المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإجازة فأما الإجازة: فأن يكتب العالم بخطه، أو يكتب عنه - مأخذ العلم لابن فارس

[ابن فارس]

الفصل: ‌ ‌باب الإجازة فأما الإجازة: فأن يكتب العالم بخطه، أو يكتب عنه

‌باب الإجازة

فأما الإجازة: فأن يكتب العالم بخطه، أو يكتب عنه بأمره: إني أجزت لفلان أن يروي عني ما صح عنده من حديثي، أو مؤلفاتي، وما أشبه هذا من الكلام.

فذلك أيضاً في الجواز والقوة كالذي ذكرناه في المناولة وغيرها.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والحسن بن عمارة وابن جريج وغيرهم من العلماء.

ومعنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه: استجزت فلاناً فأجازني؛ إذا أسقاك ماءً لأرضك وماشيتك.

قال القطامي:

وقالوا فُقَيمٌ قيِّمُ الماء فاستَجِزْ

عُبادةَ إن المستجيزَ على قُتْرِ

أي على ناحية.

كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه، فالطالب مستجيز والعالم مجيز.

ص: 39

والدليل على صحة الإجازة ما حدثنا علي بن مهرويه، نا أحمد بن أبي خيثمة، نا أحمد بن أيوب، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا محمد بن إسحاق قال:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رياب، وبعث لهم كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فمضى لما أمره به، فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه:((إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلةً بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)) . فقال عبد الله وأصحابه: سمعاً وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضوا ولقوا بنخلة عيراً لقريش، فقتلوا عمرو بن الحضرمي كافراً، وغنموا ما كان معهم من تجارة لقريش.

وهذا الحديث وما أشبهه من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم حجةٌ في الإجازة، لأن عبد الله وأصحابه عملوا بما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يكلمهم بشيء. *

فكذلك العالم إذا أجاز لطالب العلم فله أن يروي ويعمل بما صح عنده من حديثه وعلمه.

وبلغنا أن ناساً يكرهون الإجازة، يقولون: إن اقتصر عليها بطلت الرحل، وقعد الناس عن طلب العلم.

ونحن فلسنا نقول: إن طالب العلم يقتصر على الإجازة فقط، ثم لا يسعى لطلب علمٍ ولا يرحل، لكنا نقول: تكون الإجازة لمن

ص: 40

كان له في القعود عن الطلب عذرٌ من قصور نفقةٍ، أو بعد مسافة، أو صعوبة مسلك.

فأما أصحاب الحديث فما زالوا يتجشمون المصاعب، ويركبون الأهوال، ويفارقون الأوطان، وينأون عن الأحباب، آخذين بالذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي حدثناه سليمان بن يزيد، عن محمد بن ماجه، ثنا هشام بن عمار، ثنا حفص بن سليمان، ثنا كثير بن شنظير، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم)) . *

واعلم أن جماعةً من الناس سلكوا فيما تقدم ذكرنا له مسلكاً، لعل غيره أسهل منه وأقرب وأبعد عن التعمق والتنطع، فقالوا: إن حدث المحدث جاز أن يقال: حدثنا، وإن قرئ عليه لم يجز أن يقال: حدثنا ولا أخبرنا، وإن حدث جماعة لم يجز للمحدث عنه أن يقول: حدثني، وإن حدث بلفظه لم يجز أن يتعدى ذلك اللفظ وإن كان قد أصاب المعنى.

قال أحمد بن فارس: وهذا عندنا تشديدٌ لا وجه له، لأن من العلماء من كان يتبع اللفظ فيؤديه، ومنهم من كان يحدث بالمعنى وإن تغير اللفظ، وبلغنا أن الحسن كان يحدث على المعاني، مع أن التثبت والتقصي غير مذموم.

فقد حدثني محمد بن عبد الله الدوري -بمدينة السلام- ثنا علي بن الحسين بن الهيثم، ثنا الحسين بن علي المرداسي، ثنا حماد بن إسحاق بن

ص: 41

إبراهيم الموصلي قال: قال لي أبي: قلت ليحيى بن خالد: أريد أن تكلم لي سفيان بن عيينة ليحدثني بأحاديث، فقال: نعم، إذا جاء فأذكِرْني. قال: فجاء سفيان، فلما جلس أومأت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد! إسحاق بن إبراهيم من أهل العلم والأدب وهو مكره على ما تعلمه منه. فقال سفيان: ما تريد بهذا الكلام؟ فقال: تحدثه بأحاديث، فقال: أكره ذلك، فقال يحيى: أقسمت عليك إلا فعلت فقال: نعم فليبكر إلي. قال: فقلت ليحيى: افرض لي عليه شيئاً، فقال: يا أبا محمد افرض له شيئاً، قال: نعم، قد جعلت له خمسة أحاديث، قال: زده، قال: قد جعلتها سبعة، قال: هل لك أن تجعلها عشرة؟ قال: نعم.

قال إسحاق: فبكرت إليه واستأذنت ودخلت، فجلست بين يديه، وأخرج كتابه فأملى علي عشرة أحاديث. فلما فرغ قلت له: يا أبا محمد إن المحدِّث يسهو ويغفل، والمحدَّث أيضاً كذلك، فإن رأيت أن أقرأ عليك ما سمعته منك. قال: اقرأ فديتك. فقرأت عليه.

وقلت له أيضاً: إن القارئ ربما أغفل طرفه الحرف، والمقروء عليه ربما ذهب عنه الحرف، فأنا في حل أن أروي جميع ما سمعته منك؟ قال: نعم، فديتك، أنت والله فوق أن تستشفع أو يشفع لك، تعال كل يوم، فلوددت أن سائر أصحاب الحديث كانوا مثلك. *

ص: 42

قلنا: وهذا التثبت حسن، لكن أهل العلم قد يتساهلون إذا أدوا المعنى ويقولون: لو كان أداء اللفظ واجباً حتى لا يغفل منه حرف لأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإثبات ما يسمعونه منه كما أمرهم بإثبات الوحي الذي لا يجوز تغيير معناه، ولا لفظه، فلما لم يأمرهم بإثبات ذلك دل على أن الأمر في التحديث أسهل، وإن كان أداء ذلك باللفظ الذي سمعه أحسن.

وبالله التوفيق

تمت على يد حامد التقي في شوال سنة 1324هـ

ص: 43