الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المترجم
عزيزي القارئ،
(لبيك اللهم لبيك). كلمات يناجي بها المسلم ربه خلال فريضة الحج. اختار بن نبي هذه العبارة عنوانا لرواية كتبها بعجالة وبين سفرتين في غرفة فندق. وتم نشرها سنة 1947 م عن (دار النهضة) بالجزائر. لم يتسن لهذه الرواية أن يعاد نشرها إلا بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة بن نبي. تدور أحداث القصة في مدينة عنابة (بونة إبان الحقبة الاستعمارية)، حيث وضع بن نبي القارئ آنذاك وحتى اليوم في الأجواء التي كان يعيشها الإنسان الجزائري البسيط في كل مدينة جزائرية كعنابة، حيث مؤثرات النمط الأوربي قد طغت على الجو العام. فالعم محمد، والطفل هادي والسكير إبراهيم وزوجته، كانوا يمثلون الشعب الجزائري بمختلف فئاته. فالعم محمد يمثل الأصالة المتجذرة في
الأمة. أما إبراهيم فهو يمثل - وعلى انحرافه عن الطريق السليم - الجيل الذي احتك وعايش المجتمع الأوربي في الجزائر حيث كان في حيرة من أمره. فكل ما تعلمه منذ الصغر وإن كان غائصا في أعماقه، فإن ما يطفو على السطح لا يتناسب مع أحاسيسه العميقة. إنه الفرع الذي يعانيه كل امرئ غير مقتنع بعقيدته ومقوماته الأخلاقية. لكنه استدرك الأمر، وأدى إبراهيم فريضة الحج.
والقارئ المتأمل في سيرة إبراهيم، يجد أنه مهما حاد المؤمن عن سواء السبيل، فإن إخلاصه لذكريات ما - عائلية كانت أم فكرية - يمثل غرسا للفرد وعودة للهداية من طال زيغه. ألقى بن نبي التفاتة إلى النشء المتمثل في شخصية هادي. هذه الشريحة من المجتمع التي ما فتئ بن نبي ينادي بأن تكون بمثابة رأس الحربة في كل عمل نهضوي. ففي كتابه (شروط النهضة) خص الجيل الصاعد بفصل تطرق فيه إلى دور الكشافة، وما يمكن أن تقوم به من عملية إحياء لدور الجيل الناشئ.
لقد عايش بن نبي إرهاصات ثورة التحرير، وأدرك أن من قاموا بثورة الجزائر الخالدة، والصحوة التي
سبقتها، كانوا قد تتلمذوا داخل أفواج الكشافة، وفي التجمعات السياسية للحركة الوطنية مع اختلاف توجهاتها، مادام هدفها الأسمى والأوحد هو (الجزائر). إنه ذلك الجيل الذي يستطيع أن يواجه التحديات من خلال ما يقدمه من عمل موجه لبناء وطنه مستخدما مقوماته الأساسية: الإنسان، والتراب والوقت.
لم ينس مالك بن نبي دور المرأة، فـ (زهرة) زوجة إبراهيم - وعلى ما عانته من ويلات وعربدات إبراهيم الليلية - ظلت تكن لزوجها كل الاحترام، وتتمنى له كل الخير وتعامله وكأنه أخوها أو ابنها، وإن اختلفت نظرتها للحياة. فمسبحة أم إبراهيم تمثل بالنسبة إليها ذلك الرصيد الثقافي المتوارث عبر الأجيال. والمرأة من الدعائم الأساسية للأمة، والأمينة على أصالتها. ألم يقل الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها
…
أعددت شعبا طيب الأعراق
لم تخل كتابات مالك بن نبي من (عقيدة الآخر)(1). فالحوار الذي دار خلال الرحلة بين الربان
(1) محاضرة ألقاها المترجم غي جامعة أكسفورد في جولية (تموز / يوليو) 2003 م بعنوان: (عقيدة الآخر في فكر =
ومجموعة الحجيج، لم يخل من إشارات الود والتفاهم على اختلاف المبادئ ووجهات النظر. فالإسلام يقوم على أسس التعايش بين فئات البشر مع اختلاف أعراقهم ولغاتهم ودياناتهم، ويرفض العزلة والانطواء. فالعصور الذهبية التي ميزت الحضارة الإسلامية كانت قد عرفت بودها تجاه موسى بن ميمون اليهودي والراهب هربرت.
إن ترجمتنا أول مرة لهذه القصة إلى اللغة العربية - حسب مصادرنا - تمكن القارئ العربي من الاطلاع على أسلوب (بن نبي) الروائي، الذي لا يختلف كثيرا عن أسلوبه القصصي الذي تميز به في كتابه (مذكرات شاهد قرن). فرواية (لبيك: حج الفقراء)، تميزت بسلاسة الأسلوب في سرد الأحداث، وغناها بعنصر التشويق، إذ لم تخل كذلك من التنكيت والطرافة وتلك خاصية امتاز بها سكان الجنوب القسنطيني خاصة في مدينة تبسة والمدن المحيطة بها، كدوار (قساس) - آنذاك- التي عمل فيها بن نبي مع خاله في مطحنة حبوب بعد تخرجه في مدرسة قسنطينة.
= مالك بن نبي). صدرت كدراسة في مجلة Maghreb Review، 29، عدد 1 - 4، 2004 م.
ولذكر هذه الأحداث، فإن بن نبي لم يكن يسعى لأن يكون مفكرا، يدرس مشكلات مجتمعه وينظر لها، بقدر ما كان ساعيا لأن يكون (كاتب قصة)، - كما صرح بذلك لابنه الروحي السيد عمر كامل مسقاوي كما كان يناديه - ولكنه أبى أن يكون كذلك، (لأنه كان صاحب قضية يدافع عنها).
إن الأستاذ عمر مسقاوي لم يدخر أي جهد في إيصال الأمانة - الأفكار - إلى أصحابها وذلك منذ نصف قرن، فلقد كانت - ومازالت - قضيته بعد وفاة أبيه الروحي بن نبي. فإذا لم يسمح الاستعمار يوما لبن نبي بمزاولة دراسة القانون في فرنسة، فإن تبليغ الأمانة لم يسمح أيضا للأستاذ مسقاوي بمزاولة دراسته العليا يوما بفرنسة. لذلك يحسن بنا أن نقول: إنه إذا شاء الله بمفكر أو بأفكار خيرا فليرسل إليهم الأستاذ عمر كامل مسقاوي.
فهل نتوانى نحن في الدفاع عن قضيتنا، ولا نسعى للنهوض بأمتنا إلى الأمام وإن كثرت الصعاب؟. أنركن إلى الكسل وإلى الهوان، ننتظر ونحيا حياة الحجر؟.
إذا كان إبراهيم السكير قد تاب وعاد إلى التشمير عن سواعده، ليباشر العمل في حمام يبيع
فيه المشروبات لرواده. ومن ثم فإن السواعد الجزائرية ينتظر منها أن تقوم بما قام به إبراهيم: أي العمل.
فالعمل وإن كان بسيطا، فإن توجيهه الصحيح يمكن أن يثمر إذا كان من أهدافه هدف اجتماعي لا كسب للقوت اليومي فحسب. إن العمل وتوجيهه لا يؤتي أكله إذا لم يكن مصحوبا ومدعما بنزعة تحد، يخالجها نبذ للعوامل الداخلية كالقابلية للاستعمار والروح الانهزامية وقلة الفاعلية.
فالطفل هادي تحدى رفاقه وصعد إلى المركب ليحج هو الآخر، وإن كان بينه وبين البيت الحرام بحر. فتحدي هادي، ونقاوة نفس إبراهيم دفعت بهما إلى أبعد الأمصار، لأن العزيمة أقوى من أن تقهر.
فالشاعر الشاب (1) لم يخطئ عندما قال:
ومن يتهيب صعود الجبال
…
يعش أبد الدهر بين الحفر
(1) ابو القاسم الشابي الشاعر التونسي الشاب الذي توفي وعمره 20 ربيعا.
وشاءت الأقدار أن يشارك في صياغة نص هذه الترجمة بعض المثقفين من محور طنجة - جاكرتا مثل الأخوين الطيب ولد عروسي وعثمان عبد المجيد، اللذين أقدم لهما كل امتناننا وتشكراتنا. كما أشكر الأصدقاء الذين لم يدخروا أي جهد، أذكر منهم الأساتذة: حاج عبد الرحمن، وبديار، وبن حجة.
رحم الله بن نبي إذ كان يقول: (الصعوبات من علامة النمو)، فإذا كان نمو أمتنا محفوفا بالصعاب، فإن المسلم عامة والجزائري خاصة، لا يبالون على أي جنب يكون مصرعهم للإيفاء بهذه المهمة وهذا من طباعهم المعهودة.
ونأمل التوفيق والعمل المثمر من أجل بلدنا وأمتنا.
المترجم (ز. خ)
باريس، 5 جويلية
(تموز/ يوليو) 2007 م.