المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النظام الجزائري.. والبحث عن الشرعية - مجلة البيان - جـ ١١٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌النظام الجزائري.. والبحث عن الشرعية

المسلمون والعالم

‌النظام الجزائري.. والبحث عن الشرعية

!

بقلم: د.يوسف الصغير

لقد حاول الجيش الجزائري منذ بداية الانقلاب العسكري وإلغائه نتائج

الانتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ أن يبحث عن الشرعية، فمن مجلس انتقالي، إلى استيراد أحد رموز حرب التحرير (بوضياف) الذي لم يشارك في الحكم

وبالتالي لا يتحمل أوزاره، وقد قتلوه بعدئذٍ لما أحسوا أنه يريد أن يمارس السلطة

حقيقة، وفي نهاية المطاف جاؤوا (بزروال) الذي يبدو أنه يتصرف كأنه يسير على

حبل مشدود؛ فهو تارة يدعو إلى المصالحة ويُخرج شيخي جبهة الإنقاذ من السجن

إلى الإقامة الجبرية؛ ومن ناحية أخرى تزداد وتيرة العمليات العسكرية والأمنية،

وهو في الوقت نفسه يؤيد الحوار والاستئصال! وقد تطورت الأوضاع بحيث

أصبحت مسرحية البحث عن الشرعية لا تكفي لها الأختام المحلية المزورة، بل إن

هناك رغبة عالمية في إعطاء النظام العسكري الشرعية؛ لأنه الوحيد القادر على

مواجهة الإسلاميين وتأخير وصولهم إلى الحكم، فلم يعد يكفي مندوبو الجامعة

العربية الذين بدوا مندهشين من المهمة الجديدة وهي مراقبة تطبيق الديمقراطية في

الوطن العربي! حتى رأينا ويا للعجب مشاركة الغرب في إخراج المسرحية بصورة

مباشرة؛ فقد شارك في ذلك مندوبون من بريطانيا وأمريكا على حين اعتذرت فرنسا

عن المشاركة (لأن شهادتها مجروحة) .

وبالنظر في الانتخابات الأخيرة وما سبقها فإن هناك جملة ملحوظات منها ما

يأتي:

أولاً: لقد صِيغ نظام الانتخابات الجديد بحيث لا يكون لـ (المجلس الشعبي

الوطني) سلطة مؤثّرة، ولا يكون هناك إمكانية سيطرة أي طرف على الأغلبية؛

حتى ولو حصل أحد الأحزاب على أكثر الأصوات متقدماً بذلك على غيره من

الأحزاب؛ فإن رئيس الدولة يمكنه تكليف رئيسٍ للحكومة ولو من خارج الأحزاب،

إضافة إلى أن هناك مجلساً ثانياً أعلى وهو مجلس الأمة ثلثه مُعَيّن من قِبَلِ رئيس

الدولة، وثلثاه منتخب من خلال المجلس الشعبي والمجالس الولائية!

ثانياً: لقد نص النظام الجديد على أن (أحد عشر حزباً) فقط يحق لها دخول

الانتخابات وهي التي تتفق والشروط الجديدة التي من بينها ألا يكون الحزب قائماً

على مبدأ ديني أو لغة أو جهة؛ بمعنى أن تكون الأحزاب بدون هوية مميزة؛ ومن

المعروف أن المقصود: هو ألا يكون هناك أي حزب إسلامي صريح؛ فقد أُجبرت

الأحزاب على حذف ما يشير إلى الإسلام في اسمها، فمثلاً: (حركة النهضة

الإسلامية) أصبحت: (حركة النهضة) وحركة: (المجتمع الإسلامي حماس)

أصبحت: (حركة مجتمع السلم) .

ثالثاً: لقد قام النظام بتشجيع أو تدبير انشقاقات عديدة في جبهة التحرير

الوطني وجبهة القوى الاشتراكية في محاولة لفك ارتباطهما مع جبهة الإنقاذ. وقد

اضطر (حسين آيت أحمد) للاشتراك في الانتخابات الأخيرة من أجل المحافظة على

تماسك حزبه.

أما جبهة التحرير الوطني فقد كانت قطاعات منها بدايةً تشجع الانقلاب على

الأمين العام السابق عبد الحميد مهري الذي كان مصراً على مشاركة جبهة الإنقاذ في

أي حلٍ؛ مع الإيحاء للانقلابيين أن جبهة التحرير ستكون هي حزب الرئاسة.

رابعاً: لقد حرص النظام في هذه الانتخابات على دخول حزب جديد يمثل

النظام الذي كان قبل ذلك يعتمد على بعض الأحزاب القائمة مثل: حزب التجمع من

أجل الثقافة (الفرانكفوني البربري) و (حزب حماس الإسلامي) وذلك من أجل

إعطاء إحساس باستمرار التعددية الحزبية. أما الآن فقد كوّن النظام حزبه الخاص

(الوطني الديمقراطي) حتى إن محفوظ نحناح زعيم حركة مجتمع السلم أطلق عليه

اسم: (الطفل المدلل) تمييزاً له عن الأطفال غير المدللين!

خامساً: وهي أهم قضية: أن النظام ومع أنه روّض معظم الأحزاب

الموجودة وكوّن حزبه الخاص، فإنه لم يجرؤ على تكرار تجربة انتخابية فيها

احتمال الإخفاق والتفريط في السلطة؛ ولهذا فإنه لم يسمح لأكبر قوة شعبية في

البلاد بالمشاركة.

ولنتخيل أن كلينتون أصدر قراراً بحل الحزب الجمهوري المنافس للديمقراطي، وسمح بتشكيل عشرات الأحزاب الصغيرة التي ليس لها شعبية، ثم دخل

انتخابات تشرف على نتائجها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومندوبون عن أعرق

الدول الديمقراطية (بريطانيا) ليعلن بعدئذٍ فوز الحزب الديمقراطي فوزاً كاسحاً؛

فهل هذا يدل على شعبية حزبه المطلقة؟ بالطبع لا؛ بل ولا يُتوقع أن تشارك

المنظمات الشعبية والدولية السابقة بهذه المهزلة؛ فكيف يُحَلّ أكبر حزب منافس

وتكون هناك ديمقراطية؟ وكم كان (جون ميجور) قبل هزيمته يتمنى لو أن النظام

البريطاني يخوّله أن يصدر قراراً بحل حزب العمال قبل الانتخابات، ليخوض بعد

ذلك انتخابات نزيهة مع حزب الخضر!

ونحن هنا لا نقول فقط: لماذا يتم حظر جبهة الإنقاذ، وهل تكون هناك

انتخابات نزيهة إثر ذلك؟ بل نسجل هنا سقوط ما يسمى بالديمقراطية الغربية التي

ختمت بشرعية النسخة المعدلة من الديمقراطية أو النسخة المعدة للتصدير للدول

الإسلامية ألا وهي حكم (حزب النظام) مع عدد من الأحزاب الاسمية الصورية؛ مع

الحظر الرسمي لأي حزب إسلامي؛ وهذه الديمقراطية مطبقة بنجاح في عدد من

الدول الإسلامية! ! وهناك محاولة لإرساء قواعدها في الجزائر وتركيا.

نعم لقد أرسلت بريطانيا وأمريكا مندوبيها ليقولوا: إن الانتخابات نزيهة! ولم

يقع فيها تزوير واسع للأصوات ولم يتحقق ذلك الأمل ليتم دعم النظام الديمقراطي

الجديد والتواصل معه بكل حرية من أجل الوقوف ضد الإرهاب الإسلامي! !

سادساً: حيث إن الدعاية الانتخابية العادية غير كافية لدفع الناس للمشاركة،

فقد طبق في الجزائر أسلوب جديد مخترع؛ فقبل كل انتخابات سواءً لتعديل

الدستور أو الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية تطغى على وسائل الإعلام المحلية

أنباء مجازر رهيبة تقتل فيها النساء والأطفال والشيوخ، ويبالغ الإعلام المرئي في

نقل مشاهد الصور المشوهة وبقع الدماء على الأرض والجدران، وكيف قتل

الأبرياء بالسكاكين والمناشير، وأن المهاجمين كتبوا شعارات إسلامية على الجدران

بدماء الضحايا. وكان الخطاب المحلي الموجه وصداه الخارجي يصران على أن

الإسلاميين هم الذين يرتكبون كل هذه المجازر مع تكرر نفي جبهه الإنقاذ

لمسؤوليتها وإدانتها بل واتهامها النظام وميليشياته بارتكاب تلك الفظاعات، وذلك

في الوقت الذي بدأت تتكشف فيه بعض الحقائق، وهي كما يلي:

1-

كثير من الضحايا هم من عوائل المجاهدين في جبهه الإنقاذ، وإشاعة

النظام أن المجازر تحدث نتيجه الحرب بين الإسلاميين أنفسهم! !

2-

القرى والمناطق التي وقعت فيها أبشع عمليات الذبح هي التي ظلت

رافضة تسلم السلاح من الحكومة والمشاركة في ما يسمى بالمقاومة الشعبية أو الدفاع

الذاتي.

3-

تتركز المجازر في البلدات والقرى التي تشكلت حول المزارع الضخمة

التي خلفها المستعمرون الفرنسيون في سهل (متيجه) الخصب وقد شاع أن جماعات

القتل تخدم خطة لإخلاء هذه المناطق من أجل إعادة توزيعها على المتنفذين الجدد.

4-

لوحظ أن المجرمين كانوا ينفذون جرائمهم وهم في منتهى الاطمئنان مع

أن تسليحهم يقتصر غالباً على السكاكين والبلطات، وبعد خروجهم من القرى تأتي

قوات الأمن مع الوفود الإعلامية.

5-

لقد تتابعت الانفجارات العنيفة في بدايه شهر رمضان المبارك الماضي في

أسواق ومقاهي العاصمة الجزائرية عن طريق سيارات مفخخة؛ وذلك في أيام

متتالية؛ وقد وجهت أصابع الاتهام إلى أطراف في النظام نظراً لكمية المتفجرات

الكبيرة التي لا يمكن للإسلاميين تدبيرها ونقلها داخل العاصمة التي تكثر فيها

الحواجز الأمنية بالإضافة إلى استهداف أماكن تعتبر معاقل للإسلاميين.

6-

تواتر اختراق المخابرات الجزائرية لبعض الجماعات المسلحة إلى

مستويات قيادية عليا، وبالتالي توريطها في أعمال منافية للشرع ونسبتها للعموم؛

مع ملاحظة ضعف العلم الشرعي عند بعض هذه الجماعات وسيادة روح الانتقام من

تجاوزات النظام في حق أهاليهم.

7-

يلاحظ في الوقت نفسه تغير نبرة الإعلام الغربي تجاه الأحداث؛ فمن

عبارة: (قام المتطرفون بـ

) إلى (حدثت مجزرة

يعتقد أن الإسلاميين

المتطرفين قاموا بها) إلى (حدثت

وتنسب هذه الأعمال عادةً إلى

) .

8-

يحرص النظام بشدة على تعتيم أخبار الصراع العسكري مع الإسلاميين؛

حيث يمنع وجود المراسلين الأجانب، ويحظر على وسائل الإعلام المحلية نشر أي

أخبار إلا التي ترد من قِبَلِ وزارة الداخلية. وبعملية بسيطة فإنه إذا كان يقدر عدد

القتلى بين ستين ومائة ألف في خمس سنوات فإنه يعني حوالي خمسين قتيلاً يومياً.

نعم من أجل شرذمة من العسكريين الذين يسيطرون على كل شيء في الجزائر يقتل

يومياً خمسون فرداً لا يسمع عنهم أحد، بل ويطرح النظام في هذه المرحلة أسلوباً

استئصالياً جديداً؛ فبدلاً من الاستئصال الخاص للإسلاميين يطرح الآن وبدون حياء

أو وجل أسلوب الاستئصال العام للمناطق التي ينبت ويتوالد فيها التطرف (كما

زعموا) .

هل الانتخابات حل للأزمة القائمة؟

وأخيراً: هل تمثل هذه الانتخابات حلاً لمشكلة الجزائر؟ بالطبع: لا؛ وهذا

ما أجمع عليه المراقبون، ولكن في تصوري أن ما يجري سيجعل الصراع أكثر

تميزاً؛ فإذا كانت جبهة الإنقاذ تباطأت في المبادرة بالعمل العسكري مما ترك

الفرصة لنشوء جماعات كثيرة غير منضبطة؛ فإن اشتراك الجبهة أيضاً في (عقد

روما) كان يعطي غير الإسلاميين دوراً في حال سقوط النظام مع عدم مشاركتهم في

الصراع المسلح. إن على الجبهة وهي تقف الآن وحيدة في الجانب السياسي أن

تستغل بقوةٍ ميزةَ أنها تمثل الآن المعارضة السياسية الجادة الوحيدة بعد تدجين بقية

فصائل المعارضة، والتركيز على كسر شوكة النظام، وهذا لا يكون إلا بالعمل

الجاد على جمع شتات الجماعات المسلحة المنضبطة بضوابط الشرع؛ مع تحييد

ومحاصرة المجموعات المخترَقة من قِبَلِ النظام أو التي لا تسير على المنهج

الشرعي الصحيح.

إن إطلاق سراح الشيخ (عبد القادر حشاني) بعد محاكمة صورية ثم ما تبعه

من إطلاق زعيم (الإنقاذ) الشيخ الدكتور (عباسي مدني) مع ما صدر له من أوامر

بعدم التعامل مع وسائل الإعلام يدل ذلك كله على أن الجزائر مقبلة على مرحلة

جديدة تواجه فيها جبهةُ الإنقاذ الاختبارَ الأخير الذي يوجب عليها أن تكون فيه على

مستوى الأحداث، وأن يكون لها موقف موحد مبني على نظر ودراسة، وأن

يحذركل مسؤول فيها على ألاّ يكون له رأي فردي خاص يتخذه في مكان عام أو في

مقابلة صحفية ثم يكون بعدئذٍ مثاراً للجدل؛ بل يجب أن يكون هناك موقف

استراتيجي ثابت مبني على دراسة شرعية تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات؛

فالنظام لم يتخل عن منهجه الاستئصالي، بل اتجه للجمع بين (الاستئصال الأمني)

و (الاستئصال السياسي) .

وسياسة النظام المستقبلية تعتمد على تقديره الخاص للوضع؛ فهو بين أمرين:

أحدهما: الإحساس بأنه وصل إلى نهاية النفق المسدود؛ فالقوة العسكرية لم

تنجح، والمناورة السياسية الجديدة ليست ذات قيمة واقعية؛ وبالتالي يجب الحوار

مع الجبهة والوصول معها إلى حل وسط يكون أحد أركان جبهة الإنقاذ جسر الحوار

فيه.

والثاني: الإحساس بالانتصار، وأن الجبهة لم تعد تشكل خطراً على النظام،

وأن النظام قادر على التعامل والتعايش مع مستوى المواجهة الحالية بحيث يضبط

الأمن في المدن الكبرى، ويحرص على حماية خطوط أنابيب النفط والغاز؛ أما

بقية البلد فيترك فيها الأمر للصراع بين ميليشيا النظام وجماعات الإسلاميين.

أخي القارئ الكريم: إن الصراع في الجزائر هو صراع شامل؛ وإذا كنا لا

نحس بنقص الإمكانات العسكرية للإسلاميين، فإننا نحس وبقوه بضعف الجانب

الإعلامي الواضح؛ فليس لهم صحف ناطقة باسمهم، بل وإذا كان ثمة متحدث

رسمي في الخارج فإنه ليس على اتصال سريع أو مستمر بالداخل؛ ولهذا فإن

البيان المنسوب لأي جماعة يوجب الانتظار فترة قبل القطع بنسبته إليها، وذلك من

خلال عدم صدور بيان نفي له؛ ولهذا تُدبّج المقالات أن فلاناً هو مفتي الجماعات

المسلحة، وأنه يفتي وأفتى، ثم تفاجأ بالصحيفة تنشر اعتذارها للشيخ وتعترف

بكذب المعلومات المنشورة، وأن السبب في هذا الخطأ أن المصدر لم يكن موثوقاً،

بل ويصبح أحد الأشخاص غير الجزائريين والبعيد عن الجزائر دليلاً على نسبة

المجازر للإسلاميين بتصريحات غوغائية لا ندري ما هو هدفه منها. يجب أن

يكون للإسلاميين قنوات فعالة لتبليغ مواقفها الرسمية، وأن لا يكون اسمها مباحاً

لكل غالٍ ومنافق؛ بل إن كثيراً من البيانات المنسوبة للإسلاميين تبين أنها مدسوسة

من قِبَلِ المخابرات الجزائرية!

نسأل الله أن يلطف بشعب الجزائر المسلم، وأن يرزقه الحكام الصالحين

الذين يعيدونه لمنهجه الإسلامي الأصيل؛ وما ذلك على الله بعزيز.

ص: 54

المسلمون والعالم

عولمة أم أمركة؟

الخلق الأمريكي! !

(2)

بقلم: حسن قطامش

تحدث الكاتب في الحلقة الماضية عن استقرار أمريكا نموذجاً يقتدى به في

نفوس شرائح من مجتمعاتنا، ثم تحدث عن الشهادات من بعض رموز المجتمع

الأمريكي حول ضرورة ريادتهم للعالم، ثم بدأ في تصفح التاريخ الأمريكي محاولاً

الكشف عن أصل هذا المجتمع، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة إيضاح جوانب

أخرى من الموضوع.

...

...

...

...

...

...

...

...

- البيان - الاستقلال عن بريطانيا أعظم المفاخر الأمريكية:

يلخص الأمريكيون منجزاتهم الكبيرة وأمجادهم في ثلاثة أمور: الاستقلال،

الاتحاد، الدستور؛ وأهمها على الإطلاق: الاستقلال عن التاج البريطاني.

وأصبحت وثيقة الاستقلال وثيقة تاريخية يجب أن يعرفها الكبير والصغير على حد

سواء؛ ولخاصية هذه الوثيقة نعرض نصوصاً منها لأهميتها ومناسبتها في

موضوعنا.

عندما يصبح ضرورياً في سياق الأحداث البشرية أن يفصم شعب الروابط

السياسية التي كانت تربطه بشعب آخر، وأن يحتل بين دول الأرض المكانة

المنفصلة والمتساوية التي تؤهلها له قوانين الطبيعة، ورب الطبيعة، فإن الاحترام

اللائق لرأي الجنس البشري يطالبه أن يعلن الأسباب التي أجبرته على الانفصال.

ونحن نؤمن بأن هذه الحقائق بدهية (وأن جميع البشر خُلقوا متساويين، وأن

خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للإسقاط أو التنازل عنها، من بينها: حق

الحياة، والحرية، وطلب السعادة) .

وتاريخ مُلك بريطانيا العظمى تاريخ إضرار متكرر، واغتصاب مستمر،

هدفه الثابت المباشر هو الطغيان المطلق على هذه الولايات.. فلقد أنشأ عدداً كبيراً

من المناصب الجديدة، وبعث هنا أسراباً حاشدة من الموظفين والضباط لإرهاق

شعبنا، واستنزاف أقواتنا وأبقى بين ظهرانينا في وقت السلم جيوشاً دائمة بدون

موافقة الهيئات التشريعية، وجعل العسكريين مستقلين، وفي مكانة أرفع من

السلطات المدنية، وعمل مع آخرين لجعلنا خاضعين لولاية قانونية غريبة على

دستورنا! ! ولا تعترف بها قوانيننا بأن وافق على قراراتها التشريعية المزعومة.

ولأنه أقام أي الحاكم البريطاني قوات مسلحة كبيرة بين ظهرانينا، وحماهم

بمحاكمات هزلية في العقاب على جرائم القتل التي يمكن أن يقترفوها ضد أهالي

هذه الولايات، ولأنه قطع صلاتنا التجارية مع كل أنحاء العالم، ولأنه حرمنا في

حالات كثيرة من مزايا المحاكمة أمام محلفين، ولأنه نقلنا وراء البحار لنحاكم على

جرائم مزعومة، ولأنه نزع منا مواثيقنا، وألغى أثمن قوانيننا، ولأنه فعل كل هذا، فقد أعلن أننا محرومون من حمايته، وشن الحرب علينا، لقد نهب بحارنا وسلب

سواحلنا، وأحرق مدننا، ودمر حياة شعبنا، وهو في الوقت ذاته ينقل جيوشاً

ضخمة من الأجانب المرتزقة ليُتم أعمال الموت والتخريب والطغيان التي بدأها فعلاً

بوسائل القسوة والخيانة التي لا يوجد لها مثيل في أشد عهود الهمجية.

لقد أجبر الحاكم البريطاني مواطنينا الذين أسرهم في أعالي البحار أن يحملوا

السلاح ضد وطنهم، ويصبحوا جلادين لأصدقائهم وإخوتهم، وأن يقتلوا أنفسهم

بأيديهم.. وقد أثار الشقاقات الداخلية في ما بيننا، وحاول أن يستقدم سكان حدودنا

الذين لا يعرفون الرحمة والذين لا قانون لهم إلا الحرب، والقضاء على جميع

الأعمار والأجناس والأحوال.

وفي جميع هذه المظالم، قدمنا الالتماسات للإنصاف بكل تواضع وخضوع،

ولكن كان الجواب الوحيد على التماساتنا المتكررة هو الإساءة المتكررة، ولم نكن

في أي وقت من الأوقات مقصرين في حق إخواننا البريطانيين، فقد أنذرناهم بين

وقت وآخر بمحاولات مجلسهم التشريعي أن يمد سلطة ولايته علينا، وذكرناهم

بظروف هجرتنا واستقرارنا هنا، وناشدنا عدالتهم ونخوتهم الفطرية، أن يستنكروا

هذه الاعتداءات التي لا بد أن تفصم روابطنا وصلاتنا؛ ولكنهم أيضاً صموا آذانهم

عن صوت العدالة، ورابطة الدم.

من أجل ذلك لا بد لنا أن نذعن لحكم الضرورة التي تملي علينا الانفصال،

ونجعلهم كما نجعل بقية العالم أعداء في الحرب، أصدقاء في السلم.

لذا فإننا نحن ممثلي الولايات المتحدة في مؤتمرنا العام، المجتمع هنا نُشهد

(الله جل ثناؤه) على صواب مقصدنا، ونعلن باسم شعب هذه المستعمرات (الطيب) ! وبسلطاته، أن هذه المستعمرات المتحدة، هي في حقيقتها وبموجب حقها ينبغي

أن تكون ولايات حرة مستقلة، وأنها تحررت من كل ولاء للتاج البريطاني، وأن

كل الروابط السياسية بينها وبين دولة بريطانيا العظمى قد انفصمت تماماً، وأنها من

حيث هي ولايات حرة مستقلة لها كل السلطات الكاملة في شن الحرب، وإقرار

السلم وعقد المحالفات، وإنشاء العلاقات التجارية، وإتيان كل الأعمال والأمور

التي يحق للدول المستقلة أن تمارسها.

وتدعيماً لهذا الإعلان، معتمدين بثبات وعزيمة على حماية العناية الإلهية

نتعاهد تعاهداً متبادلاً على صيانة أرواحنا، وشرفنا المقدس) .

بقراءة سريعة لهذه الوثيقة، ودون علم بأنها وثيقة استقلال الأمريكيين عن

التاج البريطاني نظن لأول وهلة أنها على سبيل المثال من الشعب العراقي، أو

الليبي، أو على أسوأ تقدير الشعب الكوبي، ولكن أن تكون ذات صلة بالأمريكيين

فهذا أمر مستبعد إلى أقصى درجة، قد يقول قائل: تغير الأحوال والصراعات

العالمية، جعلها تعدل من مبادئها، والسياسة لا مبدأ لها، قد نسلم بهذا الافتراض إن

كان هناك زمن كبير بين هذه الوثيقة، وبين التبدلات الجذرية التطبيقية لها. ولكن

أن تكون هذه الوثيقة كتبت في وقت مُورِسَ خلاله أبشع صنوف التصفية وأشدها

همجية ضد صاحب الأرض الحقيقي، فهذا يجعلنا نلقي بالوثيقة برمتها في مزبلة

التزييف والتضليل السياسي.

ونستعرض الآن للتدليل على ذلك نموذجين وقعا خلال كتابة الوثيقة، بل

وقبلها وبعدها، ثم نرى: هل هناك ما يدعو لأن تفاخر أمريكا بهذه الوثيقة؟ أم أن

ما جاء فيها هو خاص بشعب الله المختار فقط؟

ولعل ذكر هذه النماذج عقب الوثيقة التي يفاخر بها الأمريكيون يسقطها برمتها

إلى حضيض التزييف التاريخي للحقائق التي ما يزال الكثير منها ماثلاً ولم يُمْحَ من

الذاكرة.

الأول: النموذج الهندي.. الأحمر:

الشعب الأصلي الذي عاش في أمريكا قبل الاستعمار الأوروبي لها ليسوا

هنوداً، وليسوا حمراً، ولكن هكذا راق للمحتلين أن يسموهم، وهم الذين عُبر عنهم

في الوثيقة بـ (سكان حدودنا الذين لا يعرفون الرحمة، والذين لا قانون لهم إلا

الحرب والقضاء على جميع الأعمار والأجناس والأحوال) .

ونتساءل أولاً: مَنْ صاحبُ الأرض الحقيقي؟ ونتلوه بسؤال آخر: ألم

يكونوا (بشراً متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للإسقاط أو

التنازل عنها والتي من بينها: حق الحياة والحرية وطلب السعادة؟) أم أن هذا

خاص بالشعوب الناطقة بالإنجليزية المستحقة لحماية الله؟ ! لقد استعمل الأمريكان

لتطهير الأرض التي احتلوها من شعبها أبشع الوسائل والطرق التي لا تقارن بها

(أشد العهود الهمجية) وعندما وطئت أقدام المستوطنين الأرض الجديدة كان بها نحو

مليون هندي، وكانت العلاقات في بادئ الأمر ودية، ولكن المهاجرين أخذوا

يستولون على الأراضي بشكل متزايد، فبدأ ينشب القتال بين الجانبين، كان هذا

قبل الاستقلال عن التاج البريطاني، وقد يعزوه الأمريكيون إلى بريطانيا العظمى! ! وبعد الاستقلال عقدت (الحكومة الأمريكية) عدة معاهدات مع الهنود، وتعهد

الهنود بالحفاظ على السلم مع المهاجرين، غير أن كثيراً من هذه المعاهدات كانت

تخرق؛ وذلك بسبب دخول المهاجرين إلى أراضي حددت للهنود، ونتج عن ذلك

حروب في منتهى الشراسة ومنها معركة (بيكووت) التي شنت لمقتل أحد

المستوطنين، وأحرق فيها 700 هندي، وقبض على معظم من تبقى من الهنود

وعرضوهم للبيع بسوق النخاسة في (برمودا) ، والجدير بالذكر أن الأمريكيين في

هذه الموقعة اتفقوا مع بعض القبائل الهندية ليتعاونوا معهم على قتل إخوانهم الهنود، وقد زعم الأمريكيون في وثيقتهم أن الحاكم البريطاني أجبر إخوانهم الأسرى على

حمل السلاح ضد وطنهم، وأصبحوا جلادين لأصدقائهم وإخوتهم! ! وكان هذا الذي

حدث للهنود عقب كتابة الوثيقة.

وأصدرت الحكومة الجديدة بعد ذلك قانوناً بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي

الولايات المتحدة؛ وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين، وكان ذلك عام 1830م،

وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70. 000 ألف هندي، فمات كثير منهم في

الطريق الشاق الطويل، وعرفت هذه الرحلة تاريخياً بـ (رحلة الدموع) .

لم يكتف الأمريكان بذلك، فلم يمض وقت طويل حتى أخذ المهاجرون في

الاندفاع نحو الغرب متوغلين في الأراضي التي خصصت للهنود، وكان مما زاد

الطين بلة أن اكتشف الذهب في هذه المناطق، فرحل كثير من عباد المال إلى هناك، وكانوا يقتلون الحيوانات البرية التي كان الهنود يعتمدون عليها في طعامهم،

وقاتل الهنود دفاعاً عما تبقى من الأرض، ولكنهم هزموا في نهاية الأمر؛ ولكن

للإنصاف والعدل فقد كانت الحكومة الأمريكية عادلة ومنصفة! ! إذ نقلتهم من هذه

الأرض إلى أماكن مخصصة (مستوطنات مغلقة) ! !

انخفض عدد الهنود بعد هذه المراحل من الحرب والتشريد والطرد إلى 350

ألفاً فقط، أي أُبيد على يد الأمريكيين 750 ألفاً، وكان هذا هو الرأي الأمريكي في

تقرير مصير الشعب الهندي الأحمر!

الثاني: النموذج الأفريقي.. الأسمر:

وتزامناً مع الحالة الهندية كان الزنوج يُنتزعون من الساحل الغربي لأفريقيا،

وكانت تجارة الرقيق تقوم بها مجموعات كبيرة من الشركات والأفراد الأمريكيين،

وكانت هذه التجارة تدر أرباحاً وثروات هائلة؛ إذ كان العبيد يباعون مقايضة مقابل

التبغ والأرز! ! وكانوا بطبيعة الحال يعملون أشق الأعمال وأخطرها، ويُحرَمون

من كل شيء، حتى الذي ورد في وثيقة الاستقلال. ومع بداية سنة 1850م بلغ

عدد العبيد 3. 200. 000 مليون من بين سكان أمريكا الذين كان عددهم 23

مليوناً، وكان الرق غالباً في الجنوب الأمريكي، وبدأت دعوات في الشمال تطالب

بإلغاء الرق، وكان ذلك في بداية عام 1861م، وكان سكان الجنوب الذين

يرفضون إلغاء الرق يقارب عددهم 9 ملايين شخص منهم 3. 5 مليون عبد، أي

أن لكل شخصين من البيض شخصاً من العبيد، وانفصلت الولايات الجنوبية عن

الاتحاد، وبدأت الحرب الأهلية الأمريكية (حرب الأشقاء 1861 1865م) ونذكر

نموذجاً واحداً من معارك هذه الحرب، وهي معركة (جتسبيرج) التي سقط فيها

خلال ثلاثة أيام فقط 45. 000 ألف أمريكي ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير! ! واغتيل بعدها (إبراهام لنكولن) قبل أن يحسم الخلاف على الرق.

أمريكا.. نموذج علماني شامل:

أمريكا قارة بكر عذراء، مواردها هائلة، أراضيها شاسعة، بعيدة عن العالم

القديم، فلم تستنزف ثرواتها في حروب كبيرة ولا احتلال، فالخير الذي أودعه

الباري عز وجل فيها ما زال بوفرته، وهو ما ساعد على قيام دولة كبيرة غنية،

تستغني عن غيرها، وهذه العوامل ساعدت أمريكا على الظهور كقوة كبيرة في

العالم.

هذه القارة الجديدة الهائلة كانت مطمع المهاجرين الأوروبيين، وكان الذين

سبقوا بالاستيطان يراسلون ذويهم وأصدقاءهم قائلين: هلموا إلى أمريكا.. لقد

وجدنا شوارعها مفروشة ذهباً، وكان كما ذكرت عدد كبير من أولئك من مجرمي

الحروب ونزلاء السجون وتجار الرقيق والباحثين عن الذهب والمال، وقد وجدوا

في الأرض الجديدة متنفساً كبيراً عن الذي عايشوه في أوروبا، من كبت واضطهاد، وفرصة كذلك للثراء، فرصة لأن يكونوا أمة شابة تقف أمام قارتهم الهرمة،

فأنشأت هذه العوامل هذه النفوس، وعملت هذه النفوس على إحياء مبدأ واحد فقط:

(المصلحة) ، فمن مصلحة المهاجرين إبادة الشعب الأصلي للأرض كي لا يكون

للأرض صاحب آخر يفجر الثورات، فنقلوا هذا الشعب إلى.. العالم الآخر! !

واقتضت المصلحة كذلك انتزاع شعب آخر من أرضه قهرياً، واستعباده في

الأرض الجديدة.. شعب يعزل عن أرضه أفريقيا ويزرع هناك، بلا هوية، بلا

دين، بلا صلات، فنقلوه كذلك من دنيا إلى

دنيا أخرى لا يرتبط معها بأي

رابط.

واقتضت المصلحة كذلك أن تفتح الأرض الجديدة على مصراعيها لشذاذ

الآفاق من كل الدنيا للعمل على إحياء الأرض الجديدة؛ ولكن شريطة التخلي عن

الدين والعرق والأخلاق. الشرط الوحيد للبقاء لهذه الفئة من الناس: أن تذوب

ذوباناً كاملاً في ذلك المجتمع، تعمل فقط، تأكل فقط، تتلذذ بما شاءت.. فقط.

ولهذا وغيره كانت أمريكا نموذجاً مثالياً للعلمانية الشاملة، فهي أرض بدأت

من الصفر، بدأ الحياة فيها قوم لا خلاق لهم، كان أكبر همهم هو التخلص من

الثقافة الأوروبية والنمط الأوروبي الذي كان يمثل لهم نمطاً من احتلال الأرواح

والأجساد معاً؛ لذا كانت نشأة أمريكا متحررة من كل شيء، تبيح لشعبها كل شيء، فلم يكن (لنشأتها) وازع ديني يمنعها من التحرر، ولا أخلاق تحكم التصرفات،

حتى أولئك الذين هاجروا إليها من غير الأوروبيين كانوا على استعداد للذوبان فيها، كونهم هربوا من مجتمعاتهم، فكان شعورهم كشعور المستوطنين حين تركوا

أوروبا.

إن فهم تلك الأبعاد للنشأة الأمريكية هام جداً وضروري جداً لكي يكون

مستحضراً ونحن نتعامل مع هذا النموذج المسيطر، وحتى لا نعجب أو نغتر أو

يصيبنا الجزع ونحن نرى هذا الانتفاش الهش. إن الشيء الوحيد الذي يهتم به

الأمريكي هو مصلحته، وأن يعيش مستمتعاً: يأكل بشراهة، يشرب كأنه لم يذق

الشراب من قبل، المهم أن يستمتع، وهذا مما أشارت إليه (الواشنطن بوست) في

افتتاحيتها عقب الإعلان عن فوز (كلينتون) بالرئاسة الأمريكية مرة أخرى قائلة:

(الأمريكيون مهتمون فقط بأمور الزبدة والخبز، ويعتبرون النظام السياسي.. مجرد

جهاز إداري، إن هذه النزعة لتهميش الوظيفة السياسية المؤسساتية تفسر إعادة

انتخاب الأمريكيين لـ (كلينتون) رغم وعيهم لتجاوزاته الأخلاقية؛ لأن همهم أن

يكون رئيساً إدارياً جيداً، وليس نموذجاً للأخلاق والمثالية) .

كذلك هناك النزعة التوسعية المتأصلة في النفس الأمريكية، وعقلية

المستوطن المحتل الذي يقيم حياته على رفات غيره من البشر؛ هذه العقلية

التوسعية، صارت كذلك مدعاة للفخر والمباهاة، ففي الحوار الذي أجرته مجلة

(أتلانتك) ونشرت مجلة (المجلة) جزءاً منه مع د. (بنجامين سوارتز) الخبير في

الاستراتيجية الأمريكية في معهد السياسة العالمية في (نيويورك) أجاب عن السؤال

التالي: لماذا تريد أمريكا أن تحكم؟ فأجاب: ربما السؤال الصحيح، لماذا تظن

أمريكا أن من واجبها أن تحكم العالم؟ والإجابة هي أن التوسع جزء من التراث

الأمريكي، في الماضي كان التوسع جغرافياً بتأسيس ولايات أمريكية في مناطق

الهنود الحمر، حتى وصلنا إلى المحيط الهادي، ثم أسسنا ولاية في جزر (هاواي) ، ثم وقفنا أمام طموح الآسيويين أنفسهم، ولهذا تحول التوسع الأمريكي بعد الحرب

العالمية الثانية وخلال الخمسين سنة الماضية.. إلى توسع اقتصادي.

وللحديث بقية.

ص: 62

المسلمون والعالم

خمسون عاماً من الفشل..!

أجواء الحرب.. في أحلام السلام

(3من3)

بقلم: عبد العزيز كامل

مرّ الكاتب في مقالين سابقين على محطات الفشل العلماني في إدارة الصراع

العربي الإسرائيلي، فكان من محطات الحرب: نكبة 1948م، والعدوان الثلاثي

1956م، ونكبة 1967م، وحرب التحريك 1973م، ومن محطات الفشل في

السلام: مؤتمر جنيف 1974م، وكامب ديفيد 1978م، ومؤتمر فاس 1982،

ومشروع إعلان الدولة الفلسطينية، ومؤتمر مدريد 1991م، ويواصل الكاتب

الوقوف على محطات أخرى.

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

... - البيان -

المحطة السادسة: محادثات المسارات المتعددة في واشنطن:

بعد الانتهاء من مؤتمر مدريد، اختيرت واشنطن لتكون مقراً لاجتماعات

مسارات التفاوض الثنائية، ودارت المحادثات على مسارات منفصلة كما هو متفق

عليه أو كما أرادت (إسرائيل) فقد كانت تخطط لإضاعة الوقت في هذه المفاوضات

لتشتيت جهود العرب والاستفراد بكل طرف على حدة، لكي تستثمر هذا الوقت

لصالحها بتنفيذ برامج ومخططات تحتاج إلى تغطية، وقد ظهرت هذه النية بعد ذلك

على لسان (شامير) الذي قال: (كنت أريد للمفاوضات في واشنطن أن تمتد عشر

سنوات، حتى تستكمل خطط الاستيطان، وحتى لا تبقى أرض فلسطينية يتم

التفاوض عليها

) ! ! نعم أليسوا يهوداً؟ .

لقد حرص هؤلاء الأعداء على إضاعة الوقت فعلاً، حتى إن بعض (القضايا)

التي جرت مناقشتها بين الوفد الإسرائيلي والأردني مثلاً، كان منها: التعاون من

أجل مقاومة توالد البعوض في وادي الأردن! وكان منها ضرورة التنسيق للتوصل

إلى حل في مشكلة الحمام البري الطائر الذي يطير من الأراضي الأردنية ليتغذى

على الغلال في الصوامع الإسرائيلية! !

أما القضايا الجادة على كل المسارات فكانت تؤجل باستمرار، وكانت وفود

اليهود تردد دائماًَ قناعتها بأن من أصول التفاوض الصحيح حل المشكلات الصغيرة

أولاً ثم التفرغ للمشكلات الكبيرة. ومع كل هذا الهوان، فقد كان المفاوض العربي

والفلسطيني يشعر في نفسه بذلك الهوان، بغض النظر عن القضايا التي تناقش،

يعبر عن ذلك (د. حيدر عبد الشافي) بقوله: (نحن وفد منقسم على نفسه، وفي

الحقيقة فنحن أربعة عشر عضواً فلسطينياً وكل عضو فينا وفد مستقل، وكل واحد

منا يمثل نفسه، وله اتصالاته وله ميادينه) ! ! وكان من الطبيعي مع كل هذا أن

تكون نتائج مسارات واشنطن.. الفشل! !

المحطة السابعة: اتفاقيات أوسلو:

بعد فشل محادثات المسارات المتعددة في واشنطن، اتجهت الأنظار إلى (أوسلو) عاصمة النرويج، وكان ذلك عقب ظهورعدد من المستجدات على الساحة العربية والدولية منها:

1-

انتقال رئاسة الوزراء في (إسرائيل) إلى حزب العمل برئاسة (إسحاق

رابين) بعد سقوط (إسحاق شامير) زعيم حزب الليكود.

2-

أن منظمة التحرير من خلال محادثات واشنطن ظهر أنها مستعدة نفسياً

وعملياً لإعطاء كل شيء مقابل الاعتراف بها، وأنها سوف ترحب بأي تعاون من

شأنه ألا ينقل الوصاية على القضية الفلسطينية من يد المنظمة إلى أيدي (حماس) .

3-

حرص كل أجهزة المخابرات ومراكز الدراسات في إسرائيل وغيرها

على إظهار وإبراز أن هناك قوة إسلامية عارمة يمكن أن تكتسح أكثر من ساحة

عربية ومن ضمنها فلسطين في ظل التشرذم والفشل العربي، وأن تلك الموجه

الإسلامية يمكن لها أن تقفز إلى واجهة الأحداث ليرى اليهود أنفسهم وجهاً لوجه أمام

مبارز جديد لم يتعودوا على منازلته، وقد عبر عن هذا التخوف أحد الوزراء في

حكومة رابين عندما قال: (إن الحركة الإسلامية ستتصاعد، وستؤدي إلى تقوية

التيار الديني في (إسرائيل) نفسها، وأستطيع أن أقول: إن المتشددين الإسلاميين

والمتشددين اليهود سيلتقون في ساحة المواجهة هنا على أرض فلسطين، وعندها

سيخرج الأمر من أيدينا تماماً) !

وكان (رابين) يرى لأجل ذلك أنه لا مانع من الاعتراف بالمنظمة بعد اعترافها

بـ (إسرائيل) وبحقها في حياة آمنه ضمن حدود معترف بها، وكان في ذلك مخالفاً

لسلفه (شامير) وقد سوّغ وجهة نظره بقوله: (إن المنظمة إذا وضعت بصمتها على

ورقة الاستسلام، فلن يستطيع أحد أن يزايد على (أصحاب الشأن (!

وبدأ الفلسطينيون عبر قنوات اتصال سرية في التفاوض مع الإسرائيليين

لإبرام اتفاق (منفرد) ، وأثمرت هذه الاتصالات في الوصول إلى اتفاق مبدئي أطلق

عليه: (غزة وأريحا أولاً) وكان المفاوضون قد اتفقوا في أوسلو على ألا يكرروا

الخطأ الذي حدث في واشنطن من الوفد الفلسطيني وهو المطالبة بالبدء

بالموضوعات الصعبة الرئيسية مثل: حق تقرير المصير، والمستوطنات،

ومستقبل القدس. واختاروا أن يكون البدء بأمور عملية تقبل التنفيذ، ووقع الاختيارعلى (غزة وأريحا أولاً) بمعنى تمكين الفلسطينيين من حكم هاتين المنطقتين حكماً ذاتياً، وكانت هذه مبادرة إسرائيلية صرفة، صادفت هوىً لدى القيادة الفلسطينية،وقد تم التوصل إليها بينهما دون شراكة من أي طرف ثالث.

وقد أراد الإسرائيليون بهذه الاتفاقية أن يضربوا عدداً من العصافير بحجر

واحد في هذه المرحلة وذلك بما يلي:

1-

التخلص من قطاع غزة المزدحم والمزعج، والمليء بأسباب التوتر

الأمني والعلل الاقتصادية والكثافة السكانية العربية.

2-

إرضاء غرور القيادة الفلسطينية المتطلعة إلى زعامة وهمية على دولة

غير واقعية لن تفيد الشعب الفلسطيني، ولن تضر الشعب الإسرائيلي.

3-

إيهام العالم بعدالة الصفقة اليهودية في آخر فصول القضية الفلسطينية.

4-

عزل القوى العربية غير الراغبة في السلام إن وجدت بإعطاء البرهان

على أن أصحاب القضية قد ألقوا البندقية.

5-

احتواء التيار الإسلامي المتصاعد في غزة على يد الشرطة الفلسطينية بعد أن عجزت الشرطة الإسرائيلية عن القضاء عليها.

وبعد خمس جولات من المباحثات في أوسلو، تم التوصل في (8/5/1993م)

إلى ما يسمى وقتها بـ (اتفاق إعلان المبادئ) المتعلق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً

في غزة وأريحا، وكان بيريز متحمساً للإسراع في إبرام ذلك الاتفاق الذي تفتقت

عنه قريحته، فقد كان يراه فرصة تاريخية لا تعوض في مثل ذلك الظرف الذي

كان يقتضي الاعتراف بالعدو الذي لم يعد عدواً (منظمة التحرير) ؛ لأن البديل هو

كابوس لا يمكن تصوره، ولذلك قال: (إن البديل الوحيد لمنظمة التحرير إذا

تجاوزناها هو (حماس) وحماس لن تعترف أبداً بإمكانية السلام معنا..) !

وما كان لاتفاق أوسلو أن يخرج إلى الوجود، إلا بعد أن تم تأجيل كل القضايا

الأساسية وهي: (القدس)(الحدود)(المستوطنات) . وبالرغم من أن الاتفاق أسوأ

مما كان ينتظره المتشائمون، حيث إنه لا يحقق الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية، إلا أن ياسر عرفات كان يحب أن يطلق عليه:(سلام الشجعان) .

وفي مقابل قبول الاتفاق على مضض من بعض العرب بسبب إجحافه

بالفلسطينيين في أرضهم، فإن الإسرائيليين عمهم الفرح به، حتى إن أحد الوزراء

الإسرائيليين وهو (يوسي ساريد) علق عليه قائلاً: (إن إسرائيل اليوم خلقت من

جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم (13

سبتمبر 1993م) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها) هذا على مستوى العارفين

بالأمور من الإسرائيليين، أما قطاعات الشعب التي ساءها أن ترى (عرفات) داخل

أرض الميعاد مرة أخرى، فقد هالهم هذا التغيير، ولكن رابين طمأنهم وهدأ من

روعهم، وخاطبهم ولما يجف مداد الاتفاق قائلاً: (إنه لن يكون هناك انسحاب

إسرائيلي، ولكن: إعادة انتشار، و (السلطة) للفلسطينيين سوف تكون تحت

سيطرة (الدولة الإسرائيلية) وحتى الأرض، فليس هناك اتفاق بشأنها، ولكن بشأن

البشر الذين يسكنون عليها.

أما الأموال التي ستأتي لتلك السلطة الفلسطينية، فلن تصل إلى أيديها مباشرة

بل ستمر عبر قنوات دولية تضمن سلامة مصارفها) !

ثم بدأ تنفيذ بعض بنود الاتفاق، واستقدمت أعداد من المقاتلين الفلسطينيين

السابقين الذين كانو قد تفرقوا في عدد من البلدان العربية، لتتشكل منهم كتائب

شرطة لمكافحة الشغب أو بالأحرى: مكافحة الشعب، إذا أراد أن ينتفض مرة

أخرى، ومع كل هذا التنازل.. فإن الطرف اليهودي كان يتعامل مع الطرف

الفلسطيني بالازدراء كله، والمكر والخداع كله، وكعادة اليهود في التملص من

العهود، فإنهم لم يصبروا على (اتفاق أوسلو) رغم حيفه وجوره، وعادوا إلى

التمثيلية المكرورة وهي (تعدد فهم النص) تلك التمثيلية التي درجوا على اللجوء

إليها كلما أرادوا التحريف أو التزييف، فيقولون: النص هكذا، ولكننا نفهم منه كذا.. وأنتم تفهمون منه كذا، وبهذا في كل مرة يتخلصون من أي التزام، ويتبرؤون

من كل مسؤولية، لقد قال رابين قبل مصرعه: (إنني اكتشفت أن هناك قراءتين

لاتفاق أوسلو: قراءة فلسطينية وقراءة إسرائيلية، ونحن أمام تفسيرات مختلفة

لقضية كنت أظنها واضحة في الاتفاق، وقال: (إن فجوة الاتفاق بيننا وبين عرفات

واسعة) .

بمثل هذه التصريحات، وفي ظل تلك المواقف التي توجهها الرغبة في

التلاعب، تجري فصول العملية السلمية، فما كان يفهم (شامير) من قواعد اللعبة،

يمكن أن يختلف غداً عما فهمه (بيريز) ، وما كان مسلّماً به عند رابين، يمكن أن

ينقلب على أعقابه في مفهوم (نيتنياهو) ! وما تعاهدت عليه حكومة (الليكود) اليوم،

ليس ملزماً لحكومة العمل غداً. وهكذا تتوالى الفصول في عملية السلام المهزول

نقضاً للوعود، ونكثاً للعهود.

وبهذا تم التوسع في بناء المستوطنات، وبهذا تقرر الانتهاء من أمر (مصير

القدس) قبل أن يأتي موعد التفاوض بشأنها، وبهذا يجري الآن العمل لنقل السفارة

الأمريكية إليها، ليمثل هذا أرضية دولية للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية

لإسرائيل.

والظاهر أن أوان الفصل الأخير من فصول عملية السلام قد آذن بالأفول،

حيث نعاه عرفات إلى العالم في تصريح له في زيارته الأخيرة إلى فرنسا (1يوليو

1997م) قال فيه: (إن نتنياهو قد اتخذ قراراً وسوف ينفذه، وهو إعادة احتلال

غزة وأريحا) ! فهل سيبدأ بغزة وأريحا.. أولاً؟

نقول للقيادات العربية التي وضعت نفسها في واجهة القضية الإسلامية: ليتكم

قرأتم أو فهمتم من كتاب الله وصفين وخصلتين من اليهود لم ولن يتخلوا عنهما: -

الأولى: أنهم لا عهد لهم مع أحد. قال الله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ

فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 100] .

والثانية: أنهم لا أمان لهم. قال تعالى: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا

اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً] [المائدة: 64] .

إذن، فقطار (السلام) ، لا يركبه اليهود إلا للوصول عبر محطاته إلى ميدان

الحرب؛ وهذا أمر واضح لمن راقب أحوال القوم في القديم والحديث. [وَاللَّهُ

أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِياً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ

عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] [النساء: 45، 46] اللهم كف عنا بأسهم

في الحرب، ومكرهم في السلام.

(1) يلاحظ أن هذه المساعدات المالية والاقتصادية، استمرت طوال السنوات الماضية، لتعطي الدولة العربية الكبرى إمكانية التصدي لزعامة (عملية السلام) فلما انتهى هذا الدور أو أوشك على الانتهاء الآن، فقد أصدر (الكونجرس) الأمريكي قراراً في (يونيو97) بإيقاف المعونة الأمريكية لمصر (مليار دولار سنوياً) بدعوى أن مصر أصبح لها دور سيئ في تعويق عملية السلام! .

ص: 70

في دائرة الضوء

الاستنساخ.. حقيقته وما وراءه

د.محمد بن عبد الله الشباني

مدخل:

حفل المجتمع العلمي مؤخراً بحدث علميٍ خطير هو الاستنساخ الجيني قال

عنه أحد علماء الفيزياء النووية: (جوزيف روتيلان) : إن إطلاق العنان له بدون

ضوابط قد يقود إلى عواقب ومخاطر تفوق أخطار الأسلحة النووية. وقد لقي هذا

الموضوع اهتماماً عظيماً من قِبَلِ كثير من العلماء والمفكرين. وقد كُتِبَ عنه العديد

من الدراسات المختلفة، وعُقِدت حوله كثير من الحلقات العلمية والندوات التي

تناولته بالبحث والدراسة والتحليل.

ولقد ورد للبيان دراستان علميتان مرتبطتان بالمنطلق الإسلامي العقدي

والفكري؛ آثرنا نشرهما معاً في (دائرة الضوء) آملين أن تسهما في التوعية

بالموضوع والتعريف بأبعاده بلا تهاون أو تهويل.

...

...

...

...

...

-البيان-

أولاً: البعد العقدي لعملية الاستنساخ

في الآونة الأخيرة أبرز الإعلام المقروء والمرئي قضية الاستنساخ الجيني وما

توصل إليه العلم البشري، بعد أن أذن الله بذلك، من اكتشاف بعض أسرار الخلق؛

وذلك بمعرفة كيفية استنساخ النعجة (دوللي) ومن قبلها استنساخ عجول في اسكتلندا

من جينات الأبقار.

لقد صاحب نجاح تجربة النعجة دوللي زخم إعلامي أخذ أبعاداً عقدية، وبدا

لكل من كان في نفسه مرض أن يستغل الخبر للترويج للإلحاد، وتضخيم الأمر،

وإظهار الحدث بأنه نوع من تحدي الله في خلقه تعالى الله عما يقول الظالمون علواً

كبيراً فمن ذلك مثلاً مقالة لنزار قباني بعنوان: هل يمكن استنساخ المتنبي؟ التي

نشرتها صحيفة الحياة في عددها الصادر بتاريخ 5 ذي القعدة عام 1417هـ حيث

جاء في تلك المقالة قوله: (ومعناه أن العلماء بدأوا بتحدي السماء..! ومعنى هذا

أيضاً أن الإنسان لم يَعُدْ له رب يؤمن به، ويركع في محرابه، ويصلي له،

ويطلب رضاه وغفرانه.. لأن المختبرات العلمية أخذت مكان الرب) وفي مكان

آخر من مقالته يقول: (كان أسهل على الله أن يستعمل قالباً واحداً لصناعة البشر

مثلما تفعل مصانع البلاط والقراميد والأحذية والملابس الجاهزة؛ ولكن الله فنان

عظيم لا يكرر نفسه! ولا يكرر عباده! ولا يعيد تصاميمه القديمة أبداً!

) . إن

هذا الكفر الذي ينشر بين الناس في بلاد المسلمين ليقرأه من قلّت بضاعته في الدين

ممن هو على جرف هارٍ سرعان ما يسقط في هوة الكفر وخاصة في زمن كثرت

فيه الفتن، وتكلم فيه الرويبضة، وأصبح للكفر جولة وصولة ودولة!

إن التصدي لهذا الأمر ينبغي ألا يتجه إلى الحكم الفقهي ومدى جواز وعدم

جواز الاستنساخ فقط، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى النظر إلى الموضوع من جانبه

العقدي، ومدى خطورة العبث الذي ينشر بقصد إضلال الناس وحرفهم بأسلوب

ماكر يتمثل باستخدام العلمية، وما توصل إليه العلم من كشف لأسرار كانت مجهولة؛ لحرف الناس عن الطريق المستقيم إلى الطرق المنحرفة تنفيذاً للمحاولات

المستمرة والدائمة من عدو بني آدم إبليس الذي أخبر الله عنه في آيات كثيرة من

القرآن الكريم، وعمله على إضلال الناس كما في قوله تعالى:

[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ][الأعراف: 16] وقوله: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ]

[سورة ص: 82، 83] .

لقد تعدى موضوع خبر استنساخ النعجة (دوللي) إلى التحدث عن إمكانية

استنساخ البشر، وإمكانية إعادة الأموات باستنساخهم، وأخذَ الإعلام الذي يهدف

إلى ترسيخ الإلحاد معالجة هذا الخبر ليس بأسلوب عقلي وعلمي وإنما بانتهاج

أسلوب الإيحاء إلى أن الإنسان قد أصبح قادراً على التحكم في حياته وبقائه؛ ولهذا

فإن من الواجب النظر إلى الموضوع من زاوية مدى التأثير على سلامة الاعتقاد

فيما يتعلق بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.

إن الجوانب التي سوف أتطرق إليها في هذه المقالة عن موضوع الاستنساخ

ستنحصر في فهم حقيقة الاستنساخ وفق ما نشر عن ذلك من قِبَلِ المختصين، ثم

مناقشة مدى تصادم عملية الاستنساخ مع حقيقة الخلق التي يتفرد بها الرب المعبود،

وهل تعرض القرآن إلى موضوع ما يحدث الآن من عبث فيما يتعلق بالحيوانات،

وما هو موقف القرآن من إمكانية استنساخ البشر بالحصول على نسخة كاملة لإنسان

حي مرغوب في استنساخه، وهل أسس خلق الإنسان كما حكاها القرآن تماثل أسس

خلق بقية المخلوقات، وهل يتفرد الإنسان بخاصية في الخلق عن بقية المخلوقات؟

لمعرفة حقيقة هذا الأمر الذي صوّره الإعلام في صورة تجلت فيما للإعلام من

دور في قلب الحقائق والعمل على تغيير مفاهيم الناس؛ فالذي تم تصويره حول

إمكانية استنساخ البشر أنه أمر أصبح من شبه المؤكد وإن كان في حقيقته مجرد

خيال علمي وفرقعة إعلامية قصد من ورائها التضليل وزرع الشك في المرتكزات

العقدية للإنسان المؤمن بالله الخالق لكل شيء. لقد كانت ردة الفعل لدى بعض ممن

ينتسب إلى العلم الشرعي بالنظر إلى الموضوع من زاوية مدى تأثير ذلك على

البناء الأسري، وحماية الإسلام للحاجات الخمس، وضرورة حماية الناس من هذا

العبث باعتبار أن ما أشير إليه من إمكانية استنساخ البشر أصبح شبه مؤكد وحقيقة

ثابتة.

الاستنساخ فرقعة إعلامية: إن قضية الضجيج الإعلامي الذي صاحب

قضية استنساخ النعجة (دوللي) هو أسلوب قديم يتبدل ظاهره ولا يتبدل جوهره؛

فقد سبق أن استمر الضجيج ولا زال في بعض الدوائر وإن انكشفت حقيقته وهو ما

يتعلق بنظرية دارْوِن عن أصل الإنسان القردي؛ فكلما اكتشف الإنسان شيئاً من

قدرة الله ذات ارتباط بقضية وجوده وحياته وموته ونشوره وعلاقته بخالقه استُغل

هذا الاكتشاف لإضلال الناس بصدهم عن سبيل الله.

إن أسلوب التكاثر والتناسل الذي أوجده الله على هذه الأرض يأخذ ثلاثة أنواع

هي [1] :

1 -

التكاثر اللاجنسي: ويتم التكاثر وفق هذا النوع بالانتشار أو التبرعم أو

التجدد، أي ليس هناك حيوانات منوية أو بويضات مثل حيوانات البرافسيون.

2 -

التكاثر الجنسي: ويتم ذلك من خلال اتحاد الحيوان المنوي (المشيج

المذكر) مع البويضة (المشيج المؤنث) ومن اتحادهما تتكون النطفة الأمشاج

(البويضة المخصبة) التي من خلالها يتم الاستنساخ بطريقة الانقسام والتفليج حيث

يتكون الجنين.

3 -

التكاثر العذري: حيث يتم التكاثر من خلال البويضة لوحدها دون تدخل

الحيوان المنوي حيث يتم تكوين جنين كامل، وهذا ما يحدث خلال تكاثر دودة القز

أو النحل وغير ذلك من الحشرات.

وقد تم استخدام هذه الطريقة في التكاثر العذري الاصطناعي، وقد تم تطبيقه

على العديد من الحيوانات وخاصة (الحيوانات اللافقارية) وبعض الحيوانات الفقارية

مثل الضفادع والفئران. أما ما تم من استنساخ النعجة (دوللي) فهو ما يعرف

بالاستنساخ الجيني بالزراعة في بويضة أخرى. ونظرية الاستزراع النووي تقوم

على أساس أن أي خلية في جسم أي كائن حي تحتوي على جميع الجينات

والصفات والشفرات الوراثية الكاملة، وهي توجد في حالتين: الأولى: في حالة

استقرار نهائي وراثي لا يتطلب المرور بمراحل تكوين أخرى؛ حيث يمكن فيما إذا

أتيحت لها الفرصة أن تنمو كخلية أولية وتنتج نسخة كاملة ومتطابقة للكائن الحي

نفسه من جديد، ولكن خلايا الحيوانات المنوية عند الذكر والخلايا المكونة لنويات

البويضات عند الأنثى كلاهما يختلف عن باقي خلايا الجسم في أمرين: الأول: أن

كلاً منهما يحمل صفات وراثية زائدة عما تحمله الخلايا الأخرى وهي الصفات

الخاصة بتحديد النوع (ذكر أنثى) والثاني: أن كلاً منهما في حالة نهائية غير

مستقرة من ناحية الشفرات الوراثية، وتحتاج للمرور بمراحل تكوين أخرى، ولكن

عندما تقوم الحيوانات المنوية باختراق البويضات لتخصيبها يتحدان معاً ويكونان

خلية أولية جديدة، ثم تستكمل باقي المراحل الأخرى.

إن ما حدث في تجربة النعجة دوللي هو ما تم أخذه من خلية في حالة استقرار

نهائي وراثي قام بوضعها في بويضة منزوعة النواة، وتم توحيدهما من خلال

شرارة كهربائية بحيث تم الإعادة إلى الأصل الأول وكأنه حيوان منوي حيث

انقسمت الخلية إلى مراحل هي 24816 وهكذا تم إدخالها في رحم أنثى حيث

استكملت دورتها.

إن دورة البويضة المنزوعة النواة هي إعادة الخلية إلى حالتها البدائية الخاصة

بها حيث تصبح الخلية المنزوعة من الكائن الحي المراد استنساخه بمثابة الحيوان

المنوي الملقح للبويضة. ولكن الاختلاف هو عزل الكروموزومات الخاصة بالخلية

المزروعة في هذه البويضة المنزوعة النواة، وبالتالي فإن ما حدث هو تغيير في

أسلوب التلقيح بأخذ المورثات الخاصة بالشيء المراد استنساخه ثم إكمال دورة

الخلق وفق سنة الله في الإيجاد، فالأمر لا يعدو استغلال ما وضعه الله من سر في

البويضة المخصبة التي تعد بداية تكون أي كائن حي [2] في حدث هو تنبيه الخلية

في الانقسام فقط. فما حدث من فتح الله لهذا الجانب من المعرفة إنما هو تحقيق

لوعد الله في كتابه في قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى

يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقّ] [فصلت: 53] .

درسان مهمان: إن استنساخ الحيوانات ومحاولة العبث بما فتح الله على

إنسان هذا العصر من المعارف والعلوم أمر لا بد من حدوثه لأمرين:

الأول: امتحان البشر من خلال فتنة الغرور بالعلم وتخيله مفتاحاً لسيطرة

البشر على الكون؛ فما يحدث الآن من مقولات حول إمكانية قدرة البشر على تغيير

خلق الله، وبالتالي الحلم بالوصول إلى التحكم في مصير الإنسانية وتحقيق مقولة

الإلحاد بالتطور الذاتي، بجانب ما في ذلك من إقامة الحجة على الناس بما أوتوا من

العلم الذي من خلاله تمكنوا من معرفة بعض أسرار الكون مما أصبح فتنة لهم تحقيقاً

لوعد الله في قوله تعالى:

[أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ

مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 2-3] .

الثاني: تحقق ما أخبر الله عنه في كتابه بأن الشيطان الذي سلطه الله على

الناس ليكون أداة الاختبار والامتحان لمدى استجابة الإنسان لفطرة الله بالإيمان به؛

حيث أعطي القدرة على إضلال الإنسان، وأنه يعمد إلى ذلك حسب ما أخبر الله

عن ذلك عند محاورته لله في بدء خلق الإنسان في قوله تعالى: [وَلأُضِلَّنَّهُمْ

وَلأُمَنِِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ

الشَّيْطَانَ وَلِياً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً] [النساء: 119] ومن خلال هذا

الخبر عن الله فيما سيتخذ الشيطان من وسيلة للإضلال نعلم بأنه سيعمد إلى دفع

الناس لتغيير خلق الله في الأنعام فيما لا فائدة ولا منفعة من ورائه.

من صور العبث العلمي: من ذلك ما تناقلته وكالات الأنباء من قيام علماء

أمريكا بزرع مجموعة من خلايا دماغ جيني طائر الفرّي (السمان) في دماغ جيني

دجاجة؛ وكانت النتيجة قيام الدجاجة بالتغريد وتحريك رأسها مثل طائر الفري؛

فهذا نوع إن صح من العبث بما أفاضه الله من علم على الناس [3] .

إن خبر استنساخ النعجة (دوللي) وما أثير حولها من جدل عن إمكانية

استنساخ البشر؛ حيث وصل الأمر بوسائل الإعلام أنها أكدت الأمر وأنه لن تمر

سوى سنوات قليلة للحصول على نسخ بشرية [4] ولكون هذا الأمر له بعدٌ عقدي

حيث إن الإنسان كائن مغاير في جميع صفاته ومكوناته وغاية وجوده عن بقية

المخلوقات؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن استنساخ الإنسان على ضوء ما

ورد في القرآن الكريم، وما هي نظرة القرآن الكريم تجاه خلق الإنسان، وهل

يتعارض وجود نسخ أخرى مكررة لأي إنسان مع مفهوم الجزاء والعقاب للإنسان

يوم القيامة كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم أي: من سيقع عليه العقاب: الأصل،

أو النسخ المكررة؟

إن المتمعن في آيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يجد أن أساس

خلق الإنسان يختلف عن بقية المخلوقات الحية الأخرى التي تعيش على الأرض،

وأن الإنسان يتميز بخاصية فريدة عن بقية المخلوقات حيث أخبر الله أنه عندما خلق

آدم فقد تفرد خلقه بأن نفخ فيه من روحه؛ ولهذا أمر الله ملائكته بما فيهم إبليس

بالسجود لآدم، وأنه نفخ فيه من روحه يقول تعالى: [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي

خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حََمَأٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي

فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [الحجر: 28، 29] وقوله تعالى: [إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي

خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ

] [سورة ص الآيات من 71 إلى 74] . إن ما يثيره

الإعلام المعاصر من إيحاء للناس بأن العلماء أوشكوا على إمكانية إيجاد نسخ بشرية، وأن استعادة الهالكين قد أصبحت قريبة الحدوث [5] إنما هي محاولة الشيطان

الأزلية لإضلال الناس بتزيينه رغبة الإنسان بالعمل على طلب الخلود؛ وذلك

بالبحث عن كيفية تحقيق ذلك بمعرفة سر خلق الإنسان. يقول تعالى: [وَإذْ قُلْنَا

لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَاّ إبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ

وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى

(118)

وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ

أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لَاّ يَبْلَى] [طه: 116-120] وكذلك الآية 20 من

سورة الأعراف هي في الموضوع نفسه، وبسبب هذه الحقيقة التي يسعى الشيطان

ليضل الناس وفقاً لهذه الرغبة الدفينة يقول الله عن ذلك في القرآن الكريم: [وَإذْ

قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ

أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَّا

أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً]

[الكهف: 50، 51] ففي هذه الآية تأكيد أن الشيطان سوف يسعى إلى دفع الناس

إلى هذا ولكن الله قد حكم أن ذلك لن يتحقق؛ لأن الغاية التي يسعى إليها الشيطان

وأتباعه من البشر هو العمل على نشر الضلال.

*لا يمكن إعادة نسخ الإنسان: -إن إمكانية إيجاد نسخ مكررة للإنسان على

ضوء القرآن الكريم غير ممكنة للأسباب التالية:

1 -

إن الله أخبر في كتابه أن نسل الإنسان بعد آدم سيكون من سلالة من ماء

مهين أي من الحيوان المنوي، وبالتالي استحالة أخذ أي خلية أخرى لتحل محل

الخلية التي يحتوي عليها الحيوان المنوي، يقول تعالى في كتابه في سورة السجدة:

[الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن

سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ] [السجدة: 7، 8] ومعنى هذه الآية كما أشار ابن كثير في

تفسيره: أنهم يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا التفسير مأخوذ من قول الله تعالى في سورة الطارق: [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ

خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) َخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ] [الطارق:75] وهذه الآيات الواردة عن خلق الإنسان وتكاثره قد حددت بآيات محكمة غير قابلة

للتأويل. وقد أشار الدكتور رأفت الشافعي استشاري أمراض النساء والتوليد إلى

حقيقة هامة في أن ما يقال وينشر عن موضوع أخذ خلية من جسم شخص مّا لتخلط

مع بويضة مزروعة النواة وبعد ذلك توضع في رحم سيدة؛ أي: خروج مخلوق

للحياة من سيدة واحدة دون الحاجة إلى رجل أمر يشبه ما يذاع في أفلام الرسوم

المتحركة، ويدل على صحة ذلك بقوله: إن عملية التلقيح الصناعي وطفل الأنابيب

الذي يقوم على أخذ بويضة من رحم المرأة ثم تلقح بالحيوان المنوي داخل الأنبوب

حيث يبدأ بعد ذلك تخليق جنين بأطواره الأولى ثم يزرع في رحم المرأة، فإن

حوالي 95% من حالات زرع الأجنة وعملية التلقيح الصناعي لا تنجح [6] فإذا

كان الاستنساخ أصعب من عملية التلقيح الصناعي ونسبة الإخفاق كبيرة وفق طريقة

أسهل ولا تخرج عما أشار إليه القرآن؛ فكيف بأمر مخالف؟ ويؤكد الدكتور

عزالدين فوزي أستاذ أمراض النساء بجامعة عين شمس [7] اختلاف خلق الإنسان عن

بقية المخلوقات بقوله: (إن التكاثر الطبيعي يتم من خلال اتحاد الحيوان المنوي

بالبويضة التي تنمو في الرحم بعد انقسامها. ومن المعروف أن كل خلية في

الإنسان تتكون من 46 كروموزوماً، وهذه الكروموزومات 23 منها في البويضة

و23 في الحيوان المنوي وبعد اتحادها يصبح عددها 46 كروموزوماً، وهذا

الأسلوب في الزواج هو الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات؛ لذلك فإنه حتى

مع افتراض نجاح هذا الأسلوب في الحيوان فمن الصعب نجاحه مع الإنسان،

خاصة أنه ليست هناك خلية قادرة على الانقسام وتكوين مخلوق جديد سوى البويضة

الملقحة التي تنقسم إلى خليتين أو أربع أو ثمان وأحياناً أكثر) .

2 -

لقد أشار القرآن الكريم إلى مراحل الخلق للإنسان التي تشبه بقية الخلق

للمخلوقات الأخرى من حيث مراحل نمو الخلايا وحركتها إلى أن يكتمل التكوين

الجسمي ثم يدخل عنصر مغاير في عملية خلق الإنسان التي يتميز بها عن بقية

الكائنات الحية، يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن

سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً

فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَاًنَاهُ خَلْقاً آخَرَ

فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ] [المؤمنون: 12-14] يقول ابن كثير مفسراً لهذه الآية: (ثم جعلناه نطفة: هذا الضمير عائد على جنس الإنسان) كما قال في الآية الأخرى: [وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ][السجدة: 7] يعني: الرحم معد لذلك مهيأ له إلى

قدر معلوم. فقدرنا فنعم القادرون: أي مدة معلومة وأجل معين استحكم، ونقل من

حال إلى حال وصفة إلى صفة، ولهذا قال هنا (ثم خلقنا النطفة علقة) أي ثم سيرنا

النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره، وترائب المرأة

وهي عظام صدرها ما بين الترقوه إلى السرة، فصارت علقة حمراء على شكل

العلقة مستطيلة

ثم استشهد لهذه المرحلة بأحاديث تؤكد تفرد الإنسان عن بقية

المخلوقات بهذه الخاصية: منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن

مسعود عن رسول الله: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون

علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح

ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد.. إلخ)

وحديث حذيفة بن أسيد الفقاري الذي رواه أحمد في مسنده برواية مقاربة

لسابقتها [8] .

إن هذه الأحاديث التي أوردها ابن كثير ورواها أئمة الحديث تؤكد حقيقة تفرد

الإنسان بحقيقة أن كل فرد من أفراده يُنفخ فيه روح مغايرة لروح الحياة التي يشترك

فيها الإنسان مع بقية المخلوقات وذلك بنفخة الملك حيث إن هذه النفخة أمر ضرورة

لتغيير خلق الإنسان من الحيوان ليصبح سميعاً بصيراً ذا عقل وفكر وعواطف وهي

صفات لا توجد إلا في الإنسان؛ ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم

ضرورة امتزاج الحيوان المنوي بالبويضة.

3 -

تفرد الإنسان عن بقية المخلوقات الأخرى بأن جسده المادي الحي يحتوي

على روح مغايرة في طبيعتها عن الحياة التي يشترك فيها الإنسان مع بقية

المخلوقات الأخرى الحية ولهذا نجد تأكيد هذه الخاصية في القرآن الكريم سواء

عندما تحدث عن خلق آدم عليه السلام أو عند خلق المسيح عليه السلام أو عند خلق

بقيه البشر. لقد حاول العلماء معرفة حقيقة النفس الإنسانية والروح، واختلف فيها

الفلاسفة كما اختلفت الأديان في النظر إلى الروح وحقيقتها، وجاء القرآن الكريم

والسنة النبوية لتقرر حقيقة نفس الإنسان وروحه التي هي جزء داخل في جسمه

وهي في الوقت نفسه مغايرة له. لقد دار النزاع حول حقيقة النفس: هل هي جزء

من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، ذكر ذلك

ابن القيم في كتابه (الروح) ويعقب ابن القيم على الوجه الثالث وهو أن الروح جسم

مخالف بالماهية للجسم المحسوس من الأقوال التي أوردها الرازي بقوله: (وهذا

القول هو الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة) ثم ساق عدداً

كبيراً من الأدلة منها قوله تعالى: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي

مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى]

[الزمر: 42] . وبقوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ][الأنعام: 60] ثم ذكر عدداً من الأحاديث الكثيرة الصحيحة حول قبض الأرواح عند الموت وغيرها من الأحاديث التي تؤكد خاصية الروح في الإنسان عن بقية المخلوقات.

4 -

لقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة ما يحدث يوم القيامة من المجادلة بين

المؤمنين في الجنة وقرنائهم في النار، يقول تعالى في سورة الصافات: [فَأَقْبَلَ

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ

أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ

أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إن كِدتَّ لَتُرْدِينِ]

[الصافات: 5056] فهذه الآيات تشير إلى تأكيد حقيقة تعرّف الأفراد بعضهم على

بعض. يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآيات: هو الرجل المشرك يكون له

الصاحب في الدنيا من أهل الدنيا، فيقول له المشرك: إنك لتصدق بأنك مبعوث من

بعد الموت أئذا كنا تراباً؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة، وأدخل المؤمن الجنة،

وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن فرأى صاحبه في سواء الجحيم) فهذه الآيات

من سورة الصافات تؤكد منافاة إمكانية الحصول على نسخ بشرية؛ فلو قلنا بإمكانية

ذلك فكيف يُعرف الأصل من النسخ؟ ومن سوف يعذب: الأصل أم النسخ إذا ماتت

هذه النسخ؟ فهل تجازى على أعمال من استنسخت منه؟ أم لا؟ وإذا بقيت حية

وارتكبت آثاماً إضافية: فهل يجازى الأصل بما اقترفته النسخ أم لا يجازى؟ ولهذا

فإن عملية الاستنساخ وفقاً لهذه الآيات أمر غير ممكن؛ لأن عملية التعرف كما

أشارت إليها هذه الآيات سيكون أمراً صعباً لعدم إمكانية التميز بين الأصل والنسخ،

ويؤيد هذا الأمر ما جاء في سورة الأعراف حيث وصفت حالة من حالات التخاطب

والمناقشة بين المؤمنين والكافرين ومعرفة الأشخاص من خلال أشكالهم يقول تعالى: [وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ

الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ

أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ

رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ]

[الأعراف: 46-48] يوضح ابن كثير رحمه الله معنى الآية فيقول: (يقول الله

تعالى إخباراً عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم

يعرفونهم في النار بسيماهم: ما أغنى عنكم جمعكم أي كثرتكم وما كنتم تستكبرون،

أي: لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من

العذاب والنكال. وقال حذيفة: إن أصحاب الأعراف قوم تكاتفت أعمالهم فقصّرت

بهم حسناتهم عن الجنة، وقصّرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف

يعرفون الناس بسيماهم) [9] ومن هذه الآيات ندرك أن عملية الاستنساخ كما يروّج

لها الإعلام والذي يقوم على علمية الحصول على نسخة مطابقة للأصل أي تعدد

النسخ للفرد الواحد بأنه يتعارض مع نص هذه الآية التي تؤكد على تمايز الأفراد؛

فإيجاد نسخ من الفرد الواحد يعني وجود أفراد متعددين للفرد الواحد؛ فمن يكون

الأصل؟ ومن يكون النسخة؟

إن عملية استنساخ البشر أمر غير ممكن الحصول مهما حاول المضلون ممن

يريد صرف الناس عن الصراط المستقيم، وإن التجربة التاريخية لنظرية دارون

حول أصل الإنسان وكيف استطاع الملاحدة بما توفر لهم من سيطرة إعلامية أن

يجعلوا أعداداً كبيرة من الناس تؤمن بنظريته حتى كشف العلم مؤخراً زيفها، وإن

الدعاية لتأكيد إمكانية استنساخ البشر والترويج لها تخرج من المشكلة نفسها التي

خرجت منها نظرية دارون، وسيكون المصير واحداً، وصدق الله العظيم: -

[وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً][الإسراء: 81] .

(1) د، صلاح عبد العزيز الكريم، استنساخ الأجنة، جريدة عكاظ العدد 71169 ذي القعدة 1417هـ.

(2)

مقابلة في جريدة الأنباء مع الدكتور أحمد شوقي أستاذ الوراثة بجامعة الزقازيق وآخرين في العدد 7484 وتاريخ 20 مارس 1997م.

(3)

جريدة الأنباء 16 مارس 97 م العدد 7480.

(4)

جريدة الأنباء 16 مارس 97 م العدد 7480.

(5)

لقد نشرت جريدة الوطن الكويتية خبراً في عددها 7572 بتاريخ 7/11/ 1417هـ نسبته إلى شبكة سي، إن، إن، أن العلماء قد دأبوا على أخذ عينات من الحامض النووي من الفراعنة، ويتساءلون: هل يمكن إعادة الفراعنة؟ ! .

(6)

جريدة الأنباء العدد 7483 في 19 مارس 1997م.

(7)

جريدة الأنباء العدد 7483 في 19 مارس 1997م.

(8)

ابن كثير الجزء الثالث ص 240،241.

(9)

ابن كثير الجزء الثاني ص 218.

ص: 76