الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
المناهج
بين التطوير والتدمير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فالمناهج التعليمية في كل بلدان العالم يحرص المسؤولون المخلصون
والتربويون الصادقون على أن تعكس الخصائص العقدية والثقافية والاجتماعية لكل
بلد وتكون مرتبطة بالواقع المعاش لتسهم في نهضته وانطلاقته الحضارية.
ومن هنا توضع هذه المهمة في أيد أمينة لتوصيل تلك الأهداف للأجيال:
تتلقاها، وتؤمن بها، وتسير على ضوئها.
إلا أنه منذ السيطرة العلمانية على الساحة التعليمية أخذت المناهج تسير نحو
الصبغة اللادينية في موضوعاتها وطرق تناولها، ثم تحولت هذه المساعي إلى
انحراف أعمق. وفي السنوات الأخيرة ظهر اتجاه مشبوه يريد العبث بالمناهج
وبمنطلقاتها وبخاصة الشرعية منها بالتغيير والمسخ والخلط والمزج بدعاوى
التطوير والتنوير! !
ومن هذا المنطلق لفت نظر كل مسلم متابع الحوارات الساخنة التي أثيرت
حول قانون لتطوير التعليم الأزهري؛ حيث خرج كثير ممن تناولوا الموضوع عن
الموضوعية، وتراشقوا بالاتهامات، حتى اعتبر فضيلة شيخ الأزهر، أن أصحاب
الأصوات المخالفة يهاجمون الأزهر وقد وصفهم بأنهم مرتزقة وجبناء وتجار دين!
كما وصف كل الأصوات التي تردد عبارة: (اختراق الأزهر فكرياً وتعليمياً)
بالجهل والحماقة.
وبعيداً عن دائرة التراشق المتبادل، وبعد أن هدأت حدة العاصفة، بإقرار
القانون المذكور وحل مجلس إدارة جبهة علماء الأزهر التي كانت رأس الحربة في
معارضة ذلك القانون.. نريد تقديم وجهة نظر حول هذا المشروع.
ولكن قبل ذلك نود إيضاح أن الاهتمام بشأن الأزهر لا يقتصر على
المصريين فقط، بل يجب أن يشمل كل مسلم يهتم بأمر المسلمين؛ ذلك أن أثر
الأزهر يتعدى مصر إلى بقاع كثيرة من العالم الإسلامي؛ وذلك من خلال كونه:
1-
مرجعية علمية ومصدراً للفتوى لملايين المسلمين على اختلاف جنسياتهم
ومذاهبهم وتوجهاتهم.
2-
لكونه مصدر إمداد أنحاء كثيرة من بلدان العالم الإسلامي بالدعاة والعلماء، حتى إن بعض البلاد تقوم الدعوة فيها على دعاة الأزهر المبتعثين، كما أن بعض
الجامعات الإسلامية أُسست على علماء معظمهم أزهريون.
3-
وباعتباره جامعة إسلامية علمية لكثير من أبناء العالم الإسلامي، الذين
يعودون إلى بلادهم باعتبارهم دعاة وعلماء أو حتى قادة وساسة! !
4-
لأنه قدوة تحتذي به مؤسسات علمية أخرى.
فإذا كان الأمر كذلك، فما أبعاد الأزمة الأخيرة؟
في مذكرة إيضاحية لمشروع القانون المقترح بعث بها فضيلة شيخ الأزهر إلى
مجلس الشعب المصري أكد فيها على الحاجة الملحة للتطوير، قال: (لقد بات من
الضروري تطويع التعليم الأزهري ليتلاءم مع متغيرات العصر، وليحقق الفرص
المتكافئة للطالب الأزهري الذي يعاني من العبء الكبير الملقى على كاهله في
المرحلة الثانوية الأزهرية التي يدرسها في أربع سنوات؛ في حين أن زميله
بمدارس وزارة التربية والتعليم يدرسها في ثلاث سنوات فقط) . ومن ثم: اقترح
مشروع القانون تخفيض سنوات الدراسة الثانوية إلى ثلاث سنوات، إضافة إلى
تقديم خطة دراسية لهذه المرحلة تتواءم وأهداف القانون المقترح. كما اقترح القانون
إنشاء أقسام فنية تابعة للتعليم الأزهري (زراعي صناعي تجاري) .
وفي ضوء ذلك نود تسجيل الملحوظات الآتية:
أولاً: أن منهج الطالب الأزهري مزدحم ومرهق بالفعل، وهناك صعوبة
ملموسة في استيعابه لكل هذا الكم من المعلومات الشرعية والمواد الأخرى، ولكن
مقارنته بطالب مدارس التربية والتعليم في عدد السنوات الدراسية غير مفهوم؛ لأن
المواد التي يدرسها هذا غير التي يدرسها ذاك من ناحية المادة العلمية وحجمها.
ثانياً: أن حاجة عالم الدين إلى العلوم غير الشرعية (وإن كانت مشروعة)
هي بمقدار ما يعينه على فهم الواقع المحيط به لتنزيل أحكام الشريعة على هذا
الواقع، أو للدعوة إلى الله على بصيرة، فليس من المناسب عزله عن هذه العلوم،
ولكن ليس من الحكمة إغراقه فيها، ومن أراد التوسع فيها فيمكنه الاستزادة من
المراكز والمؤسسات الأخرى المتخصصة في هذه العلوم، أو بذل جهوده الفردية في
ذلك.
ثالثاً: أن من يقف ضد مبدأ التطوير فإنه يقف ضد الزمن، ولا نظن أن أحداً
يرفض هذا المبدأ، ولكن ما هو التطوير المناسب الذي ينبغي إدخاله في هذه
المؤسسة العلمية؟
رابعاً: يجرنا هذا إلى التذكير بالمهمة المناطة بالأزهر باعتباره مؤسسة
تعليمية متخصصة في علوم الدين في المقام الأول، لا يشاركه في ريادة هذا
التخصص أي مؤسسة أخرى في مصر، بينما ينافسه ويتفوق عليه في التخصصات
العلمية الأخرى أكثر من جامعة ومركز للبحوث.
وهنا نصل إلى النظر في محطات بارزة في المسيرة المعاصرة (لتطوير)
الأزهر:
في سنة 1911م سنت الحكومة المصرية قانوناً ينظم الدراسة الأزهرية على
ثلاث مراحل: (أولية، وثانوية، وعالمية) ، وفيه أصبح تدريس العلوم الحديثة
المسماة بالعلوم العقلية إجبارياً بعد أن كان اختيارياً.
في سنة 1930م صدر قانون ينظم التعليم في الأزهر في ثلاث مراحل:
(ابتدائية ومدتها أربع سنوات، وثانوية ومدتها خمس سنوات، وعليا ومدتها أربع
سنوات) كما أنشئت كليات الأزهر الثلاث: (اللغة العربية، والشريعة، وأصول
الدين) .
في سنة 1936م أدخل تدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومبادئ الفلسفة
وتاريخها، ومادتي القانون الدولي والقانون المقارن لطلاب الشريعة، إلى جانب
بعض المواد العلمية في المرحلة الثانوية.
في العهد الناصري (سنة 1961م) صدر قانون تطوير الأزهر الشهير، الذي
كان أهم ملامحه:
إضافة مناهج وزارة التربية والتعليم إلى مناهج العلوم الشرعية المقررة على
طلاب المراحل الأزهرية دون الجامعية، كما أنشئت كليات أزهرية للتجارة
والإدارة والطب والهندسة والزراعة..
ولأجل استيعاب هذا التطور فقد خفضت المواد الشرعية بنسبة 33%، كما
تقلص مجموع سنوات المرحلتين الإعدادية والثانوية من تسع سنوات إلى ثمان، ثم
إلى سبع، واختصرت المواد الشرعية مرات عديدة حتى عام 1996م، بمجموع
يدور حول 60% للمرحلة الثانوية و53% للمرحلة الإعدادية، بينما ظلت مناهج
وزارة التربية والتعليم كما هي.
وفي القانون الأخير محل النقاش تم تقليص عدد سنوات المرحلتين الإعدادية
والثانوية إلى ست سنوات، واختصار المواد الشرعية بنسب متفاوتة، مع الإبقاء
على مواد التعليم العام كما هي أيضاً.
ويبدو أن هذه المحطة ليست الأخيرة في مسيرة التطوير، التي نلاحظ عليها:
أنه صاحبها مد علماني جارف تناسب حجمه مع حجم كل خطوة تطوير؛
فالمقصود هو عملية إفراغ ثم إحلال.
وصاحبها أيضاً إلغاء أو تحجيم لمرجعيات علمية أخرى كهيئة كبار العلماء
ولجان الفتوى بالأزهر.
أن اتجاه التطوير كان نحو إيجاد أزمة تتمثل في صعوبة استيعاب الطالب
لهذا الكم الكبير من العلوم الشرعية والمدنية، ثم حل هذه الأزمة بتخفيض المواد
الشرعية وحدها والإبقاء على المواد الأخرى.
فماذا لو استمرت مسيرة التطوير على هذا المنوال؟
سيؤول مصير التعليم الأزهري إلى مصير المحاكم الشرعية؛ حيث أنشئت
في إحدى المراحل المحاكم المختلطة، ثم تحولت جميعها إلى المحاكم المدنية بكامل
قوانينها الوضعية.
سيخطو العلمانيون خطوة كبيرة على طريق تجفيف المنابع وهذا ما يبذلون
له كل الجهود.
سيفقد الناس على نطاق واسع معين مرجعيتهم العلمية، فمن أين سيخرج
علماء الدين إن لم يخرجوا من مؤسسات علمية متخصصة؟
سيفتح المجال واسعاً لأنصاف العلماء والرؤوس الجهال الذين سوف يتبوؤون
مكانة التحدث باسم الدين، وحينها يُطوّع الدين للمآرب والمصالح لا أن يكون هو
المهيمن والموجه.
ستُشجّع بلاد أخرى على المضي قدماً في مثل هذا الطريق باعتبار الأزهر
نموذجاً يحتذى.
هذا ما يلوح في الأفق؛ إذ إن هناك جهوداً على قدم وساق في أكثر من بلد
مسلم لمحاولات التطوير المشبوهة تارة بتخفيض حصص المواد الشرعية؛ وتارة
بحذف بعض المواضيع المعينة كالجهاد والولاء والبراء مثلاً، ثم دمج المواد
ببعضها وتسميتها بمسميات جديدة.
والذي يدعو إلى هذه الخطوات أناس تسنمو ذرى وزارات التربية والتعليم؛
وقد تشبعوا بالتوجهات الغربية وهم يعملون جاهدين لتطبيق الأفكار العلمانية
بخطوات مدروسة وماكرة قد لا تلفت الانتباه إليها حتى يحققوا آمالهم في قطع صلة
الأجيال المسلمة بعقيدتها وتاريخها وتراثها، تارة باسم التطبيع، وتارة باسم تطوير
المناهج، وتارة بعقلية العسكر الأتراك الحاقدة على الإسلام.
فمتى نعي ذلك المخطط الرهيب [1] ؟
إنها دعوة صادقة لمن يهمه الأمر قبل فوات الأوان!
(1) لمن يريد الاستزادة في معرفة المخطط باعتباره نموذجاً لتطوير المناهج في بلداننا فليقرأ
(الخديعة: مآساة التطوير المزعوم للمناهج التعليمية) دراسة أعدها مركز الإعلام العربي بالقاهرة، وكذلك (دعوة لإنقاذ التعليم) لنخبة من الأساتذة المختصين؛ ليعرف أن ما أشرنا إليه ليس إلا جزءاً يسيراً من الكارثة.
دراسات في الشريعة والعقيدة
أصول التربية والتعليم
كما رسمها القرآن
د. أحمد بن شرشال
إن صلاح الإنسان لا يستقيم إلا إذا صلح تعليمه؛ لأن التعليم هو الذي يطبع
المتعلم بالطابع الذي يريده المعلّم، ولا ينفع هذا التعليم إلا إذا رجعنا به إلى التعليم
النبوي في شكله وموضوعه، وفي مادته وصورته، كما كان يتعلم النبي -صلى الله
عليه وسلم- من جبريل، وكما كان يعلم أصحابه رضي الله عنهم فقد صح عنه -
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت معلماً) .
وإن مناهج الدراسة ومقرراتها في الجامعات قد نأت عن هذا وتضمنت مواد
جافة مجردة من الحوافز التي تدفع الطالب للعمل بما علم، ولا تعطي الثمار
المرجوة منها؛ فهي أشبه بالصنعة التي يتعلمها أي إنسان آخر.
ثم هي إن لم تكن واضحة المعالم عند الطالب، ولا هي عند الأستاذ الذي
تصدّر للتدريس، فلا تحدث في نفس الطالب انفعالاً لهذه المادة أو تلك، ولا تولّد
في نفسه حرارة الإيمان، ولا تزوده بزاد التقوى، ولا تحدث في نفسه ذكراً،
بخلاف ما إذا ربطنا صناعة التعليم ومناهجه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهجه وطريقته.
وإذا أردنا أن نصحح اتجاه الأمة فلنبدأ بتصحيح المناهج التعليمية كما رسمها
القرآن الكريم.
ومن ثم كان من الواجب علينا قبل الإقدام على وضع نظم المناهج التعليمية أن
نتلمس هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في التربية والتعليم.
إن صفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم، قد رسم القرآن
معالمها الكبرى، واستقل ببيانها، وفصّلتها السنة النبوية.
قال تعالى في بيان صفة هذا المعلم ومنهجه في سورة البقرة: [كَمَا أََرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاًً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 151] .
وقال في سورة آل عمران: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] [آل عمران: 164] . ومثل هذه الآيةُ الثالثة في سورة الجمعة.
فقد صرحت هذه الآيات بالمنهج العام لأصول التربية والتعليم الذي لا منهج
سواه، والذي لا ينبغي أن يتغير أو يتبدل، وهو منهج أصيل يسعد الإنسان في
دنياه وأخراه؛ لأن منزلَه هو الخالق لهذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير
بدروب نفسه ومنحنياتها.
وقد جاء هذا المنهج مطابقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام وقد حكى القرآن نص
الدعوة فقال: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [البقرة: 129] .
ولقد حقق الله دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ووافقت قدر الله السابق،
ولذلك قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى بي)[1] .
ولقد بيّن القرآن أن هذا المنهج وما تضمنه من مواد لم يكن مقصوراً على
الموجودين مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو صالح لكل من يأتي بعد النبي- صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم، ولم يكن يومئذ قد ولد، فقال: [هُوَ
الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] . [الجمعة: 2، 3] .
والمراد بالآخرين منهم لما يلحقوا بهم: هم كل من يأتي بعد الصحابة رضي
الله عنهم إلى يوم القيامة، فيعلمهم، ويعلم الآخرين الكتاب والحكمة، ويزكيهم
ويزكي الآخرين.
قال القرطبي: (لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمن كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه)[2] .
فمنهج التربية والتعليم في القرآن موصول ومتواصل لا انقطاع فيه، ولذلك
جاء عقب نص دعوة إبراهيم أن من لم يقبل هذا المنهج وانحرف عنه يعد سفيهاً،
فقال عزّ من قائل: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] [البقرة: 130] أي امتهن نفسه
واستخف بها وظلمها. وما أكثر السفهاء اليوم لتنكبهم عن هذا المنهج الرباني، ولن
يكون أحدٌ داخلاً في دعوة إبراهيم وإسماعيل حتى يمتثل ويقبلَ هذا التعليم الجامع
بكامل مفرداته؛ لأن القرآن سماه سفيهاً.
إن الإنسان مهما كان مقامه عالياً ومنصبه سامياً لا يستغني عن التعليم؛ فهذا
نبي الله داود عليه السلام مع حصوله على الملك والنبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه
قال تعالى: [وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ][البقرة: 251] .
وهذا موسى يلتمس من العبد الصالح أن يرافقه ليتعلم الرشد قال تعالى:
[قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلََى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً][الكهف: 66] .
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعرف هذا الكتاب المنزل، ولم يكن يتلو أي
كتاب قبله، ولم يكن يعرف الكتابة.
قال تعالى: [مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ
مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا] [الشورى: 52] .
وقال: [وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لَاّرْتَابَ
المُبْطِلُونَ] [العنكبوت: 48] ، وكان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً -
صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ] . [الأعراف: 157] .
وقد علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه الكتاب. قال تعالى: [وَأَنزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ] [النساء: 113] .
وطلب منه المزيد [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً][طه: 114] .
وذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم ما أمر بطلب الزيادة من
شيء سوى العلم، وكان يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني،
وزدني علماً) وكان يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وقد تضمن هذا المنهج أصول
التعليم: التلاوة، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، ثم التزكية، فهو منهج متكامل
لكل ما يصلح الفرد والمجتمع من جميع الجوانب، ولا يحتاج إلى ما يكمله، وقد
جاء ترتيبه في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغه يكون بتلاوة القرآن، ثم بيان معانيه ثم تعليم الحكمة وبها تحصل التزكية.
ونلاحظ أن جميع الآيات بدأت بذكر الأصل الأول وهو التلاوة؛ لأنها هي
مفتاح كنوز القرآن، ولا عجب في ذلك؛ إذ كانت أول آية نزلت تأمره -صلى الله
عليه وسلم- بالقراءة فقال سبحانه: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]
[العلق: 1-5] .
أولاً: نبدأ بالمَعْلَم الأول بما بدأ الله به في جميع الآيات التي تقدمت، وهي
تلاوة القرآن، ومعناها القراءة المتتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، وأول
صفات هذا المَعْلَم: يتلو عليهم آياتك، أي يقرأ عليهم القرآن، وأصلها من الاتباع،
ومنه قولهم: تلاه إذا تبعه، وهي ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام تأليف القرآن
وترتيبه ومنه قوله تعالى: [وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا][الشمس: 2] .
وقد أمر هذا المعلم صلى الله عليه وسلم أن يتلو القرآن على أصحابه كما
قال تعالى: [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ]
[النمل: 91، 92] .
وقال: [قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن
قَبْلِهِ] [يونس: 16] .
فكان صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة القرآن كما جاء ذلك في قولهم:
(كان يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن)[3] .
وِجيء بالمضارع في قوله: [يَتْلُو] للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر
تلاوته، ولهذا جاء في وصف هذا القرآن: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً
مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] [الزمر: 23] .
من صفات هذا الكتاب أنه يثنّى ويكرر فقوله: [مثاني] بمعنى التكرار
والإعادة، وقد كرر الله الأمر بالقراءة في سورة العلق فتُثنى وتكرر قراءته وأحكامه
وحكمه وأخباره
…
والمراد بالآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة آيات القرآن الكريم، فكان- صلى الله عليه وسلم يتلوها ليحفظوا ألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا الله بتلاوتها.
وبعد أن أمره الله بالقراءة والتلاوة بيّن له صفة التلاوة؛ فعناية الله لنبيه -
صلى الله عليه وسلم لم تنقطع، بل قد رسم القرآن لنبيه كيفية القراءة، فقال:
[فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ][طه: 114] .
وقال في بيان كيفية التلاوة: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ]
…
[القيامة: 16-19] .
وقال: [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى (6) إلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ][الأعلى: 6، 7] .
المعلّم الأول للنبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل؛ كما بيّنه القرآن،
فقال: [إنْ هُوَ إلَاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى (5) ][النجم: 4، 5] .
فقد كان صلى الله عليه وسلم يبادر إلى أخذ الوحي، ويسابق الملك في
قراءته قبل أن ينتهي جبريل المعلّم، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن
يستمع وينصت حتى ينتهي جبريل من القراءة، فإذا انتهى أمره أن يتابع القراءة
بالكيفية التي قرأ بها جبريل المعلم، ولذلك أقرأ أصحابه رضي الله عنهم بهذه
الكيفية وأمرهم أن يقرأوا بها فقال: (اقرأوا كما علمتم)[4] . قال الحافظ ابن كثير: (كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على
حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه) [5] .
فبين القرآن له كيفية التلقي فقال: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]
[القيامة: 16-19] ، أي فإذا قرأه جبريل عليك وانتهى فاتبع قراءته؛ فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة، ثم نهاه عن السرعة والعجلة في التلاوة، فقال: [فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً (114) ] [طه: 114] ، بل أنصت واستمع؛ فإذا فرغ جبريل المعلم من قراءته عليك؛ فاقرأه بعده.
قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: (كان صلى الله عليه وسلم إذا
نزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عُرِفَ في تحريكه شفتيه يتلقى
أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله هذه
الآية: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ] مخافة أن ينساه) .
فيجب في طلب العلم التأني والتثبت في تلقي العلم، وألا يحمله الحرص على
مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه، فأمره الله بترك الاستعجال في تلاوة
القرآن حتى ينتهي جبريل، ثم يقرأه بعد فراغه عليه [6] .
وقد وعده الله وطمأنه وأخبره بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها فقال: [سَنُقْرِئُكَ
فَلا تَنسَى (6) إلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى] [الأعلى: 6، 7]، وقال:[إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ] .
ثم بيّن له القرآن أدب التلقي فقال: [وَإنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ]
[النمل: 6] .
ومادة (تلقى) من اللقيا؛ فيها لقاء بين اثنين هما المتلقي بكسر القاف،
والمتلقّى منه بفتح القاف، والمتلقي هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم،
والمتلقى منه هو الله تعالى [7]، ولكن الواسطة جبريل المعلم؛ لأن الله قال: [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ] [الشورى: 51] .
وقال تعالى في بيان هذا المعلم: [إنْ هُوَ إلَاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ
القُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى] [النجم: 4-6] .
هكذا علمه الله كيف يتلقى الوحي: [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيماً] [النساء: 113] .
ثم بعد ذلك لم يكله إلى نفسه وحفظه، بل أرسل إليه المعلم جبريل يعارضه
القرآن ويدارسه في كلة ليلة من رمضان، وليس معنى ذلك أيضاً أن يتخلى عنه
طيلة أشهر السنة إلا في رمضان؛ بل كان ينزل عليه في كل الأحوال كما قال
تعالى: [وَلا يَاًتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً][الفرقان: 33] .
ولذلك نزل عليه القرآن في الحضر والسفر والليل والنهار
…
إلخ.
وإنما المدارسة والعرض والسماع كان في رمضان من كل عام، وفي العام
الذي قبض فيه عارضه بالقرآن مرتين.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: (كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في
كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح
المرسلة) [8] .
وفي حديث فاطمة عند البخاري في فضائل القرآن قال رسول الله: (إن
جبريل يعارض بالقرآن في كل سنة وإنه عارضني العام مرتين) ، ومعنى هذا أن
جبريل يعرض القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ومن ثم أمر
بالإنصات والاستماع كما تقدم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن
وجبريل يسمع؛ يدل على هذا رواية عن ابن عباس: (كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- أجود بالخير، وأجود ما يكون في رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل
ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن) .
هذه هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي القرآن، وتسمى:
(العرض والسماع) .
فعلينا أن نقتدي به وبفعله في قراءة القرآن، وقد وجه الله عباده إلى هذا
الأدب بالاستماع والإنصات فقال: [وَإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ] [الأعراف: 204]، وبين لهم شروط الانتفاع بالقرآن فقال: [إنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: 37] .
فيحصل الانتفاع بالقرآن لمن كان له قلب حتى يعقل الكلام ويتدبره، ولمن
وجه سمعه، وأصغى إلى ما يقال له، وهو حاضر القلب غير غائب، قال ابن
قتيبة: (استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه)[9] .
قال سفيان بن عيينة: (أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل،
ثم النشر) [10] .
ومن منهج النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته في التلاوة أنه كان يرتل
ترتيلاً امتثالاً لأمر الله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً][المزمل: 4] بعد أن نهاه عن
العجلة أمره بترتيل القرآن كما أنزله الله مرتلاً، وأمره أن يقرأه على الناس مرتلاً؛
فالترتيل أمر ملحوظ في النزول كالقراءة نفسها، وقد بيّن ذلك القرآن نفسه فقال:
[وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً][الإسراء: 106] .
ومعنى قوله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] أي ترسّل في تلاوته، وأحسِنْ تأليف
حروفه بالتأني في قراءته، وتبيين حروفه وحركاته ليكون ذلك عوناً على فهم
القرآن وتدبره، كما سيأتي. وأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: (الترتيل
هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف) [11] .
وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، وقد كانت قراءته -صلى
الله عليه وسلم- ترتيلاً؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان -
صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها) [12] .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة النبي -صلى الله عليه
وسلم- (فإذا هي تَنْعَتُ قراءة مفسرة حرفاً حرفاً)[13] .
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه: باب مدّ القراءة يصف فيها قراءة النبي-
صلى الله عليه وسلم، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه
عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يمد صوته مدّاً) .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن ما لك رضي الله عنه أنه سئل:
كيف كانت قراءة النبي؟ فقال: (كانت مدّاً) ثم قرأ: [بسم الله الرحمن الرحيم]
يمد [بسم الله] ويمد بـ[الرحمن] ويمد بـ[الرحيم] .
وقد أخذ عنه صفة التلاوة وكيفيتها أصحابه؛ فهذا عبد الله بن مسعود -رضي
الله عنه- كان يقرئ رجلاً، فقرأ الرجل:[إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]
[التوبة: 60] مرسلة، فقال ابن مسعود: (ما هكذا أقرأنيها النبي -صلى الله عليه
وسلم-، فقال الرجل: (وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها: (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين) فمدّها) [14] .
فهذا عبد الله بن مسعود الذي هو أشبه الناس سمتاً برسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أنكر على الرجل أن يقرأ كلمة: (الفقراء) من غير مدّ، وبيّن للرجل
أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ بهذه الصفة التي قرأ بها الرجل، وبيّن عبد
الله بن مسعود للرجل صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للكلمة ومدّها، ولم
يقرّه على ترك المدّ مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة
ومعناها، فدلّ على أن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما قال زيد بن
ثابت.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقرأوا القرآن كما علّمهم.
أخرج ابن جرير الطبري عن عبد الله بن مسعود قال: قال علي رضي الله عنهما:
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرأوا كما علمتم)[15] .
فهذه النصوص المتوافرة في صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم دلت
على أن قراءة القرآن بالكيفية التي قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم توقيفية فلا
يجوز العدول عنها ولا الإخلال بها.
وإذا انتقلنا إلى باب الوقف والابتداء في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
نجد نصوصاً صريحة تبين عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالوقف واختياره
لمواضع يحسن الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وقد تعلم ذلك من جبريل المعلم.
وقد وصفت أم سلمة رضي الله عنها عناية النبي صلى الله عليه وسلم
بالوصل والوقف علمياً وعملياً.
روي عنها أنها سئلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هي
تنعت قراءة مفسرةً حرفاً حرفاً، وقالت: كان يقطع قراءته يقول: (الحمد لله رب
العالمين) ثم يقف، (الرحمن الرحيم) ثم يقف، وكان يقرأ (مالك يوم الدين) .
وفي لفظ لأبي داود: (كان يقطعُ قراءته آية آية)[16] .
وقد أخذ هذه الصفة وهذه الكيفية في تلاوة القرآن الصحابة رضي الله عنهم.
يذكر ميمون بن مهران عن الصحابة أنهم كانوا يراعون في الوصل والوقف تمام
المعنى فقال: (إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتماً عليه ألا يقصر عن
العشر إنما كانت القراءة تقرأ القصص إن طالت أو قصرت) . وقال عبد الله بن أبي
الهذيل: (إذا قرأ أحدهم الآية فلا يقطعها حتى يتمها)[17] .
هذا هو معنى المعلم الأول في أصول التربية والتعليم كما رسمه القرآن في
قوله: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته][الجمعة: 2] ، وهذا هو منهج النبي -صلى الله عليه
وسلم- في صفة التلاوة وكيفيتها، فعلينا أن نقتدي به وبفعله.
(1) تفسير ابن كثير (1/197) ، القرطبي (1/124) .
(2)
الجامع، للقرطبي (9/83) .
(3)
صحيح البخاري (7/162) .
(4)
فتح الباري (9/23) ، المختصر (1/183) .
(5)
تفسير ابن كثير (3/185) .
(6)
انظر: بدائع التفسير (5/82) .
(7)
سنن القراءة ص 45.
(8)
فتح الباري (1/30) .
(9)
غريب القرآن ص419، بدائع التفسير (4/191) .
(10)
الجامع للقرطبي (6/96) .
(11)
تفسير ابن كثير (4/459) ، الجامع للقرطبي (10/36) .
(12)
تفسير ابن كثير (4/451) .
(13)
رواه الترمذي في أبواب التفسير.
(14)
الإتقان (1/9) .
(15)
فتح الباري (9/23) .
(16)
غاية المريد ص 112، ابن كثير (4/459) .
(17)
النشر (1/240) ، المكتفي ص 135.
دراسات في الشريعة والعقيدة
عيد الأسبوع.. يوم الجمعة
خصائصه وفضائله وأحكامه وآدابه
(1من2)
بقلم: عبد اللطيف بن محمد الحسن
فضل الله تبارك وتعالى يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، ونوّه بأمره
وعظم شأنه فقال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الجمعة: 9] .
وقال تعالى [وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ][البروج: 3] ، وفُسِّر الشاهد بيوم الجمعة [1] ،
فكان إقسام الله به دليلاً على شرفه وفضله، وهذا أمر واضح.
وقد شرعت صلاة الجمعة، واتّخِذَت لها آداب، وخصائص تزيد في جلالها،
وصارت من أعلى الفرائض، وأعظم الشعائر.
والرجل المشغول المكدود يحتاج إلى يوم يتفرغ فيه باله للعبادة والقربات،
ويجلو فيه صدأ القلب الحاصل من الكد ومعاناة الحياة، فكانت هذه الصلاة من
رحمة الله تعالى بهذه الأمة، وكانت الجمعة ميزان الأسبوع، فمن صح له يوم
جمعته وسَلِمَ، سلمت له سائر جمعته [2] .
ولم يزل المسلمون يعظمون هذا اليوم، ويخصونه بمزيد من الاهتمام، حتى
أولئك الذين لا يحافظون على الصلوات الأخرى تراهم يواظبون على صلاة الجمعة
على الرغم من تفريطهم في غيرها.
والحق أن صلاة الجمعة ذات أثر عظيم في حياة المسلمين، فالمنبر مصدر
تعليم وتثقيف وإصلاح، واجتماع المسلمين منبع أخوة وتآلف. كما أن للجمعة
والجماعة فضلاً في وحدة المسلمين في العبادات، وإحكام الدين من الانحراف وبقاء
مظاهر الحياة الإسلامية، وحفظ المسلمين من الانسلاخ، ومزيد من الفرقة، كما
في الأديان الأخرى [3] .
ولكنك ترى أن اهتمام المسلمين بهذه الشعيرة تضاءل، وصارت كغيرها من
الشعائر تؤدى بصفة لا أثر لها في نفس صاحبها، خاصة مع تقصير كثير من
الخطباء في أداء واجبهم.
ولإحياء جذوة الاهتمام بهذه الفريضة العظيمة كانت هذه السطور، وهي
متضمنة بعض خصائص الجمعة، وفضائلها، والوعيد في تركها، وما ينبغي
للتهيؤ لها، وشروطها، وأحكامها، وآداب استماع خطبتها، أسأل الله أن ينفع بها؛
إنه سميع مجيب الدعاء [4] .
أولاً: سبب تسمية هذا اليوم بالجمعة، واختصاص الأمة به:
كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية يوم (العَروبة) بفتح العين، وسمي بالجمعة؛ لأن خلْق آدم جُمع فيه، لحديث سلمان مرفوعاً، وفيه: (يوم الجمعة به جمع
أبوك أو أبوكم) [5] .
ولأن أهل المدينة اجتمعوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى
بهم مصعب بن عمير، وسموها جمعة. وقد فرضت بمكة، ولم يتمكن النبي -
صلى الله عليه وسلم من فعلها، وقد هدى الله عز وجل هذه الأمة لهذا اليوم. قال
رسول الله: (أضل الله عز وجل عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله عز وجل بنا، فهدانا ليوم الجمعة فجعل
الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة، ونحن الآخرون من أهل
الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق) [6] .
وهي من النعم التي يحسدنا عليها اليهود.
ثانياً: من خصائص يوم الجمعة:
1-
أنه يوم عيد متكرر: فيحرم صومه منفرداً؛ مخالفة لليهود، وليتقوى
على الطاعات الخاصة به من صلاة ودعاء ونحوه. قال: (إن يوم الجمعة يوم عيد؛ فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده)[7] .
2-
أنه يوم المزيد يتجلى الله فيه للمؤمنين في الجنة: كما في حديث أنس
الطويل وفي آخره: (فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا
نظراً إلى ربهم عز وجل وكرامته ولذلك دعي يوم المزيد) [8] .
3-
كراهية تخصيص ليلة الجمعة بالقيام: لحديث النبي: (لا تختصوا ليلة
الجمعة بقيام من بين الليالي،....) [9] الحديث، ومما يدل عليه الحديث بطلانُ
ما يسمى: (صلاة الرغائب) وهي صلاة على صفة مخصوصة يجعلونها في أول
ليلة جمعة من رجب.
4-
قراءة: [الّم (1) تَنزِيلُ][السجدة: 1، 2] و [هَلْ أَتَى عَلَى
الإنسَانِ] [الإنسان: 1] في صلاة الفجر يوم الجمعة: كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقرؤها [10] ؛ ولعل ذلك لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم، وأحوال
القيامة؛ لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة، وليس المقصود السجدة التي فيها [11] .
5-
فضل التبكير إلى الجمعة وغسل الجنابة يومها: قال: (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية،
فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً، ومن راح في
الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب
بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) [12] فجعل التبكير إلى
الصلاة مثل التقرب إلى الله بالأموال، فيكون المبكر مثل من يجمع بين عبادتين:
بدنية ومالية، كما يحصل يوم الأضحى.
والمراد بطي الصحف: طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة،
دون غيرها من سماع الخطبة
…
ونحوها. والراجح في الساعة الأولى أنها من
أول النهار. والله أعلم [13] .
6-
فيه ساعة الإجابة: قال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم
يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه) ، وأشار بيده يقللها [14] .
وهذه الساعة في قول أكثر السلف هي آخر ساعة بعد العصر، وعلى هذا تدل
أكثر الأحاديث، ومنها حديث:(فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)[15] .
وجاء في حديث آخر عند مسلم [16] أنها: (ما بين أن يجلس الإمام على
المنبر إلى أن تقضى الصلاة) ، وهذه ساعة أخرى ترجى فيها إجابة الدعاء.
7-
إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: لحديث:
(من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه
الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ، فقالوا: يا
رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا، وقد أَرِمْت؟ يعني: قد بليت قال: إن الله
عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم) [17]
فاجتمعت الصلاة على سيد الأنام، في خير الأيام؛ وهو الذي دل أمته على كل خير.
8-
فضل الأعمال الصالحة فيه: قال: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله
من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة،
وأعتق رقبة) [18] . والمراد: أن صيامه وافق يوم الجمعة بدون قصد.
9-
أنه يوم تقوم فيه الساعة: لحديث النبي: (
…
ولا تقوم الساعة إلا في
يوم الجمعة) [19] .
10-
(من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي فتنة القبر)[20] .
11-
قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة، ويوم الجمعة: قال أبو سعيد رضي
الله عنه: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له فيما بينه وبين البيت
العتيق) [21] ، وهو في حكم المرفوع الذي قاله؛ لأن هذا لا يمكن أن يقال بالرأي. وأما قراءة سورة الدخان فلم يصح الحديث الوارد فيها [22] .
12-
جواز الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، دون سائر الأيام: كما في
أحاديث عدة: (ثم يصلي ما كتب له)[23] .
ثالثاً: فضائل يوم الجمعة وما جاء من الوعيد في تركها:
1-
فضل المشي إلى الجمعة ومضاعفة أجره: قال: (من غسّل يوم الجمعة،
واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى، ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغُ،
كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها) [24] .
2-
الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها وزيادة ثلاثة أيام: قال: (من ثم أتى
الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه،
غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام) [25] .
3-
وعيد من ترك الجمعات: قال: (لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو
ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) [26] .
رابعاً: التهيؤ للجمعة والاهتمام بها: ويتمثل ذلك في أمور:
1-
الاشتغال عن القيلولة والغداء بالتهيؤ والاستعداد للجمعة:
كان الصحابة يتغدون، ويستريحون قبل الزوال كل يوم، إلا يوم الجمعة،
فكانوا ينشغلون بالاستعداد للجمعة، والتبكير إليها، فلا يبقى لهم وقت يسع للقيلولة
قبل صلاة الجمعة. (والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، وإن لم يكن معها نوم) .
قال سهل رضي الله عنه رضي الله عنه: (ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد
الجمعة) [27] .
2-
الغسل:
اختلف في حكمه بين الوجوب والاستحباب، فاستدل الموجبون: بقوله:
(الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)[28]، وقوله: (إذا جاء أحدكم الجمعة
فليغتسل) [29] .
واستدل القائلون بالاستحباب بقوله: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت،
ومن اغتسل فالغسل أفضل) [30] فينبغي الاغتسال إدراكاً للفضل، وخروجاً من
الخلاف.
3-
استعمال السواك والطيب:
قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمس طيباً
إن وجد) [31] . قال الحافظ: قوله: (أن يستن) : أي يدلك أسنانه بالسواك.
4-
تخصيص لباس للجمعة:
عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على
المنبر في يوم الجمعة: (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوب
مهنته) .
خامساً: شروط صلاة الجمعة: وهي نوعان:
أ- شروط الوجوب:
1-
الإسلام. 2- والعقل:
وهما شرطان في جميع الأحكام الشرعية، باتفاق الأمة، والأدلة عليها
متوافرة.
3-
البلوغ:
عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رواح الجمعة واجب على
كل محتلم) [32] .
4-
الحرية. 5- والذكورية. 6- وعدم العذر:
قال النبي: (الجمعة حق واجب على كل مسلم، في جماعة، إلا أربعة:
عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض) [33] .
7-
الإقامة: لحديث: (ليس على مسافر جمعة)[34] وعلى هذا قول الأئمة
الأربعة [35] .
8-
أن لا يكون في الطريق مطر، ولا وحل:
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لمؤذن في يوم مطير: إذا قلت: (أشهد
أن محمداً رسول الله) ، فلا تقل:(حي على الصلاة)، قل:(صلوا في بيوتكم) ،
فكأن الناس استنكروا! قال: (فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني
كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض) وبوّب البخاري: باب الرخصة
إن لم يحضر الجمعة في المطر [36] .
9-
مسألة: اشتراط العدد:
في المسألة خمسة عشر قولاً ذكرها ابن حجر في الفتح، وذكر أن القول
باشتراط الكثير بغير قيد: هو أرجحها من حيث الدليل [37] . واختار الشوكاني
أنها تصح باثنين، كسائر الصلوات [38] . ورجح بعض العلماء أنها تصح بثلاثة:
الإمام واثنين معه، وتجب عليهم [39] .
10-
مسألة: اشتراط المدن لإقامة الجمعة:
لا يشترط لإقامة الجمعة أن تكون في المدن دون غيرها، بل تقام في القرى
أيضاً، قال ابن عباس: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس، بجواثى من البحرين [40] وجواثى:
قرية، ولم يجمّعوا إلا بأمر رسول الله. وسيأتي دليل آخر في المسألة التالية.
ومن الناس من وقع في الوسواس فتراه يصلي الظهر بعد الجمعة إذا كان في
قرية، خوفاً من عدم صحة الجمعة، وهذه بدعة! !
وضابط القرية التي تقام فيها الجمعة: أن تكون مبنية بما جرت به العادة،
وأن تكون مجتمعة البناء بما هو مألوف [41] .
11-
مسألة: اشتراط إذن السلطان:
استنبط الزهري رحمه الله من حديث: (كلكم راع) أن إذن السلطان لا
يشترط [42] وقال ابن قدامة: الصحيح أنه ليس بشرط، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور. ثم ذكر من الأدلة: صلاة علي زمن حصر عثمان، ولم يُنكر. وقول عثمان:(إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم)[43] . ولأنها من فرائض الأعيان، ولأنها صلاة أشبهت الصلوات [44] .
ب- شروط الصحة:
1-
تقدم الخطبة على الصلاة: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي
الكلام عنها مفصلاً، في الحديث عن الخطبة.
2-
الوقت: عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة
حين تميل الشمس [45] وهذا يدل على أن وقت الجمعة: عند زوال الشمس، أي: وقت صلاة الظهر، وعن سلمة قال: (كنا نصلي مع النبي -صلى الله عليه
وسلم-، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه) [46] وهذا يدل على أنهم
كانوا يصلونها في أول الوقت عند الزوال، بلا إبراد، بخلاف ما كانوا يفعلون في
صلاة الظهر عند اشتداد الحر.
وسئل جابر: متى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟
قال: (كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها) زاد عبد الله في حديثه: (حين
تزول الشمس، يعني: النواضح) [47] ، وهذا دليل لمن يقول بصحة الجمعة قبل
الزوال؛ فإن الخطبة والصلاة لو كانتا بعد الزوال لما أمكن بحال أن تكون إراحة
النواضح عند الزوال، بل بعده بكثير [48] .
3-
تحديد المكان الذي تؤتى منه الجمعة إذا كان الرجل في مكان لا تقام فيه
الجمعة:
جاء في خبر الأعمى: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) فقال: نعم، قال:
(أجب) فإذا كان هذا في مطلق الجماعة، فالقول به في خصوصية الجمعة أوْلى.
وهذا الأمر في حق من كان في مكان لا تقام فيه الجمعة، أما من كان في بلد
تقام فيه الجمعة فعليه الإجابة سمع النداء أم لم يسمع، لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الجمعة: 9]
(1) رواه أحمد موقوفاً على أبي هريرة، وصحح الشيخ شاكر إسناده، المسند 2/298.
(2)
انظر: زاد المعاد 1/398، والأركان الأربعة، لأبي الأعلى المودودي، ص 59، 60.
(3)
انظر: الأركان الأربعة، ص 61، 62.
(4)
أصل هذا الموضوع رسالة علمية بعنوان: (أحاديث الجمعة دراسة نقدية وفقهية) لعبد القدوس محمد نذير، مع زيادات كثيرة، ومباحث عديدة.
(5)
رواه ابن خزيمة برقم (1732) 3/118 قال د الأعظمي: إسناده حسن وأخرجه أحمد والطبراني.
(6)
رواه مسلم برقم (856) .
(7)
رواه أحمد، وقال شاكر: إسناده صحيح، المسند 15/175، ح/8012.
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/58 وأخرجه الطبراني في الأوسط، (مجمع البحرين ح/4879) ، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: بإسناد جيد، وانظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني
1/291، ح 694.
(9)
رواه مسلم برقم (1144) .
(10)
البخاري برقم (891) .
(11)
زاد المعاد، 1/375.
(12)
البخاري برقم (881) .
(13)
راجع بحثاً فيها في زاد المعاد، 1/399 407.
(14)
رواه البخاري برقم (935) .
(15)
رواه النسائي في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1316) .
(16)
رواه مسلم برقم (853) .
(17)
مسند أحمد (4/8) ، وسنده صحيح.
(18)
أخرجه ابن حبان، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان برقم (2771) وقال المحقق: إسناده قوي وصححه الألباني في صحيح الجامع،.
(3252)
.
(19)
أخرجه مسلم برقم (854) .
(20)
رواه أحمد في المسند (2/202)، وقال شاكر: إسناده صحيح، ح/ 7051.
(21)
رواه الدارمي برقم (3283) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
(6471)
.
(22)
الحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأورده الألباني في ضعيف الترمذي (545) .
(23)
البخاري، حديث (883) .
(24)
رواه أبو داود برقم (345) وأورده الألباني في صحيح أبي داود (333) .
(25)
أخرجه مسلم برقم (857) .
(26)
رواه مسلم برقم (865) .
(27)
رواه البخاري برقم (939) ، وانظر بمعناه الحديثين بعده في الصحيح.
(28)
رواه البخاري برقم (858) في الأذان، باب وضوء الصبيان.
(29)
رواه البخاري برقم: (877) .
(30)
سنن النسائي في كتاب الجمعة، وأورده الألباني في صحيح النسائي برقم (1307) .
(31)
رواه البخاري برقم: (880) .
(32)
أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، وأورده في صحيح النسائي برقم.
(1299)
.
(33)
أخرجه أبو داود برقم (1076) ، وأورده في صحيح أبي داود (942) .
(34)
انظر صحيح الجامع للألباني برقم: (5405) .
(35)
انظر المغني لابن قدامة 2/338.
(36)
أخرجه البخاري برقم (901) الفتح، 2/446.
(37)
الفتح 2/490.
(38)
نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، 3/285.
(39)
الشيخ ابن باز، انظر: فتاوى إسلامية، 1/425.
(40)
رواه البخاري، ح/892.
(41)
المغني 2/327.
(42)
الحديث رواه البخاري برقم (893) ، وانظر الفتح (2/443) .
(43)
البخاري برقم 695.
(44)
انظر المغني، 2/330.
(45)
أخرجه البخاري برقم: (904) .
(46)
رواه البخاري، 2/386، ونحوه لمسلم برقم:(860) .
(47)
أخرجه مسلم برقم: (858) والنواضح: جمع ناضح: الصب، والمراد به: البعير الذي يستقى به الماء.
(48)
وذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية الإبراد في صلاة الجمعة أيضاً، ومال إليه البخاري، ولم يجزم به، ومنع ابن المنير بناء عليه أداءها قبل الزوال؛ إذ لو جاز تقديمها قبل الزوال، لأغنى عن الإبراد بها، انظر: باب: إذا اشتد الحر يوم الجمعة، من كتاب الجمعة في الصحيح، وشرحه في الفتح، 2/451.