الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول:
القسم الأول: الغلط في اللفظ المفرد
الحمد لله رب العالمين، سألت - وفقنا الله وإياكم - عن مثارات الغلط في الأدلة، ورغبت منا حصرها بالوجه الصناعي، وتمثيلها بالمثل العقلية والفقهية، فأجبتك إلى ذلك مستعينا بالله ومتوكلا عليه، وأقول - والله الموفق -:
الغلط في البرهان وغيره من سائر الأدلة والحجاج، إما أن [يكون] من جهة اللفظ، وإما أن يكون من جهة المعنى.
أما الذي من جهة اللفظ، فاعلم - وفقك الله -: أن اللفظ إذا طابق المعنى مطابقة تامة بحيث لا يحتمل اللفظ في الدلالة غير المعنى المقصود لم يقع غلط بسبب اللفظ البتة، وإذا ثبت أنه لابد من احتمال في اللفظ، فذلك الاحتمال إما أن يكون في اللفظ بعد تحقق كونه مفردا أو بعد تحقق كونه مركبًا، أو يكون لدورانه وتردده بين الإفراد والتركيب.
أما إن كان بعد تحقق كونه مفردا، فذلك إما أن يكون الاشتراك في جوهر اللفظ ومادته بأي نوع من أنواع الاشتراك - اعني في الوضع - أو
بكون حقيقة في أحد المعنيين مجازًا في الآخر، أو منقولا، أو نحو ذلك، أو يكون في هيئة اللفظ وصورته دون مادته، أو يكون لأمر خارج عن اللفظ عارض له ولاحق من لواحقه.
أما الاشتراك في جوهر اللفظ فذلك مثار الغلط، ومثاله في العقليات قول السفسطائي: واجب الوجود، إما أن يكون ممكنا أن يكون أو غير ممكن أن يكون، وكل ممكن أن يكون ممكن ألا يكون، فإن لم يكن ممكنا أن يكون فهو ممتنع أن يكون فواجب الوجود ممتنع أن يكون هذا خلف، [وإن كان ممكنا أن يكون، ممكن أن يكون واجب الوجود، ممكن ألا يكون كذا خلف].
ومثال الغلط فيه ان لفظ الممكن مشترك بين الممكن العام الذي معناه لا يمتنع والممكن الخاص الذي معناه جواز الوجود والعدم، فالممكن الذي هو حد وسط في القياس المذكور، إن كان] معناه الممكن العام منعنا قوله: فكل ممكن أن يكون، ممكن ألا يكون، وإن كان معناه الممكن الخاص منعنا قوله: إن لم يكن ممكنا أن يكون، فهو ممتنع أن يكون فلا ينفع عن أحد المعنيين إلا أن يختلف المراد بلفظ الممكن، ـ وحينئذ لا يتحد الوسط.
مثاله في الفقهيات: قول من يرى أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة فيمن وطأها الأب بزنا: إنها تحرم على الابن لقوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء. فيقول في المزني بها: إنها منكوحة الأب، وكل منكوحة الأب تحرم على الابن فهذه تحرم على الابن، فيقول من يبيح ذلك: لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد، فإن كان المراد بالمنكوحة في الحد الوسط المعقود عليها كذبت الصغرى، وإن كان المراد الموطوءة كذبت الكبرى، لأن لفظ النكاح في القرآن محمول على العقد وإن اختلف المراد فيهما لم يتحد الوسط.
ومثل ذلك القرء في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فإن لفظ القرء مشترك بين الطهر والحيض وكذلك الشفق في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء بعد الشفق، فإنه مشترك بين
البياض والحمرة وكذلك الإغلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق في إغلاق، فإنه مشترك بين الإكراه والجنون ويمكنك بسط الأمثلة الخلافية في هذا الألفاظ الثلاثة.
وأما الاشتراك في هيئة اللفظ وصورته فهو من مثارات الغلط ومثاله: قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} ذلك أن أهل العلم اختلفوا: هل إرضاع الأم ولدها حق لها، فليس للأب أن ينقله إلى غيرها من دون رضاها، أو حق عليها، فللأب أن يجبرها على ذلك، وليس لها أن تمتنع، وكل ذلك بناء على أن صيغة الفعل مشتركة بين الفعل المضارع المبني للفاعل وبين الفعل المبني للمفعول النائب عنه، فإذا استدل أحد الفريقين بالاية على مذهبه، فللفريق الآخر أن يعترض عليه بالاشتراك في الصيغة.
وأما المادة فللاشتراك، فيها ومثال لذلك قوله تعالى:{ولا يضار كاتب ولا شهيد} قال ابن عباس وعطاء: معناه لا يمتنع كاتب من الكتب ولا شهيد من الشهادة إذا دعي إلى ذلك، فالفعل عندهما مبني
للفاعل، وقال عكرمة وجماعة: معناه أن الداعي لا يضر بهما في وقت شغل أو عذر، فالبناء - عندهم - للمفعول النائب عن الفاعل، فأي الفريقين احتج بالاية على مذهبه فللفريق الآخر أن يقدح في احتجاجه بالاشتراك في الصيغة.
وأما الاشتراك من جهة الامور الخارجة اللاحقة للفظ، فإما أن تكون من اللواحق النطقية أو من اللواحق الخطية.
فأما اللواحق النطقية، فمثل: لام التعريف، بين العهد والجنس، ومثل: ياء التصغير بين التحقير والتعظيم، ومثل تاء التأنيث بين التأنيث اللفظي والمعنوي.
ومثال ذلك: أن يستدل من يرى: أن لا عبرة بالمخالطة إلا بتغيير
الماء لقوله صلى الله عليه وسلم: {خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه او طعمه أو ريحه} فيقول الخصم: الالف واللام، هنا للعهد، لأنه وارد على سبب معين وهو بئر بضاعة، فاسم الماء لا اشتراك فيه، وإنما الاشتراك في لاحق من لواحقه، وهي لام التعريف وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم، لما مر بهما.
وأما اللواحق الخطية، فمثل النقط والتشكيل، ومثاله: استدلال من منع طعام وعرض بطعام، أو بيع نقد وعرض بنقد، بحديث فضالة بن
عبيد: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني ابتعت قلادة فيها خرز وذهب بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تفصل. [بالصاد المهملة] فيقول المخالف: إنما هو حتى تفضل [بالصاد المعجمة] ومعناه: حتى يتبين الفضل في الذهب الثمن ليجعل ذلك ثمن العرض الذي هو الخرز.
ومثال التشكيل: استدلال من يمنع بيع الحنطة في السنبل، بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الحب حتى يفرك، مبنيا للمفعول، فيقول المخالف: إنما هو: حتى يفرك، مبنيا للفاعل، ومعناه حتى يصير فريكا.
ومن ذلك: استدلال من يرى أن الأمة تصير فراشًا بالوطء، فيلحق الولد بالسيد، وإن لم يستلحقه بحديث عبد الله بن زمعه وسعد بن أبي وقاص إذ اختصما إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال عبد: يا رسول الله هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، وقال سعد: يا رسول الله هو ان أخي عتبة قد كان عهد إلي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زمعه: هو
لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فقضى به لابن زمعة، فيقول من لا يرى ذلك: الرواية هو لك عبدٌ بالتنوين، وابن زمعة منادى مضاف، ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه ولو ألحقه بزمعة لما أمرها بالاحتجاب من اخيها.
فهذه الوجوه كلها مثارات الأغاليط اللفظية في اللفظ المفرد.