الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاحية العدد
رسالة مهمة: فهل نعيها
؟ !
الدولة التي ترعى الإرهاب
…
وصف يكون مقدمة، بل حجه لممارسة أنواع
من الضغوط السياسية والاقتصادية ضد الأنظمة والحكومات التي يشم منها مواقف
استقلالية ضد هيمنة القطب الأوحد في النظام العالمي الجديد ومصالحه؛ حيث تقف
دولة القطب الأوحد دائماً موقف الخصم والحكم، وغالباً ما يكون توصيف الحيثيات
واستعراضها على نسق ما ورد في قصة الذئب والحمل.
وتستخدم (راعية السلام) منظمات الأمم المتحدة ولا سيما مجلس الأمن أداة
لتقرير الحكم ولتمريره وتنفيذه؛ وذلك من منظور مصالحها، ومن منطلق هيمنتها،
بل إنها لتستعدي الدول الغربية، ويصل الأمر أحياناً إلى الضغوط عليها للمشاركة
في الممارسات التي تكون غالباً قاسية، وأحياناً متشنجة؛ وتلك قاعدة مضطردة تنفذ
بحرص وتُتابع بحزم.
إلا أنها قاعدة ذات استثناء واحد؛ حيث تتحول راعية حقوق الإنسان إلى
راعية لإرهاب دولة ضد شعب، وغطرسة جيش ضد مدنيين عزل.
فكم من قرارات رفضت إسرائيل أن تلتزم بها؛ ورفضت الولايات المتحدة أن
يوجه إليها اللوم، وكم من مجازر ارتكبتها عصابات اليهود ورفضت الولايات
المتحدة أن تدان.
لقد ظل الإرهاب الصهيوني يصول ويجول مختالاً وقحاً في ظل عناية وحدب
العم سام، حيث يشكل حبل المدد ومظلة الحماية التي تتسع باتساع سماء العالم،
وتتخلل شتى محافله.
ولقد استتر الخطاب الأمريكي خلف تأويلات اعتذارية، وتفسيرات تميل كل
الميل إلى الجانب الصهيوني، وما يزال.
ولكن الأمر تجاوز كل حد؛ حيث جاءت مؤخراً (أولبرايت) ، إلى الشرق
الأوسط تتحدث بلسان (نتنياهو) وتلوِّح بقبضة أمريكا. لقد بكت أولبرايت مع
اليهود، ولكنها كانت حازمة وصارمة مع أطراف السلام الآخرين على الرغم من
أن الاستقراء لحوادث سابقة يثبت أن القوة القاهرة لا تفرض على الشعوب حتى
ولو كانت مستضعفة إلا إذا استكانت هذه الشعوب.
وستظل تجارب أفغانستان وفييتنام والشيشان ولبنان، والصومال، وغيرها
شاهدة على ذلك.
ونجد أن أمريكا لا تنجح في فرض ما تريد إلا عبر عملائها الذين يروِّجون
لها، فقد أخفقت في لبنان وفي الصومال، رغم تواضع إمكانات المليشيات في كلا
الحالتين إلا أن القاسم المشترك بينهما عدم وجود عملاء نافذين تتوكأ عليهم في
تحقيق مآربها، ولذلك خرجت من هذه البلاد تجر أذيال الخيبة، فهل ذلك هو
السبب في إلحاح أولبرايت على ياسر عرفات في القضاء على ناشطي حركتي
(حماس، والجهاد الإسلامي) ؟ وهل ذلك المطلب هو مظهر جديد لترسيخ الإرادة
الأمريكية ضد الأمم والشعوب؟
إن ذلك الظن يؤكده ضلوع أمريكا في التغيرات التي حدثت في إفريقيا
وخاصة في زائير الديمقراطية؛ وضلوعُها في الأحداث الأخيرة هو التفسير القريب
لانتصار (كابيلا) في فترة زمنية قصيرة جداً.
فهل وعت تلك الأيادي حقيقة ما تشتهيه وتبتغيه أمريكا منهم؟ وهل وعوا
على الأقل أنهم بقطعهم العرق الإسلامي النابض في الأمة يكونون بذلك قد جاروا
على أنفسهم وأمتهم، وفقدوا شرفاً لا بد آت ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم
بنصر أمة الحق على يهود.
ومن بين ذلك الركام يستطيع المرء أن يلتقط جذوة الأمل، ويعلن بيقين أن:
وعد الله آت، وأن الجمع سيهزم ما دام قد عثر على مثل الصخرة التي وقف عليها
من ازدادوا إيماناً ويقيناً عند رؤية الأحزاب فقالوا: [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ]
[آل عمران: 173] .
إن الحقيقة المرة التي باتت واضحة للعيان تشير إلى أن الغطرسة الصهيونية
والمواقف الأمريكية ما هي إلا صدى للتمزق العربي والخنوع والاستسلام والهرولة
البلهاء وراء وهم السلام.
وإننا لنلتقط من تاريخ عزة ديننا الخالد موقفاً لمعاوية رضي الله عنه حينما
علم أن هرقل عظيم الروم أعد جيشاً لغزو الشام مستغلاً ما بين معاوية وعلي رضي
الله عنهما من أحداث، فأرسل معاوية رسالة إلى هرقل فحواها: (إن شئت اتفقتُ
مع ابن عمي (يعني: علي بن أبي طالب) وبايعته، ثم تفرغت لحربك) فما أن
وصلت رسالة معاوية حتى أقلع هرقل عن الحرب.
لقد أكد ذلك الموقف معاني عدة، ليس أقلها أهمية ما بات معلوماً ومقرراً أن
أعداء المسلمين ليس لهم قوة إلا في تفرق المسلمين وتناحرهم.
فهل وعى كل ذي سلطان وأمر تلك الحقيقة؟ وهل تابوا وأنابوا فربحوا عز
الدنيا ونعيم الآخرة!
فإن لم يكن ذلك.
فليَثبُتْ كل مجاهد نذر أن يقف في وجه الصلف الصهيوني
…
ليثبُتْ رغم أن
الثوب بالٍ والبطن خالٍ، والسلاح حجارة، ليثبتوا
…
فقد يكون لهم نصيب من
التجارة الرابحة وحظ من الكرامة، ليثبتوا
…
فقد يكون لهم شرف القلة الصابرة،
في زمن الغربة
…
لقد استخف كسرى بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسل
بضع رجال يأتونه بالرسول في الأصفاد لما علم برسالته، ولكنْ، في الوقت ذاته
كانت البشارة بنصرة الإسلام تملأ جنبات نفسه، وتسري في عروق أصحابه حتى
خرجت مواكب النور، ليراها كسرى عين اليقين ويتعلم الدرس المبين من ربعي
بن عامر: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) .
ولكن يبدو أن الأعداء قد وعوا جيداً رسالة معاوية، فأخذوا يعملون على كل
ما من شأنه تفريق المسلمين، وأن يشيعوا بينهم الفتن على اختلاف ألوانها وأنواعها.
وكثيراً ما يقف المرء لا سيما وهو يطالع تخرصات بعض من أبناء جلدتنا
الذين يتكلمون بألسنتنا وهم يخوضون في مثل معاوية ويقول: يا ليت لنا مثل
معاوية.
وختاماً: هل وعينا رسالة معاوية؟ !
دراسات شرعية
شهر رمضان.. وقفات وأحكام
بقلم: عبد الله الإسماعيل
يتضمن شهر رمضان مسائل مهمة يحتاج كل مسلم إلى مذاكرتها، أُوجزها في
هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: حكم الصيام:
إن أول ما فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة كان على التخيير: فمن شاء صامه وهو أفضل، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم أُلزم
الناس بصيامه حين نزل قوله تعالى: [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]
[البقرة: 185]، وكان الحكم في أول الأمر: أن من نام بعد غروب الشمس وجب عليه الإمساك عن المفطرات، ولو استيقظ ليلاً، حتى تغرب الشمس من الغد؛ فعن البراء رضي الله عنه قال:(كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن حرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته، قالت: خيبةً لك. فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ] [البقرة: 187] ، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: [ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ] )[1]
…
[البقرة: 187] .
الوقفة الثانية: حكمة الصيام:
قال تعالى: [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 183] ، في هذه الآية إشارة إلى حكمة من حكم الصيام، وهي تحقيق تقوى الله؛ فإن النفس إذا تركت ما هو مباح في الأصل وهو الأكل
والشرب امتثالاً لأمر الله في نهار رمضان كان ذلك داعياً لترك المحرمات الأخرى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [2] ، وقد هيأ الله لنا هذا الشهر
بإضعاف كيد الشيطان وشره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء
رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلْسِلت الشياطين) [3] .
ولا بد من توطين النفس وتهيئتها في أيام الصيام لتحقيق هذه الحكمة كما أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم
أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) [4] .
الوقفة الثالثة: فضل الصيام:
ورد في فضل الصيام نصوص كثيرة، وأعظم ما ورد فيه حديث أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل كل
عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من
أجلي والصوم جنة [5]، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى
ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) [6] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً
غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه) [7] .
الوقفة الرابعة: أحكام الصيام:
أولاً: يثبت دخول شهر رمضان برؤية الهلال؛ فإن لم يُرَ أو حال دون
رؤيته غيم أو قتر أُتِم شهر شعبان ثلاثين يوماً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال أبو القاسم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا
عدة شعبان ثلاثين) [8] .
والراجح أنه يكفي في ثبوت الرؤية خبرُ واحدٍ من المسلمين.
وهو مذهب الشافعي [9] ، والحنابلة [10] ، وقول ابن حزم [11] واختيار
…
ابن تيمية [12] وابن القيم [13] .
والدليل عليه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (تراءى الناس الهلال،
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه) [14] .
ثانياً: يحرم صيام آخر يومين من شعبان أو آخر يوم منه إلا أن يوافق ذلك
يوماً كان من عادته صيامه ك (الإثنين، والخميس) فيجوز عندئذٍ لحديث أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (لا يتقدمن أحدكم
رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصمْ ذلك
اليوم) [15] .
ثالثاً: يحرم على القول الراجح وهو مذهب الشافعي [16] صيام يوم الشك
وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر؛ لحديث
أبي هريرة السابق، ولقول عمار رضي الله عنه: (من صام يوم الشك فقد عصى
أبا القاسم) [17] .
رابعاً: شروط وجوب الصيام ثلاثة:
1-
العقل.
2-
البلوغ.
3-
القدرة عليه.
شروط صحة الصيام أربعة:
1-
الإسلام.
2-
العقل.
3-
انقطاع دم الحيض والنفاس.
4-
النية من الليل لكل يوم واجب.
لحديث حفصة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له)[18] .
وهذا نص صريح لاشتراط النية لكل ليلة؛ فمن كان مسافراً وقد نوى الفطر
من الليل، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر لم يصح صومه.
وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية؛ فإن النية لا
تحتاج إلى تكلف؛ فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى.
خامساً: فرض الصيام:
الإمساكُ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقوله
تعالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ
ثُمَّ أََتِمُّوا الصِّيَامََ إلَى اللَّيْلِ] [البقرة: 187] .
سادساً: مفطرات الصوم:
1-
الأكل والشرب.
2-
ما كان في معنى الأكل والشرب، وهو ثلاثة أشياء:
أ- القطرة في الأنف التي تصل إلى الحلق، وهو مأخوذ من قوله: (وبالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه مسلم، فإنه يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف
إلى الجوف أفطر.
ب- الإبر المغذية؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها، وكذا المغذي
الذي يصل إلى المعدة عن طريق الأنف.
ج- حقن الدم في المريض؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه [19] .
3-
الجماع: وهو من المفطرات بالإجماع [20] .
4-
إنزال المني باختياره بمباشرة أو استمناء، أو غير ذلك؛ لأنه في معنى
الجماع، ولأنه من الشهوة التي يدعها الصائم كما سبق في حديث أبي هريرة
مرفوعاً وفيه: (يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)[21] ومعلوم أن من أنزل
المني عامداً مختاراً باستمناء أو غيره، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها، أما الاحتلام
فليس مفطراً بالإجماع [22] .
5-
التقيؤ عمداً، وهذا مفطر أيضاً بالإجماع [23] ، أما من غلبه القيء فلا
يفطر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض)[24] .
6-
خروج دم الحيض والنفاس، بالإجماع [25] ؛ فمتى وُجد دم الحيض أو
النفاس في آخر جزء من النهار، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر فسد
صومها؛ ومن الأدلة عليه حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (أليس إذا حاضت لم
تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟) [26] .
7-
اختلف أهل العلم في الحجامة: هل تفطر أو لا؟
وسبب الخلاف في هذه المسألة: التعارض الظاهر بين حديث ثوبان مرفوعاً: (أفطر الحاجم والمحجوم)[27]، وحديث ابن عباس: (أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- احتجم وهو صائم) [28] ، واختلف أهل العلم في طريق الترجيح بينهما
لتعذر الجمع بينهما فاختار ابن تيمية [29] وابن القيم [30] وهو مذهب الحنابلة [31]
…
...
…
تقديم حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنه ناقل عن الأصل، أما حديث
ابن عباس فمبقٍ على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، كما هو مقرر
في قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة.
والراجح تقديم حديث ابن عباس وأن الحجامة ليست من المفطرات وهو
مذهب الجمهور؛ وذلك أنه لا يُصار إلى إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة إلا إذا
جهل التاريخ، أما إذا علم فيجب العمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم [32] ، وقد
علم هنا بخبر الصحابي من حديثين:
الأول: حديث أنس بن مالك قال: (أول ما كُرِهَت الحجامة للصائم، أن
جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ في الحجامة للصائم،
وكان أنس يحتجم وهو صائم) [33] .
الثاني: حديث أبي سعيد الخدري قال: (رخص رسول الله في القبلة للصائم
والحجامة) [34] ، والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصاً في النسخ
فوجب العمل بهما [35] .
8-
الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل، ومداواة الجروح الغائرة،
وشم الطيب، والإبر غير المغذية، وإدخال علاج لمريض من الفرج: أنها لا تفطر؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، فتبقى على الأصل وهو الجواز، وما
أحسن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا حيث قال: (
…
فإن الصيام
من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما
حرمها الله ورسوله على الصائم، وأفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على
الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوها سائر شرعه،
فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً
صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك) [36] .
سابعاً: من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء عليه كمن ظن أن
الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم تغرب.
ومن الأدلة على ذلك:
1-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من أكل ناسياً وهو صائم
فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) [37] .
2-
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس)[38] .
ولم يُنقل أنهم قضوا ذلك اليوم؛ ولو أُمِرُوا بقضائه لنُقل إلينا كما نُقِلَ فطرهم [39] .
تنويه:
سقط سهواً في العدد (119)(ص9) في مقال (هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف) فقرة هامة أحببنا التنبيه إليها.
والسقط بعد قوله: فما المحذور الشرعي من ذلك التعاون: (سيبادر أحد
بالقول، ولكن قد يكون الأمر بالمعروف على مذهبهم، أي فيه نشر لمذهبهم، وقد
يكون بناء المسجد لتقاوم فيه حلقات الذكر، أو لتدريس عقائد الأشاعرة ونحو ذلك)
ثم يأتي بعد ذلك: فالجواب عندئذ
…
إلخ.
(1) أخرجه البخاري، ح/1915.
(2)
أخرجه البخاري، ح/1903.
(3)
أخرجه البخاري، ح/1899، ومسلم، ح/1079.
(4)
أخرجه البخاري، ح/1904.
(5)
أي شر ووقاية من الآثام والنار (فتح الباري 4/125) .
(6)
أخرجه البخاري، ح/1894، 1904، 7492، ومسلم ح/1151.
(7)
أخرجه البخاري، ح/1901.
(8)
أخرجه البخاري، ح/1909.
(9)
انظر: روضة الطالبين (2/207) .
(10)
انطر: الفروع (3/14) .
(11)
انطر: المحلى (4/373) .
(12)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/105) .
(13)
انظر: زاد المعاد (2/38) .
(14)
أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم:(هذا خبر صحيح) ؛ وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/16) .
(15)
أخرجه البخاري، ح/1914، ومسلم، ح/1082.
(16)
المهذب والمجموع (6/275) .
(17)
حديث صحيح أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (انظر فتح الباري 4/144) ومختصر صحيح البخاري للألباني (1/444) .
(18)
صحيح أبي داود، ح/2454.
(19)
انظر مجالس شهر رمضان لابن عثيمين، ص 66.
(20)
حكاه النووي في المجموع (4/348) .
(21)
انظر المغني 4/361 363، والمجموع 6/349، وحقيقة الصيام لابن تيمية، ص 23.
(22)
انطر المجموع 6/349.
(23)
حكاه ابن المنذر في كتاب الإجماع، ص 15.
(24)
صحيح أبي داود، ح/380.
(25)
حكاه ابن قدامة وغيره، انطر المغني 4/397.
(26)
أخرجه البخاري، ح/304.
(27)
أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وصححه الإمام أحمد والبخاري والدارمي وغيرهم، انظر فتح الباري، 4/409.
(28)
أخرجه البخاري، ح/5694.
(29)
حقيقة الصيام، ص 23.
(30)
زاد المعاد، 2/60.
(31)
الفروع، 3/47.
(32)
انظر البحر المحيط للزركشي (6/140) .
(33)
أخرجه الدارقطني وصححه وأقره البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/73) .
(34)
أخرجه الطبراني والدارقطني قال ابن حزم: إسناده صحيح وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/74) .
(35)
انظر الإرواء 4/75.
(36)
حقيقة الصيام، ص 37.
(37)
أخرجه البخاري، ح/6669.
(38)
أخرجه البخاري، ح/1960.
(39)
انظر حقيقة الصيام، ص 34.
دراسات شرعية
هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف؟
(2من2)
بقلم:هيثم بن جواد الحداد
خلص الكاتب في الحلقة الأولى إلى أن التعاون واجب بين المسلمين، فيما
يصح أن يكون براً من الأعمال مع من يصح إطلاق وصف الإسلام عليه وأقام على
ذلك الأدلة، وفي هذه الحلقة مزيد من التفصيل.
-البيان -
الخلاف السائغ: الذي يظهر لي بعد طول بحث ونظر أن الخلاف يكون سائغاً
إذا تحقق فيه شرط واحد فقط، وهو: صدوره ممن يُعذر شرعاً؛ كأن يكون جاهلاً
فيما يجوز له جهله، أو مُكْرَهاً فيما يسوغ له أن يُكره عليه، أو متأولاً فيما يصح
التأوّل فيه، أو مخطئاً، والجامع لهذه الأعذار كلها: أن يكون الباعث للفعل مقصداً
شرعياً معتبراً، سواء كانت المسألة التي خالف فيها من المسائل الاجتهادية، أو من
غيرها.
فهنا لدينا أربع حالات وذلك بالنظر إلى طبيعة المسألة، وطبيعة الفاعل:
إما أن يكون الفاعل ممن يعذر، سواء في مسألة اجتهادية، أو غير اجتهادية.
أو يكون الفاعل ممن لا يعذر سواء في مسألة اجتهادية أو غير اجتهادية.
فإن كان الفاعل ممن يعذر، فقد دخل في عموم الآية: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] [النساء: 59] ، فهو راد إلى الله ورسوله، ولا
دخل لطبيعة المسألة عندئذ، حتى ولو كانت المسألة من مسائل الاعتقاد. وقد انعقد
الإجماع على أنه ليس كل من فعل الكفر يكون كافراً؛ إذ قد يقوم بالفاعل موانع
تمنع من مؤاخذته بما فعل، وهذه المسألة من هذا القبيل.
ومن هذا؛ عُذْرُ النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، حين سجد له [1] ، ومنه كذلك إعذار الله عز وجل للرجل الذي أوصى أبناءه بحرقه، وقال:
(لئن قدر الله عليّ ليعذبني، فلما بعثه الله قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال:
خشيتك) [2] ، فهذا ظاهر في أنه متأول، ومن ذلك أيضاً قصة عمر بن مظعون [3]، حينما شرب الخمر متأولاً استحلالها من قول الله عز وجل: [لَيْسَ عَلَى
الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] [المائدة: 93] ، مع أن المستحل
لمثل هذه الكبيرة في عصر مثل عصر الصحابة، ومن رجل مثل الصحابة، لا
شك أن فعله هذا يعد كفراً مخرجاً من الملة، ولكن استحلاله لم يكن تكذيباً وردّاً أو
عناداً واستكباراً، بل كان اجتهاداً، وخطأً صادراً عن حسن نية.
أما إذا كان الفاعل ممن لا يعذر، فإنه غير منتظم في سلك الآية، بل هو
متبع لأحد الأقوال؛ لا لأن الله عز وجل أمر باتباعه، بل لأمر آخر، وهذا منشأ
المخالفة، حتى ولو كان ذلك في مسألة اجتهادية؛ ولهذا فإن من أنكر ولو سنة من
السنن الثابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليها، حتى ولو كانت
من فروع السنن إذا وافقنا على هذه التسمية من غير تأوّل فإنه يعد مبتدعاً، وقد عدّ
العلماء من بِدَع الشيعة إنكارَهم للمسح على الخفين.
ولهذا فإن الإمام أحمد لما سئل عن الصلاة في جلود الثعالب قال: إن كان
متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى، ويقال له: إن النبي -
صلى الله عليه وسلم نهى عنها [4] .
وكذلك فإن من صدر منه فعل في مسألة اجتهادية، وهو يعتقد أن الحق خلاف
ما فعل فإنه يعتبر عاصياً، فإن كان الفعل مما يحتمل الصحة والفساد حكم بفساده؛
فلو صلى إنسان ممن يعتقد نقض الوضوء من النوم، أو من أكل لحم الإبل، بعد
نومه أو أكله لحم إبل، لحكمنا ببطلان صلاته، ولوجبت عليه الإعادة، ولما جاز
الائتمام به في تلك الصلاة، ولو ممن يرى عدم نقض الوضوء في ذلك.
هذا، وشروط كل صنف من هؤلاء الأصناف المعذورين شرعاً: الجاهل،
أو المكره، أو المخطئ، وما يمكن أن يعذروا فيه، مفصلة في كتب الفقه وأصوله، ومواطن اللبس فيها ضيقة، فلا حاجة للتعرض لها هنا.
أما المتأول فقد يكون فيه نوع إشكال يحتاج إلى بحث مستقل لا يمكن الإتيان
به في هذه العُجالة. والذي يظهر أن المتأول: هو من اعتمد على ما يصلح
الاعتماد عليه من أدلة شرعية، أو نحوها؛ حيث يكون بذلك داخلاً في قوله تعالى:
[فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ][النساء: 59] ، وما في معناها من آيات وأحاديث.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين
اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض
أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل
والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء غايتهم أنهم
مخطئون، وقد قال الله تعالى:[رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَاًنَا]
[البقرة: 286] وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء) [5] .
وضد التأول صور كثيرة: منها الهوى، كمن يأخذ ببعض الأقوال اتباعاً
لهواه وشهوته، حتى لو كانت هذه الأقوال من الأقوال المعتبرة كما سيأتي في
الشرط الثاني ومن أشهر أمثلة ذلك الذين يتتبعون رخص المذاهب، من إباحة بعض
صور الربا، والغناء، وغيرها [6] .
ومنها التقليد لمن لا يحق له التقليد، كمجتهد قادر على الاستنباط ومع ذلك قلد، أو قادر على موازنة الآراء، واتباع الأدلة، ومع ذلك ركن إلى الدنيا وترك الأدلة
خلفه ورضي بالتقليد، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المقلدين اغتروا
بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق
…
وذكر الأولى، ثم قال:
وأما الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ، وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ، يكون لهم
من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه؛ لأنهم متبعون له،
فيجري عليهم ما جرى عليه
…
وهذا ظن كاذب باطل بلا شك؛ لأن الإمام الذي
قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم، فقد شمر، وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به، وطاعة الله على ضوء الوحي
المنزل، ومن كان هذا شأنه؛ فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده؛ وأما
مقلدوه: فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله، وأعرضوا عن تعلمها
إعراضاً كلياً، مع يسره وسهولته، ونزّلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون
منزلة الوحي المنزل من الله، فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟) [7] .
ومنها التعصب، للآباء والمشايخ، أو المذاهب، ومنها الحقد والحسد
والبغض [8] .
فأي خلاف خرج عما يعذر المكلف فيه يكون خلافاً مذموماً غير سائغ.
لكن يبقى هنا سؤال يحتاج إلى جواب محرر، وهو:
كيف نعرف الباعث، أو المقصد الحامل لهذا الخلاف، أليس ذلك من الأمور
الخفية؟
الجواب: يُعلم ذلك بالقرائن؛ فمثلاً: إذا بُيِّن لهذا المخالف الحق، على وجه
صحيح، ثم ظهر عناده واستكباره، وكذلك إذا ظهر منه المعاداة والهجران قبل أن
يقيم الحجة على من عاداه أو هجره، فكان مقصده العداوة لا الوصول إلى الحق،
ومن القرائن أيضاً تجنبه الاستماع للنصيحة ورأي المخالف، فكأنه لا يريد إلا رأيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (لا يخلو المنسوب إلى بدعة أن يكون
مجتهداً فيها، أو مقلداً
…
فالقسم الأول على ضربين: أحدهما: أن يصح كونه
مجتهداً؛ فالابتداع لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة؛
لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع
هواه ولا جعله عمدة؛ والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به. ومثاله
ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع
عنه، وقال:(وأول ما أفارق غير شاك أفارق ما يقول المرجئون..) وقد ذكر
الشاطبي رحمه الله عدة أمثلة لرجوع من كان يقول بأمور عظام اجتهاداً وتأولاً [9] .
لكن مع ذلك يصعب في كثير من الأحيان معرفة المتأول من غيره، فعندئذ
ينظر للفعل نفسه، أي للمسألة نفسها بصرف النظر عن فاعلها، وهو الشق الثاني
في مسألة الخلاف والمختلفين.
فالخلاف يعتبر سائغاً إذا كان في المسائل الاجتهادية، وهذه القضية أعني
تحديد المسائل الاجتهادية تحتاج إلى تحرير، ومع الأسف فإن كثيراً من الكتاب
والباحثين حول هذا الموضوع، من يذكرها مروراً دون أن يقف عندها لتحريرها،
مع أنها من أكبر مواطن النزاع؛ لأن الناس وخصوصاً في هذا العصر انقسموا
تجاهها إلى طرفي نقيض: فطائفة ضيقتها، حتى قصرت المسائل الاجتهادية على
مسائل محصورة، هي التي لم يتبين لهم أنفسُهم وجه الحق فيها، وما عدا ذلك من
مسائل، ظهر لهم رجحان أحد الدليلين، أخرجوها من حيز الاجتهاد، بل ربما
ألزموا الغير بالأخذ بما يعتقدون، ومن ثَمّ اتخذوا موقفاً معادياً للمخالف، وربما
حملهم على التبري منه، ثم نشأ الخلل في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو عدم
التعاون مع هذا المخالف.
وفي المقابل ظهر فريق آخر توسّع في هذه القضية حتى ربما جعل الخلاف
في كثير من مسائل الأصول، أو أمهات مسائل العقيدة من المسائل الاجتهادية،
ومن ثم أيضاً تسامح مع مثل هؤلاء المخالفين، وعليه: فلا بد أن نحرر ماهية
المسائل الاجتهادية.
ولتحرير المسائل الاجتهادية، لا بد أن ندرس موضوع الاجتهاد ومتى يكون،
حيث إن المسائل الاجتهادية نتيجة مباشرة للاجتهاد، وبعد دراسة موضوع الاجتهاد
في ضوء النصوص من الكتاب والسنة، نقارن ما خلصنا إليه من هذه الدراسة،
بما ورد عن الصحابة من مسائل اختلفوا فيها، وكيف كان موقفهم من هذا الخلاف،
وما أسبابه [10] .
وإذا نظرنا إلى موضوع الاجتهاد الذي يقودنا إلى تحرير المسائل الاجتهادية،
فإننا نجد أن الاجتهاد ينحصر في الأسباب التالية:
1-
إذا لم تظهر صحة الدليل؛ وهذا يكون في الأحاديث التي اختلف العلماء
المعتبرون في تصحيحها، وتضعيفها، أو في الإجماع الذي لم يتواتر.
فالمسائل التي اختلف العلماء فيها، وكان سبب اختلافهم فيها مبنياً على
اختلافهم في صحة الحديث، أو ضعفه، أو ثبوت الإجماع أو عدمه هي مسائل
اجتهادية ولا شك.
2-
إذا لم تظهر دلالة الدليل وهذا يكون في الأدلة التي دلالتها على المراد من
قبيل المجمل، أما إذا كانت أدلتها من قبيل النص، الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، أو من قبيل الظاهر، الذي يحتمل معنيين، لكن أحدهما أظهر من الآخر فليس
للاجتهاد من هذه الناحية فيها مساغ.
فالمسائل التي كان الخلاف فيها بسبب الخلاف في دلالتها، هي مسائل
اجتهادية ولا شك. ومن أكثر هذه المسائل شيوعاً: المسائل التي لا تخصها
نصوص مباشرة، وإنما بنيت على القياس؛ حيث القياس لا بد فيه من جمع بين
الفرع والأصل في علة الحكم، لكن كيف نستنبط علة الحكم؟ هناك طرق تعتمد
على دلالة الدليل وهذا مسرح للاجتهاد، فإذا عرفنا علة الحكم، فلا بد من تحقيق
وجود هذه العلة في الحكم، وهذا مسرح لاجتهاد كذلك راجع إلى السبب الرابع
الآتي ذكره.
3-
إذا لم يختلف العلماء في ضعف الدليل، ولم يختلفوا في دلالته على المراد، ولكن وُجد له معارض صالح للمعارضة، واختلفوا في كيفية الجمع بين الدليلين،
أو في ترجيح أحدهما على الآخر، حسب القواعد التي قررها العلماء في هذا الباب؛ فإن السبيل ما قاله ابن القيم رحمه الله: (والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل
الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا
معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم الدليل الذي يجب العمل به الاجتهاد
لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها) [11] .
4-
فإن اتفقوا في جميع ما مضى، لكن اختلفوا في النازلة، بأي الصور
تلحق؟ أو بمعنى آخر كاختلافهم في تحقيق المناط أي تحقيق وجود العلة في الفرع
المتنازع على حكمه كانت تلك المسألة المختلف فيها من المسائل الاجتهادية، وهذا
السبب من أهم أسباب الخلاف بين المسلمين في العصر الحاضر؛ فكثير من مسائل
السياسة الشرعية من طرق تغيير المنكر، وطرائق الدعوة، وإقامة الخلافة
الإسلامية، بل ومسائل الاقتصاد والاجتماع هي من هذا القبيل.
والغالب أن الإشكال في هذه المسائل وأمثالها ليس في أدلتها صحةً ودلالةً،
فالغالب أن أدلتها عرفت، وسهل الاطلاع على أقوال العلماء وآرائهم حولها، لكن
الإشكال الأكبر في تكييف الوقائع وإلحاق المسائل بنظائرها، وعلى الرغم من
أهمية ذلك فإنه لم يأخذ حجمه المطلوب من الدراسة والتأصيل، ولذا فلا بأس من
إطالة الكلام عليه أكثر من سابقيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (وقد تقدم أن من الخلاف السائغ: الخلاف
في المسائل الاجتهادية، ولما كان تحقيق المناط في كثير من المسائل لا يمكن القطع
به؛ إذ تختلف فيه الأنظار، تعيّن علينا القول بأنه من المسائل الاجتهادية التي
يسوغ فيها الخلاف) ، وقال في موطن آخر: (الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا
يمكن أن ينقطع حتى أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني: يمكن أن
ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذي
لا خلاف بين الأمة في قبوله) [12] .
وهنا لا بد من شرط وهو: أهلية الناظر لتحقيق المناط فيما هو بصدده.
فمثلاً: إذا عرفنا علة الربا، ثم ظهرت لنا صورة من صور المعاملات التجارية؛
فإن تحقيق وجود هذه العلة في تلك المعاملة لا يُقبل إلا من متخصص يفهم تلك
المعاملة على وجهها الصحيح، حتى يستطيع إثبات وجود علة التحريم في تلك
الصورة، بطريقة صحيحة. قال الشاطبي رحمه الله تعالى: (قد يتعلق الاجتهاد
بتحقيق المناط، فلا يفتقر ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر إلى
معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما
هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث
قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي
ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى؛ كالمحدِّث العارف
بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها، فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف
به؛ كان عارفاً بالعربية أم لا، عارفاً بمقاصد الشارع أم لا، وكذلك القارئ في
تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات، والطبيب في العلم
بالأدواء والعيوب
…
ونحوها، وهذا كله مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير
مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالاً في
المجتهد [13] وقال الشنقيطي: (لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به
وإن كان لا حظّ له من علوم الوحي) [14] .
فإذا كان الخلاف في مسألة ما مبنياً على ما سبق من الأسباب الأربعة، فلا
شك أنه خلاف قوي معتبر، وتكون تلك المسألة من المسائل الاجتهادية، التي
يسوغ فيها الخلاف.
لكن هنا لا بد من قيود مهمة جداً، وهي:
1-
أنّ كون المسألة من المسائل الاجتهادية لا يعني أن كل الأقوال التي قيلت
فيها من الأقوال المعتبرة التي يجوز القول بها، بل لا بد أن يكون القول معتمِداً
على دليل صالح للاعتماد حسبما تقدم، وقد قال الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
2-
يجب أن لا تخرج الأقوال في المسألة الاجتهادية، عن أقوال الصحابة
رضي الله عنهم وذلك في المسألة التي بحثوها بخلاف المسائل النازلة والحادثة كما
هو ظاهر، وذلك لورود عدة نصوص عن جمع من الأئمة في عدم جواز الخروج
عن أقوال الصحابة [15] .
3-
وهذا الشرط قد تقدم ذكره؛ لكن أهميته وحدوث اللبس فيه أوجبت إعادة
التأكيد عليه، فكثير من الناس يظن أن كون المسألة من المسائل الاجتهادية مسوغ
لاختيار ما يشاؤون من الأقوال التي قيلت فيها هوىً وشهوة، وربما دفع ذلك كثيراً
من الناس إلى البحث عن أي خلاف في المسائل التي تعرض له، حتى يبرهن أنها
مسألة اجتهادية فيجوز له الأخذ بما يشاء فيها من أقوال، ولا يحق لأحد الإنكار
عليه، وهذا خطأ محض فهو مصادمة صريحة لوجوب الرد إلى الله ورسوله.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس
بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول أو إلى القول والفتوى أو العمل:
أما القول الأول: فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره
اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات
الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها؟ ! والفقهاء من
سائر الطوائف صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن وافق فيه
بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وكان للاجتهاد فيها مساغ
لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الاختلاف هي مسائل
الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،
والصواب ما عليه الأئمة
…
) [16] .
وبناء على ما تقدم: فإن العمل بالأقوال المعتبرة في المسألة الاجتهادية سائغ
إذا كان الدافع له مقصداً شرعياً، حسبما تقدم، ولا يجوز أبداً العمل بتلك الأقوال
حتى ولو كانت معتبرة تشهياً وهوى، وعليه فالمعذور هو من عمل بأحد الأقوال
المعتبرة لمقصد شرعي فقط.
والخلاصة:
أن الخلاف السائغ، ما كان الباعث عليه غرضاً شرعياً، سواء كان في
مسألة اجتهادية، أو حتى غير اجتهادية؛ إذ يفرق بين الفعل، والفاعل، فإذا أشكل
علينا الباعث وكثيراً ما يشكل نظرنا إلى المسألة ذاتها، فإن كانت من المسائل
الاجتهادية، فإن الإنكار لا يتوجه إلى صاحبها، وربما يتوجه إليه المناصحة أو
الحوار، وإذا كانت المسألة غير اجتهادية، فإن صاحبها مستوجب للإنكار.
وعليه فإن الإنكار يتوجه إلى الخلاف غير السائغ دون غيره.
وعليه أيضاً، فإن موقف الإنسان من المخالفين خلافاً سائغاً مقبولاً، سيختلف
عن المخالفين خلافاً غير سائغ؛ فموقف المسلم من المخالفين ببعض القضايا الفقهية
الفرعية ليس كالمخالفين له في الأصول؛ وذلك مع الأخذ بالاعتبار من يُعذر من
هؤلاء ممن لا يعذر.
الخاتمة: وأعود هنا للأصلين العظيمين اللذين ذكّرتُ بهما ابتداءً، واللذين
يجب أن يستصحبهما الإنسان دائماً وأبداً لا سيما في هذه الأزمنة، وهما:
وجوب الاجتماع والجماعة بين المسلمين.
ووجوب المحبة والموالاة فيما بينهم في الجملة.
آخذين بعين الاعتبار ما يحيق بالمسلمين من ضعف ومذلة وبُعد عن الدين،
راجين أن نعيد الإسلام لهيمنته على الأرض، حتى نحقق الخلافة المنشودة.
ولا تزال هذه القضية بحاجة إلى مزيد تأصيل وتفصيل، يليق بأهميتها،
وتستحق أن تولى عناية خاصة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1) القصة رواها أبو داود، كتاب النكاح (2140) ، والترمذي في الرضاع (1159) ، وابن ماجة في النكاح (1853) ، والإمام أحمد (4/381)، والحاكم في المستدرك (2/187) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في إرواء الغليل، حيث استوفى جمع طرقها والكلام عليها 7/55 58.
(2)
القصة مشهورة، وهي في البخاري ومسلم.
(3)
القصة مروية في مصنف عبد الرزاق 9/240، والبيهقي في السنن الكبرى (8/16) وذكرها الحافظ في الإصابة (3/220) وابن الأثير في أسد الغابة بتمامها (4/395) .
(4)
الآداب الشرعية لابن مفلح 1/167.
(5)
الفتاوى، 35، ص 75.
(6)
للاستزادة حول موضوع تتبع الرخص وحرمته وما قيل فيه، تراجع رسالة قيمة لجاسم الفهيد الدوسري بعنوان:(زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء) .
(7)
أضواء البيان، 7/533، 537 538.
(8)
وفساد هاتين الصورتين ظاهر ظهوراً بيناً فلا داعي للاستدلال عليه في مثل هذا البحث.
(9)
انظر الاعتصام 1/146 162، مطبعة المنار بمصر.
(10)
لا يتسع المقام هنا لبسط هذه المسألة، وبيان ما قيل فيها، وما ذكر هنا مجرد خلاصة ما توصل إليه الباحث، وإلا فالمسألة بحاجة إلى دراسة مستقلة.
(11)
إعلام الموقعين 3/300، وقد نسب ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 186 مثل هذا الكلام
لابن تيمية.
(12)
الموافقات في أصول الشريعة، 4/47.
(13)
الموافقات، 4/92.
(14)
أضواء البيان، 3/92.
(15)
وهذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، ليس هذا موضعه.
(16)
إعلام الموقعين 3/300، وقد نسب ابن مفلح مثل هذا الكلام لابن تيمية.