المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية - مجلة البيان - جـ ١٢٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية

المسلمون والعالم

‌أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية

د. باسم خفاجي

تعكس هذه الدراسة أهمية الدور الذي تلعبه المراكز الفكرية في صياغة

وتوجيه السياسة الخارجية في الإدارة الأمريكية، كما يظهر من بحث هذا الموضوع

أن اللوبي اليهودي قد نجح في توفير عدد من المؤسسات الفكرية المتخصصة في

شؤون الشرق الأوسط. وتزود هذه المراكز السياسيين في واشنطن بالبحوث

والدراسات في كافة أمور السياسة الخارجية دون منافسة تذكر في ذلك من قبل

المؤسسات الفكرية الإسلامية التي تعد على أصابع اليد الواحدة، وتفتقر إلى

القدرات المالية والبشرية التي تسمح بالمنافسة الحقيقية في مجال الأفكار والرؤى،

ولذلك لا بد للإسلاميين من السعي الجاد نحو تكوين العديد من المراكز الفكرية

القادرة على مواجهة سيل البحوث والدراسات المعادية للإسلام والتي تعج بها ساحة

السياسة الخارجية الأمريكية، وعندها فقط يمكننا أن نحاول إعادة التوازن إلى

الرؤى الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، والله غالب على أمره ولو كره المشركون.

أثر المراكز الفكرية:

تتأثر القيادات السياسية في العالم بما يقدم لها من دراسات وأبحاث سياسية

وفكرية، ومن المفيد دراسة العلاقة بين القيادات السياسية وبين الجهات التي تتولى

تقديم النصح لها لمعرفة كيف يصنع القرار السياسي في دولة ما [1] ، وقد انتشرت

مراكز الأبحاث الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة بشكل كبير منذ بداية

السبعينات من القرن الميلادي الحالي، وظهر تأثير هذه المراكز في صناعة القرار

الخاص بالسياسة الخارجية الأمريكية بشكل واضح وملموس في السنوات الأخيرة.

ويبلغ عدد المؤسسات الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية حسب آخر

الإحصاءات ما يزيد على 1200 مركز ومؤسسة، وأغلب المراكز الفكرية في

أمريكا هي مؤسسات غير ربحية تضم مجموعة متخصصة من الأكاديميين

والسياسيين الذين يشتركون في الاهتمام بمجموعة من المواقف والقضايا السياسية

العامة، ويعملون بشكل منظم من أجل التعريف بهذه القضايا، وزيادة الوعي

بجوانبها المتعددة، وفيما عدا ذلك القاسم المشترك، فإن الكثير من الأكاديميين قد

وجدوا صعوبة في وضع تعريف محدد للمراكز الفكرية في أمريكا، بل إن بعض

الباحثين يرى عدم إمكانية وجود تعريف واحد يجمع ويشرح دور وأهداف كل هذه

المؤسسات.

ويقسم الباحثون المراكز الفكرية في أمريكا إلى ثلاثة أنواع: جامعات بلا

طلاب (أي مؤسسات تقدم الأبحاث الأكاديمية المتخصصة في القضايا السياسية)

ونشأت هذه النوعية في بدايات هذا القرن ومنها (مجلس العلاقات الخارجية) الذي

تطور ليصبح أبرز المراكز الرسمية المتخصصة في العلاقات الخارجية وتصدر

عنه دورية مشهورة هي (شؤون خارجية) وهو يهتم بدراسة المشكلات التي تقابل

المجتمع الأمريكي داخلياًً وخارجياًً وتقديم الحلول لها، ومؤسسات استشارية (وهي

المراكز التي تقدم حلولاً علمية وخطوات تنفيذية واستثمارات متخصصة للتعامل مع

المشكلات السياسية التي تعرض للإدارة الأمريكية) ، ونشأت بعد الحرب العالمية

الثانية. مراكز ضغط سياسية (وهي المراكز الفكرية التي تستخدم الدراسات

والبحوث والوسائل الأخرى كطرق ضغط مباشر على الإدارة الأمريكية للتأثير على

صناعة القرار السياسي فيها) . وحدثت هذه المراكز في السنوات الأخيرة. ويجمع

أكثر الباحثين على أن السنوات الأخيرة قد شهدت تنامياً كبيراً في النوع الثالث من

المراكز الفكرية التي تعمل كمؤسسات ضغط سياسية في مقابل تناقص عدد المراكز

الفكرية المتخصصة في البحث العلمي والأكاديمي.

وقد أبدت هذه المؤسسات الجديدة رغبة واضحة في ممارسة الضغط السياسي

للوصول إلى تغيير توجهات السياسة الأمريكية بما يخدم أهداف هذه المؤسسات.

ولعل من أبرز هذه المؤسسات الفكرية التي دعمت هذه الاتجاه الجديد هي مؤسسة

التراث Heritage Foundation التي ارتبطت بالتيار المحافظ في عهد الرئيس

الأمريكي ريجان [2] .

كما ظهر في الوقت نفسه مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، Center

for Strategic and International Studies الذي ضم بين أعضائه نخبة

من الشخصيات السياسية البارزة من بينها زبيجنيو بريجنسكي، وهنري كيسنجر،

وهارولد براون، ولعل من أبرز المراكز الفكرية من هذا النوع الثالث (مؤسسات

الضغط السياسي الفكرية) الخاصة بالشرق الأوسط: معهد واشنطن لسياسات الشرق

الأدنى، Washington Inslitule For Near East Policy الذي أنشئ في

عام 1985م ليتبنى الدفاع عن المصالح السياسية الإسرائيلية ودفع قضايا واهتمامات

إسرائيل في الإدارة الأمريكية، كما ظهر في السنوات الأخيرة أيضاً (المعهد

اليهودي لشؤون الأمن القومي) Jewish Institute for National Security

Affairs الذي يعمل كغطاء للدعاية لإسرائيل في المجالات العسكرية والاستشارات

الأمنية.

العلاقة بين المراكز الفكرية والإدارات الأمريكية:

يذكر بريجنسكي في مذكراته أن أغلب مناصب الشؤون الخارجية في الإدارة

الأمريكية في عهد كارتر كانت من نصيب خبراء المراكز الفكرية، فمن بين

الشخصيات المعروفة في مركز (الثلاثي الجانبي الفكري) Trilateral

Commissioners التي تولت مناصب سياسية هامة في عصر كارتر كان هناك

سيروس فانس وزير الخارجية، وأندرو يانج سفير الولايات المتحدة في الأمم

المتحدة، وزيبيجنيو بريجنسكي مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي. كما عمل ما

يزيد عن 55 خبيراً من مجلس العلاقات الخارجية Council on Forergn

Affairs في إدارة كارتر، وكان من بينهم فيليب حبيب مساعد وزير الخارجية،

وستانزفيلد تيرنر مدير وكالة المخابرات المركزية.

أما في عهد ريجان فقد عمل أكثر من 200 خبير من خبراء المراكز الفكرية

الأمريكية في الإدارات المختلفة للحكومة الأمريكية، كان من بينهم أكثر من 55

خبيراً من معهد هوفر Hoover Institute و 36 من مؤسسة التراث، و34 من

المعهد الأمريكي للاستثمار Amcrican Enterprise Institute و32 من لجنة

الأخطار الحالية Comnritiee On the Prescnt Danger و 18 من مركز

الدراسات الدولية والاستراتيجية Center for Strategic and

International Studies [3] .

أما في عهد كلينتون فقد استمرت الاستفادة من خبراء المراكز الفكرية في عدد

من الوزارات والمناصب العليا في الإدارة الأمريكية، ولكن اختلف هذا المعهد عن

سابقيه بظهور الذراع الفكري الإسرائيلي في واشنطن، وهو معهد واشنطن

لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute for Near East Policy

كقوة مؤثرة في السياسة الخارجية الأمريكية، وقامت إدارة كلينتون باختيار مدير

المعهد السابق مارتن إنديك ليشغل منصب مدير شؤون الشرق الأوسط بمجلس الأمن

القومي، ولكي يتولى تمثيل وجهة النظر الأمريكية في مباحثات السلام، وصياغة

سياسات الشرق الأوسط.

تمويل المؤسسات الفكرية:

تتميز المؤسسات الفكرية الأمريكية بميزانياتها الضخمة مقارنة بالمراكز

الفكرية في باقي أنحاء العالم. ويذكر أحد السياسيين الأمريكيين السابقين أن إجمالي

الميزانية السنوية لأكبر عشر مراكز فكرية في أمريكا تتجاوز 500 مليون دولار.

ويتم تمويل معظم هذه المؤسسات من الهبات والمنح التي تقدم للمراكز سواء من

أفراد أو مؤسسات خيرية أو الحكومة الأمريكية التي تتعاقد مع المراكز الفكرية للقيام

بأبحاث معينة مقابل مبالغ مالية محددة.

أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية:

ينقل الأستاذ أحمد منصور في كتابه: (أضواء على السياسة الأمريكية في

الشرق الأوسط) رأي الدكتور روبرت كرين مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق

نيكسون في أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية فيقول: تلعب

هذه المراكز دوراً هاماً في الانتخابات الرئاسية فضلاً عن انتخابات مجلس الشيوخ

والنواب، إلا أن دورها في الانتخابات الرئاسية أخطر، ولا يستطيع رئيس

أمريكي الآن أو مستقبلاً الوصول إلى مقعد الرئاسة دون مساعدة هذه المراكز التي

كان لها دور بارز وملحوظ في وصول الرئيس كلينتون إلى السلطة رغم تفوق

الرئيس السابق بوش عليه من ناحية الخبرة والتاريخ السياسي [4] .

وتتعدد الوسائل التي تستخدمها المراكز الفكرية في التأثير على مجريات

السياسة الخارجية الأمريكية، وتختلف هذه الوسائل من مركز فكري لآخر، كما

أنها تتغير تبعاً لطبيعة القضية المطروحة، وملاءمة أسلوب بعينه للتعامل معها،

وكذلك نوعية المخاطب والرغبة المطلوبة في التأثير. وفيما يلي سرد لنماذج من

أبرز الوسائل التي تتبعها المؤسسات الفكرية للتأثير على صناعة قرارات السياسة

الخارجية الأمريكية:

مساعدة المرشحين في الانتخابات:

تقوم كثير من المراكز الفكرية بتقديم أفكارها إلى المرشحين للمقاعد النيابية

وكذلك لمناصب الإدارة الحكومية في محاولات مبكرة لاجتذاب مساندة المرشحين في

حال فوزهم في الانتخابات أو الترشيحات للمناصب الحكومية.

ولاستخدام هذه الوسيلة الفعالة فإن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

Washington Institute for Near East Policy، يقوم كل أربع سنوات

بإعداد ورشة عمل يشارك فيها عدد كبير من السياسيين والأكاديميين لوضع مشروع

(التصور العام لسياسة الحكومة المقبلة تجاه الشرق الأوسط) . وتعد هذه الدراسة

بشكل عملي ومنظم، وتقدم إلى الإدارة الجديدة للبيت الأبيض مرفقة بتزكيات

الشخصيات السياسية الكبرى في أمريكا مما يعطي هذه الدراسة قيمة سياسية كبيرة.

وتمثل هذه الدراسة في حقيقتها ورقة ضغط مباشرة على الإدارة الجديدة لاتباع

سياسة محددة تجاه الشرق الأوسط تصب في الغالب في كل ما من شأنه خدمة

المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وقد قدمت أحدث دراسة من هذا النوع في بداية

1957م، بعنوان: (العمل لبناء السلام والأمن في الشرق الأوسط: التصور

الأمريكي) ، وأرفقت بتزكيات وثناء أكثر من 40 شخصية سياسية من أعضاء

ورشة العمل. وتركز الدراسة على ثلاثة محاور رئيسة هي: الخليج العربي،

والعلاقات العربية الإسرائيلية، واتفاقات التعاون الثنائي مع الشركاء في المنطقة.

نشر الدراسات والأبحاث:

تهتم معظم المراكز الفكرية الأمريكية بنشر أبحاث دورية مختصرة حول أهم

القضايا المطروحة على قائمة اهتمام كل مركز، وإتاحة هذه الدراسات وإيصالها

إلى صناع القرار السياسي في أمريكا. ويؤكد الباحث الأمريكي هوارد ويراردا في

كتابه حول السياسة الخارجية [5] هذه النقطة قائلاً: (تتحرك الحكومة الأمريكية

عن طريق الرسائل والخطابات المكتبية، وإذا كان المسؤول في أي من وزارة

الخارجية أو الدفاع أو المخابرات المركزية أو مجلس الأمن القومي مطلعاً على

دراستك أو بحثك، وهذه الدراسة مفتوحة أمامه وهو يعد خطاباً لمديره أو حتى

للرئيس الأمريكي، فإن لديك فرصة ضخمة للتأثير عليه وهو يكتب هذا الخطاب

بأن يقبس بعض أفكارك أو تحليلاتك. وفي المقابل إذا لم تكن دراستك على مكتبه،

أو الأسوأ من ذلك إذا كنت لا تعرف هذا الشخص ولا تراسله بدراساتك وأبحاثك،

فلا توجد أي فرصة للتأثير عليه، إنها معادلة بسيطة وواضحة) .

والمتابع للمؤسسات الفكرية في أمريكا يجد عشرات الدراسات والأبحاث التي

تصدر كل شهر، وترسل مجاناً إلى مكاتب الساسة وصناع القرار من أجل تحقيق

هذا الهدف السابق، وهو الوصول إلى احتمالية التأثير على القرار الصادر عن هذا

السياسي. ويروي أحد المقربين من الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان أن الرئيس قام

بإعطاء نسخة من دراسة أعدتها مؤسسة التراث حول (خطة إقامة حكومة محافظة)

إلى كل عضو من أعضاء إدارته، وطلب منهم قراءتها [6] ، ويرى أحد الباحثين

لتلك الفترة أن 60% من هذا التقرير قد تم تنفيذه خلال فترتي رئاسة الرئيس

ريجان [7] .

ويقوم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute

for Near East Policy بإصدار عدد من الدراسات الدورية التي تتراوح بين

50 100 صفحة، حول القضايا الهامة المتعلقة بالشرق الأوسط، وترسل هذه

الدراسات إلى أعضاء الكونجرس، وكذلك إلى الإدارات والوزارات المهتمة بهذه

القضايا. كما يقوم المركز بإصدار أكثر من 40 شريطاً سمعياً كل عام تتضمن

تسجيل المحاضرات والندوات التي يعقدها المعهد.

دعوة إلى صانعي القرار

إلى المؤتمرات والملتقيات:

تركز بعض المراكز الفكرية على هذه الطريقة كوسيلة أساسية في التأثير على

مجرى السياسة الخارجية الأمريكية، فقد قامت مؤسسة التراث في عام 1993م

وحده بعقد 125 محاضرة ولقاء حضرها أكثر من عشرة آلاف شخص، إضافة إلى

نقل كثير من هذه المحاضرات على الهواء مباشرة في إحدى القنوات التلفزيونية

المتخصصة في البث الإخباري (C-Span)[8] .

أما معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute for

Near East Policy فإنه يعقد سنوياً ما يزيد على أربعين لقاء ومحاضرة، أي

بمعدل يقارب محاضرة أو لقاء أسبوعياً. ويركز المعهد في هذه اللقاءات على دعوة

المسؤولين في الإدارة الأمريكية، والسفراء الأجانب، وممثلي المؤسسات الصحفية، والأكاديميين، بهدف تشكيل قناعات متقاربة حول الشرق الأوسط، ويقوم المعهد

بدعوة شخصيات عالمية بارزة للحديث في هذه اللقاءات، ويجمع بينها جميعاً قاسم

واحد مشترك وهو الاهتمام بمصالح إسرائيل بصورة مباشرة. أو غير مباشرة،

ومن أبرز من دعي للحديث في هذه اللقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي، ورئيس

تركيا، إضافة إلى مسؤولي البيت الأبيض، والخارجية الأمريكية.

وإضافة إلى ذلك يعقد المعهد مؤتمرين كبيرين كل عام، يعقد الأول منهما في

الربيع من كل عام ويخصص لدراسة التحديات التي تواجه السياسة الخارجية

الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وكان من أبرز المتحدثين في هذه المؤتمرات نائب

الرئيس الأمريكي آل جور، ووزير الخارجية السابق وارن كريستوفر. أما لقاء

الخريف فيعقد في أحد المنتجعات، ويدعى له القيادات السياسية الأمريكية والأجنبية

في حوارات غير رسمية ومحادثات خاصة تهدف إلى تقوية الارتباط بسياسة المعهد

وتوجيهاته.

تزويد وسائل الإعلام بخبراء في قضايا الساعة:

تدعو كثير من المراكز الفكرية الباحثين فيها إلى الكتابة في الصحف

والمجلات والدوريات السياسية والعامة، وتقوم هذه المراكز بإرسال البحوث

المختصرة، وأوراق العمل إلى الصحف الكبرى لعرضها للنشر في هذه الصحف

مما يكسب المراكز الفكرية شعبية لدى عامة الناس.

ويقوم معهد هوفر Hoover Institute المعروف بعلاقاته القوية مع الرئيس

السابق ريجان باستغلال هذه الوسيلة بشكل مكثف للغاية. ويروي جلين كامبل أن

معهد هوفر كان يسعى دائماً إلى إرسال مقال واحد على الأقل من كتابات الباحثين

بالمعهد يومياً طوال العام إلى الصحف والمجلات الأمريكية، وغالباً ما يتم نشر هذا

المقال في عشرات الصحف اليومية، ونشر في أحد الأعوام السابقة أكثر من 350

مقالاً من المعهد، ويعلق على ذلك قائلاً: (إن وسائل الإعلام تتعطش للأفكار

الجديدة، ونحن نساهم في سد هذا الاحتياج) [9] .

أما مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية والاستراتيجية Center for

Strategic and International Studies، فله السبق في هذا المجال دون

منازع. فقد أجرى الباحثون في المعهد في عامين أكثر من 1200 حوار تلفزيوني،

و1000 لقاء إذاعي، و2500 خبر بالصحف، وكتبوا ما يزيد على 2500 مقال

للصحف والمجلات الأمريكية [10] .

وبالطريقة نفسها يقوم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى Washington

Institute for Near East Policy بنشر مقالات في الصحف والمجلات

الأمريكية بصورة دورية، فقد نشرت صحيفة الرول ستريت جورنال اليومية

مؤخراً أحد المقالات لإحدى الباحثات في المعهد وهي إمي ماركوس حول الصراع

بين عرفات وحسين حول القدس [11] ، وكالمتوقع فقد ركزت الباحثة على

الجوانب السلبية في هذه العلاقة، مع التأكيد على أن قضية القدس محلية داخلية

خاصة بدولة إسرائيل.

فتح قنوات الاتصال مع الإدارة الأمريكية:

يتم فتح قنوات الاتصال مع المؤسسات السياسية الأمريكية عن طريق إقامة

دورات تدريبية للسياسيين في مجالات السياسة الدولية والعلاقات الدولية، وعن

طريق تعيين موظفين سابقين في الإدارات الأمريكية في هذه المراكز، وكذلك تقديم

استشارات عاجلة ومختصرة للمسؤولين السياسيين حول القضايا التي تطرأ على

الساحة، وأخيراً دعوة العاملين في الإدارات الحكومية إلى زيارات دورية إلى هذه

المراكز للتعرف على القائمين عليها.

ونجد مثلاً أن المعهد الأمريكي للاستثمار قد قدم فرصة عمل وبحث متميزة

للرئيس فورد بعد أن ترك الرئاسة، وكذلك لديك تشيني وزير الدفاع السابق. أما

مركز الدراسات الاستراتيجة والدولية فقد قدم فرص عمل متميزة لكل من

بريجنسكي وهنري كيسنجر. وقدم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

Washington Institute for Near East Policy، عضوية مجلس الأمناء

لكل من جورج شولتز، وإليكسندر هيج، ووارن كريستوفر، وكلهم من وزراء

الخارجية الأمريكية السابقين. وكما يشرح جورج شولتز، فإن وجود السياسيين

السابقين في مناصب أي مركز فكري يفتح أمام هذا المركز فرصاً متعددة

للتأثير [12] .

أما المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي Jawish Institute for

National Secuirty Affairs، المعروف بعلاقته القوية بالمؤسسة العسكرية

الأمريكية، وارتباطه المباشر أيضاً باللوبي الصهيوني، فيقوم بتنطيم رحلات

لمجموعات من الضباط الأمريكيين لزيارة إسرائيل لتوطيد العلاقات مع الجيش

الإسرائيلي، كما يقوم بإعداد زيارات لطلاب الكليات العسكرية للتدريب الصيفي في

وحدات الجيش الإسرائيلي [13] .

التطوع للعمل والإدلاء بالشهادات في لجان العمل السياسي:

تهتم كثير من المؤسسات الفكرية الأمريكية بتقديم الباحثين فيها كخبراء في

الموضوعات المطروحة على الساحة، وتسعى إلى أن توجه لهم الدعوات للإدلاء

بآرائهم في القضايا المختلفة على لجان العمل وجلسات الاستماع والبحث في كل من

مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكي. ويكفي أنه في عام واحد فقط قام أكثر من

176 باحثاً من 21 مركزاً فكرياً بالإدلاء بشهاداتهم أو تقديم رؤيتهم رسمياً إلى لجان

الكونجرس الأمريكية [14] .

وقد قام خبراء من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى Washington

Institute for Near East Policy، بالإدلاء بشهاداتهم في العديد من القضايا

المتعلقة بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خبراء وأكاديميين، فقام المدير

العام للمعهد روبرت ستالوف بالإدلاء برأيه أمام لجنة العلاقات الدولية بدعوة من

مجلس النواب الأمريكي في إبريل 1997م حول (السياسة الأمريكية تجاه مصر) ،

ولا شك أن الخلفية الشخصية له بصفته يهودياً، والصفة الرسمية له كرئيس للذراع

الفكري الإسرائيلي في واشنطن قد لعبا دوراً هاماً في الرأي الذي قدمه أثناء شهادته. وكانت الشهادة مليئة بالهجوم على مصر وموقفها من التطبيع السياسي مع إسرائيل، وأهمية المد الإسلامي في مصر، وضرورة التعاون الأمني على أعلى مستوى في

ذلك، وطالب أن تتوقف مصر عن أية تهديدات لإسرائيل!

تأثير المراكز الفكرية على الرأي العام:

للمراكز الفكرية الأمريكية آثار مباشرة على الإعلام الغربي، ومن ثَمّ على

الرأي العام الأمريكي، وقد رصد أكثر من باحث أكاديمي كيف أن المراكز الفكرية

تنجح في كثير من الأحيان في تغيير الرأي العام الأمريكي تجاه قضية معينة عن

طريق مجموعة خطوات إعلامية مدروسة بعناية لتحقيق هدف محدد، وهو تغيير

قناعات ومواقف الرأي العام لتبني وجهة نظر المركز الفكري والجهات التي تموله.

ويذكر تشارلز وليام ماينز، محرر دورية (السياسة الخارجية) Foreign

Policy كيف يتم تغيير الرأي العام الأمريكي بطريقة منظمة تبدو عفوية، فيقول:

تبدأ العملية بمقال في أحد الدوريات السياسية المتخصصة يكتبه باحث أكاديمي

متميز ومعروف، ويُقدّم هذا الباحث في المجلة أو الدورية على أنه (خبير أو عالم)

مما يوحي بالتوازن والاعتدال في الطرح، ولا يذكر عادة أن هذا الباحث موظف

يعمل براتب في أحد المراكز الفكرية معروفة التوجه!

يلي ذلك تولي عدد من المطبوعات الأخرى الموالية لنفس الاتجاه الثناء على

المقال الذي نشر في الدورية، وإبراز الأفكار الهامة في هذا المقال، والتأكيد عليها

مرة أخرى، ثم يُعقد بعد ذلك عادة مؤتمر عام، يدعى إليه متحدثون يمثلون نفس

وجهة النظر، ويتم اختيارهم بعناية للتعبير عن نفس الفكرة، وحشد الآراء حولها،

ويدعى إلى مثل هذه المؤتمرات مجموعة من الصحفيين المختارين بعناية لإبراز

هذا الحدث في المجلات والصحف التي يمثلونها، مما يضفي هالة جديدة من

الاهتمام حول المؤتمر وموضوعه، والأفكار التي يراد نشرها، وبالطبع يكون

مفهوماً للجميع بشكل لا يقبل الشك، أن الجوائز الصحفية، والدعوات للحديث في

المحافل العامة، ووسائل الإعلام، والجوائز التقديرية، كل ذلك سيكون من نصيب

أولئك أولئك فقط الذين يدافعون عن الفكرة ويدعون إليها في كل مكان. وهكذا وبهذه

المهارة المنظمة، تصبح الفكرة داخلة ضمن التيار العام للأفكار المقبولة للرأي العام

الأمريكي، وبذلك تؤثر بطريق غير مباشر على القناعات السياسية للإدارة

الأمريكية [15] .

ومن المفارقات التي تلفت النظر أن نجد أن بعض المؤسسات الفكرية تدعم

برامج وثائقية وتلفزيونية؛ لأنها تخدم وجهة نظرها، وتعبر عنها؛ ومثال واضح

على ذلك هو ستيف إيمرسون صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير (جهاد في أمريكا) . وقد سبب هذا البرنامج ضجة ضخمة في الولايات المتحدة ومعظم أنحاء العالم

الغربي لهجومه الشديد غير المستند على أي أدلة مادية على الإسلام والمسلمين في

أمريكا، واتهامهم بأنهم أكبر الأخطار الداخلية في القارة، وأنهم يهددون الأمن

الداخلي للولايات المتحدة. وذكر ستيف إيمرسون لجريدة واشنطن بوست أنه تلقى

مبلغ 000ر325 دولار أمريكي من مؤسسة برادلي Bradley Foundation

لإتمام هذا البرنامج، ويبقى أن نعرف أن دانيال بايبس، مدير معهد الدراسات

الخارجية في فيلادلفيا Foreign Policy Research Institute، كان هو

المسؤول عن توزيع وإنفاق هذه المنحة على البرنامج كما ذكر ذلك روبرت كابلان

في مقدمة كتابه (العربي) الذي دعم أيضاً من نفس المؤسسة، وتولى أيضاً دانيال

بايبس متابعة إنفاق المنحة المخصصة لذلك الكتاب [16] .

المراكز الفكرية العربية والإسلامية في أمريكا:

رغم أن الساحة الفكرية الأمريكية تزخر بالمراكز الفكرية التي تمثل كافة

التوجهات الفكرية، إلا أن التواجد الإسلامي في هذا المجال لا يزال محدوداً للغاية؛

وقد يرجع ذلك إلى عدد من الأسباب من بينهما قلة الموارد المالية التي تخصصها

المؤسسات الإسلامية للأنشطة الفكرية بوجه عام، وكذلك قلة القدرات الفكرية

المتميزة القادرة على الخطاب الفكري القوي باللغة الإنجليزية، إضافة إلى الإحساس

السائد لدى الجالية الإسلامية في أمريكا بعدم جدوى مثل هذه الجهود الفكرية خاصة

مع الأجواء العدائية للإسلام والمسلمين التي يبثها الإعلام الغربي بصورة يومية،

وتلقى نوعاً من الاستجابة من الرأي العام، وصناع القرار.

وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تأخر الاهتمام بمثل هذه المشروعات،

وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تزايد الاهتمام الإسلامي في أمريكا بالنزول

إلى الساحة الفكرية، والسعي إلى التأثير على صناعة القرار السياسي الأمريكي،

ورغم ذلك تبقى المؤسسات القكرية الإسلامية والعربية في أمريكا قليلة للغاية، وفيما

يلي أهم هذه المراكز الفكرية الإسلامية في القارة:

مؤسسة: الأمريكيون المسلمون:

American Muslim Foundation

وهي مؤسسة غير ربحية في واشنطن العاصمة، وتهتم بالسعي إلى زيادة

الوعي والفهم للثقافة والقيم والتاريخ الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية،

ويرأس المؤسسة الأستاذ عبد الرحمن العمودي المدير التنفيذي السابق لمجلس:

الأمريكيون المسلمون American Muslim Council، والمؤسسة لا تزال في

بداية نشأتها، ولم تقدم حتى الآن أنشطة لمعرفة أثرها على الساحة الفكرية.

المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث (يسر) :

United Association for Studies and Research (UASR)

وهي مؤسسة فكرية بحثية تتخصص في دراسة أسباب الصراع في الشرق

الأوسط وشمال إفريقيا، والتغيرات السياسية التي تؤثر على مستقبل السكان

الأصليين للمنطقة، وعلاقة المنطقة بدول العالم المتقدم، ويرأس المؤسسة الدكتور

أحمد يوسف، الذي عرف بالعديد من الكتابات المتميزة في كثير من صحف

ومجلات العالم الإسلامي، ومركز المؤسسة يقع في إحدى ضواحي العاصمة

الأمريكية واشنطن، ويعمل في المركز عدد من الباحثين المتفرغين، وللمركز

أرشيف متميز في قضايا الصحوة الإسلامية.

وينشر المركز دراسات دورية حول قضايا الشرق الأوسط وخصوصاً ما

يتعلق منها بالقضية الفلسطينية، ويعقد كذلك لقاءاً شهرياً يدعى إليه سياسيون

وأكاديميون بارزون، كما تصدر عن المركز دورية متخصصة في قضايا العالم

الإسلامي وعلاقته بالغرب بعنوان: (شؤون الشرق الأوسط) ويعتبر المركز من

أنشط المراكز الفكرية الإسلامية في أمريكا، وإن كان تأثيره لا يزال ضعيفاً لقلة

الإمكانات المادية مقارنة بالمراكز الفكرية الأخرى في العاصمة.

مركز دراسات الإسلام والعالم

World & Islam Studies Enterprise (Wise)

وهو مؤسسة فكرية أنشئت عام 1990م في ولاية فلوريدا، والمركز عرف

بإقامة الندوات ونشر الدراسات، وإصدار دورية متميزة تسمى:(قراءات سياسية)

وتوقفت عن الصدور في نهاية 1995م. وقد تقلص نشاط المركز للغاية بعد أن

اتهمته الصحف الأمريكية وتبعتها الإدارة الأمريكية بعلاقته بتنظيم الجهاد الفلسطيني، وخاصة بعد تولي رمضان عبد الله شلح الذي كان أحد المحررين في الدورية

مسؤولية تنظيم الجهاد بعد اغتيال فتحي الشقاقي، وقد أدى ذلك إلى مهاجمة

المخابرات الأمريكية للمركز وإيقاف العاملين فيه رهن التحقيق.

(1) American Think Tanks and their role in US Foreign Policy Donald E Abelon، St Martin Press، Inc New York، 1996 PP 1.

(2)

مرجع رقم (1) ص 3.

(3)

مرجع رقم (1) ص 15.

(4)

أضواء على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، أحمد منصور، دار ابن حزم، بيروت 1994، ص 18.

(5)

مرجع رقم (3) ص 171.

(6)

مرجع رقم (1) ص 17.

(7)

Feulner Edwin J، Ideas Think Thinks and Gove Rnment (the Hertitage Lectures، 51 (Washington) DC The Hertilege Foundnion، 1985.

(8)

التقرير السنوي لمؤسسة هيرتيتج، 1993م.

(9)

حوار مع أحد الباحثين بمعهد هوفر، أجري في عام 1990م.

(10)

Marc Cooper، and Lawerence Soley، (all the Righr Sources) ، Mother Jones، February 1990، PP 26.

(11)

وول ستريت جور، عدد 35 فبراير 1997، صفحة 16.

(12)

مقابلة مع جورج شولتز في مارس 1990م نشرت في المرجع رقم (1) صفحة 70.

(13)

اتفاق معادلة المعرفة والسلطة: اللوبي اليهودي في أمريكا، سمير كرم، مجلة الحوار، واشنطن عدد إبريل 1998م ص16.

(14)

Weaver، Kent، (Think- Tanks، the Media and the American Policy Policy Process) ، Paper Presented at the Annual Poliy Conference of the Association for Public Policy Analysis and Management، Washingtol، DC، October 1993.

(15)

كلمة ختامية تشارلز وليام وايلز، مجلة السياسة الخارجية عدد مارس 1997م.

(16)

العربي، روبرت كابلان، فري برس، نيويورك 1994، المقدمة.

ص: 78

المسلمون والعالم

" الفرنكوفونية " كما هي

الميلاد والنشأة والسياسة

سيدي غالي لو

المقدمة:

الفرنكوفونية: اسم يطلق على تنظيم سياسي تشترك فيه عدة دول ناطقة

بالفرنسية ألفت بينها هذه الرابطة لتحقيق مصالح مشتركة؛ وهي تنظيم يقابل

منظمة الكومنولث البريطاني، إلا أنها أشد خطورة منها؛ حيث إن الفرنكوفونية

تضرب جذورها في أعماق طبيعة الاستعمار الفرنسي، قبل أن تستنزف الثروات

والخيرات ويَهلك الحرث والنسل فيجعل أعزة القوم أذلة.

الميلاد والنشأة:

لقد مهدت لميلاد منظمة (الفرنكوفونية) عوامل متعددة؛ ففي أواخر الستينات،

وخاصة بعد إعادة انتخاب (الجنرال ديجول) رئيساً لفرنسا للفترة الثانية في 5/12/

1966م بعد أن كانت حركات التحرر والاستقلال تتقوى من مختلف الدول التي

كانت تخضع للاستعمار الفرنسي في آسيا وإفريقيا. ومن ثم ركز (ديجول) سياسة

فرنسا على المحاور الآتية:

1-

تثبيت الاقتصاد الفرنسي.

2-

التقارب مع ألمانيا للتخلص من النفوذ الأمريكي.

3-

إبعاد بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة.

4-

دخول فرنسا ميدان الإنتاج الذري.

فلا غرابة إذن أن يختفي المستعمر الفرنسي خلف الستار بعد استقلالات

الستينات ليحرك بأصابعه من خلف الكواليس أناساً قد أحكم صبغتهم، يتشدقون بقيم

الاستعمار الجديد وثقافته، ويتعهدون بنبذ الثقافات الوطنية والقيم الدينية الأصيلة

وراء الظهور فكانت (الفرنكوفونية) وسيلة من وسائل الاستعمار الجديد اتخذتها

فرنسا للضغط على مجموعة من الدول النامية وتوجيه سياستها.

وكانت فرنسا تتظاهر بالانعزال عن فكرة تأسيس منظمة (الفرنكوفونية) في

أوائل انبثاق الفكرة سنة 1960م لعاملين رئيسين: الأول: شعورها بالعار من

جراء الجرائم البشعة التي ارتكبتها ضد الشعوب في عهد الاستعمار. والثاني:

تخوفها من أن تتهم بمحاولة استخدام اللغة الفرنسية كأداة جديدة للإمبريالية والسيطرة

على الدول التي فقدتها منذ عهد قريب. فمن المعلوم تاريخياً أن الدول التي تعتبر

مهد اللغة الفرنسية ومنبعها الأصيل مثل فرنسا وبلجيكا وكيبيك ليست هي التي

دعت علناً إلى تأسيس منظمة الفرنكوفونية، ولكنها كانت تحرك الحبال من خلف

الستار.

وقد برز من بين المتشدقين بالفرنكوفونية كل من (ليوبولود سيدار سنغور) من

السنغال و (هماني ديوري) من النيجر و (الحبيب بورقيبة) من تونس و (شارل

حلو) من لبنان و (نورو دوم سيهانوك) من كامبودجيا.

ولقد لقيت دعوة هؤلاء في بداية أمرها مقاومة عنيفة من قبل قادة التحرر

الوطني في إفريقيا وآسيا، الذين كانوا يصفون دعاة الفرنكوفونية بالخونة، مما أخر

تنظيم الحركة رسمياً وهيكلتها حتى عام 1970م حيث أنشئ أول فرع من فروعها

المتخصصة وهو A. C. C. T. (وكالة التعاون الثقافي والتقني) . في (نيامي)

عاصمة النيجر.

وكان بعض رؤساء الدول ينتمون إلى فكرة (الفرنكوفونية) بالاسم فقط دون

الاندماج الحقيقي فيها، خلافاً لرئيس كيبيك الذي كان يصرح بالانتماء إليها كما كان

يسعى جاداً لتحقيقها. وتستطيع كيبيك أن تنحو هذا النحو وتقف ذلك الموقف آنذاك؛ لكونها منطقة ناطقة بالفرنسية باعتبارها لغة أصلية لها من جهة، ولكونها

محتضنة من قِبَلِ كندا التي لم يسبق لها احتلال بلد إفريقي من جهة ثانية، وهو

الأمر الذي يبعد عنها أصابع الاتهام، ولذا لما نجحت فكرة الفرنكوفونية، وتم

تأسيس وكالة التعاون الثقافي والتقني A. C. C. T. كان أول من اختير

لرئاستها هو الزعيم الكيبكي الكندي جان مارك ليجي Jean Marc Leger

أما اليوم فقد أصبحت الفرنكوفونية حقيقة ملموسة، وصارت تلعب دوراً

بارزاً في توجيه سياسة فرنسا وعلاقاتها بالدول الأعضاء في هذه المنظمة البالغ

عددها الآن 49 دولة. وتتخذ هذه المنظمة من جامعة ليوبولد سيدار سينغور

بالإسكندرية جمهورية مصر العربية مقراً لها.

السياسة العامة للفرنكوفونية:

تشمل السياسة العامة لمنظمة الفرنكوفونية ما يلي:

1-

ربط الدول الأعضاء في المنظمة بفرنسا سياسياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً. وتعتمد معظم الدول الإفريقية المنضمة إلى (الفرنكوفونية) على الفرنك الإفريقي

المرتبط بالفرنك الفرنسي في الأسواق المالية. وقد قامت فرنسا بتعويم عملة الفرنك

الإفريقي سنة 1994م مما سبب تزعزعاً اقتصادياً خطيراً لعديد من الدول الإفريقية.

2-

التأثير على دول المجموعة الفرنكوفونية لاتخاذ مواقف مماثلة تجاه

القضايا والقرارات الدولية والإقليمية وخاصة القضايا والقرارات التي تمس مصالح

فرنسا.

3-

إيجاد فرص غير متكافئة للتبادل التجاري بين فرنسا والدول الأعضاء في

المنظمة، والعمل على كسر الحواجز أمام الصادرات الفرنسية إلى الدول

الفرنكوفونية.

4-

تقديم المساعدة للدول الأعضاء في مختلف المجالات، وخاصة في مجال

الثقافة والإعلام والتطوير التكنولوجي وتعليم اللغات والزراعة وحماية البيئة..

وتعتاد فرنسا أن تعلن خلال مؤتمرات الفرنكوفونية عن تنازلها عن ديونها المترتبة

على عدد من الدول الأعضاء في هذه المنظمة.

دور فرنسا ومآثر ميتران:

لم تقم فرنسا بدور هام داخل الفرنكوفونية إلا في عهد الرئيس السابق:

فرانسوا ميتران الذي انتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية سنة 1981م؛ وذلك أن

فرنسا كانت تنتظر لحظة انتهاء تلامذتها الأبرار من إعداد اللبنات الصلبة ووضع

الأسس المتينة لهذا الصرح العلماني العملاق قبل أن تقوم هي بدور المهندس الماهر

الذي يتولى تشكيله وتنظيمه داخلياً وخارجياً.

ففي عهد ميتران تم تأسيس قمة رؤساء الدول الفرنكوفونية التي تعقد كل

سنتين، ومؤتمر الوزراء الذي

يعقد كل سنة. كما تم تأسيس فروع ووكالات متخصصة تابعة لمنظمة

الفرنكوفونية مثل صندوق حماية البيئة، والمنظمة الزراعية لمساعدة دول الصحراء، والقناة الدولية TV5 للبث التلفزيوني المباشر، وبنك المعلومات الفرنكوفونية،

والمجلس الدائم للفرنكوفونية

، كما تم إنشاء لجان خاصة لمتابعة قرارات

مؤتمرات الفرنكوفونية، ووضع لوائح تصنف الأعضاء حسب الدرجات والمراتب، وتحدد السلطات والمسؤوليات داخل هذه المنظمة. كما عقدت منظمة الفرنكوفونية

في عهد الرئيس ميتران خمسة مؤتمرات: 1986م في فرساي، 1987م في كيبيك، 1989م في دكار، 1991 في باريس، 1993م في موريس. وبلغت جملة

الديون التي تنازلت عنها فرنسا في عهد ميتران لصالح الدول الأعضاء في

الفرنكوفونية (16) مليار فرنك فرنسي شملت خمساً وثلاثين دولة، بالإضافة إلى

المساعدات المادية والفنية.

المؤتمرات والقرارات:

مؤتمرات الفرنكوفونية لقاءات دورية تعقد في إحدى الدول الأعضاء في

المنظمة بإشراف من فرنسا. وتتمخض هذه المؤتمرات عن قرارات وتوصيات

تُتّخذُ لها لجان خاصة لمتابعتها وتنفيذها.

وقد عقدت (الفرنكوفونية) حتى الآن سبعة مؤتمرات على مستوى رؤساء

الدول والحكومات، وفيما يلي سرد تاريخي موجز لتلك المؤتمرات:

1-

مؤتمر فرساي (1986م) :

انعقد المؤتمر الأول للفرنكوفونية في مدينة فرساي بفرنسا في الفترة من 17

حتى 19 فبراير 1986م بحضور 42 دولة، ومن أهم القرارات التي تمخض عنها

هذا المؤتمر ما يلي:

1-

تأسيس وكالة دولية للتصوير التلفزيوني. وقد عرفت هذه الوكالة بعد

إنجازها بقناة TV5 التي تغطي مناطق إفريقيا السوداء وجنوب أمريكا حيث توجد

شعوب تتكلم الفرنسية.

2-

إقامة معرض دولي للكتاب الفرنسي كل سنتين في العاصمة الفرنسية

باريس.

3-

تنظيم جائزة باسم الفرنكوفونية.

4-

تأسيس وكالة زراعية لمساعدة دول الصحراء.

2-

مؤتمر كيبيك (1987م) :

عقد المؤتمر الثاني للفرنكوفونية في (كيبيك) في الفترة من 2 حتى 4 سبتمبر

1987م. وقد شاركت في هذه القمة 41 دولة، و16 منها على مستوى الرؤساء

و10 دول على مستوى رؤساء وزراء، و15 دولة على مستوى مندوبي حكومات.

وفي هذه القمة تم اتخاذ خمسة قرارات للتعاون في مجال الزراعة والطاقة

والثقافة واللغات والاتصال والتكوين التكنولوجي. كما قررت كندا في هذه القمة

إعفاء ديونها المترتبة على سبع دول إفريقية في جنوب الصحراء والبالغ قدرها

(246)

مليون دولار أمريكي، وقد شملت كلاً من السنغال وكوت ديوار وغابون

وزائير ومدغشقر والكونغو والكاميرون، على الرغم من عدم انضمام الكاميرون إلى

منظمة الفرنكوفونية في ذلك الوقت.

3-

مؤتمر دكار (1989م) :

عقدت القمة الفرنكوفونية الثالثة في العاصمة السنغالية دكار في الفترة من 24

حتى 26 مايو 1989م بحضور 41 دولة، 17 منها على مستوى الرؤساء، و9

على مستوى رؤساء وزراء، و15 على مستوى مندوبي حكومات.

وقد حضر الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران هذه القمة، وأعلن فيها

عن إعفاء فرنسا ديونها المستحقة على خمس وثلاثين دولة إفريقية، وهي ما يعادل

ستة عشر مليار فرنك فرنسي، ومن أهم نتائج هذه القمة ما يلي:

1-

تأسيس صندوق الفرنكوفونية للبيئة.

2-

وضع فكرة تأسيس المنظمة الزراعية لدول الصحراء موضع التنفيذ.

3-

ابتداء بث القناة الدولية TV5 القناة الفرنسية C. F. I في إفريقيا.

4-

إنشاء بنك المعلومات الفرنكوفونية.

5-

إعلان فرنسا عن تقديم المساعدة للدول الفرنكوفونية بقيمة (237) مليون

فرنك فرنسي في السنة.

6-

توقيع كندا على وثيقة لتقديم المساعدة للدول الفرنكوفونية بقيمة (280)

مليون فرنك فرنسي خلال سنتين ونصف.

4-

مؤتمر باريس (1991م) :

عُقدت القمة الفرنكوفونية الرابعة في العاصمة الفرنسية في الفترة ما بين 19

حتى 21 نوفمبر 1991م، بحضور 45 دولة، 21 منها على مستوى رؤساء

الدول، و13 على مستوى رؤساء وزراء، و11 دولة على مستوى وفود حكومات. وقد تميزت هذه القمة عن سابقاتها بالتركيز على إعادة هيكلة منظمة الفرنكوفونية

وتنظيمها داخلياً. ومن أهم نتائجها ما يلي:

1-

اعتبار القمة الفرنكوفونية التي تعقد كل سنتين أعلى سلطة في المنظمة،

ويليها مؤتمر الوزراء الذي يعقد كل سنة.

2-

تأسيس (المجلس الدائم للفرنكوفونية) .. C. P. F. ويضم هذا

المجلس ممثلين لرؤساء الدول الأعضاء في المنظمة، ويجتمع مرتين في السنة

لمتابعة ومراقبة تنفيذ القرارات الصادرة عن مؤتمر الفرنكوفونية.

3-

اعتبار (وكالة التعاون الثقافي والتقني) A. C. C. T. الجهة الفنية

المختصة بتقديم المساعدات في إطار الفرنكوفونية.

4-

تأسيس هيئة قانونية تختص بالشؤون المالية القانونية للفرنكوفونية،

وتزويد الدول الأعضاء فيها باللوائح والدراسات القانونية وخاصة في مجال القضاء

ونظام الأسرة، مما يمكن الدول الفرنكوفونية من الاعتماد على نصوص قانونية

موحدة، وقد جاء هذا الاقتراح من كندا.

5-

إعلان كندا عن تزويد الدول الفرنكوفونية بمنح دراسية باسم الفرنكوفونية

تقدر بخمسين مليون فرنك فرنسي سنوياً وتستمر لمدة خمس سنوات؛ وذلك لإتاحة

الفرصة لثلاثمائة وخمسين طالباً ينتمون إلى الدول الفرنكوفونية لمواصلة الدراسة

في الجامعات الكندية.

5-

مؤتمر موريس (1993م) :

عقدت القمة الفرنكوفونية الخامسة في موريس في الفترة من 16 حتى 18

أكتوبر 1993م بحضور 47 دولة، 19 منها حضرت المؤتمر على مستوى

الرؤساء، و13 على مستوى الوزراء، و15 على مستوى وفود حكومات. وهي

آخر قمة فرنكوفونية حضرها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، كما مهدت

هذه القمة لفكرة تخفيض عملة الفرنك الإفريقي. ومن بين التوصيات الصادرة عنها

ما يلي:

1-

حث الدول الإفريقية على تطبيق الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية

تأكيداً لقرارات (بول) الفرنسية.

2-

العمل على إقرار السلم في العالم.

3-

العمل على تجسيد التعاون بين الدول الفرنكوفونية.

4-

تخويل (المجلس الدائم للفرنكوفونية) . C. P. F سلطة خاصة لرسم

سياسة الفرنكوفونية في العالم.

6-

مؤتمر كوتونو (1995م) :

أما القمة السادسة للفرنكوفونية فقد عُقدت في عاصمة جمهورية بنين (كوتونو

(في شهر ديسمبر 1995م، وهي أول قمة فرنكوفونية حضرها الرئيس الفرنسي

الحالي جاك شيراك بوصفه رئيساً للجمهورية الفرنسية، حيث كان يحضر

المؤتمرات الفرنكوفونية السابقة بصفته رئيساً للمنظمة العالمية لرؤساء بلديات الدول

الفرنكوفونية (A. I. M. L. F.) .

وقد قررت هذه القمة اعتماد المشروع الذي قدمه المجلس الدائم للفرنكوفونية

بخصوص سياسة هذه المنظمة طبقاً للتوصيات الصادرة عن مؤتمر موريس سنة

1993م، كما قررت اختيار أمين عام للفرنكوفونية في دورتها السابعة التي ستعقد

في فييتنام.

7-

مؤتمر هانوي (1997م) :

عقدت القمة السابقة للفرنكوفونية في (هانوي) بفييتنام سنة 1997م. وفي هذه

القمة ظهرت الفرنكوفونية في وجه جديد؛ حيث تم اختيار أول أمين عام لها وهو

الدكتور بطرس بطرس غالي على حساب بقية المرشحين الأفارقة وغير الأفارقة

بقرار من فرنسا.

ولم يأت اختيار بطرس غالي أمينا عاماً للفرنكوفونية عفوياً؛ فهو من أشد

الناس ولاء للعلمانية والتغريب، وقد جربه الغرب (النصراني والعلماني) فترة توليه

منصب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، وكانت فترة حالكة ترجمت فيها أمم الغرب

فعلياً عداوتها للإسلام وأهله، كما أن فرنسا قد ثأرت من الولايات المتحدة بنصب

بطرس غالي على رأس الفرنكوفونية بعد الضغوط الأمريكية التي أدت إلى تنحيته

عن منصب الأمين العام للأمم المتحدة. وبناء على السلطات المخولة للدكتور

بطرس غالي بصفته أميناً عاماً للفرنكوفونية فقد أصبح المتكلم الرسمي باسم هذه

المنظمة وممثلها الشرعي لدى الهيئات والمحافل الدولية، وصار يوقع على جميع

الاتفاقيات المبرمة بين وكالة التعاون الثقافي والتقني (A. C. C. T) الجهات

الأخرى، كما يشرف على نشاطات هذه الوكالة بالتعاون مع مفوّض رسمي من قبل

المجلس الوزاري للفرنكوفونية (C. M. E.) .

مخاطر الفرنكوفونية:

تكمن في منظمة الفرنكوفونية مخاطر جسيمة على العالم الإسلامي، وتتمثل

في الأمور التالية:

1-

سعيها لإحلال القوانين المستمدة من الفكر العلماني محل القوانين المحلية

في الدول الأعضاء التي معظمها دول إسلامية ذات صلة بتعاليم الإسلام؛ فقد

تضمنت التوصيات الصادرة عن القمة الفرنكوفونية الرابعة ضرورة تأسيس هيئة

قانونية تزود الدول الفرنكوفونية بلوائح ودراسات قانونية في مجال القضاء ونظام

الأسرة لتمكين هذه الدول من الاعتماد على نصوص قانونية علمانية موحدة!

2-

نشر اللغة الفرنسية مع محاربة اللغات المحلية وخاصة العربية الفصحى

في الدول الأعضاء في الفرنكوفونية. ويقام في باريس كل سنتين معرض دولي

للكتاب الفرنسي، كما تنظم جائزة عالمية باسم الفرنكوفونية.

3-

ممارسة الغزو الفكري وعملية غسل المخ من خلال إنشاء جامعة

فرنكوفونية عالمية عبر الفضاء.

4-

خلخلة القيم الدينية والأخلاقية في البيئات الإسلامية وتوجيهها نحو الحياة

الاجتماعية الغربية الفاسدة من خلال البث التلفزيوني المباشر عبر قناة TV5 وقناة

C. F. I.

5-

تشتيت شمل المسلمين، وبث الخلافات بين الدول الإسلامية بسبب موالاة

بعضها لمعسكر الفرنكوفونية ضد البعض الآخر الموالي لمعسكر الكومنولث

البريطاني، مما يحول دون تحقيق وحدة حقيقية بين هذه الدول. وخير شاهد على

ذلك ما تعانيه منظمة الوحدة الإفريقية في داخلها من صراع حاد بين هذين

المعسكرين.

ص: 90