المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محاكمة مجرمي الحرب بين (نورمبرج) و (لاهاي) - مجلة البيان - جـ ١٠٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌محاكمة مجرمي الحرب بين (نورمبرج) و (لاهاي)

دراسات شرعية

‌حتى يكون حجنا مبرورا

بقلم: فيصل بن علي البعداني

رتب الله (تعالى) أجراً عظيماً على الحج المبرور، دل عليه رسوله بقوله: (

والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [1] .

والحج المبرور: ما توسع فيه العبد بأعمال الخير، إذ معاني البر تعود إلى

معنيين [2] :

1-

الإحسان إلى الناس وصلتهم، وضده العقوق، وفي الحديث: (البر:

حسن الخلق) [3]، وفي المسند عن جابر مرفوعاً: (قالوا: وما بر الحج يا رسول

الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام) [4] .

2-

التوسع في الطاعات وخصال التقوى، وضده الإثم؛ ومنه قوله (تعالى) :

[أََتَاًمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أََنفُسَكُمْ][البقرة: 44]، قال القرطبي: (الأقوال

التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي: أنه الحج الذي وفيت أحكامه،

ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل) [5] .

وعلى ذلك: فليس كل من حج البيت كان حجه مبروراً، بل الأمر كما قال

ابن عمر رضي الله عنهما لمجاهد حين قال: (ما أكثر الحاج) قال: (ما أقلهم،

ولكن قل: ما أكثر الركب) [6] .

ومن أجل تفاوت الناس في الحج، فسأحاول في هذه السطور ذكر أبرز

الأمور التي تعين الحاج، ليكون حجه مبروراً بإذن الله، ومن ذلك:

أولاً: الإخلاص والمتابعة:

لا صحة ولا قبول للأعمال إلا بما يلي:

1-

الإخلاص لله (تعالى) وإرادة وجهه وحده، قال الله (تعالى) في الحديث

القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري

تركته وشركه) [7] ، وقد كان يحذر من ضد ذلك، فيدعو مستعيناً بربه قائلاً:

(اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)[8] .

2-

متابعة العبد للنبي صلى الله عليه وسلم في كافة أعماله، قال: (من

عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [9] ؛ ولذا: كان يقول في الحج: (لتأخذوا

مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) [10] ، ولقد استوعب

الصحابة رضي الله عنهم ذلك الأمر، فقال الفاروق حين قبّل الحجر: (أما والله

إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- استلمك ما استلمتك، فاستلمه) [11] .

ثانياً: الاستعداد للحج:

تهيئة العبد نفسه واستعداده للحج من أهم الأمور التي تعينه على أداء النسك

على الوجه المشروع، وتجعل حجه مبروراً، ولعل أبرز الجوانب التي ينبغي أن

يستعد بها المرء للحج ما يلي:

1-

إصلاح العبد ما بينه وبين الله (تعالى) بالتوبة النصوح بشروطها

المعروفة.

2-

الاستعانة بالله (تعالى) وطلب توفيقه، وإظهار الافتقار إليه، والخوف

منه، والرجاء فيه، إذ إنه مع أهمية الاستعداد المادي للحج إلا أنه لا يجوز للمرء

الركون إلى الوسائل المادية وحدها.

3-

تحلل العبد من الحقوق والودائع التي لديه، وقضاء الديون أو استئذان من

عُرِف عنه من أصحابها حرص وشدة طلب.

4-

كتابة العبد لوصيته؛ إذ السفر مظنة تعرض الإنسان للخطر.

5-

إعداد العبد النفقة الكافية لمن يعول إلى وقت رجوعه، ووصيته لهم خيراً، واستخلاف من يقوم بشؤونهم، وذلك حتى يكون همّه متجهاً لأداء النسك.

6-

اختيار الراحلة المناسبة، وانتخاب النفقة الطيبة الحلال، لأن النفقة

الحرام من موانع الإجابة، عند الطبراني مرفوعاً: (إذا خرج الرجل حاجّاً بنفقة

طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه من السماء: لبيك

وسعديك؛ زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، وإذا خرج بالنفقة

الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناٍد من السماء: لا لبيك ولا

سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور) [12] .

ونحن الآن في زمن تفشت فيه المكاسب الحرام إلا من رحم الله، وكثرت فيه

الأموال المشبوهة، فليتق كلّ عبد ربه، وليتذكر قوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا

طيباً) [13] .

ويستحب للعبد الإكثار من التزود بالنفقة الحلال على وجه يمكنه معه من

التوسع في الزاد دون الحاجة إلى الناس، والرفق بالضعفاء.

7-

اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه إذا ضعف، وتذكره إذا نسي، وتعلمه

إذا جهل، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر. وليحذر العبد من صحبة صنفين:

الصحبة الفاسدة التي تقود إلى المعصية، وتعين على الباطل.

صحبة البطالين الذين يقضون أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع في الآخرة.

8-

التفقه في أحكام النسك وآدابه، والتعرف على أحكام السفر، من حيث:

القصر، والجمع، والتيمم، والمسح على الخفين

إلخ؛ قال: (من يرد الله به

خيراً يفقه في الدين) [14] .

ومما يعين العبد على ذلك: التزود بما يحتاج إليه من كتب أهل العلم

وأشرطتهم، ومصاحبة أهل العلم بالمناسك، وأهل المعرفة بأماكن وأوقات الشعائر.

ثالثاً: استشعار حقيقة الحج وغاياته:

إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها

يهيئه ليكون حجه مبروراً؛ إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها

أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج: كلما استوعب المرء حقيقة

الحج، وروحه، والحكم والغايات التي شرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح

عقيدته وسلوكه.. كلما كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد

من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج

وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب

لا غير.

ولعل من أبرز الحكم والغايات التي ينبغي أن يستشعرها الحاج ما يلي:

1-

تحقيق التقوى:

الغاية من الحج تحقيق التقوى، ولذا: نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات

الحج بشكل واضح جلي، قال (تعالى) :[وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.... وَاتَّقُوا اللَّهَ..][البقرة: 196][وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..][البقرة: 197] .

2-

تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها:

يرتكز الحج على تجريد النية لله (تعالى) وإرادته بالعمل دون سواه، قال

(تعالى)[وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ][البقرة: 196] ، وقال عز وجل في ثنايا

آيات الحج: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ

غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ..] [الحج: 30، 31] : وفي التلبية (وهي شعار الحج) جاء

إفراد الله بالنسك صريحاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد

والنعمة لك والملك، لا شريك لك) [15] ، كما أن الحج يرتكز على توحيد المتابعة

للرسول وعدم الوقوع في شرك الطاعة، إذ لا مجال للتنسك في الشعيرة بالأهواء

والعوائد، بل لا بد من التأسي به والأخذ عنه.

3-

تعظيم شعائر الله وحرماته:

من أبرز غايات الحج وحكمه تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته،

وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها أو هتكها، قال الله (تعالى) في ثنايا

آيات الحج: [ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ][الحج: 32] ..

4-

التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك:

(أ) العفة: قال الله (تعالى) : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ

فَلا رَفَثَ..] [البقرة: 197] والرفث: هو الجماع ودواعيه من القول والفعل.

(ب) كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة: قال الله عز وجل : [ولا

جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: 197]، قال عطاء: (والجدال: أن تجادل صاحبك حتى

تغضبه ويغضبك، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية:(نفي جنس) مراد به

المبالغة في النهي عن الجدال المذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة

شرعية.

(ج) الرفق واللين والسكينة: قال عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً

للإبل في الدفع من مزدلفة: (أيها الناس: عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع

(يعني الإسراع)[16] .

(د) إنكار الذات والاندماج في المجموع: في الحج ينكر العبد ذاته ويتجرد

عما يستطيع أن يخص نفسه به، ويندمج مع إخوانه الحجيج في اللباس والهتاف

والتنقل والعمل.

(هـ) التربية على تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جليًّا في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وعلى من أخطأ الوقوف بعرفات، أو دفع إلى مزدلفة قبل غروب الشمس

إلخ.

(و) التربية على التواضع: ويظهر ذلك جليّاً في الوحدة بين جميع الحجيج

في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم ومال

إلخ،

وقد كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (يا أيها الناس:

ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي

على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [17] .

(ز) التربية على الصبر بأنواعه: حيث يلجم العبد نفسه عن الشهوات بترك

محظورات الإحرام، ويمنعها عن بعض المباحات (في غير الإحرام) ، ويعرضها

للضنك والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه؛ فيكون ذلك دافعاً

إلى ترك المعاصي، وامتثال الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل ذلك بعد الحج.

ح) البذل والسخاء: وهذا واضح في تحمل العبد لنفقات الحج.

5-

التذكير باليوم الآخر:

يُذكّر الحج العبد باليوم الآخر وما فيه من مواقف وأهوال بشكل واضح جلي،

ومن ذلك:

* خروجه من بلده ومفارقته لأهله: يذكره بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا

إلى الآخرة.

* التجرد من المخيط والخروج من الزينة: يذكره بالكفن وخروج العباد من

قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.

* الترحال والتعب: يذكرانه بالضيق والضنك في عرصات القيامة، حتى إن

من العباد من يلجمه العرق يومئذ إلجاماً.

6-

التربية على الاستسلام والخضوع لله (تعالى) :

يتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والخضوع والطاعة المطلقة لله

رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها، من: التجرد من المخيط، والخروج

من الزينة، والطواف، والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت، والحلق (أو

التقصير (ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى

الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك

الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام ، وما تلاه من

استسلام وخضوع، وإيثار لمحاب الله (تعالى) ، ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.

7-

تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية:

يجتمع الحجاج على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في

مكان واحد، وزمان واحد، بمظهر واحد، وهتاف واحد، لهدف واحد، هو:

الإيمان بالله (تعالى) ، والامتثال لأمره، والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة

بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف، والتعاون، والتفكير، والتناصح،

وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم،

والعمل على الرفع من شأنه.

8-

ربط الحجيج بأسلافهم:

تحمل أعمال الحج في طياتها ذكريات قديمة: من هجرة إبراهيم (عليه

السلام) وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أُمر بذبح ابنه، وبنائه

للبيت، وأذانه في الناس بالحج حتى مبعث نبينا (محمد) ، والتذكير بحجة الوداع

معه حيث حج معه ما يربو على مئة ألف صحابي، وقال لهم: (خذوا عني

مناسككم) ، ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر حيث تربو أعداد الحجيج

على أكثر من ألفي ألف من المسلمين؛ مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد

أرض المشاعر قبله، ويتأمل الصراع العقدي الذي جرى بين الموحدين والمشركين

فيها، وما بذله الموحدون من تضحية بالأنفس ومتع الحياة من أهل ومال وجاه،

وما قام به المشركون من عناد وبغي ودفاع عن مصالح أنفسهم وشهواتها؛ ليدرك

أسباب هلاك من هلك ونجاة من نجا، فيحرص على الأخذ بأسباب النجاة، ويعد

نفسه امتداداً للناجين من الأنبياء والصالحين، ويحذر من أسباب الهلاك، ويعد نفسه

عدوًّا للمجرمين، ويستيقن أن العاقبة للمتقين، ويرى بمضي من حج من تلك

الأقوام إلى ربهم أن مصير الجميع واحد، وأنهم كما رحلوا فسيرحل هو، فيعتصم

لكي ينجو ويسلم بين يدي الله بالتقوى.

9-

الإكثار من ذكر الله (تعالى) :

المتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء

إلخ، وفي

نصوص الوحيين التي تتحدث عنه، يجد أن الإكثار من ذكر الله (تعالى) من أبرز

حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله (تعالى) : [فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ

المَشْعَرِ الحَرَامِ] [البقرة: 198] وقوله: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا

والمروة، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله في الأرض) [18] .

10-

التعود على النظام والتربية على الانضباط:

في الحج قيود وحدود والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوده

حب النظام والمحافظة عليه، وتربيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي،

والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جلية.

11-

منافع أخرى:

ومنافع أخرى دنيوية وأخروية، فردية وجماعية، تجل عن الحصر، يدل

عليها تنكير المنافع، وإبهامها في قوله عز وجل :[لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ]

[الحج: 28] نسأل الله (تعالى) أن يهيء لنا من أمرنا رشداً وأن يكتب لنا منها أوفر الحظ والنصيب.

رابعاً: الحذر من مقارفة المعاصي والوقوع في الأخطاء:

لا يحصل للعبد بر الحج إلا بمجانبة المعاصي والحذر منها، ومع أن مقارفة

الذنوب والمعاصي مَنْهِيّ عنها في كل وقت، إلا أن الله (تعالى) أمر مَن حج بتركها، فقال عز وجل : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا

فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: 197] وذلك لشرف الزمان وعظمة المكان،

قال (تعالى) : [وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ][الحج: 25] فكيف

يكون جزاء من فعل وقارف؟ !

والمتأمل في واقع الناس في الحج يجد الكثير من المنكرات والأخطاء الناتجة

عن: ضعف الخوف من الله، وعدم مراعاة حرمة الزمان والمكان، الناتجة عن

الجهل بالشرع واتباع الأعراف والعوائد، ولعل من أبرز ما يتفشى في الحج من

المنكرات والأخطاء: ارتكاب محظورات الإحرام عمداً بغير عذر وأذية المسلمين

بالقول والفعل، وترك التناصح والأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وتأخير

الصلاة عن وقتها، والغيبة، والنميمة، واللغو، والجدال، وقيل وقال، والإسراف

أو التقتير في النفقة، والعبث بالأطعمة، وسوء الخلق، والتهاون في الذنوب:

كإطلاق النظر، والاستماع إلى ما لا يحل، ومزاحمة النساء للرجال، وكشفهن لما

لا يجوز كشفه، والتعجل أو التأخر عند أداء المناسك في الأوقات الشرعية المحددة

لها، وعدم مراعاة حدود الأمكنة التي لا يجزئ أداء أعمال الحج خارجها

إلخ.

فما أغبن من بذل نفسه وماله وبدل حاله وجماله فيرجع بالمحرمات وغضب

الرحمن، قال الشاعر:

يحج لكيما يغفر الله ذنبه

ويرجع وقد حطت عليه ذنوب

خامساً: الاجتهاد في الطاعة واستغلال الوقت:

وردت في ثنايا آيات الحج إشارات تحث العبد على الاستكثار من الطاعات

وقت أداء النسك، ومن ذلك قوله عز وجل : [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ

وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] [البقرة: 197] ولعل من أهم الطاعات التي ينبغي

أن يستكثر منها العبد ويشغل بها وقته أثناء النسك:

1-

أعمال القلوب: من: إخلاص، ومحبة، وتوكل، وخوف، ورجاء،

وتعظيم، وخضوع، وإظهار افتقار، وصدق في الطلب والمسألة، وتوبة، وإنابة، وصبر، ورضا وطمأنينة

ونحو ذلك من أهم ما ينبغي أن ينشغل به العبد في

حجه، إذ مدار الإسلام عليها، قال ابن القيم: (ومن تأمل الشريعة في مصادرها

ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها) [19] .

2-

قراءة القرآن والذكر والاستغفار: وقد أمر الله الحجيج بالذكر والاستغفار

في ثنايا آيات الحج، وقال حاثًّا على التلبية والذكر: (ما أهل مهل ولا كبر مكبر

قط إلا بُشّر) [20] وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الحاج

أفضل؟ قال: أكثرهم لله ذكراً) [21] .

3-

بذل المعروف: قال ابن رجب: (ومن أجمع خصال البر التي يحتاج

إليها الحاج: ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جُرَيّ الهجيمي فقال:

(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن

تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شِسْع النعل، ولو أن تنحي الشيء من طريق

الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك المسلم

فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوَحشان في الأرض) [22] وفي الحديث الآخر: قيل:

يا رسول الله، من أحب الناس إلى الله؟ قال:(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) .

4-

الدعوة إلى الله عز وجل :

ينتشر الجهل بين الحجيج، وتنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج،

مما يوجب على العلماء والدعاة القيام بما يجب عليهم من إرشاد، ونصح، وتوجيه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي

أحسن، قال شجاع بن الوليد: (كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً) [23] .

5-

الدعاء والمسألة:

الحج من مواسم المسألة والدعاء العظيمة التي ينبغي استغلالها والتضرع بين

يدي الله فيها، قال:(خير الدعاء دعاء عرفة)[24] وقال: (الحجاج والعمار وفد

الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) [25] .

سادساً: الاستقامة.. الاستقامة:

ودليل الحج المبرور استقامة المسلم بعد الحج، ولزومه الطاعة وتركه

للمعصية، قال الحسن البصري: (الحج المبرور: أن يرجع زاهداً في الدنيا،

راغباً في الآخرة، ويشهد لذلك قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ

تَقْوَاهُمْ] [محمد: 17] .

فلتحذر أخي من أن تهدم ما بنيت، وتشتت ما جمعت، وتبدد ما حَصّلت،

فتنتكس بعد الاهتداء، وترتكس بعد النقاء.

وتذكر أن الحج يهدم ما قبله من ذنوب، وأنك بحجك ترجع كيوم ولدتك أمك،

فإياك أن تقابل الله بعد هذه النعمة بالمعصية، وافتح صفحة جديدة من حياتك مع

الله عز وجل ملؤها الطاعة، وعنوانها الاستقامة.. والله يتولاني وإياك.

(1) البخاري مع الفتح، ح/1773.

(2)

انظر: لطائف المعارف، ص410.

(3)

مسلم، ح/2553.

(4)

انظر: الفتح، ج4 ص446.

(5)

فتح الباري، ج3 ص446.

(6)

مصنف عبد الرزاق، ح/8836، وانظر: أنوار الحج للقاري ص55.

(7)

مسلم، ح/2985.

(8)

ابن ماجة، ح/2890، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة ح/1718.

(9)

مسلم، ح/1718.

(10)

مسلم، ح/1297.

(11)

البخاري مع الفتح، ح/1610.

(12)

المعجم الأوسط للطبراني، ح/5224، وجاء في مجمع الزوائد:(وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف)(ج10 ص 292) .

(13)

مسلم، ج2ص703.

(14)

البخاري مع الفتح، ح/71.

(15)

البخاري مع الفتح، ح/1549.

(16)

البخاري، ح/1671.

(17)

انظر: لطائف المعارف، ص411.

(18)

الترمذي، ح/902.

(19)

بدائع الفوائد، ج3 ص330.

(20)

المعجم الأوسط للطبراني، ح/7775، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/5569.

(21)

المسند، ج3 ص438، وهو ضعيف.

(22)

لطائف المعارف، ص411.

(23)

سير أعلام النبلاء، ج 7 ص259.

(24)

الترمذي: ح/3585، وانظر: صحيح سنن الترمذي، ح/837، والجواب الكافي، ص101.

(25)

انظر: صحيح الجامع، ح/3173، وقال الألباني: حسن.

ص: 4

افتتاحية العدد

‌محاكمة مجرمي الحرب بين (نورمبرج) و (لاهاي)

فعالية الأولى.. وعجز الأخرى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

فإن للإنسان حقوقاً معتبرة، جاء بها الإسلام، حيث كفلت الشريعة الإسلامية

له المكانة اللائقة، وحرمت إلحاق الأذى المادي والمعنوي به، وهيأت للجميع

الأمن والطمأنينة والمحافظة على حياتهم ورد أي اعتداء عليهم:

(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، حرمة يومكم هذا) [أخرجه ابن ماجه،

كتاب المناسك] (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه

) [اخرجه

الترمذي وابن ماجة، وأحمد في المسند] ، حتى إن الإنسان بإيمانه أعظم حرمة من

بيت الله الحرام: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك

)

[اخرجه ابن ماجة، كتاب الفتن] .

وبقيت حقوق الإنسان المسلم لها قدرها لا يمسها أحد بسوء يوم كان للإسلام

قوته ومكانته، وحينما فرط أكثر المسلمين في مصدر عزتهم نتيجة بعدهم عن دينهم، وتنحيتهم لشريعة ربهم، وأخذهم بالأنظمة والدساتير المستوردة: تحولوا إلى

أتباع، واستبيحت بلدانهم، وانتهكت أعراضهم وصارت دماؤهم أرخص الدماء

على يد المستعمرين وأذنابهم.

ومع ما تعرض له المسلمون في جل البلدان التي احتلها أولئك الأعداء، وما

قاموا به من قتل واعتقال وتهجير إبان استعمارهم: فإن ذلك لم يوقظ إنسانيتهم،

ولم يدفعهم ذلك لإنصاف المسلمين حتى بعد ظهور ما سمي بـ (وثيقة حقوق

الإنسان) بعد نشوء هيئة الأمم المتحدة، ولم يظهر موضوع (محاكمة مجرمي

الحروب) إلا بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة النازيين الذي أذاقوا دول الغرب

أمرّ العذاب في عنفوان قوتهم إبان حكم هتلر حيث أحيل إلى المحاكمة ثلاثة

وعشرون من كبار قادة الحزب النازي الألماني من المدنيين والعسكريين بعد انتصار

الحلفاء، وتدميرهم ألمانيا، ودخول جيوشهم (برلين) ، وإصرارهم على أن تكون

المحاكمة في مدينة (نورمبرج) مقر الحزب النازي طيلة خمسة وعشرين عاماً،

شهدت صعود وارتقاء الحكم الهتلري، لتشهد هذه المدينة نفسها انهيار النازيين

وسقوطهم، وتمت المحاكمة ابتداء من 21/10/1945م، وانتهت إلى تثبيت التهم

التالية عليهم:

1-

التآمر ضد السلام وانتهاك حرمة المعاهدات والاتفاقات الدولية.

2-

التواطؤ على ارتكاب جرائم ضد السلام.

3-

انتهاك قوانين الحروب وتنفيذ أعمال القتل والتخريب وقتل الرهائن.

4-

اقتراف جرائم ضد الإنسانية.

يقول د/ج. م. جلبرت في كتابه (محاكمات نورمبرج) بعد أن ساق التهم آنفة

الذكر: إنه يستنتج من بين السطور تهمة خامسة لكنها في نظر المحكمة على ما

يبدو تهمة أولى تغطي على كل التهم، وهي: مشاركة المتهمين فيما يزعم في

مذابح اليهود في ألمانيا وبولونيا.

واستمرت المحاكمة على أشدها وبدون أي كلل حتى إعلان النطق الأخير

بالحكم في الجلسة الختامية على النحو التالي:

1-

الإعدام لأحد عشر متهماً.

2-

البراءة لثلاثة منهم.

3-

أحكام مختلفة لبقية المتهمين.

ونفذ الإعدام في مساء اليوم نفسه مع الاعتراضات القانونية التي قدمت على

تلك المحاكمة، من حيث التكييف القانوني للمحاكمة، وعدم وجود سوابق لها،

وضرورة أن تكون المحاكمة (عسكرية) .

لقد عانى المسلمون في جل ديار الإسلام مما سمي بـ (الاستعمار) لبلدانهم،

وانتهكت حريات شعوبهم، وسرقت خيرات بلدانهم، وتعرض مجاهدوهم للإعدام

بتهمة المقاومة للمحتلين، ولم تنتهك حرمات أحد مثلما انتهكت حرمات المسلمين

وبلدانهم، و (البوسنة والهرسك) أقرب شاهد ملموس يعرفه القاصي والداني عبر

كل وسائل الإعلام؛ حيث بلغ فيها العدوان الصربي ذروته والاستهتار الدولي

أقصاه حيال تلاعب الصرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة وانتهاكها لما سمته

بالمناطق الآمنة، وقيامهم بالإعدامات الجماعية التي يعرفها الجميع.. ولم يُنصَف

المسلمون حتى بعد عقد (اتفاق دايتون) للسلام، الذي ألغى بصورة فعلية قيام دولة

إسلامية في أوروبا، حيث جعل البوسنة اتحاداً مع الكروات، وقبل المسلمون ذلك

على مضض؛ خوفاً من الاستئصال الذي كان يجري بمباركة الهيئة الأممية والدول

الكبرى، ومع أن ذلك الاتفاق تضمن محاكمة مجرمي الحرب في البلقان جميعهم،

إلا أن الأمر استقر على محاكمة زعيمي الصرب: (كرادتيش) و (ميلاديتش) ، وفي

يوم الثلاثاء الموافق 20/12/1416هـ بدأت محاكمة مجرمي حرب البوسنة في

لاهاي (حيث توجد محكمة العدل الدولية) ومن المتوقع استمرارها طويلاً؛ لتتقصى! انتهاكات الصرب بحق المسلمين! ! ، وقد اتخذت إجراءات مبدئية بعزل

المجرمَين الكبيرين من العمل السياسي، وبدأت المحاكمات على استحياء، مع أفراد

من مجرمي الحرب، وبقي الأسبوع الأول حافلاً بنشر الأخبار حول إثبات ونفي

موضوع (استقالة كراديتش) والحقيقة هي: ما قاله نائب الرئيس البوسني:

(أصبحت الأسرة الدولية رهينة كراديتش وقائده العسكري) .

لقد كانت متابعة ومعالجة هيئة الأمم المتحدة لهذه القضية لينة باردة وربما

متواطئة مع استهتارهم بقرارات الهيئة، وتلك الصورة إفراز واضح لازدواجية

المعايير التي تمارسها الهيئة تجاه حقوق المسلمين.

إن المحاكمة لمجرمي الحرب في (نورمبرج) استمرت بكل حماس ومتابعة

جادة، وصدرت القرارات بصورة سريعة وحازمة مع ملاحظاتهم على قانونية

المحاكمة كما سبقت الإشارة إليه، أما محاكمات (لاهاي) الأخيرة لمجرمي حرب

البلقان فقد بدأت على استحياء، وربما تأثر إيقاعها بتهديد الصرب بأنهم سيقتلون

جنود هيئة الأمم المتحدة في حالة إلقاء القبض على زعيمهم وقائده العسكري.

إن القوة والحزم بل الظلم مع المسلمين، والتساهل والاستهتار مع غيرهم:

ظاهرة ملموسة جعلت الهيئة في موقف مشبوه في إجراءاتها، مما يجعلنا غير

متوقعين لأي إنصاف منها لحل قضايا المسلمين.. وسيتضح للجميع أن محاكمة

(لاهاي) مهزلة في بداياتها، وفي أثنائها، وربما في نهاياتها، وهذا ما قد توضحه

الأيام، لأن الهيئة قامت على أساس ظالم، فرق بين الدول، وأوجد (دولاً كبرى)

لها حق النقض لكل ما لا تريده، وهناك أساليب أخرى لتمرير ما تريده تلك الدول

بوسائل الضغوط والتهديد باتخاذ مواقف بعينها لمصالحها.

نحن لا ننتظر الإنصاف من هيئة الأمم المتحدة ولا من منظماتها، لذا لا

نتوقع منها قرارات حازمة سوى ضد المسلمين. بينما يعربد الصهاينة مثلاً ويعتدون

ولا يصدر ضدهم أي قرار بالعقوبات؛ لكننا نذكر أبناء أمتنا بأن عزتهم ومنعتهم لن

تكون إلا بتجمعهم وتعاونهم، وبأن تكون منطلقاتهم هي أصول دينهم الحق بفهم

سلفنا الصالح، وأنهم ما داموا (شذر مذر) فهم عالة على من سواهم، وسيكونون

مُنْتَهَكِين في كرامتهم ومسلوبين في حقوقهم، لأن إذلالنا هدف أعدائنا الذين يعملون

له، كما قال (تعالى) :[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]

[البقرة: 120] .

ص: 4

دراسات شرعية

الوسائل وأحكامها

في الشريعة الإسلامية

بقلم: د.عبد الله التهامي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.. أما

بعد:

فمن القضايا الملحّة: معرفة فقه الوسائل، وأحكام التوصل إلى المقاصد

الشرعية، خاصة مع تكاثر الوسائل في هذا العصر وتجددها بصورة مذهلة أخّاذة،

ويمكن الإشارة إلى أهمية بحث هذا الموضوع في الآتي:

1) أن الوسائل ربع التكليف؛ إذ التكليف إما نواهٍ أو أوامر، فيدخل في

النواهي: المفاسد وأسبابها وهي الذرائع، ويدخل في الأوامر: المصالح وأسبابها

وهي الوسائل.

2) أن في معرفة الوسائل وكيفية الاستفادة منها فتحاً لآفاق الإنتاج والإبداع،

وقبضاً لمعاقد الأمور، واستمساكاً بجادة الطريق، وسيراً على سواء الصراط.

3) أن في العمل بالوسائل المنضبطة بالضوابط الشرعية: راحة للبال،

وطمأنينة للنفس، وابتعاداً عن الهوى وحظوظ النفس، وتجرداً للحق، واتباعاً

للشرع، فيكون العمل بذلك أدعى للصدق والإخلاص، وأقرب لالتماس الأجر

والثواب.

4) بفقه الوسائل يمكن تقدير حجم الخلافات الواقعة في عدد كبير من وسائل

الإصلاح ومناهج التغيير والبناء، ومن ثم: الإجابة على أسئلة يكثر طرحها، مثل: وسائل الدعوة هل هي توقيفية أم اجتهادية؟ وما الفرق بين البدع والوسائل؟

وهل الغاية تبرر الوسيلة؟ .

المسألة الأولى: معنى الوسائل لغة واصطلاحاً:

معنى الوسائل في اللغة: [1]

الوسائل والوُسُل: جمع وسيلة، والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب

به، والوسيلة أخص من الوصيلة لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة.

وتأتي الوسيلة في اللغة لمعانٍ عدة، منها: المنزلة عند الملك، والدرجة،

والقرابة، والرغبة، وتأتي بمعنى السرقة.

معنى الوسائل في اصطلاح الأصوليين:

وللأصوليين في معنى الوسائل اصطلاحان: عام، وخاص: فالوسائل في

الاصطلاح العام هي: الطرق المفضية إلى المصالح والمفاسد،

وبعبارة أخرى: هي الطرق المؤدية إلى المقاصد.

قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة

للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي: الطرق المفضية إليها) [2] .

ويلاحظ في هذا التعريف:

1-

اتفاق الاصطلاح العام للوسائل مع المعنى اللغوي.

2-

أن الاصطلاح العام للوسائل يطلق في مقابلة المقاصد.

3-

يدخل في الوسائل بالاصطلاح العام أمران:

* الطرق المؤدية إلى المصالح، كالأسباب والشروط الشرعية.

* الطرق المؤدية إلى المفاسد، كالحيل الباطلة، والذرائع المفضية إلى

الحرام.

أما الوسائل في اصطلاح الأصوليين الخاص فهي:

(الطرق المفضية إلى تحقيق مصلحة شرعية) .

ويلاحظ في الاصطلاح الخاص للوسائل:

1-

أن فيه تقييداً للمعنى اللغوي للوسيلة؛ إذ هو خاص بالوسيلة المؤدية إلى

المصالح دون الوسيلة المؤدية إلى المفاسد.

2 -

أن الوسائل بالمعنى الخاص تطلق في مقابل الذرائع بالمعنى الخاص.

3 -

أن الوسائل بالمعنى الخاص يدخل فيها كل ما يتوقف عليه تحقيق

المصالح الشرعية وتطبيق الأحكام المرضية، من: لوازم، وشروط، وأسباب،

وانتفاء موانع، وصيغ وألفاظ [3] .

المسألة الثانية: الفرق بين الوسائل والذرائع:

الذرائع كالوسائل لها معنيان عام وخاص.

فالذرائع بالإطلاق العام: كل ما يتذرع به سواء إلى المصالح أو إلى المفاسد [4] .

والذرائع بهذا الإطلاق تتفق مع الوسائل في الإطلاق العام، ويرجع ذلك إلى

اتفاق اللفظتين في المعنى اللغوي؛ إذ الذريعة والوسيلة لغةً بمعنى ما يتوصل به

إلى الشيء.

أما الذرائع في الاصطلاح الخاص فهي: الطرق المفضية إلى المفاسد.

ومعنى قاعدة سد الذرائع [5] : أن الفعل المباح إذا كان ذريعة إلى محرم

فالشارع يحرم هذه الذريعة وإن لم يُقصد بها المحرم؛ لكونها مفضية إليه.

قال ابن تيمية: (والذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت

في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم

يكن فيها مفسدة ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى

فعل المحرم) [6] .

ولمنع الذريعة قيود ثلاثة [7] :

أ- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة.

ب- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.

ج- أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة غالباً.

مثال ذلك: أن الله نهى عن سب آلهة الكفار مع كونه من مقتضيات الإيمان

بألوهيته (سبحانه) ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى

عَدْواً وكفراً على وجه المقابلة، قال (تعالى) : [وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ

اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: 108] .

وقاعدة سد الذرائع يقابلها على وجه الدقة قاعدة فتح الذرائع، وهي: طلب

تحصيل الوسائل المؤدية إلى المصالح.

وبذلك: يتبين أن الذرائع في الاصطلاح الخاص تقابل الوسائل في

الاصطلاح الخاص [8] ، فالذرائع هي طرق الشر والفساد، والوسائل هي طرق

الخير والصلاح.

والمطلوب شرعاً في الذرائع: سدها ومنعها؛ سعياً لمنع المفاسد وإبطالها.

كما أن المطلوب بقاعدة سد الذرائع: إبطال الحيل [9] ؛ إذ الحيل ذرائع

يتوصل بها إلى الحرام.

قال ابن القيم: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة؛ فإن

الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة.

فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم، إلى من يعمل في

التوصل إليه؟) [10] .

والحيل: منها ما هو جائز بل واجب، ومنها ما هو محرم، وهو الغالب في

عرف الفقهاء.

قال ابن القيم: (فالحيلة جنس، تحته: التوصل إلى فعل الواجب، وترك

الحرام، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته: التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، ولما قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله

بأدنى الحيل) [11] غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم.

وكما يذم الناس أرباب الحيل فهم يذمون أيضاً العاجز الذي لا حيلة عنده؛

لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه.

فالأول: ماكر مخادع، والثاني: عاجز مفرط، والممدوح غيرهما، وهو من

له خبرة بطرق الخير والشر خفيّها وظاهرها؛ فيحسن التوصل إلى مقاصده

المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرق الشر الظاهرة

والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به، فيحترز منها، ولا يفعلها، ولا

يدل عليها، وهذه كانت حالات سادات الصحابة رضي الله عنهم [12] .

والمقصود بالحيل التي يتوصل بها إلى المقاصد المحمودة: الوسائل

المنضبطة بالضوابط الشرعية.

أما التحيل الممنوع فهو: (أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما

أوجبه، بأن يأتي بسببٍ نَصَبَه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود؛ فيجعله المحتال

سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه) [13] .

مثال ذلك: أن بني إسرائيل لما حُرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت نصبوا

البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في

الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى يوم السبت أخذوها؛ فمسخهم الله إلى

صورة القردة [14]، قال (تعالى) : [وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ

إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَاًتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاًتِيهِمْ

كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [الأعراف: 163] .

جدول يبين أوجه الاتفاق والافتراق بين الوسائل والذرائع

--------------------------------------------------------------------------

أوجه الاتفاق أو الافتراق الوسائل الذرائع

-----------------------------------------------------------------------------------------

1-

المعنى اللغوي

كل ما يتوصل به

2-

الاصطلاح العام

الطرق المؤدية إلى المصالح والمفاسد

3-

الاصطلاح الخاص الطرق المؤدية إلى المصالح الطرق المؤدية إلى المفاسد

4-

المقصد المتوسل إليه مصلحة

مفسدة

5-

حكم العمل بكلٍّ مطلوب

ممنوع

6-

اعتبار النية لابد من القصد إلى

لا يشترط القصد إلى المفسدة

القصد المتوسل إليه

-----------------------------------------------------------------------------------------

المسألة الثالثة: أقسام الوسائل:

أولاً: تنقسم مطلق الوسائل بالنظر إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار أو بالإلغاء إلى ثلاثة أقسام:

1-

وسائل معتبرة شرعاً، وهي: كل ما أمر به في الكتاب أو السنة أمْر

وجوب أو استحباب، وهذه الوسائل كلها مصالح أو أسباب للمصالح لا للمفاسد.

2-

وسائل ملغاة شرعاً، وهي: كل ما نهي عنه في الكتاب أو السنة نهي

تحريم أو كراهة، وهذه الوسائل كلها مفاسد أو أسباب للمفاسد لا للمصالح.

قال الشاطبي في بيان هذين القسمين: (فإذن: لا سبب مشروعاً إلا وفيه

مصلحة لأجله شُرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة: فاعلم أنها ليست ناشئة عن

السبب المشروع.

وأيضاً: فلا سبب ممنوعاً إلا وفيه مفسدة لأجلها مُنع، فإن رأيته وقد انبنى

عليه مصلحة فيما يظهر: فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع.

وإنما ينشأ عن كل واحد منها: ما وُضع له في الشرع إن كان مشروعاً، وما

منع منه إن كان ممنوعاً.

وبيان ذلك: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً لم يقصد به الشارع

إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد

الباطل؛ كالجهاد، ليس مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة؛ لكن يتبعه في

الطريق الإتلاف: من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين

وشهر السلاح وتناول القتال) [15] .

3-

وسائل مسكوت عنها، وهي: الوسائل المرسلة، وضابطها: كل ما

سكت عنه الشارع أو أباحه، وهذا القسم من الوسائل هوالمقصود بالبحث في هذا

المقام.

ثانياً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى درجة إفضائها إلى المقصود إلى ما يأتي [16] :

وسائل قطعية الإفضاء، ووسائل غالبة الإفضاء، ووسائل كثيرة الإفضاء،

ووسائل محتملة الإفضاء، ووسائل نادرة الإفضاء.

والمقصود: أن درجة الإفضاء قضية نسبية، تختلف من وسيلة إلى أخرى،

ومن مقصد إلى آخر، وتختلف أيضاً باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمنة،

والأمكنة.

ثالثاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى تعيّنها أو عدمه في تحقيق المقصد إلى:

1-

وسيلة متعينة؛ إذ لا توجد وسائل أخرى يتحقق بها هذا المقصد إلا هذه

الوسيلة فقط؛ فأشبهت هذه الوسيلة في تعيّنها: الواجب المعين والفرض المعين،

وذلك كالسفر إلى مكة لمن أراد الحج بالنسبة إلى البعيد؛ فإنه وسيلة لا بد منها

لتحقيق المقصود وهو الحج.

2-

وسيلة غير متعينة؛ يتحقق المقصد بها أو بغيرها من الوسائل، فهذه

الوسيلة أشبهت الواجب المخير، أو المطلق والفرض الكفائي، وذلك من جهة تعدد

الوسائل وتخيّر المكلف ما شاء منها؛ كالسفر إلى مكة للحج بالنسبة إلى البعيد، فإنه

مقصد يتحقق بأكثر من وسيلة: بالسفر برّاً، أو جوّاً، أو بحراً.

رابعاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى نوعها إلى:

لوازم، وأسباب، وشروط، وانتفاء موانع، ومكملات، وسيأتي الكلام على

هذه الأقسام عند الكلام على مقدمة الواجب.

خامساً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى قربها من المقصد إلى:

1-

وسائل إلى المقصود.

2-

وسائل إلى وسائل المقصود.

وقد بيّن هذين القسمين العز بن عبد السلام رحمه الله ، فقال: (وهذان

قسمان:

أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه؛ كتعريف التوحيد، وصفات

الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد، والتوسل إليه من أفضل الوسائل.

القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة؛ كتعليم أحكام الشرع؛ فإنه وسيلة إلى

العلم بالأحكام، التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة

والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد [17] .

وقال في موضع آخر: (والحقوق كلها ضربان: أحدهما: مقاصد، والثاني:

وسائل، ووسائل وسائل) [18] .

إذا علم ذلك: فإن جميع المقدمات والوسائط والتدابير المفضية إلى مقصدٍ ما:

تدخل تحت مسمى الوسائل، ويمكن أن نمثل لذلك بالمسلم الذي وجب عليه الحج

من أهل الصين، فإنه لكي يؤدي فريضة الحج يلزمه مثلاً فعل الآتي: تحصيل

التكاليف المادية الكافية لهذه الرحلة، ثم تسجيل اسمه في قائمة الراغبين في الحج

من وقت مبكر، ثم الحصول على التصريح بالحج من الجهات الرسمية، ثم اختيار

وسيلة السفر ولتكن هي طائرة وحجز مقعد فيها، ثم الاستعداد للسفر بتهيئة لوازم

السفر وأغراضه الخاصة، مع الحرص على الحضور في موعد الانطلاق، وعدم

التأخر، ثم صعود الطائرة، ثم إكمال إجراءات الإقامة عند الوصول

إلى غير

ذلك.

والحاصل: أن جميع هذه الأعمال التي لا بد من فعلها إما أن تكون وسائل

مباشرة في تحقيق المقصد، أو تكون وسائل غير مباشرة، بل هي تفضي إلى

وسائل وسائل وسائله، والقاعدة: أن وسائل الوسائل وسائل.

المسألة الرابعة: خصائص الوسائل:

لكي تتميز الوسائل عن المقاصد، ولا تلتبس بها: فإن الوسائل تنفرد

بالخصائص التالية:

1-

أن كون الشيء وسيلة من الأمور النسبية؛ بمعنى: أن الشيء قد يكون

وسيلة باعتبار، ومقصوداً باعتبار آخر.

قال الشاطبي: (والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن

تكون مقصودة في أنفسها) [19] وذلك كالجهاد؛ فهو وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو

الكفر، وهو مقصد يتوسل إليه بالإعداد والاستعداد [20] .

2-

أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لذاتها؛ بل هي مقصودة

من حيث كونها محققة لمقصد آخر، والقاعدة: أن الأسباب مطلوبة لأحكامها لا

لأعيانها [21] .

قال الشاطبي: (وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة

لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد؛ بحيث لو سقطت المقاصد: سقطت الوسائل،

وبحيث لو تُوصل إلى المقاصد دونها لم يُتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم

المقاصد جملة؛ لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث) [22] .

3-

أن شرط اعتبار الوسيلة من حيث كونها وسيلة: ألاّ يعود هذا الاعتبار

على المقصد بالبطلان.

مثال ذلك: أن المصلي إذا لم يجد ساتراً صلّى على حالته، وسقط عنه ستر

العورة، وذلك: أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اعتبارها

عند ذلك، لأمرين [23] :

أ- أن في إبطال الأصل إبطال للتكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع

الموصوف، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك

ارتفاع الصفة أيضاً، فاعتبار التكملة على هذا الوجه مؤدٍّ إلى عدم اعتبارها، وهذا

محال لايتصور، وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.

ب- أنه لا مقارنة بين مصلحة الأصل ومصلحة تكملته، فلو خُيّرنا بينهما

لكان حصول مصلحة الأصل مع فوات مصلحة التكملة أولى من حصول التكملة

فرضاً مع فوات الأصل.

4-

إذا علم أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، فإنها إذا بطلت لايلزم من

بطلانها بطلان الأصل؛ كالموصوف مع أوصافه، ومن المعلوم أن الموصوف لا

يرتفع بارتفاع بعض أوصافه.

مثال ذلك: الصلاة إذا بطل منها الذكر والقراءة أو التكبير

أو غير ذلك

مما لا يعد ركنا لأمر؛ لا يبطل أصل الصلاة إلا إذا كانت الصفة ذاتية، بحيث

صارت جزءاً من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة

من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما في الركوع

والسجود ونحوهما في الصلاة بالنسبة للقادر عليهما [24] .

5-

وعلى العكس مما سبق: فإن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها [25] ؛ إذ

هي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف

[26]

.

والقاعدة: أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة من حيث هي

وسيلة إليه [27] .

ويقرب من ذلك قولهم: (الفرع يسقط إذا سقط الأصل) كالحائض؛ لا تقضي

رواتب الصلاة التي فاتتها أيام الحيض [28] .

قال العز بن عبد السلام: (ولا شك بأن الوسائل تختلف بسقوط المقاصد؛

فمن فاتته الجمعة والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها؛ لأنه استفاد

الوجوب من وجوبهن، وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن؛ لأنها استفادت

الندب منهن) [29] .

6-

أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد [30] .

فمن ذلك: قولهم: (مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبداً)[31] ،

وقولهم: (التابع لا يتقدم المتبوع) كالإمام مع المأموم [32] .

ولما كانت مرتبة الوسائل أدنى من مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم

الوسائل؛ فمن ذلك: قولهم: (يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد)[33] ،

وقولهم: (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)[34]، وقريب منها: (يغتفر

في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً) ، كالصلاة عن الغير: تجوز تبعاً لا قصداً، وذلك في ركعتي الطواف في الحج عن الغير، وكجواز بيع الحمل مع أمه تبعا لا

استقلالاً [35] .

7-

أنها مبنية في الحكم عليها بالصحة أو البطلان على الأدلة الكلية والقواعد

العامة؛ كالاستصلاح، وقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به) ، ومتى شهد للوسيلة دليل

خاص بالاعتبار لم تكن وسيلة مرسلة، بل هي والحالة كذلك مصلحة شرعية،

ومتى شهد للوسيلة دليل خاص بالإلغاء كانت مفسدة أو ذريعة إلى مفسدة. والحاصل: أن الوسائل لا حظّ لها من أدلة الشرع الخاصة.

8-

أنها منتشرة واسعة؛ يصعب حصرها، وتتعذر الإحاطة بها، لا سيما مع

تجدد النوازل، واختلاف الأحوال، وتطاول الزمان، فلا بد لها من أصول تجمعها، وضوابط تعتبر بها.

9-

أنها محتملة الإفضاء إلى مقاصدها؛ فقد يقطع بإفضائها، وقد يكثر، وقد

يبعد، بل قد يمتنع فيما إذا كانت موهومة، وهذا بخلاف المصالح والمفاسد

الشرعية: فإنها كما تقدم مفضية إلى مقاصدها.

10-

أنها قد تكون اجتهادية؛ ذلك أنها في كثير من الأحيان تخضع لآراء

المجتهدين ونظر المكلفين: فما يعتبره بعضهم وسيلة مناسبة قد لا يعتبره بعضهم،

ومهما كان هذا الخلاف واقعاً في دائرة المسائل الاجتهادية فلا تثريب على المختلفين

فيما اختلفوا فيه.

(1) انظر: أساس البلاغة، ص 499، والمفردات، ص 871، والنهاية في غريب الحديث والأثر، 5/185، ولسان العرب، 11/724، 725.

(2)

الفروق: 2/32.

(3)

انظر: مقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص 148، والقواعد والأصول الجامعة، لابن سعدي، ص10، 11.

(4)

انظر: شرح تنقيح الفصول، ص 448، 449، والفروق، 3/32، 33.

(5)

انظر: إغاثة اللهفان، 1/36 370، وإعلام الموقعين، 3/135 159.

(6)

الفتاوى الكبرى: 6/172.

(7)

(انظر: المصلحة في الفقه الإسلامي، للدكتور حسين حامد حسان، ص 202.

(8)

انظر: شرح تنقيح الفصول، ص 448، والفروق: 2/32، 33.

(9)

انظر: الفتاوى الكبرى، 6/5 320، وإغاثة اللهفان: 1/338 360، 2/72 121، وإعلام الموقعين، 3/159 240.

(10)

إعلام الموقعين، 3/159.

(11)

لم أقف على تخريجه.

(12)

إعلام الموقعين، 3/241.

(13)

إغاثة اللهفان، 2/80.

(14)

انظر: إعلام الموقعين، 3/162، وتفسير ابن كثير، 1/109.

(15)

الموافقات، 1/238، 239.

(16)

انظر: الموافقات، 2/348، 349، ومقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص 86، 87.

(17)

قواعد الأحكام، 1/105.

(18)

قواعد الأحكام، 1/141.

(19)

الموافقات، 1/66.

(20)

انظر: قواعد الأحكام، 1/105، 106، شرح تنقيح الفصول 449، والفروق 2/33.

(21)

انظر: قواعد الحصيري 449.

(22)

انظر: الموافقات 2/212.

(23)

الموافقات 2/12-25.

(24)

الموافقات 2/20، 21، ومقاصد الشريعة لابن عاشور 148.

(25)

وتسقط الوسائل أيضاً إذا تبين عدم إفضاؤها إلى مقاصدها انظر القواعد للمقري 1/242.

(26)

إلا إذا كانت هذه الوسيلة مقصداً باعتبار آخر، فإنها لا تسقط من هذه الجهة، وذلك كمن لا شعر له في الحج، فإنه يمر بالموسى على رأسه انظر: قواعد الأحكام ص107، والقواعد للمقري 1/329، وشرح تنقيح الفصول ص 449 والفروق 2/32 والموافقات 2/19، 20.

(27)

انظر المصادر السابقة.

(28)

انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص118، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص121.

(29)

قواعد الأحكام، ص107.

(30)

انظر شرح تنقيح الفصول ص449، والفروق 2/33.

(31)

انظر القواعد للمقري 1/330.

(32)

انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص119، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص121.

(33)

انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص158.

(34)

انظر المصدر السابق: ص120، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 121.

(35)

انظر الأشباه والنظائر للسيوطي، ص120.

ص: 8