

ص: 256

اسم مرفوع به جملة". فقولي "المنتظم" يشمل المخبر عنه والوصف الرافع للمنفصل المغني. وقولي "مع اسم مرفوع به" يشمل الخبر المسند للمبتدأ، فإنه مرفوع بالمبتدأ على ما يبين، والمرفوع بالوصف فاعلًا او مفعولًا لم يسم فاعله. وقولي "جملة" يشمل مثل: زيد قائم، وأقائم زيد، وأبوه قائم، من قولك: زيد أبوه قائم. واحترز بقوله "جملة" من نحو "قائم أبوه" من قولك: زيد قائم أبوه، فإن قولك "قائم أبوه" لا يسمى جملة.

وقوله والابتداء كون ذلك كذلك ذلك: إشارة إلى ما عدم عاملًا لفظيًا، وكذلك: إشارة إلى القيود التي قيد بها كل واحد من المخبر عنه ومن الوصف.

وقوله وهو يرفع المبتدأ، والمبتدأ الخبر أي: والابتداء يرفع المبتدأ، هذا مذهب س، نص عليه/، قال:"وأما الذي يبنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق، ارتفع بعبد الله لأنه ذكر ليتبني عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبني على المبتدأ بمنزلته" انتهى. وبقول س قال جمهور البصريين، وهو أن العامل في المبتدأ بالابتداء، وفي الخبر المبتدأ. ونسب أيضًا هذا المذهب إلى المبرد.

وقد رد مذهب س، وقيل: هو باطل بدلائل.

أحدهما: أن المبتدأ قد رفع فاعلًا نحو: القائم أبوه ضاحك، فلو كان

ص: 257

رافعًا للخبر لأدى ذلك إلى إعمال عامل واحد في معمولين رفعًا من غير أن يكون أحدهما تابعًا للآخر، وذلك لا نظير له، وإذا لم يوجد في العوامل المتصرفة فكيف فيما يقصر عنها؟

والثاني: أن المبتدأ قد يكون اسمًا جامدًا، نحو "زيد"، والعامل إذا كان غير متصرف لم يجز تقديم معموله عليه، والمبتدأ يجوز تقديم الخبر عليه، فدل ذلك على أنه غير عامل فيه.

والثالث: أن المبتدأ قد يكون ضميرًا، والضمير لا يرفع إذا كان ضميرًا ما يعمل، فكيف إذا كان ضمير ما لا يعمل.

قال شيخاي أبو الحسن الأبذى وأبو الحسن بن الضائع: ما رد به على س لا يلزم:

أما الأول فلا يلزم لأن طلبه للفاعل يخالف طلبه للخبر، فقد اختلفت جهتا الطلب، وإنما يمتنع أن يعمل في فاعلين أو مفعولين بهما إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد، وأما إذا عمل رفعين من وجهتين مختلفين فلا مانع من ذلك.

وأما الثاني- وهو أن العامل إذا لم يتصرف فيه نفسه لم يتصرف في معموله- فإنما ذلك فيما كان من العوامل محمولًا على الفعل ومشبهًا به، والمبتدأ ليس من ذلك القبيل لأن عمله متأصل؛ لأنه إنما يعمل فيه لطلبه له كما يعمل الفعل في الفاعل لطلبه له، ولذلك لا أثر للتقدم هنا لهذا المعنى.

ص: 258

وأما الثالث فلا يلزم إلا لو كان المبتدأ يعمل بالحمل على الفعل أو بالنيابة منابه، وأما وهو يعمل بحق الأصالة فلا فرق فيه بين الظاهر والمضمر، والجامد والمشتق، وإنما يعتبر هذا الذي ذكروه بالنسبة إلى الأفعال المتصرف منها وغير المتصرف، أو لما ينوب مناب الأفعال من الأسماء.

وقوله خلافًا لمن رفعهما به أي: رفع المبتدأ والخبر بالابتداء، وهذا قول ابن السراج، وهو مذهب الأخفش والرماني.

قال المصنف في الشرح: وهذا لا يصح لأربعة أوجه:

أحدهما: أن الأفعال أقوى العوامل، وليس منها ما يعمل رفعين دون إتباع، فالمعنى إذا جعل عاملًا كان أضعف العوامل، فكان أحق بأن لا يعمل رفعين/ دون إتباع.

قلت: قد عد بعض النحويين رفع خبر المبتدأ على أنه إتباع لرفع المبتدأ، فعلى هذا يكون قد عمل العامل المعنوي رفعين بالإتباع، كما عمل العامل اللفظي رفعين بالإتباع.

الثاني: أن المعنى الذي ينسب إليه العامل، ويمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه كالتمني والتشبيه، أقوى من الابتداء لأنه لا يمنع وجود دخول عامل على مصحوبه، والأقوى لا يعمل إلا في شيء واحد، وهو الحال، فالابتداء الذي هو أضعف أحق بأن لا يعمل إلا في شيء واحد.

ص: 259

قلت: لا نسلم أن التمني والتشبيه لا يعمل إلا في شيء واحد، بل قد عمل في الاسم والخبر وفي الحال، فهذه ثلاثة، والابتداء قد عمل في اثنين المبتدأ والخبر، فقد انحط عن العامل اللفظي درجة.

الثالث: أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ لأن المبتدأ مشتق منه، والمشتق يتضمن معنى ما اشتق منه، وتقديم الخبر على المبتدأ ما لم يعرض مانع جائز بالإجماع من أصحابنا، فلو كان الابتداء عاملًا في الخبر لزم من جواز تقديمه على المبتدأ تقديم معمول العامل المعنوي الأضعف، وتقديم معمول العامل المعنوي الأقوى ممتنع، فما ظنك بالأضعف؟

قلت لا يلزم ما ذكر لانا لا نسلم أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ فقط، بل هو معنى قائم بهما معًا، وإن الابتداء وقع بهما معًا، وإذا كان كذلك فلم يتقدم معمول العامل المعنوي الأضعف كما ذكر، وإنما تقدم أحد معمولي الابتداء على الآخر، إذ ليس معنى الابتداء قائمًا بالمبتدأ وحده دون الخبر.

الرابع: أن رفع الخبر عمل وجد بعد معنى الابتداء ولفظ المبتدأ، فكان بمنزله وجود الجزم بعد مضي معنى الشرط والاسم الذي تضمنه، فكما لا ينسب الجزم لمعنى الشرط بل للاسم الذي تضمنه، كذلك لا ينسب رفع الخبر للابتداء بل للمبتدأ.

قلت: هذا يبتنى على أن الابتداء هو معنى حل بالمبتدأ فقط، وقد منعا ذلك.

قال المصنف في الشرح: "وأمثل من قول من قال الابتداء يرفع

ص: 260

المبتدأ والخبر معًا قول أبي العباس: "الابتداء رفع المبتدأ بنفسه، ورفع الخبر بواسطة المبتدأ". وهو أيضًا مردود لأنه قول يقتضي كون العامل معنى متقويًا بلفظ، والمعروف كون العامل لفظًا متقويًا بلفظ كتقوى الفعل بواو المصاحبة، أو كون العامل لفظًا متقويًا بمعنى كتقوى المضاف بمعنى اللام أو معنى من، فالقول بأن الابتداء عامل مقوى بالمبتدأ لا نظير له، فوجب رده. وقد جعل بعضهم نظير ذلك إعمال أداة الشرط بنفسها، وفي الجواب بواسطة فعل الشرط. وليس كما زعم لأن أداة الشرط وفعله لفظان، فإذا قوي أحدهما بالآخر لم يكن/ بدعًا، وأما الابتداء والمبتدأ فمعنى ولفظ، فلو قوي اللفظ بالمعنى لكان قريبًا، بخلاف ما يحاولونه من العكس، فإنه بعيد، ولا نظير له" انتهى.

وقيل: قول أبي العباس وس واحد في أن المبتدأ رافع الخبر، قال أبو العباس في النداء وقد مثل بـ "زيد منطلق": فقد عمل زيد في منطلق عمل الفعل، ولا يجوز أن يدخل عامل على عامل، ولكنك تحكيه، كما انك لو سميت رجلًا "قام زيد" لقلت: يا قام زيد.

وقوله أو بتجردهما للإسناد يعني بتجردها للإسناد تعريهما من العوامل اللفظية، وهذا مذهب الجرمي والسيرافي وكثير من البصريين، وذكر

ص: 261

الفراء أنه مذهب الخليل، وأصحاب الخليل لا يعرفون هذا.

قال المصنف في الشرح: "هو مردود أيضًا بما رد له قول من قال هما مرفوعان بالابتداء، وفيه رداءة زائدة من ثلاثة أوجه:

أحدها: انه يجعل التجرد عاملًا، وإنما هو شرط في صحة عمل الابتداء، والابتداء هو العامل س وغيره من المحققين.

قلت: هذا ينعكس بقول: التجرد والتعرية هو العامل، والابتداء شرط في عمل التجرد.

الثاني: أنه جعل تجردهما واحدًا، وليس كذلك، فإن تجرد المبتدأ تجرد لإسناد إليه، أو إسناده إلى ما يسد مسد مسند إليه، وتجرد الخبر إنما هو ليسند إلى المبتدأ، فيبين التجردين بون، فكيف يتحدان؟

قلت: اتحدا من حيث الدلالة والاشتراك في القدر المشترك دون ما يخص كل واحد منهما، فليسا تجردين، وإنما هو تجرد واحد بالنسبة إلى القدر المشترك.

الثالث: أنه أطلق التجرد، ولم يقيده، فلزم من ذلك أن لا يكون مبتدأ ولا خبر ما جر منهما بحرف زائد، نحو: ما فيها من أحد، و:

...............

هل أخو عيش لذيذ بدائم"

قلت: لا يحتاج إلى تقييد لأنه قد تقرر أن العامل الزائد كلًا عامل في

ص: 262

باب الفاعل، وفي باب المبتدأ، وفي غير ذلك، فلا حاجة لتقييده.

وقد صحح الأستاذ أو الحسن بن عصفور وبعض شيوخنا هذا المذهب، وزعموا أن التعري هو الرافع للمبتدأ والخبر. واستدلوا على ذلك بأنه قد وحد التعري عن العوامل رافعًا للاسم بشرط أن يكون المعرى قد ركب من وجه ما، حكي س أنهم يقولون: واحد، واثنان، وثلاثة، وأربعة، إذا عدوا، ولم يقصدوا الإخبار بأسماء العدد ولا عنها، وذلك مع التركيب بالعطف، فإن لم يعطف بعضها على بعض كانت موقوفة، فقلت: واحد، اثنان/، ثلاثة، فكذلك المبتدأ والخبر ارتفعا مع تركيب المبتدأ بالإخبار عنه، وتركيب الخبر بالإخبار به.

وذهب ابن كيسان إلى أن هذا المذهب يفسده كون ذلك مؤديًا إلى أن يكون وجود العامل أضعف من عدمه إن قدرت التعرية عن عامل نصب أو خفض؛ لأن التعرية تعمل رفعًا، ووجود العامل الذي قدرت التعرية عنه يعمل نصبًا أو خفضًا، وعامل الرفع أقوى من عامل النصب والخفض؛ إذ قد يعمل النصب والخفض معنى الفعل، وليس كذلك الرفع. وإن قدرت التعرية عن عامل رفع كان وجود العامل وعدمه سواء، وإنما ينبغي أن يكون الشيء موجودًا أقوى منه معدومًا.

قال الأستاذ أبو الحسن: "وهذا باطل لأنا لا نعني بالتعرية أكثر من أن الاسم المبتدأ لا عامل له، وإنما كان يلزم ما ذكر لو قدرنا أنه قد كان له

ص: 263

عامل، ثم حذف".

وقوله أو رفع بالابتداء المبتدأ، وبهما الخبر أي أن المبتدأ ارتفع بالابتداء، وارتفع الخبر بالابتداء والمبتدأ معًا. وقد نسب هذا المذهب إلى أبي العباس، وهو قول أبي إسحاق وأصحابه.

ورد بأنه يؤدي إلى منع تقديم الخبر لأنه لا يتقدم المعمول إلا من حيث يكون العامل لفظًا متصرفًا.

ولا يرد هذا المذهب بأنه يؤدي إلى إعمال عاملين في معمول واحد؛ لأنه لا يجعل الابتداء عاملًا على انفراده، والمبتدأ كذلك، بل يكونان العامل في الخبر، وقد تنزلا منزلة الشيء الواحد.

وقوله أو قال ترافعا يعني أن المبتدأ رفع الخبر، والخبر رفع المبتدأ. وهذا القول مروي عن الكوفيين.

وأطلق المصنف ترافعهما، وقيده غيره، فحكي أن المبتدأ مرفوع بالذكر الذي في الخبر، فإذا لم يكن ثم ذكر ترافعا، أي: رفع كل واحد منهما الآخر. قال: وهذا مذهب الكوفيين. وكأنهم حين قالوا "زيد ضربته" وجدوه مرفوعًا، فلما زال الضمير انتصب "زيد"، فقالوا: زيدًا ضربت، نسبوا الرفع للضمير، فعندما وجدوا الرفع فيما لا ضمير فيه أصلًا نحو "القائم زيد"

ص: 264

قالوا: ترافعا.

ورد هذا الحاكي هذا المذهب، فقال: وهذا خطأ لأن الضمير اسم جامد، والأسماء الجامدة لا تعمل. قال: وأما بطلان الترافع فبهذا، وبأن المبتدأ قد يرفع غير الخبر، والخبر كذلك قد يرفع غير المبتدأ، نحو: القائم أبوه ضاحك أخوة، فيؤدي ذلك إلى أن يعمل الاسم رفعين من غير حرف تشريك.

ومن الموضح أن الكوفيين ذهبوا في مثل "زيد قائم" إلى أن زيدًا مرفوع بلفظ "قائم"، و"قائم" مرفوع بزيد، والضمير رفع بمعنى "قائم" و"قائم" ينوب مناب اسم/ وفعل جميعًا، لا ينفصل الاسم من الفعل، ولا الفعل من الاسم. وقيل: يرتفع بالعائد من الذكر، وهو أيضًا مروي عن الكوفيين.

فتلخص عن الكوفيين مذهبان:

أحدهما: أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ مطلقًا، وسواء أكان في الخبر ذكر للمبتدأ أم لا يكون له ذكر.

والثاني: التفصيل بين أن يكون له ذكر، فيكون المبتدأ مرفوعًا بذلك الذكر، أو لا يكون، فيكون مرفوعًا بالخبر.

وقد رد الناس على الكوفيين هذا المذهب، فذكرنا رد حاكي التفصيل. وقال من رد هذا المذهب: هذا فاسد- أعني رفع الخبر للمبتدأ- لأن الخبر

ص: 265

قد يكون جامدًا، والجامد لا يعمل. ولأن رتبته بعد المبتدأ، ورتبه العامل قبل المعمول، فتنافيا. ولأنه يكون فعلًا، فلو عمل في المبتدأ لكان فاعلًا. ولأن الضمير قد يكون في الصلة، فلو عمل لعمل فيما قبل الموصول. ولأن الخبر كالصفة، ولا تعمل في الموصوف، فكذلك الخبر. ولأن العامل اللفظي يؤثر في المبتدأ، والخبر لفظي، والعامل اللفظي لا يبطل بالعامل اللفظي.

وقال المصنف في الشرح- وقد حكي مذهب الكوفيين- قال: "وهو مردود لأنه لو كان الخبر رافعًا للمبتدأ كما أن المبتدأ رافع للخبر لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية؛ لأن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، فكان لا يمتنع "صاحبهما في الدار" كما لم يمتنع "في داره زيد"، وامتناع الأول وجواز الثاني دليل على أن التقديم لا أصلية للخبر فيه" انتهى.

ورد عليهم أيضًا بان قيل: العمل تأثير، والمؤثر أقوى من المؤثر فيه، فيفضي مذهبهم إلى أن يكون الشيء قويًا ضعيفًا من وجه واحد إذا كان مؤثرًا فيما أثر فيه. انتهى ما نقلناه من الرد على الكوفيين.

والذي نذهب إليه ونختاره- وهو الذي يقتضيه النظر- قول الكوفيين في أن كلا منهما رافع للآخر، وذلك أن كلا منهما يقتضي الآخر، وما كان مقتضيًا لشيء، وليس بمستقل، فينبغي أن يكون عاملًا فيه. ونحن نرد جميع ما احتج به على بطلان هذا المذهب.

أما الرد أولًا بـ "أن كلا منهما قد يرفع غير الآخر، فيؤدي إلى إعمال عامل رفعين من غير تشريك" فهذا لا يلزم إلا لو اتحداك جهتا الرفع، أما إذا اختلفت بأن رفع أحدهما على جهة الفاعلية، والآخر على غير جهة الفاعلية،

ص: 266

فلا يمنع، وقد ذكرنا ذلك في الرد على س في أن المبتدأ يرفع بالخبر.

وأما من رد بـ "أن الخبر قد يكون جامدًا، والجامد لا يعمل" فهذا لا يلزم إلا في الأفعال أو ما عمل لشبهه بها أو لنيابة منابها/، وقد تقدم ذلك أيضًا.

وأما من قال: "رتبة بعد المبتدأ، ورتبة العامل قبل المعمول، فتنافيا فهذا منقوض بما وقع الاتفاق عليه من قولهم: أيًا تضرب أضرب، فرتبة فعل الشرط بعد أداته، وهو عامل في اسم الشرط، ولا يلزم أن تكون رتبته قبل اسم الشرط، فلا تنافي ذلك.

وأما قولهم "إن يكون فعلًا، فلو عمل في المبتدأ لكان فاعلًا" فليس بصحيح، ليس الفعل الواقع خبرًا هو العامل في المبتدأ، بل الاسم الذي وقع الفعل خبرًا هو العامل في المبتدأ لم يلزم أن يكون المبتدأ فاعلًا؛ لأنه رفعه على جهة الخبرية بالنيابة عن الاسم، فلا يكون فاعلًا.

وأما قولهم "ولأن الضمير قد يكون في الصلة، فلو عمل لعمل فيما قبل الموصول" فهذا لا يلزم لأني لم أختر أن المبتدأ يرفع بالضمير الذي في الخبر، وإنما قولنا: إن الخبر رافع للمبتدأ.

وأما قولهم "إن الخبر كالصفة" فليس الخبر كالصفة، لا يشبه شيء هو أحد ركني الإسناد بشيء غير مفتقر إليه في كيفية الإسناد.

وأما قولهم "إن العامل اللفظي" إلى آخره، فنحن نجد العامل اللفظي يبطل عمله بالعامل اللفظي، تقول: ما قام رجل، فرجل مرفوع بقام، وليس

ص: 267

زيدٌ قائمًا، فقائمًا منصوب بليس، ثم تدخل من على "رجل"، والباء على "قائم" فبطل عمل العامل اللفظي، "وهو قان" و"ليس".

وأما رد المصنف بـ "أنه لو كانا مترافعين لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية" إلى آخره، فهو منقوض باسم الشرط وفعله، فلا يلزم من ذلك أن يكون أصل كل عامل أن يتقدم على معموله. وأما امتناع: صاحبها في الدار، وجواز: في دار زيد، فليس مبنيًا على ما ذكره المصنف من أن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، وإنما ذلك لأن وضع الخبر أن يكون ثانيًا للمبتدأ لفظًا أو نية، والمبتدأ أول لفظًا أو نية لا من حيث العمل بل من حيث ترتيب الإسناد؛ لأن الأصل في الوضع أن يطابق المعنى للفظ، فتبدأ أولًا بالمسند إليه الحكم، وتأتي ثانيًا بالمسند لأنه حديث عنه، ولذلك كان باب وضع الفاعل على خلاف الأصل؛ لأنه ليس بالمعنى فيه مطابقًا للفظ؛ لأنك بدأت أولًا بالمسند، ثم أتيت بالمسند إليه، فلما اتصل بالمبتدأ ضمير شيء هو في الخبر، كان مفسره متأخرًا عنه لفظًا ونية إذ وقع في موضعه ثانيًا، وهو أصله، فلم تجز المسألة إذ ليست من المواضع المستثناة في تفسير المضمر بما بعده، وأما جواز "في داره زيد" فإن مفسره وإن تأخر لفظًا فهو مقدم رتبة، و"في داره" وإن تقدم لفظًا فهو مؤخره/ رتبة، فلما كانت النية به التأخير جاز ذلك.

وأما قولهم "العمل تأثير" إلى آخره فليس قويًا ضعيفًا من وجه واحد، بل اختلفت جهتا القوة والضعف؛ لأن طلب المبتدأ للخبر غير جهة طلب الخبر للمبتدأ، كما جاز ذلك في اسم الشرط وأداته.

وقد رام بعض النجاة أن يفرق بين عمل المبتدأ والخبر وبين أداة

ص: 268

الشرط وفعله بأن العمل في مسألة المبتدأ والخبر واحد، يعني رفعًا، وعمل أداة الشرط وفعله مختلف، إذ عمل الأداة جزمًا، وعمل الفعل نصبًا، فلذلك جاز في أداة الشرط وفعله، ومنعناه في المبتدأ والخبر.

وهذه التفرقة لا أثر لها لأن جهة الرفع مختلفة، فلا فرق بينهما. نعم لو كان الرفع من جهة واحدة لا متنع إن لم يكن بتشريك.

وأما عن زعم من النحويين أن الجزم في فعل الشرط ليس بأداة الشرط إذا كانت اسمًا، بل الجازم هو "إن" مقدره قبل أداة الشرط الاسمية، ولا يجوز أن تظهر كما لم يجز إظهار "أن" مع "حتى"، فإذا قلت "من يقم أقم معه" فـ "إن" مقدره قبل "من"، وعلى هذا لا يلزم أن يكون كل واحد من اسم الشرط وفعله عاملًا معمولًا؛ إذ النصب في اسم الشرط في نحو "أيًا تضرب اضربه" بـ "تضرب"، والجزم في "تضرب" بـ "إن" مقدرة قبل "أي". فهذا الزعم باطل لأن النحويين ذكروا أن "من" و"ما" وما أشبههما من أسماء الشرط بنيت لتضمنها معنى حروف الشرط، ولولا تضمنها معناه لم تبن، فإذا كان حرف الشرط مقدرًا قبلها لم تضمنه، فيلزم أن تكون معربة، وأيضًا فما ادعاه من التقدير لم يلفظ به في موضع من المواضع.

وكذلك أيضًا تفرقة من فرق البابين بأن عمل اسم الشرط هو بالنيابة عن الحرف، وعمله في الفعل ضعيف، وهو الجزم، بخلاف المبتدأ والخبر، لا أثر لها؛ لأنه لا فرق في التأثير بين أن يكون بالحرف أو بالاسم الذي تضمنه إذ الكل عمل.

وكذلك أيضًا لا فرق بين الرفع والنصب والجر والجزم إذا الكل بعوامل تقتضيها، ولا تقول إنها من حيث العمل أحدها أقوى من الآخر؛ لأنَّ

ص: 269

المؤثرات -وإن اختلفت آثارها- هي مشركة في القدر المشترك، وهو التأثير.

وإنما اخترنا مذهب الكوفيين لأنه جار على القواعد؛ إذ أصل العمل إنما هو للفظ، ولم نجد إلا مبتدأ وخبرًا، ووجدناهما مرفوعين، وأمكن أن ينسب العمل لكل منهما في الآخر؛ إذ قد اختلفت جهتا الاقتضاء، كما وجدنا ذلك فيما هو متفق عليه أو كالمتفق من اسم الشرط وفعله، وكان في ذلك بقاء على أن العامل لفظي دون ادعاء ما لا يصح من أن يكون العامل معنويًا، كمن ذهب إلى أن العامل في المبتدأ بالابتداء، أو من ذهب إلى الإسناد، أو من ذهب إلى التعري/ من العوامل اللفظية، أو من ذهب إلى أنه التهمم والاعتناء، أو من ذهب إلى أنه شبه بالفاعل. وهذه كلها معان ليس ثم لفظ يدل عليها. والمعاني لم يثبت لها عمل في موضع اتفاق، فيحمل عليه هذا المختلف فيه.

وقوله ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل: الفاعل في نحو "أقائم الزيدان" مغن عن الخبر إذ فائدة الإسناد قد حصلت بوجود مسند ومسند إليه بالمبتدأ والفاعل. وكأن هذا التركيب قد أخذ شبهًا من باب الفاعل ومن باب المبتدأ، فمن حيث إن فيه عاملًا مسكوتًا عليه، يتم الكلام به، أشبه باب الفاعل، ومن حيث إن فيه اسمًا مرفوعًا، لم يتقدمه رافع لفظي، أشبه باب المبتدأ.

وقد ذهب النحويين إلى أن خبر هذا الوصف محذوف. وهذا خطأ لأن المبتدأ المحذوف الخبر لا يستقل كلامًا إلا بتقدير ذلك الخبر، وهذا كلام تام بنفسه، فلو قدرت له خبرًا لزم منه تقدير ما لا فائدة فيه.

وقوله ولذا يصغر ولا يوصف ولا يعرف ولا يثنى ولا يجمع إلا على

ص: 270

لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة "الإشارة بقوله "ولذا "أي؛ لشدة شبهه بالفعل وإعماله عمله، فيرفع به الفاعل، وينصب المفعول، لا يصغر. وليس مختصًا بانتفاء هذه الأشياء عنه في هذا التركيب، بل اسم الفاعل واسم المفعول العاملان عمل الفعل حكمهما ذلك في هذا الباب وفي غيره، فلا تقول: أضويرب الزيدان؟ ولا: أمضيريب العمران؟ وكذلك أيضًا لا يوصف، لا تقول: أضارب عاقل الزيدان؟ وكذلك أيضًا لا يعرف، لا تقول: القائم أخواك؟ قال ابن السراج: لأنه قد يكمل اسمًا معرفة، والمعارف لا تقوم مقام الأفعال. وكذلك أيضًا لا يثنى ولا يجمع، لا يجوز: أقائمان أخواك؟ ولا: أقائمون إخوتك؟ على أن يكون "أخواك "و "إخوتك "مرفوعين على الفاعل إلا على لغة ضعيفة، وهي لغة "أكلوني البراغيث ".

قال ابن السراج: "القائمان أبواهما أخواك "لا يجوز؛ لأنك لا تثني الاسم قبل أن يتم. يعني أنه لما رفع اسم الفاعل أخواك صار الفاعل من تمامه، فلا يجوز تثنيته لأنه لم يتم، فعلى هذا لا يجوز: أقائمان أخواك؟ على تقدير رفع "أخواك "على الفاعلية.

وهذا الذي تقرر من أن هذا الوصف لا يثنى ولا يجمع نص عليه كثيرون من النحاة، قالوا: أقائم الزيدان؟ لا يثنى ولا يجمع لأنه تمكن في الفعلية بسبب الاستفهام والنفي، ولا تستعمله العرب إلا هكذا.

وقال القاضي أبو محمد بن حوط الله: هذا غلط بدليل ما جاء في الحديث من قوله صل الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم "؟ قال ابن هشام الخضراوي: قلت

ص: 271

لأبي محمد: يكون كـ "يتعاقبون فيكم ملائكة "، فسكت. قال ابن هشام: إن لم يكثر فهذا/ وجهه، وإن كثر فعلى التقديم والتأخير. يعني: على أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا، وما بعده مبتدأ.

وقد أجاز النحويون في هذا الوصف إن كان مطابقًا لما بعده في إفراد أو تثنية أو جمع أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا، وما بعده مبتدأ. وإنما تتعين الفاعلية إذا لم يطابق في تثنية ولا جمع.

وقوله ولا يجري ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي، خلافًا للأخفش. أشار بـ "ذلك المجرى "إلى جعل الوصف مبتدأ رافعًا للفاعل منتظمًا منهما كلام. وقوله "باستحسان "يدل على أن ذلك فيه- أعني الحكم المذكور فيه- يستحسن بعد الاستفهام والنفي، وأن تقدم النفي أو الاستفهام عليه ليس بشرط فيه. وكون إعمال الوصف يتقدمه استفهام أو نفي فرع من فروع الاعتماد. وهي مسألة خلاف بين جمهور البصريين والأخفش:

ذهب جمهور البصريين إلى أن شرطه الاعتماد على أن يتقدمه نفي أو استفهام، أو يقع صلة أو صفة أو حالاً أو خبرًا أو ثانيًا لظننت أو ثالثًا لأعلمت.

وذهب الأخفش ومن تبعه إلى أنه لا يشترط الاعتماد في إعماله. فعلى مذهبه يجوز: قائم زيد، فيكون "قائم "مبتدأ، و "زيد "فاعل به أعنى عن الخبر. وسيأتي استدلال المذهبين في باب اسم الفاعل، إن شاء الله.

وقال المصنف في الشرح: "لا يحسن عند س الابتداء به- أي بالوصف- على الوجه الذي تقرر إلا بعد استفهام أو نفي، فإن فعل به ذلك دون استفهام أو نفي قبح عنده دون منع. هذا مفهوم كلامه في باب الابتداء،

ص: 272

ولا معارض له في غيره. ومن زعم أن س لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهامًا ولا نفيًا فقد قوله ما لم يقل "انتهى كلام المصنف في الشرح.

ونحن نسرد ما ذكره س في كتابه لننظر فيه. قال س في باب الإبتداء: "وزعم الخليل- رحمه الله أنه يستقبح أن تقول: قائم زيد، وذلك إذا لم تجعل قائمًا مقدمًا مبنيًا على المبتدأ كما تؤخر وتقدم، فتقول: ضرب زيدًا عمرو، و "عمرو "على "ضرب "مرتفع، وكان الحد أن يكون مقدمًا، ويكون "زيد "مؤخرًا. وكذلك هذا، الحد فيه أن يكون الإبتداء مقدمًا، وهذا عربي جيد، وذلك قولك: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك، وأرجل عبد الله، وخز صفتك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى، وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقولك: يقوم زيد، وقام زيد، قبح لأنه اسم، وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف، أو جرى على اسم قد عمل فيه، كما أنه لا يكون مفعولاً في "ضارب "حتى يكون محمولاً على غيره، فتقول: هذا ضارب/ زيدًا، وأنا ضارب زيدًا، ولا يكون "ضارب زيدًا "على قولك: ضربت زيدًا، وضربت عمرًا، فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري الاسم الذي في معنى الفعل مجرى الفعل المبتدأ، وليكون بين الفعل والاسم الذي في معنى الفعل فصل وإن كان موافقًا له في مواضع كثيرة، وقد يوافق الشيء الشيء، ثم يخالفه لأنه ليس مثله "انتهى ما نقلناه من كتاب س في باب الابتداء، وليس فيه أن س يستحسن ذلك بعد استفهام أو نفي، بل فيه أن الخليل قد استقبح "قائم زيد "على أن لا يكون "قائم "خبرًا مقدمًا. وكذلك نص س على أنه إذا جعل "قائم " في معنى "يقوم "أو "قام "قبح، وأنه لا يحسن أن يعمل إلا إذا كان صفة أو خبرًا. هذا ملخص كلامه.

ص: 273

وقد استدل المصنف على صحة مذهب الأخفش بقول الشاعر:

خبير بنو لهب، فلا تك ملغيًا

مقالة لهبي إذا الطير مرت

وبقول الآخر:

فخير نحن عند الناس منكم

إذا الداعي المثوب قال: يا لا

قال: "فخير: مبتدأ، ونحن: فاعل، ولا يكون "خير "خبرًا مقدمًا، و"نحن "مبتدأ؛ لأنه يلزم من ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل و"من "، وهما كمضاف ومضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ كما لا يقع بين مضاف ومضاف إليه. وإذا جعل "نحن "مرتفعًا بـ "خير "على الفاعلية لم يلزم ذلك؛ لأن فاعل الشيء كجزء منه "انتهى.

وما استدل به المصنف لا حجة فيه: أما "خبير بنو لهب "فـ "خبير "خبر مقدم، و"بنو لهب " مبتدأ، ولا يحتاج إلى المطابقة في الجمع لأن خبيرًا فعيل، يصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، ولاسيما ورود ذلك في الشعر، كما أخبروا بـ "فعول "، قال تعالى {هُمُ الْعَدُوُّ} ، وقال بعض العرب:

......................

........................ هنَّ صديق

ص: 274

فأخبر عن ضمير جمع النساء بـ "صديق ".

وأما قوله "فخير نحن "فخير: خبر مقدم، ونحن: مبتدأ، وعلى ما قررناه ونصرناه من مذهب الكوفيين أن الخبر هو رافع المبتدأ، فالمبتدأ معمول له، كما أن "من "الداخلة على المفضل عليه متعلقة به، فلم يفصل بينهما بأجنبي.

وأما قوله "إن أفعل التفضيل ومن كمضاف ومضاف إليه "إلى آخره، فليس بصحيح، لو كان كذلك لما جاز الفصل بينهما بالتمييز وبالفاعل وبالظرف وبالمجرور؛ لأنه لا يفصل بشيء من هذه بين المضاف والمضاف إليه، فلم يجريا مجراهما. ولو سلمنا أن المبتدأ ليس معمولاً للخبر لما ضر هذا الفصل لأنه/ وقع في شعر. وأيضًا فقد خرج الأستاذ أبو الحسن بن خروف قوله "نحن "على أنه تأكيد للضمير المستكن في قوله "فخير "، وخير: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فنحن خير نحن، كما تقول: أنت قائم أنت.

وذهب الكوفيون إلى ما ذهب إليه الأخفش من عدم اشتراط الاستفهام والنفي، إلا أنهم يجعلون الوصف مرفوعًا بما بعده، وما بعده مرفوع به على قاعدتهم. ويوافقونه في التزام إفراده وتجرده من ضمير، ويجيزون إجراءه مجرى اسم جامد، فيطابق ما بعده. ويجيزون أيضًا جعله نعت منوي مطابق للآخر في إفراده وتثنيته وجمعه، فلابد إذ ذاك من مطابقة النعت، ويسمونه خلفًا.

وأطلق المصنف الاستفهام والنفي ليشمل أدواتهما، فتقول: هل معتق أخواك؟ وما فاعل الزيدان؟ ومن ضارب العمران؟ ومتى راجع العمران؟ وأين قاعد صاحباك؟ وكيف مقيم ابناك؟ وكم ماكث صديقاك؟ وأيان قادم رفيقاك؟ هكذا قال المصنف في الشرح، وهو قياس على الهمزة، والأحوط أن لا

ص: 275

يقال منها تركيب إلا بعد السماع.

وذكر في أدوات النفي "ما " و "لا " و"إن " و"ليس "، إلا أن "ليس "يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها، ويرتفع به ما يليه، ويسد مسد خبرها، وكذلك "ما "الحجازية، تقول: ليس قائم الزيدان، وليس منطلق إلا العمران، وما ذاهب عبداك، وهذا قياس على "ما "، والأحوط التوقف حتى يسمع.

وفي البسيط: "واختلفوا في الظرف والمجرور، هل هو في تقدير اسم فاعل أو فعل؟ وعلى القول بأنه في تقدير اسم فاعل هل يصير رافعًا للظاهر إذا اعتمد، فتقول: أفي الدار زيد، أم لا؟ " انتهى. وقياس حرف النفي أن يكون كالهمزة.

وقال بعض أصحابنا: الظرف والمجرور إذا وقع خبرًا أو صفة أو حالاً رفع، وإذا اعتمد على أداة نفي أو استفهام فالأخفش يجيز أن يرفع، كما يجيز ذلك دون اعتماد، وس لا يجيز رفعه دون اعتماد على ما ذكر من غير النفي والاستفهام.

والصحيح أنه لا يعمل إذا اعتمد على نفي أو استفهام بخلاف اعتماده على ما ذكرنا قبل؛ لأنه في ذلك ملحوظ فيه الفعل؛ لأن غالب الخبر والصفة والحال لا يكون شيء منها إلا مشتقًا، فوقع في محل الاشتقاق، فرفع. والصلة إذا كانت بالظرف أو المجرور فإنما ذلك لأنهما في معنى الفعل، ولولا ذلك ما استقل بهما الاسم الموصول؛ لأنه لا يوصل إلا بالجملة، وأما الاستفهام والنفي فلا يقوى فيهما جانب الفعل؛ ألا ترى أنك تستفهم عن

ص: 276

الاسم الصريح، فتقول: أزيد أخوك؟ وكذلك/ النفي: ما زيد أخوك، فنهايته بعد الاستفهام والنفي أن يكون مثله قبلهما. وأيضًا فالعرب تقول: مررت بسرج خز صفته، ولا يرفعون هذا إذا أوقع عليه الاستفهام والنفي، فدل ذلك على صحة مذهب س.

وقوله وأجري في ذلك "غير قائم "مجرى "ما قائم ". قال المصنف في الشرح: "إذا قصد النفي بـ "غير "مضاف إلى الوصف فيجعل "غير "مبتدأ، ويرفع ما بعد الوصف به، كما لو كان بعد نفي صريح، ويسد مسد خبر المبتدأ، وعلى ذلك وجه الشجري قول الشاعر:

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهم والحزن

ومثله قول الآخر:

غير لاه عداك، فاطرح اللهـ

ـو، ولا تغترر بعارض سلم "

انتهى.

وكأنه قال: ما مأسوف على زمن، فقوله "على زمن "في موضع رفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ "مأسوف "، و"ينقضي "جملة في موضع الصفة لـ "زمن ".

ص: 277

وسأل عالي بن أبي الفتح أباه أبا الفتح بن جني عن قوله "غير مأسوف "البيت، فأجابه بأن المقصود ذم الزمان الذي هذه حاله، فكأنه قال: زمان ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه، فزمان: مبتدأ، و"ينقضي ": صفته، و"غير ": خبر للزمان، ثم حذفت المبتدأ مع صفته، وجعلت إظهار الهاء مؤذنًا بالمحذوف، لأنك إنما جئت بالهاء لما تقدمها ذكر ما ترجع إليه، فصار اللفظ بعد الحذف والإظهار:

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهم والحزن

وهذا التخريج بعيد جدًا متكلف، وهي عادة ابن جني وشيخه في مجيئهما بالتخريجات المتمحلة المتكلفة التي لا يكاد يلحظها العرب.

قال أبو الفتح: وإن شئت قلت: هو محمول على المعنى، كما حملت "أقل امرأة تقول ذاك " على المعنى، فلم تذكر في اللفظ خبرًا لأنه مبتدأ، وقد أضفت "أقل "إلى "امرأة "، ووصفت المرأة بـ "تقول ذاك "، كأنك قلت: قل امرأة تقول ذاك، فلم تحتج "أقل "إلى خبر لأنها في معنى "قل ". وكذلك حمل س على المعنى قول من قال "خطيئة يوم لا أراك فيه "على معنى: يوم خطأ لا أراك فيه. وما حمل على المعنى كثير في القرآن وفصيح الكلام. انتهى هذا التخريج الثاني وهو الذي أخذه منه ابن الشجري، وخرج البيت عليه. ويعضده البيت الثاني، وهو "غير لاه عداك "، فإنه لا يتصور فيه التخريج الأول. ولأبي/ عمرو بن الحاجب في هذا البيت كلام طويل وترديد، ثم خرجه على تخريجي أبي الفتح.

ص: ويحذف الخبر جوازًا لقرينة، ووجوبًا بعد "لولا "الإمتناعية غالبًا، وفي قسم صريح، وبعد واو المصاحبة الصريحة، وقبل حال إن كان المبتدأ أو معموله مصدرًا عاملاً في مفسر صاحبها، أو مؤولا بذلك، والخبر الذي

ص: 278

سَدَّت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها لا زمان مضاف إلى فعله، وفاقًا للأخفش، ورفعها خبرًا بعد "أفعل "مضافًا إلى ما موصولة بـ "كان "أو "يكون "جائز، وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع.

ش: مثال حذفه جوازًا لقرينة "زيد "لمن قال: من في الدار؟ وقولك: زيد قائم وعمرو، التقدير: زيد عندي، وعمرو قائم، فحذف "عندي "لجريانه في جملة السؤال، و "قائم "لجريانه في الجملة المعطوف عليها. فإن قلت "زيد وعمرو قائم "فخبر أحدهما محذوف، فقيل: خبر الأول، وقيل: خبر الثاني، وقيل: أنت مخير في تقدير الخبر، فإن شئت قدرته خبر الأول، وإن شئت قدرته خبر الثاني. وصحح هذا المذهب الأخير بعض أصحابنا. وحكي أبو حاتم: هند وزيد قائم، فهذا حذف فيه الخبر من الأول، إذ التقدير: هند قائمة وزيد قائم.

قال المصنف في الشرح: "ومن الحذف الجائز الحذف بعد "إذا "الفجائية، نحو: خرجت فإذا السبع، والحذف بعد "إذا "قليل، ولذلك لم يرد في القرآن مبتدأ بعد "إذا "إلا وخبره ثابت غير محذوف، كقوله تعالى {فَإذَا هِيَ حَيَّةٌ}، {فَإذَا هِيَ بَيْضَاءُ}، {فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ}، {فَإذَا هُمْ قِيَامٌ} " انتهى الكلام.

وليس كما ذكر: أما قولهم "خرجت فإذا السبع "فإن "إذا" الفجائية

ص: 279

ظرف مكان، وهو خبر عن "السبع "، وقدروه: خرجت فبالحضرة السبع، أي: فبالمكان الذي أنا حاضر فيه السبع. هذا ظاهر كلام س ومذهب أشياخنا، وهو الذي تلقناه منهم. وسيأتي الكلام على "إذا "الفجائية وعلى الخلاف فيها، حيث ذكرها المصنف في باب المفعول المسمى ظرفًا، إن شاء الله. و "خرجت فإذا السبع "كلام تام بنفسه لا يحتاج إلى تقدير شيء محذوف، ولما كان مدلولها ظرف المكان جاز أن تأتي خبرًا إذا أريد الإخبار بها عن الجثة، وجاز أن تأتي معمولة للخبر إذا لم تجعل هي الخبر، فتقول: خرجت فإذا زيد، وخرجت فإذا زيد قائمًا، وخرجت فإذا زيد قائم، كما تقول: خرجت ففي الدار زيد، وخرجت ففي الدار زيد جالسًا، وخرجت ففي الدار زيد جالس، إذا كان "في الدار "متعلقًا بـ "جالس "الذي هو الخبر.

وأما قوله تعالى {فَإذَا هِيَ حَيَّةٌ} إلى آخر ما ذكر مما جاء في القرآن، فإنما لم يحذف/ الخبر لكونه لا يدل على حذفه دليل، ولم يمكن جعل "إذا "في الآيات خبرًا لأن المقصود الإخبار عن المبتدأ الذي بعد "إذا "بأشياء لم تكن معلومة للسامع إلا من ذكر الخبر، لو قلت: فألقى عصاه فالبحضرة هي، وفأخرج يده فبالحضرة هي، لم يكن كلامًا، فمتى قصد الإخبار بخبر غير معلوم للسامع، وهو أن يكون بحيث لو حذف لم يكن ثم ما يدل عليه، وجب ذكره، وصار نظير قولك ابتداء: زيد منطلق، فلا يجوز حذف "منطلق "لأنه لا دليل على حذفه. ومتى قصد الإخبار عن زيد بـ "إذا " الفجائية كانت هي الخبر، وإنما بنى المصنف على ما اختاره هو من كون "إذا "الفجائية حرفًا، فلا يصح أن تكون خبرًا، فاضطر إلى تقدير خبر في: خرجت فإذا السبع.

ص: 280

وقوله ووجوبًا بعد "لولا" الامتناعية غالبًا سقط "غالبًا" من بعض النسخ، وهو أجود لأن الوجوب والغلبة لا يجتمعان؛ إذ الوجوب هو أن لا يجوز ذكره، والغلبة هي أن يغلب حذفه، فهي من باب الجائز، ومحال أن يكون الشيء واجبًا جائزًا، أعني الجواز بمعنى التخيير، ولأن مشهور قول أكثر النحويين هو أنه يجب حذف خبر المبتدأ الذي بعد "لولا"، وهذا الذي ذكره في "لولا" هو على تقدير رفع الاسم بالابتداء. وقد ذكرنا اختلاف الناس في ذلك، وتكلمنا على هذه المسألة في "فصل حروف التحضيض" في "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة غلى ذلك".

قال المصنف في الشرح: "وإنما وجب حذف الخبر بعد "لولا" الامتناعية لأنه معلوم بمقتضى "لولا"؛ إذ هي دالة على امتناٍع لوجود، والمدلول على امتناعه هو الجواب، والمدلول على وجوده هو المبتدأ، فإذا قيل "لولا زيد لأكرمت عمرًا" لم يشك في أن المراد: وجود زيد منع من إكرام عمرو، فصح الحذف لتعين المحذوف، ووجب لسد الجواب مسده وحلوله محله، والمراد هنا بالحذف الكون المطلق، فلو أريد كون مقيد لا دليل عليه لم يجز الحذف، نحو: لولا زيد سالمنا ما سلم، ولولا عمرو عندنا لهلك، ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: "لولا قومك حديثو عهٍد بكفٍر لأسست البيت على قواعد إبراهيم". فلو أريد كون مقيد مدلول عليه جاز الإثبات والحذف، نحو "لولا أنصار زيد حموه لم ينج"، فـ"حموه" خبر مفهوم المعنى، فيجوز إثباته وحذفه. ومن هذا القبيل قول المعري في صفة

ص: 281

سيف:

....................... فلولا الغمد يمسكه لسالا

وهذا الذي ذهبت /إليه هو مذهب الرماني والشجري والشلوبين، وغفل عنه أكثر النحويين. ومن ذكر الخبر بعد "لولا" قول أبي عطاء السندي:

لولا أبوك، ولولا قبله عمر ألقت إليك معد بالمقاليد"

انتهى كلامه.

وهذا الذي اختاره غير مختار، بل المختار ما حكاه الجمهور من أن خبر المبتدأ بعد "لولا" يجب إضماره، وأنه لا يكون إلا كونًا مطلقًا لا كونًا مقيدًا.

وحكي الأخفش عن العرب أنهم لا يأتون بعد الاسم الواقع بعد "لولا" بالحال، كما لا يأتون بالخبر، وقد زعم أنه إن ورد خبر لمبتدأ بعد "لولا" كان شذوذًا أو ضرورة، وهو منبهة على الأصل.

وقال شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع: أجاز قوم: لولا زيد قائم لأكرمتك، ولولا زيد جالس لأكرمتك. وهذا لم يثبت بالسماع، والمنقول: لولا جلوس عمرٍو، ولولا قيام زيٍد.

وقوله وفي قسٍم صريح مثاله: لعمرك، وأيمن الله، وأمانة الله، ويمين

ص: 282

الله. قال المصنف في الشرح: "وجب حذف الخبر هنا لأن فيه ما في خبر المبتدأ بعد "لولا" من كونه معلومًا، مع سد الجواب مسده". واحترز بقوله "صريح" من مبتدأ في القسم صالح لغير القسم، نحو: عهد الله، فلا يجب حذف الخبر إذ ذاك، بل يجوز نحو: على عهد الله لأفعلن، فيجوز أن تحذف، فتقول: عهد الله لأفعلن؛ لأن "لعمرك" و"أيمن الله" لا يستعملان إلا في قسم، و"عهد الله" لا يشعر بالقسم حتى يذكر المقسم عليه.

وما ذهب إليه المصنف من أن "أيمن الله" وشبهها مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا ليس متفقًا عليه، بل أجازوا في مثل هذا أن يكون خبرًا محذوف المبتدأ، التقدير: قسمي يمين الله. وممن أجاز الوجهين الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، ولذلك لم يذكر هذا الموضع فيما يجب حذفه من الخبر. ويأتي الكلام على ذلك في "باب القسم" إن شاء الله.

وقوله وبعد واو المصاحبة الصريحة مثاله: أنت ورأيك، وكل رجٍل وضيعته، وكل ثوٍب وقيمته. ذكر الأخفش في كتابه "الأوسط" في مثل هذا عن النحويين قولين:

أحدهما: أنه مبتدأ لا يحتاج إلى تقدير خبر؛ إذ هو كلام تام لأنه في معنى: أنت مع رأيك، وكل رجل مع ضيعته. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف.

والقول الثاني: أن الخبر محذوف، تقديره "مقرونان" أو ما في معناه. وهذا قول الجمهور. وكان الحذف واجبًا لدلالة الواو وما بعدها على

ص: 283

المصحوبية إذ قامت مقام "مع"، فلو جئت بـ"مع" مكان الواو كان الكلام تامًا.

ونقل القولين أبو المعالي الموصلي في "شرح الدرة"، إلا أنه نسب حذف الخبر للبصريين، والاستغناء عن تقديره إذ الواو أغنت عنه للكوفيين.

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع: /التقدير: كل رجٍل مع ضيعته وضيعته معه، وعلى هذا: زيد وكتابه، وعمرو وفرسه، إذا أردت أن كل واحد منهما لا يفارق صاحبه. وتدخل نواسخ الابتداء على هذا، قال الشاعر:

فمن يك سائلًا عني فإني وجروة لا ترود، ولا تعار

وقال آخر:

فكان تنادينا وعقد عذاره وقال صحابي: قد شأونك، فاطلب

ص: 284

التقدير: فإني مع جروه وجروه معي، وتنادينا مع عقد عذاره وعقد عذاره مع تنادينا، فحذف من الأول ما دل الثاني عليه، ومن الثاني ما دل الأول عليه. ويجري مجراه في الاستغناء: أنت أعلم وربك، التقدير: أنت أعلم بربك وربك أعلم بك. وعلى هذا الحديث "لا أنا ولا ثابت". انتهى.

وما قدره الجمهور أخصر مما قدره الأستاذ أبو الحسين، إذا قدروا المحذوف خبرًا واحدًا، وجعلوا الكلام جملة واحدة، والأستاذ أبو الحسين قدر خبرين محذوفين، وجعل الكلام جملتين.

فإذا قلت "أنت أعلم ومالك" فقال أبو القاسم بن القاسم: لا يصح عطف "مالك" على "أنت" على حد: أنت أعلم وزيد؛ لأنك تضمر في هذا خبرًا من جنس ما أظهرت، والمال لا يعلم، ولا على "أعلم" لأن المعطوف على الخبر خبر يصح انفراده، فلو قلت "أنت مالك" لم يصح، ولا على الضمير في "أعلم" لوجوه: منها استتاره غير مؤكد. ومنها أن أفعل التفضيل لا ترفع الظاهر إذا وليها، فكذلك إذا عطف على مضمر رفعته، وقد يكونان هذان الوجهان بشذوذ. قال: فإذا استحالت هذه الأوجه كان معطوفًا على "أنت" لا على ذلك الوجه، بل هو بمنزلة: شاة ودرهم، أي: معطوف في اللفظ، خبر في المعنى، لنيابته منابه.

وهكذا أعرب المسألة الجرمي في "الفرخ"، قال: الشاء شاة ودرهم. قال: من قال هذا جعل الشاء مبتدأ، وشاة مبتدأ، ودرهم خبره، والجملة خبر الأول.

ص: 285

وذهب الأستاذ أبو بكر بن طاهر إلى أنه معطوف على "أعلم"؛ لأن الأصل "بمالك"، فوضعت الواو موضع الباء، فعطفت على ما قبلها، ورفعت ما بعدها في اللفظ، وهو بمعنى الباء متعلقة بـ"أعلم". وهذا أقرب لتفسير كلام س؛ لأنه قال في الواو:"يعمل فيما بعدها المبتدأ". يريد:

أنك تعطفه على "أعلم"، فيعمل فيه ما عمل في "أعلم" وهو المبتدأ.

ومما اختلفوا فيه قول العرب "حسبك ينم الناس":

فقيل: الضمة في "حسبك" ضمة بناء، وهو اسم سمي به الفعل، والكاف حرف خطاب، وبنيت على الضم لأن حسبًا كان معربًا قبل ذلك، فحملت على قبل وبعد ويا حكم. وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء، /نقله عنه أبو زرعه أحد أصحاب المازني.

وذهب الجمهور إلى أنها ضمة إعراب. واختلفوا: فقيل: هو مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، والتقدير: حسبك السكوت ينم الناس. وذهب جماعة إلى أنه مبتدأ لا خبر له لأن معناه: اكفف، وهو اختيار أبي بكر بن طاهر.

وقوله الصريحة احتراز مما كان يحتمل المصاحبة، ويحتمل مطلق العطف، فإذ ذاك لا يجب الحذف، نحو قولك "زيد وعمرو" وأنت تريد: مع عمرو، فإنه غير صريح، فلك أن تأتي بالخبر، فتقول: زيد وعمرو مقرونان، ولك أن تستغني عن الخبر اتكالًا على أن السامع يفهم من اقتصارك عليهما

ص: 286

معنى الاقتران والاصطحاب.

وقوله وقبل حاٍل إن كان المبتدأ أو معمولة مصدرًا عاملًا في مفسر صاحبها أو مؤولًا بذلك يعني أنه يجب إضمار الخبر قبل حاٍل مشروٍط فيها ما ذكر، وهذا يستدعي تسليم أربعة أشياء مختلف فيها:

أحدها: أن ذلك المصدر أو معمولة مرفوع بالابتداء.

الثاني: أنه مبتدأ محتاج إلى خبر.

الثالث: أن خبره محذوف لا ملفوظ به.

الرابع: أنه مقدر قبل تلك الحال.

فأما الأول فاختلفوا في رفعه:

فذهب الجمهور إلى أنه مرفوع بالابتداء.

وذهب بعضهم إلى أنه فاعل بفعل محذوف تقديره: يقع ضربي زيدًا قائمًا، أو ثبت ضربي زيدًا قائمًا.

ورد هذا المذهب بأنه حذف ما لا دليل على تعينه؛ لأنه كما يجوز تقدير "ثبت" يجوز تقدير "قل"، أو: عدم ضربي زيدًا قائمًا، وما لا يتعين تقديره لا سبيل إلى إضماره، مع أنه إذا دار الأمر بين الحذف من أول الكلام وآخره كان الحذف من آخره أولى، فإن أول الكلام موضع استجمام وراحة، وآخره موضع طلب استراحة وموضع تعب. والذي يجزم ببطلان هذا المذهب دخول نواسخ الابتداء عليه، فلو كان فاعلًا لم يجز دخول النواسخ عليه، نحو قول الشاعر:

إن اختيارك ما تبغيه ذا ثقةٍ بالله مستظهرًا بالحمل والجلد

ص: 287

فأدخل "إن" على المصدر الموصوف بما ذكر، وتقول: كان ضربي زيدًا قائمًا.

وأما الثاني فذهب ابن درستويه إلى أنه مبتدأ، ولا يحتاج إلى خبر لأن المصدر واقع موقع الفعل، فمعنى ضربي زيدًا قائمًا: ضربت زيدًا، أو أضرب زيدًا قائمًا، فصار نظير: أقائم الزيدان؟ فكما أن "أقائم" مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأنه في معنى الفعل، فكذلك هذا المصدر مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأنه في معنى "ضربت".

ورد هذا المذهب بأنه لو كان كذلك لحسن الاقتصار على الفاعل، كما صح الاقتصار على الفاعل في: أقائم الزيدان؟ وحيث لم يصح أن يقال "ضربي زيدًا" ويقتصر بطل هذا المذهب.

وأما الثالث والرابع فيأتي حكمهما إن شاء الله.

/مثال المبتدأ مصدرًا: ضربي زيدًا قائمًا. ومثال معمول المبتدأ: أكثر شربي السويق ملتوتًا، ومثله المصنف في الشرح بقولك: كل شربي السويق ملتوتًا، وبعض ضربك زيدًا بريئًا، ومعظم كلامي معلمًا. وهذا فيه نظر، فإن ذلك لا يحفظ إلا في مصدر، أو في أفعل التفضيل مضافًا إلى مصدر، أو مؤول بالمصدر.

وفي الإفصاح: "هذا الباب معتبر عند النحويين في كل مصدر وفيما أضيف إليه إضافة بعٍض لكل أو كل للجميع، والمعنى أن يكون المضاف إليه مصدرًا في المعنى، نحو: أكثر شربي، وأقل شربي، وأيسر شربي السويق ملتوتًا، وكل ركوبي الفرس دارعًا".

ص: 288

ومعنى قوله "أو معموله" أن المصدر مجرور بإضافة المبتدأ الذي ليس مصدرًا إليه. وشمل قوله "في مفسر صاحبها" أن يكون المفسر مفعولًا بالمصدر، أو فاعلًا من حيث المعنى بالمصدر، نحو: قيامك ضاحكًا.

واحترز بقوله "عاملًا في مفسر صاحبها" من نحو: ضربي زيدًا قائمًا شديد، فإن المصدر عامل في صاحب الحال وفي الحال، فلم يصلح أن تغني عن خبره لأنها من صلته.

ومعنى قوله "مفسر صاحبها" أن قائمًا حال من الضمير المستكن في "كان" المحذوفة، ومفسره "زيد" الذي هو معمول المصدر.

واحترز أيضًا من قولهم "حكمك مسمطًا"، فالمبتدأ فيه مصدر مستغن عن خبره بحال استغناء شاذًا؛ لأن صاحب الحال ضمير عائد على المبتدأ الذي هو "حكمك"، التقدير: حكمك لك مسمطًا أي: مثبتًا، فصاحب الحال هو الضمير المستكن في "لك"، وهو عائد على المصدر المجعول مبتدأ، فهذا ونحوه الحذف فيه شاذ غير لازم، ونحو "ضربي زيدًا قائمًا" الحذف فيه ملتزم مطرد.

وقوله أو مؤولًا بذلك أي بالمصدر. مثاله: أخطب ما يكون الأمير قائمًا، فإن أنبت "أن" مع الفعل مناب المصدر، فقلت: أن ضربت زيدًا قائمًا، وأن تضرب زيدًا قائمًا، ففيه خلاف: أجاز ذلك بعض الكوفيين، ومنعه الجمهور.

وقال ابن الأنباري: أبطل الكسائي والفراء وهشام: أن تضرب عبد الله قائمًا، واتفقوا على إجازة: الذي تضرب عبد الله قائمًا، وما تضرب عبد الله قائمًا، على أن "الذي" و"ما" بمعنى المصدر، معناهما: ضربك عبد الله

ص: 289

قائمًا. وعَلَّلَ المنع في "أن" بأنها لما عملت فيما بعدها أشبهت الأدوات، وبعدت عن المصادر، فلم يجز فيها ما جاز في المصادر.

وفي هذا التعليل نظر، فإن المصدر أيضًا عامل فيما بعده. وقيل: علة ذلك أن الحال إنما تسد مسد الخبر إذا كان ظرف زمان، وظرف الزمان لا يكون خبرًا لـ"أن" والفعل.

وقوله والخبر الذي سدت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها لا زمان مضاف إلى فعله وفاقًا للأخفش. الذي ذهب إلى أن الخبر هو زمان مضاف إلى فعله /هو س وجمهور البصريين، ويقدرونه إن كان ماضيًا: إذ كان قائمًا، ومستقبلًا: إذا كان قائمًا.

واختار المصنف مذهب الأخفش، والتقدير: ضربي زيدًا ضربه قائمًا، فضربي: مبتدأ، وضربه: خبره، وقائمًا: منصوب بـ "ضربه"، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله ضمير المتكلم محذوفًا على ما يذكر في "باب المصدر"، وكأنه كان في الأصل: ضربي زيدًا ضربيه قائما.

ورد هذا المذهب بأنه "إما أن يفهم من نفس الخبر عين المفهوم من المبتدأ، فلا يصح، وإما أن يفهم منه أن ضربيه المطلق مثل ضربيه قائمًا، وهو غير المعنى المفهوم، وإن جعل المصدر مضافًا إلى فاعله صار المفهوم منه غير المطلوب من الكلام". قاله شيخنا بهاء الدين بن النحاس، رحمه الله.

وقال: "هنا نكتة لطيفة، وهو أن الاسم العامل ومعموله يتنزلان

ص: 290

منزلة المضاف والمضاف إليه في باب النداء، وباب "لا"، فكما يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه، كذلك يحذف العامل، ويبقى معموله، إلا أنه لما كان الأكثر إذا حذف المضاف يعرب المضاف إليه إعرابه، ولا كذلك العامل والمعمول، كثر حذف المضاف، وقل حذف العامل. وهذا وإن اشترك فيه مذهب س والأخفش، فإن مذهب س ينفرد بما أذكره، قال شيخنا الإمام جمال الدين محمد بن عمرون الحلبي، رحمه الله:"والذي يوضح المسألة أن معنى: ضربي زيداً قائماً: ما ضربت زيداً إلا قائماً، وهذا المعنى لا يستقيم إلا على مذهب س لأن العامل يتقيد بمعموله، فإذا جعلت الحال من تمام المبتدأ يكون الإخبار بأن ضربي مقيداً بالقيام واقع، وذا لا ينفي أن يقع الضرب في غير حال القيام، وإذا جعل الحال من جملة الخبر يكون ضربي زيداً هذا الذي لم يقيد بحال كائن إذا كان قائماً، فلو قدر وقوع ضرب في غير حال القيام يكون مناقضاً للإخبار، إذ من المحال وقوع غير المقيد بالحال في زمان وتختلف شيء منه عن ذلك الزمان إذا أريد الحقيقة".

ثم قال رحمه الله في مسألة: أكثر شربي السويق ملتوتاً: "وما أبطلنا به مذهب من يعتقد أن الحال من معمول المصدر يظهر في هذه المسألة أكثر، لأن ملتوتاً لو جعل من تمام الشرب يكون الإخبار حينئذ عن أكثر شرب سويق ملتوت أنه حاصل، وذلك لا ينفي أكثرية في غير حال اللت، والمراد من هذا الكلام أن الأكثرية تقع في حال اللت، ولو وقعت في غير حال اللت لا يكون في الإخبار كبير فائدة" انتهى.

وقد رجع المصنف في الشرح مذهب الأخفش على مذهب سيبويه

ص: 291

بأنه أقل حذفاً مع صحة المعنى، لأنه لم يحذف منه إلا خبر مضاف إلى مفرد، ومذهب س حذف منه خبر، ثم نائب عن الخبر مع فعل وفاعل، لأن الأصل فيه: ضربي زيداً مستقر إذا كان قائماً. ولأنه حذف منه خبر عامل، فبقي معموله، ودلالة المعمول/ على عامله قوية، وفي مذهب س بقي فيه بعد الحذف معمول عامل أضيف إليه نائب عن الخبر الأصلي الذي هو مستقر، فضعفت الدلالة لبعد الأصل بكثرة الوسائط. وأيضاً فالحاذف آمن عذراً في الحذف لأن المحذوف لفظه مماثل للفظ المبتدأ، فيستثقل الباعث على الحذف، وليس في قول القائل "ضربي زيداً ضربه قائماً" تعرض لكون زيد وقع به غير الضرب المقارن لقيامه أو لم يقع، بل تعرض به لما تعرض بقولك: ضربته قائماً. انتهى ما رجح به المصنف مذهب الأخفش على مذهب س.

أما الأول فلا ترجيح فيه لأن مستقراً العامل في "إذا كان" ممات الحذف إذا كان يقدر، ولا يلفظ به، ولا يجمع بينه وبين الظرف، بل تنتقل أحكامه إلى الظرف من تحمل الضمير، ومن رفع الظاهر به وغير ذلك، فكأنه لم يحذف إلا الظرف الواقع خبراً، فقد ساوى من حيث الحذف مذهب س مذهب الأخفش.

وأما الثاني - وهو كثرة الوسائط - فهو مبني على الأول، وإذا بطل الأول بطل الثاني. وأما أنه يؤمن عذر في الحذف لمماثلة المحذوف لفظ المبتدأ فهذا هو المبعد من تقدير الحذف، لأنه إن كان مماثلاً لفظ الخبر المحذوف للفظ المبتدأ فلا حاجة له، إذ قد استفيد من لفظ المبتدأ معنى لفظ الخبر.

فإن قلت: قد يقيد بالحال هذا الخبر المحذوف؟ قلت: الحال التي تقيد الخبر تكون في المعنى وصفاً للمبتدأ وخبراً عنه، فهي في الصورة حال،

ص: 292

وهي في المعنى خبر، مثاله قوله تعالى {وهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} ، وقوله {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} ، "وقائماً" هنا من وصف المفعول ولا من وصف المبتدأ، فلا يجوز أن تكون مقيدة للخبر في تقدير الأخفش. وما ذكره المصنف من أن مذهب الأخفش هو حذف الخبر قبل الحال، وأن تقديره "ضربه قائماً" نقله غيره عنه.

ونقل بعض أصحابنا أن مذهب أبي الحسن أن الحال سدت مسد الخبر كالظرف لأنها في تقديره، كأنك قلت: ضربي زيداً في حال كونه قائماً، والعرب تقول: أكثر شربي يوم الجمعة، فاستعملوا الحال استعمال الظرف. وبه قال الجرمي في "الفرخ"، وهو مذهب أبي الحجاج الأعلم، وقال به ابن كيسان، وسيأتي ذكره والرد عليه.

وحكي أبو علي عن عضد الدولة أنه كان يرى حذف المصدر لطول الكلام وتكرير اللفظ والدلالة على المعنى، وكان يقدر ضربي زيداً: ضريبة قائماً، وأكثر شربي السويق: شربي إياه ملتوتاً، فحذف المصدر، وأبقي معموله، فقام مقامه. وكان يستحسن هذا القول أبو القاسم بن القاسم، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وأكثر النحويين لا يجيزونه، وقد نص على منعه س، وقدره في مواضع./ والذي يصح من مذهبه منعه. وهذا الذي ذهب إليه العضد هو مذهب الأخفش.

وإنما كان الخبر ظرفاً دون غيره في مذهب س لأنا نقدر الخبر

ص: 293

محذوفاً، والحذف وتوسع، فالظروف أحمل لذلك من غيرها، وقدر ظرف زمان دون ظرف المكان لأن الحال عوض منه كما ذكرنا، والحال لظرف الزمان أنسب منها لظرف المكان لأنها توقيت للفعل من جهة المعنى، كما أن الزمان توقيت للفعل، ولذلك قدر س الحال بـ "إذا" في قوله تعالى:{وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} ، فقال:"إذ طائفة في هذه الحال"، ولأن المبتدأ هنا حدث، وظرف الزمان مختص بالإخبار به عن الحدث دون الجثة، فهو أخص به من ظرف المكان.

وكان الظرف الزماني المقدر "إذ" و"إذا" دون غيرهما لأن "إذ" تستغرق الماضي، و"إذا" تستغرق المستقبل.

وكان المقدر بعدهما "كان" التامة دون غيرها لأن الظرف المقدر لابد له من فعل أو معناه ليكون ظرفاً له، والحال لابد لها أيضاً من عامل، والأصل في العمل للفعل، فقدرت "كان" التامة لتدل على الحدث المطلق الذي يدل الكلام عليه.

ولم يعتقد في "قائم" الخبرية للزومة التنكير، وحكي ابن خروف أن الفراء أجاز أن يكون منصوباً على خبر "كان"، وانشد قول الشاعر:

لذو الرمة ذا الرمـ ـة أشهر منه غيلاناً

فنصب "ذا الرمة" و"غيلان" - وهما علمان - على الخبرية. وهذا نادر لا يعتد به، ودخول الواو عليهما على ما سيأتي - إن شاء الله - يوجب

ص: 294

الحالية. وهذا الذي حكاه ابن خروف عن الفراء هو خلاف مذهبه في هذه المسألة على ما سيأتي ذكره إن شاء الله.

وزعم الزمخشري أنه يجوز أن يكون التقدير: إذ كنت أو إذا كنت قائماً، فتكون "كان" مسندة إلى فاعل الضرب.

ولا ينبغي أن يجوز هذا إلا بدليل لأن التقييدات بالأحوال والصفات، وعود الضمير لا يكون إلا لأقرب مذكور، ألا ترى أن ما جاء من ذلك في تمثيلهم يعين أن يكون حالاً من المفعول، كقولهم: أكثر شربي السويق ملتوتاً، وأكلي التفاحة نضيجة، وغير ذلك، أما إذا دل دليل على ذلك أو كان المصدر قد اقتصر به على الفاعل لحذف المفعول أو لكونه مصدراً لفعل لازم، فيتعين إذ ذاك تقدير: إذ كنت، أو إذا كنت، إن كان المصدر مضافاً لضمير متكلم، وإن كان مضافاً لمخاطب أو لغائب طابق.

وقوله ورفعها خبراً بعد أفعل مضافاً إلى "ما" موصولة بـ "كان" أو "يكون" جائز. أي: رفع الحال، أي: ما كان حالاً، ومثال ذلك: أخطب ما يكون الأمير قائماً، فأجاز الأخفش في "قائم" الرفع على أنه خبر "أخطب". وتبعه المبرد وأبو علي الفارسي/ وهذا المصنف، قال في الشرح: "يلزم من ذلك ارتكاب مجازين:

ص: 295

أحدهما إضافة "أخطب"، مع أنه من صفات الأعيان، إلى "ما يكون"، وهو في تأويل الكون.

والثاني الإخبار بـ "قائم" مع أنه في الأصل من صفات الأعيان، عن "أخطب ما يكون" مع أنه في المعنى كون لأن أفعل التفضيل بعض ما تضاف إليه، والحامل على ذلك قصد المبالغة، وقد فتح بابها بأول الجملة، فعضت بآخرها مرفوعاً" انتهى. ولذلك امتنع رفع قائماً في قولك: ضربي زيداً قائماً، إذ لم يفتتح أول الجملة بمجاز.

ولم يذكر المصنف خلافاً في المسألة، إنما ذكر إجازته لذلك، وذكر غيره الخلاف، فقال: أجاز الأخفش: عبد الله أحسن ما يكون قائم، بالرفع ومنعها س إلا بالنصب. قال شيخنا الإمام بهاء الدين بن النحاس رحمه الله:"وجه ابن الدهان رفع الأخفش قائماً بأن جعل "أخطب" مضافاً إلى "أحوال" محذوفة، تقديره: أخطب أحوال كون الأمير، فلا مجاز في قائم حينئذ" انتهى.

فقوله "فلا مجاز في قائم حينئذ" غير مسلم، بل هو مجاز لأن تقديره "أخطب أحوال كون الأمير" لا يخبر عنه بـ "قائم" لأن قائماً من صفات الأعيان لا من صفات الأحوال، فالمطابق للإخبار عن قوله "أخطب أحوال الأمير" أن يقال: القيام، كما تقول: أحسن أحوال الأمير السرور أو الضحك، ولا تقول: الضاحك ولا السار، فجعله قائماً خبراً عن "أخطب" فيه مجاز بلا شك.

قال شيخنا بهاء الدين بن النحاس: "ويجوز أن تجعل "ما" بمنزلة شيء، ويكون الأمير صفته، والعائد محذوف خبر "يكون الأمير"،

ص: 296

و"يكون" ناقصة، كأن أصلها: اخطب أحوال يكون الأمير فيها قائماً، وتكون "ما" للعموم والكثرة كقوله {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ} . ودليل وقوعها للجنس والعموم والإشارة إليها بقوله {ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} ، وتكون "ما" حينئذ كناية عن الأحوال، فيتوجه ما قاله الأخفش" انتهى. ويكون الإخبار بـ "قائم" عن "أخطب أحوال يكون الأمير فيها قائماً" على سبيل المجاز، إذ القائم ليس خبراً عن "أخطب" في الحقيقة، لأن من صفات الأعيان لا صفات الأحوال كما بينا.

وأجازوا أيضاً في هذا المثال أن يكون التقدير: أخطب أزمان كون الأمير قائماً، قالوا: فيجوز على هذا أن تكون "إذا" أو "إذ" المقدرة المحذوفة خبراً عن "أخطب" بنفسها، لأن "أخطب" إذ ذاك زمان لإضافته إلى الزمان، ولا يكون العامل في "إذا" ولا في "إذا" إذ ذاك محذوفاً لأنه هو المبتدأ. قالوا: ولا يستنكر خروج "إذا" عن الظرفية ورفعها، فقد جاءت مجرورة في قول الشاعر:

وبعد غد، يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي، ولست برائح

فأبدل "إذا" من "غد". وحكي: جئتك بعد إذ قام زيد، وفي القرآن {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} .

ص: 297

وأجاز أبو العباس الرفع الصريح فيها، وذلك: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو، فـ "إذا" الأولى مبتدأة، والثانية خبر. ويبين لك ذلك أنه إذا ظهر الإعراب في الظرف رفع، تقول: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، إذا جعلت "أخطب" زماناً، فإن جعلت "أخطب" كوناً نصبت يوم الجمعة، وكان "إذا" و"إذا" في موضع نصب.

وهذا الذي أجازوه من التصرف في "إذ" و"إذا" وإخراجهما عن الظرفية لا يجوز عندي، وسيأتي الكلام على ذلك في "باب المفعول المسمى ظرفاً" إن شاء الله.

فعلى هذا الذي قالوه في "أخطب ما يكون" تكون "ما" مصدرية، ولا حذف، وهو الظاهر، أو يكون المحذوف أزماناً أو أحوالاً مضافة إلى الكون، أو تكون "ما" بمعنى شيء، و"تكون" صفة.

وأجاز ابن الدهان في "ضربي زيداً قائماً" رفع "قائم" على أن يكون خبراً عن "ضربي" إذا كان معنى "قائم" ثابت ودائم، كما تقول: الأمر بيننا قائم، والحرب قائمة على ساق، وهذا جار على قولهم: ضربي زيداَ شديد، ولا خلاف في جوازه.

وقوله وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع أي: رفع ما كان حالاً على أن يكون خبراً للمصدر الصريح ممنوع، مثال ذلك: ضربي زيداً قائم. واحترز بقوله "صريح" من المسألة التي أجاز فيها الرفع، وهي: أخطب ما يكون الأمير قائم.

وقوله دون ضرورة مشعر بأن ذلك يجوز في الضرورة، وهو أن يكون خبراً عن المصدر الصريح. ثم لما تكلم في المسألة في الشرح لم يجز الرفع على هذا الوجه، وهو أن يكون خبراً عن "ضربي"، إنما أجازه على إضمار

ص: 298

مبتدأ مقرون بواو الحال، تقديره: ضربي زيداً وهو قائم، قال: "وحقه أن يمنع مطلقاً لأن شبيه بقولك: جاء زيد راكب، على تقدير: وهو راكب، لكن الضرورة أباحت حذف المبتدأ المقرون بالفاء في جواب الشرط، وهو أصعب، فإجازة حذف مبتدأ مقرون بواو الحال أولى. ومثال حذف المبتدأ مقروناً بالفاء قول الشاعر:

بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها بني ثعل من ينكع العنز ظالم"

انتهى كلامه.

وكان ينبغي أن لا يقول "دون ضرورة"، بل يقول: وفعل ذلك بعد مصدر صريح ممنوع، فإن أدت الضرورة إلى رفعه خبر مبتدأ محذوف، وتكون الجملة حالاً، جاز. ولم يبين المصنف جهة الأصعبية. ونقول: بل هو في الشرط أسهل لأن جواب الشرط لابد أن يكون جملة، وكونها أسمية جائز، فإذا حذف دل طلب الشرط عليه. وأما هذه/ الحال السادة مسد خبر المبتدأ ففيها خلاف: أتقوم الجملة مقامها أم لا؟ يجوز إلا أن تكون صريح الاسم، وسيأتي ذكر ذلك. فعلى هذا لا مقتضى للجملة، بخلاف جملة الشرط، فإنها تطلب جملة الجواب، وتقتضيه، فإذا حذف منها شيء، دل عليه الشرط.

ص: وليس التالي "لولا" مرفوعاً بها، ولا بفعل مضمر، خلافاً للكوفيين. ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور، ولا الواو والحال المشار إليهما، خلافاً لزاعمي ذلك، ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلاً، خلافاً للفراء، ولا جملة اسمية بلا واو،

ص: 299

وِفاقاً للكسائي، ويجوز إتباع المصدر المذكور، وفاقاً له أيضاً.

ش: المناسب ذكر قوله "وليس التالي لولا مرفوعاً بها، ولا بفعل مضمر، خلافاً للكوفيين" متصلاً بقوله "ووجوباً بعد لولا الامتناعية غالباً"، أما أن يفصل بذلك بين مسائل الحال السادة مسد الخبر فغير سديد في التصنيف.

وقوله مرفوعاً بها هو قول الفراء. وقوله ولا بفعل مضمر هو قول الكسائي. وأبهم في قوله "خلافاً للكوفيين". وقد أمعنا الكلام على المرفوع بعد "لولا" في كتاب "التكميل" في الفصل الثاني من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك".

وقوله ولا يغني فاعل المصدر المذكور إلى آخر المسألة تقدم الكلام على هذه المسألة، فأغنى عن إعادته.

وقوله ولا الواو والحال المشار إليهما، خلافاً لزاعمي ذلك. أما الواو فيعني بها واو المصاحبة، فلا تغني عن الخبر، وقد تقدم الكلام على ذلك.

وأما الحال فقد ذهب الكسائي والفراء وهشام وابن كسيان إلى أن الحال بنفسها هي الخبر لا سادة مسدة، على خلاف بينهم في ذلك:

ص: 300

فقال الكسائي وهشام: الحال إذا وقعت خبراً للمصدر كان فيها ذكران مرفوعان: أحدهما من صاحب الحال، والآخر من المصدر. وإنما احتاجوا إلى ذلك لأن الحال لابد لها من ضمير يعود على ذي الحال، وهي خبر، والخبر عندهم لابد فيه من ضمير يعود على المبتدأ، لأن المبتدأ عندهم إنما يرتفع بما عاد عليه في أحد مذهبي الكوفيين. و"ضربي" مبتدأ مرفوع، فلابد له من رافع، فاحتاجوا إلى القول بتحمل "قائم" ضميره ليرفعه، حتى إنهما قالا: يجوز أن تؤكد الضميرين اللذين في "قائماً"، فتقول: ضربي زيداً قائماً نفسه نفسه، وقيامك مسرعاً نفسك نفسه، فإن أكدت القيام أيضاً على المضمرين قلت: قيامك مسرعاً نفسك نفسه، فتكرر النفس ثلاث مرات.

وزعم الفراء ومن أخذ بقوله أن الحال/ إذا وقعت خبراً للمصدر لا ضمير فيها من المصدر لجريانها على صاحبها في إفراده وتثنيته وجمعه وتعريها من ضمير المصدر للزومها مذهب الشرط، والشرط بعد المصدر لا يتحمل ضمير المصدر، فكذلك الحال.

وجاز نصب قائماً ومسرعاً وما أشبههما على الحال عند الكسائي وهشام والفراء وإن كان خبراً لما لم يكن المبتدأ، ألا ترى أن المسرع هو المخاطب لا القيام. والقائم هو زيد أو أنا لا الضرب، فلما كان خلاف المبتدأ انتصب على الخلاف، لأن الخلاف عندهم يوجب النصب.

وقال ابن كيسان: إنما أغنت الحال عن الخبر لشبهها بالظرف.

وحكي أبو محمد بن السيد البطليوسي عن الكوفيين أن الخبر محذوف بعد "قائم"، تقديره: ثابت أو موجود. وكذا قال ابن هشام في الإفصاح، قال: "والكوفيون يجعلون قائماً حالاً من زيد، والعامل فيه

ص: 301

المصدر، والتقدير: ضربي زيداً قائماً واقع، على معنى: يقع أو وقع، وقالوا: تقدير اسم مفرد أولى من تقدير ظرف قد قام مقام جملة، ثم تقدير فعل وفاعل بعده، فتقدير اسم مفرد أولى". قال:"وهذا التقدير لا يوافق المعنى الشرط، كأنه قال: إنما أضربه بشرط أن يكون قائماً، وإنما ضربته لما كان قائماً، وهذا المعنى يصح بتقدير إذ وإذا، فلهذا احتاج البصريون إلى تقديرهما".

فأما مذهب الكسائي وهشام فأبطل بأن العامل الواحد لا يعمل في معمولين ظاهرين ليس أحدهما تابعاً للآخر رفعاً، فكذلك لا يعمل في مضمرين، وأما قولهم في "زيد حيث عمرو" من أن "حيث" رفعت زيداً وعمراً لنيابتها مناب ظرفين فقد أبطلناه فيما تقدم في الفصل قبل "باب الابتداء". وإذا انتفى أن ترفع الحال ضميرين انتفى كونها خبراً. وأيضاً، فنقول: ضربي الزيدين قائمين، فلا يمكن أن يكون فق "قائمين" ضميران، لأنه لو كان كذلك لكان أحدهما مثنى من حيث عوده على مثنى، والآخر مفرد من حيث عوده على مفرد، وتثنية اسم الفاعل وإفراده إنما هو بحسب ما يرفع من الضمير، فلزم أن يكون اسم الفاعل مفرداً في حال واحدة، وهذا لا يمكن.

وأما تأكيد الضميرين فشيء قالوه بقياس مبني على قول فاسد، ولا سماع يعضده.

وأما ما ذهب إليه الفراء فأبطل بأن الشرط بمفرده من دون جواب لا يصلح أن يكون خبراً لأنه لا يفيد، وإذا كان كذلك تعين أن يكون جواب الشرط محذوفاً، فيكون الضمير محذوفاً مع الجواب، مع أن قيام الشرط

ص: 302

بمفرده دعوى لا دليل على شيء منها.

وما ذهب إليه ابن كيسان من أن الحال تشبه الظرف، فكأنه قال: ضربي زيداً في حال قيام، ليس بشيء، لأنه لو جاز ذلك لهذا التقدير لجاز مع الجثة/ أن تقول "زيد قائماً" لأنه في معنى: زيد في حال قيام، وحيث لم يجز ذلك دل على فساد ما ذكره. وقال المصنف في الشرح موضحاً لهذا الدليل السابق في إبطال مذهب ابن كيسان:"إما أن يقدر لهذه الحال عامل أو لا، أن لم يقدر لها عامل لزم استغناؤها عما لا يستغنى عنه الظرف مع أنه أصل بالنسبة إليه، ولو جاز ذلك مع المصدر لجاز مع غيره، فكان يقال: زيد قائماً، لأنه بمعنى: زيد في حال قيام. وإن قدرت لم يكن العامل إلا مثل المقدر في الظرف، فكما يقدر في: زيد في حال قيام: زيد مستقر في حال قيام، يقدر: ضربي زيداً مستقراً قائماً، فكان يلزم من ذلك الإخبار عن الضرب بما للضارب، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال" انتهى.

وأما ما حكاه ابن السيد عن الكوفيين فقد رد لأنه تقدير ليس في اللفظ ما يدل عليه، فكما تقدره "ثابت" فيجوز أن تقدره "منفي"، ولأنه يكون من الحذف الجائز لا الواجب، لأن قائماً إذ ذاك يكون حالاً من "زيد"، والعامل فيه المصدر، فلا تكون الحال سدت مسد الخبر، فلا يجب حذفه، وإنما يجب إذا سدت الحال مسده، لأن الحال إذ ذاك عوض من الخبر بدليل أن العرب لا تجمع بينهما، ولا تحذف خبر هذه المصادر إلا مع وجود الأحوال للمناسبة التي بين الحال والخبر، لأن أصل الخبر التنكير كالحال، ولأن الحال هي صاحبها، كما أن الخبر المفرد هو المبتدأ، والحال مقيدة كما أن الخبر كذلك، ففهم من عدم اجتماعهما قصد العوضية، ولا تتصور العوضية إلا على قول من قدر أن الخبر قبل الحال، لأنك إذا قدرت الخبر

ص: 303

"ثابت" أو "موجود"، وجعلت قائماً حالاً من "زيد" فإما أن يكون إخبارك المخاطب عن ضرب قد عهد منك إيقاعه بزيد في حال قيامه، فلا يكون في الإخبار بثابت أو موجود فائدة لأنه معلوم عنده، أو عن ضرب لم يعهده منك في تلك الحال، فلا دليل على ذلك المحذوف لجواز أن يكون التقدير: ضربي زيداً قائماً غير ثابت، ولأن في جعل "قائماً" معمول "ضربي" حذف الحبر برمته، وفي جعل "قائماً" معمول الخبر حذف بعض الخبر، وحذف بعض الخبر أولى من حذف جميعه.

وتلخص من مجموع هذه المذاهب أن النحويين أجمعوا على رفع "ضربي" من قولك: ضربي زيداً قائماً. فقيل: ارتفع على الفاعليه بفعل محذوف. وقيل: على الابتداء. فقيل: لا خبر له لإغناء فاعله عنه. وقيل: له. خبر فقيل: ملفوظ، وهي الحال على اختلاف في التقدير، وقيل: محذوف. فقيل: بعده. وقيل: قبله. فقيل تقديره: ضربه قائماً. وقيل: إذا كان أو إذ كان.

وهذا الذي ذكرناه من سد الحال مسد خبر المبتدأ ينبغي أن يقتصر به على مورد السماع/ لأنه شيء خارج عن القياس، فلا يجوز ذلك إلا فيما سمع، وهو أن يكون المبتدأ مصدراً أو أفعل التفضيل مضافاً إلى المصدر أو ما قدر بالمصدر.

وزعم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن الاسم الذي لا حقيقة له في الوجود يجري مجرى المصدر في هذا المعنى لا مجرى الجثث، فتسد الحال مسد خبره. واستدل على صحة ذلك بقول الشاعر:

ص: 304

خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب

فـ "خيال" مرفوع بالابتداء، وجاز الابتداء، وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله "لأم السلسبيل"، فلا يصح أن يكون خبراً لأنه صفة، بل الخبر هو محذوف، سدت الحال - وهي قوله "ودونها مسيرة شهر" - مسدة. وساغ ذلك لأن الخيال لا حقيقة له جسمية.

ولا حجة في هذا البيت لأنه يحتمل أن يكون "خيال" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا خيال.

وقوله ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلاً، خلافاً للفراء. اختلف في ذلك: فأجاز ذلك أبو الحسن والكسائي وهشام، نحو: حسنك تركب، أي: راكباً. ونقل عن س المنع.

واختلف النقل عن الفراء: فحكي ابن خروف عنه الجواز، ونقل ابن عصفور المنع، وهو الصحيح عنه.

ونقل ابن أصبغ الخلاف عن الكسائي.

وقال أبو بكر بن الأنباري: "أجاز الفراء رد الحال إلى الاستقبال إذا كانت غير رافعة، وأبطل ذلك فيها إذا رفعت، فخطأ عند الفراء: حسنك تركب. وأجاز هو والكسائي: حسنك تركب مسرعاً.

قال ابن عصفور: والذي يمنعه الفراء المضار المرفوع. وعلله بأن النصب الذي في لفظ المفرد عوض من التصريح بالشرط، والمستقبل المرفوع ليس في لفظه ما يكشف مذهب الشرط" انتهى.

والصحيح الجواز لورود ذلك عن العرب، قال الشاعر:

ص: 305

ورأي عيني الفتى أباكا يعطي الجزيل، فعليك ذاكاً

وقال الآخر:

عهدي بها في الحي قد سربلت بيضاء مثل المهرة الضامر

قال ابن هشام: يمكنه أن يجعل الخبر في المجرور، أي: عهدي واقع بها، ويجعل الجملة حالاً من الضمير المجرور.

وقوله ولا جملة اسمية بلا واو وفاقاً للكسائي. اختلف في وقوع الجملة الأسمية حالاً مصحوبة بالواو: فنقل عن س والأخفش أنه لا يجوز ذلك، وأن الحال لا تسد مسد الخبر إلا إذا كانت اسماً منصوباً. وأجاز ذلك الكسائي والفراء. وقد ورد السماع بما منعه س، قال الشاعر:

عهدي بها الحي الجميع، وفيهم عند التفرق ميسر وندام

وقال آخر:

خير اقترابي من المولى حليف رضا وشر بعدي عنه، وهو غضبان

ولم ينقل المصنف خلافاً في الجملة الاسمية المصحوبة بواو الحال، بل حكي عن ابن كيسان ما ظاهره الجواز في كل الأحوال، قال:"قال كيسان: إن قلت "مسرتك أخاك هو قائم" جاز ذلك عن الكسائي وحده، فإن جئت بالواو قبل "هو" جازت في كل الأقوال". فظاهر قوله "في كل الأقوال"

ص: 306

أنه لا خلاف في ذلك، وقد حكي أن س منع من ذلك.

وأما إذا كانت جملة اسمية لا واو معها فأجاز ذلك الكسائي فيما فيه ذكر، كما قاله ابن كيسان، واتبعه المصنف. ومنع ذلك الفراء وقال: واو الحال هي رافعة المصدر، والرافع لا يحذف. والبصريون على مذهب الكسائي في هذا الأصل، قاله بعضهم. ويقتضي مذهب س المنع لأنه لا يجيز وقوع الجملة الاسمية المصحوبة بالواو حالاً، وكونها محذوفة الواو فرع على هذا المنع، فهو أولى بالمنع.

والذي ورد عن العرب في هذا إنما هو بالواو، فينبغي إتباعه. ومن أجاز حذفها فليس مذهبه ببعيد. قال المصنف في الشرح:"مقتضى الدليل أن يكون حذف الواو هنا أولى لأنه موضع اختصار، لكن الواقع بخلاف ذلك، وباب القياس مفتوح".

وقوله ويجوز إتباع المصدر المذكور وفاقاً له أيضاً. أي: للكسائي، أجاز الكسائي: ضربي زيداً الشديد قائماً، وشربي السويق كله ملتوتاً. وحجته في ذلك إتباع القياس.

وحجة من منع أن الموضع موضع اختصار، ولم يرد به سماع، ولا يجوز أن يقع المصدر موضع هذه الحال لأنه لا مناسبة بينه وبين الزمان، لأنهم إنما عدلوا إلى الحال المشتقة للمناسبة، وهذه المناسبة لا تحفظ إلا مع صورة الحال الأصلية، ولا يجوز التجوز في الحال لكونها كالظرف، لأنه لا يتجوز في الشيء الواحد مرتبين.

وقد أغفل المصنف ذكر مسائل تتعلق بهذه المسألة:

ص: 307

الأولى: أجاز السيرافي وابن السراج دخول "كان" الناقصة على هذا المصدر، فتقول: كان ضربي زيداً قائماً. وقال ابن عصفور: هو قبيح لأن تعويض الحال من الخبر إنما يكون بعد حذفه، وحذف خبر "كان" قبيح.

الثانية: إذا كنيت عن المصدر الذي سدت الحال مسد خبره قبل ذكر الحال، نحو "ضربي زيداً هو قائماً" حال سدت مسد خبره. وعند الكسائي يرتفع الضرب بالراجع من "هو"، ويرتفع "هو" بقائم، وهذا جار على مذهبه. وقال الفراء: لا يجوز ذلك/ لأن المكني مثل "زيد" لا يرفعه إلا ما يرفع زيداً وعمراً، والحال لا ترفع زيداً ولا عمراً.

الثالثة: اختلفوا في جواز تقديم هذه الحال على المصدر:

فقال الفراء: لا يجوز ذلك سواء أكانت من ظاهر أم من مضمر، فيمنع: مسرعاً قيامك، وإن كان يجيز: مسرعاً قمت، لأن الحال مبنية على الشرط، والشرط يرفع آخراً، ولا يعرب أولاً، فيقال: قيامك إن أسرعت، وسكوتك إن أنصفت، ولا يقال: أن أنصفت سكوتك.

وقال الكسائي وهشام: يجوز ذلك إذا كانت من مضمر لا من ظاهر، فيجوز: مسرعاً قيامك، كما يجوز: مسرعاً قمت، ومسرعاً تقوم، ولا

ص: 308

يجوز: مسرعاً قيام زيد.

فإن كان المصدر متعدياً نحو "شربك السويق ملتوتاً" فمنع التقديم الكسائي والفراء وهشام، فلا يجيزون: ملتوتاً شربك السويق.

وأجاز ذلك البصريون سواء أكان المصدر متعدياً أم لازماً، نقلاً عنهم، خلافاً لمن قال: لا نقل عن البصريين، بل مقتضي قولهم جواز تقديمها إن قدر الخبر مقدماً على المصدر، ووجوب التأخير إن قدر مؤخراً.

وقال ابن الدهان: لا يمتنع في القياس تقديمها، ومن نقل وعلم حجة على من لم ينقل ولم يعلم.

وفي الإفصاح: ذكر السيرافي أن الزجاج أجاز: قائماً ضربي زيداً، قدم الحال كقولك: اليوم القتال، كأنك قلت: إذا كان قائماً ضربي زيد يقع.

الرابعة: تقديم الحال على مفعول المصدر، نحو: شربك ملتوتاً السويق، أبطل ذلك الكسائي والفراء وهشام، وحكي عن البصريين جواز ذلك. ولعله لا يصح، وإجازة ذلك تشكل لأن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بالحال التي سدت مسد الخبر، بخلافها إذا تقدمت، فإنه لا يلزم في ذلك فصل بين المصدر ومعموله.

الخامسة: إذا كانت الحال بالواو فهل يجوز تقديمها على المصدر؟ أبطل ذلك الكسائي وهشام الفراء إن كان المصدر متعدياً لمفعول، نحو قولك: وهو ملتوت شربي السويق، وإن كان لازماً جاز ذلك عند الكسائي،

ص: 309

نحو: وأنت راكب حسنك، ولم يجز ذلك عند الفراء لأن الحال لا ترفع مقدمة.

السادسة: أجمعوا على إبطال: أكلك متكئاً الطعام، لأن الطعام في صلة الأكل، ومتكئاً خبره، والصلة لا تأتي بعد الخبر، وقد تقدم الخلاف في جواز نحو: شربك ملتوتاً السويق، فينظر ما الفرق بين المسألتين.

السابعة: اتفقوا على جواز دخول "إن" وفاء "أما"، تقول: إن حسنك راكباً، وأما حسنك فراكباً.

الثامنة: اتفقوا على منه: ما حسنك براكب، لأن الباء تغير نصب الحال، فتفسد المسألة لذلك.

التاسعة: أما ضربيك فإنه حسناً، على أن الهاء ترجع إلى الضرب، وخبر إن حسناً، وحكم كان وظن حكم إن في هذا المعنى، فأجازوا: أما ضربيك فكان حسناً، وأما/ ضربيك فظننته حسناً، على أن حسناً صفة الضرب. وأبطلها الفراء على حسناً صفة للياء والكاف. والكسائي يجيزهن كلهن.

العاشرة: أجاز الكسائي وهشام: عبد الله وعهدي بزيد قديمين، وكذلك: عبد الله والعهد بزيد قديمين. ترتيب المسألة: العهد بعبد الله وزيد قديمين، فقدم "عبد الله"، ورفع بما بعده، وثني "قديمين" لأنه لـ "عبد الله" و"زيد"، وكانا خبراً للعهد كما تكون الحال خبر المصدر.

وسوى الكسائي وهشام بين قولك: إن عبد الله والعهد بزيد قديمين، وعبد الله وإن العهد بزيد قديمين.

ولا يعلم أن الفراء أجاز شيئاً من هذا، وأصحابه يردون على الكسائي

ص: 310

وهشام ما جوزاه من هذه المسائل. وقياس البصريين يقتضي المنع.

ولا يجوز في قول الكسائي وهشام: عبد الله فالعهد بزيد قديمين، ولا يصلح عندهما في هذا المعنى العطف إلا بالواو الجامعة.

الحادية عشرة: أجاز الكسائي والبصريون تقديم معمول الحال السادة مسد خبر المصدر على الحال بعد تمام المصدر بما هو من صلته، نحو: ضربي زيداً فرساً راكباً، تقديره: راكباً فرساً.

ومنع ذلك الفراء، قال: لأن راكباً لا يرد إلى الاستقبال، وما لم يرد إلى الاستقبال لم تقدم صلته عليه، وإنما يجيز الكسائي تقديم صلته عليه إذا كانت إلى جنبه، فإن فرق بينهما لم يجز ذلك عنده. وقياس قول البصريين الجواز.

والثانية عشرة: أجاز الزجاج: عبد الله أحسن ما يكون القيام، وقال: لا يجوز غيره. ومنعها المبرد.

الثالثة عشرة: "أكثر ضربي زيد" منعها الكوفيون، وأجازها البصريون. قيل: ولا خلاف نعلم في جواز: أكثر لبسي الكتان.

الرابعة عشرة: أجاز ابن كيسان: أما ضربي زيداً فكان قائماً نفسه نفسه، فتكون الأولى لذكر زيد، والثانية لذكر الضرب. وحكي أبو جعفر النحاس إن ذلك جائز على مذهب البصريين والكسائي، وغير جائز على مذهب الفراء.

الخامسة عشرة: "علمي بزيد كان ذا مال" منعها أبو علي على أن يكون "علمي" مبتدأ، و"بزيد" متعلق به، "وكان" في موضع خبره، واسمها مستتر فيها، وهو عائد على علمي، و"ذا" خبر كان من حيث إنه يصير التقدير إلى: علمي ذو مال، و "ذو مال" ليس نفس العلم، ولا منزل منزلته.

ص: 311

وتجوز المسألة على وجوه: منها ما جوزه بعضهم من أن تكون من باب: ضربي زيداً قائماً، أي: كائناً ذا مال، وقد كان ذا مال، وذلك على تقدير الكوفيين في نقل من نقل عنهم أنهم يقدرون الخبر متأخراً محذوفاً، أي: علمي بزيد كان قائماً واقع، أو على تقدير العضد: علمي بزيد علمي به ذا مال، وأما على تقدير من قدر "إذا كان" فلا يصح. ويمكن أن يكون خبر علمي، أي: علمي ملتبس كان قائماً واقع، أو على تقدير العضد: علمي بزيد علمي به ذا مال، وأما على تقدير من قدر "إذا كان" فلا يصح. ويمكن أن يكون خبر علمي، أي: علمي ملتبس يزيد أو واقع به ذا مال، أي: غنياً، ويمكن أن تكون "كان" زائدة، ويكون المعنى: علمي بزيد ذا مال.

/وزعم بعض النحويين أنه يجوز: علمي بزيد كان ذا مال، على تقدير: إذ كان، وحذف "إذا" للدلالة عليها.

وهذا ضعيف لأن العرب إنما حذفت هنا الظرف والفعل معاً، واطرد ذلك في كلامهم، ولم تحذف أحدهما دون الآخر.

وأجاز الأستاذ أبو علي في بعض تقاييده على الإيضاح أن تكون "كان" ناقضة، واسمها مضمر يعود على العلم، و"ذا مال" حال تسد مسد خبر "كان" كما تسد مسد خبر المبتدأ.

قال بعض أصحابنا: واتفقوا على منع ما أجازه الأستاذ أبو علي، واختلفوا في التعليل: فقيل: امتنع ذلك لأنه باب حذف واختصار وتعويض، ولم يجعل العرب ذلك إلا مع المصدر أو مع مضاف إلى المصدر، وعلى أن يكون بعضه أو كله لا مع ضميره، وإن كان في المعنى مصدراً، وعلينا إتباعهم.

وقال أبو علي في التذكرة: لم يجز لأنك حلت بينه وبين معموله، يريد أن الحال القائمة مقام الخبر عن المصدر لابد أن يكون في المصدر من الحال له، ويكون معمول المصدر، فإذا أضمرت المصدر لم يبق معموله لأن

ص: 312

الضمير العائد على المصدر لا يعمل، فإذا لا يصح أن تكون الحال سادة مسد الخبر عن مصدر مضمر لأنها لا تسد إلا عن مصدر معموله صاحب الحال، والمضمر لا يعمل، فليس له معمول.

وقيل: لم يسمع منهم: ضربي زيداً هو قائماً، فلا تدخل عليه كان، فيكون اسماً لها، وكل ما كان اسماً لـ "كان" يجوز أن يتقدم، ويضمر فيها ضميره، فتقول في كان زيد قائماً: زيد كان قائماً، وهذا لم يأت في نحو هذا، لم يسمع: ضربي زيداً كان قائماً.

-[ص: ويحذف المبتدأ أيضاً جوازاً لقرينة، ووجوباً كالمخبر عنه بنعت مقطوع لمجرد مدح أو ذم أو ترحم، أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله، أو بمخصوص في باب نعم، وبئس، أو بصريح في القسم، وإن ولي معطوفاً على مبتدأ فعل لأحدهما واقع على الآخر صحت المسألة، خلافاً لمن منع، وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف، فيطابقهما الخبر.]-

ش: مثال حذفه جوازاً لقرينة: صحيح، لمن قال: كيف زيد؟ و: مسك، عند شم طيب، و: إنسان، عند رؤية شبح، وقال الشاعر:

إذا ذقت فاها قلت: طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر

أي: هذا طعم مدامة. ولو كان هذا معرفة لجاز جعله مبتدأ محذوف الخبر. ومما يحسن الحذف دخول فاء الجزاء على ما لا يصلح أن يكون مبتدأ، كقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أي: فصلاحه لنفسه.

وقوله لمجرد مدح أو ذم أو ترحم مثاله: الحمد لله أهل الحمد، ومررت بزيد الفاسق، ومررت ببكر المسكين. وإنما التزم/ هنا إضمار

ص: 313

المبتدأ لأنه مما يجوز فيه القطع إلى النصب على إضمار فعل لا يجوز إظهاره، قصدوا إنشاء المدح أو الذم أو الترحم، ولم يريدوا به الإخبار، فالتزموا فيه الإضمار إمارة على الإنشاء، كما فعلوا في النداء، إذ لو أظهر لأوهم الإخبار، فأجري الرفع مجرى النصب في إضمار الرافع والناصب ليستويا. واحترز بقوله "لمجرد مدح أو ذم أو ترحم" من أن يكون لغير ذلك، فإنه يجوز إظهار المبتدأ وإضماره، وإظهار الناصب وإضماره، نحو: مررت بزيد الخياط، يجوز فيه الرفع والنصب، ويجوز أن تقول: بزيد هو الخياط، وبزيد أعمي الخياط، وقال الشاعر:

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا أبدى النواجذ يوم باسل ذكر

الخائض الغمر والميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطر

وقوله أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله مثاله قولهم: سمع وطاعة، وقال الشاعر:

فقالت: حنان، ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

التقدير: أمري سمع وطاعة، وأمري حنان.

والأصول في هذا النصب لأنه مصدر جيء به بدلاً من اللفظ بالفعل، فلم يجز إظهار ناصبه لئلا يكون جمعاً بين البدل والمبدل منه، ثم حمل الرفع على النصب، فالتزم إضمار المبتدأ.

وقيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: حمد الله وثناء عليه، أي: أمري

ص: 314

حَمْدُ الله. وقد جاء إظهار هذا المبتدأ في الشعر، أنشد ابن جني في الخصائص:

فقالت: على اسم الله، أمرك طاعة وإن كنت قد كلفت ما لم أعود

وقوله أو بمخصوص في باب نعم وبئس مثاله: نعم الرجل زيد، جوزوا في "زيد" أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو زيد، فعلى هذا قالوا: يكون قد حذف المبتدأ وجوباً، وسيأتي الكلام في هذه المسألة إن شاء الله. ويتضح أنه لا يجوز في هذا المخصوص إلا أن يكون مبتدأ، والجملة التي قبله في موضع الخبر، له، كما لو كان تقدم على الجملة.

وقوله أو بصريح في القسم مثاله قول العرب: في ذمتي لأفعلن، أي: في ذمتي ميثاق أو عهد، وهذا عكس قولهم: لعمرك لأفعلن، ذكر هذه المسألة أبو علي الفارسي، وقال الشاعر:

تسور سوار إلى المجد والعلا وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا

ومما يجب فيه إضمار المبتدأ مواضع:

أحدها أن يذكر الشاعر منزلاً أو منازل/ يتغزل بها، ثم يقول: دار فلانة، أو ديار فلانة، كما قال الشاعر:

أتعرف رسم الدار قفرا منازله كسحق اليماني زخرف الوشي ماثله

ص: 315

بتثليث أو نجران أو حيث نلتقي من النجد في قيعان جاش مسايله

ثم قال:

ديار سليمى إذ تصيدك بالمنى وإذ حبل سلمى منك دان تواصله

أي: هي ديار، أو تلك ديار. وقال الآخر:

هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا كما عرفت برسم الصيقل الخللا

دار لمروة إذ أهلي وأهلهم بالقادسية نرعى اللعو والغزلا

وكذلك ما انتصب توكيداً لنفسه، نحو {صُنْعَ اللَّهِ} ، و {وعْدَ اللَّهِ} ، و {كَتَبَ اللَّهُ} و {صِبْغَةَ اللَّهِ} ، هذا كله يجوز رفعه بإضمار مبتدأ لا يجوز إظهاره.

قال بعض أصحابنا: "وكذلك سائر ما جاء من الفصل الأول". يعني ما ارتفع خبر مبتدأ، وأصله أن ينصب بفعل لا يجوز إظهاره. قال:"إلا أنه غير مقيس، لا تفعله". يعني ترفعه على خبر مبتدأ إلا فيما سمعت بخلاف ما جاء في الديار، وما قطع في النعوت، وفي مصادر التوكيد، لكن ما سمع منه لا يكون إلا على هذا، أي: على خبر مبتدأ، كقولهم: من أنت زيد؟

الثاني: قول العرب: من أنت زيد؟ أي: مذكورك زيد، حذفت

ص: 316

المبتدأ وجوباً لأنهم قالوا: من أنت زيداً؟ بالنصب، أي: تذكر زيداً، اضمروا في الرفع كما أضمروا في النصب.

الثالث: قول العرب "لا سواء" حكاه س، وتأوله على حذف المبتدأ، تقديره: هذا لا سواء، وقال س:"إنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه سواء، ألا ترى أن لا تقول: هذان لا سواء". والمبرد لا يمنع ظهوره، يعني ظهور المبتدأ. وقدره بعضهم بعد "لا"، أي: لا هما سواء. ومن كلام المختار بن أبي عبيد، وقد قتل حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، وأباه عمر بن سعد:"عمر بالحسين، وحفص بعلي بن الحسين، ولا سواء"، أي: ولا هما سواء. ولم تكرر "لا" لأن المعنى: ولا يستويان، فكما أن الفعل لا يلزم تكرير "لا" معه، فكذلك مع ما في معناه.

وفي كتاب أبي الفضل الصفار: س لا سواء، يريد أن هذه اللفظة تستعمل عندما تسوي بين شيئين أو أشياء، فيقول الراد: لا سواء، أي: هما لا سواء، لكن لم يظهر قط ما ارتفعت عليه سواء، وعاقبه "لا"، فكما أنك لو قلت "هما سواء" لم يلزم تكرار، فكذلك ما عاقبه.

الرابع: قولهم "لاسيما زيد" في من رفع زيداً، التقدير: لا سي الذي هو زيد.

ص: 317

وقوله وإن ولي معطوفاً إلى آخر المسألة مثال/ ذلك: عبد الله والريح يباريها، فمجيز ومانع، والمنع أظهر لأن "عبد الله" مبتدأ، و"الريح" معطوف عليه، والمعطوف على المبتدأ مبتدأ، و"يباريها" خبر عن المبتدأ الواحد، ويبقى الآخر لا خبر له، فلو لم تكن الواو صحت إجماعاً.

ومن أجازها من البصريين جعل خير المبتدأين محذوفاً، وتقديره: عبد الله والريح يجريان يباريها، و"يباريها" في موضع نصب على الحال، واستغنى بها عن الخبر لدلالتها عليه. ومن أجازها من الكوفيين فعلى معنى: يتباريان، إذ من باراك فقد باريته، ولم يقدر محذوفاً. قال أبو بكر بن الأنباري: عبد الله والريح يباريها، وأخوك والدنيا يذمها، بين هشام أن "عبد الله" رافعة في الأصل ما عاد من "يباريها"، و"الريح" يرفعها رجوع الهاء في "يباريها"، والواو نسقت "الريح" على "عبد الله"، فبنيا على: عبد الله والريح يتباريان، وعبد الله والدنيا مقرونان ومجتمعان، وبطل: عبد الله فالريح يباريها، وأخوك ثم الدنيا يذمها.

ولهشام في هاتين المسألتين جواب آخر، وهو أن الواو ترفع "عبد الله"، و"الريح" نسق على "عبد الله"، و"يباريها" حال لـ "عبد الله" و"الريح".

وتلخيص المسألة: عبد الله مع الريح يباريها، إذا كان معروفاً بالسخاء والإفضال والإشباه للريح في هذا المعنى، فكانت الواو هنا على ما هي عليه في: كل ثوب وثمنه، وكل رجل وضيعته.

وقال أحمد بن يحيي: إذا نسقت الريح على عبد الله على أن يباريها

ص: 318

حال نصب إذا صرف إلى الدائم، فقيل: مباريها، وإذا عمل على أن يباريها خبر عبد الله والريح اختلطا في عقدة، واجتمع "عبد الله" و"الريح" في التقرب لاختلاط الخبرين، إذا صرف "يباريها" إلى الدائم رفعه، وأتي بعده بكناية صاحبه، وصاحبه "عبد الله".

وقيل: عبد الله والريح مباريها هو، بإسكان الياء، وأخوك والدنيا ذامها هو، برز "هو" بعد "مباريها "وذامها" لأن فاعلاً جرى على غير صاحبه، فلم يحتمل ضميراً من صاحبه، كما فعل ذلك في "يدك باسطها أنت" لما جرى "باسط" على اليد، وهو فعل للكاف، لم يحتمل ضميراً من الكاف، فظهر صاحبه معه وأبرز.

قال أبو بكر: وقد شرحنا من إجازة الكوفيين هذا المكني، وأبي البصريون إلا إظهاره.

وأصل المسألتين بغير واو عاطفة: عبد الله الريح يباريها، وأخوك الدنيا يذمها. وللريح والدنيا وجهان:

أحدهما النصب بـ "يباري" و"يذم"، وهما مبنيان عند الكوفيين على التأخر بعد الفعل، والبصريون ينصبون الدنيا والريح بفعل مضمر قبل الدنيا والريح، يفسرهما الفعل المظهر.

والوجه الآخر ارتفاعهما برجوع الهاء. فمن عمل على أن "الدنيا" والريح في موضع نصب، وصرف المستقبل إلى الدائم، لم يحتج إلى زيادة في الكلام، فقال: عبد الله الريح مباريها، وأخوك الدنيا ذامها، فذام ومبار/ رافعهما عبد الله والأخ. ومن عمل على أن "الدنيا" و"الريح" في موضع رفع، وصرف المستقبل إلى الدائم، قال: عبد الله الريح مباريها هو، وأخوك الدنيا ذامها هو، احتيج في هذا المعنى إلى إبراز "هو"، وفيه من الحذف ما في غيره.

وقد أجاز هشام: كل رجل وأخوه قائم، على أن كلا يرفعه رجوع الهاء، والأخ رافعه قائم، نسقت الأخ على كل، لما اجتمع الخبران واختلطا

ص: 319

شُبِّها باختلاطهما في: عبد الله والدنيا يذمها.

وقد خالف بعض الكوفيين هشاماً في هذا وفي إجازته: عبد الله وصاحبه قائم، على أن الصاحب معطوف على عبد الله تشبيهاً بـ "أخوك والدنيا يذمها"، وقال: لا ينبغي أن نقيس على المختلطين غيرهما. انتهى ما لخص من كلام ابن الأنباري في هذه المسألة.

وقد أطلق المصنف في قوله "وإن ولي معطوفاً على مبتدأ"، وقد قيدوه بأن يكون العطف بالواو، فلو كان بالفاء أو بثم لم يجز. وقيد المصنف بقوله "فعل لأحدهما"، وقد جوزوا ذلك في الفعل وفي اسم الفاعل كما سبق في كلام ابن الأنباري.

وقال المصنف في الشرح: "واستدل أبو بكر بن الأنباري على صحة هذا الاستعمال بقول الشاعر:

واعلم بأنك والمنيـ ـة شارب بعقارها"

انتهى:

ولا حجة فيه لأنه لا يتعين أن تكون الواو للعطف، إذ يحتمل أن تكون واو "مع"، ويكون "شارب" خبراً لـ "أن" في قوله "بأنك"، التقدير: بأنك مع المنية شارب بعقارها، كما تقول: إنك مع هند محسن إليها.

وقد جعل الكوفيون هذا مقيساً على أن تكون الواو بمعنى "مع"، فيجيزون: إن زيداً وعمراً قائم، كأنك قلت: إن زيداً مع عمرو قائم، فليس لك ما تخبر عنه إلا اسم واحد، ولو أردت العطف عندهم لم يجز إلا أن تثني الخبر. واستدلوا على ذلك بقوله:

ص: 320

فإنك والكتاب إلي علي كدابغة، وقد حلم الأديم

وسيأتي ذكر هذه المسألة في "باب إن" إن شاء الله.

وقوله وقد يغني مضاف إلي آخر المسألة. قال المصنف في الشرح: "قد يقصد اشتراك المضاف والمضاف إليه في خير، فيجيء الخبر مثني كقول بعض العرب "راكب البعير طليحان"، والأصل: راكب البعير والبعير طليحان، فحذف المعطوف لوضوح المعني" انتهي.

وهذه المسألة أجازها الكسائي وهشام، فلو قدمت، فقلت "طليحان صاحب الناقة" أبطلاها إذ لم يقم سابق دليل علي تثنية الخبر، والمرفوع المخبر معنه واحد.

قال ابن الأنباري: "وإنما جاز الأول لأن التقدير في التقديم: الناقة والصاحب، فثني الخبر بالدليل السابق، وهو الاثنان المذكوران، واستحال / "طليحان صاحب الناقة" لتثنية الفعل ورفعه من غير سبق دليل يوجب التثنية، ولا تأخر اثنان مرفوعان يكون مبناه عليهما، وما يصح البناء علي مدلول عليه إلا بمقارنة الدليل وسبقه إياه" انتهي.

وقال صاحب البديع: فأما قولهم "راكب الناقة طليحان" فتقديره: أحد طليحين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون قد حذف المعطوف للعلم به، تقديره: راكب الناقة والناقة طليحان، ومثله

ص: 321

قول الشاعر:

أقول له كالنصح بيني وبينه هل أنت بنا في الحج مرتحلان

وقد جوز بعضهم: غلام زيد ضربتهما، فيعيد الضمير إليهما.

-[ص: والأصل تعريف المبتدأ وتنكير الخبر، وقد يعرفان. وينكران بشرط الفائدة، وحصولها في الغالب عند تنكير المبتدأ بأن يكون: وصفا، أو موصوفا بظاهر أو مقدر، أو عاملا، أو معطوفا، أو معطوفا عليه، أو مقصودا به العموم أو الإبهام، أو تالي استفهام أو نفي أو لولا أو واو الحال أو فاء الجزاء أو ظرف مختص أو لاحق به، أو بأن يكون دعاء، أو جوابا، أو واجب التصدير، أو مقدرا إيجابه بعد نفي. والمعرفة خبر النكرة عند س في نحو: كم مالك؟ واقصد رجلا خير منه أبوه.]-

ش: إنما كان الأصل تعريف المبتدأ لأن المبتدأ مسند إليه، والإسناد إلي المجهول لا يفيد المخاطب إلا بقرينة لفظية أو معنوية تقربه من المعرفة. وإنما كان الأصل تنكير الخبر لأن نسبته من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل، والفعل يلزمه التنكير، فرجح تنكير الخبر علي تعريفه، قاله المصنف، قال:"أو لكونه إذا كان معرفا مسبوقا بمعرفة توهم كونهما موصوفا وصفة، فمجيئه نكرة يرفع ذلك التوهم". ومثال تعريفهما: {اللهُ رَبُّنَا} و {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ} .

وقوله وقد يعرفان مثاله: زيد القائم، وفائدته أقل من فائدة الإخبار بالنكرة؛ لأنك إنما تستفيد منه النسبة إلي المبتدأ لا ثبوته، لأنك تعلمه،

ص: 322

ويشترط فيه أن لا يكون معلوم النسبة لأنه لا فائدة فيه إلا أن يدخله معني تعظيم، نحو: أنا أنا، ونحوه.

وقد خير بعض النحويين في جعل أيهما شئت المبتدأ أو الخبر. وقال بعضهم: هو بحسب المخاطب، فإن علم منه أنه في علمه أحد الأمرين، أو سأل عن أحدهما بقوله: من القائم؟ فقلت في جوابه: القائم زيد، فلا اختيار هنا؛ لأن الثاني كالمجهول، وأما لو أحضر الأمرين، فقال: هل أخوك زيد؟ فحينئذ تكون بالخيار. وأما من خير فلأنه لا فرق بين كونه في ذكره الأمران أو أحدهما إذا كان عالما بذلك في الجملة.

وفي الإفصاح: قال بعض المتأخرين: محل الفائدة - وهو الذي كان غير معلوم عند المخاطب - / هو الخبر، والمعلوم عنده هو الاسم، يعني في "باب كان". قال: وكذلك جعلوه في المبتدأ والخبر، وألزم بعضهم تقديم الخبر علي هذا لئلا يلبس.

وقال بعضهم: إذا كان أحد الاسمين أعم من الآخر فالعموم هو الخبر، نحو: زيد صديقي، إذا كان له أصدقاء غيره، ولا يجوز علي هذا: صديقي زيد، كما لا يجوز: الحيوان زيد، ولا: الكاتب عمرو، ولا: كاتب الأمير عمرو، إذا كان له كتاب، وتقول: عمرو كاتب الأمير. إذا لم يكن له كاتب ساواه. وقال بعضهم: هذا علي معني الحصر.

والذي عليه المتقدمون قول أبي علي: إنك تجعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر، يعني في "باب كان وأخواتها" وكذا في المبتدأ والخبر.

ص: 323

وقد قال أبو بكر بن الصائغ في قول الشاعر:

أردت قصيرات الحجال، ولم أرد قصار الخطا، شر النساء البحاتر

إن "البحاتر" هو المبتدأ، و "شر النساء" الخبر لأنه أعم منه؛ لأن القصر من العيوب، والقصائر بعض معيبات النساء.

وسلم له ابن السيد هذا علي أنه الوجه والأصل، وأجاز أن يكون مبتدأ لأن الأول هو الثاني، وإذا علمنا من أحد الشيئين أنه الآخر علم من الآخر أنه الأول، فوقعت الفائدة. واحتج بقول زهير:

وإما أن تقولوا: قد أبينا فشر مواطن الحسب الإباء

قال: فدخول الفاء يدل علي أنه مبتدأ لأنها لا تدخل علي الخبر.

قال ابن هشام: "وهذا خطأ فاحش لأن الجواب إنما يكون في صدر الكلام، فإن تقدم الخبر كان صدرا، ودخلت عليه الفاء، كقولك: أما زيد ففي الدار، و: إن كان زيد في السجن ففي الدار عمرو. والحجة في قوله تعالي {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} " انتهي، وفي بعضه لي قليل توضيح.

ص: 324

وقوله وينكران من النكرات ما يلزم حالا واحدة، نحو: عريب وكتيع وأحد الذي همزته أصل، تقول: ما أحد مثلك، ونحوه؛ لأنه عام، ولا يقع إلا في النفي، وسيأتي خلاف المبرد فيه. ومنه ما لا يلزم طريقة واحدة.

وقوله وحصولها - أي: وحصول الفائدة - في الغالب قال المصنف: "تنبيه علي أن الفائدة قد يندر حصولها في الإخبار عن نكرة خالية من جميع ما ذكر، كقول من خرقت له العادة برؤية شجرة ساجدة أو بسماع حصاة مسبحة: شجرة سجدت، وحصاة سبحت" انتهي.

والمصنف لم يستوف المسوغات لجواز الابتداء بالنكرة، وسنذكر ما أغلفه منها، ونبين أن في هذا مسوغا منها: فالوصف قول العرب " ضعيف عاذ بقرملة"، أي: إنسان ضعيف أو حيوان ضعيف التجأ إلي ضعيف والقرملة: شجرة ضعيفة.

والموصوف بظاهر "شوهاء ولود خير/ من حسناء عقيم". وهذا يسميه بعضهم خلفا من موصوف، أي: امرأة شوهاء.

وبمقدر قولهم: "السمن منوان بدرهم"، أي: منوان منه بدرهم، وصف "منوان" بالمجرور المقدر، ومنوان: مبتدأ، بدرهم: خبره، والجملة خبر عن قولهم "السمن". وجعل المصنف من هذا قوله {وَطَآئِفَةٌ قَدْ

ص: 325

أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي: من غيركم، وهم المنافقون، وقول الشاعر:

إني لأكثر مما سمتني عجبا يد تشج، وأخري منك تأسوني

أي: يد منك.

ولا يتعين ما ذكر لأنه موضع تفصيل، فيجوز أن يكون المسوغ هو التفضيل.

وأنشد المصنف أيضا من ذلك:

وما برح الواشون حتي ارتموا بنا وحتي قلوب عن قلوب صوادف

أي: قلوب منا عن قلوب منهم.

والعامل: "أمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة". قال المصنف: (ويدخل في هذا المضاف إلي نكرة، نحو "خمس صلوات كتبهن الله علي العباد").

والمعطوف: زيد ورجل قائمان، فـ "رجل" نكرة جاز الابتداء بها لعطفها علي معرفة.

والمعطوف عليه قوله تعالي {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} علي أن يكون التقدير: طاعة وقول معروف أمثل، فساغ الابتداء بقوله (طاعة) لأنه عطف

ص: 326

عليه ما فيه مسوغ لجواز الابتداء به، وهو (معروف) الذ هو وصف لقوله (وقول)، وقال الشاعر:

غراب وظبي أعضب القرن ناديا بصرم، وصردان العشي تصيح

فابتدأ بـ "غراب" - وهو نكرة - لعطف "وظبي" عليه، وفيه مسوغ، وهو وصفه بـ "أعضب القرن". وظاهر كلام المصنف في الشرح أن مطلق العطف مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، وجعل من ذلك قولهم "شهر ثري، وشهر تري، وشهر مرعي" وقول الشاعر:

فيوم علينا، ويوم لنا ويوم نساء، ويوم نسر

وهذا عند غيره ليس مسوغ الابتداء فيه بالنكرة ما ذكره المصنف من العطف، وإنما مسوغ ذلك التفضيل، وقد ذكره أصحابنا في المسوغات، وأغفله المصنف.

ص: 327

وجعل المصنف مما ابتدئ فيه بالنكرة لأجل العطف قول الشاعر:

عندي اصطبار وشكوى من معذبتي فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا

ولا يتعين ما ذكره المصنف لأنه قد تقدم هنا علي النكرة ظرف، وهو مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، وقد ذكر هذا المسوغ المصنف، وسيأتي في التمثيل.

والمقصود به العموم قول ابن عباس "تمرة خير من جرادة"، وقول العرب "خبأة خير / من يفعة سوء".

والإبهام مثله المصنف بقولهم: ما أحسن زيدا! وأصحابنا يقولون: جاز الابتداء بـ "ما" لأن فيها معني التعجب. وجعلوا من ذلك قول العرب: عجب لزيد. ولم يذكر المصنف هذا المسوغ، استغني عنه بالإبهام.

وتالي الاستفهام: أرجل في الدار؟ والنفي: ما رجل في الدار.

و"لولا" قول الشاعر:

لولا اصطبار لأودي كل ذي مقة حين استقلت مطاياهن للظعن

ص: 328

وواو الحال قول الشاعر:

سرينا، ونجم قد أضاء، فمذ بدا محياك أخفي ضوؤه كل شارق

وقال البعيث:

أغر إذا ما شد عقدا لذمة حماها، وطير في الدماء كروع

وأنشد المصنف في الشرح:

عرضنا، فسلمنا، فسلم كارها علينا، وتبريح من الوجد خانقه

ولا يتعين أن يكون الابتداء هنا بالنكرة لأجل واو الحال؛ لأن "من الوجد" إما أن يكون متعلقا بتبريح، أو يكون في موضع الصفة، وكل منهما مسوغ، أما إذا كان متعلقا بتبريح فيكون المسوغ كون المبتدأ عاملا، وأما إن كان في موضع الصفة فيكون المسوغ كونه موصوفا بظاهر، وقد ذكر المصنف هذين المسوغين.

وفاء الجزاء قول العرب: "إن ذهب عير فعير في الرباط".

وظرف مختص: أمامك رجل، فلو كان غير مختص لم يجز، نحو: أماما رجل. واللاحق به هو الجار والمجرور. قيل: وإنما جاز هذا لأن المخبر عنه في الحقيقة هو أمامك، المعني: أمامك معمور برجل. وشرط السهيلي أن يكون المجرور معرفة.

ص: 329

ومثلُهما في ذلك ما ذكره المصنف من الجملة المشتملة علي فائدة، نحو: قصدك غلامه رجل. ولا أعلم أحدا أجري هذه الجملة مجري الظرف والمجرور إلا هذا المصنف.

والدعاء: ويل لزيد، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} ، و "أمت في الحجر لا فيك"، و "خير بين يديك".

والجواب: درهم، في جواب: ما عندك؟ أي: درهم عندي. قال المصنف: "ولا يجوز أن يكون التقدير "عندي درهم" إلا علي ضعف؛ لأن الجواب ينبغي أن يسلك به سبيل السؤال، والمقدم في السؤال هو المبتدأ، فكان هو المقدم في الجواب، ولأن الأصل تأخير الخبر، فترك في مثل: عندي درهم؛ لأن التأخير يوهم الوصيفة، وذلك مأمون فيما هو جواب، فلم يعدل عن الأصل بلا سبب" انتهي. وغير مطابقة الجواب للسؤال في الإعراب لا نقول إن ذلك هو / ضعيف، بل هو جائز، وإن كان الأرجح المطابقة؛ ألا تراهم جوزوا الوجهين في باب الاشتعال في الجملة الاشتغالية التي تكون جوابا، وإن كان الطباق في الإعراب أولي عندهم، لكن الوجه الآخر ليس بضعيف.

وواجب التصدير: من في الدار؟ وكم عبدا لك؟

ومقدر إيجابه بعد نفي "شر أهر ذا ناب" و "مأرب دعاك إلينا لا

ص: 330

حفاوة" بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر، وما دعاك إلينا إلا مأرب، ومثله قول الشاعر:

قدر أحللك ذا المجاز، وقد أري وأبي لك ذو المجاز بدار

وقال الآخر:

قضاء رمي الأشقى بسهم شقائه وأغري سبيل الحر كل سعيد

أي: ما أحللك ذا المجاز إلا قدر، وما رمي الأشقى إلا قضاء. أنشد المصنف البيتين علي هذا المعني.

قال بعض أصحابنا: "لا يقال "شيء ما جاء بك" إلا لمن جاء في وقت ما جرت العادة بأن يجيء في مثله إلا لأمر مهم. وكذلك "شر أهر ذا ناب"، لا يقال إلا في وقت لا يهر الكلب فيه إلا لشر، وجرت العادة لذلك، وإلا فالكلب يهر لغير الشر كثيرا.

وقال س: "إنما جاز أن يبتدأ به لأنه في معني: ما جاء بك إلا شيء".

وقال ابن الطراوة: إنما جاز لأنه مفاجأة، فلا يحتاج إلي التعريف، وإنما التعريف والتنكير أمر يختص به المخاطب. وهذا ليس بشيء، فإن قولك "شيء ما جاء بك" لا يقال إلا لمن تستقبل بالخبر كما بينا، ولو زعم ذلك في "شر أهر ذا ناب" أمكن لأنه يمكن أن يستقبل به أحد، لكن لا على

ص: 331

اللزوم، فنهايته أن زاد في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون مفاجأة. وكذلك جعل المثل "ليس عبد بأخ لك" علي المفاجأة. ونحن نقول أن يكون سببه النفي" انتهي. وقد انتهت المسوغات التي ذكرها المصنف، وهي ثمانية عشر.

وزادوا: أن تكون موضع تفصيل، نحو قوله:

فأقبلت زحفا علي الركبتين فثوب نسيت، وثوب أجر

وأن يكون اسم شرط، نحو: من يقم أقم معه. وهذا داخل تحت قول المصنف "أو واجب التصدير".

وأن يكون قارب المعرفة، نحو: أفضل من زيد عندنا. وهذا داخل تحت قول المصنف "أو عاملا" لأن "من" تتعلق بأفعل التفضيل.

وأن يكون مصغرا، نحو: رجيل عندنا. وهذا يمكن أن يدخل تحت قول المصنف "أو موصوفا" لأن التصغير وصف في المعني، فكأنك قلت: رجل صغير الجرم عندنا.

وأن يكون "كم" الخبرية، نحو: كم رجل جاءني. وهذا يندرج تحت قوله "واجب التصدير".

وأن يكون فيه معني التعجب/ ، نحو: عجب لزيد. وعلي هذا يتخرج ما تقدم ذكره من قول المصنف "شجرة سجدت" وشبهه؛ لأن الناطق بذلك تعجب من هذا الخارق العظيم.

وأن يكون محصورا بأداة الحصر، نحو: ما في الدار إلا رجلٌ، وإنما

ص: 332

في الدار رجلٌ. وهذا في معني ما تقدم عليه حرف النفي، أو تقدم عليه الظرف، وكلاهما مسوغ للابتداء.

وزاد الأخفش في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون في معني الفعل، نحو: قائم زيد. وتقدم مذهبه في ذلك. وما استدل به أيضا من قوله تعالي {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} في قراءة من رفع (دانية) لا حجة فيه لاحتمال أن يكون خبرا مقدما.

وزاد الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في المسوغات أن تكون النكرة لا تراد لعينها، نحو: رجل خير من امرأة، يريد واحدا من هذا الجنس، أي واحد كان خير من كل واحدة من هذا الجنس، قال:"إلا أن معناه يؤول إلي العموم، إلا أنه يخالف العموم في أنه يدل علي كل واحد علي جهة البدل، أعني أنه لا يتناول الجميع دفعة واحدة" انتهي.

وهذا الذي ذكره الأستاذ أبو الحسن يندرج تحت قول المصنف "ومقصودا به العموم"؛ لأن العموم علي قسمين، عموم شمول، نحو: كل يموت، وعموم بدل، نحو:"تمرة خير من جرادة".

ولا يجوز أن يبتدأ بالنكرة إلا وفيها مسوغ من هذه المسوغات التي ذكرنا، فأمَّا قوله:

ص: 333

مرسعة بين أرساغه به عسم يبتغي أرنبا

فزعم بعضهم أنه جاز الابتداء بالنكرة هنا لأنه فعل ذلك ضرورة.

ورد هذا بأنه ليس من أحكام الضرائر أن يجوز بسببها الكلام الذي لا يفيد.

وخرجه بعض أصحابنا علي أنها نكرة لا تراد بعينها؛ لأنه لا يراد مرسعة دون مرسعة، بخلاف قولك: رجل قائم، فإن رجلا لا يقع هنا إلا علي الذي وقع منه القيام.

ولم يشترط س في الابتداء بالنكرة إلا أن يكون في الإخبار عنها فائدة، لكن النحويين تتبعوا مواضعها. ولا يدخل علي س جواز ما أجمع النحويون علي أنه ليس من لسان العرب، وهو: رجل في الدار، لاعتقاد أن فائدته وفائدة "في الدار رجل" واحدة؛ لأن امتناع "رجل في الدار" إنما هو لعروض اللبس الحاصل بتأخر "في الدار" أهو صفة أم خبر، وأنه ينبغي حمله علي الصفة لاحتياج النكرة إليها لشدة إبهامها، وذلك بخلافه إذا تقدم. ولا يرد عليه نحو "زيد القائم" فيمنع لأنه يؤدي إلي اللبس لاحتمال أن

ص: 334

يكون صفة؛ لأن النكرة أحوج إلي النعت من المعرفة، فلذلك كان اللبس إلى النكرة أسرع منه إلي المعرفة.

وقال بعضهم: الابتداء بالفعل فيه إنباء بأمر وقع في زمان، فيتشوف الذهن عند سماعه إلي محل الفعل، فإذا أتيت بما أتيت حصل غرض / السائل. وكذلك إذا قدمت المجرور، بخلاف تقديم النكرة.

وقيل: المجرور نائب عن عامل في الخبر بحيث لا يذكر معه، وإذا ناب عن عامل صار بمنزلة تقديم الفعل، والفعل يكون فاعله نكرة، ولم يكن ذلك في "قائم زيد" لأن "قائم" لم ينب عن عامل كالمجرور.

وقوله في نحو: كم مالك؟ إنما حكم س علي "كم" بالابتداء مع أن ما بعدها معرفة لأن أكثر ما يقع بعد أسماء الاستفهام النكرة والجمل والظرف، فيتعين إذ ذاك أن يكون اسم الاستفهام مبتدأ، نحو: من قائم؟ ومن قام؟ ومن عندك؟ فحكم عليها بالابتداء وعلي المعرفة بالخبر ليجري علي حال واحدة، فيكون الأقل حمل علي الأكثر، قال معناه المصنف.

وقال غيره: "ما أنت وزيد؟ ""ما" عند س مبتدأ، و "أنت" الخبر، نص علي هذا، وغيره يعكس، ويقول: قدم الخبر لأجل الاستفهام. وما ذكر س أولي لأن معني الاستفهام كالتعريف، يحسن الابتداء بالنكرة، وإذا تقدم علي معرفة صارا كالمعرفتين، نحو: زيد أخوك، والمقدم منهما هو المبتدأ.

وكذا قال في "كم أرضك"؟ إن "كم" مبتدأ، و "أرضك" الخبر.

ص: 335

وغيره رأى أن المستفهم به هو المجهول، والمستفهم عنه معلوم للمخاطب، فلا يخبر به، وهو في الجواب خبر، فكذلك ينبغي أن يكون في السؤال. وس يري أن الأول لما كان الثاني معني وقعت الاستفادة بمجموعهما. قال المصنف:"والكلام علي أفعل التفضيل كالكلام علي أسماء الاستفهام" انتهي.

ونقول: إن قولك: اقصد رجلا خير منه أبوه، كان القياس أن يكون "خيرا" منصوبا ليكون صفة للنكرة قبله، لكن منع من ذلك أن أفعل التفضيل لا يرفع الظاهر فصيحا إلا في مسألة "ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد"، ولو جعلت مكان "أفضل" وصفا غير أفعل التفضيل لرفع الظاهر، فكنت تقول: اقصد رجلا محسنا لك أبوه، لكان كونه منصوبا صفة أحسن من كونه مرفوعا، فلما كان محل "أفضل" محل ما يرفع به ما بعده ترك مرفوعا بالابتداء، ليرتفع به "أبوه"، وجعل "أبوه" خبرا حتى لا يخلو أفعل التفضيل من العمل فيه؛ إذ كان قياسه لو كان منصوبا علي الوصف أن يعمل فيه هذا مع كونه فيه مسوغان لجواز الابتداء بالنكرة: أحدهما كونه عاملا يتعلق به المجرور. والثاني قربه من المعرفة حيث لا يقبل "أل".

-[ص: والأصل تأخير الخبر، ويجوز تقديمه إن لم يوهم ابتدائية الخبر أو فاعلية المبتدأ، أو يقرن بالفاء أو بإلا لفظا أو معني في الاختيار، أو يكن لمقرون بلام الابتداء، أو لضمير الشأن، أو شبهه، أو الأداة استفهام أو شرط أو مضاف/ إلي إحداهما، ويجوز نحو: في داره زيد، إجماعا، وكذا: في داره قيام زيد، وفي دارها عبد هند، عند الأخفش.]-

ش: إيهام ابتدائية الخبر بأن يكونا معرفتين أو نكرتين، فأيهما تقدم هو المبتدأ لأنه لا يتميز المبتدأ من الخبر إلا بأن يتقدم، فإذا قلت: زيد أخوك، وأفضل منك أفضل مني، فـ "زيد" و "أفضل منك" هو المبتدأ. فلو كان ثَمَّ

ص: 336

قرينة تميز الخبر من المبتدأ جاز التقديم للخبر علي المبتدأ، كما قال حسان:

قبيلة ألام الأحياء أكرمها وأغدر الناس بالجيران وافيها

وقال آخر:

وأغناهما أرضاهما بنصيبه وكل له رزق من الله واجب

أي: أكرمها ألأم الأحياء، وأرضاهما بنصيبه أغناهما. قال:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

أي: بنو أبنائنا بنونا، فـ "بنونا" خبر شبه به المبتدأ، وعلي هذا يجوز في: زيد زهير شعرا، وعمرو عنترة شجاعة، وأبو يوسف أبو حنيفة فقها، تقديم زهير وعنترة وأبي حنيفة وإن كانت أخبارا مشبها بها المبتدآت لوضوح المعني بأن الأعلى لا يشبه بالأدنى عند قصد الحقيقة. وكذلك قول الشاعر:

جانيك من يجني عليك، وقد تعدي الصحاح مبارك الجزب

فـ "من يجني" هو المبتدأ، و "جانيك" الخبر، أي: كاسبك الذي تعود

ص: 337

جنايته عليك. هذا كله تفسير المصنف في الشرح لقوله " إن لم يوهم ابتدائية الخبر".

وسواء أكانا معرفتين أم نكرتين أم كان المبتدأ مشبها بالخبر، فمتى دل المعني علي تمييز المبتدأ من الخبر في هذه الأشياء جاز أن يتقدم الخبر علي المبتدأ، ومتى لا يتميز وجب تقديم المبتدأ وتأخير الخبر.

وأطلق أكثر أصحابنا القول بوجوب تأخير الخبر إذا كانا معرفتين أو نكرتين، أو كان الخبر مشبها به المبتدأ من غير لحظ لما يدل علي التمييز مما لا يدل. ولا يعني بكونهما ومعرفتين تساويهما في رتبة التعريف، ولا يعني أيضا بكونهما نكرتين تساويهما في رتبة المسوغ لكل واحد منهما في جواز الابتداء بالنكرة، بل مطلق التعريف ومطلق المسوغ، فإذا قلت: زيد أخوك، فالمتكلم قدر أن المخاطب يعرف زيدا، ويجهل نسبة الأخوة، فلو عكست انعكست النسبة إذ يكون المخاطب عالما بأن له أخا، وجهل كونه زيدا، فلذلك لم يجز تقديمه إلا إن كان ثم ما يميز المبتدأ من الخبر.

وهذه المسألة فيها خلاف: فمن النحويين من أجاز ذلك، ولم يلتفت إلي هذا الانعكاس، / ويقول الفائدة تحصل للمخاطب سواء أقدمت الخبر أم أخرته. ومنهم من منع لهذا الذي ذكرناه.

وهذه المسألة جري الكلام فيها بين رجلين كبيرين من علماء بلادنا الأندلس، وهما الأستاذ أبو محمد بن السيد، وأبو بكر بن الصائغ، وأصل

ص: 338

ذلك اختلاف النحاة بمدينة سرقسطة في قول الشاعر:

وأنت التي حببت كل قصيرة إلي، ولم تشعر بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال، ولم أرد قصار الخطا، شر النساء البحاتر

فقال بعضهم: "شر النساء" خبر مقدم، و "البحاتر" مبتدأ، ولا يجوز غيره لأن الشاعر أراد أن يحكم علي البحاتر أنهن شر النساء. وقال بعضهم: لا يجوز ذلك لئلا ينقلب المبتدأ خبرا والخبر مبتدأ. فدارت بين الرجلين مكالمة ونزاع وتعصب، حتى أملي في ذلك ابن السيد، وأجاز أن يكون خبرا مقدما، وأجاز أن يكون مبتدأ. ويوقف علي ترجيح ذلك من كلامه، وقد حكي هو الخلاف في ذلك، فقال: لم يجز ذلك عند جماعة من النحويين.

وقوله أو فاعلية المبتدأ وذلك بأن يخبر عنه بفعل مستكن فيه ضميره، نحو: زيد قام، فلا يجوز تقديم قام لأنه لو تقدم أوهم أن زيدا فاعل. فلو أمن اللبس ببروز الفاعل في حال التثنية والجمع، فقلت: الزيدان قاما، والزيدون قاموا، والهندات قمن، ففي جواز التقديم خلاف:

منهم من منع ذلك إجراء لضمير التثنية والجمع مجري الضمير المفرد لأنهما فرعه، فيجري الباب مجري واحدا، ويقول: إذا ورد مثل "قاما أخواك" فله تأويلان:

أحدهما: أن الألف علامة تثنية كالتاء في قامت زينب، وهي لغة "أكلوني البراغيث".

والثاني: أن تكون الألف فاعلا، وما بعدها بدل منها.

ومنهم من أجاز ذلك لأنه موضع قد أمن فيه اللبس. وإياه اختار

ص: 339

المصنف في الشرح، وقال:"لا يمنع من ذلك احتمال كونه علي لغة "أكلوني البراغيث"؛ لأن تقديم الخبر أكثر من تلك اللغة، والحمل علي الأكثر راجح".

فلو كان الضمير منفصلا أو رفع سببيا جاز التقديم، نحو: ما قام إلا هو زيد، وقام أخوه زيد. فإن رفع الفعل ظاهرا غير السببي قبح، نحو: ضرب أبو بكر زيد، أي: زيد ضربه أبو بكر. ووجه قبحه أنك صدرت الموضع بما لا يصح أن لكون له، فتبني الكلام علي الفعل. وقال يعقوب: قرئ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} علي معني: السموات والأرض وسعها كرسيه.

وقوله أو يقرن بالفاء مثاله: الذي يأتيني فله درهم. وعلته أنه إنما دخلت الفاء في الخبر تشبيها للمبتدأ باسم / الشرط، ولخبره بجواب الشرط، فكما لا يجوز أن يتقدم جواب الشرط، كذلك لا يجوز أن يتقدم هذا الخبر المشبه به.

وقوله أو بإلا لفظا مثاله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} .

وقوله أو معني مثاله {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} .

وقوله في الاختيار إشارة إلي أنه قد جاء في الشعر مقدما وقد قرن بـ "إلا"، قال الشاعر:

ص: 340

فيا رب هل إلا بك النصر

عليهم وهل إلا عليك المعول

وقوله أو يكن لمقرون بلام الابتداء مثاله: لزيد قائم، فلا يجوز: قائم لزيد. وسبب ذلك أن اقتران المبتدأ باللام يؤكد الاهتمام بأول الجملة، والتقدم عليه مناف لذلك فامتنع فأما قوله:

خال لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكثر الأخوال

فتخريجه إما على زيادة اللام في الخبر كقوله:

أم الحليس لعجوز شهر به ترضى من اللحم بعظم الرقبة

وإما على إضمار مبتدأ أي: خالي لهو أنت والزيادة أولى من اعتقاد كونها للتأكيد وحذف المبتدأ لأن مصحوبها مؤكد بها، فينا فيه الحذف ومن زيادتها في الخبر قول كثير عزة:

أصاب الردى من كان يهوى لك الردى

وجن اللواتي قلن: عزة جنت

فهن لأولى بالجنون وبالردى

والسيئات ما حيين وحيت

وزيدت مع المبتدأ في قول الخنساء:

وبنفسي لهموم

فهي حرى أسفه

ص: 341

وقوله أو ضمير الشأن مثاله: هو زيد منطلق فلو تأخر "هو" لم يدر أهو ضمير الشأن أم لا، ولاحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في " منطلق".

وقوله أو شبهه مثاله: كلامي زيد منطلق يمتنع تقديم الخبر لأن تقديم قولك"زيد منطلق" يعلم منه السامع أنه كلامك فإذا قلت بعد ذلك"كلامي" لم يفده هذا شيئاً، وكأنك قلت: كلامي كلامي، ولا فائدة في ذلك.

وقوله أو لأداة استفهام مثاله: أيهم أفضل؟ أو شرط: من يقم أقم معه.

وقوله أو مضافاً إلى احدهما مثاله: غلام أيهم أفضل؟ وغلام من يقم أقم معه. فهذه المواضع التي ذكر المصنف أنه يجب فيها تأخير خبر المبتدأ.

وزاد بعض أصحابنا أن يكون خبراً لـ"كم" نحو قولك: كم غلام عندي: أو لمضاف إليها نحو: وزير كم ملك زارني. أو لـ"ما" التعجبية/ نحو: ما أحسن زيدا! أو لمبتدأ مستعمل مقدماً عليه في مثل نحو " الكلاب على البقر" و"أمت في الحجر لا فيك" و" عبد صريخه أمه".

أو يكون خبراً لضمير متكلم، أو مخاطب موصولاً يجوز تثنيته وجمعه أو نكرة والصلة والصفة قد عاد الضمير فيهما مطابقاً للمبتدأ في التكلم أو الخطاب مثاله: أنت الذي تضرب وأنا الذي أضرب وأنت رجل تضرب زيداً وأنا رجل أضرب فلا يجوز تقديم الخبر في شيء من

ص: 342

هذه المثل، خلافاً للكسائي فإنه يجيز التقديم.

أو خبراً لمبتدأ فيه معنى الدعاء: معرفة، نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ} والويل لزيد و {لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} والخيبة لزيد. فأما: لله الحمد وقول الشاعر:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم

قريب ولا البسباسة بنة يشكرا

فإنما خرج مخرج الخبر الثابت الذي لا يرجى ولا يطلب. أو نكرة نحو: ويح لزيد وويل له ولبيك وخير بين يديك وسلام عليك وويس لك، وويله لك وعوله، وخير لك وشر لك وفدى لك أبي وأمي وحمى لك أمي ووفاء لك أمي من هذا عند س. أو جملة لا تحتمل الصدق لا الكذب نحو: زيد اضربه، وزيد هلا ضربته.

قال بعض أصحابنا: وكذلك: ما زيد بقائم يجب فيه تقديم "زيد" على اللغتين فلا يجوز: ما بقائم زيد. ويعني بـ"اللغتين" لغة تميم ولغة الحجاز وسيأتي ذكر الخلاف في هذا إن شاء الله.

وزاد الجزولي أن يكون الخبر محذوفاً والمبتدأ معرفة ، ومثلوه بقولهم: لولا زيد لأكرمتك فالنية بالخير المحذوف التأخير.

ولا ينبغي أن يجعل قوله" والمبتدأ معرفة" قيداً في المبتدأ بل أخرج مخرج الغالب، ألا ترى أنه يجوز أن يأتي المبتدأ نكرة بعد"لولا" وإنما قُدِّر

ص: 343

مؤخراً لأنه خرج عن الأصل بالحذف فلا يجمع عليه مع ذلك خروجه عن الأصل بنية التقديم، وقد تقد الخلاف في الرافع للاسم بعد"لولا"

وزاد في "الإفصاح " قولهم: ضربي زيداً قائماً والمبتدأ بعد"أما" نحو: أما زيد فعالم لأن الفاء لا تلي "أما".

وقوله ويجوز نحو"في داره زيد" إجماعاً إنما جاز ذلك لأنه منوي به التأخير، وفيه ضمير يفسره ما بعده لفظاً والنية به التقديم فهو شبيه بقولهم: ضرب غلامه زيد.

وما ذكره المصنف من جواز هذه المسألة إجماعاً ليس كما ذكر بل فيها خلاف عن الأخفش نقل عنه أبو جعفر الصفار أنه إذا ارتفع "زيد" بالظرف منعها. وإنما منعها لأنه إذا رفع الظرف الاسم بعده كان واقعاً في محله لأنه عامل، فيلزم من ذلك أن يتقدم/ الضمير على مفسره، وذلك لا يجوز.

وأجاز ذلك البصريون لأن زيداً مرفوع بالابتداء لا بالظرف، وذلك عندهم على التقديم والتأخير. وكذلك أجاز هذه المسألة الكوفية.

فقيل لهم: كيف أجزتموها وليس المعنى التأخير؟

قالوا: حمل على المعنى لأن المعنى: استقر زيد في داره وحل في داره أو نزل في داره فهي مع الظرف بمنزلتها مع المفعول.

قيل: أو ليس قد صار الظرف رفعاً وحل محل الفعل الذي لا يجوز تأخيره؟.

ص: 344

قالوا: بلى، ولكنه بمنزلة ذلك الذي كان يتقدم ويجوز تأخيره يعنون المفعول والقياس على قولهم أن لا يجوز.

وقوله وكذا "في داره قيام زيد" و"في دارها عند هند" عند الأخفش.

قال المصنف في الشرح:"أجاز الأخفش تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على ما أضيف إليه المبتدأ وسوى في ذلك بين الصالح للحذف وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: في داره قيام زيد، وبين ما لا يصلح لذلك، ونحو: في دارها عبد هند. وبقوله أقول لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد، فإذا كان المضاف مقدر التقدم بوجه ما كان المضاف إليه مقداراً معه، إلا أن تقديم ضمير ما يصلح أن يقام مقام المضاف أسهل، ومنه قول العرب " في أكفانه درج الميت" وقول الشاعر:

بمسعاته هلك الفتى أو نجاته فنفسك صن عن غيها تك ناجيا"

انتهى كلامه.

وما ذكر المصنف من أن الأخفش أجاز المسألتين هو قول البصريين، وذكره جواز ذلك منسوباً إلى الأخفش يوهم أن غيره من البصريين يخالفه، وليس كذلك.

ومنع الكوفيون المسألتين فلا يجيزون: في داره قيامُ زيد، ولا:

ص: 345

على بابها عبد هند وكذلك أيضا لا يجيزون: مفاعله الدال على الخير.

ويجيزه البصريون ، وإنما أجاز البصريون ذلك لأنهم يرفعون زيداً والدال بالابتداء.

وحكي أبو جعفر الصفار عن الأخفش المنع إن رفعت بالظرف. فكان ينبغي للمصنف في هذه المسألة أن يفصل القول عن الأخفش ، فيقول: إن رفع بالظرف لم يجز، أو بالابتداء جاز.

ولو كان الخبر مضافاً إلى ضمير يعود على مضاف إليه المبتدأ نحو: غلامه محبوب زيد، أو جملة مصدره بمضاف إلى ضميره نحو: أبوه ضربه عمرو، فنقل ابن كيسان أن ذلك لا يجوز من قول النحويين أجمعين، فلو زدت اسماً فقلت: أبوه ضربه عمرو زيد، والفعل لعمرو والهاء في "أبوه" لزيد جاز ذلك في قول البصريين على التقديم والتأخير، لأن من كلامهم: أبوه صائم زيد.

-[ص: ويجب تقديم الخبر إن كان أداة استفهام أو مضافاً إليها أو مصححاً تقديمه الابتداء بنكرة أو دالاً بالتقديم على ما لا يفهم بالتأخير أو مسنداً دون أما إلى "أن" وصلتها أو إلى مقرون بالا لفظً أو معنى أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر.]-

ش: مثاله أداة استفهام: أين زيد؟ واحترز بقوله "إن كان - أي الخبر- أداة استفهام" من أن يكون جزءا في الخبر نحو: زيد هل ضربته؟ فإنه لا يجب تقديم الخبر هنا.

مثاله مضاف للأداة: صبح أي يوم السفر؟

ومثال المصحح: في الدار رجل، وخلفك امرأة. وقال المصنف "ونحو: قصدك غلامه رجل، لولا الكاف من "قصدك" لم يفد الإخبار

ص: 346

بالجملة كما أنه لولا اختصاص الظرف والمجرور لم يفد الإخبار بهما"

وذهب الكوفيون إلى أن قولك: أمامك رجل، وفي الدار رجل ارتفع الاسم فيهما على الفاعلية. وكذلك لو كان معرفة نحو: أمامك زيد، وفي الدار عمرو، لأنه في معنى: حل أمامك رجل، وحل في الدار رجل، فحذف الفعل واكتفي بالظرف والجار فتقدمه كتقدم الفعل ولو تقدم الفعل لوجب أن يكون فاعلاً فكذلك هذا.

ورد هذا المذهب بجواز دخول النواسخ عليه، فلو لم يكن الأصل الابتداء الخبر لم يجز دخول النواسخ. واتفق أكثر القائلين على أن الظرف أو الجار إن كان معتمداً عمل لقوته.

وزعم بعضهم أنه يرتفع بالابتداء سواء اعتمد أم لا يعتمد. وسيأتي الكلام في ذلك.

ومثال الدال بالتقديم قولهم: الله درك! وشبهه من الجمل التعجبية فأن تعجبها لا يفهم إلا بتقديم الخبر وتأخير المبتدأ. قال المصنف في الشرح: "وكذا نحو {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} من الجمل الاستفهامية المقصود بها التسوية فإن الخبر فيها لازم التقدم، وذلك لأن المعنى: سواء عليهم الإنذار وعدمه فلو قدم (أَأَنذَرْتَهُمْ) لتوهم السامع أن المتكلم مستفهم حقيقة وذلك مأمون بتقديم الخبر، فكان ملتزما" انتهى كلامه.

وما ذكره المصنف من أن (سواء) هو خبر مقدم واجب التقديم هو

ص: 347

قول جماعة، وذهب بعضهم إلى أنه مبتدأ والحبر جملة وقد ذكرنا هذين القولين فيما تقدم.

وذهب بعضهم إلى أن (سواء) مبتدأ والجملة فاعل، والتقدير: استوي عندي أقمت أم قعدت فيكون ذلك مثل تخريجهم "نولك أن تفعل" على أن "نولك" مبتدأ و"أن تفعل" فاعل به لأنه في معنى: ينبغي لك أن تفعل.

وللسهلي في هذه المسألة مذهب غريب قال ما نصه:" ومما لا يجوز تقديمه باتفاق: سواء علي أقمت أم قعدت فـ"سواء" مبتدأ، والجملة خبر. و"سواء" ليس بمبتدأ في المعنى، إذ لو كان مبتدأ لكان في الجملة عائد فالجملة/ إذا ليست خبراً على الحقيقة لأن المعنى: سواء على القيام والقعود فالقيام مبتدأ معنى ولا يكون في المبتدأ ضمير يعود على الخبر البتة، فكذلك في هذه الجملة الواقعة موقع المبتدأ الذي هو "إنذار" هذا تفسير مذهب أبي علي ومن قال بقوله،

ولا يصح ذلك لأنك تقول: سيان زيد وعمرو، ولا تقول: سيان أقمت أم قعدت ولا: سواء أقمت أم قعدت حتى تقول: على أو عليهم لأنك لا تريد استواء الشيئين في صفة هي لهما، كما إذا قلت: سواء زيد وعمرو إذا سويت بينهما في حسن أو قبح أو نحوهما وإنما المساواة في عدم المبالاة فمعنى ذلك: لا أبالي أكان هذا أم هذا فقد عاد معنى المساواة إلى فعل القلب، وهو عدم الالتفات والمبالاة وإذا عدم الالتفات بالقلب إلى الشيء عدم العلم به فصار معنى "سواء علي": لا أبالي ولا ألتفت وصارت الجملة الاستفهامية في موضوع المفعول بـ"لا أبالي" كما تكون في موضع

ص: 348

المفعول إذا قلت: لا أدري، وصار الفعل نحو الضمير المخفوض في علي وعليهم، ولولا قوله "علي" و"عليهم" ما جازت المسألة، وإنما أتى بـ"على" دون غيرها لأن المعنى: هين عليهم أي: لا يبالون، فالضمير في "عليهم" هو الفاعل في "يبالون" فلابد منه في هذه المسألة كما لا بد منه في {ثُمَّ بَدَا لَهُم} فقوله (ليسجننه) و (أَأَنذَرْتَهُمْ) كلام لا يكون في موضع رفع أبدا، إنما يكون في موضع نصب بعد فعل القلب، وذلك أن معنى بدا: ظهر وهو هنا ظهور للقلب لا للعين ولا بد له من فاعل وفاعله هو الاسم المجرور باللام من قوله (لهم) قال: المعنى إلى العلم ورؤية القلب فكأنه قال: ثم رأوا ليسجننه فالفاعل في (رأوا) هو المجرور باللام، كما أن الفاعل في "لا يبالون" هو المجرور بـ"علي" إذا قلت: سواء عليهم وقد قال س في قولهم " له صوت صوت حمار": بنصب الثاني إن"صوت حمار" مفعول وإن الفاعل هو المجرور باللام من قولك "له" وإنه الضمير الذي في يصوت أو يبدي صوت حمار، فكذلك الفاعل هو المخفوض بـ"على" وباللام من قوله (سواء عليهم) و (بدالهم) والجملة المستفهم عنها أو المؤكدة باللام هي المفعول بالمعنى الذي بيناه فـ"سواء" على هذا مبتدأ في الفظ دون المعنى ولذلك لم يكن له خبر في الحقيقة كما كان في قولهم" حسبك ينم الناس" معناه: اكفف فخالف باطن الكلام ظاهره، فلم يكن له خير كما أن قولك "اكفف" لا يخبر عنه وكذلك أقائم زيد؟ " قائم: مبتدأ في اللفظ وزيد: فاعل به ولا خبر لـ"قائم" لأن معنى الكلام: أيقوم زيد؟ وكل مبتدأ معناه/ معنى الفعل فخبره متروك مراعاة للمعنى الذي تضمنه الكلام ولهذا نظائر في أبواب كثيرة من العربية " انتهى كلامه.

ص: 349

وتلخص من هذا كله أن الجملة بعد (سواء) إما مبتدأ و (سواء) الخبر وإما خبر، و (سواء) المبتدأ وإما فاعل بـ (سواء) و (سواء) مبتدأ وإما مفعول و (سواء) مبتدأ.

وقوله أو مسنداً دون "أما" إلى "أن" وصلتها مثال ذلك: معلوم أنك عاقل قال تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} .

وهذا الذي ذكره من وجوب تقديم الخبر على "أن" ومعمولها إذا لم تلها "أما" فيه خلاف:

ذهب س والجمهور إلى المنع.

وأجاز تقديم "أن" الأخفش والفراء وأبو حاتم فتقول: أنك عاقل صحيح.

واعتلوا للمنع بخوف الالتباس بالمكسورة أو الالتباس بـ"أن" التي بمعنى "لعل" أو التعرض لدخول "إن" فيستثقل اجتماعهما.

واستدل من أجاز بالقياس على "أن" نحو قوله {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} .

فإن وليتها أما جاز التقديم بلا خلاف قال الشاعر:

دأبي اصطبار ، وأما أنني جزع

يوم النوى فلوجد كاد يبريني

وقوله أو إلى مقرون بإلا لفظاً: ما في الدار إلا زيد أو معنى: إنما في الدار زيد.

وقوله أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر مثاله: في الدار ساكنها

ص: 350

وخلف دارك من يشتريها، ومعرض عند هند أخوها وقول الشاعر:

أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها

وقدم الخبر في هذه لأنه لو تأخر لعاد الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة. فهذه المواضع التي ذكر المصنف أنه يجب فيها تقديم خبر المبتدأ.

وزاد بعض أصحابنا أن يكون الخبر"كم" الخبرية نحو: كم درهم مالك. أو يكون مضافا إليها نحو: صاحب كم غلام أنت، أو يكون قد استعمل متقدماً في مثل نحو قولهم "في كل واد بنو سعد". أو تكون الفاء دخلت على المبتدأ نحو: أما في الدار فزيد.

وزاد بعض أصحابنا: إذا تقدم الخبر ودخله الوصل، نحو: والله لفي الدار أخوك وإن تقم ففي الناس من ينكر قيامك وإن قدمت بعد الوصل جاز.

وزاد آخر أن يكون الخبر اسم إشارة ظرفاً نحو: ثم زيد وهنا جعفر وقال: فهذا يتقدم على المبتدأ ولا يجوز تأخيره أصلا لأن فيها الإشارة، فقدمت كما تقدم "هذا" على "زيد" في الإخبار ألا ترى أنك تقول: هذا زيد ولا تقول: زيد هذا ولما رآه الفراء مبدوءا به جعله أعرف من العلم، وذلك أن تقدمه إنما كان لأجل الإشارة وقد ثبتت الإشارة مقدمة

ص: 351

في: ههنا زيد/ وثم عمرو فكذلك: هذا زيد. انتهى.

ولما ذكر المصنف ما يجب فيه تأخير الحبر، وما يجب فيه تقديمه، واستدركنا عليه ما ذكره أصحابنا دل ذلك على أن ما سوى ما ذكر يجوز فيه التقديم والتأخير سواء أكان الخبر اسماً رافعاً ضمير المبتدأ أم رافعاً سببيه، أو ناصباً ضميره أو سببيه نحو: قائم زيد وقائم أبوه زيد وقام أبوه زيد، وضربته زيد، وضرب أخاها زيد هند، وهذا مذهب البصريين.

وذهب الكوفيون إلى منع تقديم الخبر في هذه المسائل كلها ونسب ذلك إلى الخليل.

والصحيح ما ذهب إليه البصريون، حكي س عن العرب:" مشنوء من يشنؤك وتميمي أنا وخز صفتك وأرجل عبد الله" وقال الشاعر:

إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه، ولا كانت كليب تصاهره

وقال الآخر:

قد ثكلت أمه من كنت واحدة وصار منتشباً في برثن الأسد

وقال:

فتى ما ابن الأغر إذا شتونا وحب الزاد في شهري قماح

ص: 352

التقدير: من يشنؤك مشنوء، وأنا تميمي وصفتك خز وأعبد الله رجل؟ وأبوه ما أمه من محارب ومن كنت واحدة قد ثكلت أمه وابن الأعز فتى إذا شتونا.

ونقل بعض أصحابنا عن ألكسائي والفراء أنهما يجيزان التقديم إذا لم يكن الضمير مرفوعاً نحو: ضربته زيد، ويمنعان ذلك مع المرفوع نحو: قائم زيد.

والصحيح عن الكوفيين المنع مفرداً كان الخبر أو الجملة وفرقوا بيم: قائم زيد، وضربته زيد فمنعوا، وبين: في داره زيد فأجازوا. قالوا: لأن هذا الضمير غير معتمد عليه، ألا ترى أن المقصود: في الدار زيد، وحصل هذا الضمير بالعرض كما أنهم أجازوا: ضرب غلامه زيد لأن المقود: ضرب الغلام واتفق أن كان المضروب غلامه. وهم محجوجون بالسماع السابق ذكره.

وذهب أبو الحسين بن الطراوة إلى مذهب غريب في تقديم الخبر بناه على مذهب له في الواجب والجائز والممتنع فالواجب عنده: رجل وقائم ونحوهما مما يجب أن يكون في الوجود ولا ينفك الوجود عنه. والممتنع: لا قائم ولا رجل إذ يمتنع الوجود أن يكون لا رجل فيه ولا قائم. والجائز مثل زيد وعمرو، لأنه جائز أن يكون وجائز أن لا يكون. قال: فكلام مركب من واجبين ولا يجوز، نحو: رجل قائم، لأنه لا فائدة فيه، وكلام مركب من ممتنعين أيضا لا يجوز مثل: لا رجل لا قائم لأنه /كذب ولا فائدة فيه، كلام مركب من واجب وجائز صحيح نحو: زيد قائم وكلام مركب من ممتنع وجائز لا يجوز ولا من واجب وممتنع، نحو: زيد لا قائم ورجل لا قائم لأنه كذب إذ معناه: لا قائم في

ص: 353

الوجود وكلام مركب من جائزين لا يجوز نحو: زيد أخوك لأنه معلوم لكن بتأخيره صار واجباً فصح الإخبار به لأنه مجهول في حق المخاطب، فالجائز يصير بتأخيره واجباً. وإذا ثبت هذه كله أنبني عليه أن لا يجوز: قائم زيد، لأن زيدا صار بتأخيره واجباً فصار الكلام مركباً من واجبين فصار بمنزلة: قائم رجل. فلا يجوز عنده تقدم الخبر إذ كان واجباً.

وتأول المثل التي أوردها س، فقال:" مشنوء من يشنؤك" دعاء كأنه قيل: شنئ من يشنؤك فكأنك ابتدأن بفعل. ورد هذا التأويل بأنه دعوى، ولو كان على معنى الدعاء لنقله س.

وقال: "تميمي أنا" هو جواب لمن قال: ماأنت؟ فقال: تميمي على معنى: أنا تميمي وحذف المبتدأ ثم أتى بـ"أنا" توكيدا. ورد بأن قوله "إنه جواب" دعوى، ولم يقله أحد ولا يجوز حذف المؤكد للتناقض.

وقال:" خز صفتك " على معنى: من خز صفتك فابتدأت بمجرور. وكذا عمل في: هذا درهم ضرب الأمير أي: من ضرب الأمير فهو صفة للنكرة وخرجه الخليل على إضمار "هو" أي: هو ضرب الأمير ، ورد بأنه يلزمه: هذا راقود الخل، لأنه في معنى: من الخل والعرب لا تقول لا ذلك.

وقال: "أرجل عبد الله؟ " عبد الله: فاعل وكأنك قلت: أكامل عبد الله؟ قال: والدليل على هذا أنك لم ترد أن تسأل عن كونه رجلاً لأن ذلك معلوم. ورد ذلك فهو يخالف "أكامل" في العمل غايته أن يعمل في الحال في نحو: أنت الرجل علماً أما أن يعمل رفعاً فلا لضعفه.

وأما قوله"إن الجائز بتأخيره يصير واجباً" فرد عليه بأنه لا يصير الجائز بالتأخير واجباً، ومعناه مقدما وموخراً واحد أي: هو مخبر عنه قدمته أم أخرته كما لا يصير الفاعل بتأخيره عن المفعول مفعولاً ولا المفعول بتقديمه فاعلاً.

ص: 354

-[ص: وتقديم المفسر إن أمكن مصحح خلافاً للكوفيين إلا هشاماً ووافق ألكسائي في جواز نحو: زيدا أجله محرز لا في نحو: زيداً أجله أحرز.]-

ش: قال المصنف في الشرح:" إذا التبس المبتدأ بضمير اسم ملتبس الخبر، وأمكن تقديم صاحب الضمير صحت المسألة عند البصريين وهشام الكوفي نحو: زيداً أجله نحرز، وزيداً أجله أحرز، ووافق ألكسائي في مسألة اسم الفاعل لا في مسألة الفعل" انتهى كلامه.

وقال غيره:" وتقول:/ زيداً أبوه ضرب أو يضرب جائزة من قول البصريين وهشام وخطأ من قول ألكسائي الفراء. والحجة لهما أن تقدير "زيد" أن يكون بعد الفعل فيصير التقدير: أبوه ضرب زيدا فيتقدم المكني على الظاهر فإن قلت: زيداً أبوه ضارب أجازها البصريون والكسائي، وأحالها الفراء" انتهى.

قال المصنف:" وعضد أبو علي قول ألكسائي بأن قال: المبتدأ وخبره المفرد بمنزلة الفعل والفاعل، فكما لا يمتنع: زيداً أحرز أجله، لا يمتنع: زيداً أجله محرز، لأنه لم يفصل بين المنصوب وناصبه أجنبي، بخلاف: زيداً أجله أحرز فإن الأجل- وإن كان الفعل خبره- فالإخبار بالفعل على خلاف الأصل لأن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام فعد المبتدأ فبلهما أجنبياً بخلاف وقوعه قبل اسم الفاعل فإن اتصال المبتدأ به على الأصل لأنه مفرد.

قال المصنف:" وقول أبي علي"إن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقلَّ

ص: 355

بهما كلام، فعد المبتدأ قبلهما أجنبياً" تحيل جدلي لا ثبوت له عند التحقيق لأن الجملة لا توقع موقع المفرد إلا لتؤدي معناه وتقوم مقامه، فلا يعد ما هي له خبر أجنبيا، كما لا يعد أجنبيا ما المفرد له خبر.

وقد يفرق بين الصورتين بأن اسم الفاعل لا يجب تأخيره فلا يمتنع تقديم معموله بخلاف الفعل فإن تأخيره إذا وقع خبر مبتدأ واجب فلا يجوز تقديم معموله لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل.

والصحيح ما ذهب إليه البصريون من التسوية في الجواز بين: زيدا أجله محرز وزيداً أجله أحرز بل الآخر أولى بالجواز لأن العامل فيه فعل، عامل المثال الأول اسم فاعل فمن يمنع الأول دون الآخر فقد رجح فرعاً على أصل، ومن منعهما فقد ضيق رحيبا وبعد قريباً ومن حجج البصريين قول الشاعر:

خيراً المبتغية حاز وأن لم

يقض فالسعي في الرشاد رشاد

فهذا مثله: زيداً أجله أحرز" انتهى كلام المصنف.

وفي البسط: إذا كان في الفاعل ضمير يعود على المفعول، وقدمتهما فقلت: زيداً أجله أحرز، وزيداً غلامه ضرب فأكثر النحويين المتقدمين يحيلها وجوزها هشام والمتأخرون منهم لأن المفعول لما تقدم عاد عليه الضمير ، فكأنك قلت: أجل زيد أحرز زيداً، وإذا كان يجوز عود الضمير على ما لم يتقدم كقوله تعالى {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن

ص: 356

دَابَّةٍ} ، و {بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ} فأولى هنا، وليس المفعول كالفاعل في التقدم فإن الفاعل إذا تقدم خرج عن الفعل بخلاف المفعول فلذلك بقي مفعولاً

تم بحمد الله تعالى وتوفيقه

الجزء الثالث من كتاب" التذييل والتكميل"

بتقسيم محققه ويليه- إن شاء الله تعالى-

الجزء الرابع، وأوله:

"ص: فصل: الخبر مفرد وجملة، والمفرد مشتق وغيره"

ص: 357