المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نجيب محفوظ..خلفية فكرية لفنه الروائي(1 - مجلة البيان - جـ ١٠٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌نجيب محفوظ..خلفية فكرية لفنه الروائي(1

محاضرات وندوات

‌نجيب محفوظ..

خلفية فكرية لفنه الروائي

(1

من 2)

بقلم: د. مصطفى السيد

ولد نجيب محفوظ في 11/12/1911م في وقت لم تكن الساحة الثقافية في

مصر تعيش لحظة المخاض بين يدي ميلاد ثقافة جديدة مبهمة المعالم ملتبسة

الخطوط، لم يكن الأمر كذلك؛ لأنه منذ تولى (محمد علي)(1769م 1849م) حكم

مصر بدأ مشروع تهميش جزء كبير من الإسلام وإقصائه عن الحضور الشامل في

وجدان كثيرين من أفراد المجتمع وسلوكهم، كما جرى إبعاده عن أكثر مؤسسات

الدولة، وحصره في المساجد والجوامع، وإضعاف أكبر معاقله التاريخية في أرض

الكنانة (الأزهر الشريف) ، وذلك لحساب المدارس والبعثات الأجنبية التي شكلت

العمود الفقري للبنية الثقافية الجديدة، ولقد سبقت البعثات التي أرسلها (محمد علي)

إلى فرنسا هذه المدارس ومدارس البعثات الأجنبية إلى زحزحة الأزهر والأزهريين

عن مكانتهم التاريخية بوصفهما مرجعين تربويين وعلميين في مصر وخارجها

أيضاً.

ولقد أدى تقلص دور الأزهر والأزهريين في الحياة المصرية وتمدد المشروع

الغربي إلى فتح كثير من منافذ البلاد الفكرية والثقافية أمام ذلك المشروع، ولا سيما

شطره الفرنسي الذي أراد نابليون أن يجعل من أرض الكنانة أولى البلاد الإسلامية

التي يزرع في تربتها بذور الثورة الفرنسية (1789م) .

يقرأ (جومار) الخبير الفرنسي الذي رافق نابليون في حملته على مصر، ثم

أصبح مشرفاً على المبتعثين المصريين أيام (محمد علي) إلى فرنسا، يقرأ إجاباتهم

فيعلق عليها قائلاً:

(يظهر من فحوى كتاباتهم: أنهم قبل أن يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل

عربي، فمن المنتظر أن الخرافات الشرقية ستمحى من عقولهم تدريجيّاً) [1] .

هكذا يرى هذا الفرنسي في هؤلاء المبتعثين بداية واعدة تؤذن بتفتت البنية

العقلية العربية والهوية الإسلامية لهؤلاء الطلبة، فيقربهم ذلك من اعتماد المرجعية

العقلية للحضارة الغربية ويعدهم للدوران في فلكها.

دور رفاعة الطهطاوي:

لقد ترتب على مشروع (محمد علي) انكماشاً وتهميشاً لدور الأزهر التاريخي

والمستقبلي [2]، ومما يبعث على الأسى: أن هذا التراجع للأزهر شيوخاً وطلاباً

قد تم على أيدي بعض الأزهريين، ويعد الأزهري (رفاعة الطهطاوي) (ولد عام

1801م) ضمن هذا السياق (ممثلاً حالة نموذجية لوضع العالِم ضمن مشروع (محمد

علي) التحديثي، ف (الطهطاوي) نشأ وتشكل في سياق التجربة الجديدة، ووجد في

الشيخ (حسن العطار)(أستاذه، وشيخ الأزهر فيما بعد) القدوة والموجه، فالشيخ

(حسن العطار) هو من العلماء القلائل الذين فتنتهم علوم المحتل الفرنسي ووقعوا

تحت وطأتها، إن حداثة سن (الطهطاوي) ، والمرجعية الفكرية التي مثلها بالنسبة

إليه الشيخ (العطار)، مضافاً إلى ذلك نشأته الفقيرة: جعلت من الآفاق التي فتحتها

أمامه سياسة (محمد علي) الأسس التي صاغت توجهه اللاحق عبر مختلف الكتابات

التي حبّرها بعد رجوعه من فرنسا والتي شكلت تعبيراً دقيقاً عن واقع العالم الملحق

بمنطق الدولة الناشئة، والمشارك في تنفيذ سياستها انطلاقاً من موقعه هذا) [3] .

ولم ينته دور هؤلاء الأزهريين (القلائل) عند حدود المشاركة العلمية والعملية

في التغريب الذي بدأ على استحياء أيام (محمد علي) ليصبح مشروعاً شاملاً في أيام

محفوظ، لم ينته دورهم عند حدود تلك المشاركة، بل تطور إلى مدح ما قام به

(محمد علي)، يقول (رفاعة الطهطاوي) :

(لو لم يكن للمرحوم (محمد علي) من المحاسن إلا تحديد المخالطات المصرية

مع الدول الأجنبية لكفاه ذلك، فلقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها

بوصال أبناء الممالك الأخرى لنشر المنافع العمومية، واكتساب السبق في ميدان

التقدمية) [4] .

وهكذا تحول الشيخ (رفاعة) إلى مجرد باحث عن كل ما يبرر ويدعم سياسات

(محمد علي) التحديثية التي كانت أساس الانفتاح على الغرب، وقد وصل في

أحايين كثيرة إلى حدود التهور والفجاجة، لقد كان المتوقع أمام المأزق الحضاري

أيام (محمد علي) العودة إلى التجربة الإسلامية الراشدة، لتحصين الأمة بدينها، لا

باستعارة حضارة لم تأت بتقدم، ولم ترتق بدين يمتلك عناصر الرقي ويحفظ على

الأمة وحدتها وشخصيتها ورسالتها.

دعاة التغريب ورموزه:

وبمرور الزمان أخذ الاتجاه نحو تغريب المجتمع العربي المسلم في مصر،

ومن ثم: بقية العالم العربي، أخذ يشتد ساعده ويكثر مساعدوه، ويتغلغل فكراً

ومفكرين في شؤون الحياة كلها، ويتقدم نحو مواقع كانت تاريخيّاً وقفاً على دعاة

التوجه الإسلامي.

وكان في دعم الدولة ممثلة بالخديوي (إسماعيل) حفيد (محمد علي) أقوى

الأسباب التي مكنت للمشروع الغربي في مصر، يضاف إلى ذلك: ضعف الدولة

العثمانية التي آذنت شمسها بمغيب، وزاد الطين بلة: غياب مخطط إسلامي يوقف

التداعي الداخلي.. هذه الأمور وأمور أخرى ليس هنا موضع سردها تركت الساحة

العربية المسلمة مشرّعة على شتى الاحتمالات، تستقبل شتى التحديات واهنة القوى

مشتتة الرأي؛ فاشرأبت أعناق دعاة التغريب من المثقفين لتقصر المرجعية

الحضارية على لندن وباريس، وجأر (أحمد لطفي السيد)(1870م 1963م)

بدعوته إلى الليبرالية الغربية، ومحاربته للجامعة الإسلامية، جاعلاً من سلبيات

الحكم العثماني منطلقاً لمجابهة أي توجه إسلامي، ومن إشرافه على الجامعة

المصرية (1925م 1941م) فرصة لا تفوّت لتأسيس هذه الجامعة توجهاً ولوائح

ومناهج على أصول الفكر الليبرالي الغربي.

وبالجملة: فلقد (انتقل الفكر القومي على يد (لطفي السيد) إلى مرحلة جديدة،

وقد تميز فكره السياسي بالخصائص التي ميزت فكرة الطهطاوي، وهي:

الإيمان ب: القومية المصرية، والديمقراطية الليبرالية؛ والدعوة إلى نقل

مقومات الحضارة الغربية، وإن تميز بأن تفكيره أكثر علمانية كما يتضح من

مهاجمته لفكرة الجامعة الإسلامية) [5] .

دور علي عبد الرازق الانهزامي:

في هذا المناخ الليبرالي أخرج (علي عبد الرازق) كتاب (الإسلام وأصول

الحكم) سنة 1925م، مكملاً بذلك الشطر الآخر من دعوة (أحمد لطفي السيد) الذي

استمات في الدفاع عن القيم الغربية وتقديمها للشرق العربي المسلم بوصفها الدواء

الشافي لكل علل التأخر والتخبط، لقد أراد (علي عبد الرازق) أن ينهض بالشطر

الأهم من هذه الهجمة المتمثل بالدعوة الكاذبة القائلة بخلو الإسلام من العناصر

اللازمة لقيام دولة، وأن كل ما في الإسلام عن هذا الجانب لا يعدو بعض القيم

الأخلاقية التي هي أضعف من أن تشكل دولة بالمفهوم القديم لهذه الكلمة، فأنّى لها

أن تكوّن عناصر قيام دولة بالمفهوم المعاصر؟

الأدباء والدعوة لليبرالية:

ولم تكد العاصفة التي أحدثها (الإسلام وأصول الحكم) تهدأ حتى يفاجأ العرب

المسلمون في مصر وخارجها بكتاب (في الشعر الجاهلي) سنة 1926م، لا ليمثل

ثرثرة حول قضايا أدبية تتسع لأكثر من رأي، بل للتشكيك في صدق الحقائق

التاريخية الموجودة في القرآن الكريم، وإذا كان الجمهور المصري من عامة

وعلماء وأحزاب أكثرهم قد أدانوا الكتاب الضرار، فإن (أحمد لطفي السيد) عمل

بكل ما في وسعة مستغلاً حربة البحث العلمي واستقلالية الجامعة، ليواري بها

السوأة الفكرية للكتاب والكاتب، داعماً مثل هذه البحوث المشبوهة وأصحابها الذين

صُنعوا على أعين الغرب.

في هذا المناخ القاتم الذي يعد امتداداً لمشروع (محمد علي) ، و (رفاعة

الطهطاوي) ، و (حسن العطار) ، وما كان يحمل من بذور حضارية نافعة غطت

عليها وألغتها سيطرة الروح الغربية الطاغية على دعوته ودعاته، ثم تجلّى هذا

المشروع بداعية جَلَد ضاعف فيه من الجرعة الغربية، وقلّت فيه الروح الإسلامية

الواهنة التي صاحبت دعاة المشروع الأوائل، قصدت بذلك من أطلق عليه لقب

أستاذ الجيل: (أحمد لطفي السيد) ، ولم يكن (لطفي السيد) يعمل وحيداً، بل آزره

(علي عبد الرازق) و (طه حسين) من خلال ما كتبا، وأخيراً: يأتي تراجع الأزهر؛ ليزيد الطين بلة، ويبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين

بيئة نجيب محفوظ وثقافته:

في هذا المناخ القاتم يولد هذا الروائي الكبير ليمتص هذا الثقافة، ويغذو قلبه

وعقله بفكرها ومفكريها، يولد في مثل هذا المناخ الملوث الذي يشكل حصاراً

وتحدياً لكل محاولات البعث الإسلامي، يتنفس محفوظ في هذا الجو، وتتأسس

ثقافته، ومن ثم: إبداعه الروائي، تأسيساً يجعل منه اللسان الروائي لتجمع

(الضرار) .

لم يكن محفوظ ليتردد في الانتماء الثقافي والروائي والسياسي إلى تجمع

(الضرار) الذي يمكِّن عمليّاً وفي العمق للفكر الذي يتناقض مع الدين، في الوقت

الذي يعلن فيه الضراريون أنهم لا يعملون إلا لبعث الدين [وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَاّ

الحُسْنَى] [التوبة: 107] .

وإذا كان الفكر الغربي يجد بعض المسوغات لتسويقه في بلاد المسلمين بما

يمتلك من منجزات في الميدان التقني، فبم نفسر انحياز الأستاذ (نجيب محفوظ)

لفكر منقرض مذموم في الكتاب والسنة؟ ، وكيف نفهم قوله لـ (جمال الغيطاني)

الكاتب الروائي: (إن العصر الفرعوني هو المرحلة المضيئة في مواجهة الواقع

المر الذي كنا نعيشه) [6] .

ولقد أتيحت لهذا الروائي الموسوعي الفرصة لكي يطل على الثقافة الإسلامية

من موقع علمي وموثوق، وذلك عندما سجل رسالة الماجستير عن (علم الجمال عند

المسلمين) بإشراف العلامة الشيخ (مصطفى عبد الرازق)(رحمه الله تعالى) ،

وكانت الفرصة لو تمّت ستتيح للكاتب الاطلاع على الثقافة الإسلامية من مصادرها

التي يعتد بها، لا من المشعوذين الذين ازدحمت قصصته ورواياته بشخوصهم

وآرائهم، إن الجلوس مع أمثال الشيخ (مصطفى عبد الرازق) كان سيشكل مكسباً

عظيم العائد والمردود لهذا الروائي المتمكن، لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو

خير، واستعاض بالشيخ (مصطفى عبد الرازق) أصدقاء كان يشرب معهم الشيشة

ويحتسي بعض كؤوس الويسكي والاستماع إلى أم كلثوم [7] .

تتلمذه على (سلامة موسى) :

كما استبدل بالشيخ رأساً من رؤوس الفكر الغريب عن روح الأمة وعن

تجربتها ومسيرتها، قصدت بذلك (سلامة موسى) الذي يقول عنه محفوظ:

(وكان لـ (سلامة موسى) أثر قوي في تفكيري؛ فقد وجهني إلى شيئين

مهمين هما: العلم، والاشتراكية، ومنذ دخلا مخي لم يخرجا حتى الآن) [8] .

إن (سلامة موسى) قد وجهه إلى العلم الذي جعل (كمال عبد الجواد) يقول

على لسان الكاتب في (قصر الشوق) : (أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن أبي قرداً

إذا شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبي حقّاً ما

سخرت مني سخريتها القاتلة) [9] .

لعله ليس من المبالغة القول: إن التصور الإسلامي بما يمنح المؤمن من

القدرة على تجاوز اليأس والإحباط، واستبدال التفاؤل بالتشاؤم، إن هذا التصور

عندما غاب عن رؤية الكاتب لمستقبل الصراع العالمي للإنسان فإنه جعل هذه

الرؤية (لا تحمل أملاً في خلاص الإنسان، ولا حلماً بالخلاص، والأديب الذي

يكتب بمثل هذه الرؤية، لا يُنتَظر منه أن يعيد تشكيل الواقع ليكشف عن رؤية

جديدة للإنسان والواقع، وغاية ما يمكن أن يقدمه هو الوقوف عند حدود تصوير

الواقع الذي يراه في صورة مأساة كاملة ومستمرة) [10] .

إن غياب هذا التصور قد أفقد الكاتب تلك النزعة المتفائلة والواعدة بمستقبل

أفضل للإنسان، تلك النزعة التي أخذها أمثال (ديكنز) و (تولستوي) و (همنجواي)

من نصرانية محرفة، فباعدت بين أدبهم واليأس والقتامة، في حين كان بمقدور

كاتبنا أن يفيد من روضة الإسلام (اللامتناهية) في هذا الموضوع، ومن روحية

الشعب المصري المفطور على الكفاح المتفائل، والمكتشف بحسه الروحي لحزم

النور في ليالي الظلام المتكاثف.

لقد أدار الكاتب ظهره، ونأى بقلمه عن الاستفادة من الكنوز الروحية لمصر

الإسلامية، وراح ينقل الهموم الغربية إلى الرواية العربية نقلاً جعل بعض النقاد

يقول: (إن جرأة مشروع محفوظ في (حكاية بلا بداية ولا نهاية) .. وهو طي

صفحة التصور الديني للعالم، وتكريس التصور العلمي بديلاً له ووريثاً، وأن

التصور الديني للعالم قد دبت فيه الشيخوخة، وفَقَد القدرة مثله مثل الشرايين حين

تصاب بالتيبس على الاستجابة لمتطلبات العصر الذي لا سنة له غير التغير) [11] .

وبقدر ما كان محفوظ يباعد ما بينه وبين التصور الإسلامي ويقترب من

الغرب المقيم من خلال مثقفيه ومسوقيه من العرب، والغرب البعيد في دياره

وأوطانه.. بقدر ما كان يفعل ذلك كانت أزمته تكبر وكان يسقطها على أبطاله مع

كثير من التعسف والقسر الفني والموضوعي للشخصيات لتكون مطواعة لتصورات

الكاتب.

لقد ظهر ذلك جليّاً في رواياته (اللص والكلاب) ، و (السمان والخريف) ،

و (الطريق والشحاذ) ، وأجلى ما يكون في (دنيا الله) ، و (حكاية بلا بداية ولا نهاية)

ولينفجر مدوياً فادحاً وفاضحاً في آن معاً في (أولاد حارتنا) .

ولعلي اكتفي بشواهد من (الثلاثية) التي جسدت هذه الأزمة:

تأتي أقوال (كمال) بن السيد أحمد عبد الجواد أحد أبطال الثلاثية (بين

القصرين، قصر الشوق، السكرية) [12] لتجسد بصورة صارخة عمق الأزمة

الروحية لمحفوظ، مبرزة رؤيته القاتمة للدين، سواء بقيمته المعنوية في حفظ كيان

الفرد والأمة، أو لجهة دوره في الصراع المستقبلي، بوصفه أحد أهم عناصر

النصر في هذا الصراع، إن لم يكن بتطبيقه وفهمه الفهم الدقيق عنصر النصر

الوحيد.

وأقوال (كمال عبد الجواد) وغيره من أبطال محفوظ لا تظهر أزمة الكاتب

الروحية وموقفه من الدين فحسب، بل تبلور انعكاس أفكار (سلامة موسى) في

الكاتب ودعوة (محمد علي) و (رفاعة) إلى التغريب التي كانت لها تجلياتها في

مختلف مجالات الحياة العربية المسلمة في مصر، وكتابات محفوظ تمثل في إنتاجها

أحد أهم هذه التجليات.

ولقد دندن أكثر النقاد عن العلاقة بين محفوظ وأبطاله عامة و (كمال عبد

الجواد) بصورة خاصة، وإذا كان النقاد قد وقفوا على أرضية صلبة في استكشاف

معالم العلاقة بين كل من (نجيب محفوظ) و (كمال عبد الجواد) بوصف جهدهم عملاً

مشروعاً من الناحية النقدية، فهم قد تركوا إبداعات مهمة في رصد هذه العلاقة

وإثبات وشائج القربى بينهما، ومما أكد على عمق العلاقة: مقولات الكاتب نفسه

التي أصّلت مقولات النقاد ورسخت ما ذهبوا إليه [13] .

يقول محفوظ: (الثلاثية، وأولاد حارتنا، والحرافيش: هم أحب أعمالي إلى

نفسي، في الثلاثية كما قلت: جزء كبير من نفسي، يتمثل في شخصية (كمال عبد

الجواد) ، إن أزمة كمال هي أزمتي، وجانب كبير من معاناته هي معاناتي، من

هنا يجيء حبي للثلاثية وحنيني إليها) [14] .

لنستمع إلى ما أورده الكاتب على لسان (كمال عبد الجواد) ، ولِنَرَ المسافة

البعيدة التي قطعها في البعد عن الدين، ووقوعه في حيرة وشك قاتلين: (سيكون -

أي: كمال- في تحرره من الدّين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به) [15] ،

ويقول كمال مناجياً نفسه في (قصر الشوق) : (كان كأنما يود أن ينعي إلى الناس

عقيدته، لقد ثبتت عقيدته طوال العامين الماضيين أمام عواصف الشك التي أرسلها

(المعري) و (الخيام) ، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية، على

أنني لست كافراً! ، لا زلت أؤمن بالله، أما الدين! ، أين الدّين؟ ! ، ذهب كما

ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة -حبيبته-، وكما ذهبت ثقتي بنفسي، كفى

عذاباً وخداعاً، لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن

أبي قرداً إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة

نبي حقّاً ما سخرت مني سخريتها القاتلة) [16] .

إن (كمال عبد الجواد) ، ومن قبله (إسماعيل) بطل (قنديل أم هاشم) لـ (يحيى

حقي) ، وبطل (الأيام) و (أديب) لـ (طه حسين) ، و (محسن) بطل (عصفور من

الشرق) لـ (توفيق الحكيم) ليسوا إلا فتية من سلالة (رفاعة الطهطاوي)[17] .

(1) عمر طوسون، البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد، مطبعة صلاح الدين بالإسكندرية، 1934م، ص 408.

(2)

يؤكد نجيب محفوظ على هذه الحقيقة منذ فجر إبداعه الروائي الذي تناول فيه الشؤون والشجون المصرية عامة والقاهرية خاصة، كما في (القاهرة الجديدة) التي تدور أحداثها عام 1934م، حيث يذكر فيها على لسان أبطاله:(الحاجة ماسة حقّاً إلى وعاظ من نوع جديد، من كليتنا لا من الأزهر) الرواية، ص 44، وتبدو الشخصية التي تمثل توجهاً إسلاميّاً أو أزهريّاً، تبدو عاكسة لنظرة الكاتب إلى الإسلام والأزهر بوصفهما عاجزين عن التقدم، بل متهمين غالباً بازدواج الولاء، وتناقض السلوك المعاش مع الدور المنشود من كل منهما، يبدو ذلك في أكثر رواياته.

(3)

مجلة الفكر العربي، آذار/مارس 1987م، ع/45، من مقال: عقيدة التحديث عند الطهطاوي، بقلم: د حسن الضيقة.

(4)

الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، د محمد عمارة، ج1، ص441 442.

(5)

البطل في الرواية المصرية المعاصرة، د أحمد إبراهيم الهواري، ص 65، دار المعارف، ط3، 1986م.

(6)

نجيب محفوظ يتذكر، إعداد جمال الغيطاني، ص 44.

(7)

المرجع السابق، ص 88.

(8)

المرجع نفسه.

(9)

قصر الشوق، ص 347.

(10)

الرؤية والأداة، ص 64.

(11)

(الله) في رحلة نجيب محفوظ الروائية، جورج طرابيشي، ص88 90.

(12)

بين القصرين: من أكتوبر 1917م إلى إبريل 1919م، وقصر الشوق: من يوليو 1924م إلى 23 أغسطس 1927م، والسكرية: من يناير 1935م إلى صيف 1944م.

(13)

في كتاب (نجيب محفوظ، إبداع نصف قرن) ، إعداد وتقديم (غالي شكري) ، يقول (سامي خشبة)، ص 82 عن الثلاثية:(كان موضوعها الأساسي هو معاناة كمال الروحية والفكرية والاجتماعية، باعتباره تصويراً للمؤلف نفسه، كما أقر بذلك نجيب محفوظ) ، وتقول د) لطيفة الزيات) في شهر 9/1996م في الكتاب نفسه، ص 193:(قد صرح محفوظ أكثر من مرة بأن شخصية كمال في الثلاثية إنما هي التصوير الفني لشخصه في الواقع) .

(14)

المرجع نفسه، ص 6.

(15)

قصر الشوق، ص 350.

(16)

المصدر نفسه، ص 347.

(17)

مجلة فصول، 1982م، ص 59.

ص: 46

هموم ثقافية

السقوط عند اللحظة الفارقة

بقلم: د.أحمد إبراهيم خضر

لبعض الكتاب علامة فارقة تميزه عن غيره، فهو صاحب مبدأ لا يتغير،

وبعضهم متقلب الفكر يميل مع الريح أنّى مالت، ولا سيما إذا وجد فيها مصلحة ما

أو أداءً لدور معدّ سلفاً، وحديثي عن رجل من النوع الثاني، اتسم زيادة على ما

ذكرت بعداء شديد للفكر الإسلامي ورواده المعاصرين، وهو مع كل توجه منحرف

لأدعياء الفكر الإسلامي، إذ هم عنده رموز لا تمس، وإن هلكوا فهم في تصوره

شهداء، إنه المدعو (غالي شكري) .

فمن هو (غالي شكري) هذا؟ ! ، وأين هو الآن؟ .

إنه حامل حقيبة (سلامة موسى) كما وصفه الأستاذ (محمود شاكر)[1] .

(غالي شكري) هو الكاتب القبطي الماركسي المعروف، رئيس تحرير مجلة

(القاهرة) اليسارية، صاحب (النهضة والسقوط) ، و (الماركسية والأدب) ، و (قضية الجنس في الأدب) ، و (ثورة المعتزل) و (المنتمي) ، و (نجيب محفوظ في خط المواجهة) .. إلخ.

هو التلميذ التابع لـ (لويس عوض) كما يقول عن نفسه.

كوّنَت فكره: الترجمات الروسية والفرنسية، ومطبوعات دار التقدم بموسكو، وأفكار (لينين) و (يلنجانوف) و (ماركس) و (إنجلز)[2] .

صحب (غالي شكري)(سلامة موسى) ست سنوات (كصحبة (أوجست كونت)

الشاب (سان سيمون) العجوز) وكان من أهم قرائه، وأكثرهم نبشاً في فكره،

وأقدرهم على الإشارة إلى مواطن ريادته! .. احتفى (سلامة موسى) بتلميذه (غالي

شكري) ، ودعاه إلى زيارته في بيته، ومدّ له يد العون، وقيل عنه: إنه ابن

أخته [3] ، لقن (سلامة موسى) تلميذه الجديد معلومات جديدة عن (فرويد)

و (نيتشه) و (شو) ، و (تولستوي) ، ثم علّمه كيف يحول هذه المعلومات إلى خبرة حية ومزاج عقلي، في وقت لم يكن في بيت (غالي شكري) إلا كتاب واحد، هو (الإنجيل)[4] .

معظم أفكار (غالي شكري) ترديد لأفكار (سلامة موسى) ، هذا الأخير الذي

يزعم أن (الله) فكرة! ، والدين هو الإنسانية، وفرنسا هي القبلة [5] ، والتعليم لا

بد أن يكون أوروبيّاً لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه، هذا الأستاذ هو

صاحب مقولة (نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان) ، لغة

القرآن عند (سلامة موسى) لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية

كتلك التي نعيش بين ظهرانيها [6] .

أصدر (غالي شكري) مجلته (القاهرة) متسلحة بما يسمونه بالفكر الحر

والمتقدم في خط المواجهة الأول للدفاع عن العقلانية من أجل صياغة مشروع ثقافي

وفكري مستنير [7] ، ضد دعاة الجمود والتخلف المتمسكين بالموروثات دون تغيير

، الذين يقدمون القرابين للسلف الصالح [8] ، تماماً مثلما أصدر (سلامة موسى)

مجلته (الجديد) اليسارية العلمانية الجريئة.

(سلامة موسى) هو أول من أصدر كتاباً بالعربية في مصر عن الفكر

الاشتراكي، وهو الذي صدّر صورة (كارل ماركس) في العدد الرابع من مجلة

الهلال، التي كان يرأس تحريرها عام 1921م.. تقلد (غالي شكري) خطى (سلامة

موسى) نحو الاشتراكية مثلما تقلدها (لويس عوض) و (نجيب محفوظ) من قبله [9] ، ولما سئل (نجيب محفوظ) عن تأثره بعلمانية (سلامة موسى) ، وإلى أي مدى

ظهر هذا التأثير على ملامح شخصيته؟ ، أجاب ضمن ما قاله بالحرف الواحد:

(لهذا أشعر بالإجلال لـ (سلامة موسى) ولخدمته لهذا الوطن ودعوته للاشتراكية..

(بلاش) اشتراكية لأنها كلمة سيئة السمعة) [10] .

(غالي شكري) و (سلامة موسى) من أصحاب المشروع الثقافي الطائفي،

وكان الأخير ينظر إلى نفسه كمثقف عربي طائفي [11] ، لكنه أخفى تعصبه

الطائفي تحت عباءة الاشتراكية مثلما أخفاه (غالي شكري) تحت عباءة الماركسية،

نادى (سلامة موسى) بالتعقيم الاختياري [12] ، ودعا إلى ضبط النسل، في الوقت

الذي أنجب فيه ثلاثة صبيان وخمس بنات! ! ، [13] أما (غالي شكري) الذي

يقول عن نفسه أنه درس القرآن قراءة وتدويناً، وحفظه عن ظهر قلب [14] : فقد

جعل مجلته منبراً ينادي بالعلمانية، وقلعة للماركسية وأفسح مساحات كبيرة فيها لـ

(ألبير قصيرى) و (جورج عبد المسيح بشاي) و (سمير صادق حنا) و (مجدي

فرج) و (ماري إلياس) و (ميخائيل جرجس) و (جرجس شكري) و (إلهام غالي)

و (توفيق حنا) يرسمون ويتحدثون عن (دليل الحيارى في أعمال النصارى) و (مع

المسيح ذلك أفضل) وعن (الأقليات والألحان القبطية وامتداداتها الفرعونية) .. إلخ

[15]

، والأخطر من ذلك: الترويج لفكرة الإلحاد [16] .

وإذا كان (سلامة موسى) قد وضع التجارب فوق العقائد، وأخرج الدين من

دائرة علاقة الإنسان بالحكومة، وحكم بالموت على كل من يؤمن بتدخل الدين في

أصول المعاملات بين الناس من تجارة وزواج وامتلاك [17] ، فإن تلميذه (غالي

شكري) قد تعرض بخبث للإسلام والإسلاميين، تارة في ثنايا مدحه لتفاعل

الحضارة العربية الإسلامية مع غيرها، وتارة ثانية تحت دعاوى الإرهاب

والتطرف، وأخيراً: تحت مظلة الديمقراطية وحرية الفكر والتعبير.

(غالي شكري) هو الذي كتب قائلاً: (إن ميراثنا الحضاري يقبل التغيير

والتجدد، فلا يجوز أن نسمح لدعاة الجمود بالإبقاء على موروثاتنا دون تغيير،

ومن ثم: لا يجوز أن نقدم القرابين للسلف الصالح) ، ولهذا استمات حتى أعاد من

على منبره اليساري نشر كتاب (في الشعر الجاهلي) لـ (طه حسين) ، ودعوة

(شادي عبد السلام) لإحياء الفرعونية، كما نشر محاكمة (نصر حامد أبو زيد) تحت

عنوان (وثيقة إعدام مثقف مصري)[18] .

وخصص مساحة كبيرة لنشر محاكمة (محمد محمود طه) زعيم الإخوان

الجمهوريين في السودان [19] الذي ارتد عن الإسلام وأُمهل ثلاثة أيام ليتوب، لكنه

لم يتب؛ فأعدم شنقاً في صباح الجمعة 27 ربيع الثاني 1405هـ الموافق 18/1/

1985م بتهمة الزندقة ومعارضة تطبيق الشريعة الإسلامية.

(محمد محمود طه) ، رجل يمتاز بقدرة فائقة على المجادلة والملاحاة، أسس

حزبه الجمهوري سنة 1945م، قال بآراء دينية منحرفة مصحوبة بكثير من الآراء

الشخصية لم يقل بها أي عالم من علماء المسلمين وأئمتهم، قال: إنه صاحب

الرسالة الثانية التي تلقاها من الله نفسه كفاحاً بدون واسطة ليرفع وصاية الشريعة

الإسلامية عن الرجال والنساء؛ ولهذا أسقط التكاليف الشرعية عن الإنسان في

مرحلة من المراحل لاكتمال صلاحه، ولعدم وجود داع للعبادة بعدها.. الجهاد عنده

ليس أصلا في الإسلام، ولا الحجاب، ولا الزكاة، وتعدد الزوجات كذلك، والدين

عنده هو الصدأ والدنس، أما القرآن: فهو شعر ملتزم، وموسيقا عُلوية، يعلِّم كل

شيء ولا يعلِّم شيئاً بعينه، حرّض الجنوبيين المسيحيين في السودان ضد تطبيق

الشريعة، وروج لفكرة الإنسان الكامل الذي هو زوج الله (! !)[20] .

لهذه الأسباب، ولسبب آخر مهم، هو دعوته إلى ما يسميه بالمساواة

الاقتصادية التي تبدأ بالاشتراكية وتتطور نحو الشيوعية، ومناداته بالفردية المطلقة، بمعنى أن يكون لكل فرد شريعته الفردية، خلع عليه اليساريون ألقاباً وصفات

عديدة، منها: الأستاذ الشهيد المفكر الإسلامي صاحب الدماء الزكية كاتب صفحات

النور في تاريخ الفكر والاستنارة، وأعدوا له فيلماً بعنوان (القتلة يحاكمون

الشهيد) [21] .

(غالي شكري) يريد شابّاً متديناً من طراز خاص جدّاً، أهم ما فيه أنه لا يقدم

القرابين للسلف الصالح! ! ولكنه نسخة مطابقة لشخصية (أحمد عبد الجواد) في

ثلاثية نجيب محفوظ.

يقول (غالي شكري) عن (أحمد عبد الجواد) : (فهو المؤمن المتدين الذي

يقضي لياليه بين الخلان شارباً، وبين العوالم راقصاً، وبين النساء متهالكاً نشوان

طروباً، دون أن يفرض على الوعي أي تناقض بين أداء الفرائض وفرضها على

أفراد عائلته، والحياة الليلية الملونة.. شخصيته مزدوجة حقّاً! ، ولكن ما أبعدها

عن التمزق؛ فلا إحساس بالذنب، ولا عذاب للضمير، وإنما انسجام تام بين

الوجهين كأنهما وجه واحد) [22] .

(غالي شكري) كأستاذه (سلامة موسى) من دعاة (المتوسطية) نسبة إلى انتماء

مصر إلى أوروبا عبر المتوسط لا العرب، وشكل الاستعلاء على العرب والسلام

مع إسرائيل جزءاً من أطروحته الوطنية الثقافية مع (نجيب محفوظ) قبل عام

1952م وبعده [23] ، ولكنه لما دعي إلى احتفال ولادة معجم البابطين للشعراء

المعاصرين في الكويت تلوّن وقال: (فمن يملك التاريخ الواحد وسمات الأمة الواحدة

لا يمكن أن يختلف مع زميله [24]، رغم أنه قال قبل ذلك: (إن اللغة والدين

والتاريخ المشترك أحياناً بين المصريين وغيرهم من العرب لا تقيم شمل أمة أو

قومية) [25] .

ولأن العدو واحد عندهم جميعاً، هم الذين يطلق عليهم (غالي شكري) :

(الجهلاء، خصوم العقل، الذين تمكنوا من رفع الصوت عالياً في البرلمان ضد

الشعر والنثر واللون، وفي ساحات المحاكم، وفي الغرف المغلقة داخل الجامعات)

[26]

، تناسى ما قاله بالأمس من أن الصحراء تفصل بين مصر والعرب، وأن

المتوسط هو الذي يربط بينها وبين أوروبا (!)، ليقول اليوم: (أصحاب المال

العرب) قدموا نموذجاً رفيعاً على أن العطاء الثقافي هو أعظم أنواع العطاء [27] .

حينما تعرض (نجيب محفوظ) لمحاولة اغتياله بعث إليه (غالي شكري)

يواسيه، ويقول له: إنه تعلم منه ومن تجربة اغتياله شجاعة العقل والتعقل،

وشجاعة الإصرار إلى حد الاستبسال، وإنه صامد متمسك بالعقلانية، ولن يتخلى

لحظة واحدة لرعد العواصف الهوجاء الطائشة العمياء، حاملاً الراية ذات النجوم

الثلاث (الحرية، والمعرفة، والعدالة)[28] .

هذا ما قاله (غالي شكري) ، لكنه (عند اللحظة الفارقة) التي سمع فيها بحادث

(أديس أبابا) سقط مصاباً بجلطة في الدماغ، فأصبح عاجزاً عن التفكير والحركة

معاً، فحملوه إلى قبلته (باريس) على كرسي متحرك.

ومع سقوط غالي شكري (تصاعدت في كل أركان الضمير الثقافي العربي

صيحات الفزع، فليس ذلك العقل اللامع مما يمكن تعويضه، خاصة في هذه الفترة

الحرجة من عمر المأزق الثقافي العربي) هكذا اعترف الحواريون [29] ، أما لحظة

انهيار الحواريين فقد كتبوها بأيديهم في النص التالي: (ما الذي سيحدث لو (لا قدر

الله!) وأصيب الرئيس، إلى أين سنتجه؟ ، وماذا سنكون؟ ، من هو القادم؟ ،

ما هي صفاته؟ ، كيف سيسلك معنا؟ ، وهل سينتهي الأمر عند هذا الحد، أم إنها

هوجة كبرى ستأتي على الأخضر واليابس في هذا البلد الذي لم يعد يحتمل المزيد؟ لا بد أن (غالي شكري) قد أحس بهذا كله لأن الأرض دارت به، ولأن الألم

تصاعد إلى رأسه [30] .

الوزراء يتقدمهم كبيرهم، والمثقفون من كبار المسؤولين.. وغيرهم التقوا

حول (غالي شكري) في أزمته هذه.. (كانت الجموع من حولي، من اللحظة الأولى

خير عنوان على هذا الشوق العارم) أثبت الجميع (.. على اختلاف اتجاهاتهم أنهم

حريصون ليس على غالي شكري بالتحديد، ولكن على ما يمثله غالي شكري من

قيم ومبادئ في الحياة المصرية) .. هكذا توهم غالي شكري.

(لقد كنتم جميعاً أهم كثيراً من العصا في يدي لتعلم المشي من جديد، كنتم

جميعاً أهم من المقعد المتحرك تحتى في قطع المسافات قبل أن ينقلني مجدداً إلى

الحركة الطبيعية، إنكم كنتم حولي في أقسى اللحظات، وسوف أذكر ما حييت كيف

أن بعضكم قد ترك مسرات الحياة وعادني في وقت صعب) .. هكذا قال (غالي

شكري) .

وعاد (غالي شكري) إلى منبره مرة أخرى (خشية على مستقبل الفكر في

مصر) وما يمثله للحياة المصرية من قيم ومبادئ [31] كما توهم.

لكن الحال لم يدم طويلاً، إذ سقط (غالي شكري) مرة أخرى مصاباً بجلطة

ثانية في دماغه، واختلف الأمر هذه المرة، فهؤلاء الذين تركوا مسرات الحياة

وعادوه في وقت صعب.. لم يكونوا يفعلون ذلك من أجله، إنما من أجل شيء آخر

نتلمسه في النص التالي الذي كتبوه بأيديهم ومن فوق منبرهم:

(إلا أن هناك في الحياة الثقافية سلوكاً أخلاقيّاً تكرر إلى حد ما يشبه الظاهرة

كاملة الأركان، وهذه الظاهرة هي ما يعبر عنه المثل الشعبي العميق (عايزين

جنازة ويشبعوا فيها لطم) ! .. في هذا السياق هناك من كانوا ينتظرون غياب (غالي

شكري) في حالة شبه نشوة حبيسة؛ وذلك للقفز بسرعة الزمن إلى مكانه ومكانته) .

لم تنته الصورة بعد، ولم يسقط (غالي شكري) وحده، إنما سقطت القمم

الثقافية الواحد بعد الآخر، هذا (سمير سرحان) سقط مصاباً باضطراب في نبضات

القلب، وهذا (جمال الغيطاني) تعطلت صمامات قلبه، وهذا الرمز الكبير (جابر

عصفور) سقط مصاباً بمرض السكري

[32] .

ورغم أن هذا هو قدر الله عليهم جميعاً، [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ

وَأَبْصَارِهِمْ] [البقرة: 20] ، لكنهم ما لانوا وما استكانوا وما عادوا إلى الله أو

تضرعوا إليه، فقد كانت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فباتوا يفلسفون ما حدث

بأنه (هو الثمن الذي يدفعه أبطال الفكر على مدار التاريخ في سبيل الحرية

والعقلانية.. هذا هو الثمن الذي يدفعه المثقف المستنير منذ (ابن رشد) إلى

(محمد عبده) ، و (عبد الرحمن الكواكبي) ، و (قاسم أمين) ، و (مصطفى عبد الرازق) ، و (أحمد أمين) ، و (أحمد لطفي السيد) ، و (طه حسين) ، و (توفيق الحكيم) ، و (يوسف إدريس) ، و (جمال حمدان) ، و (نجيب محفوظ)

إلخ.. إن المثقف المستنير، سيظل يدفع الثمن مادام يلح على التصدي لمختلف تيارات التخلف، فيعمل ليل نهار من أجل التطور والتنمية ويحارب الإرهاب بمختلف صوره) [33] .

إن الله (تعالى) يأخذ المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة

الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب

التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية

هكذا قال علماء الإسلام.

لكن الفطرة حينما تبلغ حدّاً معيناً من الفساد: لا تتدبر، ولا تتذكّر، ولا ينفع

معها الإنذار ولا التذكر.. هكذا قالوا أيضاً.

إن من رزقه الله بصيرة نافذة عَلِمَ سخافة عقول هؤلاء، وأنهم من أهل

الضلال المبين، لا يفقهون ولا يتدبرون القول؛ ولهذا فإن كشف عوراتهم، وبيان

فضائحهم، وفساد قواعدهم.. من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: (إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن

رسوله) ، وقال:(اهجهم أو هاجهم وجبريل معك)، وقال: (اللهم أيده بروح القدس

ما دام ينافح عن رسولك، وقال عن هجائه لهم: (والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم

من النبل) [34] .

(1) محمود شاكر، أباطيل وأسمار، ص 334.

(2)

مجلة (العربي) ، ع/452، يوليو 1996م، ص 70.

(3)

محمد محمود عبد الرازق، سلامة موسى أبي وأبوه، مجلة (القاهرة) ، ع/154، 9/1995م.

(4)

مجلة (العربي) ، مصدر سابق، ص 71.

(5)

غالي شكري، حساب سلامة موسى مع التاريخ، مجلة (القاهرة) ، ع/ 154، ص135، 136.

(6)

محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ص 221 223.

(7)

انظر مجلة (القاهرة) ، ع/156، 11/1995م، ص 3.

(8)

غالي شكري، من المحرر، (القاهرة) ، ع/157، 12/1995م، ص 3.

(9)

محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 158.

(10)

هاني لبيب، نجيب محفوظ سلامة موسى وجهاً لوجه، (القاهرة) ، ع/158، 1/ 1996م.

(11)

محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 158.

(12)

المصدر نفسه، ص 175.

(13)

غالي شكري، حساب سلامة موسى مع التاريخ، مجلة (القاهرة) ، مصدر سابق، ص 136.

(14)

انظر: (العربي) ، مصدر سابق، ص 71.

(15)

انظر: (القاهرة) ، ع/140، 7/1994م، ص13 80، 147 175، وع/154، 9/1995م، ص 175.

(16)

رمسيس عوض، عصر الإلحاد ونهاية المسيحية في الغرب، (القاهرة) ، ع/152، 6/ 1995م، ص170 211.

(17)

محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 173.

(18)

(القاهرة) ، ع/159، 2/ 1996م.

(19)

عطيات الأبنودي، النص الكامل لمحاكمة وإعدام زعيم إسلامي في السودان، (القاهرة) ، ع/134، 1/1985م.

(20)

الجمهوريون في السودان، الموسوعة الميسرة المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 181 190.

(21)

عطيات الأبنودي، مصدر سابق، ص 45.

(22)

غالي شكري، نجيب محفوظ في المواجهة، (القاهرة) ، ع/157، 12/ 1995م، ص57.

(23)

المصدر السابق، ص 46 70.

(24)

المصدر السابق، ص 3.

(25)

المصدر السابق، ص 70.

(26)

المصدر السابق، ص 35.

(27)

المصدر السابق، ص 3.

(28)

المصدر السابق، ص 33.

(29)

مجلة العربي، مصدر سابق، ص 68.

(30)

انظر (القاهرة) ، ع/152، 7/ 1995م، ص3.

(31)

انظر (القاهرة) ، ع/154، 9/1995م، ص 3.

(32)

انظر (القاهرة) ، ع/163، 6/1996م، ص 3.

(33)

المصدر السابق، ص 3.

(34)

ابن القيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ص 301 302، ط العاصمة، وبها تخريج الأحاديث المذكورة.

ص: 56