الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
بعض الأضواء
على الأحداث الأخيرة في ألبانيا
بقلم:عبد الله الألباني
كي نفهم الأحداث الجارية في ألبانيا، فسنعود إلى الوراء فترة ليست بعيدة؛
فالتطور الأخير في ألبانيا ارتبط بعاملين مهمين جدّاً في الحياة السياسية الاقتصادية
والاجتماعية، هما:
العامل الأول: الأزمة السياسية الناجمة عن الانتخابات البرلمانية التي أثارت
جدلاً واسعاً، والتي جرت في 26/5/1996م، ولم تعترف الأحزاب المعارضة
بنتائجها، مما ترتب عليه: انسحابهم من البرلمان، الأمر الذي تسبب في أزمة
سياسية حقيقية، وصلت إلى مسامع الدول الأوروبية، وأقرت بها فيما بعد، بعدما
انتهت من بحثها ومناقشتها مع المتخصصين على أعلى المستويات السياسية.. أما
أمريكا: فقد اكتفت بمجموعة توصيات، منها: النظر في إجراء انتخابات مبكرة،
وهذه العملية أثارت الرأي العام، وكانت بمثابة نقطة سوداء في ثوب ديمقراطيتهم،
وتجاهلاً لحقوق الإنسان، وحتى للتعبير عن حرية رأيه في اختيار من يقوده..
وتركت هذه العملية أثاراً سلبية على شعب ألبانيا حيال المجتمع الأوروبي، وحتى
الأمريكي، وحيال ديمقراطيته المزيفة.
العامل الثاني: الشركات الربوية وتأثيرها على حياة البلد، [يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] [البقرة: 276]، وللأسف الشديد: لم يسلم من هذه الفتنة
فتنة الكسب من الربا سوى قليل ممن رحم ربي، حتى الذين لا يملكون شيئاً
اقترضوا من أخرين لوضع المال في الشركات وأخذ فائدة ربوية! ، ففي الأعوام
الأربعة الأخيرة في ألبانيا تفاقمت ظاهرة الشركات الربوية، فبعض هذه الشركات
رفعت نسب الأرباح الربوية لتجذب أعلى نسبة من المودعين، وبالتالي: رؤوس
الأموال، وحسب بعض الإحصائيات فإن هذه الأموال بلغت قريباً من 5، 1 مليار
دولار، وكانت شركات مثل:(سوديا جافيري) ، (بوبولي) تعطي فائدة ربوية على
الأموال المودعة بدون مشروعات تغطيها، بينما شركات أخرى مثل (فيفا) ،
(كامبيري) ، (جاليتسا) ، (سيلفا) .. وغيرها، كانت لديها بعض المشروعات التي
يمكن أن تستخدم فقط في الدعايات، بل إن معظم هذه المشروعات كان يدور حول
إنتاج الخمور والسجائر.
ومن جهة أخرى: فهذه الشركات كانت تدير أموالها بدون توفر ضمانات
بنكية من أحد البنوك الحكومية.
ومن المعلوم حسب بعض الإحصائيات أن ظاهرة الشركات الربوية جذبت
أكثر من ثلث الشعب الألباني، وكان أكثر هؤلاء المودعين في مدينة (فلورا) ، وقد
تراوحت نسب الفوائد الربوية الموزعة على المودعين من 8 10% شهريّاً للشركات
العادية، وقد وصلت إلى 30% 50% في شركات (سوديا، وجافيري، وبوبولي) ، مما أثار الدهشة في كافة الأوساط المحلية والعالمية، لا سيما في النصف الأخير
من العام المنقضي (1996م) .
من ناحية أخرى: فقد حاول السياسيون ورجال الدولة إيجاد حلول لتقليل
خطورة هذه الظاهرة، واضعين في الاعتبار ثقة الناس في بعض هذه الشركات،
والتي اعتبرت الحكومة أنه ليس من واجبها كشف نظافة هذه الأموال أم لا، وقد
سبق لقوى المعارضة أن حاولت إظهار خطورة هذا الأمر، ولكن ليس بالشكل
القوي المطلوب، ولطالما حمّلت الحكومةَ مسؤولية مراقبة هذه الشركات، وظل
الوضع هكذا حتى زار ألبانيا وفد من (FBI) ، وحذر من تفاقم هذه الأزمة ومن
جراء ارتفاع نسب الفائدة بدون ضوابط اقتصادية تحكمها، وقد أثبتوا هذه المخاوف
في تداولاتهم مع الحكومة، الأمر الذي لا يستطيع أن ينكره أحد.
وفي تطور أخير للمشكلة قامت الحكومة بالتحذير من تفاقم هذه الأزمة، كما
أتى التحذير من مؤسسات أخرى أجنبية محلية ودولية، وقد ألغيت زيارة كان من
المزمع أن يقوم بها رئيس الوزراء الألباني السابق إلى إيطاليا بسبب رفض الحكومة
الألبانية تبرير موقفها تجاه الشركات الربوية لنظيرتها الإيطالية.
ورغم كل هذه المخاوف وهذه القلاقل إلا إن الشعب ما تقاعس عن المزيد من
الإيداعات، وكان عدد المودعين يزيد يوماً بعد يوم وحتى بعد ظهور علامات
للسرقة، حيث حاول أحد أصحاب هذه الشركات الهرب ومعه 13. 5 مليون دولار.
في منتصف نوفمبر 1996م ظهرت أول علامة من علامات إفلاس واحدة من
أقدم هذه الشركات بعد أربع سنوات من التعامل مع الشعب، وهي شركة (سوديا) ،
بعد أن نمى في حس الشعب أن هذه الشركات مدعومة من الحكومة، وأنها لا يمكن
أن تنتهي في يوم واحد، بل سيكتب لها الاستمرار، ولكن إفلاس (سوديا) وإعلان
الحكومة عن عدم ثقتها في هذه الشركات أوجد عند الشعب كبتاً نفسيّاً واجتماعيّاً،
مما عبر عنه بعض الناس بقليل من الاشتباك مع قوات الشرطة في العاصمة
(تيرانا) ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحكومة في التفكير الجدي للتقييم الموضوعي
للأمور ومحاولة الوصول للطريقة المثلى لحل هذه الأزمة وعلاجها قبل أن تصير
طامة على الشعب، ومن هذا المنطلق قام البرلمان بتشكيل لجنة مختصة لمراقبة
أنشطة هذه الشركات الربوية، أما الصحف المحلية، فقد ذكرت جانباً من التكهنات
بشأن هذه الأرباح الخيالية، فمنهم من قال إنها عملية غسيل للأموال، ومنهم من
قال إنها عملية تهريب مخدرات وأسلحة.. وغير ذلك من التكهنات.
وبدأت المخاوف التي أثارتها الجهات المختلفة تجاه هذه الشركات بالظهور،
حيث بدأت بعض الشركات بتحديد تعاملاتها على أساس أنها ستعطي النسب المئوية
فقط دون إعطاء رأس المال حيث كان المتبع أن تعطي الشركة الفائدة مع رأس
المال في الوقت نفسه، وتدع الحرية لإعادة الإيداع للناس، ومنهم من خفض النسبة
التي كان يعطيها.
ورغم الغموض الذي كان يحيط بعمل اللجنة التي شكلها البرلمان وتلك التي
شكلتها الحكومة لمتابعة عمل هذه الشركات إلا إنهم فاجؤوا الشعب بنتيجة المراقبة،
وهي أن هذه الشركات مؤسسة على شكل تراكمي هرمي، وأن الشركات التي لديها
بعض المشروعات لا يتناسب حجم مشروعاتها مع الإيداعات، أي: إنها هي
الأخرى مؤسسة على شكل تراكمي هرمي.
ثم تلت هذه المرحلة أن وضعت الحكومة يدها على الأموال التي تخص
شركتي (بوبولي) ، و (جافيري) في البنك الحكومي وتقدر بحوالي 270 مليون
دولار، وحملت على عاتقها مهمة إعادة هذه الأموال إلى المودعين، وفي الوقت
ذاته: أصدرت الحكومة قراراً بحظر نشاط هذه الشركات، وفوراً تم القبض على
رؤسائها، الذين صرحوا بدورهم بأنهم قادرين على رد أموال المودعين إذا تركتهم
الحكومة، وقد نشرت الصحف هذه التصريحات، في حين أن الحكومة صرحت
بأنها سترد فقط 52% 60% من أموال المودعين، حيث إن هذا هو الرقم المتاح
الذي بحوزتها من أرصدة هذه الشركات، مما دفع الناس بإلقاء اللوم على الحكومة
لفقدان مدخراتهم وأموالهم.
وفي مدن (لوشيليا) ، و (فيري) ، و (بيرات) دوى صراع محتدم بين قوات
الشرطة والأهالي، وسبب هذا الصراع إقامة الحواجز في الشوارع، فبدأت النيران
تشتعل في المكاتب المحلية وأقسام الشرطة والبلديات والمحاكم ومكاتب الحزب
الديمقراطي الحاكم في تلك المدن، واتخذت الحكومة التدابير اللازمة للسيطرة على
الموقف، وسمحت لقوات الجيش بحراسة المنشآت المهمة، وفي هذه الأثناء:
انطلقت شرارة جديدة زادت الموقف التهاباً، فقد أثار خبر إفلاس شركة (جاليتسا)
الشركة التي أكثر مودعيها من مدينتي (فيري) ، و (فلورا) الجماهير الغاضبة،
والذي أثار المودعين أكثر: أنه وحسب التقارير تم تقدير مشروعات هذه الشركة
بما مجموعه 26 مليون دولار، في الوقت الذي بلغت فيه أموال المودعين قرابة
350 مليون دولار، ومن هنا، واعتماداً على مجموعة استقراءات، منها: أن هذه
الشركة ساندت الحزب الديمقراطي والحكومة في الدعاية الانتخابية الأخيرة، ومن
جهة أخرى: كانت الحكومة توليها اهتماماً واضحاً، فبناءً على هذين الأمرين،
استيقن الشعب أن هناك صلة وثيقة بين الحكومة وهذه الشركات المشبوهة، ومن
هنا: ظهرت تطلعات أحزاب المعارضة بضرورة الاتجاه إلى الحلول السياسية،
مستغلة في ذلك الوقتَ الذي آلت إليه الظروف الأخيرة ونقمة الشارع على الحكومة، وفي لحظة تاريخية لم يسبق لها مثيل: اجتمعت كل قوى المعارضة على هدف
واحد، وتشكلت لجنة ديمقراطية من كافة الأحزاب المعارضة (يمينية، ووسط،
ويسارية) ، وكذلك من بعض السياسيين القدامى، وبدأت هذه اللجنة عقد لقاءات
ومحاولة تنظيم مسيرات احتجاج، مطالبين فيها ليس فقط بإرجاع الأموال ولكن
كذلك باستقالة حكومة (ألكسندر ماكسي) ، وكذلك نددوا باستخدام أساليب العنف مع
الشعب من قِبَل قوات الشرطة والشيكو، ونددوا كذلك بتعنت الحكومة بجميع
أفرادها.
ورغم محاولات الحكومة إخماد هذه التظاهرات والمسيرات إلا إن الوضع كان
يزداد تفاقماً، وانتقل دوي المظاهرات في معظم مدن ألبانيا، وكان منها بطبيعة
الحال ما هو سلمي، ومنها ما استخدم فيها العنف وبخاصة في الجنوب، لا سيما
في مدينة (فلورا) ، التي صارت مركزاً للتظاهرات والمسيرات والاشتباكات، التي
خلفت وراءها ضحايا من أبناء البلد قتلى وجرحى، وقد أذاعت بعض الإذاعات
العالمية جانباً منها، وأعقبت هذه العمليات ضربة أخرى ساهمت في تفجير الموقف، وهي: قيام بعض الطلبة من جامعة (فلورا) بتنظيم إضراب واعتصام في مقر
الجامعة، تنفيذاً لقرار غالبية الطلاب، وكلما تجاهلت الحكومة طلبات المتظاهرين
ازدادت نقمة الشعب عليها، وازداد الإصرار، فمعروف عن هذا الشعب صلابته
وعناده، ولما لم يصغ الرئيس لطلبهم بإقالة حكومة (ماكسي) ولا وضع تصوره
لحل مشكلات المودعين في شركة (جاليتسا) ، اتخذت أعمال العنف شكلاً جديداً لم
يكن في الحسبان، وهو الشكل المسلح، إثر ترك الجيش والشرطة مواقعهم دون
مقاومة تذكر، وانضمت بعض قيادات من الجيش والشرطة إلى المتمردين في
الجنوب، وتم عزل بعض القيادات الأخرى، ومن المعروف أن شكل التمرد بدأ
بدون ترتيب ولا إعداد، ثم ما لبث أن أخذ شكلاً جديداً، وهو تكوين جبهة لها قيادة
وقادة، وكان القادة من أعمدة الجيش الشيوعي السابق، ومعروف كيف كانت
تدريباتهم واستعداداتهم في ذلك الوقت.
كما زادت طلبات المتمردين طلباً جديداً، وهو استقالة الرئيس (صالح بريشة)
…
وعلى الرغم من محاولة الحكومة الاستفادة من النجاح الذي حققته في انتخابات
مايو 1996م، ومحاولتهم التحايل بإعادة تشكيل حكومة جديدة إلا إن الحزب
الديمقراطي نفسه بدا غير مكترث بطلبات المتمردين، ولم يقدم الحزب الديمقراطي
أي تنازلات على الرغم من تفاقم الموقف.
ثم تعاقبت المدن واحدة تلو الأخرى في الانضمام إلى المتمردين في (فلورا) ،
مبتدئة في (سراندا) ، ومنتهية في (دلفينا) ، مروراً بـ (تبالينا) و (مماليا) ، ثم
اختتمت في (جيروكاسترا) ، وصار كل القطاع الجنوبي المتاخم لحدود (اليونان)
بعيداً عن سيطرة الحكومة، وكذلك مصدر ضغط عليها، وتكونت في كل مدينة
تنظيمات أسمت نفسها بـ (الإنقاذ الوطني) طالبت بضرورة الاستماع إلى برنامجهم
الجديد، وفي هذا الوقت: أخطأت الحكومة أيضاً، حيث فرضت قانون الطوارئ،
وطالبت المتمردين بتسليم أسلحتهم خلال يومين وعدم اللجوء للعنف في المناطق
الجنوبية الملتهبة، وكان لهذا الخطأ عواقب وخيمة جدّاً، حيث لم يستمع المتمردون
للنداءات الحكومية، وكذا لم تستطع الحكومة السيطرة على الموقف، وبدت
تدخلات أجنبية غير معلنة لدعم مواقف المتمردين، وظهرت بوادر الشيوعية
الحمراء بشراستها المعهودة تظهر من جديد.
وبعد هذا التطور الخطير السريع جدّاً للأحداث، الأمر الذي لم يسبق له مثيل، بدأت التحركات الدبلوماسية الأوروبية بثلاث زيارات متتابعة من عدة منظمات
أوروبية، والمفوضية العليا، وبعض الموظفين في الإدارة الأمريكية، وبدهي أن
يظهر اهتمام دول الجوار لا سيما إيطاليا، واليونان واللتان تلعبان دوراً مهمّاً في
السياسة الألبانية، وكذا في السياسة الأوروبية حيث يتركز اهتمامها في محاولة
تقليل الهجرات الجماعية إلى أراضيها؛ لأن كثيراً من الألبانيين سافر إلى هناك
للعمل، ومنهم من يتاجر في المخدرات والأعراض والعياذ بالله.
وعلى ضوء هذا الاهتمام أو تلك المخاوف: كانت زيارة نائب وزير خارجية
اليونان لألبانيا، ثم تبعتها زيارة وزير خارجية إيطاليا، ومن جهة أخرى: شاركت
تركيا صديقتها وجارتها ألبانيا المشاعر، وعبرت لها عن أملها في الوصول لحل
سريع للأزمة.
وفور تسرب الأنباء عن تسلح معظم أبناء الشعب إلى بلاد الجوار من
المحتمل أن يكون لهم دور في ذلك تزايدت المخاوف، لا سيما وأن منطقة البلقان
تعج بالمشاكلات وليست البوسنة ذات الاستقرار الهش منهم ببعيد ودائماً تساورهم
مخاوف من احتمال اندلاع الحرب مرة ثانية في البوسنة وزحفها إلى مختلف دول
البلقان.
وبفقدان سيطرة الحكومة وجيشها في ألبانيا على منطقة (جيروكاسترا) بالطبع
كانت قبلها بعض المدن الأخرى اضطر (صالح بريشة) لتقديم بعض التنازلات،
والتي أصر في البداية على عدم تقديمها، وهي: إقالة حكومة (ماكسي) وإجراء
حوار سياسي مع كافة الأحزاب الأخرى؛ للوصول لتشكيل حكومة جديدة، في حين
أن الأخبار من الجنوب لم تتحسن، بل إن الموقف ازداد سوءاً، والأزمة آخذة في
الاشتعال، وتوسع المتمردون في فرض سيطرتهم على عدة مدن أخرى، مثل:
(بيرمت) ، و (بيرات) ، و (سكارابار) .. وغيرها، مما أثار مخاوف دول المنطقة
من قيام حرب أهلية، وفي هذه الأثناء: دعا الرئيس (صالح بريشة) جميع
الأحزاب للالتفاف حول مائدة المفاوضات، واقترح عليهم تشكيل حكومة انتقالية
أسماها حكومة المصالحة الوطنية، يتم تمثيل جميع الأحزاب التي فازت بنسبة
معتبرة في انتخابات مايو 1996م فيها، ثم يتبع ذلك إجراء انتخابات أخرى في
شهر يونية (حزيران) 1997م، وبعد يومين من المداولات تم تشكيل الحكومة من
رئيس وزراء (باشكيم محمد فيلو (من الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقاً) ، وكان
يشغل منصب عمدة مدينة (جيروكاسترا) ، ووزير للداخلية من الحزب الديمقراطي،
ووزير الدفاع من الحزب الاشتراكي، والوزراء الآخرين كذلك من مختلف
الأحزاب.
ورغم هذا إلا إن المتمردين أصروا على المطالبة باستقالة (صالح بريشة) ،
الأمر الذي آثار مخاوف أهل الشمال الجبليين والذين يساندون الرئيس (بريشة) ،
الذي يتمع بتأييد كبير جدّاً على مستوى أهل الشمال، حيث قد أعطاهم بصفتهم من
بلدته امتيازات كبيرة، وفتح لهم باب الهجرة لـ (تيرانا) وما حولها، وفوق هذا:
فقبيلة (بريشة) لها مؤيدون كذلك في إقليم (كوسوفو) على الحدود مع (ألبانيا) ، وفي
تطور سريع جدّاً للأزمة خلال يومين من تشكيل الحكومة الانتقالية: وجدنا أن
السلاح صار كذلك مع أهل الشمال، وتم الاستيلاء على معظم مخازن الذخيرة
والسلاح، وكان في البداية على حد زعم بعض المصادر الرسمية لمواجهة احتمالية
زحف متمردي الجنوب إلى (تيرانا) للإطاحة بالرئيس (صالح بريشة) حسب ما
أشاعته بعض المصادر الداخلية في ألبانيا، وأصبحت البلد بلا حكومة، ولا نظام،
ولا أمن، وحل على الناس الخوف والفزع وترقب الموت وهجوم المسلحين في أي
وقت، واختفت عن الأنظار الملابس الرسمية سواء لمنسوبي الجيش أو الشرطة،
وفتحت أبواب السجون على مصاريعها، وبدأت أعمال السطو المسلح على المخازن
والمدارس والمصانع والمحلات التجارية وعلى المشاريع التي تحت الإنشاء..
وغيرها من المنشآت، وصار منظر الشباب المسلحين في الشارع ظاهرة عادية في
العاصمة (تيرانا) ، وسمع دوي الطلقات النارية في الليل وفي وضح النهار، الأمر
الذي كان يفزع الكبار فضلاً عن الأطفال، وبحرب نفسية من نوع آخر وعبر
وكالات الأنباء العالمية والمحلية بدأت النداءات من معظم دول العالم بترحيل
رعاياها من ألبانيا، ولا سيما أمريكا التي كانت تنادي رعاياها في ألبانيا بأساليب
متعددة، كأن العالم ليس فيه إلا الأمريكان! ! ، وبدأت عمليات الإجلاء بالطائرات
الهليكوبتر الحربية إلى إيطاليا، وزادت نسبة الوافدين إلى الموانئ الألبانية للسفر
إلى إيطاليا، حتى أصبح المعدل اليومي ألف شخص.
بدأت حكومة المصالحة الوطنية أولى خطواتها على مسار العمل السياسي بعد
الاجتماع مع بعض المسؤولين الأوروبيين، وطلبوا بصفة رسمية المساعدة المسلحة
من دول أوروبا، ولكن ترددت الدول في تقديم تلك المساعدة، وفي الاجتماع الذي
دعا إليه (فرانيسكي) وزراء خارجية دول التعاون الأوروبي إلى ضرورة تقديم
المساعدة العسكرية لإعادة الأمن تلبية لنداءات الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية
انقسم المجتمعون إلى فريقين: الأول: مؤيد، ويضم: إيطاليا، واليونان، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا، والآخر: معارض، ويضم: ألمانيا، وبريطانيا، والسويد.
وعندما تقاعست هذه الدول عن تقديم المساعدة العسكرية لألبانيا: لجأت
الحكومة إلى محاولة علاج الأمر بما تستطيع، فقامت باستدعاء قوات الشرطة
والجيش حتى الذين في الاحتياط والمتقاعدين بعد عام 1990م بعد إغرائهم برفع
رواتبهم، وتم تشكيل فريق لإعادة الأمن في البلاد، ونظراً للإغراء المادي، وكذلك
لوجود بعض العناصر الوطنية في البلد والتي رأت من الضرورة تكاتف الجهود
لحل هذه الأزمة: عاد أصحاب الملابس الرسمية يظهرون من جديد، وقاموا بعمل
دوريات، وفرض ساعات حظر تجول محدودة مَن يتجاوزها يتعرض للمساءلة
العاجلة، حتى إنهم قد قتلوا بعض الأشخاص ممن لم يستجيبوا لندائهم بالتوقف
بالسيارات، وتكررت النداءات بتسليم الأسلحة، وأستطيع القول: إن هذا الأمر من
الصعب جدّاً أن يتم بسرعة، ولكن هناك بعض النتائج لا بأس بها.
وقد عاد الهدوء النسبي في الشارع رغم تسميته بالهدوء الذي يسبق العاصفة
إلا إن ذلك مطلوب أيضاً لإعادة ترتيب الصفوف وتنظيمها، وعادت الحياة بشكل
نسبي إلى طبيعتها، وقامت الحكومة بعمل نداءات لجميع الموظفين في الدوائر
الحكومية بالحضور للعمل وإلا سيفقدون وظائفهم في الحال.
وعلى صعيد آخر: فقد تم إرسال وفد من دول الاتحاد الأوروبي مكون من
11 عضواً، واجتمعوا مع رئيس الوزراء الألباني والرئيس (بريشة) وعدد من كبار
رجال الدولة في ميناء (دورس) على متن سفينة حربية، وخرجوا بمجموعة
توصيات ومحاور رئيسة لمساعدة ألبانيا، منها تقديم:
1-
المساعدات الإنسانية.
2-
المساعدات المالية والاقتصادية.
3-
مساعدة بشأن عودة الحياة إلى طبيعتها.
الإصرار على إقالة (بريشة) :
وفي تطور آخر للأحداث: قامت منظمة (الجنوب الألباني) بإعطاء مهلة
للرئيس (صالح بريشة) حتى يوم 20/3/1997م لتقديم استقالته، وإلا فلن يعترفوا
بحكومة (فينو) ، وسيأتون إلى تيرانا للإطاحة بالرئيس، ولكن في رسالة قوية
أرسلها الرئيس (بريشة) أعلن فيها الموقف السابق نفسه، وأنه لن يترك الرئاسة إلا
إذا خسر حزبه في الانتخابات القادمة.
وقد سمعت أثناء كتابة هذه السطور أن المعارضة الجنوبية تنازلت عن موقفها، وأقرت بالحكومة الانتقالية، ودعت إلى انتظار نتائج الانتخابات القادمة.
بعض المعلومات السريعة:
1-
السفيرة الأمريكية الحالية في ألبانيا هي نفسها التي كانت موجودة في
العراق أيام حرب الخليج! ! .
2-
مدير المخابرات الأمريكية في ألبانيا يوناني الأصل.
3-
حاول وزير الدفاع السابق الهرب، فأعادوه، ثم تمكن أخيراً من الفرار،
ويُتهم بأن له علاقة وثيقة بعمليات بيع السلاح الألباني.
4-
اللصوص ومحترفو الإجرام الذين خرجوا من السجون هم الذين يسببون
كل أحداث الرعب وأعمال السرقة في البلد.
5-
يحتمي الرئيس (صالح بريشة) في مقر قصر التشريفات وسط حراسة
مشددة جدّاً من أهل الشمال المسلحين.
ونحن في مجلة البيان: نعرض الواقع المؤلم الذي آلت إليه الحال في (ألبانيا) أفقر دول أوروبا، والتي لم ينقذها الغرب كما هو دأبه مع بني جنسه لكون جل الألبان من المسلمين، حتى ولو كانوا في غالبيتهم مسلمين بالحفيظة فقط، إذ إن الكابوس الشيوعي الذي حل بها منذ سنوات قد مسخ جل أهلها، حتى أنك لا تفرقهم عن سواهم من غير المسلمين.
وهناك جهود دعوية موفقة لإعادة الإسلام لشعب ألبانيا المسلم، وأعمال خيرية
نالها الأذى من جراء الفتنة التي عصفت بهذه الدولة، ولعلنا نتناولها في مقال قادم
إن شاء الله (تعالى) .
والله نسأل أن يمن بالاستقرار والطمأنينة على هذا الشعب، وأن تعود أحواله
سلاماً واطمئناناً ورغد عيش، وعودة إلى الله.
وما ذلك على الله بعزيز.
المسلمون والعالم
إريتريا.. الوعد الكاذب بالحرية
مظاهر العلمنة والتنصير في توجهات الجبهة الحاكمة
(2من2)
بقلم: جمال سعيد حسن
تطرق الحديث في الحلقة الأولى إلى تاريخ إريتريا بعد نهاية الحرب العالمية
الثانية وحتى استقلالها عن الهيمنة الإثيوبية عام 1991م وتسليم الحكم فيها للجبهة
الشعبية الصليبية، وما اتخذته من وراء ذلك، وبيان حقيقة التقسيم الإداري للبلد
لتأكيد هيمنة النصارى، وبيان موقفهم من المهجرين المسلمين، وعلاقات الجوار
الساخنة، وضلوع الحكومة في مؤامرة تدويل الصراع في البحر الأحمر لصالح
الأعداء والمستفيدين منه ضد أهله، ويواصل الكاتب عرضه لمحاور باقية من
الموضوع.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
-البيان-
العلاقات مع دول الجوار والصراع في البحر الأحمر:
كان من المفترض على دولة مستقلة حديثاً أن تسعى لخطب ود دول الجوار؛
لترسيخ وضعها السياسي والاقتصادي، ولكن الأمر في إريتريا كان على العكس من
ذلك، فقد استَعْدَت الجبهة الشعبية بعض الدول العربية الجارة وغير الجارة، فقبل
إعلان الاستقلال رسميّاً بدأت وسائل إعلامها بشن حملات عدائية ضد (السعودية،
وسوريا) ، وفي نهاية عام 1994م، قطعت علاقاتها الدبلوماسية رسميّاً مع السودان، وسلمت السفارة السودانية في إريتريا للمعارضة السودانية، بحجة أن السودان
بدت منها مظاهر عدائية، وأنها تدعم المجاهدين الإريتريين، متناسية موقف
السودان التاريخي المؤيد والداعم للقضية الإريترية في فترة النضال الذي استمر
ثلاثين عاماً، ثم ظهرت قضية جديدة افتعلها النظام في (أسمرا) ، وذلك في بداية
عام 1996م، وهي قضية (جزر حنيش) في البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن
الخلافات بين دول الجوار في مسائل الحدود طبيعية في هذا العصر، وتعاني منه
كثير من الدول، إلا إن الأسلوب الذي سلكته حكومة (إسياس) لم يكن حضاريّاً ولا
مهذباً، بل كان أسلوباً ينم عن الحقد الدفين الذي لا يراعي حقوق الجوار، يصطنع
حرباً وطنية ضد دولة جارة، ادعى النظام في (أسمرا) أنها اعتدت على الأراضي
الوطنية لإريتريا، فذهب إلى الخيار العسكري لحل الخلاف، بالإضافة إلى
التحرشات العسكرية المتكررة أيضاً ضد دولة (جيبوتي) .
ومن جانب آخر نجد العلاقة مع دول الجوار الأخرى متينة وقوية تتجاوز
المعاهدات الأمنية والعسكرية والاقتصادية.. إلخ، وتطمح للترابط (الكونفدرالي)
كما هو الحال مع إثيوبيا، كما أن العلاقة بـ (كينيا، وأوغندا) ممتازة جدّاً.
نخرج مما سبق: أن منهج حكومة الجبهة الشعبية في تكوين علاقتها
وصداقاتها يختص بالمتانة والقوة مع الدول التي تحمل الصبغة الصليبية، بينما كان
نصيب دول الجوار المسلمة: الحرب، والعداء، مما يعني أن (إسياس) يسعى
جاهداً إلى إيجاد حاجز كبير بين الشعب الإريتري وجيرانه المسلمين، بالإضافة إلى
أن هناك مؤامرة كبرى تحاك في شرق إفريقيا، كلها تشير إلى ترابط الدول
النصرانية في مواجهة الدول الإسلامية، وتحجيم انتشار الإسلام في المنطقة، فكل
من (إريتريا، وإثيوبيا، وأوغندا) تقف موقف العداء السافر ضد الحكومة السودانية، وتدعم بالإضافة إلى كينيا (جون قرنق) النصراني، وذلك حيال توجه السودان
الإسلامي المعلن، وإمكان انتشار تأثيره على منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا.
وإذا أضفنا إلى كل ما سبق العلاقة الحميمة التي يتمتع بها النظام في (أسمرا)
بالدولة اليهودية، والتعاون المطلق في المجالات الأمنية والدفاع والاقتصاد.. فلا
نستغرب سلوك النظام القائم في إريتريا هذا المسلك المشين والمسيء للشعب
الإريتري، ف (إسرائيل) ما زالت تسعى منذ نشأتها للسيطرة على المنفذ الجنوبي
للبحر الأحمر، وما (إسياس) إلا مجرد أداة ينفذ رغبات القوى النصرانية
والصهيونية العالمية.
الاقتصاد: يسيطر حزب الجبهة الشعبية متمثلاً في جهازه الذي يرمز إليه بـ
(09)
على الاقتصاد الإريتري الضعيف أصلاً، وأصبح هذا الجهاز عائقاً أمام
التطور الاقتصادي للبلاد وللمواطنين، فكل الامتيازات الاقتصادية من استثمار
واستيراد وتصدير متاحة لهذا الجهاز الذي أصبح يمارس منافسة غير شريفة وغير
متكافئة مع التجار، ويدعي هذا الجهاز أن هدفه خدمة المواطنين ووقايتهم من جشع
التجار غير المحدود، بينما الأهداف الحقيقية غير المعلنة هي تحقيق دخل مالي
كبير لحزب الجبهة الشعبية، وإتاحة فرصة العمل لأعضاء الحزب، ومن ثم:
سيطرة هذا الحزب بواسطة هذا الجهاز على مقومات الاقتصاد الإريتري واحتكار
مقدرات الشعب واسترقاقه سياسيّاً وثقافيّاً عبر وسائل لقمة العيش.
الدستور ومجموعة القوانين: لا شك أن التقنين والتنظيم في الأمور الإدارية
على مستوى الأفراد والجماعات والدول سمة حضارية متى ما حُققت العدالة
والمساواة وتجنب الظلم، ولكن الخلاف والجدل يُظهر ماهية تلك النظم ونوعية
المراسيم التي تصاغ بها ليلتزمها الفرد والمجتمع، وقد أصدرت الجبهة الشعبية منذ
استيلائها على إريتريا وتربعها على عرش الحكم في (أسمرا) عدداً من القوانين التي
كانت مثار الاستغراب ومن ثم: الرفض من قبل الشعب الإريتري أجمع.
وقد كان قانون الجنسية الذي سبق عملية الاستفتاء على استقلال إريتريا من
المراسيم التي لم يستسيغها الشعب الإريتري، حيث فُتح المجال لكل من هب ودب
للحصول على الجنسية الإريترية، وحسب الواقع المعاش فإن المستفيد الرئيس من
هذا القانون كان نصارى إقليم (تجراي) الإثيوبي، وبهذا كثر سواد النصارى في
إريتريا في ظل غياب المسلمين في مخيمات اللاجئين في السودان والدول العربية،
مما يؤثر مستقبلاً على الأمن العام لإريتريا ويحدث معه خلل في تركيبة المجتمع
الإريتري لصالح النصارى.
ومن القوانين الأكثر جدلاً والأشد رفضاً من قبل المسلمين: قانون التجنيد
الإجباري الذي ألزم الفتيان والفتيات على حد سواء بالمشاركة في التدريب العسكري
والخدمة العسكرية لمدة سنتين، وقد قبل الشعب الإريتري على مضض تجنيد
الشباب لما يعرفه من أن الهدف من تجنيدهم ليس الدفاع عن الوطن والشرف، بل
لأغراض أخرى في نفس (إسياس)، منها: صياغة جيش جديد بعقلية جديدة
تتناسب والمرحلة القادمة من مرحلة الحكم في إريتريا، لأن الجيش الشعبي السابق
فيه بقية من روح الثورة بل الجهاد الذي قد يرفض توجهات (إسياس) الدكتاتورية
والارتماء في أحضان الصهاينة والغرب.
أما تجنيد الفتيات فقد رفضه المسلمون من منطلق شرعي بحت، وما زالت
المواجهات بين النظام والشعب مستمرة في هذا الشأن، وقد تعرض كثير من
الفتيات والآباء والأمهات لعقوبة السجن من جراء رفضهم تنفيذ هذا القرار الجائر،
بل وصل الحال في بعض مناطق إريتريا أن واجهوا جنود النظام بالعصى
والهراوات والسيوف عندما حاولوا أخذ الفتيات قسراً لتجنيدهن.
والمتأمل للأمر يدرك أن الاتجاه إلى تجنيد الفتاة المسلمة ليس الغرض منه سد
النقص في عدد المدافعين عن إريتريا، ولا تنفيذ المساواة المزعومة بين الرجال
والنساء، إنما الغرض تربية الفتاة المسلمة على أفكار ومبادئ تناوئ العقيدة
الإسلامية وما ينبثق منها من شريعة وأخلاق وفضائل.
أما آخر المراسيم مكراً فقد كان المرسوم التشريعي رقم 73 لعام 1995م،
الذي نص على عدم أحقية المؤسسات الدينية في القيام بأعمال إغاثة أو خدمات
اجتماعية بالوكالة عن حكومات أو مؤسسات أجنبية، وهو القرار الذي عرف باسم
مرسوم تنظيم عمل المؤسسات الدينية، وقد حدد النظام في الوقت نفسه وجه التعامل
مع الجهات الخارجية، بحيث يكون عبر أجهزة الدولة الرسمية.
والغرض من هذا القرار هو تحجيم عمل المعاهد والمدارس الإسلامية وشل
العمل الدعوي الإسلامي في إريتريا؛ لأنه من المعلوم أن المؤسسات الإسلامية في
إريتريا تقوم على الجهد الأهلي، وبما أن الشعب الإريتري عاش ثلاثين عاماً في
حرب قاسية فَقَدَ فيها كثيراً من مقوماته الاقتصادية، فإن العمل الدعوي هناك أصبح
لا يستغني عن الاتصال بالمؤسسات الخيرية والتطوعية في العالم الإسلامي، وذلك
بغية الحصول على العون المادي والعلمي والأدبي، إنه في حاجة إلى المؤسسات
الرسمية في الدول الإسلامية (من جامعات ووزارات) التي توفر له منحاً دراسية
للطلاب، وإرسال الدعاة ومعلمي اللغة العربية والعلوم الشرعية، إلا إن هذا
المرسوم يقف عائقاً الآن أمام هذه المساعدات التي كان من الممكن أن تسهم في
مسيرة الدعوة الإسلامية في إريتريا، وهذا هو المقصود تماماً.
ولهذا ولغيره من الأسباب نجد اليوم إريتريا تخلو من المؤسسات الإسلامية
الخيرية، بينما تعج بالمؤسسات التنصيرية التي تعمل ليل نهار في بناء الكنائس
وتقديم خدمات الإغاثة والعلاج في ربوع إريتريا! ! .
حقيقة دستور الدولة: وقد تم تتويج هذه القوانين جميعاً في نهاية المطاف
بالدستور الذي صدرت مسودته في يوليو 1996م، وهو دستور علماني بحت، بل
علماني متطرف حسب تعبير الدكتور (جلال الدين محمد صالح) في جريدة
(المستقلة) العدد 128 تاريخ 9/6/1417هـ 21/10/ 1996م لم يراع ديانة شعبه
بل لم يراع العادات والتقاليد والموروثات الثقافية للشعب الإريتري كما زُعم في
ديباجته.
وقد تعمد الدستور تهميش الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية، والتركيز
علي الجوانب الإدارية والفنية البحتة في معظم فقراته، وأعطى الأجهزة التنفيذية
في الدولة مجالاً واسعاً لإصدار قوانين وتشريعات تنظم عمل الأجهزة الحكومية.
وقفات مع الدستور:
على الرغم من ذلك فإننا سوف نتناول منه عدداً من القضايا التي ما زالت تثير ردود الأفعال المتفاوتة، وتسبب الجدل والنقاش الحاد في اللقاءات التي تعقدها لجنة الدستور مع الشعب الإريتري في الداخل والخارج، وهذه القضايا هي:
1-
اللغة: نص الدستور في الفقرة الثالثة من المادة الرابعة على أن (مساواة
جميع اللغات في إريتريا مصانة) ، ولم يحدد اللغة الرسمية للبلاد، بل ترك الأمر
بهذا الشكل عمداً، وفي ذلك دغدغة لمشاعر العامة وتلاعب بعواطفهم، فمن ذا الذي
يكره المساواة؟ ! ، وإذا قيل لأي مواطن: إن لغته الأم متساوية مع جميع اللغات
الأخرى التي في بلده فسوف يتقبل الأمر بكل سرور، إلا إن العمل بهذا النص بعيد
عن الواقع ولا يقبله عاقل؛ لأن المساواة تعني أن تتعامل الحكومة مع جميع لغات
إريتريا بنظرة واحدة وبقدر واحد في التعليم والإعلام وإصدار المراسيم والمكاتبات،
والخطب الرسمية
…
إلخ، فيفترض بناءً على ذلك أن يُلم جميع موظفي الدولة
باللغات الإريترية على الأقل إن لم يتقنوها، ومعلوم أن في إريتريا تسع لغات
مختلفة، تتحدث بها تسع مجموعات لغوية، تسميها الجبهة الشعبية (قوميات) .
وقد حاولت حكومة الجبهة الشعبية تنفيذ هذا الأمر في مجال التعليم الابتدائي،
حيث حاولت إيجاد مدارس ابتدائية في القرى تدرس بلغة أهل المنطقة حتى إذا لم
تكن حروفها مكتوبة، فبدأت بكتابتها بالحروف اللاتينية والبعض الآخر بالحروف
التجرينية (لغة أغلب نصارى إريتريا وشمال إثيوبيا) ، إلا إن الأمر لم يحقق
المساواة الحقيقية للغات وأهلها، ففي المدن التي تختلط فيها القبائل والأعراق
والمجموعات اللغوية لم تستطع الوفاء بهذا الأمر، ففي مدينة (كرن) مثلاً لا توجد
مدرسة تدرس بلغة (البلين) مع أن أغلب سكان هذه المدينة من المتحدثين بهذه اللغة، بل بالعكس من ذلك فإن أكبر مدرستين حكوميتين تدرسان باللغة التجرينية مع
أهلها أقلية في المدينة المذكورة.
وإذا نُظر إلى هذا القرار من منظور الوحدة الوطنية التي تُرجع إليها الجبهة
جميع نظرياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية نجد أن لهذا الأمر تأثيراً سلبيّاً،
حيث إن تعلم كل مجموعة لغوية بلغتها الخاصة مع عدم وجود لغة وطنية واحدة أو
اثنتين يتعلمها جميع أفراد الشعب يضع حاجزاً بين أفراد الشعب الواحد، ويؤثر
على تفاهمهم وتعاملهم اليومي وأنشطتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية، فمن أين
يأتي هؤلاء الموظفون الذين يعرفون جميع اللغات الإريترية والحال هكذا؟ .
إلا إن النتيجة النهائية لهذا النص الدستوري: تفتيت وحدة المسلمين في
إريتريا بإيجاد حاجز لغوي ومزاج ثقافي فكري محدود فيما بينهم حيث إن وجودهم
ينتشر في المجموعات اللغوية التسع، وإبعادهم عن خيارهم للغة العربية التي ما
زالوا ينادون بها، وفرض الأمر الواقع بنشر اللغة التجرينية وإسقاط اللغة العربية
كما أسلفنا.
2-
المرأة: وجدت المرأة في الدستور الإريتري ذكراً لحاجة خبيثة في نفس
(إسياس) الماكرة، فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة السابعة: (تعتبر ممنوعة كل
الممارسات التي تنتهك حقوق المرأة، أو تحط من شأنها، أو تقلل من دورها، أو
تعيق من مشاركتها) .
والفقرة بهذا الشكل عامة يمكن تفسيرها تفسيراً مقبولاً، ولكن.. ما هي
الحقوق التي تقصدها الفقرة والمنهي عن انتهاكها؟ .
إن الحقوق المعتبرة لدى الدستور لا تخرج حسب ممارسات الجبهة الشعبية
عن الحقوق التي نادى بها مؤتمر (بكين) النسائي في عام 1995م والذي أثار
مشاعر المسلمين، بل ومشاعر (بابا الفاتيكان) ، وقد شاركت إريتريا في هذا
المؤتمر بوفد نسائي كبير رفيع المستوى من عناصر حزب الجبهة الشعبية، وقد
احتفت وسائل الإعلام الإريترية بهذا المؤتمر وأيدت قراراته بدون تحفظ.
فالمقصود إذن: ضمان جميع الحقوق والأدوار التي تنافي الشرع الإسلامي
السمح وأخلاقه الحميدة، فقد يُعد في نظرهم الحجاب مما يحط من شأن المرأة،
ونصيبها الشرعي من الإرث انتهاك لحقوقها في المساواة، وإبعادها عن الاختلاط
والخلوة بالرجال مما يعِيق مشاركتها.... وهكذا.
3-
الأسرة والزواج: فيما يتعلق بالأسرة والزواج حدد الدستور في الفقرة
الثانية من المادة (22) طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، قائلاً: (من حق الرجل
والمرأة اللذين بلغا السن القانوني أن يتزوجا ويؤسسا أسرة بحرية، وبملء إرادتهما، ودون أي شكل من أشكال التمييز، كما يكون لهما حقوق وواجبات متساوية في
كل المسائل الأسرية) .
وبهذا يحق لغير المسلم سواء أكان يهوديّاً أو نصرانيّاً أو وثنيّاً أن ينكح مسلمة، وكذا بالعكس، حيث لا تمييز في الدين وغيره، ولا يهم أن يكون الزواج بعقد
تتوفر فيه الشروط الشرعية من شهود وولي أم لا، كما إن المساواة في كل المسائل
الأسرية تعني أن الزوجين يتساويان في النفقات الخاصة بأمور الأسرة من مهر
وسكن وملبس ومأكل ومشرب، وأن يكون الطلاق في يديهما بالتساوي، وأن ترث
المرأة زوجها بالمقدار الذي يرثها زوجها، وأن تكون القوامة لهما، وما أدري هل
تعدد المرأة الأزواج إذا عدد الرجل زوجاته أم إن التعدد محرم في نظر الدستور؟ !
إذن: فلا مكان بمقتضى هذا الدستور لقوله (تعالى) : [إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ] [الطلاق: 1]، وقوله (تعالى) :[وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً]
[النساء: 4]، وقوله (تعالى) :[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ][النساء: 11]، وقوله (تعالى) :[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا][النساء: 34]، وقوله (تعالى) :[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ][النساء: 3]، وقوله:(لا نكاح إلا بولي) .. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث النبوية، مما يعني هدم نظام الأسرة في الإسلام، والاعتداء الصارخ على حرية الشعب الإريتري في ممارسة عقيدته ودينه الذي ارتضاه لنفسه وارتضاه الله له من قبل.
4-
القَسَم: جاء في المادة (35) في القَسَم الخاص بأعضاء المجلس الوطني،
والمادة (45) الخاصة بقسم رئيس الدولة، والمادة (51) الخاصة بقسم القضاة أن
صيغة القسم تكون: (أقسم باسم شهداء إريتريا
…
) .
وهذا يعني أن يتناول المسلم باباً من أبواب الشرك بالله إذا قدر له أن يكون
عضواً في البرلمان، أو رئيساً للدولة، أو قاضياً في محكمة! ، إلا إذا كان
المقصود أن تولي هذه المناصب مما لا ينبغي أن يتولاها المسلم في إريتريا، فماذا
يرتجى ممن استهل عمله بأعظم ذنب يرتكبه الإنسان في حياته الدنيا كلها؟ ! .
ولم تترك هذه المادة للمرء فرصة في أن يضمر ما يعتقده في القسم، بحيث
تكون على حسب اعتقاده، بأن تكون الصياغة مثلاً:(أقسم أن كذا وكذا) بل تم
تعمد صياغة القسم بهذا الأسلوب، مبالغة في إبعاد الناس عن دينهم، وتطرفا في
علمنة الدستور.
5-
المحاكم الشرعية: معلوم أن المحاكم الشرعية في إريتريا (استئنافية
وعادية) ما زالت تعمل منذ عهد الخلافة العثمانية، ومروراً بعهود الاحتلال الغربي
(إيطاليا، وبريطانيا) ، ثم الاحتلال (الإثيوبي) ، وعندما تحدثت مسودة الدستور
الإريتري عن القضاء والمحاكم لم تذكر المحاكم الشرعية بشيء، لا بالإلغاء
الصريح أوالبقاء الصريح، ولكن يبدو أن المراد هو موت المحاكم الشرعية بطريقة
تلقائية بعيداً عن الإثارة؛ فالفقرة الثالثة من المادة الثانية تقول: (يعتبر هذا الدستور
أعلى قانون ومصدراً لكل القوانين الإريترية؛ لذا: فإن أي قانون أو أوامر أو
ممارسات لا تتماشى مع نصوصه وروحه تعتبر لاغية) (هكذا) ! ! .
وقد أحال الدستور صلاحيات تنظيم وأداء المحاكم الدنيا وفترة عمل قضاتها
إلى القانون في المادة (50) ، ولا تدخل المحاكم الشرعية ضمن المحاكم الدنيا
المزمع تكوينها، لأن المحاكم الشرعية مختلفة عنها تماماً، كما إن أحكامها تتعارض
قطعاً مع نصوص الدستور، كالفقرة الثانية من المادة (22) الخاصة بالزواج
والأسرة على سبيل المثال.
إذن: فإن إقصاء المحاكم الشرعية عن الحياة في إريتريا أمر مؤكد، حتى
وإن أصبحت قاصرة على الأحوال الشخصية.
6-
ملكية الأرض: كانت حكومة الشعبية قد سبقت دستورها في إصدار
قانون يجعل ملكية الأرض للدولة، وقد نص الدستور الجديد في الفقرة الثانية من
المادة (23) على (أن الأرض وكل الثروات الطبيعية ملك للدولة، وحقوق
المواطنين في استخدام الأرض تتحدد قانوناً) .
وقد فتح هذا القانون الباب على مصراعيه للنصارى للنزوح إلى مناطق
المسلمين الواسعة، واغتصاب أراضيهم (بالطرق القانونية) ، ومعلوم أن المساحة
التي يمتلكها المسلمون في إريتريا لا تقل عن 80% من مساحة إريتريا، وأغلبها
صالح للزراعة والرعي.
وبهذا يتضح أن المقصود من وراء هذا القانون هو التلاعب بالتركيبة السكانية
لمناطق إريتريا، ودعم النصارى اقتصاديّاً على حساب إفقار المسلمين الذين ما زال
أكثرهم يعيشون في مخيمات المهاجرين واللاجئين في السودان، ويعمل كثير منهم
أيضاً في دول الخليج العربي.
وفي الختام: يمكن أن نخلص من هذه الجولة القصيرة إلى أن الخطى سائرة
في إريتريا وفق مخطط نصراني مدروس يصب في نهاية المطاف لتحقيق حلم
المنصِرين بجعل (إفريقيا نصرانية عام 2000! !) .
[وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
مما يلزم أن يتداعى المسلمون الإريتريون لتحديد موقفهم حيال ما صاغته
الجبهة الشعبية من أنظمة وقوانين تؤكد الوجهة النصرانية لهذه البلاد الإسلامية
لصالح فئة محدودة.
ويؤكد العمل بكل الوسائل المتاحة لإيقاف المد النصراني الجائر عند حده،
وعلى كل المسلمين تحديد موقفهم من هذه الدولة العميلة التي ناصبتهم العداء
وصارت مخلب قط لصالح أعدائهم.