الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب الحال
وهو ما دَل على هيئهٍ وصاحبِها متضمنًا ما فيه معنى «في» غيرَ تابعِ ولا عُمدهٍ وحقٌه النصب، وقد يُجَر بباء زائدة. واشتقاقُه وانتقاله غالبان لا لازمان.]-
ش: الحال تذكر وتؤنث، يقال: نحن في حالٍ حَسَنهٍ ، وفي حالٍ حسن. والحال في إذاصطلاح قد رسمه المصنف فقوله ما دل على هيئه جنس يشمل الحال ونحو: تربعت، والقهقرى ، ومتكئ في قولك: زيد متكئ ، وراكب في قولك: مررت برجل راكب ، فكل هذه تدل على هيئه.
وقوله وصاحبها فصل يخرج الفعل واسم المعنى ،لأن تربع والقهقرى لا يدلان إذا على هيئه فقط لا على صاحبها.
وقوله متضمنا ما فيه معنى «في» فصل يخرج ما ليس معنى «في» في نفسه ولا في جزء مفهومه مما هو يدل على هيئه وصاحبها ، نحو: بنيت صومعة ، فان هذا التركيب من مجموع بنيت صومعة يدل على هيئه وصاحبها ، ولم يتضمن هذا التركيب شيئاً فيه معنى «في» ، بخلاف الحال وما يحترز منه بعد.
واحترز بقوله ما فيه معنى «في» مما معنى «في» لمجموعه لا لجزء مفهومه ، نحو: دخلت الحمام ، فان معناه: دخلت في الحمام ، فليس بعض الحمام أولى بمعنى «في» من بعض ، بخلاف الحال وما يتحرز منه بعد ، فان معنى «في» مختص بجزء مفهومه، لأنك إذا قلت جاء زيد ضاحكاً ف «ضاحك» دل على الهيئة وصاحبها ، ويتقدر معنى «في» بجزء مفهوم ضاحك -وهو المصدر- على حذف مضاف ، إذ التقدير: جاء زيد في حال ضحك.
وقوله غير تابع احتراز من نحو: مررت برجل متكئ ،فانه يصدق عليه: في حال اتكاء.
واختلفوا من أي باب نصب الحال:
فقيل: نصب المفعول به ، وهو قول أبى القاسم ، يجعلها من أصول المفاعيل.
وقيل: نصب الشبيه بالمفعول به ، وهو قول أبى على وأبى بكر ، وهو ظاهر مذهب س ، لأنه قال:«وليس بمفعول كالثوب في قولك: كسرت الثوب زيداً» ولأن الظرف أجنبي من إذاسم ، والحال هي إلاسم الأول.
وقوله ولا عمدة احتراز من نحو: زيد متكئ ، فانه يصح تقديره: زيد في حال اتكاء. انتهى شرح هذا الرسم للحال ، وهو في غاية الطول وكثره الفضول وهو منتزع من شرح المصنف له.
وقال في الشرح: «ولا يعترض على هذا بما لا يجوز حذفه من إذاحوال ، نحو: ضربي زيداً قائماً ، فيظن أنه قد صار بذلك عمده ، فان العمدة في إذاصطلاح: ما عدم إذاستغناء عنه أصيل لا عارض كالمبتدأ والخبر، والفضلة في إذاصطلاح: ما جواز إذاستغناء عنه أصيل لا عارض ، كالمفعول والحال. وان عارض للعمدة جواز إذاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها (عمده ، وان عرض للفضلة امتناع إذاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها) فضله .. انتهى.
أما عروض امتناع إذاستغناء عن الفضلة فهو موجود في: ضربي زيدا قائماً، وقوله {وَإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] ، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] ، وما أشبه هذا. وأما عروض إذاستغناء عن العمدة فلا نعلمه موجوداً في لسان العرب ، إذا إن كان يعنى بذلك الحذف ، كحذف المبتدأ ، أو الخبر ، أو إذاغناء عنه بالفاعل ، فيمكن ذلك ، ولا نقول فيما حذف من العمد وهو مراد انه عرض له جواز إلاستغناء عنه.
وقوله وحقه النصب إنما كان ذلك لأنه فضله ، وإعراب الفضلات النصب. وقوله وقد يجر بباء زائدة استدل المصنف على جواز جره بباء زائدة بقول رجل فصيح من طيئ: /
كائن دعيت إلى بأساء داهية
…
فما انبعثت بمزؤود ولا وكل
ويستدل له أيضاً بقول الشاعر:
فما رجعت بخائبة ركاب
…
حكيم بن المسيب منتهاها
التقدير عنده: فما انبعثت مزؤوداً ولا وكلاً ، وتقدير البيت الثاني: فما رجعت خائبة ركاب.
ولا حجه في هذا على ما ادعاه ، إذا تحتمل الباء فيهما إذا تكون زائدة ، بل الباء فيهما للحال:
أما في البيت الأول فالتقدير: فما انبعثت ملتبسا بمزؤود ، ويعنى بذلك المتكلم نفسه ، إذا ترى أنه قد يسند الحكم إلى اسم ظاهر ، ويعنى بذلك نفسه ، نحو قوله: لقد صحبك منى رجل صالح ، ولو جئتهم بى لجئت بفارس بطل ، أي: لجئت ملتبسا بفارس بطل ، وهو يعنى نفسه.
وأما البيت الثاني فالتقدير: فما رجعت ملتبسة بحاجه خائبة ركاب.
وإذا احتمل أن تكون للحال لم يكن في ذلك دليل على زعمه أن الحال قد تجر بباء زائدة.
ولو فرضنا أن الباء زائدة في هذين البيتين لم يصح إطلاقه قوله «وقد يجر بباء زائدة» ، لأن محسن دخول الباء الزائدة إنما هو تقدم النفي قبلها ، كما جاء
ذلك محسناً في قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَإذارْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} ، فكان ينبغي أن يقيد ذلك بالنفي. وذكر في (باب حروف الجر) أن «من» الزائدة ربما دخلت على حال ، ومثل ذلك بقراءة من قرأ} ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء {مبنياً (نتخذ) للمفعول الذي يُسم فاعله ، أي: نتخذ م دونك أولياء.
وقوله واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان إذاشتقاق في الوصف كونه مصوغاً من إذاسم دإذا على معقولية إذاسم وشيء آخر لأجله كان الصوغ ، حو راكب ، فانه يدل على ذات متصفة بالركوب. وإنما قلنا «مصوغاً من إذاسم» ليشمل ما اشتق من المصدر ، نحو راكب ومضروب ، وما اشتق من إذاسم غير المصدر ، نحو قولهم: رجل أظفر ، أي طويل الظفر ، ونحو قولهم: طين مستحجر ، وبغاث مستنسر ، فإنهما مشتقان من الحجر والنسر ، وليسا مشتقين من مصدر.
وإذانتقال هو كون الوصف غير لازم.
وقال المصنف في الشرح: «ومن ورود الحال بلفظ غير مشتق قوله تعالى} فَانفِرُوا ثُبَاتٍ {، وفَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ {، و} فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً {» انتهى. ف (أربعين) عنده منصوب على الحال.
وانتصاب (أربعين) عندي على أنه تمييز منقول من الفاعل ، والتقدير: فتمت أربعون لميقات ربه. ويجوز انتصابه على الظرف ، لأن التقدير في قوله} ووعدنا موسى ثلثين ليله {: وواعدنا موسى المناجاة ثلاثين ليله ، فتم ميقات ربه ، وهو ما وقته وحدده له من المناجاة في أربعين ليله.
وقال المصنف في الشرح: «ومن وروده دإذا على معنى غير منتقل قوله تعالى} وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا {» انتهى - ويحتمل أن يكون (مفصلاً) انتصب نعتاً لمصدر محذوف ، أي: إنزإذا مفصلاً- قال} وَخُلِقَ إذانسَانُ ضَعِيفًا {،} وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {،} طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {، ومن كلام العرب:(خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها).
ولما كانت الحال خبراً في المعنى ، والخبر يكون مشتقاً وغير مشتق ، ومنتقلاً وغير منتقل ، جاءت الحال كذلك. وكثيراً ما يسميها س خبراً ، وقد يسميها مفعولاً فيها ، / وصفه ، فسماها خبراً في تمثيله: فيها عبد الله قائماً ، وفي: مررت بكل قائماً ، وفي: هذا مالك درهماً. وسماها مفعولا فيها في
مسألة: كلمته فاه إلى في. وسماها صفه في: أما صديقاً مصافياً فليس بصديق مصاف.
وقال الفارسي: «الحال تشبه الظرف من حيث كانت مفعولاً فيها ، كما أن الظرف كذلك ، وذلك قولك: جاء زيد راكباً ، وخرج زيد مسرعاً ، فمعنى هذا: خرج زيد في حال إذاسراع ووقت إذاسراع ، فأشبهت ظرف الزمان» . وإنما سماها مفعولاً فيها على طريق المجاز لشبهها بالمفعول فيه من جهة المعنى إذا أفادت ما يفيد «وفت كذا» . كما سماها مفعولاً صحيحاً تشبيهاً بالمفعول به ، إذا نصبها الفعل لا على تقدير «في» ، ولا بعد واو «مع» ، ولا على إسقاط لام العلة ، كما نصب المفعول به كذلك.
وقول المصنف «واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان» فيه الهام ، ونحن نوضح القول في ذلك ، فنقول: الحال قسمان: مبنية ، ومؤكده ، فالمبنية ، لابد أن تكون منتقلة أو مشبهه بالمنتقلة ، فالمشبهة بالمنتقلة نحو قولك: خلق زيد أشهل ، وولد قصيراً ، فالشهولة والقصر ليسا من إذاوصاف المنتقلة ، لكنها شبيهه بالمنتقلة ، فقد خلق وولد لأنه كان يمكن أن يخلق ويولد غير أشهل وغير قصير ، وقال الشاعر:
فجاءت به سبط العظام ، كأنما
…
عمامته بين الرجال لواء
ف «سبط العظام» :منصوب على الحال ، وليست بمنتقلة ، ولكنها مشبهه بالمنتقلة لمجيئها بعد «جاءت به» بمعنى: ولدته.
وأما الحال المؤكدة فيجوز أن تكون غير منتقلة ، ومنه قوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ {،} وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا {،} وَلا تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ {،} وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا {،} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} ، وقال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكله عينها
…
كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
فهذه أحوال مؤكده لا مبينه ، لأنه لم ينبهم ما قبلها فتكون مبينه له ، وإنما هي مؤكده لما قبلها.
ولا يجوز أن تكون الحال غير منتقلة ولا شبيهه بالمنتقلة إذا إذا كانت مؤكده ، فأما قوله:
إذا قلت: هاتى نولينى ، تمايلت
…
على هضيم الكشح ريا المخلخل
ف «هضيم» منصوب على المدح لا على الحال ، لأنها صفه لازمه، وليست بمؤكده ، وكذلك قوله تعالى} قَائِمًا بِالْقِسْطِ {. وأما قوله} إِلَهًا وَاحِدًا}
فبدل. وقد أنكر الفراء - وتبعه السهيلي - وجود الحال المؤكدة ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله عند ذكر المصنف الحال المؤكدة.
وفي البسيط: أما الثابتة فقد اختلف فيها:
فقال بعضهم: لا تكون حالا إذا بعد كلام تكون بالإضافة إليه ممكنه أن تكون وإذا تكون ، نحو: ولد زيد أزرق ، ولو قلت جاء زيد أزرق لم يجز ، وجعلوا ما ورد من قولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، وقوله:
فجاءت / به سبط العظام .....
…
..................................................................
محمولاً على التأكيد لأنه في حكم المعلوم.
وقال آخرون: لا يشترط فيها ذلك ، لأنه لا يلزم أن تقيد الفعل تقييداً، بل تفيد وصفاً في الإسم ، بخلاف المنتقلة ، فإنها تفيد تخصيصاً في الفعل كالظرف ، لذلك قدرت ب «في» بخلاف هذا ، فتقول: مررت بزيد أكحل ، ولقيته أسود ، تريد: لقيته بهذا الوصف ، وعلى هذه الحال ، وهذه جبتك خزاً ، {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] ، ودعوت الله سميعاً.
-[ص: ويغني عن اشتقاقه وصفه ، أو تقدير مضاف قبله ، أو دلالته على مفاعله ، أو سعر ، أو ترتيب ، أو أصالة ، أو تفريع ، أو تنويع ، أو طور واقع فيه تفضيل. وجعل «فاه» حالا من «كلمته فاه إلى في» أولى من أن يكون أصله جاعلاً فاه إلى في ، أو: من فيه إلى في. ولا يقاس عليه ، خلافاً لهشام.
]-
ش: مثال إغناء الوصف عن الانشقاق قوله تعالى} فتمثل لها بشراً سوياً {
ومثال تقدير مضاف قبله قول العرب: «وقع المصطرعان عدلي عير ، يريدون: مثل عدلي عير» . قال المصنف في الشرح: «أو كقول الشاعر:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت
…
به زينب في نسوه خفرات»
انتهى. يريد: مثل مسك.
والأجود عندي أن يكون «مسكاً» منصوباً على التمييز ، وهو منقول من الفاعل وهو أمدح.
ومثال دلالته على مفاعله: كلمته فاه إلى في ، أي: مشافهه ، وبايعته يداً بيد ، أي: مناجزة ، وفسر س ، فقال:«بايعته نقداً» ، وهو تفسير معنى ، لأن المعنى على التعجيل والمناجزة. ولا يصح أن تقدر: جاعلاً يداً بيد ، لأنك لم ترد أنك جعلت يدك في يده ، ولا أن يكون اسما وضع موضع المصدر ، لأنه لا مصدر له من لفظه ، وهو حال من الضمير في بايعته ، والمعنى: ذا يد ، أي: في حال أنه ذو يدٍ على ملكه ، ويصح أن يكون حالا من المبيع المحذوف ، والمعنى: بايعته شيئاً في حال أن ذلك الشيء المبيع ذا يد ، أي: مجعولاً عليه اليد. وبعته رأساً برأس ، أي: مماثله. ولا يقتصر على «فاه» ، ولا على «يداً» ، ولا على «رأساً» ، بل يلزم الجار فيه لزومه في مثل: سادوا كابراً عن كابر ، وابتع هذا ناجزاً بناجز.
ومثال دلالته على سعر قولهم: بعت الشاء شاه ودرهما ، والبر قفيزاً بدرهم ، والدار ذراعاً بدرهم ، أي: مسعراً
ويجوز رفع «شاه ودرهم ، وقفيز بدرهم ، وذراع بدرهم» على الابتداء ، وهو مبتدأ محذوف منه الصفة ،التقدير: شاه منها ، وقفيز منه ، وذراع منه.
فأما قولهم بعته ربح الدرهم درهم فلا يجوز فيه إذا الرفع ، والجملة حال ، أي: ومربوح الدرهم درهم. وكذلك: بعت دارى الذراعان بدرهم.
وأجاز بعض الكوفيين نصب / الربح والدرهم ، ونصب الربح ورفع الدرهم ، وذلك على إسقاط الباء ، أي: بعت المتاع بربح الدرهم درهما ، أي: بأن ربح الدرهم درهماً أن جعلت المصدر مضافا إلى الفاعل ، وبرفعه وان جعلته مضافاً للمفعول ، أي: بأن ربح الدرهم درهم.
وتقول: قامرت فلاناً درهماً في درهم ، أي: باذلاً ، وأخذت منه الزكاه درهماً لكل أربعين ، أي: فرضاً ، وتصدقت بمالي درهما درهما.
ومثال دلالته على ترتيب: ادخلوا رجلاً رجلاً ، وتعلمت الحساب بابا بابا ، أي مفصلاً أو مصنفاً ، وادخلوا أول أول ، أي: مرتبين واحداً بعد واحد. ولا يفرد شيء من هذه الألفاظ.
وتقول: لك الشاء شاه بدرهم شاه بدرهم ، وان ألغيت «لك» فلم تجعله خبر المبتدأ قلت: شاه بدرهم شاه بدرهم ، وإذا قلت: الشاء لك - فيجوز الرفع والنصب.
وفي نصب الثاني من المكرر نحو علمته الحساب باباً باباً خلاف:
ذهب أبو علي الفارسي إلى أن باباً الأول لما وقع موقع الحال جاز ان يعمل في الثاني.
وذهب ابن جني إلى انه في موضع الصفة للأول ، وتقديره: بابا ذا باب ، ثم حذفت ذا ، وأقمت الثاني مقامه ، فجرى عليه جريان الأول ، كما تقول: زيد عمرو ، أي: مثل عمر ، هذا نقل بعضهم.
ونقل بعضهم أن الفارسي زعم أن بابا الأول حال ، لكن لا يفهم التفصيل به وحده ، فجعل الباب الثاني صفه للأول ، لأنه لا يجوز أن يجعل توكيداً، إذا لو كان توكيداً لأدى ما أدى الأول ، وزعم أن الاسمين مركبان.
قيل له: فالتركيب ثلاثة أنواع: بناؤهما ، نحو: خمسه عشر ، والأعراب في الثاني: بعلبك ، وإضافة الأول إلى الثاني: بعلبك ، ولم يستقر رابع. قال: قد جاء التركيب بإعراب الاسمين ، قال:
تزوجتها راميه هرمزيه ..............................................................................
وزعم الزجاج أن الباب الأول حال والثاني توكيد.
قيل له: فكيف يكون توكيداً ، ولا يفهم التفصيل إلا به؟
قال: قد قالت العرب: بعته الشاء شاه بدرهم ، دون تكرار ، وهو على معنى: شاه بدرهم ، ولم تستعمل العرب: بينت له حسابه باباً باباً ، إذا هكذا ، ولو أفردت لفهمنا التفصيل كما فهمناه في: لك الشاء شاه بدرهم.
قال بعض أصحابنا: «ومذهب الزجاج أرجح من مذهب الفارسي ، لأن التكرار للتأكيد ثابت من كلامهم ، وأما التكرار للتفصيل فلم يثبت في موضع. انتهى» .
والذي اختاره غير ما قالاه ، بل كلاهما منصوب بالعامل قبله ، لأن مجموعهما هو الحال لا أحدهما ، ومتى اختلف بالوصفية أو بكونه معمولاً للأول لم يكن له مدخل في الحالية ، والحالية مستفادة منهما لا من احدهما ، فصارا يعطيان معنى المفرد ، فأعطيا إعرابه ، وهو النصب ، ونظير ذلك قولهم: هذا حلو حامض ، فكلاهما مرفوع على الخبرية ، والخبر إنما حصل بمجموعهما ، فلما نابا مناب الفرد الذي هو مز أعربا / بإعرابه ، وهو الرفع ، كذلك هذا.
ولو ذهب ذاهب إلى أن النصب إنما هو بالعطف على التقدير حذف الفاء ، وأن المعنى: بينت له الحساب باباً فباباً ، وادخلوا أول فأول ، لكان وجهاً حسناً عارياً عن التكلف ، لأن المعنى: بينت له الحساب باباً بعد باباً ، وادخلوا رجلاً بعد رجل. والذي يدل على إرادة الفاء كونه يجوز ذلك في المرفوع والمنصوب والمجرور ، فمثال المرفوع قول الشاعر:
كرة وضعت لصوالجة
…
فتلقفها رجل رجل
أي: فرجل. ومثال المنصوب: (ونفلوا بعيراً بعيراً)، أي: فبعيراً. ومثال المجرور: (قيراط قيراط) ، أي فقيراط.
إذا انه يعكر على هذا المذهب ما زعم أبو الحسن من انه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من هذه المكررات إذا الفاء في الموضع الذي يكون فيه الترتيب ، نحو: ادخلوا الأول فالأول ، ولا تقول: بينت له الحساب باباً فباباً ، ولا بابا وبابا ، ولا: ادخلوا رجلاً فرجلاً ، ولا تقول لثلاثة: ادخلوا الأول فالأول ، ولا لاثنين ادخلوا الأول فالأول. انتهى. والتكرار في نحو هذا لا يدل على أنه يراد به شفع الواجد ، بل المراد به الاستغراق لجميع الأبواب والرجال ونحو ذلك.
ومثال دلالته على أصالة قوله تعالى} أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {، ونحو: هذا خاتمك حديداً ، وهذه جبتك خزاً ، وهما من أمثله س.
ومثال دلالته على فرعيه الشيء: هذا حديدك خاتماً.
ومثال دلالته على النوع: هذا تمرك شهريزاً، وهذا خاتمك ذهباً. هكذا مثل المصنف في الشرح ، وليس ذهباً دالا على نوع الخاتم ، بل هذا المثال من باب ما دل على أصالة ، نحو ما مثل به المصنف عن س من قوله: هذا خاتمك حديداً وهذه جبتك خزاً.
ومثال ما دل على طور واقع فيه تفضيل قولك: هذا بسراً أطيب منه رطباً.
وقوله وجعل «فاه» حالا من «كلمته فاه إلى في أولى» من أن يكون أصله: جاعلاً فاه إلى في ، أو: من فيه إلى في قال المصنف في الشرح: «مذهب س أنه نصب على الحال ، لأنه واقع موقع مشافهاً ومؤد معناه» انتهى.
وزعم الفارسي أنه حال نائبه مناب جاعلا، ثم حذف ، وصار العامل فيها كلمته ، قال:«وهذا مذهب س» انتهى.
وقال المصنف في الشرح: «ومذهب الكوفيين أن أصله: كلمته جاعلاً فاه إلى في - يعنى فهو مفعول به - ومذهب الأخفش أن أصله: من فيه إلى في» انتهى. ومال إلى قول الكوفيين أبو على في «الحلبيات» .
فعلى مذهب س تكون «إلى في» ليست مبنية على «فاه» ، إنما جاءت للتبيين ، كـ «لك» بعد «سقياً» في قولهم: سقياً لك. وعلى مذهب الأخفش حذف منه الحرف كما / حذف في قوله} وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ {، أي: على عقده النكاح. وعلى مذهب الكسائي والفراء وهشام يكون قد دل كلمني أو كلمت على جاعل.
ورد السيرافي على الكوفيين بامتناع: كلمته وجهه إلى وجهي ، وعينه إلى عيني ، ولو كان على الإضمار لم يمتنع هذا ، لكنه لما كان على ما قال س لم يصح اطرداه ، لأنه من وقوع الأسماء موقع الصفات ، والأصل غير ذلك. انتهى. وأيضاً فالعرب ترفعه على المعنى الذي تنصبه ، وليس للرفع وجه إذا الحال.
وقال الكوفيون كلهم: يجوز كلمني عبد الله فوه إلى في ، وقالوا:«إلى» خبر «فوه» وعله رفعه أن معه واوا مضمره ، أي: وهذه حاله ، فلو أدخلت الواو لم يجز النصب. وهذا الذي أجازه الكوفيون حكاه س عن العرب ، وما قالوه من أن عله رفعه أن معه واوا مضمره لا يحتاج إلى هذه العلة ، ولا يحتاج إلى تقدير واو مضمره بل يجوز الرفع على الابتداء دون الواو ، لأن في الجملة ضميراً يعود على ذي الحال ، وسيأتي الاحتجاج لذلك إن شاء الله.
وذهب السيرافي إلى أن ذلك اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، ومعناه: كلمته مشافهه ، وبذلك قدره س ، فوضع «فاه إلى في» موضع
مشافهة، ومشافهة موضع مشافهاً ، فهو عنده بمنزله «الجماء الغفير» و «قضهم» إذا أن هذا اسم في الأصل نقل إلى المصدر ، وذلك لم يستعمل قط إذا مصدراً ، فهذا هو الفرق بينهما.
ورد ذلك بأن الاسم الذي تنقله العرب إلى المصدر لابد أن يكون نكره ، كذا زعم س ، وبأن الأسماء الموضوعة موضع المصادر لابد أن يكون لها مصادر من ألفاظها ، كالدهن ، والعطاء ، و «فوه إلى في» ليس كذلك.
وقال الفراء: «أكثر كلام العرب: فاه إلى في ، بالنصب ، والرفع مقول صحيح.
وفيما أشبه هذا من قولهم: حاذيته ركبته إلى ركبتي ، وجاورته منزله إلى منزلي ، وناضلته قوسه عن قوسي ، والأكثر فيه: ركبته ، ومنزله ، وقوسه ، بالرفع.
وإذا كان نكره فالنصب المؤثر المختار، نحو: كلمته فما لفم ، وحاذيته ركبه إلى ركبه ، وناضلته قوساً عن قوس. ورفعه وهو نكوه جائز على ضعف إذا جعلت اللام خبراً لفم ، وكذلك غيرها من الصفات.
وان وضعت الواو موضع الصفة ، فقيل: كلمته فوه وفي ، وحاذيته ركبته وركبتي ، فالواو تعمل ما تعمل إلى ، والنصب معها سائغ على أعمال المضمر». انتهى كلام الفراء ملخصاً.
ويعني بقوله «والنصب معها» أي: مع الواو في الثاني «سائغ على أعمال المضمر» يعنى: جاعلاً ، فتقول: حاذيته ركبته وركبتي ، وكلمته فاه وفي ، أي: جاعلاً فاه ، وجاعلاً ركبته.
وقال المصنف في الشرح مرجحاً مذهب س ما معناه: «ليس في مذهب س إذا تنزيل جامد منزله مشتق ، وهو موجود في هذا الباب وغير بإجماع ، ولا يلزم منه ليس ولا عدم نظير.
ومن الجامد / في هذا الباب: بعته يداً بيد ، والبر قفيزًا بدرهم ، والدار ذراعاً بدرهم ، فلا خلاف في نصب هذه أحولا ، لا مفعولاً بها بإضمار ، ولا بعد إسقاط جار.
وأما إضمار جاعل أو من فلا نظير له في هذا الباب. وفي تقدير من ضعف زائد ، وهو أنه يلزم منه تقدير من في موضع إلى ، ودخول إلى في موضع من ، لأن مبدأ غاية المتكلم فمه لا فم المكلم ، فلو كان معنى من مقصوداً لقيل: كلمته من في إلى فيه ،على إظهار من ، وكلمته في إلى فيه ، على تقديرها» انتهى.
ورد بعد تسليم صحة معنى الكلام بأنه لم يوجد قط حذف حرف الجر ملتزماً. وأيضاً فانه من القلة بحيث لا يقاس عليه. وأيضاً فان العرب قد رفعته.
وزعم المبرد أنه تقدير لا يعقل ، لأن الإنسان لا يتكلم من فم غيره ، إنما يتكلم كل احد من فيه ، واليه أشار المصنف فيما نقلناه عنه قبل ،ومن المبرد أخذه.
وانفصل أبو علي عن هذا بأن العرب إذا ضمنت شيئاً ما معنى شيء علقت به ما يتعلق بذلك الشيء ، دليله قولهم: زيد اليوم أفضل منه غداً ، لا يتصور أن يعمل (أفضل) في ظرفي زمان ، لكنه لما كان معناه: يزيد فضله اليوم على فضله غداً، جاز ، فكذلك كلمته فاه إلى في ، إنما يقال في معنى: كلمني وكلمته ، فهو من ألمفاعله فإذا قلت كلمته فقد تضمن معنى كلمني، وكلمني من فيه صحيح ، أي: لم يكلمني من كتابه ولا بوساطة، فصح لهذا النائب أن يتعلق به الجار. انتهى.
فلو قدمت حرف الجر ، فقلت: كلمني عبد الله إلى في فوه ، لم يجز النصب بإجماع من الكوفيين ، وتقتضيه قاعدة قول س في أن «إلى في» تبيين كـ «لك» بعد «سقياً» ، وتقديم «لك» على «سقيا» لا يجوز ، فينبغي إذا يجوز هذا.
فلو قدمت «فاه إلى في» على كلمت فقلت: فاه إلى في كلمت زيداً - فأجازه س وأكثر البصريين لتصرف العامل ، واتفق الكوفيون على منعه ، وتبعهم بض البصريين ، وعزى المنع أيضاً إلى س ، ومن حجه منع أنها حال متأوله لم تقو قوه غيرها ، ولم يسمع فيها تقديم.
فلو قتل فوه إلى في كلمني عبد الله لم يجز ذلك عند أحد من الكوفيين ، ولا أحفظ نصاً عن البصريين في ذلك ، والقياس يقتضى الجواز.
وقوله ولا يقاس عليه خلافاً لهشام يعنى أنه لا يقاس على «فاه إلى في» ، بل يقتصر على مورد السماع ، وهو ما حكاه الفراء قبل ، وماحكاه ابن خروف عنه أنه حكى: صارعته جبهته على جبهتي ، بالرفع والنصب. وأجاز هشام القياس
على ذلك ، فتقول: ماشيته قدمه إلى قدمي ، وكافحته وجهه إلى وجهي ، ونحو ذلك.
وذكر المصنف في الشرح عن الفراء: جاورته بيته إلى بيتي ، بالرفع والنصب ، وقال في الشرح:«ولا يرد شيء من ذلك ، ولكن الاقتصار على السماع أولى ، لأن / فيه إيقاع جامد موقع مشتق ، ومعرفه موقع نكره ، ومركب موقع مفرد» .
-[ص: فصل
الحال واجب التنكير ، وقد يجئ معرفاً بالأداة ، أو الإضافة ، ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشره مضافاً إلى ضمير ما تقدم ، ويجعله التميميون توكيداً ، وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد ، و «قضهم بقضيضهم» . وقد يجئ المؤول بنكرة علماً.
]-
وزعم الأستاذ أبو علي أن سبب تنكيرها أنه يحصل بالتنكير ما يحصل بالتعريف ، فلم تكن فائدة لتكلفه ، ولذلك سبب تنكير التمييز.
ورد ذلك عليه بأن قوله هذا يقتضى إمكان التعريف فيهما ، واجتزأوا بالتنكير لما كان المعنى يحصل به ، وليس التعريف فيهما بممكن ، لأنك إذا قلت جاء زيد اقتضى الفعل حالا منكورة يجئ الفاعل عليها إسراع أو إبطاء أو غضب أو رضاً أو نحو ذلك ، ولم يدل على حال مختصة ولا معهودة فتكون معرفه. وكذلك التمييز ، وإذا قلت امتلأ إذاناء لما يكن بينك وبين المخاطب عهد في المالئ له ، فلا يمكن أن يأتي معرفه ، فلذلك وجب التنكير في الحال والتمييز.
وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه أن موجب التنكير كونها مبنية على معنى الشرط متصرحاً ، نحو: يجئ عبد الله راكباً ، المعنى: إن ركب ، ومتى ركب ،وغير متصرح في اللفظ ، نحو: جاء زيد راكباً ، لا يحسن: جاء زيد ان ركب ، وحكمه حكم الشرط ، لأن جاء مبنى على مجيء. قال: والشرط منبهم ، فلذلك كانت الحال نكره ، إذا ترى أن معنى راكباً: إن ركب ، فهو ركوب غير محدود ، ولا يحصل بتعيين ، لأنه ممكن أن يكون وإذا يكون.
ورد على الفراء قوله بأن مبنى الحال على الشرط دعوى لا دليل عليها ، وبأن الحال قد تكون واقعه ، فلا يدخلها إذا ذاك معنى الشرط الذي يمكن أن يقع وإذا يقع ، نحو: جاء زيد / راكباً ، فمعنى الركوب واقع فيما مضى.
وما ذكره المصنف من وجوب تنكير الحال هو مذهب الجمهور.
وزعم يونس والبغداديون أن الحال يجوز أن تأتى معرفه ، نحو: جاء زيد الراكب ، قياساً على الخبر ، واستدلا لاً بما روى عن العرب في ذلك مما نذكره بعد.
وذهب الكوفيون إلى أن الحال إذا كان فيها معنى الشرط جاز أن تأتى على صوره المعرفة ، وهى مع ذلك نكره ، فأجازوا أن تقول: عبد الله المحسن أفضل منه المسيء ، وعبد الله عندنا الغنى فأما الفقير فلا ، وأنت زيداً أشهر منك عمراً ، التقدير: عبد الله إذا أحسن أفضل منه إذا أساء ، وعبد الله عندنا إذا استغنى فأما إذا افتقر فلا ، وأنت إذا سميت زيداً أشهر منك إذا سُميت عمراً. فان لم يكن في الحال معنى الشرط لم يجز أن تأتى معرفه اللفظ ، لا يقال: جاء زيد الراكب ، لأنه لا يتقدر عندهم بالشرط ، إذا ليس المعنى: جاء زيد إن ركب ، ولأنه قلما جاء منها معرفه في اللفظ مبنياً على المفعول.
وأجازوا أيضاً أنت تقول: عبد الله إياه أشهر منه إياها ، على أن كل واحد من المكنيين منصوب على الحال لما في ضمير الغائب من الإبهام. ولا يجوز ذلك عندهم في مكنى المخاطب والمتكلم ، ولا يقال: زيد إياي أشهر من إياك ، على أن ايأي وإياك منصوبان على الحال ، لأنهما محصوران على الأخبار والخطاب ، لا يتسع فيهما كما يتسع في الغائب. دليل هذا قول العرب: رُبه رجلاً فاضلاً قد زارني ، وربها امرأة عاقله قد أكرمتني ، ولم يقولوا: رُبى ولا رُبك ، لما في هاتين من الاختصاص.
وقال هشام: حكى الكسائي عن العرب:
لذو الرمة ذا الرمـ
…
ـه أشهر منه غيلانا
فانتصب (ذا الرمة) و (غيلان) على الحال ، وهما علمان ، لأن المعرفة سدت هنا مسد النكرة ، وإبقاء (أل) في ذا الرمة وترك إجراء غيلان دليل على بقاء تعريفهما ، ولو أمحضا التنكير لقيل: لذو الرمة ذا رُمه أشهر منه غيلاناً.
قالوا: ونظير أقامه المعرفة مقام النكرة في هذا قول العرب: لا أبا حمزة عندك ، ولا أبا عُمر لك ، فنصبوا المعرفة كما نصبوا النكرة ، ولم يجروا لأن أصله التعريف وأن يسد المعروف مسد المنكور.
وحكي الفراء عن العرب: «ان كان أحد في هذا الفج فلا هو يا هذا» ، فموضع «هو» نصب بـ (لا) وأنشد الفراء:
فلا هي إذا ان تقرب وصلها
…
علاه كناز اللحم ذات مشاره
وقول حسان:
إذا ما ترعرع فينا الغلام
…
فما أن يقال له: من هوه
/إذا لم يسد قبل شد الإزار
…
فذلك فينا الذي هوه
فأعمل (لا) في (هو) كما يعملها في النكرة.
قال الفراء: دليل على هذا حذف الخبر الذي لا يحذف إذا مع المنكور حين يقال: لا درهم ولا دينار ، ولا يقال: لا الدرهم ولا الدينار ، حتى يظهر الخبر على اختيار واستحسان وكثره في كلام العرب.
وما ذهب إليه الكوفيون باطل عند البصريين ، بل الحال عندهم أبداً بكره ، والمحسن والمسيء في المثال الذي ذكروه منصوبان على خبر كان مضمره ، أي: إذا كان المحسن أفضل منه إذا كان المسيء. و «ذا الرمة» و «غيلان» منصوبان على أنهما مفعولان لفعل مضمر يدل عليهما المعنى ، التقدير: إذا سمى ذا الرمة أعرف منه إذا سُمى غيلان.
وأما الضميران الغائبان فان سُمع ما أجازوه فهما منصوبان على خبر كان ، أي: عبد الله إذا كان إياه أشهر منه إذا كان إياها ، ولا يمكن حمل هذا التركيب على ظاهره ، بل المعنى: عبد الله إذا كان مثله أشهر منه إذا كان مثلها. وأما «لا أبا عمر لك» وشبهه فعلى حذف «مثل» وذلك قليل ، وقد أجازه الخليل في «له صوت صوت الحمار» في جعله نعتاً للنكرة مراعياً فيه مثل.
وأما «لا هو» و «لا هي» فمبتدأ ، والخبر محذوف ، وذلك قليل ، ولم تعمل ، ولم تكرر. ويدل على أنهما مرفوعان كونهما ضميري رفع ، ولو كان منصوبين لقيل: لا إياها ولا إياه.
وقوله وقد يجئ مُعرفاً بالأداة ليس قوله «معرفاً بالأداة» بجيد ، لأنه ليس معرفه على مذهب الجمهور ، فكان ينبغي أن يقول «وقد يجئ فيه أل» ، لأنهما وان كانت بصوره المعرفة نكره عندهم من حيث المعنى.
والمسموع مما جاء من الحال مقروناً بأل قولهم: مررت بهم الجماء الغفير ، وأوردها العراك ، وادخلوا الأول فالأول. وعلى هذه قاس يونس والبغداديون ، فأجازوا: جاء زيد الضاحك.
فأما «الجماء الغفير» فأل فيهما زائدة ، وقد قالت العرب: جاؤوا جماء غفيراً ، وجماً غفيراً. وحكي القإلى: الجماء الغفيرة ، بالتاء ، وجماء غفيره ، بالتاء أيضاً والتنوين ، وليس من بناء جماء غير منونه ، وإنما هو فعال كالجبان والقذاف ، وهمزته مجهولة ، والمعنى واحد.
وهو عند س اسم موضوع موقع المصدر ، أي: مررت بهم جموماً غفيراً. وقد جعله غير س مصدراً ، و (س) لا يرى ذلك لعدم تصرف الفعل منه. والجماء الغفير: هي البيضة التي تجمع الرأس وتضمه ، قاله الكسائى ، وابن الأعرابي.
واختلفوا في هذه الأسماء المعارف لفظاً: فذهب الأخفش والمبرد إلى انها ليست بأحوال في الحقيقة ، إنما الأحوال هي العوامل المضمرة الناصبة لها. واختلف
هؤلاء: فبعضهم قدر تلك العوامل أفعالا ، والأفعال نكرات ، وهو مذهب الفارسي. وبعضهم قدرها / أسماء مشتقه من تلك الأفعال.
وذهب أبو بكر بن طاهر الخدب وتلميذه أبو الحسن بن خروف في جماعه إلى أنها ليست معمولة لعوامل مضمره ، بل واقعه موقع أسماء فاعلين منتصبة على الحال مشتقه من ألفاظها أو من معانيها ، وزعم ابن خروف أنه مذهب س.
فيكون التقدير في نحو أرسلها العراك أما: تعترك العراك ، أو معتركه العراك ، أو معتركه ، على حسب المذاهب التي ذكرنا.
ورجع مذهب ابن طاهر بأنه ليس فيه تكلف إضمار. وعورض بأن وضع المصدر موضع اسم الفاعل إذا لم يرد به المبالغة لا ينقاس.
وزعم ثعلب أن انتصاب «الجماء الغفير» ليس على الحال ، بل ينتصب على المدح.
وأجاز الجرمى نحو «مررت بإخوتك الجماء الغفير» .
قال أبو بكر بن الأنبارى: «ويجوز وجه ثالث ، وهو مررت بإخوتك الجماء الغفير ، بالرفع ، كما تقول: مررت بإخوتك العقلاء الفاضلون ، أي: هم. وإذا كانت هذه الأوجه الثلاثة جائزة ، وليس فيها مستضعف ، كان نصب الجماء الغفير على الحال غير مختارٍ ولا مؤثر ، إذا لم يدع إليه اضطرار» انتهى.
وقال الكسائى: العرب تنصب الجماء الغفير التمام ، وترفعه في النقصان ، قال:
كهولهم وطفلهم سواء
…
هم الجماء - في القوم - الغفير
وأما «أوردها العراك» فتقدم توجيه الحال فيه ، وقال لبيد:
فأوردها العراك ، ولم يذدها
…
ولم يشفق على نغص الدخال
وزعم أحمد بن يحي أن العراك ليس منصوباً على الحال ، وإنما انتصب على أنه مفعول ثان ل «أورد» ، كما تقول: أوردتك الحرب ، وأوردتك الأمر العظيم ،وقال تعالى} فأوردهم النار {، وقولهم «أرسلها العراك» مضمن عند الكوفيين معنى أوردها.
وزعم ابن الطراوة أن قولهم أرسلها العراك ليس بحال ، وإنما هو صفه لمصدر محذوف ، والمعنى: الإرسال العراك ، وكذا فعل في جميع هذه الأبواب.
ورد عليه بأنه لم نجد صفه تلتزم فيها أل ، بل المعهود في الصفات أن تكون معارف ونكرات.
وأما «ادخلوا الأول فالأول» فـ «أل» زائدة في قول بعضهم ، وليست للعهد ، إذ لا عهد لك في الأول ، والمعنى: ادخلوا مرتبين ، وهذا ونحوه مما لا ينقاس
عند البصريين ، ولذلك كانت قراءه من قرأ} ليخرجن الأعز منها الأذل {شاذة لمجيء (الأذل) حالا ، وهو بصوره المعرفة.
قال بعض أصحابنا: وأما الكوفيون فينبغي على مذهبهم أن يكون من قبيل ما ينقاس ، لأن الحال عندهم إذا كانت في معنى الشرط يجوز أن تأتى على لفظ المعرفة.
وذهب الأخفش إلى أنه ليس حالا ، وهو منصوب بالفعل على أنه مشبه بالمفعول والتشبيه يكون في الفعل كما يكون في الصفات ، كما ذهب إليه الكوفيون في} بطرت معيشتها {.
وذهب يونس إلى أنه حال / بنفسه ، وهو معرفه ، وحكي أن العرب تقول: قدم زيد أخاك ، وهذا زيد سيد الناس ، ومذهبه أن الحال تجئ معرفه ونكره كالخبر.
وذهب المبرد والسيرافي إلى أن «أل» معرفه لا زائدة ، لكن الاسم لم يتعرف هنا على حد تعرف الأسماء ، بل إنما يعلم كونه أولاً بعد ما يكون أولاً ، فلما كانت «أل» على هذا الحد سهل ذلك فيها.
ومما خالفت فيه العرب القياس قولهم في الأمر للمؤنثات: ادخلن الأول فالأول ، فالقياس: ادخلن الأولي فالأولي ، لكنهم شذوا في إدخال أل. فإذا قالوا: دخلوا الأول فالأول - بالرفع - كان بدلا ، فإذا قلت: ادخلوا الأول لم يتصور البدل؛ لأنك لا تقدر أبدا أمرا لام وفاعله مضمر لا ظاهر ، فارتفاعه علي فعل دل عليه هذا ، تقديره: ليدخل الأول.
وقوله أو الإضافة هذا أيضا ليس بجيد؛ لأنه ليس علي مذهب الجمهور ، بل أتي بصورة المعرفة وهو نكرة عندهم من حيث المعني ، والمسموع من ذلك قولهم: كلمته فاه إلى في - وتقدم الكلام عليه - وطلبته جهدي وطاقتي ، ورجع عوده إلى العشرة ، وقضهم بقضيضهم.
فأما طلبته جهدي وطاقتي ، وفعل ذلك جهده وطاقته، فالتقدير: جاهدا ومطيقا ، أو: أجتهد جهدي ، وأطيق طاقتي ، أو مجتهدا جهدي ، ومطيقا طاقتي ، علي اختلاف المذاهب السابقة.
وزعم الكوفيون أن جهدي من قبيل المصادر المعنوية ، التقدير: اجتهدت جهدي، وأطقت طاقتي.
وأما رجع عوده علي بدئه فعوده عندنا منصوب علي الحال ، تقديره: رجع يعود عوده ، أو عائدا علي اختلاف المذاهب.
وزعم الكوفيون أن عوده منصوب علي المصدر ، المعني: عاد عوده علي بدئه. وأجاز بعض النحويين نصبه علي المفعول به ، أي: رد عوده علي بدئه.
فإذا انتصب عوده علي الحال لم يجز تقديم المجرور عليه لأنه من صلته ، وان كان مفعولا به جاز.
ويجوز فيه الرفع ، فتقول: رجع عوده علي بدئه. وفي رفعه وجهان: أحدهما أنه فاعل برجع. والثاني انه مبتدأ ، وعلي بدئه في موضع الخبر ، والجملة حالية. ويجوز تقديم المجرور علي عوده في حالتي رفعه.
وأما مررت بزيد وحده ، وجاء زد وحده ، فذهب الخليل و «س» إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، كأنه قال: أيحادا ، أيحادا (وضع) موضع موحدا، فمع الفعل المتعدي هو حال من الفاعل ، أي: موحدا له بمروري ، ومفردا له بالضرب في: ضربت زيدا.
وذهب المبرد إلى انه يجوز أن يكون حالا من المفعول ، أي: ضربته في حال أنه مفرد بالضرب.
ومذهب س أولي؛ لأن وضع المصادر التي تنوب عنها الأسماء موضع اسم الفاعل الأكثر من وضعها موضع المفعول.
وذهب ابن طلحة إلى أنه حال من المفعول ليس إلا؛ لأنهم إذا أرادوا الفاعل قالوا: مررت/به وحدي ، كقوله:
والذئب أخشاه أن مررت به
…
وحدي ، واخشي الرياح والمطرا
وذهب جماعة من النحويين إلى أنه مصدر موضوع موضع الحال: فمنهم من قال: هو مصدر علي حذف حروف الزيادة ، أي: أيحاده. ومنهم من قال: انه مصدر لم يلفظ له بالفعل كالأخوة. ورد قول من ذهب إلى أنه مصدر بأن المصادر التي وضعت موضع الحال لا تتصرف ، وهذا يتصرف.
وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منصوب انتصاب الظروف ، فيجريه مجري عنده فإذا قلت جاء زيد وحده فكأن التقدير: جاء زيد علي وحده ، ثم حذف حرف الجر ، ونصب علي الظرف ، وحكي من كلام العرب: جلسا علي وحديهما. وإذا قلت زيد وحده فكأن التقدير: زيد موضع التفرد ، وينبغي علي هذا أن يكون مصدرا لأن الأصمعي حكي عن العرب وحد يحد.
ورد مذهب يونس بأن حذف حرف الجر لا يجوز بقياس. وهذا ليس بشيء؛ لأن يونس لم يحذف الحرف بقياس ، بل العرب حذفته ، وذلك بعد ما أدخلته؛ ألا تري إلى ما يحكي يونس عن العرب: جلسا علي وحديهما ، أي: موضع انفرادهما. والذي يدل علي أنه منتصب علي الظرف لي علي الحال قول العرب: زيد وحده ، فجعلته العرب خبرا للمبتدأ لا حالا ولو قلت زيد جالسا لم يجز ذلك.
وقد أجاز هشام في قول العرب زيد وحده وجها آخر ، وهو أن يكون منصوبا بفعل مضمر يخلفه وحده ، كما قالت العرب: زيد إقبالا وإدبارا ، والمعني: يقبل إقبالا ويدبر إدبارا ، وتأويله عنده: زيد وحد وحده ، وقد تقدمت حكاية الأصمعي عن العرب: وحد يحد.
قال هشام: ومثل زيد وحده في هذا المعني: زيد أمره الأول ، وسعد قصته الأولي وحاله الأولي. يذهب هشام إلى خلاف هذا المنصوب الناصب كما خلف وحده وحد ، وكان يسمي هذا منصوبا علي الخلاف للأول ، وقال: لا يجوز: وحده زيد ، كما لا يجوز: إقبالا وإدبارا عبد الله ، وكذلك قصته الأولي زيد ، من قبل أن الفعل لا يضمر إلا بعد الاسم. وأما علي قول هشام الذي وافق فيه يونس - وهو أنه ينتصب علي الظرف - فيجوز أن تقول: وحده زيد كما يجوز: عندك زيد.
وأما «تفرقوا أيادي سبا» فيأتي الكلام عليه في آخر باب العدد أن شاء الله ومعناه: تبددا لا بقاء معه.
وقوله ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشرة مضافا إلى ضمير ما تقدم أي: ومما جاء مضافا إلى معرفة ، وانتصب علي الحال تقول: مررت بهم
ثلاثتهم ، ومررت بالقوم خمستهم ، فلغة الحجازيين نصب هذا علي الحال ، ومذهب س فيه كمذهبه في وحده من أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، كأنك قلت: مخمسا لهم ، فوضع خمسة موضع خمس الذي هو مصدر خمسة القوم خمسا ، وخمسا موضوع موضع مخمس.
وذهب يونس إلى أنها صفة في الأصل. / فتكون حالا بنفسها. ورد بأنه لا يكون صفه إلا نكرة.
وذهب المبرد إلى أنه تقدر هنا لفظ الخمسة فعلا ، تقول: مررت بالقوم فخمستهم. وهذا تكلف لم ينطق به.
وذهب غيرهم إلى أنه ينتصب انتصاب الظرف ، كما ذهب إليه في مررت بزيد وحده. والدليل علي صحة هذا المذهب ما روي ألكسائي أن العرب تقول: القوم خمستهم وخمستهم ، وكذلك عشرتهم وعشرتهم فمن رفع الخمسة رفعها بالقوم ، ومن نصب نصب علي الظرف ، فكونهم جعلوه في موضع الخبر دليل علي أنه ليس بحال؛ لأن قولك زيد جالسا لا يجوز.
وإذا أراد الحجازيون معني التوكيد لم يقولوا إلا كلهم وأجمعين ، ولا يؤكدون بثلاثتهم إلى العشرة ، وإنما ينصبوها علي الحال كما ذكرنا.
ولم يذكر س اثنيهما ، وقد قاسه بعضهم علي ثلاثيهم ، وقد غلط فيه ، قاله في البسيط ، قال:«والفرق بين الموضعين أنك إذا قلت لقيتهما فقد علم عدة ذلك ، فلا يحتاج إلى زيادة ، وإذا قلت لقيتهم لم يعلم عدتهم ، فاحتيج إلى ذلك ليبين هذا القدر» .
وفيه نظر؛ فان المراد هنا بإتيان ثلاثتهم وأربعتهم تجريدهم عن الانضياف إلى الغير ، بمنزلة قولهم منفردين ، وبهذا المعني يحسن دخول اثنيهما قياسا ، كقوله {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} لما أراد التحريد ، وقوله تعالى {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} لما أراد مجرد الاثنية.
وقوله ويجعله التميميون توكيدا أي يتبعون ذلك لما قبله في الإعراب ، فيقولون: قام القوم ثلاثتهم ، بالرفع ، ورأيت القوم ثلاثتهم ، بالنصب ، ومررت بالقوم ثلاثتهم ، بالجر ، وإذا أرادوا معني الانفراد بالمرور لم يقولوا الا: وحدهم ، نحو مررت بالقوم وحدهم.
والفرق بين النصب والإتباع أنك إذا نصبت كان التقدير أن المرور مقيد بهم خمسة ، أما تقييد الحال علي مذهب س ، وأما تقييد الظرف علي مذهب غيره ، فلو مر بغيرهم معهم كانوا أكثر من خمسة إذا قلت: مررت بالقوم خمستهم ، وإذا أتبعت جاز أن تكون مررت بغيرهم ، وجاز أن تكون مررت بهم خاصة.
وقال بعض شراح الكتاب: «إذا نصبت فعلي الحال، كأنك قلت: مررت بهم في حال أنهم ثلاثة ، فمحال علي هذا أن يكون معهم غيرهم ، وإلا فيكون الكلام كذبا ، فالحال اقتضت هذا المعني.
وأما الجر فعلي معني أنك مررت بالثلاثة كلهم ولا يقضي هذا أن يكون معهم غيرهم؛ لأنه إذا كان معهم غيرهم صح أن تقول: مررت بالثلاثة كلهم ، ولا يكون كذبا ، فلهذا فرق النحويون بينهما ، أي: بين النصب والجر.
ويقولون في مررت بالقوم ثلاثتهم: إن ثلاثتهم توكيدا ، واجمعوا علي ذلك ، ولم يقل أحد انه بدل ، وان كان يسبق إلى الخاطر جوازه. وحملهم علي ذلك أنه يقال في معني أن القوم ثلاثة ، وكذلك أربعتهم والمعني أنهم أربعة ، وكذلك ما بقي ، فلو قلنا انه بدل كان من بدل الشيء ، وفيه ضمير القوم فيكون فيه إضافة الشيء ، وفيه ضمير القوم فيكون فيه إضافة الشيء إلى نفسه ، واحتمل ذلك في التأكيد؛ / لأنه في معني كل وقد استسهل في كل إضافتها إلى ما هو هي ، فيقولون كل القوم لأنها نقيضة بعض ، فسهل ذلك فيها. فهذا هو الذي حملهم علي أنه تأكيد لا بدل» انتهي ، وفيه بعض تلخيص.
والمؤنث كالمذكر في ذلك ، فتقول: قام النساء ثلاثهن ، إلى: عشرهن.
وقال المصنف في الشرح: «النصب عن الحجازيين علي تقدير جميعا ، ورفعه التميميون توكيدا علي تقديرهم: جميعهم» انتهي. فيظهر من كلامه هذا أنه لا يقدر بين المعنيين إلا من جهة الصناعة ، أنه في النصب يقدر بجميعا ، وفي التوكيد يقدر بجميعهم ، وهذا خلاف ما فرق به الناس بينهما مما ذكرنا قبل.
وقوله وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد يعني بالمعاملتين النصب علي الحال والأتباع علي التوكيد. وفي انتصاب مركب العدد انتصاب ثلاثتهم وأخواته خلاف: منهم من أجاز ذلك ، ومنهم من منعه ، والصحيح الجواز وفيه إذا فسر العدد بواحد منصوب ثلاثة أوجه:
أحدهما: حذف ذلك المفسر وإضافة المركب إلى ضمير الاسم ، فتقول: جاؤوا خمسة عشرهم ، وجئن خمس عشرتهن ، أي: جميعا ، حكاه الأخفش في «الأوسط» عن بعض العرب. ومن أجاز ذلك قال: قام القوم عشرتهم.
والوجه الثاني: ألا تضيف العدد إلى ضمير ، بل تأتي بالتمييز ، فتقول: مررت بالقوم احد عشر رجلا.
والثالث: إن تحذف التمييز فتقول: مررت بالقوم احد عشر ، ومررت بالقوم عشرين.
وقوله وقضهم بقضيضهم تقول: جاء القوم قضهم بقضيضهم ، حكي س فيه الرفع والنصب ، فإذا رفعنا فعلي التوكيد ، فيتبع ما قبله في الرفع والنصب والجر ، قال س:«ومثل خمستهم قضهم بقضيضهم ، كأنه قال: مررت بهم انقضاضا. هذا تمثيل ، وان لم يتكلم به ، كأنه قال: انقض آخرهم علي أولهم. وبغض العرب يجعل قضهم بمنزلة كلهم ، يجريه علي الوجوه» انتهي.
وقد حكي لقضهم فعل ، قالوا قضضت عليهم علي أولهم ، قال الشماخ
أتتني تميم قضها بقيضها
…
تمسح حولي بالبقاع سبالها
فهو من الانقضاض ، أي: أتوني انقضاضهم ، أي: منقضين ، وهو كالجماء في أنه مأخوذ من الانقضاض لا مشتق للصفة ، وهو بمنزلة جهدي في أنه للفاعل.
ويونس يجعله كالجماء وصفا فهو حال بنفسه ، والإضافة غير محصنة ، وهو ابعد من المصدر لكونه اسما. والمبرد يقدر الفعل.
وقوله وقد يجئ المؤول بنكرة علما قالت العرب: جاءت الخيل بداد ، وبداد علم جنس ، وإنما جاز أن يقع حالا لتأويله بنكرة ، ومعناه: جاءت الخيل متبددة.
-[ص: ان وقع مصدر موقع الحال فهو حال لا معمول حال محذوف ، خلافا للمبرد والأخفش ، ولا يطرد فيما هو نوع للعامل ، نحو: أتيته سرعة، خلافا للمبرد ، بل يقتصر فيه وفي غيره علي السماع ، إلا في نحو: أنت الرجل علما ، وهو زهير شعرا، وأما علما فعالم.
وترفع / تميم المصدر التالي «أما» في جوازا مرجوحا ، وفي التعريف وجوبا. والمنكر مفعول مطلق عند الأخفش.]-
ش: قال المصنف في الشرح: «تقدم التنبيه علي أن الحال خبر في المعني ، وأن صاحبه مخبر عنه ، فحق الحال أن يدل علي نفس ما يدل عليه صاحبه كخبر المبتدأ ، وهذا يقتضي ألا يكون المصدر حالا لئلا يلزم الإخبار بمعني عن جثة ، فان ورد عن العرب منه شيء حفظ ولم يقس عليه ، كما يقاس علي وقوع المصدر نعتاً» انتهى.
ومجيء المصدر حالا أكثر من مجيئه نعتا ، فمن المسموع (ثم ادعهن ياتينك سعيا) ،
و (الذين ينفقون أموالهم بإلىل والنهار سرا وعلانية) ، (وادعوه خوفا وطمعا) ، و (إني دعوتهم جهارا) ، وقتلته صبرا ، ولقيته فجاءة ومفاجأة ، وكفاحا ومكافحة ، وعيانا ، وكلمته مشافهة ، واتيته ركضا ومشيا وعدوا ، وطلع بغتة ، وأعطيته المال نقدا ، وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا ، ووردت الماء التقاطا ، وقال الشاعر:
فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا
…
علي ظهر محبوبك السراة محنب
واختلف النحويون في تخريج هذه الكلم المسموعة وما أشبهها من المسموع: فذهب الكوفيون والأخفش والمبرد إلى أنها مفاعيل مطلقة ، واختلفوا:
فقال الكوفيون: أنها منصوبة بالأفعال السابقة ، وليست في موضع الحال؛ لأن أعطيت في معني نقدت ، وقلته في معني: صبره ، وطلع بغتة في معني: بغت بغتة.
وذهب الأخفش والمبرد إلى أن قبل كل مصدر منها فعلا مقدرا هو الحال ، أي: زيد طلع يبغت بغتة ، وقتلته أصبر صبرا ، وأعطيته المال انقده نقدا وكذلك سائرها.
قال المصنف في الشرح: «وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ان كان الدليل علي الفعل المقدر لفظ المصدر المنصوب فينبغي أن يجيزوا ذلك في كل مصدر له فعل ، ولا يقتصروا علي السماع ، ولا يمكن أن يفسره الفعل الأول؛ لأن القتل لا يدل علي الصبر ، ولا اللقاء علي الفجاءة ، ولا الإتيان علي الركض» انتهي.
وذهب س وجمهور البصريين ، إلى إنها مصادر في موضع الحال ، أي: أعطيت زيدا المال منتقدا ، وقتلته مصبورا ، ودعوتهم مجاهرا ، وكذلك باقيها.
وظاهر قول المصنف في ألفيته:
ومصدر منكر حالا يقع
…
بكثرة ك «بغتة زيد طلع»
انه ينافس؛ لأن الكثرة دليل الاقتباس ، لكن قد نص هنا علي عدم القياس.
وفي الإفصاح ما نصه: «وقد رأيت لبعضهم ان هذه مصادر علي حذف مضاف أي: لقيته لقاء فجاءه ، وأتيته إتيان ركض ، وسار سير عدو ، فتقدر مضافا مصدرا من لفظ / الفعل ، فيجيء (العراك) علي تقدير: إرسال العراك ، وكذلك (جهدك) علي تقدير: طلبته طلب جهدك ، ورجع عوده علي تقدير: رجوع عوده ، فتكون هذه المعارف منتصبة انتصاب المصادر ، فتكون معرفة علي الواجب ، وهذا تقدير حسن سهل وكأنه حذف للعلم واستقباحا لتكرير اللفظ ، وتكون المعارف علي هذا التقدير على وجهها.
ويصح أن يكون مررت به وحده علي هذا ، أي: مرور أيجاد له ، أي: اختصاص ، وجاءوا الجماء ، أي: مجيء الجماء ، ودخلوا دخول الأول فالأول ، وكلمته كلام فيه إلى في ، فهذا عندي لا يبعد.
وقد قيل: إنها أحوال علي حذف مضاف ، أي: ذا فجاءه ، وهذا يبطل بالمعارف المذكورة» انتهي.
وقوله ولا يطرد فيما هو نوع للعامل ، نحو: أتيه سرعة ، خلافا للمبرد ، بل يقتصر فيه وفي غيره علي السماع اجمع الكوفيون والبصريون في نحو هذه المصادر أنه لا يستعمل من ذلك إلا ما استعملته العرب ، ولا يقاس علي المستعمل من ذلك غير المستعمل ، وان كانوا قد اختلفوا في التخريج ، فلا يجوز: جاء زيد بكاء ، تريد: باكيا ، ولا: ضحك زيد اتكاء ، تريد: متكئا.
وشذ البرد ، فقال: يجوز القياس. وذلك علي خلاف في النقل عنه ، فنقل بعض أصحابنا والمصنف باطراده فيما هو نوع للفعل ، نحو: أتيته سرعة.
والصحيح انه يقتصر في هذا ونحوه علي السماع ، وقال س:«لا تقول: أتيته سرعة ولا رجلة ، بل حيث سمع» .
و «أن» والفعل - وان قدر بمصدر - لا يجوز أن يقع حالا؛ لأن العرب أجرتها مجري المعارف ، سوي المضمر في باب الإخبار بكان ، ولأن س نص علي أن أن إذا دخلت علي المبهم صيرته مستقبلا ، والمستقبل لا يكون حالا. ولا يصح أن يكون حالا مقدره كقولهم في: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا؛ لأنه إنما يكون ذلك في الحال التي يجعل مكانها فعل آخر يكون ذلك الفعل حالا ، وأما في أن والمضارع فلا يمكن تقديره بعد أن إلا ويكون مستقبلا ، فلا يجوز أن يكون حالا ، وهذا مذهب س.
وذهب ابن جني إلى انه أن تكون أن وما بعدها في موضع الحال ، فقال في قول الشاعر:
وقالوا لها: لا تنكحيه؛ فانه
…
لأول سهم أن يلاقي مجمعا
ما نصه.
وقوله إلا في نحو أنت الرجل علما هذا الاستثناء هو من قوله «في هذا ونحوه علي السماع» يعني: إلا فيما ذكر من الأنواع الثلاثة ، فانه لا يقتصر علي السماع ، بل ينقاس ، فذكر أولا أنت الرجل علما ، فيجوز أن تقول: أنت الرجل
علما وأدبا ونبلا ، والمعني: أنت الرجل الكامل في حال علم ، وحال أدب ، وحال نبل ، وهذا معني قول الخليل:«أنت الرجل في هذه الحال» .
وذهب ثعلب إلى أن المصدر المنتصب في مثل هذا هو مصدر مؤكد لا حال ، ويتأول الرجل باسم فاعل مما جاء بعده ، فإذا قال أنت الرجل علما فهو بمنزلة: أنت / العالم علما ، والمتأدب أدبا ، والنبيل نبلا.
ويحتمل عندي أن يكون منصوبا علي التمييز ، كأنه قال: أنت الكامل أدبا؛ لأن الرجل يطلق ويراد به الكامل أدبه ، ثم حول الكمال إلى ضمير المبتدأ الذي تحمله الرجل ، وانتصب أدبا ونبلا وعلما علي التمييز. ولإجراء الرجل مجري الوصف بمعني الكامل أجازوا: أرجل عبد الله؟ علي أن يكون رجل مبتدأ ، وعبد الله فاعل به لإجرائه مجري كامل ، واغني عن الخبر؛ إذ لم يرد أن يستفهم عن عبد الله أهو رجل أم امرأة.
وقوله وهو زهير شعرا هذا هو الثاني من أقسام المصدر الذي ينقاس وقوعه حالا ، تقول: زيد حاتم جودا ، والأحنف حلما ، ويوسف حسنا ، وما أشبه هذا التركيب ، أي: مثل زهير في حال شعر ، وكذلك باقيها. ومن هذا القبيل قول الشاعر:
تخبرنا بأنك أخوذي
…
وأنت البلسكاء بنا لصوقا
أي: مثل البلسكاء في حال لصوق.
ويحتمل ان يكون هذا كله منصوبا علي التمييز؛ لأنه علي تقدير «مثل» محذوفة لفظا ، مراده معني ضرورة ذلك أن ذات زيد ليست ذات زهير ، والتمييز يأتي بعد مثل ، نحو قولهم: علي التمرة مثلها زبدا ، وفان الهوى يكفيكه مثله ، صبرا
وتخرج نصب هذه علي التمييز اظهر من نصبه علي الحال ، وقد نصوا علي انه تمييز في قولك: زيد القمر حسنا ، وثوبك السلق خضرة.
وقوله وأما علما فعالم هذا هو الثالث من أقسام المصدر الذي ينقاس وقوعه حالا ، والأصل في هذا أن رجلا وصف عنده شخص بعلم وغيره ، فقال الرجل للواصف: أما علما فعالم ، يريد: مهما يذكر إنسان في حال علم فالذي وصفت عالم كأنه منكر ما وصفه به من غير العلم.
فالناصب لهذه الحال هو فعل الشرط المحذوف، وصاحب الحال هو المرفوع بفعل الشرط.
وقال المصنف في الشرح: «ويجوز أن يكون ناصبه ما بعد الفاء ، وصاحبه ما فيه من ضمير والحال علي هذا مؤكد ، والتقدير: مهما يكن من شيء فالمذكور
عالم في حال علم ، فلو كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله تعين نصب ما ولي أما بفعل الشرط المقدر ، نحو قولك: أما علما فلا علم له ، وأما علما فان له علما ، وأما علما فهو ذو علم» انتهي.
وقال س: «وينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور قولك: أما سمنا فسمين ، أما علما فعالم ، وأما نبلا فنبيل»
ثم قال: «وعمل فيه ما قبله وما بعده ، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام ، ومن ذلك: أما علما فلا علم له، وأما علما فلا علم عنده ، وأما علما فلا علم ، تضمر: له» انتهي. ومعني قوله «وعمل فيه ما قبله وما بعده» يعني أنك يجوز أن تقدر الناصب لقولك علما فعل الشرط المقدر قبله وويجوز أن يكون الناصب ما بعد الفاء ، وهو فعا لم. ثم أتي بالصور التي يتعين أن يكون الناصب / ما قبله ، وهو أما علما فلا علم له، ونحوه مما لا يمكن أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. وقول س «ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام» لأن انتصابه علي الحال ، فلا يحسن فيه دخول أل ، والمعني أنه لا يجوز ذلك.
وقوله وترفع تميم المصدر التالي أما التنكير جوازا مرجوحا فيقولون: أما علم فعا لم ، قال س:«وقد يرفع في لغة بني تميم ، والنصب في لغتها أحسن» وتخصيصه الرفع بلغة تميم دليل علي أن غيرها من العرب ينصب المنكر ، وليس فيه نص علي أن النصب لغة أهل الحجاز بعينهم ، ونص عليه المصنف في الشرح ، فقال:«ويلزمون - أي: أهل الحجاز - نصب المنكر» .
وقوله وفي التعريف وجوبا فيقولون: أما العلم فعا لم ، قال س:«فان أدخلت الألف واللم رفعوا» ، يعني بني تميم ، وعبارة س اخلص من عبارة المصنف لأنه قال «وفي التعريف» وهذا أعم من أن يكون التعريف بالألف واللام أو بغيرها ، والمنقول إنما هو المعرف بالألف واللم.
وقوله وللحجازيين في المعرف رفع ونصب ظاهره أنهما مستويان في الجواز ، والذي يدل عليه كلام س أن الرفع هو الأكثر لأنه بدأ به ، وتكلم في جمل من مسائله ، ثم قال:«وقد ينصب أهل الحجاز في هذا الباب بالألف واللام ، وذلك قولهم: أما النبيل فنبيل ، وأما العقل فهو الرجل الكامل العقل والرأي ، أي: هو للعقل والرأي وكأنه أجاب من قال: لمه؟ وأما بنو تميم فيرفعون ، فيقولون: أما العلم فعا لم ، كأنه قال: فأنا أو فهو عالم به» انتهي ملخصا بلفظ س. وإنما كان الرفع أكثر في لغة الحجاز والنصب أقل لأنه لما كان معرفا بال قويت فيه جهة ان يكون مسندا إليه ، فكان جعله عمده أحسن من جعله فضلة.
وقوله وهو في النصب مفعول له عند س أي: المعرف بأل في النصب مفعول من أجله عند س؛ ألا تري ان س قال: «كأنه أجاب من قال: لمه» ؟ وهذا يتقدر المفعول من أجله ، وذلك أنه لما انتصب وهو معرفة بأل لم يمكن أن يكون نصبه علي الحال لتعريفه ، ولم يمكن أن يكون نصبه علي المصدر المؤكد لتعريفه أيضا؛ لان المصدر ألتوكيدي لا يكون نصبه معرفا؛ لأنه لا يدل إلا علي ما دل عليه الفعل ، والفعل ايدل إلا علي مطلق الحدث ، فكذلك توكيده ، والمعرف يدل علي خصوصية الفعل ، فلا يمكن أن ينتصب على أنه مؤكد لذلك.
وقوله وهو والمنكر مفعول مطلق عند الاخفش قال المصنف في الشرح: «الاخفش يجعل المنصوب مصدرا مؤكدا في التنكير والتعريف ، ويجعل العامل فيه ما بعد الفاء ان لم يقترن بما لا يعمل ما بعده فيما قبله ، فتقدير أما علما فعا لم في مذهبه: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم علما ، فلزم تقديمه كما لزم تقديم المفعول في (فأما إلىتيم فلا تقهر) ، والأصل: مهما يكن من شيء / فاليتيم لا تقهر ، أو: فلا تقهر اليتيم ، وقد قال س في أما الضرب فضارب مثل قول الاخفش في أما علما فعا لم» انتهي.
وأجاز بعضهم انتصاب المصدر نكرة ومعرفه علي انه مفعول به بفعل الشرط المقدر ، فيقدر متعديا علي حسب المعني ، فكأنه قال: مهما تذكر علما أو العلم فالذي وصف عالم ، وهذا مذهب الكوفيين ، ويجيزون: أما العبيد فلا عبيد لك ، وان أردت عبيدا بأعيانهم. لأنهم يحملون هذا الباب كله علي تقدير فعل ، كأنه قال: مهما تذكر العبيد ، وهو عندهم فعل لا يظهر مع أما ، كما لا يظهر الفعل في قول العرب: أما أنت منطلقا انطلقت معك ، وحكوا: ما البصرة فلا بصرة لك ، وأما أباك فلا أب لك. قال بعض أصحابنا:«وإذا صح ما حكوا فالقول قولهم ، ولم يسمعه س ، فجري عل الصنعة» انتهي.
واختار هذا المذهب المصنف في الشرح ، وصوبه وقال: «لأنه لا يخرج فيه شيء عن أصله؛ لان الحكم بالحالية فيه إخراج المصدر عن أصله ووضعه موضع
اسم فاعل». قال: «ولأنه لا يمنع من اطرده مانع ، والقول بالحالية فيه عدم الاطراد لجواز تعريفه. وبخلاف الحكم بأنه الحكم بأنه مصدر مؤكد فانه يمتنع إذا كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله. وأما الحكم بأنه مفعول به فلا يعرض ما يمنع منه في لفظ ولا معني ، فكان أولي من غيره ، وقد ذهب أل ذلك السيرافي في قول ابن ميادة
ألا ليت شعري هل إلى ام مالك
…
سبيل ، فأما الصبر عنها فلا صبرا
في رواية النصب فقدره: مهم ترم الصبر عنها فلا صبر».
قال المصنف: «ويؤيد هذا التقدير في المصدر مجيئه فيما ليس مصدرا ، نحو: أما قريشا فانا أفضلها
رواه الفراء عن الكسائي عن العرب ، وتقديره: مهما تذكر قريشا أو تصف قريشا فانا أفضلها. ومنه ما روي يونس عن القوم من العرب أنهم يقولون: أما العبيد فهو ذو عبيد ، ومهما تذكر العبد فهو ذو عبد» انتهي ما اختاره المصنف وما رجح به.
وما ذهب إليه الأخفش من انتصاب النكرة والمعرفة نصب المصدر المؤكد ، وما ذهب إليه بعضهم - واختاره المصنف من نصبه علي انه مفعول به - فاسدام علي ما نذكره ان شاء الله ، ويتضح ان الصواب مذهب س رحمه الله ، فنقول: الدليل علي فساد قول الاخفش من وجهين:
احدهما ك أن المصدر المؤكد لا يكون معرفا بالألف واللام؛ لان الألف واللام يخرجانه من الإبهام إلى التخصيص ، ودعوي زيادة أل علي خلاف الأصل.
والثاني: انه لا يصح أن يكون مصدرا مؤكدا إذا كان ما بعد الفاء لا يمكن ان يعمل فيما قبلها ، نحو: أما علما فلا / علم له.
والدليل علي فساد المذهب الأخر الذي اختاره المصنف انه لو كان علي إضمار الفعل لمتعدي الناصب له لم يكن ذلك مختصا بالمصدر؛ أما علما فعا لم ، أو بالصفات نحو: أما صديقا فصديق ، علي ما سيأتي ، وكان ذلك جائزا في كل الأسماء. وقد ينص س علي أن قولك: أما الحارث فلا حارث لك ، وأما البصرة فلا بصرة لك ، وأما أبوك فلا أب لك ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وذكر انه لا سبيل إلى النصب ولو كان علي ما اختاره المصنف لجاز النصب ، فكنت تقول: أما البصرة فلا بصرة لك ، أي: مهما تذكر البصرة فلا بصرة لك ، فلما التزموا فيه الأوصاف والمصادر دل علي أن نصبه ليس نصب المفعول به.
ولو كان أيضا علي ما زعموا من نصبه نصب المفعول به ما اختلفت فيه لغات العرب بالنسبة للتنكير والتعريف؛ وقد قال س: «هذا باب يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات ، وذلك قولك: أما العبيد فذو عبيد ، وأما العبد فذو عبد ، وأما عبدان فذو عبدين.
وإنما اختير الرفع ما ذكرت لان ما ذكرت في هذا الباب أسماء ، والأسماء لا تجري مجري المصادر؛ إلا تري انك تقول: هذا الرجل علما وفقهاء ، ولا تقول: هو الرجل خيلا وابلا ، فلما قبح ذلك جعلوا ما بعده خبرا له ، كأنهم قالوا أما العبيد فأنت فيهم ، أو أنت منهم ذو عبيد ، أي: لك من العبيد نصيب».
وقال س: «ولو قال: أما العبيد فأنت ذو عبيد ، يريد عبيدا بأعيانهم قد عرفهم المخاطب كمعرفتك ، كأنك قلت: أما العبيد الذين تعرف - لم يكن إلا رفعا» انتهي ما نقل من كلام س في هذه المسالة.
ودل كلام س علي أن نصب «أما العبيد» إذا لم يرد بهم عبيد بأعيانهم خبيث قليل حيث اجري الاسم مجري المصدر ، وفرق س بين المصدر والاسم ، ولو كان النصب علي المفعول به لجاز كما قلناه في كل اسم ، سواء أكان مصدرا أم غيره.
وأما ما حكي المصنف من قولهم «أما قريشا فانا أفضلنا» فالنصب قد منعه س ، وان صحت حكاية الكسائي ذلك عمن يحتج بكلامهم من العرب فهو قليل
جدًا، ويخرج علي إضمار المصدر وإبقاء معمولة ، والتقدير: أما ذكرك قريشا فانا أفضلها ، حذف المصدر ، وابقي معمولة ، كما حذفه الآخر في قوله:
هل تذكرون إلى الديرين هجرتكم
…
ومسحكم صلبكم ، رحمان قربانا
التقدير: وقولكم يا رحمان تقربنا إليك قربانا ، ولا يقاس علي حذف المصدر وإبقاء معمولة.
وأما قولهم «أما صديقا فصديق» فانتصابه عند س علي الحال ، والحال فيها اظهر من الحال في المصدر؛ إذ هي صفة علي كل حال ، وانتصابه أما بفعل الشرط المحذوف أو بالصفة التي بعد الفاء ووتكون إذ ذاك حالا مؤكده ز فلو قلت «أما صديقا فليس بصديق» فالنصب علي التقديرين.
ومنع المبرد الوجه الثاني لاقتران الصفة العاملة بباء الجر. والباء الزائدة لا تمنع ، تقول: ليس زيد عمرا بضارب ، تريد: بضارب عمرا. ويمكن أن يكون تعليل منعه بان الصفة الواقعة خبرا ل «ليس» لا يجوز تقديمهما علي مذهبه علي ليس وإذا لم يجر تقديمها علي ليس لم يجر تقديم معمولها عليها.
وذهب الأخفش إلى أن انتصاب صديقا ب «أن يكون» مضمرة ، فليس انتصابه علي الحل ، والتقدير: أما أن يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق.
ورده المبرد ، ولم يذكر له حجة.
قال المصنف في الشرح: «والحجة أنا إذا قدرنا (أن يكزن) لزم كون أن وصلتها في موضع نصب علي المذهب المختار ، وينبغي أن يقدر قلبه (أن يكون) آخر ، ويؤدي ذلك إلى التسلسل ، والتسلسل محال» انتهي.
ولا يلزم ما قال من كون أن وصلتها في موضع نصب علي المذهب المختار كما قال؛ بل تكون في موضع رفع علي الابتداء ، والتقدير: أما كون إنسان صديق ، ولو فرضنا أن (أن يكون) في موضع نصب لم يلزم أن يكون منصوبا ب «أن يكون» مضمرة؛ لأنه إذ ذاك يكون العامل فيه النصب الوصف الذي بعد الفاء ، ويكون «أن يكون» مفعولا له ، والتقدير: أما لان يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق ، وكأنه قال: أما لكينونة الصداقة فالمذكور صديق ، كما قال س في أما العلم فعا لم ، أي: أما للعلم فعا لم.
وإنما يرد مذهب الاخفش بان فيه إضمار المصدر وإبقاء معمولة ، وقد ذكرنا أن ذلك من القلة والندور بحيث لا يقاس عليه.
وقد خرج س حين صرح ب «أن يكون» بعد «أما» علي انه مفعول له ، سبك من أن يكون مصدرا ، وهو مفعول له ، قال س: «وأما قول الناس للرجل أما أن
يكون عالما فهو عالم ، وأما أن يعلم شيئا فهو عالم - فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر؛ لان «أن» مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر ، كأنك قلت: أما علما وأما كينونة علم فأنت عالم». ومنع س أن تقع أن والفعل حالا ز ثم قال في آخر الباب: «فمن ثم تجريت مجري المصدر الأول الذي هو جواب لمه» ؟
وتقدم من قولهم: أما العبيد فذو عبيد ، فالعبيد: مبتدأ وذو: خبر مبتدأ تقدره علي حسب ما جري الكلام فيه من غيبة أو خطاب أو تكلم ، أي: فهو أو فأنت أو فانا ، والجملة في موضع خبر المبتدأ ، ولا بد فيها من رابط ، فلا يجوز ان يكون التكرار؛ لأنه يلزم أن يكون بال ، فكان التركيب: أما العبيد فذو العبيد. وقال س: «التقدير فأنت / منهم أو فيهم ذو عبيد» . ولا يظهر هذا التقدير؛ لأنه لا يوافق المعني المقصود من الكلام؛ إذ المعني: فأنت تملكهم ، وملكهم ثابت لك ، وقول س «فأنت منهم أو فيهم» معناه انه من صنف العبيد ، وله عبيد ، وهذا لم يقصد قط ، لكن يتخرج ما قدره س علي أن يكون العامل في «فيهم ومنهم» ما في «ذو» من معني الملك ، كأنك قلت: أما العبيد فأنت مالك فيهم أو منهم وذو عبيد: بمعني مالك عبيد.
و (أما)«أما العبيد فذو عبيد» - بنصب العبيد - فذهب الزجاج إلى انه علي حذف مضاف ، كأنك قلت: أما ملك العبيد فذو عبيد ، ويكون مفعولا من اجله ، ويعمل فيه مضمر يفسره ذو عبيد ، كأنك قلت: مهما تصف ملك العبيد فهو ذو عبيد. أو تعمل فيه أما علي مذهب من رأى ذلك.
وذهب السيرافي إلى انه من وضع الاسم موضع المصدر ، كما تقول: عجبت من دهنك لحيتك ، أي من دهن ، كأنه قال: أما التعبيد فهو ذو عبيد ، وقد نطقوا بهذا المصدر ، قال:
يرضون بالتعبيد والتأمي
وهذا هو ظاهر قول س؛ لأنه قال: «يجرونه مجري المصدر» . وقال في قولهم أما العلم والعبيد: «حملوه علي المصدر» ، أي: عطفوه عليه. ونظره ب «ويل له وتب» من حيث كان التب بابه النصب ، فرفعوه حملا علي الويل ، وهنا كان العبيد بابه الرفع ، فنصب حملا علي العلم ، شبهوه بالمصدر فنصبوه.
-[ص: فصل
لا يكون صاحب الحال في الغالب نكرة ما لم يختص، أو يسبقه نفي أو شبهه، أو يتقدم الحال، أو يكن جملة مقرونة بالواو، أو يكن الوصف به علي خلاف الأصل، أو تشاركه فيه معرفة.]-
ش: لما كانت الحال خبرا في المعني، وذو الحال مخبرا عنه، وكان يجوز الابتداء بالنكرة بشرط الفائدة - جاز أن يكون ذو الحال نكرة بشرط وضوح المعني وأمن اللبس.
وقوله في الغالب احتراز من قولهم: عليه مئة بيضا، وفيها رجل قائما، فإن ذا الحال نكرة، وليس فيه شرط مما ذكر المصنف. ولا يشعر قوله «في الغالب» بأن ما ليس غالبا هل يجوز ذلك فيه قياسا مطردا أو يقتصر فيه علي السماع.
وزعم بعض أصحابنا أنه إذا لم يقبح أن يكون وصفا للنكرة فالانتصاب علي الحال ضعيف جدا، نحو قول الشاعر:
وما حل سعي غريبا ببلدة
…
فينسب، إلا الزبر قان له أب
انتهي.
وليس كما زعم، بل قد ذكر س الحال من النكرة كثيرا قياسيا، وإن لم يكن بمنزلة الإتباع في القوة، والقياس قول يونس والخليل، وقد جاء من ذلك ألفاظ عن
العرب، منها: به داء مخالطه، ومرت بماء قعدة رجل، أي: ممسوحا بذلك، ووقع أمر فجاءة، وعليه مئة بيضا، وفي الحديث:(جاء رسول الله علي فرس سابقا).
وقيل: لا يجوز في غير الموصوف إلا سماعا ما لم تتقدم عليه، وأنشد الفارسي:
جنونا بها فيما اعتشرنا علالة
…
علالة حب مستسرا وباديا
/جعله حالا من حب، وهو نكرة 0
وقوله ما لم يختص الاختصاص يكون بالنعت نحو: مررت برجل تميمي راكبا، وحكي س: هذا غلام لك ذاهبا.
وقال بعض أصحابنا: إن ذلك لا يجوز إلا أن تكون النكرة موصوفة بوصفين. ويرد عليه ما حكاه س، وقوله تعالي {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5]
، وقول الشاعر:
نجيت- يا رب - نوحا، واستجبت له
…
في فلك ماخر في اليم مشحونا
وعاش يدعو بآيات بينة
…
في قومه ألف عام غير خمسينا
ويكون الاختصاص بالإضافة كقوله {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10]، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} في قراءة من ضم القاف والباء.
ويكون الاختصاص بالعمل نحو: مررت بضارب هندا قائما.
والجه في هذه المسائل الإتباع لا الحال.
وقوله أو يسبقه أو شبهه مثال النفي {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر:4]، حسن تقدم النفي هنا مجيء الحال من النكرة كما حسن الابتداء بها في نحو: ما قرية إلا لها كتاب معلوم. ومن ذلك: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخالك، وقد تقدم الكلام علي هذا المثال في الاستثناء، والكلام مع الزمخشري فيه في قوله {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} ، وقال الشاعر:
ما حم من موت مي واقيا
…
ولا يري من أحد باقيا
وقال الآخر:
وما حل سعدي غريبا ببلدة
…
....................................
قال في البديع: «النكرة المنفية تستوعب جميع أنواعها، فتنزلت منزلة المعرفة» .
وشبه النفي هو النهي والاستفهام، نحو قول قطري:
لا يركن أحد إلي الإحجام
…
يوم الوعي متخوفا لحمام
ونحو قول الآخر:
يا صاح، هل حم عيش باقيا، فتري
…
لنفسك العذر في إبعادها الأملا
وقوله أو يتقدم الحال يعني: أو يتقدم الحال علي ذي الحال النكرة، ومثال ذلك: هذا قائما رجل، قال س «لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم، وقبح أن تقول: فيها قائم رجل، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح: مررت بقائم، وأتاني قائم - جعلت القائم حالا، وكان المبني علي الكلام الأول ما بعده» . ثم قال: «وحمل هذا علي جواز: فيها رجل قائما، وصار حين أخر وجه الكلام فرارا من القبح» ، وأنشد س لذي الذمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلة
…
ظباء، أعارتها العيون الجاذر
وأنشده لغيره: /
وبالجسم مني بينا لو علمته
…
شحوب، وإن تستشهدي العين تشهد
وأنشد غير س:
وما لام نفسي مثلها لي لائم
…
ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي
وقال الآخر:
فهلا أعدوني لمثلي- تفاقدوا -
…
وفي الأرض مبثوثا شجاع وعقرب
ويظهر من كلام س أن صاحب الحال في نحو «فيها رجل قائما» هو المبتدأ.
وذهب قوم إلي أن صاحبه الضمير المستكن في الخبر. قال المصنف في الشرح:
«وقول س هو الصحيح؛ لأن الحال خبر في المعني، فجعله لأظهر الاسمين أولي من جعله لأغمضهما» انتهي. وهذا الذي ذكره يستقيم لو تساويا، وأما إذا كان أحدهما معرفة والآخر نكرة فجعله حلا للمعرفة أولي.
وزعم ابن خروف أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا لا ضمير فيه عند س والفراء إذا تأخر، وأما إذا تقدم فلا ضمير فيه. واستدل علي ذلك بأنه لو كان فيه ضمير إذا تقدم لجاز أن يؤكد، وأن يعطف عليه،
…
وأن يبدل منه، كما فعل ذلك مع المتأخر.
ومع ذلك فنصب الحال المتقدمة من النكرة لا يكون إلا في قليل من الكلام؛ قال سس: «ومع ذلك أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام» ، وإن كان قد أطلق القول في جواز وقوع الحال من النكرة، ولم يجعله في الشعر أكثر منه في الكلام.
ويجوز أ، تقول «هذا قائم رجل» علي طريق البدل. وحكي الفراء: هذه خراسانية وخراسانية جارية، بنصب خراسانية علي الحال المتقدمة، وبالرفع علي طريق البيان.
وقوله أو يكن جملة مقرونة بالواو مثاله {أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية علي عروشها} ، وقال
مضي زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلي ليلي الغداو شفيع
أو يكن الوصف به علي خلاف الأصل مثاله: هذا خاتم حديدا، وعندي راقود خلا، هكذا مثل المصنف، وقال: «ظاهر كلام س أن المنصوب في هذين المثالين وأشباههما منصوب علي الحل، وأن الذي سوغ ذلك مع تنكير ما قبله التخلص من جعله نعتا مع كونه جامدا غير مؤول بمشتق، وقد تقدم أن ذلك
يغتفر في الحال؛ لأنه بالأخبار أشبه منه بالنعوت. والمشهور في كلام غير س نصب ما بعد خاتم وراقود وشبههما علي التمييز. فلو كان ما قبله معرفة لم يكن إلا حالا، نحو: هذا خاتمك حديدا، وهذه حبتك خزا» انتهي.
ومن مجيء الحال بعد ما يقبح الوصف به قولهم: مررت ببر قفيزا بدرهم، ومررت بماء قعدة رجل.
وقوله أو تشاركه فيه معرفه نحو: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين، وهذا /رجل وعبد الله منطلقين.
-[ص: يجوز تقديم الحال علي صاحبه وتأخيره إن لم يعرض مانع من التقديم، كالإضافة إلي صاحبه، أو من التأخير، كاقترانه ب «إلا» علي رأي، وكإضافته إلي ضمير ما لابس الحال. وتقديمه علي صاحبه المجرور بحرف ضعيف علي الأصح لا ممتنع.]-
ش: لما كانت الحال خبرا في المعني تنزلت من صاحبها منزلة الخبر من المبتدأ، فالأصل فيها التأخير عن صاحبها، كما أن ذلك هو الأصل في خبر المبتدأ.
ثم قد يعرض تأخيرها عنه وجوبا، وجوازا:
فمن الوجوب إضافة العامل إلي صاحبها، نحو: عرفت قيام هند مسرعة، فلا يجوز تقديم مسرعة علي هند لما يلزم في ذلك من الفصل بين المضاف والمضاف إليه.
ومن ذلك قولهم: ما أحسن هندا متجردة، فيجب تأخير هذه الحال عن صاحبها، فلا يجوز: ما أحسن متجردة هندا، وفيه خلاف سيأتي في باب التعجب.
ومما عرض فيه مانع من التأخير عند قوم فخرج عن الأصل اقتران ذي الحال بإلا، مثاله: ما قام مسرعا إلا زيد، أنشد الأخفش:
وليس محيرا إن أتي الحي خائف
…
ولا قائلا إلا هو المتعيبا
ثم قال: فإن هذا ليس بحسن، وهو كلام يجوز في الشعر. وهو مثل: ما أكل إلا زيد الخبز، وما ضرب إلا عمرو زيدا، لا تريد به: ما أكل الخبر إلا زيد، وما ضرب زيدا إلا عمرو، ولكنك تضمر الفعل بعد المستثني علي قبحه، وإنما قبح لأن المخاطب إذا سمع «ما شرب إلا عمرو» ووضعه علي فعل لم يتعد إلي مفعول، فإذا ما هو؛ لأن «ما هو» في موضع المفعول.
ولو جئت بعده. بما لا يغير العمل لجاز، نحو: ما ضربني إلا أبوك منهم؛ لأن «منهم» شيء زدت به المخاطب علما، ولم تفسد شيئا من العمل الذي مضي في أصل كلامك.
وكذا لو جئت بالحال أو الظرف لجاز؛ لأن الظرف والحال يعمل فيهما الفعل المتعدي وغير المتعدي، وذلك أنك لو قلت: ما جلس إلا زيد عندك، وما جاء إلا زيد راكبا، وما جاء أمه الله راكبة -جاز، وليس شيء من هذا كان متقدماً.
وأما ما جاء راكبا إلا زيد فلا يجوز تأخيره؛ لأن هذه الحال تلتبس بالحال التي ليست مؤخرة؛ لأنك إذا قلت ما جاء راكبا إلا عبد الله فأنت تنفي عن الحال الركوب كل شيء إلا مجيء عبد الله، وإذا قلت ما جاء إلا عبد الله راكبا فلم تنف عن الركوب شيئا. هذا نص أبي الحسن في «المسائل» .
قال أبو الحسن: «ولو قلت «ما جاءني أحد راكبة إلا أمة الله» كان محالا، وليس مثل ما جاء راكبا إلا زيد؛ لأن المجيء هنا لزيد، ولم تجعله بدلا من شيء قبله، وفي ما جاءني أحد راكبة إلا أمة الله قد جعلته بدلا من أحد، ووقع الحال الذي هو ل «أمة الله» في موضع قد يكون فيه حال «أحد» فكره اللبس» انتهي.
فإن وجد نحو ما قام إلا زيد مسرعا أضمر ناصب الحال بعد صاحبها، كقوله الراجز: /
/ ما راعني إلا جناح هابطا
…
حول البيوت قوطه العلابطا
التقدير: ما راعني إلا جناح راعني هابطا، وجناح: اسم رجل.
وقوله وكإضافته إلي ضمير ما لابس الحال ما لابس الحال يشمل الملابسة بإضافة وبغيرها، مثاله: جاء زائر هند أخوها، وجاء منقادا لعمرو صاحبه.
وقوله وتقديمه علي صاحبه المجرور بحرف ضعيف علي الأصح لا ممتنع أطلق المصنف في حرف الجر، وينبغي أن يقيد بأن يكون غير زائد، إذا كان زائدا جاز تقديم الحال عليه كما جاز ذلك في المفعول، ما جاء من أحد عاقلا، وكفي بزيد معينا، إذا أعربت معينا حلا فيجوز التقديم، فتقول: ما جاء عاقلا من أحد، وكفي معينا بزيد.
وقد اعترض المصنف هذه العلل، فقال في الأولي:«لا نسلم ذلك الحق حتي يترتب عليه التزام التأخير تعويضا، بل حق الحال لشبه الظرف أن يستغني عن واسطة، علي أ، الحال أشد استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدي بحرف جر، كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتمني» .
وقال في الثانية: «المجرور بحرف كالأصل للمحور بالإضافة، فلا يصح أن تحمل حال المجرور بحرف عليه؛ لئلا يكون الأصل تابعا والفرع متبوعا. وأيضا فالمضاف بمنزلة موصولة، والمضاف إليه بمنزلة صلة، والحال منه بمنزلة جزء صلة،
فوجب تأخيره كما يجب تأخير أجزاء الصلة، وحال المجرور بحرف لا يشبه جزء صلة، فأجيزة تقديمه إذ لا محذور في ذلك».
وقال في الثالثة: «بين البابين بون بعيد، فإن جالسة من «مررت بهند جالسة) منصوب بمررت، وهو فعل متصرف لا يفتقر في منصب الحال إلي واسطة، كما لا يفتقر إليها في نصب ظرف أو مفعول له أو مفعول مطلق، وحرف الجر الذي عداه لا عمل له إلا الجر، ولا جئ به إلا لتغدية مررت، فالمجرور به بمنزلة منصوب، فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب، /ى ولكونه بمنزلة منصوب أجري في اختبار النصب نحو: أزيدا مررت به؟ مجري: أزيدا لقيته؟
وأما متكئا في المسألة {الثانية} فمنصوب ب «في» لتضمنها معني الاستقرار، وهي أيضا رافعة ضميرا عائدا علي زيد، وهو صاحب الحال، فلم يجز لنا أن نقدم متكئا علي في لأن العمل لها، وهي عامل ضعيف متضمن مني الفعل دون حروفه، فمانع التقدم في نحو (زيد في الدار متكئا) غير موجود في نحو: مررت بهند ضاحكة، وربما قدم الحال في نحو: زيد في الدار متكئا» انتهي ما ذكره المصنف في هذه العلل التي ذكرت أنها تمنع من تقديم الحال علي المجرور بالحرف غير الزائد.
وقال غيره معللا للمنه: الباء في نحو مررت بهند ضاحكة من حروف الصفات، وتتعلق بالحدث، فكان الحدث مطلقا، ثم تقيده الباء، فصار الحدث مخصوصا بهند لا مطلقا، وضاحكة من صفات هند وقيد لها، فقد اجتمه صفتان: إحداهما الباء المفيدة للمرور، والأخري الحال المقيدة لهند، وإذا اجتمع صفتان لموصوفين لم يجز إلا أن تلي صفة أحدهما موصوفها، أو تلي صفة الموصوف الثاني صاحبها، وتلي صفة الأول صفة الثاني، تقول: مررت برجل علي فرس، فإذا
وصفتهما جاز أن تلي كل صفة موصوفها، فتقول: مررت برجل عاقل علي فرس أشهب، ومررت برجل علي فرس أشهب عاقل، ولا يجوز أن تلي صفة الأول الموصوف الثاني وتلي صفة الثاني صفة الأول، فلا يجوز: مررت برجل على فرس عاقل أشهب؛ لما يلزم في ذلك من إيلاء الصفة موصوفا غير موصوفها، فلو قلت «مررت ضاحكة بهند» كنت قد أوليت ضاحكة الذي هو من صفات هند المرور الذي هو غير موصوفها، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: الحال مشبهة بالظرف، والظرف يجوز فيه ذلك، فتقول: مررت بهند اليوم، ومررت اليوم بهند، فينبغي أن يجوز ذلك في الحال.
فالجواب: أن الظرف مقدر ب «في» ، وهو متعلق بالمرور، وليس بصفة لغيره، والحال هي هند، والشبه الذي بينهما إنما هو في المعني لا في اللفظ، والمشبه بالشيء لا يكون كالمشبه به.
قالوا: وحجة من أجاز ذلك من جهة القياس هي أن العامل هو الفعل من حيث المعنى، إلا أن حرف الجر موصل معناه إلى الاسم، فهو من حيث المعنى مفعول لذلك الفعل، فالعامل في الحال هو العامل في صاحبها، وإن كان لم يقو على نصبه، فاحتاج في التوصل إليه إلى الحرف.
قال المصنف في الشرح ما ملخصه: «أجزت ذلك للسماع، ولضعف دليل المنع، فالسماع {وما أرسلنك إلا كافة للناس} ف (كافة) حال من الناس.
وتأويل الزمخشري أن (كافة) صفة ل (إرسالة) حذفت، وقامت (كافة) مقامها، فيبطله نقل ابن برهان أن العرب لم تستعمل قط كافة إلا حالا. وتجويز الزمخشري ذلك شبيه بما أجازه في خطبه (المفصل) من إدخال باء الجر علي (كافة) والتعبير به عما لا يعقل، وشرط الصفة المستغني / بها عن الموصوف أن يعتاد ذكر موصوفها معها قبل الحذف، وألا تصلح الصفة لغيره، و (كافة) بخلاف ذلك.
وتأويل الزجاج أنه حال من الكاف، فلا يعرف كونه حالا من مفرد في غير محل النزاع، ولا ينبغي أيضا ذلك لتأنيثه، ولا يقال إن التاء للمبالغة؛ لأنها لا تلحق غاليا إلا ما كان من صفات المبالغة، نحو نسابة وفروقة ومهذراة، ولحاقها هذه شاذ، ولحاقها ل (رواية) أشذ، فحمل علي رواية حمل علي شاذ الشاذ، وقول الشاعر:
فإن تك أذواد، أصبن، ونسوة
…
فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال
وقول الآخر:
لئن كان برد هيمان صاديا
…
إلي حبيبا إنها لحبيب
وقول الآخر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشيا
…
فمطلبها كهلا عليه شديد
وقول الآخر:
تسليت طرا عنكم بعد بينكم
…
بذكراكم حتي كأنكم عندي
ففرغا حال، أي: فلن تذهبوا بدم حبال فرغا، وحبال رجل، وفمطلبها عليه كهلا شديد، وتسليت عنكم طرا.4 وربما قدم الحال علي صاحبه المجرور وعلي ما يتعلق به الجار، كقول الشاعر:
غافلا تعرض المنية للمر
…
ء، فيدعي، ولات حين إباء
ومثله:
مشغوفة بك قد شغفت، وإنما
…
ختم الفراق، فما إليك سبيل
أي، تعرض المنية للمرء غافلا، وشغفت بك مشغوفة».
وهذا الذي ذهب إليه المصنف من جواز تقديم الحال علي صاحبها المجرور بحرف شيء ذهب إليه من المتأخرين الفارسي وابن كيسان وابن برهان، ومن أمثلة أبي علي في «التذكرة»: زيد خير ما تكون خير منك، علي أ، المراد: زيد خير منك خير ما تكون، «خير ما تكون» حالا من الكاف المجرورة، وقدمها.
وهذه المسألة فيها فصيل، وذلك أن صاحب الحال إما أن يكون مضمرا أو مظهرا:
فإن كان مضمرا جاز تقديمها عليه، نحو: مررت ضاحكة بك، عند الكوفيين. وكذا إن كان لمضمرين أحدهما مجرور بحرف، نحو: مسرعين مررت بك، ومررت مسرعين بك.
وإن كان مظهرا فإنما أن تكون الحال غير اسم، أو اسما.
فإن كانت غير اسم، نحو «مررت بهند تضحك» جاز تقديم الحال علي المجرور، فتقول: مررت تضحك بهند، عند الكوفيين.
وإن /كانت اسما فلا يجوز التقديم، لا يجوز: مررت ضاحكة بهند، ودخلت هاجرة إلي سعدي. وذكر ابن الأنباري الاتفاق علي أن ذلك خطأ، وأن الإجماع منعقد على ذلك.
ولا يجوز عند البصريين تقدم حال المخفوض بحرف غير زائد، سواء أكان المخفوض ظاهرا أم مضمرا؛ لأن حرف الجر عامل غير متصرف.
وقد تؤول ما استدل به المصنف من السماع: أما {كافة الناس} فعلي أنه حال من الكاف، أو علي أنه صفة ل (إرسالة) محذوفة. وأما «فلن يذهبوا فرغا» فعلي تقديرا: ذهابا فرغا. وأما «هيمان صاديا» فمفعول ب «برد» وهو مصدر، والتقدير: لئن كان أن برد الماء هيمان صاديا حبيبا إلي، ويعني بهيمان صاديا نفسه. وأما «كهلا» فحال من فاعل المصدر المحذوف، ومجيء الحال من المحذوف لدليل المعني عليه جائز، كقوله {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} ، والتقدير: تدل عليها «عنكم» المثبتة، التقدير: تسليت عنكم طرا عنكم.
قال بعض أصحابنا: وعلي تقدير أن يبعد تأويل هذه الأبيات لا حجة فيها؛ لأن الشعر يجئ فيه ما لا يجوز في الكلام.
وفي الإفصاح: «لم يجز س: مررت قائما بزيد؛ لأن الباء لما عدت الفعل، ولم يستغن عنها، وكان لها حظ من العمل في الاسم - لم يتقدم الحال عليها، ولم يسمع تقديمه هنا من كلام العرب. وقد قال أبو بكر بن طاهر: إن مذهب س أن
الباء هي العاملة، فلذلك لم تقدم عليها الحال، وهذا الذي ذكر مذهب أبي العباس، نص عليه» انتهي.
ولم يتعرض المصنف في الأصل لتقديم الحال علي المجرور بالإضافة، وذكر ذلك في الشرح، فقال ما معناه «إن كانت الإضافة غير محضضة جاز تقديم الحال علي المضاف، نحو: هذا شارب السويق متلوثا الآن أو غدا؛ لأن الإضافة في نية الانفصال، فلا يعتد بها. وإن كانت محضة لم يجز تقديم الحال عليه بإجماع؛ لأن نسبة المضاف إليه من المضاف كنسبة الصلة من الموصول، فأما قوله:
نحن وطئنا خسأ دياركم
…
إذ أسلمت حماتكم ذماركم
ف (خسأ) ليس حالا من المخاطبين فيكون بمعني بعداء من قوله {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ،بل هو حال من ضمير المتكلم، جمع خاسئ بمعني زاجر، من خسأت الكلب. وأما قول الآخر:
ليست تجرح فرارا ظهورهم
…
وفي النحور كلوم ذات أبلاد
ف (فرارا) ليس حالا من الضمير في ظهورهم، وظهورهم مرفوع بتجرح، بل تجرح مسند إلي ضمير الجماعة الموصوفة، فرارا حال من ذلك الضمير، وظهورهم بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل»
وفي كلامه هذا تعقب في موضعين:
أحدهما: قوله «إن كانت الإضافة غير محضة جاز تقديم الحال /علي المضاف» ، وليس كل ما إضافته غير محضة يجوز تقديم الحال فيه علي المضاف، نحو: هذا مثل هند ضاحكة.
والثاني: قوله «وإن كانت الإضافة محضة لم يجز تقديم الحال علي المضاف بإجماع» ، وامتناع جواز التقديم في هذا فرع عن جواز مجيء الحال من المجرور بالإضافة إضافة محضة، وليس كل ما أضيف إضافة محضة تجوز الحال فيه من المجرور بالإضافة؛ ألا تري إلي امتناع نحو: ضرب غلام هند ضاحكة.
وإصلاح كلام المصنف أن يقال: تجوز الحال من المجرور بالإضافة إذا كانت الإضافة في تأويل الرفع والنصب، نحو: أعجبيني قيام زيد مسرعا، ويعجبني ركوب الفرس مسرجا، ومررت برجل راكب الفرس ضاحكا.
-[ص: ولا يمتنع تقديمه علي المرفوع والمنصوب، خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا، وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه غير عامل الحال إلي صاحبه إلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه.]-
ش: مثال تقدمه علي المرفوع: جاء مسرعا زيد، وقال الشاعر:
فسقي بلادك غير مفسدها
…
صوب الغمام وديمة تهمي
وقال الآخر:
ترحل من أرض العراق مرقش
…
علي طرب، تهوي سراعا رواحله
وقال الآخر:
فما كان بين الخير لو جاء سالما
…
أبو حجر إلا ليال قلائل
وقال:
يطير فضاضا بينهم كل قونس
…
ويتبعها منهم فراش الحواجب
وقال الآخر:
تبين أعجاز إذا انتقضت
…
وتقبل أشباها عليك صدورها
ومثال تقديمه علي المنصوب: لقيت راكبة هندا، وقال الشاعر:
وصلت، ولم أصرم مسيئين أسرتي
…
وأعتبتهم حتي يلاقوا ولائيا
وقال الحارث بن ظالم:
وقطع وصلها سيفي، وأني
…
فجعت بخالد طرا كلابا
وقال آخر:
لن يراني حتي يري صاحب لي
…
أجتني سخطه يشيب الغرابا
أراد: لن يراني صاحب لي أجتني سخطه حي يري الغراب يشيب. وقال آخر:
يرد حسري حدق العيون
وقوله خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا يعني بالإطلاق هنا سواء أكانت الحال اسما أم كانت فعلا، فلا يجوز عندهم: لقيت راكبة هندا، ولا: لقيت تركب هندا. وعلتهم في منع لقيت راكبة هندا وشبهه مما الحال فيه اسم توهم كون الاسم مفعولا، وما بعده بدل منه؛ لأن الاسم وقع موقع المفعول، فغلب الفعل عليه، وسبق إليه، فتناوله الفعل كما يتناول الطعام والماء في نحو: أكلت الطعام، وشربت الماء.
وما ذهبوا إليه من اعتبار اللبس لا يلتفت إليه؛ لأن الذي يتبادر إليه الذهن إنما هو النصب علي الحال، ولو كان مثل هذا التوهم ملفتا إليه لم يجز: رأيت هنا ضاحكة؛ لاحتمال أن تكون ضاحكة بدلا من هند، وليس كذلك؛ لأن هذا الاحتمال ضعيف من جهة إبدال المشتق من الجامد، وقد تقدم ذكر السماع في الاسم، نحو: مسيئين أسرتي، وفي الفعل، نحو: يشيب الغرابا.
وقوله وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه عن الحال يعني: وخلافا للكوفيين أيضا في هذه المسألة، ومثالها: مسرعا قام زيد.
وزعم بعض النحويين أن الكوفيين لا يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر إذا كان الفعل متقدما، نحو: قام مسرعا زيد، وإنما يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر
إذا كان الفعل متأخرا ، نحو: مسرعاً قام زيد] ، وسيأتي الكلام على تقديم الحال على العامل بعد هذا إن شاء الله.
وقوله واستثنى بعضهم من حل المنصوب ما كان فعلاً أي: استثنى بعض الكوفيين مسألة: رأيت تضحك هنداً ، يعنى: فأجازها؛ لأنه لا يتسلط رأيت على تضحك تسلط المفعول به ، فلا تتوهم فيه المفعولية ، وفي المنصوب بعده البدلية.
وقوله ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه قال لمصنف في الشرح:
(حق المجرور بالإضافة ألا يكون صاحب حال ، كما لا يكون صاحب خبر؛ لأنه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين. فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب حال ، نحو: عرفت قيام زيد مسرعاَ ، وهو راكب الفرس عرياً ومنه
وقول الشاعر:
تقول ابنتي: إن انطلاقك واحداً
…
إلى الروع يوماً تاركي لا أبا ليا
وقوله غلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه أي: إلا أن يكون المضاف جزء ما أضيف إليه - وهو ذو الحال - أو مثل جزئه ، قال المصنف: (نحو قوله {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا} ، وقوله {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}
وإنما حسن ذلك لأنه قد يستغنى به عن المضاف ، لو قيل في الكلام: نزعنا ما فيهم من غلّ إخواناً ، واتبع إبراهيم حنيفاَ - لحسن ، بخلاف ما ليس جزءاً ولا كجزء ، لو قلت ، ضربت غلام هند جالسة ، أو نحو ذلك - لم يجز بلا خلاف)
انتهى.
وقال أبو نصر أحمد بن أبى حاتم في قول طفيل:/
وأطنابه أرسان جرد ، كأنها
…
صدور القنا من بادئ ومعقب
(أراد: إن أطناب البيت أرسان الخيل ، وجرد: قصار الشعر ، وقوله كأنها صدور القنا في طولها ، وأراد: كأنها القنا ، ثم قال صدور القنا ، والعرب تفعل ذلك كقولك: جاء فلان على صدر راحلته ، وإنما تريد: على راحلته) انتهى.
وقال الشاعر:
كأن حواميه مدبراً
…
خضبن ، وإن كان لم يخضب
الحوامي: جمع حامية ، وهى ما عن يمين الحافر وشماله وقال الآخر:
كسيف الفرند ، أخلص القين صقله
…
تراوحه أيدي الرجال قياما
وقول المصنف (بلا خلاف) ليس كما ذكر ، بل ذهب بعض البصريين إلى إجازة الحال من المضاف إليه الصريح.
وقال في البديع: (فإ، لم يكن المضاف إليه فاعلاً ولا مفعول قلت في الحال منه ، كقولك: جاءني غلام هند ضاحكة ، ومنه قوله تعالى (أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) فـ (مصبحين) حال من (هؤلاء) وأنشد الفارسي:
عوذ وبهثة حاشدون ، عليهم
…
حلق الحديد مضاعفاً ، يلتهب
فـ (مضاعفاً) حال من الحديد) انتهى.
ولا يتعين ما قال في الآية ولا في البيت.
والذي نختاره أن المجرور بالإضافة إذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب لا يجوز ورود الحال منه ، وسواء أكان المضاف جزاه أو كجزئه أم لم يكن. وما استدل به المصنف لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون (إخواناً) منصوباً على المدح ، نحو قول الشاعر:
رهط ابن كوزٍ ، محقبي أدراهم
…
فيهم ، ورهط ربيعة بن حذار
ولاحتمال أن يكون (حنيفاً) حالاً من (مله) على معنى: دين إبراهيم ، أو حالاً من الضمير في (اتبع) ومع هذا الاحتمال لايكون في الاستدلال بذلك حجة على إثبات قاعدة كلية ، وهى أن المضاف إذا كان جزءاً من المضاف إليه أو كالجزء جاز أن تأتى الحال من المضاف إليه ، ومثل هذه القاعدة لا يثبت بمثال أو مثالين ، وهى تحتمل غير الحال احتمالا واضحا ، إنما يثبت هذا باستقراء جزيئات كثيرة حتى يحصل من ذلك الاستقراء قانون كلى يغلب على الظن أن الحكم منوط به.
وإنما لم تجز الحال م المجرور بالإضافة إذا كان ليس في موضع رفع ولا نصب ، نحو: مررت بغلام هند ضاحكة؛ لما تقرر من أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، و (هند) الجار لها إماً معنى الإضافة ، وهو نسبة الغلام إليها نسبة تقييدية ، وغما اللام التي كانت قبل حصول الإضافة ، وأيما قدرته منهما لا يصلح أن يكون عاملاً في الحال؛ لأنه يقيد هذه النسبة التي هي تقييدية بضحك هند ، والنسبة ثابتة كانت هند ضاحكة أو لم تكن ، فلذلك امتنع مجيء الحال من المضاف إليه الصريح الذي ليس في موضع فاعل ولا مفعول
-[ص: يجوز تقديم الحال / على عاملها إن كان فعلاً متصرفاً أو صفة تشبهه ولم يكن نعتاً ، ولا صلة لأل أو حرف مصدري ، ولا مصدراً مقدراً بحرف مصدري ، ولا مقروناً بلام الابتداء أو القسم.]-
ش: لما فرغ من تقديم الحال على صاحبها وجوباً ومنعاً وجوازاً أخذ يتكلم في تقديم الحال على عاملها: وجوباً ، ومنعاً وجوازاً:
فمن الجائز أن يكون العامل فيها فعلاً متصرفاً ، نحو: جاء ، وذهب ، فيجوز: مسرعاً جاء زيد ، وضاحكة خرجت هندً؛ لان العامل فيها - وهو الفعل - قوى لتصرفه ، فكما يجوز تقديم المفعول به عليه فكذلك يجوز تقديم الحال ، وهو في الحال أجوز لشبهها بالظرف ، والظرف يتسع في غيره ، هذا مذهب البصريين إلا الجرمي فإنه لا يجيز تقديم الحال على العامل ، شبهها بالتمييز في ذلك.
والقياس والسماع يردان عليه:
أما القياس فما ذكرناه من شبهها بالمفعول فيه ، وهو الظرف ، والفرق بين التمييز والحال واضح؛ لأن الحال يقتضيها الفعل بوجه ما ، فقدمت كما تقدم سائر الفضلات ، وعلى أن في تقديم التمييز على العامل فيه إذا كان فعلاً أو ما جرى مجراه وسلم أن العامل فيه ذلك في تقديمه عليه خلاف ، وسيأتي أن جواز تقديمه إذ ذاك هو الصحيح.
وأما السماع فقوله تعالى (خشعاً أبصرهم يخرجون) وخشعاً حال ، وذو الحال الضمير في يخرجون ، والعامل يخرجون ، وقد تقدمت الحال عليه ، وقالت العرب: شتى تؤوب الحلبة ، (فـ (شتى) حال من الحلبة ، وقد تقدمت على تؤوب ، وهو العامل فيها ، وقال الشاعر:
سريعاً يهون الصعب عند أولى النهى
…
إذا برجاء صادق قابلوا اليأسا
فـ (سريعاً) حال من الصعب ، وتقدمت على يهون ، وقال الآخر:
مزبداً يخطر ما لم يرني
…
وإذا يخلو له لحمي رتع
فـ (مزبداً) حال من الضمير في يخطر ، وقد تقدم على العامل ، وهو يخطر ،
وقال الآخر:
دلق الغارة في إفزاعهم
…
كرعال الطير أسراباً تمر
فأسراباً حال من الضمير في تمر ، وقد تقدمت على العامل ، وهو تمر.
وسواء أكانت الحال مصدراً ، كقوله:
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا
…
على ظهر محبوك ظماء مفاصلة
أم غير مصدر ، كالآية والأبيات السابقة. ومؤكدة وغير مؤكدة ، وفى المؤكدة خلاف كالخلاف في المصدر المؤكد.
وقد منع الأخفش راكباً زيد جاء لبعدها عن العامل
وأما الكوفيون فيزعمون أن انتصاب الحال لانقطاعها من إعراب ذي الحال لتخالفهما بالتنكير والتعريف ، فلما لزمها خلاف صاحبها ، ولم يمكن أن يعمل فيها العامل في ذي الحال لاشتغاله به عنها - نصبت على القطع ، وعمل فيها النصب عندهم الحديث والمحدث عنه كلاهما ، ولذلك أجازوا أن تقول: قائماً في الدار أنت ، ومسرعاً أقبلت ، فقدموا الحال فيهما ، ولم يفرقوا بين الفعل وغيره.
وليس تقديم الحال وتوسيطها جائزاً على الإطلاق عندهم ، بل لهم في ذلك تفضيل:
فإن كان الحال من مرفوع ظاهر تأخرت وتوسطت والرافع قبلها ولم تتقدم على الرافع والمرفوع كليهما ، فلا يجوز عندهم: راكباً جاء زيد. وحجتهم أن الحال مبناها على الشرط ، فبطل راكباً يجيء زيد من حيث لم يجز إن يركب يجيء زيد ، وإن ركب يجيء زيد ، وإنما بطل هذا التقديم لأن كناية زيد مع حرف لا ينوى به تأخير ، دليل ذلك انجزام يجيء بعد إن يركب ، ومحال أن يجيء إن بعد الجزاء المجزوم ، فإذا ثبت لها التقدم فسدت المسألة بتقدم المكنى على الظاهر.
قالوا: وليس سبيل راكباً جاء زيد كسبيل غلامك ضرب زيد؛ لان الحال تخالف الغلام من جهة أن الغلام لا يخلو من نية التأخير؛ إذ هو منصوب لم
يدخل عليه ما يمنعه التأخير ويلزمه التقديم ، والحال قد دخل عليها مذهب الشرط ، وبنيت على معناه ، فلزمها التأخير من حيث لا ينفك الشرط من نية السبق إذا وضع أول الكلام وأتى جوابه بعده. وإنما جاء توسط الحال في نحو جاء راكباً زيد لأنها إذا صرح بالشرط فيها لم يكن خطأ؛ ألا ترى أنه ليس بمحال أن يقال: يجيء أن يركب زيد ، على أن زيداً رافعه يجيء ، والشرط مبنى على التأخير إذا لم تدخل عليه علة تلزمه ألا يتأخر كما دخل عليه وهو أول ما أوجب له رتبة السبق ، ومن هذه الجهة شاكل عندهم جاء راكباَ زيد ضرب غلامه زيد ، وخالف راكباً جاء زيد غلامه ضرب زيد.
وإن كانت من مرفوع مضمر جاز تأخيرها وتوسيطها وتقديمها على الرافع والمرفوع كليهما؛ فيجوز عنهم: في الدار أنت قائماً ، وفي الدار قائماً أنت ، وقائما في الدار أنت ، وجئت راكباً ، وراكباً جئت؛ لايلزم من تقديمها على الرافع والمرفوع تقدم مضمر على ظاهر ، كما لزم ذلك إذ كانت من مرفوع ظاهر.
وإن كانت من مخفوض ظاهر ، جاز تأخيرها ولم يجز جعلها أول الكلام لما يلزم في ذلك من تقديم المضمر على الظاهر لفظاً ورتبة على مابين في المرفوع ، ولا يجوز توسيطها إجراء للمخفوض مجرى المنصوب من حيث كان في موضع نصب ، فكما أن المنصوب لا يجوز عندهم تقديم حاله عليه للعلة التي تذكر بعد ، فكذلك ما هو بمنزلته ، فيجوز عندهم: مررت بهند ضاحكة؛ ولا يجوز: مررت ضاحكة بهند ، ولا: ضاحكة مررت بهندٍ
وإن كانت من مخفوض مضمر جاز تأخيرها وتقديمها أول الكلام ، ولا يجوز توسيطها ، نحو: مرت بي هند ضاحكاً ، وضاحكاَ مرت بي هند ، لأنه يلزم في ذلك تقديم مضمر على ظاهر ، ولا يجوز: مرت ضاحكاً بي هند ، كما لا يجوز توسيطها إذا كانت من منصوب.
وإن كانت من منصوب ظاهر جاز تأخيرها عنه ، نحو: لقيت زيداً مسرعاً ، ولا يجوز تقديمها ، لا يقال: ضاحكة لقيت هند؛ لما يلزم من تقديم المضمر على الظاهر ، ولا توسيطها؛ لئلا يسبق أنها / مفعولة.
وإن كانت من منصوب مضمر جاز تقديمها ، نحو: ضاحكاَ لقيتني هند ، وقد تقدم الكلام في بعض هذه الصور.
وهذا الذي ذهبوا إليه من امتناع تقديم الحال أول الكلام إذا كانت من ظاهر باطل؛ لأنهم بنوا ذلك على أن الحال مبنية على معنى الشرط ، وذلك شيء لم يستدلوا عليه بأكثر من أنهم وجدوها تكون خبراً عن المصدر في نحو: ضربي زيداً قائما ، وأكثر شربي السويق ملتوتاً. ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن الحال ليست بخير المصدر ، وإنما الخبر محذوف أقيمت الحال مقامه على ما بين في باب الابتداء. وقد تقدم الدليل على مجيء الحال متقدمة أول الجملة على الاسم المرفوع مظهراً ، كما حكي الرياشي من قول العرب: شتى تؤوب الحلبة ، وقول الشاعر:
سريعاً يهون الصعب .......................................
وما أشبههما ، وقد تقدم الاستدلال على جواز: ضربت راكبة هنداً ، وما أشبهه مما تقدم فيه حال المنصوب عليه وحده.
فأما تقديم الحال على العامل في نحو ضاحكة لقيت هنداً مما ذو الحال فيه منصوب ظاهر فالقياس يقتضيه ، كما جاز ذلك في المرفوع الظاهر ، ولكنى لا أحفظ من المسموع ما يدل على ذلك.
وفي البسيط: ذهب بعض الكوفيين إلى أنه لا يجوز - يعنى تقديم الحال على العامل - إذا كان أسم الحال اسماً ظاهراً؛ نحو: جاء زيداً راكباً ، فإن كان مضمراً جاز ، نحو: راكباً جئت. قالوا: لأن فيه تقديم المضمر على الظاهر ، فإن في الحال مضمراً ، بخلاف المضمر.
وهو فاسد ، أما السماع فمذكور ، وأما ما ذكروه فلأنه إنما امتنع حيث لا يكون في حكم التأخير ، بخلاف هذا.
وحكي عن الفراء والكسائي المنع مطلقاً. واحتج بتقديم الضمير على من يعود عليه.
وهو جائز عندنا إذا كان مؤخراً معني ، كقولهم: في أكفانه كفن الميت ، وقال تعالى (فأوجس في نفسه خيفة موسى)
وقوله أو صفة تشبهه شبهها للفعل من جهة تضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفروع وقد نص س وغيره على جواز تقديمها على الفعل وما جرى مجراه من أسماء الفاعلين وما في حكمهما ، تقول: مسرعاً زيد راحل ، وزيد مجرداً مضروب ، وزيد موسراً ومعدماً سمح ، وذلك أن الحال تجيء يعمل فيها ما يصح أن يكون من باب الصفة المشبهة ، قال:
لهنك سمح ذا يسار ومعدماً
…
كما قد ألفت الحلم مرضى ومغضبا
فإذا قدمت الحال على سمح جاز.
وقوله ولم يكن نعتاً أي: ولم يكن العامل نعتاً ، قال المصنف في الشرح:
(وإذا كان صفة تشبهه تتضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفرعية فهو قوى ، ويستوي في ذلك اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ، فلو كان العامل القوي نعتاً لم يجز تقديمه ، نحو: مررت برجل ذاهبة فرسه مكسوراً سرجها) انتهى.
وهذا نص من هذا المصنف انه / إذا كان العامل في الحال نعتاً لم يجز تقديم الحال عليه؛ فلا يجوز علي ما قرره أن تقول: مررت برجل ضاحكاً مسرعٍ ، إذا أرت: مسرع ضاحكاً ، ولا: جاءني رجل باكياً ماش ، إذا أردت: ذاهباً مسرعا ولا ما أشبه هذه التراكيب. ولا يجوز في التركيب الذي ذكره: مررت برجل مكسوراً سرجها ذاهبة فرسه؛ لان مكسوراً حال ، والعامل فيها: ذاهبة فرسه ، وذاهبة فرسه: نعت لرجل.
وهذا النص منه على منع ذلك غفلة ووهم ، ونصوص النحويين على جوا تقديم معمول النعت عليه من مفعول به وحال وظرف ومصدر ونحوها ، وإنما منعوا من تقديم معمول النعت عليه من مفعول به وحال وظرف ومصدر ونحوها ، وإنما منعوا من تقديم المعمول على المنعوت لا على النعت العامل فيه ، فيجوز في نحو مررت برجل يركب الفرس مسرجاً أن تقول: مررت برجل مسرجاً يركب الفرس ، وكذلك تقول في جاءني رجل ضارب امرأة جائزاً ضارب امرأة ، إذا تريد: يضربها في حال كونه جائزاً
ويمتنع في هذه المسائل وأشباهها تقديم الحال على المنعوت بالعامل فيها ، فلا يجوز: مررت مسرجاً برجل يركب الفرس ، ولا: جاءني جائزاً رجل ضارب امرأة.
وأما التمثيل الذي مثله المصنف فلم يمتنع تقديم (مكسوراً سرجها) من جهة أن العامل في مكسوراً النعت ، وهو: ذاهبة فرسه. وإنما امتنع من جهة تقدم المضمر على ما يفسره؛ إذ يصير التركي: مررت برجل مكسوراً سرجها ذاهبة فرسه ، وقد نص النحويون على منع تقدم المضمر في هذه المسألة وما أشبهها ، وأنه مما يلزم فيه تأخير الحال؛ إذ ليس من المواضيع التي يفسر فيها المضمر ما بعده
وقوله ولا صلة لأل مثاله: الجائي مسرعا زيد ، فلا يجو: ال مسرعا جائي زيد.
وقوله أو حرف مصدري مثاله: يعجبني أن يقول زيد مسرعاً ، فلا يجوز: يعجبني أن مسرعاً يقوم زيد. وقال المصنف في الشرح: (وكذا لو كان صلة لأل أو أن أو إحدى أخواتهما لم يجز أن يتقدم عليه ما يتعلق به من حال وغيره) انتهى.
وقد أطلق في قوله (أو حرف مصدري) وترك ما شرطه الناس فيه من كونه يكون ناصباً؛ لأن من الحروف المصدرية (ما) وويجوز أن يتقدم معمول صلتها عليها لا على ما ، نحو: عجبت مما يرى زيد باكياً ، فيجوز عجبت مما باكياً يرى زيد ، كما جاز ذلك في المفعول به ، نحو: عجبت مما تضرب زيداً ، فإنه يجوز: عجبت مما زيداً تضرب ، فلو كان العامل صلة لغير أل ولا لحرف عامل جاز تقديم الحال عليها كما جاز تقديم المفعول ، نحو قولك: من الذي جاء خائفاً؟ فتقول: من الذي خائفاً جاء؟
وقوله ولا مصدر مقدراً بحرف مصدري ، نحو: يعجبني ركوب الفرس مسرجا ، لا يجوز: يعجبني مسرجا ركوب الفرس.
وقوله ولا مقروناً بلام الابتداء أو القسم مثاله: لأصبر محتسباً ، ولأقومن طائعا. وينبغي أن يفهم قوله (ولا مقروناً بلام الابتداء) أن يكون العامل متصلا بلام الابتداء أو لام القسم ، فإنه إذا لم يكن متصلا به جاز أن تتوسط الحال بين اللام وبين العامل ، نحو: لمحتسباً أصبر ، ولإلى زيد راغبا ًأذهب ، كما يجوز ذلك في المفعول ، فتقول: لزيداً أضرب. ووالله لزيداً أضرب
فإن كانت الابتداء في إن فقد منعوا دخول لام الابتداء على الحال فيه ، نحو: إن زيداً لمسرعاً ذاهب ، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب إن.
ونقص المصنف مسألة لا يجوز فيها تقديم الحال على العامل ، وإن كان متصرفاً ، ذكرها أصحابنا ،وهى إذا كانت الحال جملة معها الواو ، نحو: جاء زيد والشمس طاعة ، لا يجوز: والشمس طالعة جاء زيد.
وحكي صاحب (رؤوس المسائل) ما نصه: (لا يمتنع عند الجمهور تقديم الجملة الحالية التي معها الواو على العامل فيها إذا كان فعلاً ، ومنعه الفراء). وهذا النقل مخالف لما ذكرناه.
-[ص: ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف ، أو صلة لـ (أل) أو حرف مصدري ، أو مصدراً مقدراً بحرف مصدري أو مقروناً بلام الابتداء أو القسم.]-
ش: مثال الفعل غير المتصرف: ما أحسن هنداّ متجردة ، فلا يجوز: ما متجردة أحسن هنداّ ، وتقدمت أمثلة ما بعد الفعل غير المتصرف.
ولما كان قول المصنف (يجوز تقديم الحال على عاملها إن كان فعلا متصرفاً أو صفة تشبهه ، ولم يكن - يعنى العامل - كذا ولا كذا) صار الجواز مشروطاً بشيء مثبت ، وهو كون العامل متصرفاً أو صفة تشبهه ، ومشروطاً بانتفاء العامل عما ذكر ، وانتفاء العامل عما ذكر يكون بأحد أمرين: إما بوجوب تقديم الحال على العامل ، وإما بوجوب تقديم العامل على الحال فلمسألة الأولى لم يتعرض إليها المصنف ، وهى أن تكون الحال أسم استفهام ، نحو (كيف) على الأصح ، فإنه إذا وقعت حالا وجب تقديمها على العامل ، نحو: كيف قام زيد؟ وكيف ضربت هنداً؟ وإنما قلت (على الأصح) لأن بعضهم يزعم أن انتصاب (كيف) على الظرف. والدليل على أنها حال جواز إبدال الحال منها ، نحو: كيف قام زيد أضاحكاً أم باكياً؟ والمسالة الثانية تعرض لها المصنف.
وما ورد على المصنف في قوله قبل (أو حرف مصدري) يرد عليه هنا ، فإنه قال فيه (او حرف مصدري) فلم يقيد بكون الحرف عاملا كما لم يقيد قبل.
ص: أو جامداً ضمن معنى مشتق ، أو افعل تفضيل ، أو مفهم تشبيه.
واغتفر توسيط ذي التفضيل بين حالين غالباً وقد يفعل ذلك بذي التشبيه.
فإن كان الجامد ظرفاً أو حرف جر مسبوقاً بمخبر عنه جاز على الأصح توسيط الحال بقوة إن كان ظرفاً أو حرف جر ، وبضعف إن كانت غير ذلك. ولا تلتزم الحالية في نحو: فيها زيد قائماً بل تترجح على الخبرية ، وتلتزم هي في نحو: فيك زيد راغب ، خلافاً للكوفيين في المسألتين.
ش: قال المصنف في الشرح: (من العوامل التي لا يتقدم الحال عليها الجامد المتضمن معنى / مشتق ، كأما ، وحرف التنبيه ، والتمني ، والترجي ، واسم الإشارة ، واسم الاستفهام المقصود به التعظيم ، نحو:
...........................................
…
يا جارتا ، ما أنت جاره
والجنس المقصود به الكمال ، نحو: أنت الرجل علماً ، والمشبه به ، نحو: هو زهير شعراً) انتهى.
ولم يمعن الكلام على هذه التي ذكر أنها جوامد تضمنت معنى المشتق ، ونحن نتكلم عليها ، فنقول: قوله (كأماَ) يعنى بها في مثل: أما علماً فعالم ، وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة بأطرافها ، وهل انتصب ما بعدها إذا كان مصدراً على أنه حال ، أو أنه مفعول مطلق ، أو على أنه مفعول به.
وكذلك إذا كان بعد أما صفة. نحو: أما صديقاً. فأنت صديق ، هل انتصابه على الحال ، أو على إضمار (أن تكون) فهو خبر تكون. ونسبه العمل لأما هو سبيل المجاز؛ لأن الناصب غنما هو فعل الشرط المقدر.
وزعم بعض النحويين أن لولا بمنزلة أما في تضمن الفعل؛ لأنه يتضمن معنى يمنع ، فإذا قلت لولا زيد لكان كذا فالمعنى: لو لم يمنعني زيد لكان كذا ، وعلى
هذا فتقول: لولا زيد لكان كذا ، فيعمل فيه معنى الفعل وقالوا: لولا رأسك مدهوناً لكان كذا ، وهذا مبنى على أن لولا مرتفع بها على الفاعلية ، وهو رأى الكوفيين ، ولا نقول به ، بل هو مرتفع بالابتداء ، ونصب الحال إنما يكون على جهة أن العامل فيها الخير ، لكنه لازم الحذف لسد الجواب مسده ، كأنه قال: لولا زيد مستقر قائماً لكان كذا ، قاله في البسيط.
وظاهر قوله (وقالوا: لولا رأسك مدهوناً) أنه سماع من العرب ، ونقل الأخفش أن العرب لم تلفظ بحال المرفوع بعد لولا
وأما قوله «وحرف التنبيه» فمثاله. هذا زيد قائماً ، أجازوا أن يكون العامل حرف تنبيه ، وأن يكون اسم الإشارة ، وبنوا على ذلك فرعا ، وهو: هل يجوز: ها قائماً ذا زيد؟ فقالوا: إن كان العامل حرف التنبيه جازت المسألة؛ لان الحال لم تتقدم على حرف التنبيه ، وإن كان العامل اسم الإشارة لم تجز المسألة لتقدم الحال عليه وأبطلوا كلهم: قائما هذا زيد.
وذهب ابن أبي العافية والسهيلى إلى أنه لا يجوز إن يكون العامل في هذه الحال حرف التنبيه ، قال بن أبى العافية:«إنما لم يعمل الحرف بمعنى التنبيه لأنهم قد حذفوا لفظ الفعل ، واستغنوا بحرف التنبيه عنه ، فلم يكونوا ليعملوه عمل الفعل ، فيكونوا قد رجعوا إلى ما خففوه من كلامهم ، فيكون ذلك نقصاً لما قصدوا» .
وقال السهيلي: «ها حرف، ومعنى الحروف لا يعمل فى الظروف ولا الاحوال» .
وقال السهيلى: «قولك هذا زيد قائما العامل فى الحال ما دل عليه الاسم /المبهم، إذا قلت (هذا) فإنك أشرت إلى المخاطب لينظر، فكأنك قلت: انظر إليه قائما، فانظر هى العاملة فى الحال، ولا يصح أن يكون العامل اسم الإشارة؛ لأنه غير مشتق من لفظ الإشارة ولا من غيرها، إنما هو كالمضمر، ولا يعمل (هو) ولا (أنت) بما فيه من معنى الإضمار فى حال ولا ظرف، فكذلك اسم الإشارة، وقد تكون الإشارة بيد أو رأس إلى جهة شئ بعينه، فيكون فى ذلك تنبيه له على النظر، فيعمل فى ذلك النظر فى الحال، كما حكى س (لمن الدار مفتوحا بابها)، ولم يقل: لمن هذه الدار، فدل على أن التوجه يقوم مقام الإشارة، ولا يكون العامل فى (مفتوحا بابها) ما تعلقت به اللام من الاستقرار أو معنى الملك لفساد المعنى؛ لأنك لو قدرت الاستقرار ظاهرا لم يكن له اختصاص بالحال، ولا هي ملك
لصاحبها في حال فتح بابها على الخصوص، ولذلك أعرض س عن ذلك المعنى، ولم يجعله عاملا فى مثل هذه الحال.
ولا يجوز تقديم الحال على مثل هذا العامل المعنوى؛ لأنه ليس بفعل ملفوظ به فيشبه بالمفعول، ولا هو صفة كما تقدم. ولو جعلت مكان الحال (اليوم) ، فقلت (هذا زيد اليوم) لم يجز، قدمت اليوم أو أخرته؛ لعدم الفائدة فى ذ لك الظرف؛ لأن المخاطب قد علم من التوجه والإشارة انك لا تريد إلا ذلك الحين الذى أشرت إليه، فلا معنى لتقييد هذا فى هذا المعنى بحين آخر، والحال ليست كذلك، إنما هى صفة تريد تنبيه المخاطب على النظر إلى زيد فيها لغرض مقصود، كما جاء في التنزيل (ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا) ،
نبهت على الشيخ المانع من الولادة، فهذا الفرق بين الحال والظرف» انتهى.
وتلخص فى العامل في قائما في نحو هذا زيد قائما على مذهب البصريين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجوز أن يكون العامل خرف التنبيه أو اسم الإشارة، وهو قول الجمهور.
الثانى: أنه العامل هو اسم الإشارة فقط.
الثالث: أنه محذوف، تقديره. انظر إليه قائما.
وسيأتى ما يرد على مذهب من أجاز أن يكون العامل فيها حرف التنبيه واسم الإشارة وحده، عند ذكر المصنف أنه قد يعمل فى الحال غير عامل صاحبها إن شاء الله.
وأما مذهب السهيلى فيظهر في بادي النظر أنه أقرب من المذهبين؛ لأن فيه إبقاء العمل للفعل ونسبته إليه، إلا أن فيه تقدير عامل لم يلفظ به قط، ولأن الكلام يصير فى تقدير جملتين، وظاهر الكلام أنه جملة واحدة.
ولما كان قول البصريين فى دعواهم الحال في هذه المسألة لا يخلو من إشكال ارتكب الكوفيون طريقة أخرى فى هذه المسألة؛ فقال الفراء والكسائى: يقال: هذا زيد قائما، على أن قائما خبر التقريب الذى يشبه فيه «هذا» «كان» حين يقال: كيف تخاف الظلم وهذا الخليفة قادما؟ وكيف تجد البرد وهذه الشمس طالعة؟ يقرب «هذا» و «هذه» قدوم الخليفة وطلوع الشمس، ولم يكن «هذا» فى المعنى إشارة، لأن الخليفة لا يجهل ولا يشك فيه فتعرفه /الإشارة، وكذلك الشمس قد غنيت بشهرتها عن الإشارة التى تحددها وتعينها.
وأجاز الكسائي أيضا فى هذا زيد قائما ما أجازه البصريون من أن قائما حال إما من اسم الإشارة وإما من زيد.
فلو وسطت قائما بين اسم الإشارة وزيد، فقلت: هذا قائما زيد- فقال الكوفيون: انتصب على الحال إما من اسم الإشارة وإما من زيد.
وأجاز الكسائى نصبه على أنه خبر التقريب.
وقال الفراء: لاأنصب قائما هنا على الحال من زيد؛ لأنه لما جاور اسم الإشارة، وكان لاسم الاشارة رتبة السبق وقوة الابتدائية- غلب على الحال، فلم يصل معه إلى الأخير، فليس بجائز أن يقال هذا زيد على خبر التقريب؛ لأنه كلام يبنى على الجواب، وألفاظه لا تغير، وخبره لا يزال مكانه.
قال الفراء: ولو أجزت هذا قائما زيد فى التقريب استغلق على القول فى المكني حين أقول: ها أنا ذا قائما، وها أنت ذا قائما، وها هو ذا قائما، وها هى ذ قائمه، وها أنت ذه قائمة، لأنى إذا أردت توسيط الخبر فإن جعل بين (أنا) و (ذا)
أفسد ترتيبه من أجل المكني خلط بهذا حين جعل بين (ها) و (ذا) ، وإذا دخل بين المكني و (ذا) داخل فسد الاختلاط، وإن جعل بين (ها) و (أنا) لم يكن ذلك له موضعا؛ إذا داخل فسد الاختلاط، وإن جعل بين (ها) و (أنا) لم يكن لك له موضعا؛ إذ (ها) لا يعرف له مزيلة المكني، فكل هذا يدل على أن خبر التقريب لا يتوسط مع ظاهر ولا مكني.
واتفق الكوفيون على إحالة «قائما هذا زيد» ، على أن هذا يفيد الإشارة أو التقريب، وكذلك اتفق البصريون على منعها، وقد تقدم الكلام على شئ من هذا الذى يسميه الكوفيون تقريبا فى باب كان وأخواتها.
وقد جاء السماع بنظير: قائما زيد، وها قائما ذا زيد، ودل ذلك على فساد ما ذهب إليه السهيلى من أنه لا يجوز أن تتقدم هذه الحال على شئ من أجزاء الجملة. ودل ذلك أيضا على فساد مذهب ابن أبى العافية حيث أوجب أن يكون العامل فى الحال اسم الإشارة. والدليل على سماع ذينك التركيبين من العرب قول الشاعر:
أترضى بأنا لم تجف دماؤنا
…
وهذا عروسا باليمامة خالد
وقول الآخر:
ها بينا ذا صريح النصح، فاصغ له
…
وطع، فطاعة مهد نصحه رشد
وفي هذا البيت الثانى دليل على فساد ابن أبي العافية: إن اسم الإشارة عامل فى الحال؛ ألا ترى إلى تقدمها عليه، ولو كان عاملا فيها ما جاز تقديمها عليه.
وأما قول السهيلى وابن أبى العافية «إن معنى الحرف لا يعمل فى الحال» فغير مسلم لهما؛ لأنه يرد على قولها إعمال كأن فى الحال، وهى حرف عملت بما فيها من معنى التشبيه. وكذلك كاف التشبيه تعمل فى الحال، وهى حرف جر على ما نبينه إن شاء الله. إلا إن قيد الحرف بأنه الذى لم يستقر له عمل فيخرج كان وكاف التشبيه؛ لأنهما قد استقر لهما عمل فى غير الحال.
وأما قول الشارح فى الشرح: «والتمني والترجي واسم الإشارة» فتقدم قولنا فى اسم واختلاف /الناس فيه هل يعمل فى الحال أم لا.
وأما حرف التمني والترجي - وهما ليت ولعل - فمختلف فيهما: فنص الزمخشرى على أن ليت ولعل وكأن ينصبن الحال، بخلاف أخواتها، وهى إن وأن ولكن، فإنهن لا ينصبن الحال. وقال بهذا القول هذا المصنف وابن عصفور، أعنى القول بأن ليت ولعل يعملان فى الحال.
والصحيح أن ليت ولعل وباقي الحروف لا تعمل في الحال ولا ظرف، ولا يتعلق بها حرف جر إلا كأن وكاف التشبيه، قال النابغة:
كأنه خارجا من جنب صفتحه
…
سفود شرب نسوه عند مفتاد
ويدل على ذلك أنك لو قلت: ليت زيدا اليوم ذاهب غدا، ونحوه - لم يجز ذلك بإجماع.
وعلل الفارسي منع ذلك في «الحلبيات» بأنها في دلالتها على المعانى قصد بها غاية الإيجاز، فالألف تغني عن أسفتهم' و «ما» عن أنفي، و «أن» عن أؤكد، فلو أعملت فى الظرف والحال، ومكنت تمكين الفعل - لكان نقضا لما قصد من الايماء. وهذا التعليل هو الذى نص عليه ابن أبي العافية في أن حرف التنبيه لا يجوز له أن يعمل فى الحال.
وإنما اختصت كأن وكاف التشبيه بالعمل في الحال لأن فيها - وإن كانت حرفا - دلالة على التشبيه والشبه، فالتشبيه معنى فى نفس المتكلم، فمن هذا الوجه هى حرف كسائر الحروف؛ لأن معنى الحرف فى نفس المتكلم، بخلاف معنى الفعل، فإنه مسند إلى ما دخل عليه من الاسم، ولا يعمل هذا المعنى، والشبه مسند إلى زيد ونحوه إذا قلت: كأن زيدا أسد، فشاركت الأفعال من هذا الوجه فعمل ذلم المعنى الذي هو الشبه المسند إلى زيد فى الحال والظرف والجار والمجرور، وليس ذلك فى التمني ولا التأكيد ولا النفي ونحوها، فمن هنا فارقت كأن أخواتها، فعملت بلفظها كعمل أخواتها في الاسماء، وعمل معناها في الظرف والحال، وفارقتها أيضا فى وقوعها نعتا لنكرة، وحالا من معرفة، وخيرا لـ «كان» ونحوها، قال:
فبت كأنى ساورتني ضئيلة
…
من الرقش في أنيابها السم ناقع
وقى البسيط: العامل عمل الفعل كأن وأخواتها وما:
فقيل: لا يعمل واحد منها؛ لأن الشبه اللفظي الذي به عملت لا يؤثر في الحال.
وقيل: ما كان منها يفهم منه معنى فعل يكون مرفوعها فاعله ومنصوبها مفعوله عمل، وما لم بكن لا يعمل، فحكم بعمل كأن وحدها، وهو رأى أبي زيد - يعنى السهيلى - لأن معنى قولك كأن زيدا عمرو. يشبه زيد عمرا، وعليه أنشدوا: كأنه خارجا. البيت. ويجرى الظرف هذا المجرى، يعنى مجرى الحال.
وقيل: ما كان منها فى معنى فعل يستدعي معموليها عمل، ولا يؤثر فى نفس الخبر، وماكان موجها نحو الخبر لا يعمل، فحكم بعمل كأن، وليت، ولعل؛ لأنها بمعنى أشبه. وأترجى، وأتمنى؛ لأنها لم يؤت لها بمعنى فى الخبر، بل بمعنى فى الاسمين، بخلاف /إن وما، فإنهما لفائدة فى الخبر من إثبات أو نفي، فضعف معنى الفعل فيهما.
وفى البسيط أيضا ما ملخصه: كأن وليت ولعل تغير معنى الجملة، بخلاف الثلاثة الأخر، فلذلك اختصت بأمور في العمل لا تكون في تلك، فمنها ما قيل إنها تعمل فى الحال والظرف؛ لأنه إذا صح عمل المجرور والظرف بالنيابة عن الفعل و (ها) التى للتنبيه فهذه أولى وأقوى من جهة أن معناها تمن وتشبيه، فإذا قلت: إن هذا زيد منطلقا، وكأن هذا زيد منطلقا، فالأول انتصب على ماكان عليه في حال الابتداء؛ لأن إن ما غيرته، فانتصب بالإشارة، بخلاف كأن، فإنه حالة كونه
حالاً من الإشارة في الابتداء قد تغير إلى انه يشبه فى هذه الحالة ، فلما غيرت معنى الخبر غيرت نسبة الحال ، فكما عملت فى الأولين عملت فى الثالث بمنزلة الفعل المتعدى ، فنصبت الحال لكونه من وصف معموله ، كضرب زيد عمرا قائما وهذا الرأى يظهر من كلام س وقد انشد فى هذه بيت النابغة» كأنه خارجا» وهذا أخص من المشار ، لانه لايعمل المضمر فى الحال بخلاف الإشارة وقال فى الظرف:
يرى الثعلب الحولى فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل
وقيل: العامل معناها من الأفعال ولا يصح لأن الحروف لا تعمل بمعانيها من الأفعال ، بل بما لها من حكم الفعل ، وهو تغيير الجملة
وقيل: إمنا تعمل فى الحال (كأن) وحدها ، وفيها سمع ، وما عداه يحتمل أن يكون على الاشارة ، لان المذكور بعدها هو الفاعل ، والمفعول المعنى المقدر ، فقولك: كأن زيدا عمرو ، كأنك قلت: يشبه زيد عمرا ، بخلاف ليت ولعل ، إذ الفعال للفعل ليس مذكورا ، فإنك تقدره: اتمنى ، وأترجى
وقيل: لايعمل شئ منها فيما عدا الاسمين ، لان الاحوال لابد لخا من اقضتاء ، ولا يقتضيها إلا المصدر ، ولا تدل على ذلك ، بل غاية اقتضائها تلك النسبة ، فتعمل فيما هو ضرورى فى وجود النسبة ، وهو المنتسبان. انتهى
واما قول الشارح فى الشرح:» والاستفهام المقصود به التعظيم نحو:
......
…
يا جارتا ، ما انت جارة»
ف» جارة» عنده منصوب على الحال ، والعامل فيها (ما) الاستفهامية بما تضمنت من معنى التعظيم ، فكأنه قال: ما أعظمك جارة! وهذا تفسير معنى وتفسير الإعراب: اى عظيمة أنت فى حال كونك جارة.
وهذا عجز بيت للاعشى ميمون بن قيس، وصدره:
بانت لتحزننا عفارة .......................
ولا يتعين فيه ما زعمه المصنف من أن جازة انتصب على الحال ، والعامل فيه اسم الاستفهام بما فيه من معنى التعظيم ، بل اجاز فيه الفارسى أن يكون منصوبا على التمييز ، وبدأ به واستدل على صحة التمييز فيه بصلاحية دخول من عليه كما دخل فى قول الشاعر
يا سيدا ، ما انت من سيد ..............
وسياتى تقرير / التمييز فى مثل هذا فى بابه إن شاء الله وأجاز الفارسى أيضا ان ينتصب على الحال ، كما ذهب إليه المنصف ، قال:» ويجوز أن يكون موضعها نصبا على الحال ، والعامل فيها ما فى الكلام من معنى الفعل. لان معنى م انت جارة: نبلت جارة» انتهى
قال بعض اصحابنا:» ووجه جعل جارة حالا ان المخاطب كما انبهم عليه من أي أجناس النساء الممدوحات ، فجعلها باحتياج لذللك إلى التمييز كذللك ايضا انبهم عليه الوصف الذى به مدحها ، فاتى بجارة مبينا له ، إلا ترى أنه قد فهم
منه أنه وصفها بحسن المجاورة ، فلما كان جارة على هذا التقدير مفسرا للوصف الذى به وقع المدح كان حالا ، لان الحال تفسير لما انبهم من الصفات ، والدليل على صحة ما ذكره ابو على من ان العامل فى جارة اذا كان حالا ما فى الكلام من معنى الفعل قول الكميت:
وانت ما انت فى غبراء مظلمة إذا دعتك إليها الكاعب الفضل ألا ترى أنه ليس فى البيت ما يصح ان يعمل فى المجرور إلا ما فى قوله من معنى المدح والتعظيم ، كانه قال: عظمت حالا فى غبراء مظلمة ، واذا صح إعماله فى المجرور من جهة ما ذكرنا جاز إعماله فى جارة» انتهى.
وليست الحال كحرف الجر ولا كالظرف ، لانهما يعمل فيهما روائح الافعال حتى الاسماء الاعلام بما فيها من معنى الشهرة و» ما» الاستفهامية - وان اريد بالاستفهام التعظيم - لاينبغى لها ان تعمل فى الحال كما لا تعمل همزة الاستفهام اذا صحبها معنى الإنكارأو التوبيخ ، ولم يرد ثبت من كلام العرب بمجئ الحال بعد» ما انت» المراد به التعظيم ، بل ذكروا ذلك على جهة التجويز فى قولهم» ما انت جارة» ولا حجة فيه لظهور كونه تمييزا ، بدليل دخول من عليه
وجوزوا ايضا فى قوله» ما انت جاره» ان تكون ما نافية ، وجارة خبر انت ، وهو مبتدا على لغة تميم ، او خبر ما ، فيكون فى موضع نصب على لغة الحجاز
واحتمل هذا النفي وجهين: احدهمنا أن يقول: ما انت جارة ليبنونتك عنا وفراقك لنا والوجه الثانى: ان يكون: ما انت جارة بل اعظم من ذلك. كقوله تعالى (ما هذا بشرا)، اى: هو اعظم من ذلك ، بدليل قوله بعده (إن هذا إلا ملك كريم)
فإذا كان قوله» ما انت جارة» محتملا هذا من كونه ما نافيه ، ومن كون جاره منتصبا على التمييز على تقدير كون ما استفهاما - وهو الظاهر - فلا تثبت بذلك قاعدة كلية على ان اسم الاستفهام المراد به التعظييم ينصب الحال.
فأما قول العرب» ما لك قائما» فقائما حال، والعامل فيها هو العامل فى الجار والمجرور
وذهب الفراء إالى انه ينتصب على معنى كان ، وجوز كونه معرفه ، نحو ما لك الناظر فى امرنا ، فينصب النكره والمعرفة كما تنصب كان وظن
وانكر الزجاج هذا ، وقال:» ما حرف من حروف الاستفهام ، لا يعمل عمل كان ، والموضع للحال ، ولا تكون الحال معرفة ، لو جاز: ما لك القائم لجاز: ما عندك القائم ، وما بك القائم ، وهذا خطأ بالإجماع ، وما لك القائم / مثله» انتهى.
مسألة:» ما شأنك قائما» يقال على معنيين: على السؤال المحض ، لما رأه قائما وجهل السبب فى قيامه الأن ، وهو يعلم منه على الدوام أنه لا يقوم إلا لسبب - سأل عن السبب ، فالعامل فى الحال» شأنك» وكأنه قال: أي شيء
صنعك قائما. والثانى أن ينكر عليه القيام ، فالعامل فيه» ما شأنك» كله ، وكأنك قلت: لم صرت قائما؟
فإن قلت: كيف يعمل فى الحال معنى الكلام. وصحاب الحال قد عمل فيه:» شأنك:»؟
قلت: لانه مسلط من طريق المعنى على الاسم ، لأنه إذا قال» لم صرت قائما:» فهو سلط عليه العامل.
وعلى ذنيك المعنيين أيضا: ما لأخيك قائما ، فعلى معنى الانكار العامل معنى الكلام ، كانه قال: لم صار أخوك قائما. وعلى المعنى الاخر الذى هو السؤال المحض عن السبب العامل المجرور لنيابته مناب الخير ، وكأنه قال: اى شئ كائن لاخيك قائما ، اى: اى صنع له فى هذا الحال ويكون الصنع مسلطا على ذى الحال
وأما قول الشارح» والجنس المقصود به الكمال نحو: انت رجل علما» فقد تقدرم الكلام على ذلك ، ومذهب ثعلب فى كونه انتصب على المصدر. واختيارنا فيه انه اتنصب تمييزا
واما قوله» والمشبه به نحو: هو زهير شعرا» فقد تقدم الكلام فيه وجواز ان يكون شعرا منصوبا على التمييز والعامل فيه هو» مثل» المقدرة ، اذ المعنى هو مثل زهير شعرا
وقوله أو أفعل تفضيل يعنى إذا كان العامل فى الحال أفعل تفضيل لم يجز ان تتقدم الحال عليه ، كما لا يجوز ان تتقدم على الجامد المضمن معنى المشتق إذا عمل فى الحال ، قال المصنف فى الشرح» وأفعل التفضيل نحو: هو أكفاهم ناصرا ، وكان حق أفعل التفضيل أن تجعل له مزية على الجوامد المتضمنة معنى الفعل ، لان فيه ما فيهن من معنى الفعل ، ويفوقهن بتضمن حروف الفعل ووزنه ومشابهة ابنيه المبالغة فى اقتضاء زيادة المعنى ، وفيه من الضعب بعدم قبول علامة التأنيث والتثنية والجمع ما اقتضى عليه انحطاطه عن درجة اسم الفاعل والصفة المشبه فجعل موافقا للجوامد إذا لم يتوسط بين حالين» انتهى
وقوله أو مفهم تشبيه مثاله: زيد مثلك شجاعا ، وليس مثلك جوادا. قال المصنف فى الشرح:» وكذا إذا حذف مثل ، وضمن المشبه به معناه ، كقولك: زيد زهير شعرا ، وأبو يوسف ابو حنيفة فقها ، ومنه:
فإانى الليث مرهوبا حماه
…
وعيدى زاجرا دون افتراسى»
انتهى.
وتقول: زيد الشمي طالعة ، وبكر القمر منيرا. فلا يجوز التقديم فى قول البصريين ، لا تقول: زيد طالعة الشمس ، وأجاز ذلك الكسائى لان الحال توسطت والمتوسطة كالمتأخرة وقوله واغتفر توسيط ذى التفضيل بين حالين يعنى أنه كان القياس إذا كان العامل أفعل التفضيل ، واقتضى حالين أن تتأخر الحالان عنه ، لأنه إذا كان يقتضي
حالا واحدة وجب تأخيرها عنه ، ولا ينتصب الحالان مع افعل التفضيل إلا لمختلفى الذات مختلفى الحالين ، / نحو: زيد مفردا أنفع من عمرو معانا ، أو متفقى الحال ، نحو: زيد مفردا أنفع من عمرو مفردا ، أو إلا لمتحد الذات مختلف الحالين نحو: هذا بسرا أطيب منه رطبا ، وزيد قائما أخطب منه قاعدا. فإن اشترك المتخلفان فى وصف هو لأحدهما أكثر على كل حال ارتفع الاسمان اللذان كانا انتصبا حالين فتقول: هذا بسر اطيب منه عنب ، وصار بسر خبرا للمبتدأ ، واطيب وما بعده جملة ابتدائية فى موضع الصفة لبسر ، واطيب هو المبتدأ ، وعنب خبره ، وهو الاختيار لوقوع المبتدأ فى محله ، ويجوز العكس ، وهو ان يكون اطيب خبرا مقدما ، وعنب مبتدا ، وجاز الابتداء به وهو نكرة لأنه لا يراد به عنب بعينه ، فدخله لذلك معنى العموم ، فهو نظير: ثمرة خير من جرادة.
واختلف النحويون فى العامل فى هذين الحالين: هذهب المبرد ، والزجاج ، وابن السراج ، والسيرافى ، والفارسى فى حلبياته - وهو اختيار ابن عصفور فى احد قوليه - ومن وافقهم إلى انهما منصوبان على إضمار (كان) التامة صلة ل «إذا» إن كانت الحالان مما يؤول إليه المحكوم ، نحو هذا بسرا أطيب منه رطبا ، إذا اشرت إليه وهو بلح ، وصلة ل «إذ» إن كانت الحالان مما تقدم وجودهما ، كالمثال المذكور إذا اشرت إليه وهو بلح وصلة ل «إذ» إن كانت الحالان مما تقدم وجودهما ، كالمثال المذكور إذا اشرت إليه وهو تمر ، فبسرا حال من الضمير المستكن فى «كان» الأولى ورطبا حال من الضمير المستكن فى «كان» الثانية ، والعامل في الظرفين
أفعل التفضيل وإن كان احدهما متقدما عليه ، لان الظروف والمجرورات تتقدم على العامل فيها وإن كان معنى فعل ، وقالو: زيد يوم الخميس أحسن منه يوم الجمعة. وحكى ابو الحسن تقديم الظرف على أفعل التفضيل مسموعا ، وقال الفرزدق:
لاخت بنى ذهل غداة لقيتها
…
فكيهة فينا منك أرغب فى الخير
التقدير: لاخت بنى ذهل فكهية أرغب فينا غداه لقيتها منك فى الخير ، وتقدم» منك» على» ارغب» قبيح جدا ، لانه من كمال أفعل ، لا يتم معناه إلا به
فإن كان المشار إليه تمرا لم يحتج إلى إضمار ، بل العامل فى بسر» هذا» بما فيه من معنى الإشارة. وقيل: حرف التنبيه. قد تقدم الكلام على إعمال حرف التنبيه فى الحال ، وعلى إعمال اسم الإشارة فى الحال
وقال بعض أصحابنا: يجوز أن تقدر (كان) المضمرة ناقصة ، فيكون انتصاب بسرا ورطبا على انهما خبر (كان) الناقصة و (يكون) الناقصة المضمرتين. واستدل على ذلك بمجئ الاسم المنصورب معرفة ، فيقال: زيد المحسن أفضل من المسئ وقد تقدم الكلام على هذه المسألة
وقال المصنف فى الشرح» فيه إضمار ستة اشياء من غير حاجة» يعنى إضمار إذا ، وإذ ، وكان. أو يكون ، والضمير المستكن فى كان ، أو يكون. وقال:
«وبعد تسليم الإضمار يلزم إعمال أفعل فى إذ وإذ ، فيكون ما وقع فيه شبيها بما فر منه» انتهى.
وذهب المازنى فى الاظهر من كلامه والفارسى فى /تذكرته ، وابن كيسان وابن جنى ، وابن خروف - وهو اختيار ابن عصفور فى بعض كتبه - إالى أن أفعل التفضيل عامل فى الحالين معا ، فبسرا حال من الضمير المستكن فى أطيب ، ورطبا حال من الضمير المجرور فى منه ، والعامل فيهما أطيب
وزعم المصنف فى الشرح أن هذا مذهب س ، قال:«قال س بعد تمثيله بهذا بسرا أطيب منه رطبا: (فإن شئت جعلته حينا قد مضى ، وإن شئت جعتله حالا مستقبلا). ثم قال س: (وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار إذا كان فيما يسقبل ، وإذ كان فيما مضى ، لأن هذا لما كان ذا معناه أشبه عندهم أن يتنصب على إذا كان وإذ كان) فهذا نص منه على ان تقدير كان لم تدع إليه حاجة من قبل العمل ، بل من قبل تقريب المعنى ، والعالم إنما هو أفعل» انتهى.
واحتج لهذا المذهب بأن أفعل أقوى من الألفاظ العامة بما تضمنه من معنى الفعل ، من جهة أنها قد اشبهت الفعل فى أنها لا تثنى ، ولا تجمع ولا تؤنث. كما أن الفعل كذلك ، وانها على وزن الفعل. وان لفظ الفعل موجود فيها ، وانها دلت على الفعل المعلق فى قوله تعالى (أعلم من يضل عن سبيله) التقدير: يعلم من يضل عن سبيله ، فاستغنى بألعلم عن إضمار ذلك الفعل المعلق ، فساغ لذلك عندهم
تقديم الحال التى عملت فيها عليها وإن لم يسغ ذلك فى الألفاظ التى عملت فى الحال بما تضمنته من معنى الفعل.
ولا يلزم من إجراء أفعل مجرى الفعل فى العمل فى الحال والظرف للأشباه التى ذكرت أن تعمل فى المفعول به ، إذ ما أشبه الشئ لا يعطى حكم ذلك الشئ كله ، وما ادعوه من الإضمار لم ينطق به فى موضع من المواضع.
والذى نختاره أن أفعل التفضيل عامل فى الحالين لأنه تضمن معنى فعل يتعلق بمصدرين ، والتقدير: هذا يزيد طيبه بسرا على طيبه رطبا. هذا اصل الكلام ، ثم حذف ، وضمن أفعل التفضيل معنى يزيد المتعلق بمصدرين ، فبسرا فى الحقيقة معمول لمصدر محذوف ، وكذلك رطبا ، فلما ضمن أفعل التفضيل معنى هذين المصدرين لدلالته على يزيد المتعلق بهما جاز أن يعمل فيهما مراعاة للاصل. وأيضا فالحلات فى اللفظ لا يرجعان الى ذى حال واحدة بل الى ذوى حال ، ألا ترى ان الواحدة حال من الضمير المجرور.
وكان القياس منع هذه المسألة على المذهبين لولا ان السماع ورد بها ، لانا اذا ادعينا إضمار كان ادعينا ما لم تلفظ به العرب قط ، ولا يعم ابضا جميع المسائل لانك لو اخبرت عن المحكوم عليه بأفعل التفضيل حالة التباسه بإحدى
الحالين لم يصح تقدير إذ كان ولا إذا كان ، ويلزم من ذلك ايضا مخالفة سائر العوامل القوية فى العمل من حيث نصب أفعل التفضيل لظرفين من غير عطف ولا بدل. فيترجح بذلك العامل الضعيف على العامل القوى من جهة عمله فى حالين من غير عطف ولا بدل ولزم منه ابضا مخالفة ما عمل فى الحال من المتضمن لمعنى الفعل لجواز تقديم إحدى الحالين عليه ، وذلك لا يكون فى غيره ، وإذا كان المجرور ب» من» بعد أفعل التفضيل لا يجوز تقديمه عليه إلا فى شذوذ أو ندور فلان يمنع تقديم الحال عليه أولى
ولا تختص هذه المسألة بكون أفعل التفضيل يقع خبرا للمبتدأ ، بل قد يقع صفة وحالا ، نحو: مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون ومررت بزيد أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون.
ولا يجوز تأخير المنصوبين على الحال عن أفعل التفضيل ولا تقديمهما عليه ، لا يقال: ثمر هذه النخلة أطيب منه بسرا رطبا ، ولا: ثمر هذه النخلة بسرا منه رطبا أطيب ، ولم يسمع ذلك من كلام العرب.
وعلل الزجاج ذلك بأنهم ارادو أن يفصلو بين المفضل والمفضل عليه لئلا يقع الإلباس ولا يعلم أيهما المفضل ، فلذلك قدم عنده المفضل ، واخر المفضل عليه.
وعلل ابو على الدينورى عدم تأخير العرب للحالين بأن المعنى: طيب هذا بسرا يزيد على طيبه رطبا ، وهو صلة للمصدر ،وصلة المصدر لا يحال بينها وبينه بما ليس من الصلة ، فكما لا يجوز عنده: طيب ها يزيد على طيبه رطبا بسرا ، لما
يلزم فيه من الفصل - كذلك لم يجز عنده: هذا أطيب منه رطبا بسرا ، حملا له على ما هو فى معناه.
قال بعض أصحابنا: وهذا التعليل فاسد ، لانه إذا عامل «أطيب منه» معاملة «طيبة يزيد على طيبه» من حيث كانت أفعل الى للمفاضلة تتضمن معنى المصدر والفعل لزمه ألا يقدم بسرا على أطيب كما لا يقدمه على المصدر الذى هو طيبه ،
وقوله غالبا أن الغالب اغتفال توسيط أفعل التفضيل بين حالين أن لنا صورة لا يتوسط ، فيحتمل أن تتقدم الحالان على أفعل التفضيل ، ويحتمل أن تتأخرا عنه ، وقد ذكروا أن كلتا هاتين الصورتين لم تسمعا من لسان العرب.
إلا ان بعض أصحابنا أجاز تأخير الحالين عن أفعل التفضيل على شرط أن تلى أفعل التفضيل الحالة الاولى مفصولا بها بينه وبين المفضل عليه ، وتلى الثانية المفضل عليه ، فتقول: هذا اطيب بسرا منه رطبا ، وزيد اشجع اعزل من بكر ذا سلاح ، فتقع الحال الاولى فاصلة بين المفضل والمفضل عليه إذ لا يكون بعدمن إلا المفضول ، ولا يحتاج ذلك الى إضمار «إذ كان» ولا «إذا كان» لانه من الضرورة تدعو الى ذلك ، وهذا الذى ذهب اليه هذا الذاهب حسن فى القياس ، ويحتاج هذا التركيب الى سماع من العرب.
وقوله وقد يفعل ذلك بذى التشبيه قال المصنف فى الشرح: وقد يتوسط هذا النوع بين حالين فيعمل فى إحداهما متأخرة وفى الاخرة متقدمة كقول الشاعر:
أنا فذا كهم جميعا ، فإن أمـ
…
ـدد أبدهم ، ولات حين بقاء
وقال أخر:
تعيرنا أننا عالة
…
ونحن صعاليك أنتم ملوكا
أراد: ونحن فى حال تصعلكنا مثلكم فى حال ملككم ، فحذف مثلا ، واقام المضاف إليه مقامه مضمنا معناه واعمله بما فيه من معنى التشبيه» انتهى كلامه.
وفيه مناقشتان:
إحداهما: قوله: وقد يفعل ذلك. فدل على انه يقع ذلك قليلا ، وهذا التركيب الذى ذكره لا يمكن فيه إلا ذلك ولا يجوز تقديمهمها ولا تأخيرهما ، فما كان هكذا لا يقال فيه «وقد» لأنه يشعر بالقلة وأن الكثير غيره ،وذلك الذى يظن أنه كثير لا يقع البته ، لا يجوز: زيد فقيرا غنيا مثلك ، ولا: زيد مثلك فقيرا غنيا.
والمناقشة الثانية: انه أشار بقوله ذلك من قوله وقد يفعل ذلك الى اغتفتار التوسط فى أفغل التفضيل ، وقيده فى أفعل التفضيل بفوله غالبا ، وهنا لا يمكن تقييد ذلك بقوله غالبا لامرين:
احدهما: أن غالبا يدافع قوله وقد يفعل. لان الغلبة مشعرة بالكثرة ، وقد يفعل مشعره بالقلة ، فتدافعا
والامر الاخر: انه قد أمكن إبراز صورة ما فى أفغل التفضيل على ما جوزه بعض أصحابنا مخالفة للغالب ، وهى: هذا أطيب بسر منه رطبا ، وهنا لا يمكن ذلك البته ، لان اداة التشبيه لا يمكن أن يفصل بينهما وبين مجرورها بحال.
وما ذهب إليه المصنف من أن اداة التشبيه تعمل فى حالين تتقدم إحدامها عليها. وكذلك الضمير لقيامه مقام الاداة - لا يصح لانها ليست كأفعل التفضيل ، لان من قال بإعمال أفعل التفضيل فى حالين وتوسطه بينهما لانه ناب مناب عاملين ، واداة التشبيه ليست كذلك ، ولان تقديم الحال على أداة التشبيه غير جائز ، ولأن اعمال الضمير لا يجوز ، فالصحيح أن ينتصب «فذا» و «صعاليك» على إضمار: إذا كان ، كأنه قال: أنا إذا كنت فذا كهم جميعا ، ونحن إذا كنا صعاليك فلا تعمل أداة التشبيه ولا الضمير.
وقوله فأن كان الجامد ظرفا أو حرف جر مسبوقا بمخبر عنه جاز على الاصح توسيط الحال بقوة أن كان ظرفا او حرف جر ، وبضعف إن كانت غير ذلك يعنى إذا جعلت «عند هند» حالا و «في بستانها» خبرا ، و «زيد في بستان هند معها» إذا جعلت «في بستان هند» حالا و «معها» خبرا وكذلك إذا كان الخبر والحال ظرفين ، أو كانا حرفى جر ، ومثال كونها غير ظرف ولا حرف جر ، زيد متكئا فى الدار.
واحترز بقوله «مسبوقا بمخبر عنه» من كونه متأخرا عنه ، فإنه لا خلاف فى جواز توسيط الحال بين العامل الظرف أو حرف الجر وبين المخبر عنه المتأخر ، نحو: فى الدار عندك زيد. وفى الدار قائما زيد.
وقوله جاز على الاصح مذهب الاخفش فى احد قوليه والفراء انه يجوز توسط الحال بين المخبر عنه المقتدم والخبر الظرف أو المجرور سواء أكانت الحال ظرفا أم اسما صريحا نحو ما مثلنا ، ام جملة حالية بالواو نحو: زيد وماله كثير بالبصرة ، لانه فى تقدير: زيد إذ ماله كثير بالبصرة
وحجة الأخفش السماع ، فمن ذلك قوله تعالى (والسموات مطويات بيمينه) فى قراءة من نصب (مطويات) وقول النباغة الذبيانى:
رهط ابن كوز محقبى ادراعهم
…
فيهم ، ورهط ربيعة بن حذار
وقول الاخر
أبنو كليب فى الفخار كدارم
…
ام هل أبوك مدعدها كعقال
وقول الاخر
بنا عذا عوف ، وهو بادى ذلة
…
لديكم ، فلم يعدم ولاء ولا نصرا
وقول الاخر
ونحن منعنا البحر ان تشربوا به
…
وقد كان منكم ماؤه بمكان
وقول عباس:» نزلت هذه الآية ورسول الله متواريا بمكة» ذكره المصنف فى الشرح مستدلا به لمذهب الاخفش على عادته فى الاستدلال بالمأثور فى الحديث على إثبات القواعد الكلية النحوية.
وذهب الجمهور من البصريين إلى منع ما أجازة الاخفش فى بعض كتبه والفراء من تقديم الحال متوسطه بين المخبر عنه المتقدم والخبر إذا كان الخبر ظرفا او حرف جر سواء أكانت الحال اسما صريحا أم ظرفا أم حرف جر أم جملة حالية بواو أو بغير واو ، لان العامل ضعيف ، فلا يتقدم زيد فى الدار ، ولا: قائما فى الدار زيد بإجماع من البصريين ، هكذا قال بعضهم ، وسواء أكانت الحال لظاهر كما مثلنا ، أم لمضمر ، نحو: وقائما فى الدار أنت.
وذهب الكوفيون إلى جواز توسطها إذا كانت من مضمر مرفوع ، كما أجازوا ذلك فى التقديم على الجزأين إذا كانت من مضمر مرفوع ، فأجازوا فى نحو أنت فى الدار قأما أن تقول: فى الدار قائما انت ، وانت قائما فى الدار ، وقائما فى الدار انت ، وقائما انت فى الدار ، لانه لا يلزم من تقديمها على الرافع والمرفوع تقدم مضمر على ظاهر كما لزم ذلك إذ كانت من مرفوع ظاهر.
وقال أبو بكر بن طاره: لم يختلفوا - يعنى النحاة - فى امتناع: قائما فى الدار زيد. هكذا قال ، وليس بصحيح. فإن الاخفش أجاز فى قولهم:«فداء لك أبى وأمى» أن يكون فداء منصوبا على الحال ، والعامل فيه «لك» فهذا نظير: قائما على الدار زيد
وذهب ابن برهان إلى التفصيل بين أن تكون الحال ظرفا أو حرف جر ، فيصح تقديمها على العامل إذا كان ظرفا أو حرف جر ، ومنه قوله تعالى (هنالك الولية لله الحق)، قال:(هنالك) ظرف مكان ، وهي حال ،
و (الولية) مبتدأ ، و (لله) فى موضوع الخبر ، ولازم الجر عامل فى الحال مع تقدمها على اللام ، لان الحال بلفظ الظرف»
وهذا الذي ذكره ابن برهان يقتضى بجهة الاولى جواز التوسط ، لانه إذا أجاز ذلك مع التقدم على الجزأين فلأن يكون ذلك أجوز مع التوسط
واختار المصنف قولا مخالفا لهذه الاقوال ، وهو أنه إذا كانت الحال اسما صريحا ضعف التوسط ، وإذا كانت ظرفا أو مجرورا جاز التوسط.
فتلخص فى هذه المسألة أقوال: المنع مطلقا ، والجواز مطلقا ، والتفضيل بين أن تكون من مضمر مرفوع فيجوز ، أو غير ذلك فيضعف.
قال المصنف فى الشرح» ولا يضعف القياس على تقديم غير الصريحة لشبه الحال فيه بخير إن إذا كان ظرفا ، فكما استحسن القياس على» إن عندك زيدا مقيم» لكون الخبر فيه بلفظ الظرف الملغى ، ولتوسعهم فى الظروف بما لا يتوسع فى غيرها بمثله - كذا يستحسن القياس على:
....................... وقد كان منكم ماؤه بمكان
وغير الاخفش يمنع تقديم الحال الصريحة على العامل الظرفى مطلقا ، والصحيح جوازه محكوما بضعفه ، ولا يجرى مجرى العامل الظرفى غيره من العوامل المعنوية باتفاق لان فى العامل الظرفى ما ليس فى غيره من كون الفعل الذي
ضمن معناه فى حكم المنطوق به لصلاحتيه أن يجمع بيه وبين الظرف دون استقباح ، بخلاف غيره فإنه لازم التضمن غير صالح للجمع بينه وبين لفظ ما تضمن معناه ، فكان للعامل الظرفى بهذا مزية على غيره من العوامل المعنوية أو حبا له الاختصاص بجواز تقديم الحال عليه» انتهى.
وكان قد ذكر قبل أن توسيط الحال عند الاخفش صريحة كانت الحال أو بلفظ ظرف أو حرف جر جائز إذا كان العامل ظرفا أو حرف جر ، وقد ذكرنا نحن ان للاخفش فى ذلك قولين: الجواز والمنع.
والصحيح منع التوسط مطلقا وهو صححه أصحابنا ، وتأولوا ما ورد مما ظاهرة ذلك:
فخرجوا نصب (مطويات) على الحال من (السموات) ، و (السموات) هى العاملة فى الحال بنفسها لما فيها من معنى الفعل ، وهو السمو ،لا المجرور الذى فى موضع الخبر ، وذو الحال يجوز أن يعمل فى الحال إذا كان فيه معنى الفعل ، فقد أجاز النحويون أن يقال: هذا قائما زيد. على ان يكون» قائما» حالا من هذا ، وعمل فى قائم بما فيه من معنى الاشارة.
وخرجوا «محقبى ادراعهم» على انه منصوب على المدح و «مدعدعا» و «بادى ذله» منصوبان على الذم - والدعدعة: زجر الغنم - ويكون قد اعترض
بالجملة التي تدل على المدح بين المتبدا والخبر. وقطع النكرات إذا جاءت بعد المعارف على المدح أو الذم جائز ، ومن ذلك قوله:
طليق الله لم يمنن عليه
…
أبو داود وابن ابى كثير
ولا الحجاج عينى بنت ماء
…
تقلب طرفها حذر الصقور
وخرج ذلك ايضا على النصب بإضمار أعنى ، كأنه قيل أعنى مطويات. واعنى محقبى أدراعهم ، واعنى بادى ذلة
وأما إجازة الكوفيين: انت قائما فى الدار ، وقائما فى الدار انت ، وقائما انت فى الدار - فهو شئ قالو بالقياس ولم يصح سماعه من لسان العرب
وأما ما ذهب إليه ابن برهان من تخريج (هنالك الولية لله الحق) على ان (هنالك) ظرف منصوب على الحال فهو خلاف ما جامع الكوفيون والبصريون
وإجازة الكوفيين قائما فى الدار أنت إنما هو لانهم زعموا أن النصب على القطع ،وعمل فيها النصب عندهم الحديث والمحدث عنه كلاهما ،وهو مع ذلك لم يسمع من لسان العرب ، فهو تركيب فاسد.
وقوله ولا تلزم الحالية فى نحو: فيها زيد قائما فيها ، بل تترجح على الخبرية أى: نصب قائما على الحالية فى نحو: فيها زيد قائما فيها ، بل تترجح على الخبرية أى نصب قائما على الحالية أرجح من رفعه على الخبرية ، وذلك بتقدم «فيها» لأنه من حيث التقدم الاولى به أن يكون عمدة لا فضلة قال المصنف في
ولا يخلو أن تقدم الظرف أو المجرور على الاسم أو لا: أن قدمت ، نحو: فى الدار زيد قائم ، وأمامك عمرو جالس - فاختار س والكوفيون النصب فى قائم وجالس ،وإن لم تقدم فاختارو الرفع فى قائم وجالس ، نحو: زيد فى الدار قائم وعمرو أمامك جالس. وقال أبو العباس: التقديم والتأخير فى هذا واحد. وحكى ابن سلام فى» طبقات الشعراء» له أن عيسى كان يلحن النابغة فى قوله:
........................
…
............... فى أنيابها السم ناقع
ويقول: لا يجوز إلغاء الظرف مقدما لان التهمم به يناقض تقديمه ملغى
ولا ينبغى أن يلحن العربى ، وأيضا فقد سمع
........................ ...................... وعندى البر مكنوز
و:
..........................
…
عليه الودع منظوم
وجاء في كتاب الله تعالى (ولم يكن له كفوا أحد) فألغى (له) مع تقدمه ، فإذا نصبنا قائما تعين أن يكون (فى الدار) الخبر ، واذا رفعنا قائما جاز فى المجرور أن يكون فى موضع نصب متعلقا بقائم ، وجاز أن يكون خبرا ، ويكون مما اخبر فيه عن المبتدأ بخبرين على مذهب من يحيز ذلك
وقد منع بعضهم هذا الوجه ، قال: فإن قلت: ولم جعل س بيت النابغة و «فيها عبد الله قائم» على الإلغاء؟ وهلا جعله خبرا ، ويكون الاسم له خبران بمنزلة: هذا الحلو حامض.
قلت: لايجوز ذلك: لان الخبرين إنما جازا إذا كانا فى معنى خبر واحد. لما تقرر أنه لا يقضى الشئلا مما يطلبه اكثر من واحد ، ويكونان بمنزلة الشلئ الواحد ، فلا يجوز الفصل بينهما فلهذا جعله س على الإلغاء.
وقال المصنف فى الشرح:» فإن كرر الظرف أو حرف الجر جاز الوجهان أيضا ، وحكم برجحان النصب لنزول القرأن به ، كقوله تعالى (وأما الذين سعدوا
ففي الجنة خالدين فيها) وكقوله تعالى (فكان عقبتهما أنهما فى النار خالدين فيها) انتهى.
ولا فرق بين أن يتقدم الاسم على الظرف كالايتين ، او يتاخر نحو: فى الدار زيد قائما فيها ، أو قائم فيها
وقال المصنف فى الشرح: وادعى الكوفيون أن النصب مع التكرار لازم ، لأن القرأن نزل به لا بالرفع. وهذا لا يدل على أن الرفع لا يجوز ، بل يدل على أن النصب أجود منه ، فلو كرر الظرف والمخبر به لجاز الوجهان أيضا ، وحكم برجحان الرفع ، لنزول القرأن به فى قوله تعالى (وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون)» انتهى
وقال صاحب الانصاب ما ملخصه:» احتج الكوفيون بالسماع ، وهو إجماع القراء على النصب فى (ففى الجنة خالدين فيها) و (انهما فى النار خالدين فيها) وبالقياس ، وهو أن الفائة فى الظرف الثانى إنما تحصل مع النصب لا مع الرفع ، لانه فى النصب يكون الظرف الاول خبرا. والثانى ظرف للحال ، ويكون الصلة لقائم منقطعا عما قبله ، ويكون كلاما مستقيما لم يلغ منه شئ. وفى الرفع بطلت فائدته فى الثانية لنيابة الاولى عناه فى الفائدة. وحمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة
واحتج البصريون بأن الاجماع قد رفع على جواز الرفع والنصب إذا لم يكرر ، فكذللك إذا كرر.
وما ذكروه من اجماع القراء على النصب ليس بصحيح ، بل قرأ الاعمش (ففى الجنة خالدون فيها) ، وقرئ (أنهما فى النار خالدان فيها) وعلى تقدير إجماعهم على النصب لا يدل ذلك على أنه لا يجوز الرفع ، ألا ترى إجماع القراء على لغة الحجاز فى (ما) فى نصب الخبر ، ولا يبطل ذلك لغة تميم ، بل هي المشهورة المقيسة.
وأما أن التكرار مع الرفع يفيد ما أفادت الأولى فلا يصلح أن يكون ذلك مانعا ، لانه تكرر على طريق التأكيد ، والتأكيد فى كلام العرب شائغ ، وهذا كقولهم: فيك زيد راغب فيك. ومع هذا التأكيد لا تمتنع صحة المسألة» انتهى.
وقد وافق الكوفيين ابن الطرواه ، فقال «لا يجوز: فى الدار زيد قائم فيها ، بالرفع ، إذ لا يكون لأحد الجارين متعلق ، إذ لا يتعلقان بقائم ، ولا يتصور التوكيد ، إذ لا يؤكد الظاهر بالمضمر ، ولا المضمر بالظاهر. إذ ليس من لفظه فإن أظهرت الضمير ، فقلت: فى الدار زيد قائم فى ادار - جاز على التأكيد اللفظى» انتهى.
وما قاله غير لازم. لان الظاهر هنا هو المضمر فى المعنى وإن كان بغير لفظة ك «مررت به أنت» ويحتمل أن يكون «في الدار» خبر مقدما. وقائم خبر ثان
و «فيها» متعلق بقائم ، فلا يلزم ما قال من أنه لايكون لأحد الجارين متعلق ، فلا مانع من جاوز الرفع
وقد احتج بعضهم لجواز التكرار على سبيل التأكيد بقوله تعالى (وهم بالاخرة هم كافرون) ، فكرر (هم) للتاكيد ، فكذلك الظرف. وفرق بين «في الدار» وبين «هم» إذ لا يتعلق «هم» بشيء ، بخلاف الظرف.
وإن يختلف الظرف فهو يجرى هذا المجرى ، تقول: زيد فى الدار جالس فى صدرها ، وجالسا فى صدرها. وزيد فى الدار راغب فى شرائها ،وراغبها فى شرائها ، فحكم المختلف حكم المكرر. وقال الشاعر:
والزعفران على ترائبها
…
شرقا به اللبات والنحر
ويحيز الفراء فى هذا النوع إلا النصب ، ويجعل اللبات والنحر كأن معمها عائدا على الترائب
ويقتضي مذهب الكوفيين جواز الرفع والنصب فى هذه المسألة وهو إذا اختلف الظرفان ، لانه لا يؤدى إلى إلغاء أحدهما ،فلا يكون توكيدا.
وتخلص من هذه المسائل أن الظرف إذا تكرر بلفظه أو بضميره أو اختلف جاز فى الاسم الرفع والنصب عن البصريين ، واذا كرر بلفظه أو بضميره أو اختلف لم يجز عند الفراء إلا النصب ، وقياس مذهب الكوفيين جواز الرفع والنصب.
قوله وتلتزم هى فى نحو: فيك زيد راغب اى: تلتزم الخبرية. ولا تجوز الحالية. وقال المصنف فى الشرح: «فإن كان ما تضمن الكلام من ظرف أو حرف جر غير مستغنى به تعين جعل المخيل للحالية والخبرية خبرا مع التكرر ودونه. نحو: فيك زيد راغب ، وفيك زيد راغب فيك. وأجاز الكوفيون نصب راغب وشهه على الحال ، وانشدوا:
فلا تلحنى فيها ، فأن بحبها
…
أخاك مصاب القلب جما بلابله
والرواية المشهورة: مصاب القلب جم ، بالرفع ، على أنا لا نمنع رواية النصب ، بل نجوزها على أن يكون التقدير: فإن بحبها أخاك شغف أو فتن مصاب القلب ، فإن ذكر الباء داخلة على الحب يدل على معنى شغف أو فتن ، كما أن ذكر (فى) داخلة على زمان أو مكان يدل على معنى استقر ، وليس كذلك ذكر (فى) داخلة على الكاف فى قولهم: فيك زيد راغب ونحوه» انتهى.
وقوله خلافا للكوفيين فى المسألين أى: انهم يوجبون النصب فى: فيها زيد قائما فيها ، ويجيزونه فى: فيك زيد راغب.
وإذا اجتمع ظرفان تام وناقص ، فبدأت بالتام فقلت: إن عبدالله فى الدار بك واثقا ، وإن فى الدار عبدالله بك واثقا ، جاز الرفع والنصب
وزعم ابن سعدان أن هذا لا يجوز: لان بك فى صلة واثق ، قال: ولا يجوز: إن فيك زيدا راغب.
وقال ابن كيسان: الرفع الاختيار ، لان الحال فى تقدير الأسماء ، وتمامها يجب ان يكون بعدها ، فلما قدمت بك وهو من تمامها اخترت إخراجها عن الحال لأن تجعلها خبرا ، وكذا إن عبدالله فى الدار عليك نازل ، وفيك راغب.
فإن قدمت الناقص فى أول الكلام ، فقت: ان فيك عبدالله فى الدار راغب ، أو ان فيك فى الدار عبدلله راغب ، أو: إن عبدالله فيك فى الدار راغب - جاز الرفع والنصب.
والكوفيون لا يجيزون النصب ، لانك حين بدأت بما هو تمام للخبر قبل الظرف التام صرت كأنك بدأت بالخبر ، اى كأنك قلت: ان عبدالله راغب فيك فى الدار.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لأن الظرف إنما هو تبيين عن موضع الفعل ، فكأنه فى تقدمه مؤخر.
وإذا اجتمعا بعد المبتدأ ، وتوسط بينهما اسم يجوز أن يكون خبرا، وقدمت التام ، وكان مع الناقص ذكر عائد على التام - اختير نصب الاسم المتوسط عند
الجمهور ، ووجب النصب عند الفراء ، ومثاله: زيد فى الدار مفتن بها ، فالجمهور يختارون انتصاب مفتنن لأن الظرف التام قد وقع موقع الخبر ، فانتصب مفتتنا على الحال ، ويجزيون رفعه ، إما على أن يكون مفتنن خبرا بعد خبر ، وإما» أن» يكون في الدار متعلقا ، بمفتتن
فإن قدمت التام على المبتدأ ، واخرت الناقص ، نحو: فى الدار زيد مفتتن بها - فالمسالة بحالها عند البصريين ، والكوفوين جميعا يوحبون النصب
فإن قدمت الناقص على العامل فيه وعلى التام ، وأخرت التام على المبتدأ ، نحو: زيد فيك راغب فى الدار ، فهى عند البصريين كالتى قبلها ، والكوفيون يوحبون الرفع.
فإن قدمت الظرفين جميعا على المبتدأ ، وبدأت بالناقص - فالبصريون على ما تقدم ، وذلك فى نحو: فيك راغبا فى الدار زيد ، وقياس قول الكوفيين إيجاب النصب ، وحكى النحاس عنهم إيجاب الرفع
فإن كان بدل الناقص مفعول للخبر ، فقدمت المبتدأ ثم الظرف التام ثم المفعول ، نحو: زيد فى الدار طعامك أكل - لم يجز عند البصريين إلا الرفع وأجاز الكسائى النصب ، هذا نقل ابن أصبغ. وقال أبو جعفر النحاس: أكثر النحويين يجيز الرفع والنصب. وقال ابن كيسان: لا يجوز عندى النصب. لان الظرف لاشتماله على الفعل تقديمه كتأخيره ، والمفعول إنما هو تمام الفعل كبعض حروفه ، فليس هو قبله مثله بعده
-[ص: فصل
يجوز اتحاد عامل الحال مع تعددها واتحاد صاحبها أو تعدده بجمع وتفريق ، ولا تكون لغير الأثرب إلا لمانع ، وإفرادها بعد» إما» ممنوع ، وبعد «لا» نادر.]-
ش: مثال ذلك: جاء زيد راكبا مسرعا. فزيد صاحب الحال ، وقد تعددت ، واتحد عاملها
وقال المصنف فى الشرح ما معناه:» أن للحال شبها بالخبر والنعت ، فكما جاز تعدد الاخبار والنعوت مع كون المخبر عنه والمنعوت واحدا جاز ذلك فى الحال»
ثم قال: «وزعم ابن عصفور أن فعلا واحدا لا ينصب أكثر من حال واحد لصحاب واحد قياسا على الظرف ، واستثنى الحال المنصوب بأفعل التفضيل ، فإنه يعمل فى حالين كما يعمل فى ظرفين» ثم ذكر علة عمل أفعل التفضيل فى حالين وظرفين ، واخذ المصنف يندد على ابن عصفور فى تمثيله جاء زيد ضاحكا مسرعا بقمت يوم الخميس يوم الجمعة ، فقال: «تنظيره هذا بذلك لا يليق بفضله ،، ولا يقبل من مثله ، لان وقوع قيام واحد فى يوم الخميس ويوم الجمعة محال ووقوع
مجيء واحد في حال ضحك وحال إسراع غير محال» ثم قال «ولكن المشرفى قد ينبو ، واللاحقى قد يكبو» انتهى.
وهذا الذى ذهب إليه ابن عصفور من امتناع تعدد الحال لذى حال واحدة واتحاد العامل ، نحو: جاء زيد راكبا ضاحكا - هو مذهب كثير من المحققين ، منهم أبو على الفارسى ، ذهبوا إلى أنه لا يقضى العامل أزيد من حال واحد من غير واسطة حرف لذى حال واحد مع اتحاد العامل ، فإذا جاء فى كلامهم مثل خرج زيد مسرعاه باكيا احتمل عندهم وجهين أحدهما أن باكيا صفة ل «مسرعا» الذي هو حل. والثانى أن باكيا حال من الضمير المستكن فى مسرعا. والعجب للمصنف وعدم إطلاعه على أن هذا مذهب الفارسى وكثر من محققى النحويين حتى ينسبه لابن عصفور وحدة ، ويوهم لفظه أنه مما انفرد به ابن عصفور.
وذهب أبو الفتح وجماعة إلى أنه يجوز أن يقضى العامل الواحد من الأحوال التى لذى حال واحد أزيد من حال واحدة من غير توسط حرف. ولم يختلفوا فى أن العامل إذا لم يكن أفعل التفضيل لا يقضى من ظروف الزمان ولا من ظروف المكان ولا من المصادر أزيد من شئ واحد إلا بحرف عطف ، ولا يجوز إسقاط الواو فى ذلك كما لا يجوز فى نحو: ضربت زيدا وعمرا ، واختلفوا فى الحال كما ذكرنا
وحجة من منع ان الحال مع عاملها شبيهة بالمفعول والفعل المتعدى إلى واحد وشبيه بالظرف ، وقد تقدم كيفية ذلك الشبه ، فكما أن المتعدي إلى
واحد لا يتعدى إلى اثنين بغير وساطة حرف فكذلك الحال وعاملها ، وكما ان الفعل لا يتعدى إلى ظرفين إلا بواسطة حرف العطف ، فكذلك الحال ، لانها فى تقدير: فى حال كذا ، ولو صرحخت العطف ، فتقول: فى حال كذا وفى حال كذا ، ولا يلزم من إمكان أحوال لذى حال واحد جواز نسبة تلك الاحوال إليه بغير حرف العطف ، كما لم يلزم ذلك فى نحو: مررت بزيد وبعمرو ، وإن كان المرور الواحد يمكن وقوعه بمتعلق كثير ، ومع ذلك لا يجوز: مررت بزيد بعمرو، فلا بد فيه من حرف العطف.
وإذ قد انجز الكلام إلى ان العالم إذا لم يكن أفعل التفضيل لا يقضى من ظروف الزمان ولا من ظروف المكان ولا من المصادر أزيد من شئ واحد إلا بحرف عطف. وأنهم لم يختلفو فى ذلك ، فهو نقل بعضهم ، وقد وقع خلاف فى مسألة الكتاب ، وهى قول س: وتقول: اعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين إعلاما: فذهب الفارسى إلى أن العلم اليقين منصوب بفعل مضمر يفسره أعلم ، اى فعلم العلم اليقين وإعلاما مصدر لاعلم ، وقد رد مذهب أبى على أبو الفتوح ابن فاخر العبدري
وذهب ابن الطرواة إلى ان أعلم تعدى ألى مصدرين: احدهما مبين. وهو العلم اليقين ، وهو عنده مصدر على غير المصدر، والاخر مؤكد ، وهو قوله إعلاما ، فنصبهما من وجهين مختلفين واختاره ابن عصفور.
وذعب بعضهم إلى ان العلم اليقين بدل من المفعولين ،قال: لان المفعولين اللذين أصلهما المبتدا والخبر هما المعلوم ، فأبدل منهما ، فكأنه قال المعلوم المتيقن.
والذى نختاره أن انتصاب العلم اليقين مفعولا به على السعة ، وإن كان اصله مصدرا مبينا فى الاصل فانتصب بأعلم على انه مفعول به إلى المصدر اتساعا.
وتقرير هذه المذاهب والاستدلال لها وعليها ليس هذا موضعه ، وإنما أردنا التنبيه على أن من النحاه من قال: يتعدى الفعل الى مصدرين إذا اختلفت جهتهما
وقوله أو تعدده بجمع وتفريف ولاتكون لغير الاقرب إلا لمانع عطف «أو تعدده» على قوله» واتحاد صاحبها» فيعنى أنه اتحد عامل الحال وتعدتت هى ، وتعدد صاحبها ، ومثال ذلك فيما اتفق إعرابه وتعددها بجمع: جاء زيد وعمرو مسرعين ، وضربت زيدا وعمرا مظلومين ، ومررت بزيد وسعد باكين. ومنه (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) و «هذه ناقة وفصيلها راتعين» فيمن جعل فصيلها معرفة ، وهى أفصح اللغتين ، ومن جعله نكره قال» راتعان» على النعت
ومثال تعددها فيما اختلف إعرابه: لقي زيد عمرا ضاحكين، وقال
الشاعر: /
تعلقت ليلى، وهي ذات مؤصد
…
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين، نرعى البهم، يا ليت أننا
…
إلى اليوم لو تكبر، ولم تكبر البهم
وقال الأخر:
وأشعث، قد نبهته عند رسله
…
مقيمين، بلوى شقه وتنائف
وقال الأخر:
متى ما تلقنى فردين ترجف
…
روانف أليتيك، وتستطارا
ومن فروع هذه المسألة اتفاق الكوفيين على إبطال: راكبين لقي زيد عمرا،
ولقي زيد راكبين عمرا، ولقي راكبين زيد عمرا. وكل هذا جائز على قياس البصريين لان العامل فعل متصرف.
ولا يجوز عند الكوفيين لقيت مسرعين زيدا ولا: مسرعين لقيت زيدا ويجوز عندهم: مسرعين لقيتك وراكبين لقيتنى ولا يجوز في قولهم: مر زيد مسرعين بسعد ولا: مسرعين مر زيد بسعد. ويجوز
عندهم: مسرعين مررت بك، ومررت مسرعين بك. ولا يجوز عند البصريين تقدر حال المخفوض ظاهر ولا مكنى.
وهذه المسائل منفصل تقدم الحال على ذي الحال وعلى عامله، ومذهب الكوفيين انه متى أدى تقديم الحال إلا تقدم مضمر على ذي الحال وهو اسم غائب، أو شركه اسم غائب -فان ذلك لا يجوز، ولا يجمع الحالان حتى يصلح انفراد كل وصف بالموصوف، فان اختلفا في هذا المعنى لم يجمعا.
وجاز الكسائى وهشام أن تجئ الحال مجموعه من مضاف ومضاف إليه، نحو «لقيت صاحبه الناقة طليحين» على أن طليحين حال الصاحب والناقة، إذا هما معنيان كلاهما
والمختار عندنا أن طليحين حال من الصاحب ومن المعطوف المحذوف،
التقدير: لقيت صاحب الناقة والناقة طليحين. وإنما لم يكن حالا من الصاحب والناقة المضاف إليه الصاحب لان المضاف اليه من تمام الأول وحال منه محل التنوين، ولم يقصد الإخبار عنه، إنما الإخبار عن المضاف، والحال خبر من الإخبار، فلذلك لما يكن طليحين حالا من المضاف والمضاف إليه، وهذه العلة هي المانعة من امتناع مجيء الحال من المخفوض الإضافة الذي ليس بفاعل ولا مفعول.
وان تعدد ذو الحال وتفرق الحالان فيحوز أن يلي كل حال صاحبه،
ويجوز أن يتأخرا عن صاحبيهما، فالأول نجو: لقيت مصعدا زيدا منحدرا، والثاني: لقيت زيدا مصعدا منحدرا، فيكون مصعدا حالا من زيد. ومنحدرا حالا من التاء في لقيت، فتلي الحال الأول ذا الحال الثاني، وتكون الحال الأخيرة لذي الحال الأول، وهذا هو الأول، لان فيه اتصال احد الحالين بصاحبه، وعاد ما فيه من
ضمير إلى أقرب المذكورين. واغتفر انفصال الثاني وعود ما فيه من ضمير إلى ابعد المذكورين إذ لا يستطاع غير ذالك مع ان اللبس مأمون حينئذ، ومن ذلك قول الشاعر:
وإنا سوف أدركنا المنايا
…
مقدره لما ومقدرينا
وقول الأخر:
عهدت سعاد ذات هوى معنى
…
فزدت، وعاد سلوانا هواها
ويتعين هذا أن خيف اللبس، فان امن اللبس جاز جعل الحال الأولى لأول الاسمين والثانية لثانيها، كما قال امرؤ القيس في إحدى الروايات:
خرجت بها امشي تجر وراءنا
…
على اثرينا ذيل مرط مرحل
وقال صاحب التمهيد «لو قلت لقيت زيدا مصعدا منحدرا لجاز، وهو من كلام العرب تجعل ما تقدم من الحالين للفاعل الذي هو متقدم، وما تأخر للمفعول، ولو جعلت الأخر للأول جاز ما لم يلبس، ولذلك منع بعضهم: أعطيت ضاحكا زيدا، إذا لما يكن ضاحكا للتاء، وأجاز: أعطيت يضحك زيدا، لارتفاع اللبس مع الفعل. وما ذكره صاحب التمهيد مخالف لما قررناه قبل.
وقال ابن السراج: «إذا أزلت الحال عن صاحبها، ولم تلاصقه، لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه، فان كان غير ذلك لم يجز»
وقال أبو العباس في نحو لقيته مصعدا منحدرا» إذا كان احد كما مصعدا والأخر منحدرا»
وكذلك قال في قولك: رأيت زيدا ماشيا راكبا: «إذا كان أحدكما ماشيا والأخر راكبا» . وليس هذا بمعارض لما ذهب إليه ابن السراج وقررناه قبل من اشتراط العلم أو عدم اللبس، لان أبا العباس إنما تعرض لجواز ذلك في اللسان، ولم يتعرض للوجه الذي يجوز ذلك عليه، فهو مسكوت عنه.
وفي البديع: «فان اختلفت حالاهما فلهما طريقان:
احدهما: أن تقرن كل حال بصاحبها، وتقرن حال الثاني منهما به، فتقول: لقي زيد عمرا منحدرا مصعدا، ومنحدرا: حال لعمرو، ومصعدا: لزيد، لأنك لو لزمت الرتبة إلى للفعل معها لو توف أحدا منهما حقه.
قال ابن السراج: إذا قلت رأيت زيدا مصعدا منحدرا تكون أنت المصعد وزيد المنحدر، فيكون مصعدا حالا للتاء. ومنحدرا حالا لزيد، وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز» انتهي.
وقد تجئ الحال مفرده من احد ما دل عليه ضمير التثنية أو الجمع لا من مجموع الضمير، نحو: زيد وهند خرجا طائفا بها، قال الشاعر يصف حمار وحش واتانا: /
صافا يطوف بها على قلل الصوى
…
وشتا كذلق الزج غير مقهد
وقوله: وإفرادها بعد إما ممنوع قال المصنف: «ويجب للحال إذا وقعت بعد إما أن تردف بالأخرى معادا معها إما، كقوله تعالى «انا هديناه البيل اما شاكرا وإما كفورا» ، وإفرادها بعد إما ممنوع في النثر والنظم» انتهي.
وما ذكره من انه يجب أن تردف بالأخر معادا معها «إما» ليس كما ذكر، بل قد ينوب عن إما «أو» فلا يتعين إذ ذاك الإتيان بإما، تقول: ايتنى إما راكبا أو ماشيا، وقد نص على ذلك النحويون، وقال الشاعر:
وقد شقني أن لا يزال يروعني
…
خيالك إما طارقا أو مغاديا
وقوله بعد «لا» نادر تقوله: جئتك لا رغبا ولا راهبا، فتكرر لا، وقد تفرد في الشعر قال:
قهرت العدا لا مستعينا بعصبه
…
ولكن بأنواع الخدائع والمكر
ص: ويضمر عاملها جوازا الحضور معناه أو تقدر ذكره في استفهام أو غيره، ووجوبا أن جربت مثلا، أو بينت ازدياد ثمن أو غيره شيئا فشيئا مقرونة بالفاء أو بثم أو نابت عن خبر، أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغيره.
ويجوز حذف الحال ما لم تنب عن غيرها، أو يتوقف المراد على ذكرها، وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافا لما منع.
ش: مثال ما حضر معناه قولك للراحل: رشدا مهديا، أي: تذهب، وللقادم: مبرورا مأجورا، أي: رجعت، وللمحدث: صادقا، أي: تقول، هذه مثل المصنف في الشرح. وذكر س هذه المثل، وذكر أيضا قولهم: مصاحبا معانا، أي: اذهب مصاحبا معانا، وتقول: متعرضا لعنن لم يعنه، أي: دنا من هذا الأمور متعرضا، تقول ذلك للرجل واقع أمرا وتعرض له.
وذكر س جواز الرفع في هذا، وهو على إضمار مبتدأ، أي: أنت، وذكر أن الرفع في هذه الأشياء في هذه الأشياء هو على أن الذي في نفسك ما أظهرت، وأراد بذلك ترجيح الرفع على النصب، وذلك انك إذا أضمرت المبتدأ، وبقى الخير _ كان هو إياه، فقويت دلالته عليه من كل جهة، بخلاف الفعل، فان الدلالة عليه من جهة الحال فقط لأنه غير ما بقى ولقوه الرفع احتاج ان يستدل على النصب، فقال:«وان شئت نصبت، حدثنا بذلك عن العرب عيسى ويونس وغيرهما»
وذكر كثره النصب في: راشدا مهديا، واعتل له بأنه صار بمنزله ما صار بدلا من
اللفظ بالفعل، أي: انه دخله معنى: رشدت راشدا، فصار بمنزله المنصوب على الفعل الذي لا يظهر، وان كان على معنى اذهب.
وهذا النوع ليس بموقوف على السماع، بل كل ما فهم معناه يجوز إضمار الفعل فيه، ويجتزأ عن الفعل بما يفهم الحال.
وقوله أو تقدم ذكره / في استفهام وغيره مثله المصنف بقوله «راكبا»
لمن قال: كيف جئت؟ وبلى مسرعا، لمن قال: لم تنطلق، فالناصب لراكبا جئت في الاستفهام المتقدم، ولمسرعا انطلقت في غير الاستفهام.
ومنه قوله تعالى «بن قدرين» ، أي: نجمعها قادرين، حذف لدلاله ما تقدم قبله من قوله «أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه» ،كذا قدره س.
وذهب الفراء ال أن (قادرين) مفعول بـ (يحسب)، دل عليه قوله (أيحسب)، كأنه قيل: يلي فليحسبنا قادرين على أن نسوى بنانه، أي: على أزيد من ذلك. وقيل: معناه: نقدر قادرين، فيكون من باب: قائما علم الله فأوقعه موقع الفعل.
ورد بأن الباب لابد فيه من مشاهده الحال، كما في: قائما وقد سار الركب، ولأنه بالواو والنون، ولا ينوب مناب الفعل إلا المفرد لأنه اقرب وأشبه بالمصدر. انتهي من البسيط.
وقوله وجوبا إن جرت مثلا مثاله: حظيين بنات صلفين كنات، أي: عرفتم. وإنما لم يجز إظهار العامل هنا لأنه مثل، والأمثال لا يجوز تغييرها عما وردت عليه، إلا ترى إلى قولهم: الكلاب على البقر، وقولهم: في كل واد بنو سعد، حيث لم يجز في الأول تقديم الخير، ولا في الثاني تقديم المبتدأ.
وقوله أو بينت ازدياد ثمن قال المصنف في الشرح: كقولك: بعته بدرهم فصاعدا، تريد: فذهب الثمن صاعدا».
وقوله أو غيره مثله المصنف في الشرح بقوله: «وتصدق بدينار فسافلا، تريد: فانحط المتصدق به سافلا» انتهي كلامه. ولم أر أحدا مثل في هذه المسألة بمثل: تصدق بدينار فسافلا، فان لم ينقل عن العرب فهو ممنوع لان حذف الفعل العامل في الحال وجوبا على خلاف الأصل.
وقال س: «أخذته يدرهم فصاعدا، وأخذته بدرهم فزائدا» ، وقدر س الناصب: فزاد الثمن صاعدا، أو فذهب صاعدا وهذا الكلام إنما يقال جوابا لمن قال: بكن اشتريت هذا المتاع؟ فأخير إن أدناه مشترى بدرهم، ما وعداه أكثر من درهم، فلذلك قال: فزاد الثمن، أي: ثمن ما عدا الذي هو بدرهم زاد على الدرهم صاعدا، أي: زيادة مبهمة على السائل».
ولا يجوز الجر في قوله: فصاعد، أو: ثم صاعد. قال س: «حذفوا الفعل لكثره استعمالهم إياه. ولأنهم امنوا أن يكون على الباء لو قلت أخذته بصاعد
كان قبيحا لأنه صفه، ولا تكون في موضع الاسم. يعنى يقوله «قبيحا»: ممتنعا، ويعنى يقوله «لأنه صفه» أي: للثمن لا للدرهم، ومعنى «ولا تكون في موضع الاسم» أي: لا يلي العوامل لكونه صفه، ولما لم يمكن في الخفض لان الصفة لا تلي العوامل، ولأنه كان يكون المعنى انه اشتراه مرتين لمعلوم وبمجهول لان الفاء مرتبه، ولم يمكن الرفع - لم يبق إلا النصب، فقويت الدلالة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ.
وقال ابن خروف: «وقد يجوز الجر بالفاء وثم على أقامه الصفحة مقام الموصوف» انتهي.
وظاهر كلام س منع العطف.
وهذا الذي قاله هذا المعترض فاسد من جهة اللفظ، كثير التكلف، غير مخلص من جهة المعنى، وذلك انه انتقد على س كونه قد عدل إلى الحذف، ثم عدل هو إلى حذف لا يجوز، وذلك انه قدر العامل في «بدرهم» مشترى، وترك الفعل الظاهر، وهو يكن أن يعمل فيه، وهو تكلف لا يجوز، فانه لم يقل احد من النحويين انك إذا قلت ضربته في الدار أن في الدار يعمل فيه كائن، لأنه تكلف لا يحتاج إليه، ثم اربي على س بالمجاز في ساعدا في إن أعاد الضمير على المثمن، وهو للثمن.
وأما من جهة المعنى فانه قدر المعنى بأنه أخذه في حالين: أحداهما كونه مشترى بدرهم، والأخرى كونه صاعدا ثمنه على الدرهم، وهذا لا يعطى كونه زائدا على الدرهم بأثمان شتى، بل يمكن إلا يزيد عليه إلا ربع درهم مثلا، فلفظه ليس بملخص للدلالة على هذا المعنى الذي قاله س فهما عن العرب، والذي قدره س مخلص للدلالة فانه قدره: فزاد صاعدا، أي: زاد وحاله البسوق بعد لم تقف، ف (س) أسعر بالمسألة من طرفيها اللفظي والمعنوي.
وفي البسيط: «وقد قيل: أن صاعدا هنا في موضع المصدر، كأنه قال: فصعد صعودا» قال: «وفاعل من ابنيه المصادر، كالفالج، وكقوله «ليس لوقعتها كاذبة» ، كما قال بعضهم في الهنيء: انه كالشهيق والصهيل» انتهي.
وقوله مقرونة بالفاء أو بثم هذا شرط في نصب هذه الحال أن تكون مصحوبة بالفاء أو بثم، ولم يبين المصنف أيهما أكثر في لسان / العرب، ونص س على أن الفاء أكثر من ثم، وقال س:«وثم بمنزله الفاء، تقول: ثم صاعدا، إلا أن الفاء أكثر في كلامهم» انتهي. قال بعض أصحابنا: إنما كان ذلك لان في ثم مهله، وليس المعنى عليها.
ونصوا على أن الواو لا تكون هنا، لا يجوز أن تقول: وصاعدا، لا بالنصب ولا بالجر، وامتنع ذلك لان الواو لا تعطى هذا المعنى من جعل الدرهم أدنى الثمن، إذ يحتمل «أخذته بدرهم وصاعدا» أي: وذهب صاعدا قبل أخذيه بالدرهم، أي: أخذته بربع درهم مثلا، ثم ذهب صاعدا إلى الدرهم، وهو إنما أراد أن يجعل الدرهم الأدنى. وعن هذا عبر س بقوله:«ولكنك أخبرت بأدنى الثمن، فجعلته أولا، ثم فروت شيئا بعد شيء الأثمان شتى، فالواو لم يرد فيها هذا المعنى، ولم تلزم الواو الشيئين أن يكون احدهما بعد الأخر» .
وقوله أو نابت عن خبر مثاله: ضربي زيدا قائما، وقد تقدم الكلام مشبعا على هذه المسألة في باب الابتداء.
وقوله أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ مثاله: أقائما وقد قعد الناس. وأقاعدا وقد سار الركب. وكذلك إذا أردت التوبيخ ولم تستفهم تقول: قاعدا قد علم الله وقد سار الركب. وتقول لمن لا يثبت على حال: أتميميا مره وقيسيا أخرى، أي: أتحول، ولمن يلهو وقرناؤه يجدون: ألاهيا وقد جد قرناوك. أي: أتثبت، وقال الشاعر:
أراك جمعت مسألة وحرصا
…
وعند الحق زحارا انانا
الانان: الأنين، والعامل فيه زحارا، لان زحر قريب المعنى من أن. وقوله وغيره أي غير توبيخ، مثاله: هنيئا مريئا، قال س:«وإنما نصبته لأنه ذكر خيرا أصابه إنسان فقلت هنيئا مريئا، كأنك قلت: ثبت له هنيئا مريئا، أو: هنأه ذلك هنيئا» ، فتكون حالا مؤكده، وقد تقدم الكلام على ذلك مشبعا في باب المصدر الواقع مفعولا مطلقا.
ومن غير التوبيخ مما عامله في الإنشاء مضمر قول الشاعر:
الحق عذابك بالقوم الذين طغوا
…
وعائذا بك أن يعلوا فيطعونى
أراد: وأعوذ بك عائذا، حذف الفعل وأقام الحال مقامه. وقول النابعة:
أتاركه تدللها قطام
…
وضنا بالتحية والسلام
وتقدم مذهب المبرد في: عائذا بك، وأقاعدا وقد سار الركب، ونحوهما، أنها مصادر جاءت على وزن فاعل.
فرع: إذا كان العامل معنويا - أي فيه معنى الفعل- كالظرف والمجرور واسم الإشارة ونحوه، فلا يجوز حذفه عاملا في الحال لضعفه في نفسه، فهم ذلك أو لم يفهم، لأنه إنما عمل بالنيابة عن الفعل لفظا أو معنى، والفرع لا يقوى قوه الأصل، ولأنه مجتمع فيه تجوزان، فيبعد المفهوم، احدهما تنزل العامل منزله الفعل، والثاني حذفه، فلا يجوز: الدار زيد قائما، تريد فيها قائما.
وأجاز المبرد ذلك في الظرف، لأنه حمل:
..................... ......................... وإذ ما مثلهم بشر على إن مثلهم منصوب على الحال، وان التقدير: وإذ ما في الدنيا بشر مثلهم.
وأباه الأكثرون، كما لا تتقدم الحال عليه لضعفه، إلا في نحو: ضربي زيدا قائما، وهي الحال إلى تنزلت الخبر عن المصدر، فهنا حذف المعنوي ونابت الحال عنه.
وقوله يجوز حذف الحال ما لم تنب عن غيرها يعنى الحال إلى ما سدت مسد الخير، وما لم تقع بدلا من اللفظ بالفعل، وتقدم ذكرهما.
وقوله أو يتوقف المراد على ذكرها مثاله «وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لعين» ، و «لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى» ، «ولا تمش في الأرض مرحا» ، «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا» ، «وإذا بطشتم بطشتم جبارين» ، «وهذا بعلى شيخا» ، و «هي رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن بيع الحيوان اثنين بواحد» ، أي: متفاضلا (9 (، وقال الشاعر (10):
[متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
…
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
وقول الأخر:
فجزيت خير جزاء ناقة واحد
…
ورجعت سالمة القرا بسلام
وقول الآخر:
عدوك من يرضيك مبطن إحنة
…
ومبدي دليل البغض مثل صديق
وقول الآخر:
إنما الميت من يعيش كئيبا
…
كاسفاً باله قليل الرخاء
وكذلك الحال التي لا يفهم المراد إلا بثبوتها المجاب بها استفهام، نحو: جئت راكباً، لمن قال: كيف جئت؟ ولا ينكر كون الحال يعرض لها ما لا يجيز حذفها، فتصير إذ ذاك كالعمد وإن كان أصلها فضلة، كما عرض ذلك للمجرور وللصفة في قوله تعالى (ولم يكن له كفواً أحد)، وفي قولك: ما في الدنيا رجل يبغضك، ولو حذفت (له) و ((يبغضك)) انتفت الفائدة.
وقوله وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافاً لمن منع قال المصنف في الشرح ما ملخصه: ((الأكثر أن العامل في الحال العامل في صاحبها؛ لأنهما كالصفة والموصوف، ولكنهما أيضاً كالمميز والمميز، والخبر والمخبر عنه، والعامل
]
في هذين يكون واحدا وغير واحد، فكذلك الحال، فالواحد: طاب زيد نفسا، وان زيدا قائم، وجاء زيد راكبا. والمختلف: لي عشرون درهما، وزيد منطلق، على مذهب س، «إن هذه أمتكم أمه واحده» ، فالعامل في «أمتكم» أن، وفي الحال اسم الإشارة».
قال: «وتقدم من كلام س ما يدل على أن صاحب الحال في:
لعزه موحشا طلل .................................................
هو المبتدأ لا الضمير المستكن في الخبر.
ومن ورود الحال والعامل / فيها غير العامل في صاحبها قوله:
ها بينا ذا صريح النصح، فأصغ له
…
وطع، فطاعة مهد نصحه رشد»
انتهي، يعنى أن قوله «غير عامل صاحبها» انه عامل في الحال النصب، ولا يكون عاملا في صاحبها، كاسم الإشارة في قوله «إن هذه آمتكم» هو أن، وليست عامله في (أمه واحده)، وكذلك انتصاب «بينا» بما في «ها» من معنى التنبيه، وليس عاملا في ذي الحال.
ويظهر من كلام س أن اسم الإشارة يعمل في الحال في نحو: هذا زيد منطلقا، وانك إذا أدخلت عليه أن، كان الخبر معمولا لان، وكانت الحال معمولة لاسم الإشارة، فقد عمل في الحال غير العامل في صاحبها.
وممن ذهب إلى أن العامل في الحال قد يكون اسم الإشارة كما ذهب إليه المصنف ابن عصفور.
وتقدم أن مذهب السهيلى أن الحروف سوى الكاف وكان لا تعمل في الأحوال ولا اسم الإشارة. ومذهب ابن أبى العافية ان حرف التنبيه لا يعمل في الحال. ومذهب الكوفيين في ان قولك هذا زيد منطلقا لم ينتصب منطلقا على الحال، وانه خبر التقريب.
والذي تختاره مذهب الأكثرين، وهو أن العامل في ذي. وأقول أن حرف التنبيه واسم الإشارة لا يعملان في الحال. ويكون العامل في منطلقا من نحو هذا زيد منطلقا محذوفا تدل عليه الجملة السابقة، وتقديره: انظر إليه منطلقا وفي كتاب س وما يدل على ذلك، وينبغي أن يرد إليه ما ظاهره خلاف هذا، وذلك أن الحال قيد للمحكوم عليه من فاعل أن مفعول حاله وقوع الفعل منه أو به أو حاله نسبه الحك على المبتدأ بالخبر أن كان جامدا، فلو جعلنا حرف التنبيه عاملا في الحال كنا قد أعملنا شيئا لم يثبت له قط عمل لا في اسم الإشارة ولا في زيد ولا في غيرهما، وزيد الخبر عن اسم الإشارة منصف بالانطلاق وملتبس به، سواء انتهيت أنت لانطلاقه أم لم تنتبه، ولو جعلنا اسم الإشارة عاملا في الحال كنا قد حكمنا على اسم الإشارة بأنه زيد في حاله الانطلاق، والمشار إليه بأنه زيد ثابتة له الزيدية سواء أكان المشار إليه منطلقا أم غير منطلق، وقد سوى س في كتابه بين قولك: هذا زيد منطلقا، وهو زيد معروفا، فكما لا يدعى ان «هو» عامل في الحال فكذلك لا يدعى أن اسم الإشارة عامل في
الحال، وقد قال س:«كأنه قال أثبته أو ألزمه معروفا» وقال في هذا زيد منطلقا: «فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا» . وإذا تقرر هذا فلا يجوز: ها منطلقا ذا زايد، ولا: هذا منطلقا زيد. فان ورد شيء من هذا في كلامهم اضمر له ناصب، ولا يكون انتصابه على الحال العامل فيها حرف التنبيه ولا اسم الإشارة.
وفي البسيط: «لا تعمل (ها) التنبيه لوجهين:
احدهما: أنها زيادة لا عمده، وإنما دخلت لإبهام الإشارة، إلا تراها لا تدخل على /خاص، فلا تقول: ها زيد، وما لا يكون عمده في الكلام فلا يكون العامل.
والثاني: أنها قد تحذف والعمل موجود، فتقول: من ذا قائما بالباب؟ وذلك الرجل ذاهباً».
*
…
* * *
-[ص: [فصل]
يؤكد بالحال ما نصبها من فعل أو اسم يشبهه، وتخالفها لفظا أكثر من توافقهما. ويؤكد بها أيضا في بيان يقين أو فخر أو تعظيم أو تصاغر أو تحقير أو وعيد خير جمله جزاها معرفتان جامدان جمودا محضا. وعاملها أحق أو نحوه مضمرا بعدهما، لا الخبر مؤولا بمسمى، خلافا للزجاج، ولا المبتدأ مضمنا تنبيها، خلافا لابن خروف.]-
ش: الحال أما أن تدل على معنى لا يفهم مما قبلها، وهي المبينة، أو تدل على معنى يفهم مما قبلها، وهي المؤكدة. وفي المؤكدة خلاف: ذهب الجمهور إلى إثباتها، وذهب الفراء والمبرد والسهيلى إلى إنكارها، قال الفراء:«الحال لا تكون إلا مبينة، ولا يدل عليها من قبلها ولا تخلو من تجدد فائدة عند ذكرها، كقولهم: عبد الله عندك قائما، ومحمد خلقك جالسا، لأنه ليس في عندك وخلقك دليل على جلوس ولا قيام» .
قال: «والمنصوب على القطع هو الذي يدل ما قبله عليه، ولا يفيد سواه، كقيلهم: عبد الله على الفرس راكبا، وسعد في الحمام عريانا، لا يغلف على «في الحمام» إلا الدلالة على العرى، وكذلك «على الفرس» لا يفيد غير الركوب، فانتصاب هذا وما يشبهه على القطع، وهو توكيد لما قبله، يجرى مجرى «سرت به سيرا» في أنهم ذكروا سيرا ليؤكدوا به سرت»
وزعم أيضاً أن القطع في موضعين آخرين يرجعان إلى معنى هذا ، فقال:«إذا قال القائل: قام زيد الظريف ، وبناؤه على أن زيداً لا يعرف إلا بالظريف - ففي الظريف مكنى من زيد ، لأنه مشبه بالصالة مع الموصول. فان كان زيد يعرف دون الظريف فلا ضمير في الظريف من زيد ، وهو مكرر عليه ، لأنه كان تقديره: قام زيد قام الظريف ، كما يقول القائل: نظرت إلى شيء بغل أو حمار ، كأنه انصرف عن الشيء إلي البغل والحمار» ، يعنى أنه أتى بعد الأول بأخر هو أكشف لمعناه وأبلغ لمقصده ، والأول قد حصل معناه ولم ينعت.
وقد رد مذهب الفراء من أن الحال لا تأتى مؤكده بقوله تعالى} ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون {، وبقول الشاعر:
طعناً زياداً في إسته وهو مدبر
…
وثوراً أبادته السيوف القواطع
فهاتان جملتان في موضع الحال بدليل دخول واو الحال عليهما ، وهما مؤكدتان للكلام الذي قبلهما ، فوجب أن يجعل عرياناً من قولك زيد في الحمام عرياناً حالاً ، وكذلك أمثاله من المنتصب على الحال ، لأن الحال قد ثبت أنها تكون مؤكده ، ولم يثبت النصب على القطع.
وأما «زيد قائم حقاً» وأمثاله فحق مصدر منصوب بفعل مضمر أتى به لتوكيد الكلام الذي قبله.
وقد يمكن أن يدعى في قوله} وأنتم معرضون {أنها حال مبينه ، لأن التولي قد يكون عن أعراض وعن غير أعراض ، ولو فرضنا أن التولي واٌلإعراض مترادفان أمكن أن يختلفا باختلاف متعلقيهما ، وقد قال ذلك المفسرون ، قال.
وأما «وهو مدبر» فيمكن أن يكون حالاً مبينه ، لأن الطعن في الاست لا يدل على أن المطعون مدبر عن القتال ، لأنه يمكن أن يجيئه الطعن ورائه في استه وهو مقبل على القتال وعلى أقرانه ، فجاء قوله «وهو مدبر» حالاً مبينه أنه كع عن القتال ، وولى دبره.
وقال السهيلي: «الحال التي يسمونها مؤكده للفعل ، وزعموا أن منها قوله تعالى} وأرسلنك للناس رسولاً {،} وهو الحق مصدقاً {، إنما تظن منهم ، ولا وجود للحال المؤكدة في كلام فصيح ولا تقول: ضربت زيداً مضرباً ، ولا: تكلم عمرو متكلماً ، لأن الفعل إنما يؤكد بفعل مثله أو بالمصدر الذي هو أصله ، وهو مضمن في لفظه ، وأما الحال فصفه للفاعل أو المفعول ، فكيف يؤكد الفعل بما هو صفه لغير؟ وأيضاً فان في الحال ضميراً فاعلاً ، فحكه حكم جمله من فعل وفاعل ،والشيء الواحد لا يؤكد بجمله ولا بما فيه زيادة على معنى الفعل ، بل في الفعل زيادة على معنى المصدر ، وهو المضي والاستقبال.
فأما} هو الحق مصدقاً {فمعناه ناطقاً بالتصديق لما بين يديه ، فناطقاً حال كسائر الأحوال ، والعامل فيه ما في الحق من معنى الفعل ، لأنه صفه مشتقه من حق يحق ، أي: ثب ، وقد يكون الشيء حقاً ولا يكون مصدقاً لغيره ولا مكذباً ، والقران حق ، وهو مع ذلك ناطق بتصديق ما سبق من الكتب المنزلة ، فصح النصب في مصدق كما صح في ناطق.
وأما} وأرسلنك للناس رسولاً {فلم يقل: وأرسلناك مرسلاً ، فيكون لهم حجه ، ألا تراه كيف قال} وكلم الله موسى تكليماً {، ولم يقل مكلماً ،} ونزلنه تنزيلاً {، ولم يقل منزلاً ، فهذا كله يدل على أن الفعل لا يؤكد بالحال ، فلا تقول: أرسل الله محمداً / مرسلاً ، وتقول: أرسله للناس رسولاً ، لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولاً ، قال تعالى} أرسلنا عليهم الريح العقيم {، فالريح مرسلة
وليست برسول ، وكذلك} أرسلنا عليهم حاصباً {،} فأرسلنا عليهم رجزاً {، فبين - تعالى - أنه عليه السلام ليس بعذاب أرسله ، بل أرسله رحمه مبلغاً لرسالته ، وحقيقة الرسول من جاءتك الرسالة والهداية على يديه أو على لسانه ، كما قال} على لسان داود وعيسى ابن مريم {، ومن هنا صار الرسول كالجامد ، ولم يكن مثل ضروب وقتول فيعمل عمل الفعل ،بل هو من باب الصبوب والحدور والهبوط وما يجري عليه الفعل ، أو هو طريق له ، ومن ثم قال س. (أريد أنت رسول إليه ، لا يجوز أزيداً وان كان ضميره مجروراً لأنه مجرور لا يتعلق بفعل لفظي)، ولو قلت: أزيد أنت مرسل إليه لنصبت زيداً لأنه بمنزله من يقول: أأنت أرسلت إليه ، وبمنزله: أزيداً مررت به؟ وإذا لاح الفرق بين رسول ومرسل بطل ما تعلقوا به من إثبات الحال المؤكدة ، وإنما هي أحوال وقع الفعل فيها ، ولم يؤكد بها ، وكذلك جميع ما تخيلوا أنه حال مؤكده للفعل ، إذا فحصت عنه لم تجده إلا كسائر الأحوال» انتهى.
وأما دليل الجمهور فيأتي في الكلام على ما ذكره المصنف.
وقوله وتخالفهما لفظاً أكثر من توافقهما مثال تخالفهما} قم وليتم مدبرين {،} ولا تعثوا في الأرض مفسدين {،} ويوم يبعث حياً} ،
{لا من من في الأرض كلهم جميعا} ،} فتبسم ضاحكاً من قولها {وقال لبيد:
وتضئ في وجه الظلام منيرة
…
كجمانه البحري سل نظامها
وقال أيضاً:
فعلوت مرتقياً على ذي هبوة
…
حرج إلى أعلامهن قتامها
وقال أخر:
فإني الليث مرهوباً حماه
…
وعيدي زاجر دون افتراسي
فمرهوباً حال مؤكده للخبر ، وهو العامل فيها بما تضمن من معنى التشبيه.
ومن ذلك ما مثل به س من قولهم: «هو رجل صدق معلوماً ذلك» ، أى: معلوماً صلاحه ، ورجل صدق بمعنى صالح ، فأجرى مجراه إذا قيل: هو صالح معلوماً صلاحه.
ومن هذا القبيل قول أميه بن أبى الصلت:
سلامك - ربنا - في كل وقت
…
بريئا ما تغنثك الذموم
معنى ما تغنثك: ما تلزق بك ، وبريئاً حال مؤكده لسلامك ، ومعناه: البراءة مما لا يليق بجلاله ، وهو العامل في الحال لأنه من المصادر المجعولة بدلاً من اللفظ بالفعل.
ومثال توافقهما لفظاً} وأرسلناك للناس رسولاً {،} وسخر لكم الليل والنهار والشمس / والقمر والنجوم مسخرات بأمره {، ومنه قول امرأة من العرب:
قم قائماً ، قم قائماً
…
صادفت عبداً نائماً
وقول الشاعر:
أصخ مصيخاً لمن أبدى نصيحته
…
والزم توقى خلط الجد باللعب
انتهى ما ذكره المصنف في الشرح من الحال المؤكدة ما نصبها من فعل أو شبهه.
وذكر غيره أن الحال المؤكدة لا تكون إلا غير منتقلة ، نحو قوله تعالى} وهو الحق مصدقاً {، يعنى القران ، قال: ألا ترى أن قوله} مصدقاً {حال مؤكده من
جهة أنه قد علم أن الحق إذا توارد مع حق أخر على الأخبار بأمر فلابد أن يكون أحدهما مصدقا للأخر لا محالة ، وقوله} وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه {، فتصديق القران واستقامة الصراط حالان مؤكدان ، إذ هما معلومان من الكلام الذي قبلهما ، وهما وصفان لازمان.
ومثل ذلك قول الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكله عينها
…
كذاك عتاق الطير شكلاً عيونا
ألا ترى أن شكله العين لازمه لها ، وأن قوله «شكلاً عيونها» مؤكد للكلام ، لأنه معلوم من قوله «كذاك عتاق الطير» أن عتاق الطير شكل العيون.
وزعم المصنف في الشرح أن من قبيل ما اختلف لفظهما قولك: هو أبوك عطوفاً ، وهو الحق بيناً ، قال:«لأن الأب والحق صالحان للعمل ، فلا حاجه إلي تكلف إضمار عامل بعدهما» .
ومثالهما في بيان يقين: هو زيد معلوماً ، وقال:
أنا ابن داره معروفاً بها نسبى
…
وهل بداره - يا للناس - من عار
كأنه قال: لا شك فيه.
وفى فخر: أنا فلان شجاعاً ، أو كريماً. وفى تعظيم: هو فلان جليلاً مهيباً.
وفى تصاغر: أنا عبدك فقيراً إلى عفوك. وفى تحقير: هو فلان مأخوذاً مقهوراً. وفى وعيد: أنا فلان متمكناً منك فاتق غضبى ، وقال الراجز:
أنا أبو المرقال عقا فظاً
…
لمن أعادى مسراً دلظا
قال المصنف في الشرح: «ولا تكون هذه الحال لهذه المعاني إلا بلفظ دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم. وأشرت بقولي (أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به) إلي قول س: (وذلك أن رجلاً من إخوانك ومعرفتك (لو) أراد أن يخبرك عن نفسه أو غيره بأمر ، فقال: أنا عبد الله منطلقاً ، أو: هو زيد منطلقاً - كان محالاً ، لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ، فلم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية ، لأن هو وأنا علامتان للمضمر ، وإنما يضمر إذا علم أنك قد عرفت من يعنى). ثم قال: «إلا إن رجلاً لو كان خلف / حائط أو في موضع تجهله فيه ، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك ، كان حسناً).
وقوله خبر جمله يعنى أن الخبر إذا اسند إلى المبتدأ كان مشعراً بشيء من هذه الأحوال ودليلاً على معانيها ، وأنه إنما قصد بذلك الخبر ونسبته إلي المبتدأ تيقن تلك الصفات في المبتدأ ، فجاءت هذه الأحوال بعد الخبر تأكيداً له لما تضمنه من الدلالة على تلك الأوصاف.
وقوله جزاها معرفتان لأن هذه الأحوال إنما تأتى تأكيدات لشيء قد استقر وعرف. قال في البسيط: «لأن التأكيد يكون للمعارف ، وهى تؤكد الخبر ، فيلزم كون الخبر معرفه ، فيلزم أيضاً كون المبتدأ معرفه ، ولأنها حال ، والحال لا تكون إلا من معرفه. وقد يجوز أن يكون الخبر نكره تغليباً لطرف الحال. والمبتدأ يكون ضميراً ، كقولك: هو زيدُ معروفاً ، وهو الحق بينا ، وأنا الأمير مفتخراً ، ويكون ظاهراً ، كقولك: زيد أبوك عطوفاً ، وأخوك زيد معروفاً ، والأول أقوى لشبهه بالمبهمات» .
وقوله جامدان جموداً محضاً احتراز من أن يكون شيء منهما ليس بجامد ، فانه إذ ذاك تكون الحال غير مؤكده ، إذ تكون معمولة لما يكون مشتقاً منهما أو في حكم المشتق.
وقوله وعاملها أحق أو نحوه مضمراً بعدهما فإذا كان المخبر عنه غير «أنا» قدر العامل أحقه أو أعرفه ، وان كان «أنا» قدر أحق أو أعرف أو أعرفني ، وقد قدر س في قولك هو زيد معروفاً العامل في معروفاً «أثبته أو ألزمه معروفاً» ، فجعل العامل في الحال غير المبتدأ وغير الخبر.
وإنما كان يقدر بعدهما العامل في الحال لأن الدال عليه هو الجملة السابقة ، فصار نظير: زيد قائم غير شك ، فكما لا يجوز أن يقدر العامل في «غير شك» إلا بعد تمام الجملة كذلك لا يجوز ذلك هنا.
وقوله لا الخبر مؤولا بمسمى ، خلافاً للزجاج وإنما رجح إضمار العامل في هذه الأحوال لأن ما قبلها لا يصلح أن يعمل في الحال ، لأن الاسم / العلم لا يصلح أن يعمل في الحال ، لأن لها شبهاً بالمفعول به ، فهي أقوى من الظرف وان كان لها به شبه ، فلم يقو الاسم الجامد الجمود المحض أن يعمل فيها.
وقوله ولا المبتدأ مضمناً تنبيهاً المضمر بما هو مضمر لا يمكن أن يعمل في شيء البتة ، حتى منع البصريون من أن يعمل في الجار والمجرور وان كان كنايه عما لو صرح به لجاز له العمل ، فلا يمكن أن يضمن معنى التنبيه ، وإنما ضمن معنى التنبيه الحروف لا الأسماء.
-[ص: فصل
تقع الحال جمله خبريه غير مفتتحه بدليل استقبال مضمنه ضمير صاحبها. ويغنى عنه في غير مؤكده ولا مصدره بمضارع مثبت عار من «قد» أو منفى ب «لا» أو «ما» أو بماضي اللفظ تال لـ «إلا» أو متلو بـ «أو» واو تسمى واو الحال وواو الابتداء ، وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور.]-
ش: احترز بقوله الخبرية من الجملة الطلبيه ، فان وقع ما يوهم ذلك تؤول ، نحو قول أبى الدرداء «وجدت الناس اخبر تقله» ، وتأويله أنه معمول لحال محذوفة ، أي: مقولاً فيهم عند رؤيتهم: اخبر تقله ، وقول الشماخ بصف حمراً:
فظلت بتموز كأن عيونها
…
إلى الشمس هل تدنو ركي نواكز
ركي: جمع ركية ، على حد تمر وتمره ، ونواكز: غائض ماؤها ، التقدير: ناظره هل تدنو.
وفى البسيط: «جوز الفراء وقوع الأمر ونحوه حالاً ، تقول: تركت عبد الله قم إلية ، وتركت عبد الله غفر الله له ، على تقدير الحال» .
ويدخل تحت قوله خبريه جمله الشرط. وفى البسيط: «تقع جمله الشرط حالاً ، نحو: افعل هذا ان جاء زيد ، فقيل: تلزم الواو. وقيل بغير لزومها ، وهو قول ابن جني» .
واحترز بقوله غير مفتتحه بدليل استقبال من الجملة المفتتحة بحرف تنفيس كالسين وسوف ، أو بلن ، لا يجوز: أمر بزيد سيقوم ، ولا: لن يقوم ، فتكون حالأ.
وترك المصنف قيداً آخر ، وهو ألا تكون الجملة تعجبيه ، فلا يجوز: مررت بزيد ما أحسنه! على الحال. وهذا القيد إنما هو على مذهب من يرى أن جمله التعجب خبريه.
والجملة الواقعة حالاً تقع ابتدائية ، نحو} قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو {، أو مصدره بان} وما أرسلا قبلك من المرسلي ألا أنهم ليأكلون {، أو بكأن} نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون {،
وقال زهير:
يلحن ، كأنهم يدا فتاه
…
ترجع في معاصمها الوشوم
وقال ربيعه بن مقروم:
فدارت رحانا بفرسانهم
…
فعادوا كأن لم يكونوا رميما
/ وقال امرؤ القيس:
فظللت في دمن الديار كأنني
…
نشوان باكرة صبوح مدام
أو بـ «لا» التبرئة ، نحو} والله يحكم لا معقب لحكمه {، وقال بعض طيء:
مَنْ جاد لا من يقفو جوده حمداً
…
وذو ندى من مذموم وإن مجداً
أو بـ «ما» قال عنترة:
فرأيتنا ما بيننا من حاجز
…
إلا المحن وحد أبيض مقصل
أو بمضارع مثبت عار من قد} ويمدهم في طغيانهم يعمهون {، أو مقرون ب «قد»} لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم {، أو منفى ب «لا»} ومالنا لا نؤمن بالله {، أو منفى ب «ما» ، نحو قوله:
عهدتك ما تصبو ، وفيك شبيبة فما لك الشيب صبا متيما وقوله:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً
…
أعد الحصى ، ما تنقضي عبراتي
أو بـ «لم» نحو} فانقلبوا بنعمه من الله وفضل لم يمسسهم سوء {،} ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً {، وقال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل
…
نزلن به حب الفنا لم يحطم
أو بماض تال لـ «إلا» } ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون {، أو متلو ب «أو» ، نحو قوله:
كن للخليل نصيراً جار أو عدلا
…
ولا تشح عليه جاد أو بخلا
قال س: «وتقول: لأضربنه ذهب أو مكث» . «أو» خاصة تحذف معها أداه الشرط دون أدوات العطف ، ولابد أن يكون الفعل ماضياً ، لأن الجواب لا يحذف إلا بشرط مضى الفعل. ولا يجوز أن تقع ثم أم. ولا يجوز: لأضربنه أذهب أو مكث ، ولا: لأضربنه يذهب أو يمكث ، ولا: سواء على ذهب أو مكث.
وقال أبو على في مسألة «لأضربنه ذهب أو مكث» : يجوز ظهور حرف الشرط لعدم البدل منه.
أو مخالف لذينك ، نحو} أو جاءوكم حصرت صدورهم {. انتهى ما لخصته من كلام المصنف فى الشرح في حصر موارد الجملة الحالية.
وقوله في غير مؤكده يعنى أن /77 ب الواو لا تغنى عن الضمير إذا كانت الجملة الحالية مؤكده ، نحو قولك: أبو بكر الخليفة قد علمه الناس ، وقال امرؤ القيس:
خالي ابن كبشه قد علمت مكانه
…
وأبو يزيد ، ورهطه أعمامي
وهو زيد لا شك فيه ، فلا يجوز هنا دخول الواو والاستغناء بها عن الضمير العائد من جمله الحال على ذي الحال ولا دخولها مع الضمير.
وقوله ولا مصدره بمضارع مثبت عار من قد يعنى أنه لا تغنى الواو عن الضمير فيما صدر بما ذكر ، لا يجوز: جاء زيد ويضحك عمرو.
وقوله /أو منفى ب «بلا» لا يجوز: جاء زيد ولا يضحك عمرو ، فتغنى الواو عن الضمير.
وقوله أو ب «ما» لا يجوز: جاء زيد وما يضحك عمرو.
وقوله أو بماضي اللفظ تال لـ «إلا» لا يجوز: ما جاء زيد إلا وضحك عمرو.
وقوله أو متلو ب «أو» لا يجوز: اضرب زيداً وذهب عمرو أو مكث.
وقوله واو تسمى واو الحال وواو الابتداء ارتفاع «واو» على أنه فاعل بقوله «وتغنى عنه» ، أى: وتغنى عن الضمير العائد من جمله الحال على ذي الحال في غير كذا واو.
ومعنى قوله تسمى واو الحال أنه لما دخلت على الجملة الواقعة حالاً سميت باسم ما صحبته. وسميت واو الابتداء باعتبار أنه قد تجئ بعدها الجملة الابتدائية.
وواو الحال أعم من واو الابتداء ، لأنها إذا خلت على الجملة غير الابتدائية تكون واو الحال ، ولا تكون واو الابتداء إلا بمجاز بعيد ، وقدرها س ب «إذ» .
وإنما وقعت الجملة في مثل «جاء زيد والشمس طالعه» حالاً ، وليست هيئه لزيد ، على تقدير: جاء زيد موافقاً طلوع الشمس.
وواو الحال هذه ليست عاطفة ، ولا أصلها العطف ، خلافاً لمن زعم من المتأخرين أنها عاطفة كواو رب ، قال: ويدل على ذلك أن (أو) لا يصح دخولها عليها ، قال تعالى} أو هم قائلون {، فلو قلت: أو وهم قائلون لم يجز ، فلو كانت خلاف العاطفة لم يمتنع ذلك فيها بحال ، فهي ، كواو رب ، لا يجوز دخول حرف العطف عليها.
وقوله وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور العاري من التصدير المذكور من الجمل الحالية المشتملة على ضمير هو الجملة الابتدائية ، والمصدرة ب «إن» ، وب «كأن» ، وب «لا» للتبرئة ، وب «ليس» ، والماضي وغير التالي ل «إلا» ، والمتلو ب «أو» ، فمثال الجملة الابتدائية} ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف {، ومثال إن قول الشاعر:
ما أعطياني ، ولا سألتهما
…
إلا واني لحاجزي كرمى
ومثال كأن: جاء زيد وكأنه أسد. ومثال «لا» للتبرئة قوله:
نصبت له وجهي ، ولا كن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
ومثال ليس {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه} . ومثال الماضي غير التالي إلا والمتلو ب «أو» قوله تعالى} كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم {.
-[ص: واجتماعهما في الاسمية والمصدرة ب «ليس» أكثر من انفراد الضمير.
وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة ، وقد تصحب الواو المضارع المثبت عارياً من «قد» ، والمنفى ب «لا» ، فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر. وثبوت «قد» قبل الماضي غير التالي ل «إلا» والمتلو ب «أو» أكثر من تركها إن وجد الضمير ، وانفراد الواو حينئذ أقل من انفراد «قد» ، وان عدم الضمير لزمتا.]-
ش: واجتماعهما أي: اجتماع الواو والضمير ، ومثال ذلك /} وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب {،} ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد {،} خرجوا من ديارهم وهم ألوف {،} لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون {،} لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون {،} ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {، (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن)، وقال الشاعر:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقال:
ليالي يدعوني الهوى ، فأجيبه
…
وأعين من أهوى إلي روان
وأنشد المصنف قول امرئ القيس:
نظرت إليها ، والنجوم كأنها
…
مصابيح رهبان ، تشب لقفال
فيما اجتمع فيه الواو والضمير ، وذلك وهم ، لأنه ليس في الجملة الحالية ضمير عائد على الفاعل في نظرت ، ولا على المجرور في إليها ، بل هذا البيت مما استغنى فيه بالواو عن الضمير.
ومثال اجتماعهما في المصدرة ب «ليس» قوله تعالى} ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه {، وقول الشاعر:
أعن سيء تنهى ، ولست بمنته
…
وتوصى بخير ، أنت عنه بمعزل
وقول الأخر:
وقد علمت سلمى ، وان كان بعلها
…
بأن الفتى يهذى ، وليس بفعال
وقوله:
صرفت الهوى عنهن من خشيه الردى
…
ولست بمقلي الخلا ولا قال
وقد تنفرد الواو في الجملة الاسمية وفى المصدرة ب «ليس» ، مثال ذلك فى الجملة الابتدائية قوله تعالى} وطائفة قد أهمتهم أنفسهم {،} ونحن عصبه {،} وان فريقاً من المؤمنين لكارهو {،) كنت نبياً وادم بين الماء والطين) ، وقال امرؤ القيس:
وقد أغتدي ، والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وقال:
بعثت إليها ، والنجوم طوالع
…
حذارا عليها أن تقوم فتسمعا
وقال:
له الويل أن أمسى ولا أم هاشم
…
قريب ، ولا البسباسة بنة يشكرا
وقال:
إذا ركبوا الخيل ، واستلاموا
…
تحرقت الأرض ، واليوم قر
/وقال طرفه:
أرق العين خيال لم يقر
…
طاف ، والركب بصحراء يسر
وقال عنترة:
يدعون: عنتر ، والرماح كأنها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم
ولا يقدر ضمير محذوف من هذه الجمل الواقعة أحوالا.
وذهب ابن جني في «سر الصناعة» إلى أنه لابد من تقدير الضمير الرابط مع الواو ، فإذا قلت جاء زيد والشمس طالعه فتقديره: والشمس طالعه وقت مجيئه ، ثم حذف الضمير ، ودلت الواو على ذلك.
ومثال انفراد الواو في المصدرة ب «ليس» قول الشاعر:
دهم الشتاء ، ولست أملك عده
…
والصبر في السبرات غير مطيع
وقول الآخر:
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
…
وليس صباي عن هواها بمنسل
وقوله أكثر من انفراد الضمير يعنى في الجملة الاسمية وفى المصدرة ب «ليس» ، أما في المصدرة ب «ليس» فنحو قول جرير:
إذا جرى فى كفه الرشاء
…
خلى القليب ليس فيه ماء
وقد ينوب الظاهر مناب الضمير في ليس ، قال جرير:
قتلت أباك بنو فقيم عنوه
…
إذا جر ، ليس على أبيك أزار
كأنه قال: ليس عليه إزار.
وأما انفراد الجملة الاسمية بالضمير ففي ذلك ثلاث مذاهب:
أحدها: مذهب الفراء ، وتبعه الزمخشري في أحد قوليه إلى أن ذلك نادر شاذ ، ولذلك زعم الزمخشرى في قول العرب «كلمته فوه إلى في» أنه نادر.
الثاني: مذهب الأخفش ، وهو أن الجملة إذا كان خبر المبتدأ فيها اسماً مشتقاً متقدماً فلا يجوز دخول الواو عليه ، فلا يجوز عنده: جاء زيد وحسن
وجهه ، تريد: ووجهه حسن ، لأنك لو أزلت الواو لا نتصب حسن ، فكنت تقول: مررت بزيد حسناً وجهه.
وهذا الذي قاله الأخفش ليس بلازم ، لأنك إما أن تقدر الحال اسماً مفرداً ، فتنصب كما ذكر ، أو جمله ابتدائية تقدم خبرها على المبتدأ فيها ، فترفعه على أنه خبر مقدم منوي به التأخير ، فكأن الواو دخلت على المبتدأ ، وقد سمع دخول الواو التي للحال على خبر المبتدأ ، قال:
وقد أغتدي ، ومعي القانصان
…
وكل بمربأه مقتفر
وقال: /
عهدي بها الحي الجميع وفيهم
…
عند التفرق ميسر وندام
والثالث: مذهب الجمهور ، وهو جواز انفراد الجملة الابتدائية بالضمير ، وهو فصيح كثير فى لسان العرب ، قال تعالى} اهبطوا بعضكم لبعض عدو {، وقال} ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسوده {، وروى س: كلمته فوه إلي في ، ورجع فلان عوده على بدئه ، وقال الشاعر:
حتى تركناهم لدى معرك
…
أرجلهم كالخشب الشائل
وقال الآخر:
وتشرب أساري القطا الكدر بعد ما
…
سرت قربا أحناؤها تتصلصل
وقال الآخر:
لهم لواء بكفي ماجد بطل
…
لا يقطع الخرق إلا طرفه سام
وقال الآخر:
راحوا بصائرهم على أكتافهم
…
وبصيرتي يعدو بها عتد وأي
وقال الآخر:
ثم راحوا ، عبق المسك بهم
…
يحلفون الأرض هداب الأرز
وقال الآخر:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه
…
مولى المخافة ، خلفها وأمامها
وقال الآخر
ظعنت أمامه قلبها بك هائم
…
فاعص الذي يغريك بالسلوان
وقال الآخر:
ما بال عينك دمعها لا يرقأ
…
وحشاك من خفقانه لا يهدأ
وقال الآخر:
أتاني المعلى عذره متبين
…
فمن يعزه للبغي فهو ظلوم
وقال الآخر:
الذئب يطرقها في الدهر واحده
…
وكل يوم تراني مديه بيدي
وقال الآخر:
نصف النهار الماء غامره
…
ورفيقه بالغيب ما يدرى
قال المصنف في الشرح: «وزعم الزمخشرى أن قولهم (كلمته فوه إلى في) نادر ، وهى من /المسائل التي حرفته عن الصواب ، وعجزت ناصره عن الجواب ، وقد تنبه في الكشاف ، فجعل قوله تعالى} بعضكم لبعضٍ عدو {في موضع نصب على الحال. وكذا فعل في} لا معقب لحكمه {، فقال: (جمله محلها النصب على
الحال ، كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة ، تريد حاسراً). هذا نصه في الكشاف».
وقد يجب انفراد الضمير ، ولا يجوز الإتيان بالواو معه ، وذلك في الجملة الابتدائية الواقعة حالاً إذا عطفت على حال ، وذلك كراهة اجتماع حرفي عطف ، نحو:«جاء زيد ماشياً أو هو راكب» ، لا يجوز: أو وهو راكب ، قال تعالى} فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون {.
وكذلك إذا وقعت الجملة الاسمية حالاً مؤكده لم يجز دخول الواو عليها ، نحو: هو الحق لا ريب فيه ، لا يجوز: ولا ريب فيه ، على الحال ، وقد تقدم ذكر هذه المسألة.
وفى البسيط: من قال بوجوبها لفظاً في فصيح الكلام قال: أنها قد تحذف إذا وليها حرف عطف كراهة اجتماع حرفي عطف ، وبعد (إلا)، كقولك: ما ضربت أحداً إلا عمرو خير منه ، لأن الاتصال يحصل بالا.
وقوله وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة أي: وقد تخلو من الواو والضمير ، قال المصنف في الشرح: «وحكي س الاستغناء عن الواو بنية
الضمير إذا كان معلوماً ، كقولك: مررت بالبر قفيز بدرهم ، أي: قفيز منه بدرهم. وجاز هذا كما جاز في الابتداء: السمن منوا بدرهم ، على تقدير: منوان منه بدرهم ، فلو قيل: بيع السمن منوان بدرهم ، على تقدير منه وجعل الجملة حالاً ، لجاز وحسن».
ولا يريد النحويون بقولهم عريت الجملة من ضمير إلا أنه لا يكون مظهراً ولا مقدراً ، وهذه المسألة مما فيه الضمير مقدر. فأما قول الحطيئة:
يا ليله قد بتها
…
بجدود نوم العين ساهر
فتخريجه على حذف الضمير ، أي: نوم العين منى ساهر ، أو تغنى الألف واللام في العين عن الضمير على رأى الكوفيين ، كأنه قال: نوم عيني ساهر وقال في البديع: «وفد جاءت بلا واو ولا ضمير ، قال:
ثم انتصبنا جبال الصفر معرضه
…
عن اليسار ، وعن أيماننا جدد
فـ (جبال الصفر معرضه): حال من (نا) في انتصبنا» انتهى. وتخريجه كتخريج بيت الحطيئة ، أي: عن اليسار منا ، أو: عن يسارنا ، ويدل عليه أيماننا.
وقوله وقد تصحب إلى قوله /مقدر مثاله ما حكاه الأصمعي عن بعض العرب: قمت وأصك عينه ، وقال:
علقتها عرضاً ، وأقتل قومها
…
زعماً ، ورب البيت ليس بمزعم
وقال:
بلين ، وتحسب آياتهـ
…
ـن عن فرط حولين رقاً محيلا
وقال:
فلما خشيت أظافيرة
…
نجوت ، وارهنهم مالكا
أنشدها المصنف في الشرح ، وقال فيه: «ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى} قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه {، و} إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله {، وقراءه غير نافع} ولا تسئل عن أصحاب الجحيم {، وقراءه ابن ذكوان} فاستقيما ولا تتبعان {بتخفيف النون. والتقدير: وأنا أصك ،
وأنا أقتل قومها ، وأنت تحسب آياتهن ، وأنا أرهنهم ، وهم يكفرون ، وهم يصدون ، وأنت لا تسأل ، وأنتما لا تتبعان».
ولم تدخل الواو على المضارع المنفى ب «لا» كما لم تدخل على مثبت ، ولم تدخل على مثبت لأنه واقع موقع الاسم ، والاسم إذا وقع حالاً لم تدخل الواو عليه ، ولا فرق بين الاسم في ذلك والمضارع ، إلا أنه يلزم تكرارها مع الاسم ، فتقول: جاء زيد زيد لا ضاحكاً ولا باكياً ، ولا يلزم ذلك مع المضارع ، قال الحطيئة:
توليت لا أسى على نائل امرئ
…
طوي كشحه دوني ، وقلت أواصره
وفى البسيط ما معناه: إن كان منفياً ب «لا» حسن ترك الواو ، فان كان المضارع منفياً فأما بلم أو لما ، أو ما ، أو إن:
إن كان منفياً بلم وليس في الجملة ضمير وجبت الواو ، نحو: جاء زيد ولم تطلع الشمس. وان كان فيها ضمير جاز أن يكتفي به ، وجاز أن يجتمع هو والواو.
وزعم ابن خروف أنه لابد فيها من الواو ، كان فيها ضمير أو لم يكن ، والمستعمل في لسان العرب خلاف ما زعم ، قال تعالى} فانقلبوا بنعمه من الله وفضل لم يمسسهم سوء {،} ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً {، وقال الشاعر:
كأن فتات العهن في كل منزل
…
نزلن به حب الفنا لم يحطم
وقال الآخر:
فأدرك لم يجهد ، ولم يثن شأوه
…
يمر كخذروف الوليد المثقب
وقال الآخر:
إذا يتقون بي الأسنة ، لم أخم
…
عنها ، ولو أنى تضايق مقدمي
وقال الآخر:
وأضرب القونس يوم الوغى
…
بالسيف ، لم يقصر به باعي
/ومن أفراد الضمير قول الآخر:
وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم
…
قرائب عمرو وسط نوح مسلب
وقول الآخر:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
…
للحرب دائرة على ابني ضمضم
وقول الآخر:
إن التي ناولتني فرددتها
…
قتلت ، قتلت ، فهاتها لم تقتل
أي: فهاتها غير ممزوجة بالماء ، يعنى الخمر.
ومن اجتماع الواو والضمير قوله تعالى} أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء {،} أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر {، وقال الشاعر:
سقط النصيف ، ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته ، واتقتنا باليد
وقال الآخر:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب ، وان كثرت في الأقاويل
وقال الأخر:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
…
ولم تكثر القتلى بها يوم سلت
وزعم ابن عصفور أن النفي ب «لم» نحو «قام زيد ولم يضحك» قليل جداً. وهذا السماع من القران وكلام العرب يرد عليه.
وان كان منفياً ب «لما» فقال المصنف في الشرح: «المنفى ب (لما) كالمنفى ب (لم) في القياس ، إلا أنى لم أجده مستعملاً إلا بالواو ، كقوله تعالى} ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم {، وكقول الشاعر:
بانت قطام ولما يحظ ذو مقه
…
منها بوصل ولا انجاز ميعاد»
انتهى. وقال:
فان كنت مأكولاً فكن خير أكل
…
وإلا فأدركني ولما أمزق
وقد وجدت مجيء لما بغير واو في الجملة الحالية في شعر بعض الفصحاء ، إلا أنه يغلب على ظني أنه مولد ، فلا يكون في ذلك حجه ، قال عبد الله بن محمد بن أبى عيينة:
أبعد بلائي عنده إذ وجدته
…
طريحاً كنصل السيف لما يركب
وقال أيضاً:
ففللت منه حده ، وتركته
…
كهدبه ثوب الخز لما يهدب
وقد أنشد بعض النحويين من شعر هذا الرجل مستدلاً به قوله:
هبيني - يا معذبتي - أسأت
…
وبالهجران قبلكم بدأت
/ وزعم ابن عصفور أن الأولى أن يكون النفي ب «لما» ، نحو: جاء زيد ولما يضحك. وعلل ذلك بأن «لما يفعل» نفى لقوله: قد فعل.
وإنما ادعى أن النفي ب «لما» أولى من النفي ب «لم» و «ما» لأن من مذهبه أن الماضي لا يقع حالاً إلا مع «قد» ظاهره أو مقدره ، ولذلك علل بأن «لما» نفى لـ «قد فعل» ، و «لما» تدل على نفى الفعل متصلاً بزمان الأخبار ، و «قد» تقرب الماضي من زمان الأخبار ، فلذلك قال «الأولى لما» حتى يكون النفي مناسباً للإثبات ، ويأتي الخلاف في وقوع الماضي بنفسه حالاً إن شاء الله.
وإن كان منفياً ب «ما» فتقول: جاء زيد وما يضحك، وجاء زيد ما يضحك، وجاء زيد وما تطلع الشمس.
وزعم ابن عصفور أن نفي المضارع ب «ما» قليل جداً. وذكر غيره نفيه ب «ما» و «لا» ولم يقل إن النفي ب «ما» قليل. والقياس يقتضي ألا يكون قليلاً جداً كما زعم ابن عصفور، لأن «ما» نفي للحال، فكما أن المضارع المثبت يقع حالاً كثيراً، فكذلك ينبغي أن يكون ما نفي ب «ما» .
وإن كان منفياً بإن، نحو:«جاء زيد إن يدري كيف الطريق» فلا أحفظه من لسان العرب، والقياس يقتضي جوازه، وكما جاز وقوع ذلك خبراً يجوز أن يقع حالاً، كما جاء:«حتى يظل أن يدري كم صلى» .
وقوله وثبوت «قد» إلى قوله إن وجد الضمير مثال اجتماع «قد» والضمير في الجملة المصدرة بالماضي المثبت غير التالي ل «إلا» ولا المتلو بـ «أو» قوله تعالى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} ، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} ، {وقد بلغني الكبر} ، {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} ، وقال امرؤ القيس:
أيقتلني وقد شغفت فؤادها
…
كماشغف المهنوءة الرجل الطالي
وقال زهير:
كأني وقد خلفت تسعين حجه
…
خلعت بها عن منكبي ردائيا
وقال علقمة:
تكلفني ليلى وقد شط وليها
…
وعادت عواد بيننا وخطوب
ومثال ترك «قد» ووجود الضمير قوله تعالى {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} على أحد التأويلات، وقوله {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا} في أحد التأويلين، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16]
وقالت العرب: ما تأتيني إلا قلت حقا، وما أتيتني إلا تكلمت بالجميل، وما نكلم إلا ضحك، وما جاء إلا أكرمته، فجميع هذه أحوال، وهي بلفظ الماضي ونص س على أن الفعل
بعد «إلا» لا يقع إلا حين يكون مؤولاً باسم، وهو في هذه المواضع مؤول باسم فاعل في موضع الحال. وقال امرؤ القيس:
له كفل كالدعص لبده الندى
…
إلى حارك مثل الغبيط المذاب
وقال:
درير كخذروف الوليد، أمره
…
تقلب كفيه بخيط موصل
وقال:
إذا قامتا تضوع المسك منهما
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقال:
فيا لك من ليل، كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وقال طرفة:
وكَرِّي، إذا نادى المضاف، محنبا
…
كسيد الغضى، نبهنتة، المتورد
وقال النابغة:
سبقت الرجال الباهشين إلى العلا
…
كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
وظاهر قول المصنف أن «قد» لا تدخل على الماضي التالي ل «إلا» ولا المتلو
ب «أو» . ومثال التالي ل «إلا» : ما جاء زيد إلا ضرب عمرا، فعلى هذا لا يجوز إلا قد ضرب عمرا. ومثال المتلو ب «أو» لأضربن زيدا ذهب إو مكث.
وعلة امتناع دخول قد على المتلو ب «أو» أن أصلة فعل شرط، وأصلة:
لأضربن زيدا إن ذهب أو مكث، أي: ذاهبا أو ماكثا، والمراد على كل، فكما أن «إن» الشرطية لا تدخل على الماضي المصحوب ب «قد» فكذلك لا تدخل علية إذا كان حالا مراعاة لأصلة، فلذلك منع النحويون وقوع المضارع هنا، فلا يجوز: لأضربنة يمكث أو يذهب؛ لأن الشرط إذا حذف جوابه لزم أن يكون الفعل ماضيا.
وهذا الذي ذكرناه من وقوع الماضي المثبت حالا فيه خلاف: فالذي في كتب أصحابنا المتأخرين، كابن عصفور، وأبى الحسن الأبذي، والجزولى أنة لابد من «قد» معه ظاهرة أو مقدرة.
وقال ابن أصبغ: لا يمتنع وقوع الماضي موقع الحال وإن لم يكن معه الواو ولا «قد» فى قول الجمهور. ومنعة أبو العباس المبرد.
وقال صاحب «اللباب» وقد تكلم على المسألة خلافا للكوفيين: «فإنهم يجيزون ذلك دون «قد» لا ظاهرة ولا مضمرة، قالوا: لأن أكثر ما فيها أنها غير موجودة في زمن الفعل وذلك لا يمتنع كما لا تمتنع الحال المقدرة».
وذكر بعض الناس أن وقوع الماضي حالا بغير «قد» ولا الواو مذهب الأخفش.
وذكر بعضهم أن الفراء والمبرد يقولان بتقدير «قد» قبل الماضي الواقع حالا، وهو قول أبى على، ذكر ذلك في «الإيضاح» و «الإغفال» .
والصحيح جواز ذلك لكثرة ما ورد منة بغير «قد» ، وتأويل الشيء الكثير ضعيف جدا؛ لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على وجود الكثرة.
وكان ينبغي للمصنف أن يستثنى من الماضي الفعل / الجامد، نحو ليس، فإنه لا تدخل علية «قد» كما لا تدخل على المتلو ب «أو» .
وقولة وانفراد الواو حينئذ أقل من إنفراد قد أي: حين إذ وجد الضمير، ومثالة
{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} ، {الذين قالوا
لإخوانهم وقعدوا}، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} ، {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} قال {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} ، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]
، وقال الشاعر:
أراهن لا يحببن من قل ما لة
…
ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ومثال انفراد «قد» » مع وجود الضمير قول الشاعر:
أتيناكم قد عمكم حذر العدا
…
فنلتم أمنا، ولم تعدموا نصرا
وقول الأخر:
وقفت بربع الدار قد غير البلى
…
معارفها والساريات الهواطل
وقوله وإن عدم الضمير لزمتا أي: الواو ««قد» »، قال امرؤ القيس: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
…
............................
وقال النابغة:
فلو كانت غداة البين منت
…
وقد رفعوا الخدور على الخيام
وقال علقمة:
فجالدتهم حتى أتقوك بكبشهم
…
وقد حان من شمس النهار غروب
قال المصنف: «وكقوله:
أيقتلني وقد شغفت فؤادها
…
كما شغف المهنوءة الرجل الطالي»
وهذا من المصنف وهم، لأنه لم يعدم الضمير في قوله:«وقد شغفت فؤادها» ، فهي جملة حالية، وذو الحال هو ضمير النصف في يقتلني، كأنه قال: أيقتلني شاغفا فؤادها، وقد أنشده قبل على الصواب فيما اجتمع فيه الواو والضمير.
وهذا الذي ذكره المصنف إنما يكون في الفعل الماضي المثبت، فإن كان منفياً فنفيه ب ««ما» »، فإن عربت الجملة من الضمير فلا بد من الواو، نحو: جاء زيد وما طلعت الشمس، وإن كان فيها ضمير جازت الواو، تقول: جاء زيد وما درى كيف جاء، وجاء زيد ما درى كيف جاء.
مسألة: «زيد خلف هند ضاحكة» لا يجوز بإجماع، قاله بعض أصحابنا، لأنهلا يعمل الظرف في الحال إلا بالنيابة مناب الخبر، فلو قدرناه عاملاً في هند
كان عاملاً دون نيابة وذلك لا يجوز. ولو قلت «زيد خلف هند ضاحكا» جاز لأنه حال من الضمير في خلف، فهو يعمل بالنيابة.
وكذلك أجمعوا على أنه لا يجوز: «قام غلام هند ضاحكة» ، لأنه لا يعمل في الحال إلا معنى الفعل، إلا أن تريد بغلام هند خادم هند / فيجوز، كأنك قلت: يخدمها في هذه الحال، وكذلك «زيد خلف هند ضاحكة» يجوز إذا أردت يخلفها، فيكون عاملاً بما فيه من معنى الفعل، وأما إذا أخذته من طريق الظرفية فلا يكون عاملاً، لأن الظروف لا تعمل في الحال إلا من طريق النيابة، وهو هنا ليس عاملاً في هند بالنيابة، فلا يكون عاملاً في حالها.
-[ص: لا محل إعراب للجملة المفسرة، وهي الكاشفة حقيقة ما تلته مما يفتقر إلى ذلك، ولا للاعتراضية، وهي المفيدة تقوية بين جزأي صلة أو إسناد أو مجازاة أو نحو ذلك. ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها، وجواز اقترانها بالفاء و
…
««لن» » وحرف تنفيس، وكونها طلبيه. وقد تعترض جملتان، خلافاً لأبي علي.]-
ش: قال المصنف في الشرح: «لما انقضى الكلام على الجملة الحالية، وكان من الجمل جملتان تشبهانها وتغايرانها - وجب التنبيه عليها وعلى ما تتميزان به، فالجملتان هما المفسرة والاعتراضية، وكلتاهما لا موضع لها من الإعراب، فالمفسرة كقوله تعالي {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} بعد قوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} ،وكقول النابغة:
............
…
.............. يُكْوَى غيره، وهو راتع
في قولة:
لكلفتني ذنب امرئ، وتركته
…
كذي العر، يكوى غيره، وهو راتع
انتهى.
وفى الشرح المنسوب لأبي الفضل الصفار: ««لا تفسر الجملة إلا بمثلها، ولا المفرد إلا بمثله، فإن جاء خلاف ذلك لم يكثر، وذلك قوله تعالى «لا تفسر الجملة إلا بمثلها، ولا المفرد إلا بمثله، فان جاء خلاف ذلك لم يكثر، وذلك قوله تعالى
{كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ، فهذه الجملة مفسرة ل «آدم» ، وكذلك قوله {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ، ثم قال:{تؤمنون} انتهى.
وما ذهب إليه من أن جملة التفسير لا موضع لها من الإعراب هو المشهور فيها.
وذهب بعض النحويين إلى إنها على حسب ما كانت تفسيرا له، فإن كان له موضع من الإعراب كانت هي لها موضع من الإعراب على حسب ذلك المفسر؛ وإن لم يكن له موضع من الإعراب كان لا موضع لها من الإعراب، فمثال ما لها موضع من الإعراب قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، فقوله {لهم مغفرة} في موضع نصب لأنه تفسير للموعود به، ولو صرح بالموعود به لكان في موضع نصب، فهذه الجملة التفسيرية له في موضع نصب.
قال الأستاذ أبو علي: «قول النحويين (إن التفسير لا موضع له من الإعراب) ليس على ظاهرة مطلقة، والتحقيق في ذلك أن من التفسير ما يكون له موضع وما لا يكون له موضع، وذلك أنه على حسب ما يفسر، فإن كان المفسر قد فسر ما له موضع كان له موضع، وإلا فلا، مثال ذلك: زيدا ضربته، فضربته فسر عاملا في زيد، وذلك العامل لا موضع له لو ظهر فقال: ضربت زيدا، والمفسر أيضا مثله لا موضع له. وكذلك قوله تعالى {{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]
،/ للتفسير هنا موضع كما للمفسر؛ لأنه خبر إن».
وعلى هذا مسألة أبي على: زيد الخبز أكله، فآكله مفسر للعامل في الخبز، وله موضع لكونه خبرا عن زيد، فكذلك تفسيره. وبيان ذلك ظهور الرفع في المفسر، وهذا دليل قوي على ما تقدم. وكذلك مسألة الكتاب: إن زيدا تكرمه يكرمك، فتكرمه تفسير للعامل في زيد، وقد ظهر الجزم، وهذا بديع»» انتهى.
وقوله وهي المفيدة تقوية قال أصحابنا وهي التي تفيد تأكيدا وتسديدا للكلام الذي اعترضت بين أجزائه.
وقوله بين جزأي صلة قال المصنف في الشرح: ««والاعتراضية الواقعة بين موصول وصلة، كقول الشاعر:
ماذا - ولا عتب في المقدور- رمت أما
…
يحظيك بالنجح، أم خسر وتضليل
وكقول الآخر:
وتركي بلادي- والحوادث جمة -
…
طريدا، وقدما كنت غير مطرود
وكقول الآخر:
ذاك الذي - وأبيك - يعرف مالكا
…
والحق يدفع ترهات الباطل»»
انتهى. وهذا الذي ذكره في الشرح لا يصدق على الجملة الاعتراضية فيه أ، ها بين جزأي صلة:
أما البيت الأول فيحتمل أن تكون فيه ««ذا» » موصولة، فتكون قد وقعت بين موصول وصلته، فيكون موافقا لما في الشرح. ويحتمل أن تكون ««ماذا» » كلها استفهاماً في موضع نصب ب ««رمت» »، فلا تقع إذ ذاك بين موصول وصلته، إنما تقع بين مفعول وناصبه.
وأما البيت الثاني فوقعت فيه بين الحال وبين العامل فيها الذي هو تركي، فليست واقعة بن جزأي صلة ولا بين موصول وصلته، لأن طريداً ليس صلة ولا جزء صلة، إنما هو معمول لما هو مقدر بموصول وصلة، وهو تركي.
وأما البيت الثالث ففيه الفصل بين الموصول وصلته بالقسم، فليس في هذه الأبيات جملة اعتراض بين جزأي صلة كما ذكر في المتن.
ومثال ذلك بين جزأي صلة: أحب الذي جوده - والكرم زين - مبذول للناس.
وقوله أو إسناد مثاله قوله:
وقد أدركنني - والحوادث جمة -
…
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
وقوله أو مجازاة قال المصنف في الشرح: «كقوله تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا} انتهى. وهذا على قول من لم يجعل {فالله أولى / بهما} جواباً للشرط، وأكثر النحويين على هذا، فلا يكون إذ ذاك جملة اعتراض، ولذلك تكفوا الجواب في كون الضمير جاء مثنى في قوله {فالله أولى بهما}،إذ العطف ب «أو» يقتضى إفراد الضمير.
ومن الفصل بجملة الاعتراض بين الشرط وجزائه قول عنترة:
إما تريني قد نحلت، ومن يكن
…
غرضاً لأطراف الأسنة ينحل
فلرب أبلج مثل بعلك بادن
…
ضخم على ظهر الجواد مهبل
غادرته متعفراً أو صالة
…
والقوم بين مجرح ومجدل
وقوله أو نحو ذلك يعني نحو الشرط وجوابه مما وقعت الجملة الاعتراضية فاصلة بينهما، كالقسم وجوابه، كقوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]
،وقال الشاعر:
لعمري - وما عمري على بهين -
…
لقد نطقت بطلاً على الأقارع
وكالنعت والمنعوت، نحو قوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]
وبين الفعل ومفعوله، نحو قوله:
وبدلت - والدهر ذو تبدل -
…
هيفا دبوراً بالصبا والشمال
وبين كأن واسمها، قال:
كأن - وقد أتى حول جديد -
…
أثافيها حمامات مثول
وبين الفاعل ومفعوله، نحو قوله:
تعلم - ولو كاتمته الناس - أنني
…
عليك - ولم أظلم بذلك - عاتب
وبين الفعل والفاعل ومصدره، نحو قوله:
أويت - ولا كفران بالله - أية
…
لنفسي لو طالبت غير منيل
أي: رحمتها رحمة.
وبين المفعول الأول والثاني، نحو قوله:
أراني - ولا كفران بالله - أنني
…
أواخي من الأقوام كل بخيل
وبين إن وخبرها، نحو مسألة الكتاب:««إنه - المسكين - أحمق» »،أي: هو المسكين، وقوله:
إني - وأسطار سطرن سطرا -
…
لقائل: يا نصر نصراً نصراً
وبين المبتدأ والخبر، نحو قوله:
وفيهن - والأيام يعثرن بالفتى -
…
نوادب لا يمللنه ونوائح
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57]
وبين لعل واسمها وخبرها قوله:
لعلك - والموعود صدق لقاؤه -
…
بدا لك من تلك القلوص بداء
وبين الصفة والموصوف، نحو: مررت بزيد - والله - الكريم.
وفي البسيط: وقد سمع بين المضاف والمضاف إليه إذا كان ظاهر الانفصال بحسب اللفظ، من ذلك مسألة الكتاب:«لا أخا - فاعلم - لك» ، لقوله «فاعلم»
اعتراض بين المضاف والمضاف إليه، كذا الظاهر. وأجاز أبو علي أن يكون
…
«لك» خبراً، ويكون «أخا» اسما مقصوراً تاماً غير مضاف، كقولك: لا عصا لك.
وقوله ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها جمل الاعتراض التي سردناها لا يقوم مفرد مقامها، بخلاف جملة الحال، فإنها لا يمتنع أن يقوم مقامها مفرد وهذا الذي ذكره لا يكون فارقا إلا بين جملة الاعتراض وجملة الحال، وأما جملة التفسير فلا يكون فارقاً إلا على المذهب المشهور من أن جملة التفسير لا موضوع لها من الإعراب وأما على مذهب من قال: قد يكون منها ما له موضوع من الإعراب، فلو / جئت مكان الجملة بمفرد جاز - فلا يكون فارقا، وذلك كقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، لو كان في غير القرآن: لجاز: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة، كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]
وقوله وجواز اقترانها بالفاء و ««لن» » وحرف تنفيس قال المصنف في الشرح التمثيل بالفاء: «كقوله تعالى {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ، وكقول الشاعر:
ألا أبلغ بني بني ربيع
…
فأشرار البنين لهم فداء
بأني قد كبرت، وطال عمري
…
فلا تشغلهم عني النساء
وكقول الآخر:
واعلم - فعلم المرء ينفعه -
…
أن سوف يأتي كثل قدرا»»
انتهى. وتقدم ذكرنا الخلاف في {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أهو جواب الشرط أو جملة اعتراضية.
ومثال اقترانها ب ««لن» » قوله تعالى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا} .
ومثال حرف التنفيس قول زهير:
وما أدرى - وسوف، إخال، أدري -
…
أقوم آل حصن أم نساء
وتقدم كلامنا في المفتتح بحرف الاستقبال، وأن منه ما جاء يشهد ظاهره بوقوع مادخل عليه حرف التنفيس حالاً، فإن صح ذلك فلا يكون حرف التنفيس إذ ذاك فارقاً بين الجملة الحالية والجملة الاعتراضية.
وقوله وكونها طلبية مثاله قول الشاعر:
إن سليمي - والله يكلؤها -
…
ضنت بشئ، ما كان يرزؤها
«والله يكلؤها» دعاء. وجعل المصنف في الشرح من ذلك قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} ، قال:«هي معترضة بين {وَلا تُؤْمِنُوا}، و {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}» والخلاف فيها مذكور في كتب التفسير.
وقوله (ومن يغفر الذنوب الا الله) اعترضت بين (فاستغفروا)(لم يبصروا) ، وهما متعاطفان في صله الذين ، وليس هذه جمله طلبيه في الحقيقه ، انما هي استفهاميه في الصوره ، معناها الخبر ، أي: لايغفر الذنوب الا الله.
وقوله وقد تعترض جملتان ، خلافا لابي علي قال المصنف في الشرح: «وزعم ابو علي ان الاعتراض لايكون الا بجمله واحده ، وليس بصحيح ما زعم ، بل الاعتراض بجملتين كثير ، من ذلك قول زهير
لعمر ابيك والانباء تنمي وفي طول المعاشره التقالي
لقد باليت مظعن ام اوفي ولكن ام اوفي لاتبالي
/ ومنه قوله تعالي (وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فسئلوا هل الذكر ان كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر)، وقال الزمخشري في الكشاف: ان (ولو اناهل القري امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبو فاخذناهم بما كانوا يكسبون) اعتراض بي ن قوله (ثم بدلنا) الايه وبين قوله (أفأمن)». قال: «وهذا اعتراض بكلام تضمن سبع جمل» انتهى.
وتسمية ما تضمنه هذا الكلام سبع جمل فيه تسامح ، بل هي اربع جمل: جمله لو وجمله جوابها ، وجمله الاستدراك ، وجمله العطف عليها ، وهو نظر الي ان (لو) الي (امنوا) جمله ، (واتقوا) جمله ، (ولفتحنا) جمله ، و (لكن كذبوا) جمله ، (فأخذناهم) جمله ، (كانوا) جمله ، (يكسبون) جمله.
ولما كان المصنف قد تعرض للجمل التي لاموضع لها من الاعراب ، وذكر انهما جملتان - اشعر ذلك بأن ما سواهما له موضع من الاعراب، وليس كذلك ،
فأردنا حصر الجمل في هذا الذي نذكره ، وتبين ما هو منهاله موضع من الاعراب وما لا موضع له ، فنقول:
اصل الجمل هالا يكون لها موضع من الاعراب ،لان ماله موضع من الاعراب انما هو لوقوعه موقع المفرد ، والاصل في الجمل هان تكون مستقله ، لاتتقدر بمفرد. فتكون جزء كلام.
والجمله التي لاموضع لها من الاعراب تنحصر في اثني عشر قسما:
احدها: ان تقع ابتداء كلام لفظا ونيه ، نحو: زيد قائم ، وقام زيد ، أو نيه لا لفظا ، نحو راكبا جاء زيد. فأن انعكس هذا نحو (ابوه قائم زيد) كان لها موضع من العراب.
الثاني: ان تقع بعد ادوات الابتداء ، فتشمل الحروف المكفوفه ، «واذا» الفجائيه ، وهل ، وبل ، ولكن ، والا ، وأما ، وما غير الحجازيه ، وبينما ، وبينا.
الثالث: ان تقع بعد ادوات التحضيض.
الرابع: ان تقع بعد ادوات التعليق غير العامله ، نحو لولا ، ولو ، ولما على مذهب س.
الخامس: أن تقع جوابا لهذه الحروف
السادس: ان تقع صله لاسم او حرف
السابع: ان تقع اعتراضيه
الثامن: ان تقع تفسيريه علي المشهور
التاسع: ان تقع جوابا للقسم
العاشر: ان تقع توكيدا لما لا موضع له
الحادي عشر: ان تعطف علي ما لا موضع له
الثاني عشر: ان تكون جمله شرطيه حذف جوابها لتقد الدليل عليه نفسه ، او تقدم طالب الدليل عليه.
والجمله التي لها موضع من الاعراب تنقسم بأنقسام نوع الاعراب:
ففي موضع رفع بانفاق الواقعه خبرا للمبتدأ ، أو ل (لا) التي لنفي الجنس ،
ول (أن) واخواتها ، وصفه لموصوف مرفوع ، ومعطوفه علي مرفوع ، وبدلا من مرفوع.
وباختلاف الوقعه في موضع الفاعل ، وفي موضع مفعول لم يسم فاعله.
وفي موقع نصب باتفاق الوقعه خبرا لكان اخواتها ، وثانيا لظننت ، وثالثا لأعلمت ، خبرا ل (ما) الحجازيه ، ول (لا) اختها ، ومحكيه للقول ، ومعلقا عنها العامل ، ومعطوفه علي منصوب ، وصفه ، لمنصوب ، وحالا.
بأختلاف في الواقعه بعد مذ ومنذ: فذهب السيرافي الي انها في موضع
نصب علي الحال ، وذهب الجمهور الي انه لا موضع لها من الاعراب ، في الواقعه في الاستثناء بالفعل ، فقيل: لا موضع لها من الاعراب. وقيل: هي في موضع نصب
على الحال. وفي الجمله الوقعه استفهاما بعد ما يتعدي ال واحد ، وقد اخذ
مفعوله ، فانفقوا علي انها في موضع نصب ، واختلفوا: اهي في موضع بدل ، أو مفعول ثان علي التضمين ، او حال.
وفي موضع جر: فبأتفاق ان تكون مضاف اليها اسماء الزمان غير الشرطيه التي
لاتجزم ، او تقع صفه لمجرور ، او معطوفه علي مجرور، او ماهو في موضع جر.
باختلاف في الواقعه بعد ذو في قول العرب «اذهب بذي تسلم» ، فقيل: ذو موصوله ، فلا موضع للجمله ، وقيل ذو بمعني صاحب ، فهي في موضع جر.
في الموقعه بعد (ايه) بمعني علامه ، فقيل الجمله في موضع جر بالاضافه وقيل «ما» المصدريه محذوفه. وفي الواقعه ابتداء بعد حتي ، فالجمهور علي انها لا موضع لها من الاعراب ، وذهب الزجاج ابن درستويه الي انها في موضع جر ب حتي.
وفي موضع جزم الواقعه غير مجزومه. جوابا للشرط العامل ، أو عطفت علي مجزوم ، او علي ما موضعه جزم.
هذا الاقسام كلها مذكوره وهي وامثلتها وفي كتاب «ومنهج السالك في الكلام علي الفيه ابن مالك) من تصنيفنا.