المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سيف السياسة..بين نصرة الحق.. ومظاهرة الباطل - مجلة البيان - جـ ١٣١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌سيف السياسة..بين نصرة الحق.. ومظاهرة الباطل

ملفات

(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)

‌سيف السياسة..

بين نصرة الحق.. ومظاهرة الباطل

عبد العزيز مصطفى

عبادة الأضرحة والقبور شرك لا شك فيه، ومنكر عقدي تتضاءل بجانبه

ومقارنة به المنكرات العملية الأخرى؛ فهو المنكر الذي ينبغي ألا تلين لأهل

التوحيد قناة في إنكاره بالقلب واللسان واليد

والمنكر الذي لا يسع العامة السكوت

عليه، ولا الخاصة التغافل عنه

فهو يزداد ويقوى بضعف الإنكار وقلته، ويمحق ويضعف بقوة الإنكار وشدته.. وواجب الإنكار هذا؛ ليس مفروضاً على الأفراد فقط، ولا هو مسؤولية

الحكومات فحسب، بل هو واجب مشترك على كلٍ بحسبه، وكل بمقدار استطاعته

ووسعه.

والذي لا شك فيه أن قدرات الحكومات والدول على إنكار مثل هذه المنكرات

لو حصل فإنه يكون أوقع للأثر المطلوب وأقطع لدابر الفتنة، وأمنع لذرائع الشرك، وهذا ما تعلمناه من قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان، ما لا

يزع بالقرآن)

وهذا تعلمناه أيضاً من درس التاريخ الذي يُجمل لنا بمجموع

قصصه حقيقة مؤداها: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حق، بل لا بد من قوة تسنده

وفئة تعاضده وأنصار يقومون به.

ولهذا لمّا شرع الله تعالى الجهاد قال: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن

لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] [محمد: 4] ، ولهذا أيضاً شرع الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، وجعله عنواناً لخيرية الأمة المسلمة المنتصرة للحق.. [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]

[آل عمران: 110] ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن، وظيفة أمة، ومسؤولية أفراد ودولة، بل هو ألصق بالدولة في بعض الأحيان من الأفراد. فهذه الفريضة أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من وظيفة الدولة في الإسلام، فهي ليست مجرد جهود شخصية من بعض المتطوعين أصحاب النوايا الحسنة، وليست أصواتاً تعلو فوق المنابر تخاطب البناء التحتى للمجتمع الذي لا يملك حولاً ولا قوة حيال المنكرات والمفاسد المدخولة

لا، ليس الأمر كذلك، ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة في الإسلام، وهو الشعيرة التي تمثل الأرضية التي تنطلق منها السياسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها.

ومعلوم أن هناك منكرات لا تكفي لها جهود الأفراد، ولا هبّات المجموعات،

وإن كان ذلك مطلوباً بل لا بد فيها من سلطة تملك، وقوة تتحرك، ودولة تتصرف؛ فتغيير مثل هذه المنكرات والتمكين للمعروف الذي يناقضها، هو أحد أغراض

الولاية العامة، بل هو أهمها.

فالحكام إنما ينصّبون في الإسلام لولاية الأمر، وهو الدين. والدين لا يقوم

إلا بالأمر به والنهي عن ضده، يقول ابن تيمية رحمه الله (.. وولي الأمر إنما

ينصّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان

الوالي يمكّن من المنكر، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على

عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله، فقاتل به

المسلمين) [1] .

لا بد إذن من سلطة تنصر الحق وتقمع المنكر، وهذا ما دل عليه القرآن

أيضاً، في قول الله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ

وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ

مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] [الحديد: 25] (فالكتاب والميزان هما ما نُقل صدقاً،

وما شُرع عدلاً لإقامة الناس على شريعة الحق اتباعاً للرسل، فمن أبى جعل الحديد

رادعاً لكل معاند بعد قيام الحجة) [2] .

وإذا كان لا بد من إنكار المنكر والأمر بالمعروف، فإن أنكر المنكرات هو

الشرك، كما أن أعرف المعروفات هو التوحيد، ولذلك كانت دعوة الأنبياء جميعاً

في جوهرها أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك

فقد قاوموا الشرك بكل صوره بكل

ما آتاهم الله من قوة في العلم والبيان والنطق واللسان والسيف والسنان.

وعندما نستعرض أخبار هؤلاء الأنبياء في تعاملهم مع واقع المنكرات العظيمة

الموجودة في عصورهم، نرى حقيقة ماثلة، تستلفت الانتباه، وهي: أن جهودهم

في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، كانت تحتاج دائماً إلى نصرة، وأحياناً إلى سُلطة، فبعض هؤلاء الأنبياء كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمفرده، أو مع فئة

قليلة معه، كنوح وإبراهيم وهود وصالح، ومنهم من صارت له قوة وشوكة،

وأنصار وسلطة، كيوسف وموسى وداود وسليمان ومحمد صلوات الله عليهم

أجمعين فهل كانت دعوة الحق قبل التمكين كحالها بعد التمكين؟ وفي المقابل: هل

كان المنكر المنتصر بالقوة والمستعلن بالسلطان، كالمنكر المخبوء في أوكاره،

والمتخفي بأفكاره؟ ! .. لا يستوون..

فإذا جئنا إلى رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، نراه يبطل

الشرك منذ مبدأ بعثته، ويسفّه أحلام المشركين، ويحقّر آلهتهم، لكنه لم يُعطَ في

البداية إذناً بالتغيير، ولم يؤيّد في مكة قبل الهجرة بالسلطان، ولهذا كان يأتي الكعبة

عابداً ناسكاً

لا يستطيع أن يمس أصنام المشركين المحيطة بالكعبة، وفي سائر

البلد الحرام، بل في سائر الجزيرة. ولكن

ماذا كان الأمر عندما مكّن الله له،

وجعل له السلطان على أهل مكة بعد الفتح

؟ إنه لم يتأخر عن تغيير المنكر

الأكبر في مكة؛ فلم يكد ينتهي من صلاة الظهر يوم الفتح، إلا وهو يصدر الأمر

بأن تكسّر الأصنام وتحرّق، وكان يشارك بيده الشريفة في ذلك..

لقد كان بمكة يومها من الأصنام ما يبلغ ثلاثمائة وستين صنماً، منها أصنام

حجرية وأوثان شجرية، ولم تشرق الشمس بعدها على صنم يُعبد في مكة ما دام

للحق فيها سلطان.

ولقد استؤنفت المسيرة بعد ذلك في حرب الشرك والوثنية في كل الجزيرة

العربية، حتى لا يبقى فيها دينان

وعندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم

معاذاً إلى اليمن كي يلي أمر أهلها؛ قال له: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا

صورة إلا طمستها) [3] .

لقد كانت مظاهر الشرك والوثنية مقموعة ممنوعة في أرض الإسلام طيلة

عهود الخير وقرون التفضيل، في عصور الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا ظل

الأمر في كل عهد كان لأهل الحق فيه صولة ودولة.

فالحق يظهر دائماً بظهور أهله

ويخفى ويضعف بخفتهم وضعتهم..

نحن في حاجة إلى أن نتجول في مسارب التاريخ ومدارات الزمن، لنستيقن

من هذا السَنَن، فلو ألقينا نظرة على سيرة المصلحين من أتباع الأنبياء، لوجدنا في

قصصهم عظة كما أن في سير النبيين عبرة.

أمامنا نموذجان لدعوات رامت الإصلاح واستهدفت إقامة شعائر الدين،

وجعلت التمكين للتوحيد غايتها ورايتها.

النموذج الأول: هو دعوة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله.

النموذج الثاني: هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

أما دعوة ابن تيمية، فكما نعلم أنها جاءت في ظروف تاريخية حرجة، جابه

سلطان الإسلام فيها أعظم الأخطار؛ فالمغول من بعد الصليبيين؛ واجهت الأمة بهم

فتناً دهماء بكماء صماء، وقد ولد ابن تيمية رحمه الله في أيام حكم المماليك الذين

كانت دولتهم تضم ما يمثل في عصرنا مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وكانوا قوة

لا يستهان بها في ذلك الوقت بالرغم من الضعف العام الذي انتاب بقية أجزاء العالم

الإسلامي. وكان ابن تيمية مدركاً لطبيعة عصره، متفهماً لحقيقة الصراع، وكان

على يقين بحاجة الأمة في مصر والشام إلى ولاية شرعية عامة، تقف وراءها

لمواجهة الفتن، ولم يكن أمامه من يصلح لتمثيل تلك الولاية إلا المماليك، فقد رأى

فيهم قوة للدين بالرغم من مثالبهم المتعددة، فأعطاهم تأييده المشروط وهو: الطاعة

في المعروف.

لقد استطاع هؤلاء المماليك أن يؤسسوا حكماً مستقلاً، فكانوا بذلك أملاً في

الخروج من المحنة، ورأى ابن تيمية المصلحة في شد أزرهم وتقويم اعوجاجهم

وتقويم الأمة بهم حتى تتعافى أمام الصعاب.

والمتأمل في سيرته رحمه الله يرى أنه كان يستمد من تلك السلطة العون بعد

الله في إنكار المنكرات، ومواجهة أصحاب البدع والمحدثات، الذين زادوا الأمة

ببدعهم وهناً على وهن.

وبالنظر إلى عداوته الشديدة لهؤلاء المبتدعة وأمثالهم من الأحمدية

والكسروانية والحشاشين، فقد (سعى جاهداً لإزالتهم من الوجود، وحث السلطة

على إبادتهم قدر الإمكان) [4] .

وقد أعلن حرباً لا تعرف الهوادة ضد فكر الصوفية الغلاة، وخاصة (ابن

عربي) الملحد، فلم يدخر وسعاً في تفنيد آرائه ونقض أفكاره، وكذلك إقناع الحكام

بوضع حد لسريان خدعه وبدعه وضلالاته التي كانت تسري في العامة سريان النار

في الهشيم.

لقد رأى ابن تيمية أن أوضاع المسلمين تسير نحو الأسوأ إذا تُرِكَ أمثال

هؤلاء الذين يوجهون الأمة نحو الشعوذة والسحر والخرافة

بما ينتهي بهم إلى

ضروب من البدع الاعتقادية الشركية

ولم يشأ أن يقصر جهده على مقاومة العدو الخارجي، بل كان على يقين أن

عدو الداخل من المنافقين، هو السند والمعين لعدو الخارج [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]

[المنافقون: 4] .

لقد رأى غلاةَ الصوفية يستغلون ضعف العلم والإيمان في طبقات من الناس

فيغرونهم بأفكار عن وحدة الوجود ووحدة الشهود، وكرامات الأولياء ومنازل

الأقطاب وقداسة الأضرحة والأعتاب..

فتصدى لهم وكان لهم بالمرصاد في دمشق ومصر.

وقد كان من حسن حظ المسلمين في ذلك العصر، أن بعض الولاة بالرغم من

مثالب كثيرة عندهم كانوا يكنون للعلماء احتراماً، ويمكنون لهم في دعوتهم، ويرون

لهم حقاً في توجيه مسار الأمة. وكان ابن تيمية بدوره يعطي لهم ما أرادوا من

الطاعة في غير معصية، ويستعين بهم بعد الله في إنكار المنكرات وإظهار الشعائر

وإقامة الدين.

وكان يقول في ذلك: (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات

الدين، بل لا قيام للدين إلا بها) [5] .

وكان يستصحب هذا المفهوم النظري في تطبيقه العملي، ففي عام خمس

وسبعمائة خرج ابن تيمية مع طائفة من جيش المسلمين في صحبة نائب السلطنة،

فساروا في بلاد تسيطر عليها طائفة غالية من الروافض، فغزوهم وانتصروا عليهم

بإذن الله، وهلك كثير من فرقتهم الضالة وعاد نائب السلطنة إلى دمشق وفي

صحبته ابن تيمية وجنود الجيش [6] .

وكان قد قام قبل ذلك بأمر من قبيل إنكار المنكر باليد، فذهب إلى مسجد

يسمى (التاريخ) وعمد هو وأصحابه إلى صخرة مجاورة للمسجد على ضفاف نهر،

كان الجهال يزورونها ويفعلون عندها الأفاعيل الشركية، فاصطحب معه حجّارين،

وتعاون هو وأصحابه معهم في تحطيمها وتقطيعها. قال ابن كثير: (فأزاح عن

المسلمين شبهة كان شرها عظيماً، وبهذا وأمثاله حسده الأعداء، وأبرزوا له

العداوة) [7] .

والنموذج الثاني الذي سنعرض له، هو نموذج دعوة الشيخ محمد بن

عبد الوهاب، فقد كانت الفترة التي عاصرها (مطلع القرن الثاني عشر الهجري) فترة انتكاس في الفطر، وارتكاس في العقائد؛ ذلك أن مظاهر الشرك الجلي قد ظهرت في مواطن كثيرة من بلاد الإسلام، وتمثل هذا الشرك في تحول فئام من الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين أمواتاً وأحياءً؛ فكل ما يجب أن يصرف لله تعالى من العبادات القلبية والعملية، كان يصرفها أولئك للمقبورين بزعم أنهم كانوا صالحين، فاستغاثوا بهم في النوازل ونذروا وطافوا وتمسحوا بآثارهم ومدافنهم، بل تعدى الأمر إلى الشرك بالجمادات كالأحجار والأشجار.

وقد كان في بلاد نجد من تلك الانحرافات ما قض مضجع الشيخ وأنقض

ظهره، فلم ير لنفسه عذراً في السكوت على هذا الشر المنتشر في الآفاق.

ففي (الجبيلة) كان الناس يقصدون قبر (زيد بن الخطاب) رضي الله عنه

ويدعونه لتفريج الكرب وكشف النوب، فعكف الناس على عبادتها، وصارت لعبادة

تلك المقابر أعظم المنزلة في صدور الناس رغباً ورهباً، وكان في أسفل الدرعية

غار كبير يزعم الجهال أن الله تعالى شقه في جبل لإنقاذ امرأة من بعض الفسقة

الذين أرادوها بسوء، فكان الجهلة يرسلون إلى الغار وهو أحجار اللحم والخبز

وصنوف الهدايا. وفي شعيب (غبيرة) كان الناس يأتون من المنكر ما لا يعهد مثله

عند قبور الصالحين. وخاصة عند القبر الذي يزعمون أن فيه (ضرار بن الأزور)

وكانت طوائف من الخلق تأتي إلى شجرة (الطرفية) فيتبركون بها ويعلقون الخرق

عليها إذا رزقوا ولداً لعله يسلم من الموت!

هذا في بلاد نجد، أما في بلاد الحجاز، فلم يكن الأمر بأقل سوءاً من هذا؛

ففي مكة كانت تعلو الاستغاثات والأدعية عند قبر (أبي طالب) وقبر (المحجوب)

وكان تعظيم هذين القبرين يفوق تعظيم الكعبة عند كثير من الجهال؛ حتى إن

السارق أو المعتدي أو الغاصب إذا لجأ إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما

يكره، أما إن تعلق بالكعبة فإنه يسحب فيها بالأذيال؛ تفريطاً منهم بحقها.

وكذلك كانت ترتكب الشنائع الاعتقادية والأخلاقية عند قبر (ميمونة بنت

الحارث أم المؤمنين) رضي الله عنها في (سَرِف) وكذلك عند قبر أم المؤمنين

(خديجة) رضي الله عنها في (المعلاّة) .

وفي الطائف كان قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يُتخذ مزاراً يقف

أمامه المكروبون مستغيثين، والخائفون متضرعين، وأصحاب الحاجة والمسألة

داعين مسترزقين.

أما في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فقد خالف الناس

سنته، واتخذوا قبره عيداً، وهو الذي برئ من ذلك وقال (اللهم لا تجعل قبري وثناً

يعبد) [8] .

ولكن تلك المظاهر الوثنية التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها

تسللت إلى جزيرة الإسلام، وأبت إلا أن تشوه نقاء التوحيد فيها، وحق على بعض

أهلها قول الرسول: (لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)[9] .

فتعددت البقاع التي يعصى فيها الله بتلك الموبقات. فإلى جانب ما ذكرنا كانت

ذرائع الشرك تقام على نطاق كبير في الأماكن المحيطة بالمدينة، وفي المزارات

التي تكثر فيها مقابر الصحابة، في قباء والبقيع وغيرها.

أما في جدة، فقد بلغ الضلال والفحش غايته عند القبر المزعوم أنه لحواء

عليها السلام فكانت تجبى إليه الأموال كل عام، ويأكل السدنة عنده أموال الناس

بالباطل ويصدون عن سبيل الله [10] .

وإذا كانت هذه بعض مظاهر الانحراف داخل الجزيرة العربية مهد الإسلام فما

بالنا بما كان خارجها من الانحرافات؟ !

المقصود هنا أن مظاهر الانحراف في العقيدة عمت تلك الجزيرة إلا من رحم

الله. ولكن لطف الله استنقذ الناس من هذه الوهدة بمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله

فقد قام بوجه الفتنة كأمة وحده، ونافح ودافع عن عقيدة التوحيد الخالص لينقيها

ويصفيها من شوائب الشرك وأدران الوثنية.

ونتساءل هنا: أكان بوسع الشيخ أن يصمد أمام طوفان الانحرافات بمجرد

كلمات وعظية أو خطب منبرية ونصائح وقتية فحسب؟ ! الجواب الذي لا شك فيه

أن لا!

إن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد سار وفق سيرة رسول الله محمد

ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم عندما قام يطلب النصير لدعوته: (من يحميني

حتى أبلغ دعوة ربي) [11] . وهذا ما سارت عليه كل الدعوات الإصلاحية في

تاريخ أمة الإسلام بعد ذلك.

كان مبدأ تحرك الشيخ لمحاربة مظاهر الشرك عندما عرض على رئيس بلدة

العيينة (عثمان بن حمد بن معمر) الدعوة، فاستجاب لها واتبعه عليها وناصره فيها، وألزم الخاصة والعامة أن يستجيبوا إليها.

عند ذلك لم يجد الشيخ مناصاً من التحرك العملي بهؤلاء الأنصار لتغيير

المنكرات الشركية، وبدأ بالعيينة نفسها، لقد انطلق مع نفر من الأتباع المخلصين

فخلصوا العيينة مما كان فيها وحولها من القباب والمشاهد والمساجد المبنية على

قبور الأولياء والصالحين، وكذلك قطعوا الأشجار التي كان الناس يعظمونها

ويتبركون بها.

وكان الشيخ هو الذي تولى بنفسه هدم القبة المقامة فوق قبر زيد بن الخطاب،

وسوّاها بالأرض امتثالاً للأمر النبوي لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.

ولقد كان لهذه الأعمال الإصلاحية وقع الصاعقة على المنتفعين بالانحراف في

البلدان المجاورة، وخاصة أصحاب السلطان منهم، فلقد خافوا من تلك الدعوة

وتأهبوا لمواجهتها، ولكن الشيخ لم يأبه بهم، وظل على سيرته في الدعوة العلمية

والعملية، إلى أن انتكس والي العيينة بعدما هدده والي الأحساء، وطلب منه التخلي

عن الشيخ.. هنا وجد الشيخ أن دعوة مثل دعوته لا يمكن لها أن تقبع داخل أسوار

بلدة بعينها، لا العيينة ولا غيرها، فترك العيينة، وانتقل إلى (الدرعية) فوجد من

واليها (محمد بن سعود) التأييد والنصرة، مما شجعه على المضي في دعوته..

وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه، وهو أن الشيخ رحمه الله وجد أن للقبورية

الوثنية أنصاراً يدافعون عنها، ويتشبثون بها، ويظهرون كامل الاستعداد للذود عنها

بالدم والروح بعد المال والجاه! ظهر له ذلك من موقف جمهرة الكبراء في البلدان

المحيطة الذين بادروا دعوته بالعداء حتى قبل أن يسمعوها أو يفهموها!

وهنا لم يعد الأمر متعلقاً بمظاهر من الانحراف تحتاج إلى محتسبين من

الآمرين الناهين فقط، بل رأى هذا الانحراف واقعاً مستقراً، تقوم عليه مصالح،

وتؤسس عليه زعامات ورئاسات تقاوم وتساوم عليه، بل تجاهد وتكابد من أجله..

فلم يكن بُد والحالة هذه من أن يواجه العناد بالجهاد، ولهذا انتقل الشيخ من مرحلة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مرحلة الجهاد

! .

أجل.... (لقد بقي رحمه الله يدعو إلى سبيل ربه بالحجة الواضحة

وبالموعظة الحسنة، فلم يبادر أحداً بالتكفير، ولم يبدأ أحداً بالعدوان؛ بل توقف

عن كل ذلك ورعاً منه وأملاً في أن يهدي الله الضالين، إلى أن نهضوا عليه

جميعهم بالعدوان وصاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته، وأباحوا دماءهم،

ولم يُثبتوا دعواهم الباطلة بالحجة من كتاب الله أو سنة رسول -صلى الله عليه

وسلم-، ولم يكتفوا بما ارتكبوه بحقه من الزور والبهتان، وما اتبعوه من وسائل

لإجلائه وجماعته عن البلاد، ومطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد، أجل، لم يأمر

رحمه الله بسفك دم ولا قتال على أكثر أهل الضلال والأهواء، حتى بدأوه بالقتل

والتكفير، فأمر الشيخ حينئذٍ بالجهاد، وحض أتباعه عليه فامتثلوا الأمر) [12] .

لقد ظلت دعوة الشيخ ثابتة على هذه الخُطا

تأمر بالمعروف وتمكّن له،

وتنهى عن المنكر وتتمكن منه وتقضي عليه

ففتح الله له ولأتباعه كثيراً من

البلاد، ودان له ساكنوها من العباد، ذلك في حياته ومن بعد وفاته.

وفي مقابل كل ما ذكرنا من الدلالات والشواهد على أن القوة السياسية لها أبلغ

الأثر في إخماد الباطل ومنكراته العملية، نذكر بلمحات تدل على العكس، وهو أن

القوة السياسية عندما تزيغ بها الأهواء، وتتفرق بها السبل عن الكلمة السواء

فإنها تنزل بكل ثقلها في خندق الباطل، لتساهم معه في تسديد سهام الشك والإيهام.. ورماح الشر والشرك والحرام على قلوب العوام

!

وفي تاريخ أمتنا من الشواهد على ذلك الكثير والكثير

سنتجاوز تلك الدول التي قامت أصلاً على البدع والخرافات، وغرستها غرساً

في أرض الإسلام، كالدولة العبيدية الرافضية (الفاطمية) وممالك الفرق الباطنية

الأخرى كالقرامطة والإسماعيلية والحشاشين والبويهيين وغيرها مع خطورتها

وعظيم ضلالها وانحرافها.

ولهذا سنقفز فوق معابر التاريخ إلى العصور الحديثة

العصور التي

يفترض أنها تناوئ الهرطقة، وتناقض الشعوذة.. وتحارب الدجل.

هل نأت الثقافات عن الخرافات؟

هل تخلت السياسات في هذا العصر

عن نصر الخزعبلات أو الاستنصار بها؟

للأسف

إننا سنسمع من التاريخ الحديث حديثاً، لا يختلف عما أخبرنا به

التاريخ القديم

فالحِلْفُ غير المقدس بين الخرافة والسياسة لا يزال قائماً

فكلاهما يخدم الآخر ويقايض به..

إننا سنبدأ بمرحلة متقدمة نسبياً في التاريخ المعاصر، وهي مرحلة الدولة

العثمانية، خاصة بعد أن أصابتها أدواء الأمم، لقد زاد توغل واتساع الطرق

الصوفية في تلك الدولة في مراحل انحدارها، مما كان له أثره الضار على شرائح

كبيرة من المجتمعات الإسلامية التابعة لها في مصر والشام وبلاد المغرب والحجاز

والعراق وغيرها، وزاد الطين بلة أن السلاطين العثمانيين كانوا يتخذون من مشايخ

الطرق خاصة الطريقة النقشبندية مرجعية دينية، فظلت للصوفية هيمنتها وسيطرتها

على العامة من الناس، وظلت للخرافة والبدع بذلك تأثيراتها عليهم.

استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال

الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها.

وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على

وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في

مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر!

وكان من هؤلاء شيخ الطريقة (السمانية) : محمد إبراهيم الجمل. لقد أدرك الإنجليز

أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة

من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة

والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع

والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت

سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة

أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما

مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى

الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.

سنأخذ من مصر مثالاً على العلاقة بين السياسة والخرافة، وسنرى أنه كان

في مصر كما في بلاد كثيرة غيرها ذلك الحلف غير المقدس بين هاتين القوتين.

لقد كانت الصوفية في عهد الملكية المصرية، تضفي طابعاً دينياً على

المناسبات المتعلقة بالحكام، حتى تلك المناسبات الخاصة منها؛ فكان مشايخ الطرق

يعدون العدة مثلاً للاحتفال بعيد ميلاد الملك، الذي يبدأ من صلاة الفجر بالمواكب

التي تجوب الشوارع بالرايات والشارات، وكانت المشيخة العامة تصدر منشوراً

عاماً يوزع على الطرق في هذه المناسبة، وتتصل بمأموري المراكز لحماية تلك

المواكب، وكانوا كذلك يحرصون على إحياء الذكريات الحزينة لوفاة من يموت من

الأسرة الملكية، كذكرى اليوم السابع ويوم الأربعين، والذكرى السنوية الأولى

والثانية والثالثة

إلخ. وكانت بعض الطرق الصوفية بدورها تتلقى المكافأة على

تلك المداهنة إلى حد يوصلها إلى المنزلة والقربى بل تتعداها أحياناً إلى السطوة

والسيطرة على ساحة التوجيه.

ماذا كان يعني هذا النفوذ لهذه الطريقة أو تلك في أوساط المسؤولين السياسيين؟!

إنه يعني ضمن ما يعني أن تبسط الحماية (الرسمية) على تلك الطرق

ورموزها وأفرادها وأملاكها ومصالحها

وأهم من هذا وذاك

تؤمن لها طرق

الانتشار الآمن في أوساط العامة.. والخاصة أيضاً! وهذه الحماية الرسمية لأرباب

الصوفية؛ أحد الأسباب الرئيسة في انتشار الفكر الصوفي وتغلغله في بلد كمصر

في ذلك الوقت..

لا نستطيع أن نجزم بقناعة السياسيين الدينية بهذه الطرق في كل حال، ولكننا

نجزم بأنهم كانوا يستفيدون منهم غاية الاستفادة، وفي أدق وأخطر المسائل المتعلقة

بالسياسات العليا أحياناً.

ومن الأمثلة الصارخة على هذا، أن الملك فؤاد عندما تطلع إلى تولي منصب

(الخلافة) في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا، صدّر لهذه المهمة الشيخ

(محمد ماضي أبو العزايم) أحد مشايخ الطرق المشهورين في مصر في ذلك الوقت.. ولكن جهود الملك لإعلان نفسه خليفة لم تكلل بالنجاح بعد ذلك، لأسباب كثيرة

منها تخلي أبي العزايم نفسه عن هذه الدعوة لصالح الملك فؤاد، وانتهى الأمر بوفاة

الملك دون أن يحقق هذا الأمل. وجاء بعد فؤاد ابنه فاروق، وظلت آمال أبيه

تداعبه، ومن أجل ذلك سعى لدى نقيب الأشراف في مصر في ذلك الوقت (علي

أحمد البيلاوي) كي يبحث له عن أية وسيلة للربط بين أسرة محمد علي (الألبانية)

التي جاء منها فؤاد وفاروق وبين النسب النبوي الشريف! !

وبالفعل شكل نقيب الأشراف هذه اللجنة وكان صوفياً وجعل تلك اللجنة تحت

إشرافه، وفي عضويتها جمع من مشايخ الطرق وبعض الأزهريين والشخصيات

العامة وكان الهدف المعلن من تشكيل اللجنة إثبات نسب الأسرة المالكة بالنسب

النبوي الشريف.

لم تكن الحكومات فقط هي التي تستعمل الصوفية مستغلة لها في كل أغراضها، بل كذلك كانت الأحزاب السياسية المعارضة، حتى ذوات الصبغة ا?علمانية الفجة

منها.

فحزب الوفد العريق في علمانيته، كان يعتمد على بعض الطرق الصوفية

لحشد التأييد الشعبي له، وكان من هذه الطرق (الطريقة البغدادية) وشيخها (سيد

عفيفي البغدادي) واستتل أيضاً الطريقة العفيفية وشيخها: (عبد العزيز عفيفي) وهذه

الطريقة تولى مشيختها بعد وفاة شيخها أحد أعضاء حزب الوفد وهو (أحمد الساكت) ، وقد بذل زعيم الوفد (مصطفى النحاس) جهوداً لترشيح عضو الوفد (أحمد

الصاوي) شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية بمصر!

ولما انتهى العهد الملكي في مصر، كان لضباط الثورة مواقف خاصة بهم

لضمان ولاء الطرق الصوفية لهم

لقد كانت الثورة تنظر نظرة عدائية لأي نشاط

إسلامي حر، باستثناء الطرق الصوفية؛ حيث اعتبرتها أداة لفريق الثورة الذي كان

يستهدف فرض الاشتراكية الإلحادية لا في مصر وحدها، بل في المحيط العربي

كله.

وأصبح للطرق الصوفية مجلة تصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة

باسم الحكومة، ومسوّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية.

لقد وجد كثير من الناس في الطرق الصوفية سبيلاً إلى ممارسة التدين بطريقة

مأمونة تحت المظلة الحكومية، فانتعش الوجود الصوفي الطرقي في تلك الحقبة،

بكل ما يعنيه وما يترتب عليه من انتشار الخرافة والدجل والبدعة التي لا يؤمن بها

الثوريون أصلاً ولا بغيرها من قيم الدين الصحيحة، ولكنهم وجدوا في الصوفية

ضالتهم لإفراغ الإسلام من محتواه الإصلاحي الحقيقي، وليصنعوا منه خادماً

لأصول الاشتراكية الثورية.

لقد اتسع انتشار الصوفية في بدايات عهد الثورة، حتى إن المجلس الصوفي

الأعلى لم يكن بمستطاعه وحده أن يشرف على أنشطة الصوفية، فدفعت السلطة

بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو (الاتحاد الاشتراكي) لكي يستغل

احتفالات ونشاطات الصوفية ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات

للدعاية للنظام.

وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات

الدعوية الأخرى، حتى إنها صدّرت رجلاً من رجالها وهو (أحمد رضوان) وأقحمته

لرئاسة مشيخة الطريقة (الخلوتية) التي كان تدعيم الحكومة لها أكثر من غيرها.

ولما توفي الشيخ الحكومي سنة 1967م، بُني له ضريح، ونُسجت حوله

الأساطير، وأسندت إليه الكرامات، والخواراق والمعجزات، التي ربما لم يُسمع

عنها لغيره، وربما لم يعلم هو عنها شيئاً طيلة حياته.

وقد استمر الدعم الحكومي للطرقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت

الطرق الصوفية التي تقرب من الخمسين طريقة، هي النشاط الديني الوحيد التابع

لرئاسة الجمهورية رأساً، وله ميزانيته الخاصة في الدولة.

وإمعانا في تسويغ الصوفية وتلميع رموزها، تم تعيين استاذ جامعي في

منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وهو (أبو الوفا التفتازاني) واعتبرت الصوفية

هذا تكريماً زائداً لهم وعدّوه رداً كافياً على خصومهم الذين يتهمون الطرقية

باللاعصرية والجهل مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى

وهكذا أخذت الخرافة

والدجل والشعوذة باسم الدين طابعاً (أكاديمياً) وإلى الله المشتكى! ! .

(1) مجموع الفتاوى (28/303) .

(2)

تفسير ابن كثير (4/315) .

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (1/96) .

(4)

البداية والنهاية (14/37) .

(5)

السياسة الشرعية، ص72.

(6)

البداية والنهاية (14/37) .

(7)

البداية والنهاية (14/36) .

(8)

أخرجه مالك في الموطأ/85، وأحمد في مسنده (2/246) .

(9)

أخرجه أبو داود (الفتن/1) وابن ماجه (فتن/9) وأحمد (5/278) .

(10)

راجع تاريخ ابن غنام ص 14، 16، 17.

(11)

أخرجه أبوداود (السنه/20) والترمذي (ثواب القرآن/24) وابن ماجه (مقدمة/13) .

(12)

تاريخ ابن غنام ص89.

ص: 62

ملفات

(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)

دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها

(1/2)

قبس من الظلمات

(ما وراء الطقوس)

خالد أبو الفتوح

ليس من الطبيعي أن يتوجه إنسان إلى حجر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق

آخر بأشكال التقديس والتقرب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال

لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلوق المكرم بعقله، المميز بفطرته؛ إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسوغه

له، أي: لا بد من وجود (فلسفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي

في كثير من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسي [1] لدى

المبتلين بهذا الداء، وهنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث؛ لأننا نريد

دخول منطقة (اللاوعي) عند القبوريين للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم

ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يقبلها عقل راشد، ولا تستسيغها

فطرة سليمة، ولا تسمح بها شريعة منزلة.. فكيف فعلها هؤلاء؟ بل كيف تمسكوا

بها ودافعوا عنها؟

عودة إلى الوراء:

الأمر يستدعي منا أن نعود إلى الوراء لننظر: كيف كان يُدعى الناس من

خلال (الحكمة والفلسفة) إلى الانحراف العقدي؟

في البدء كان التوحيد، ولم يكن شرك على وجه الأرض، وكان في الناس

بعض المميزين بصلاحهم المبرزين بعبادتهم، ثم طالت فترة الناس عن نور الوحي

فقلّ فيهم عدد هؤلاء المميزين، ولكن يبقى الناس مجلين هؤلاء الصالحين،

متمسكين بشعاع التقوى والعبادة يريدون عدم الانسلاخ منه، وهنا يبرز الشيطان

مزيناً بداية خط الانحراف: (لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم) ، و (أرى

جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه به) ،

فقط اتخاذ (الرمز) ؛ للتذكرة بالعبادة والصلاح..! ، فصوروا، ثم ماتوا.. فنشأ

قوم بعدهم فقال لهم إبليس: (إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها) فعبدوها.. إنه

(التقليد) ..

فباتخاذ (الرمز) واحترامه وتعظيمه، ثم بـ (التقليد) الذي قاد إلى التقديس

حدث أول شرك، وهذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام [2] . فكيف كانت

(فلسفة) الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام؟ !

نشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم (وسطاء) بين

الله وخلقه، وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك

والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى، وزعموا أنها أحياء ناطقة مدبرة

للعالم، وأنها بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح،

وأنها متصفة بصفات مخصوصة، ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة

تعبد.. فكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى

الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى، وهؤلاء يسمون (أصحاب الهياكل) .

ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل لما يعرض

في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً

وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري،

وعطارد، والمريخ، وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها كما يزعمون، كل تمثال

يقابل هيكلاً

واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهياكل

التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله تعالى.. وهؤلاء يسمون

(أصحاب الأشخاص)[3] .

مرة أخرى: إنه (الرمز) ، ولكن يظهر هنا جليّاً دور قدسية (الأرواح) التي

نسبوها إلى الملائكة، وعقيدة (الواسطة) و (الوسيلة) .

ويعيد إبراهيم عليه السلام إرساء عقيدة التوحيد صافية نقية، وينشر إسماعيل

عليه السلام ملة أبيه إبراهيم بين العرب، ويظل أبناؤه على ذلك التوحيد، معظّمين

أول بيت وضع للناس الذي جدده خليل الله مع ابنه إسماعيل.. إلى أن بعدت الفترة

بين العرب ونور النبوة، ثم اندرس كثير من آثار العلم، فقلّت حصانتهم ضد

الانحراف، وأصبحت الفرصة مواتية للتحريف، وهنا برز عمرو بن لحيّ

الخزاعي آتياً بالأصنام إلى مكة، فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها [4] ،

فعبدوها، ولكنهم لم يعبدوها لمجرد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها (معتقدين

أنها منازل الأرواح كما بيّن الإخباريون) [5] .. مرة أخرى: إنه (الرمز)

و (الأرواح) .. ثم: بسبب (التقليد) وبسبب ضعف تمثل تعاليم الملة الحنيفية في نفوس الناس بل ربما كانت تفاصيل هذه التعاليم قد ضاعت استمرت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة [6] ، ووصل الولع بـ (تقديس الرمز) إلى هاوية سحيقة، حيث روى أبو الرجاء العطاردي:(كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير (!) ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..) [7] .. ومع ذلك قالوا:[مَا نَعْبُدُهُمْ إلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى][الزمر: 3]، وقالوا أيضاً:

[هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه][يونس: 18]

إنها: (الواسطة) و (الوسيلة) .

ونفترض هنا سؤالاً مهماً: لو كان عمرو بن لحي خرج في صحابة رسول

الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الأوثان تقرباً إلى الرحمن، أكان يجد

من يتبعه منهم؟ بداهة: لا، وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا لم يرفض العرب ما جاء

به عمرو من تحريف دين إبراهيم وعبادة الأصنام من أول وهلة؟ ..

يوضح الإجابة على مثل ذلك كلام لابن القيم رحمه الله حيث يقول: (قبول

المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان

فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة

لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع

وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء

الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا

مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته

) [8] .

لم يكن عمرو بن لحيّ أول من ألقى إلى العرب مفهوم تقديس الرمز وإن كان

هو أول من جسده في صورة أوثان وأصنام، لقد كان العرب بسبب ضعف آثار علم

النبوة الذي أشرنا إليه، وبذريعة (تقديس الرمز) وصلوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه:(حالة القابلية للشرك) ، فلقد ذكر ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وابن إسحاق في

سيرته (أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم؛

تعظيماً للحرم وصبابة به، فحيثما حل وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً

منهم بها، وصبابة بالحرم، وحباّ له) [9] .

فتقديس (الرمز) ذريعة إلى الشرك، (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي

التي أوقعت كثيراً من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن

النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب، ونحو ذلك، فلأن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه.. أعظم من أن

يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها،

ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد، بل ولا في

السّحَر..) [10] .

حقيقة القبورية:

وهنا نأتي إلى القبوريين: كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح؟ وكيف

تنتهي بهم إلى الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك حسب تعبير ابن تيمية رحمه

الله؟ .. تبدأ العلاقة بتقديس (الرمز) .. رمز الصلاح والتقوى والمنزلة الرفيعة عند

الله، ومن ثم: تستحب زيارة تلك البقاع، ليس لتذكر الموت والآخرة، بل لتذكر

(الرمز) والاعتبار به، ولأن هذه الأماكن (مباركة) ، ولأن الملائكة و (الأرواح)

تنتشر حولها كما يزعمون، فإن دعاء الله يحسن عندها، فهو أرجح منه في البيت

والمسجد وأوقات السّحَر، كما أن البركة (تفيض) على كل شيء حول القبر، فمن

أراد التزود منها فليلمس، ويقبّل، ويتمسح، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة تالية:

من دعاء الله عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، أي: اتخاذه (واسطة)

و (وسيلة) للاستشفاع به عند الله؛ فصاحب الضريح طاهر مكرم مقرب له جاه عند

الله، بينما صاحب الذنب أو الحاجة يتلطخ في أوحال خطيئته، غير مؤهل لدعاء

الله، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة أخرى: فما دام هذا المقبور مكرماً فليس بممتنع

أن يعطيه الله القدرة على التصرف في بعض الأمور التي لا يقدر عليها طالب

الحاجة، فيُدعى صاحب القبر، يُرجى ويُخشى، يستغاث به، ويطلب المدد منه،

ولِمَ لا؟ ! ؛ فهو صاحب (السر) الذي توجل منه النفوس، وترتجف له القلوب،

وتتحير فيه العقول! ، فإذا تقرر ذلك هبط دركة ليست أخيرة، حيث (يتخذ قبره

وثناً، يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح

عنده، ثم ينقله [الشيطان] درجة أخرى: إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً

ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم

) [11] .

هذا هو الواقع: ليست المسألة مظاهر وطقوساً مجردة، بل هي أعمال

جوارح، نتجت عن أعمال قلوب، تحركها تصورات واعتقادات رسخت في

النفوس وتخللتها وذابت فيها إلى الحد الذي لم تعد فيه بارزة منفصلة عن تلك

المظاهر والطقوس.. هذا هو التصور المقنع لما يعمله أي إنسان عاقل؛ ف (مبدأ

كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات،

والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره

تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها

بفسادها) [12] .

فالحقيقة أن: (من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم

ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد

كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان

تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد

استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا

أمر لم تبلغ إليه الجاهلية

) [13] .

فالمسألة في حقيقتها: تقديس (الرمز) واتخاذه (واسطة) أو (وسيلة) لقضاء

الحاجات وللشفاعة عند الله..

هكذا هي في أدبيات القبوريين: (جاء في الرسالة (42) من رسائل إخوان

الصفا [14](4/21) قولهم: من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم

وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم

ومساجدهم

فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل

بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة

والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة

على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك،

طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه

) [15] ..، ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا

عن كتاب لأحد دعاة القبور: (وكل ما في الأمر أنه [اي: المتوسّل بغير الله] يرى

نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه [اي: عن الله] أيما إبعاد،

فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في

هذا الفهم

) [16] .

وهكذا هي في مكنون تراثهم الشعبي؛ فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية

كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي نجد منه قولهم: (من زار الاعتاب ما خاب)

أي: من زار الأضرحة والأعتاب (المقدسة) قضيت حاجته ونال مراده، (فالاعتقاد

الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين (امتيازات) لا

حدود لها.. يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته) [17] .

ونجد في هذا التراث أيضاً: (يوضع سره في أضعف خلقه) ، والمفهوم من

كلمة (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود

بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال

ولعل من دقيق فقه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في دين الله،

وإحاطة فقهه بواقع الناس وحالهم.. ما جاء في معرض تعريفه للألوهية والإله؛

حيث قال: (فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر،

والولاية. والإله معناه: الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ، وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص

الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلجأ إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم

واسطة بينه وبين الله) [18]، ويقول أيضاً: (

هذا الذي يسميه المشركون في

زماننا: الاعتقاد، هو الشرك الذي نزل فيه القرآن..) [19] .

وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: (إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله

لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا

العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك) ، ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في

مرض موته: (من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها

له) [20]، (فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم

) [21] .

وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: أن بعض المرضى يأكلون من

تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء [22]، وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها:

(إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور،

وقاضي الحاجات) و (إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا

يحيي الأموات!) [23] .

والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير (الأرواح) ؛ (فإنهم قالوا: الميت

المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى

وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من

روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من

المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له) [24] .

ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية:

(إن أرواح المؤمنين وخاصة أرواح الأولياء والصالحين قادرة على التصرف في

هذا الكون بعد مفارقة الأجساد

) [25] .

وهذا ما يشهد به واقعهم: فأعراب شرق الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن

أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون (أن أرواح الأولياء تسكن في

القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب،

فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم) [26] .

وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: (إن الدعاء

والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في

قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها) [27]، ويقول آخر: (إن تصرف

الأولياء يزداد بعد وفاتهم) [28] .

فالقبوريون (أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن

الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم) [29] .

ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح (الأولياء) بالتصرف أن كثيراً من

هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد

القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح

والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي

كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما

زعموا [30]

بل وصل الأمر إلى حد (أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها)[31] .

وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: (بعد ما راح

المقبرة بقى سكّره) أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر.. فما الفرق بين الحياة

والممات إلا في انفصال (الروح) عن الجسد؟ ! .

والمسألة في حقيقتها: تعلق القلوب بالضريح وصاحبه والتوجه إليه بمشاعر

الإجلال والمهابة..

هكذا يشهد حالهم: (فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع

ورقّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم

فيها نظيره ولا قريب منه) [32] .

ولعل السبب في ذلك أن (غرّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور

المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلوّاً، كنتم بقربهم

أسعد، ومن أعدائهم أبعد) [33] .

وهذا ما يقرره أحد مشائخ القبوريين، الذي يقول: (إن صاحب هذا القبر

شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب

قوة الارتباط والتعلق به) [34] .

فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق

بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في (شرح المختار) :

(قد قرر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في

تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك) [35] ، وعلى ذلك (فقد

يقسم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم (شعيب) بالكذب

مرة واحدة؛ لأنه (مظهر الأسرار وموضح الخفيّات ( [36] ، وعندما سئل أحد

التجار: لماذا يقسم بصندوق ضريح القرية، ولا يقسم بالله عندما يحاسب زبائنه؟

أجاب: (إنهم هنا لا يرضون بقسم الله، ولا يرضون إلا بقسم صندوق نذور

الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان) [37] .. فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال

والرهبة وتعلق القلب بالضريح وصاحبه؟

وأحوالهم في ذلك عديدة: فمقام (النبي هارون) بالأردن: (يهجع الزائر

(المؤمن) تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور) ، وتزور المرأة

العاقر مقام (النبي يوشع) (حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع

وتضرع.. ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم

يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات) [38] .. ويلخص هذا التعلق أبو الثناء

الآلوسي عندما يصف موقفاً مر به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول:(حتى أتينا قرية يقال لها (قارحين) وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس

منه (بروحانية ( [39] .. ويقول البريلوي أحمد رضا المسمي نفسه بعبد المصطفى: (إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث

أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق

باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه) ، فإن لساني يأبى أن ينطق

الاستعانة بغيره) [40] .. وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية

رحمه الله عندما يتحدث عن تفرق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي

تتوق نفسه إليه، فيقول: (ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من

الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور

الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم

قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه) [41] .

وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي:(الشيخ البعيد سره باتع)، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية،

فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن

غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟ .. إنه شوق القلب

وحنينه الذي يساعد البعد في تولده، وهذا ما يعبرون عنه في مثل آخر يقول:

(ابعد حبة (بعض الشيء) تزيد محبة) .. فتعلق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل

(آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي

واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة؛ فالضريح

الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب

المتاح زيارته في أي وقت) [42] .

وتبقى التساؤلات:

- ما الذي يدفعهم للاعتقاد في الأضرحة أنها قوة قاهرة وسلطة نافذة وإن

اعتبروها (واسطة) و (وسيلة) ؟

- وما الذي يدفعهم لإسناد ذلك إلى الأرواح، أو بتعبير أدق إلى سرّ غيبي

محيّر؟

- وما الذي يدفعهم إلى التوجه بمشاعر قلوبهم نحوها لجلب رضاها أو دفع

مضرتها، أو للتمتع بالمسرة والحبور في أنفسهم؟

- لماذا تحولت العلاقة بالرمز من ذكرى واحترام إلى تقديس واعتقاد إلى

تعلق وانجذاب؟

إن الذي حملهم على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التأله) لدى

قلوبهم المحرومة من التأله للإله الحق؛ وهذا ما يقرره الإمام ابن تيمية رحمه الله

حين يقول: (ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه

وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له

خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين

وهذا أمر

ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه،

كان مشركاً) [43] .

ويقرر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، حين يقول: (العبد لا

يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما

محبة) [44] .

وهذا ما تقرره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد (أيدت دراسات

الأنثربولوجيا [علم الإنسان] وعلم الأديان أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع

الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القدم وهو يبحث عن

إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي

لا يموت) [45] ، (هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان

والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى

قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا

حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد) [46] .

وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) حتى عند أهل الإلحاد أشكال

المهابة و (القداسة) ، ف (في ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في

فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت

الاجتماعات والاستعراضات سمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو

النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم وقد حلت مكان

التماثيل الدينية والأيقونات تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة،

وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحولت إلى مزارات

مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء

نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة

فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم (كالحرس الأحمر في الصين) وهي إلى

جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!) [47] .

ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:

أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تعتبر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في

أجدادهم قبل الإسلام، (وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت

رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ،

ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر

الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..) [48] .

وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون)

في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري)

والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك

المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي

بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان

لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري) ، على الرغم من

تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو

بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على

طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين [49] ..

ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى

القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في

تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في

جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ (هلال) المقام على قبر مزعوم قرب

دمشق، حيث كان القدماء يعبدون (القمر) .. وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة

في الوثنيات القديمة و (الحديثة) ، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند

القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي

المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي [50] .

ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تعتبر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب

الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ

القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: (هذا عين ما كان

يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم

وهو ما يفعله بعض

النصارى عند قبور القديسين) ، ويقول أيضاً: (ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم

كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري

واحتج لهم بأنهم

كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له

من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى) [51]، ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد

التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم

والاستعانة بهم، ومدّ يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم..) [52] ، ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: (في

بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه! (ويقال:

إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب

كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره

وجميع هذه القبور تعبد

بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل

معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن

الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند

يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في

عبادتها) [53] .

ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة (الشريف عون)

عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض

القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس

وليست أمّاً للمسلمين فقط [54] .

فحقيقة الأمر: أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي

تفعله الجاهلية الوثنية (وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله

القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير

المعاني) [55] .

ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجه إليها تجاوز حواجز الملل والمذهبيات

والفرق ليشكل طقساً مشتركاً من طقوس التدين (الباطل) يجتمع عليه القبوريون مع

إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس

بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.

ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات

الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة

الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى والقبوريين، وهو (أضرحة الرؤيا) ،

إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة

الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر أن كثيراً (من جهال

المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم

يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم) [56] .

وكثير من (موالد) النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من

جهلة المسلمين (وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة

ليخلصوهم من الأرواح الشريرة! .. وكما تتردد بعض القبطيات على أضرحة

الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها..) [57] ، وأيضاً

فإن بعض النصارى يشارك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ

أبي الحجاج الأقصري [58] .

ومثل ما توضع الرسائل في أضرحة الأولياء وخاصة ضريح الإمام الشافعي

توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق

أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور، كذلك

توهب الأضاحي التي تذبح هناك [59] .

والأهالي على اختلاف مللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام (النبي يوشع)

في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات [60] .

ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى

قريباته عندما مرضت أصر أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس

أيضاً [61] .

فما الذي جعل هؤلاء يشاركون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك

المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين، أو (التأله) ؟

رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع

التأله في قلوبهم: تعلقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب

وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء..

فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور

المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ.. هناك

القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد (وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية

التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب

تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه.. واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي

فرج) [62] .

ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في

حقيقته إلا إشباع التأله في القلوب، فقد قرروا ذلك في صراحة، فقال أحدهم: (ولا

يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون

نسبتها مشهورة بين الناس) [63]، وقال الآخر: (وعلى كل حال: فلا بأس من

زيارته [أي: القبر] على من توهم من وجوده) [64] ، فالمهم أنه (يجب علينا

التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يعد تعظيماً، وبكل ما يليق

من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة

) (10) ، ليس هذا فحسب، بل

وصل الأمر إلى أَضْرَحة (دواب الأولياء) ، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها

مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار

وتبخر [65] ، فالقبوريون عباد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.

وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس

أو أي شيء من المخلوقات؟ .. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه! ..

وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.

ففي الهند (يأخذون قليلاً من التراب من مكان ما، ويعطونه حكم نعش الإمام

الحسين، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يقدمون له كل يوم أنواعاً

من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمر

بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين، ويطلبون منه المال والأولاد

) [66] .

ولقد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد

(الحسين) بالقاهرة (يطوفون بعمود من الرخام، ويتمسحون به التماساً للبركة وتقرباً

إلى (السيد البدوي) ! معتقدين بأنه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفرف دائماً هناك..) [67] ، وفي نابلس

بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يطلق عليه بعد انحراف

الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود [68] .

وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلفته الشيوعية الناس هناك في

التعلق بأي شيء (مقدس) ، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر

بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي

علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسح والتبرك بها، كما يتبركون ويتمسحون

هناك أيضاً بصورة الكعبة! [69] .

بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر (حول حمار يأتي به دراويش

الطريقة الشناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها

الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان!) [70] ..

إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عقل رشيد ولا دين صحيح.

هذا ما تيسر ذكره حسب المصادر المتاحة لي، وهي تعتبر عينة عشوائية لما

يحدثه القبوريون في معظم أنحاء العالم الإسلامي..

فما الذي دعاهم إلى هذا الاعتقاد وتقديم هذه القرابين والطقوس غير إغواء

الشيطان لهم بالتأله لغير الله؟ .. وإلى أي مدى تأخذ الخرافة والوهم والدجل من

يريدون أن يضيئوا حياتهم بقبس من الظلمات؟

(1) الاتجاه النفسي: (ميل عام مكتسب، نسبي في ثبوته، عاطفي في أعماقه، يؤثر في الدوافع النوعية، ويوجه سلوك الفرد)، انظر: أسس علم النفس الاجتماعي، للدكتور مختار حمزة،

ص244.

(2)

انظر: ما أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة نوح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى:[ولا تذرن ودَاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونّسراً]

[نوح: 23]، وانظر: تفسير الطبري، ج 29، ص62، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، ج1،

ص184.

(3)

بتصرف عن: التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام، لعبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي، ص43، ص45 وانظر: تفسير ابن كثير، ج2، ص140 141.

(4)

روى القصة بتفاصيلها ابن إسحاق (1/76) عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححها محمد بن رزق بن طرهوني في (السيرة الذهبية) ، 1/65، وانظر: فتح الباري، ج6 ص 634، وصحيح مسلم، ك/كسوف الشمس، باب رقم 9، 60، والمسند: 3/353، 5/137.

(5)

د أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص84.

(6)

انظر: السابق، ص83، 84.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة.

(8)

الفوائد، ص44، 45.

(9)

د محمد محمد أبو شهبة، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، ج 1، ص71.

(10)

ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص 334، وانظر: حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي.

(11)

ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ج1، ص217.

(12)

ابن القيم، الفوائد، ص236.

(13)

الإمام محمد بن علي الشوكاني، رسالة وجوب توحيد الله عز وجل، ت: د محمد بن ربيع هادي المدخلي، ص80.

(14)

تعتبر (رسائل إخوان الصفا) مرجعاً مهماً في تسويغ عقائد الباطنية الشركية، وقد ألفها مجموعة من الفلاسفة أشياع الفاطميين (العبيديين) في القرن الرابع الهجري.

(15)

عن: هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص 32، ص102.

(16)

مجلة المنار، ج3، م33، ص216.

(17)

موالد مصر المحروسة، عرفة عبده علي، ص85.

(18)

رسالة (هدية طيبة) ، ضمن مجموعة التوحيد، ص152.

(19)

رسالة (كشف الشبهات) ، ضمن مجموعة التوحيد، ص102، ص 113.

(20)

عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي الأفغاني،

ص1083، وانظر: البريلوية، عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص74، ص59.

(21)

هيام فتحي دربك، مقال بعنوان: موالد الأولياء في مصر، المجلة العربية، ع/131،

ذو الحجة 1408هـ، ص43.

(22)

انظر: الانحرافات العقدية، ص335.

(23)

البريلوية، ص75.

(24)

محيي الدين البركوي الحنفي، زيارة القبور الشرعية والشركية، ص 48.

(25)

الديوبندية تعريفها، عقائدها، سيد طالب الرحمن، ص78.

(26)

الخوري بولس سلمان، المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، 11/11/1920م،

ص901.

(27)

المنار، ج3، م33، ص216.

(28)

البريلوية، عقائد وتاريخ، ص74.

(29)

هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص43.

(30)

المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، ص908.

(31)

د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص23، هامش1.

(32)

ابن القيم، إغاثة اللهفان، ج1، ص198.

(33)

السابق، ص189.

(34)

الديوبندية، ص132.

(35)

حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي الحنفي، ص25.

(36)

مجلة المشرق، المزارات في شرقي الأردن، ص905.

(37)

د عبد الكريم دهينة: الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص117.

(38)

مجلة المشرق، ص906، ص903، ص 913.

(39)

الانحرافات العقدية، ص347.

(40)

عن: البريلوية عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص58 (10) مجموع الفتاوى، ج27

ص164.

(41)

موالد مصر المحروسة، ص81، 82.

(42)

رسالة العبودية، ت: محمد بشير عيون، ص65، 66، وانظر: مجموع الفتاوى، ج10، ص216.

(43)

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص277.

(44)

د محمد محمد عودة، ود كمال إبراهيم مرسي، الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام، ص103.

(45)

د يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص99.

(46)

حسين أحمد أمين، تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين، مجلة العربي، ع/226،

رمضان 1397هـ، ص131.

(47)

د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص128.

(48)

انظر: موالد مصر المحروسة، ص69، والصوفية والسياسة في مصر، ص50، ومقال: تأملات في حقيقة أولياء الله، ص137، ص136.

(49)

انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص135.

(50)

مجلة المنار، ج3، م33، ص216 218.

(51)

عن: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمد عبد الرؤوف القاسم، ص780.

(52)

مجلة المنار، ج3، م33، ص220.

(53)

انظر: الانحرافات العقدية، ص304.

(54)

تطهير الاعتقاد، للإمام الصنعاني، ص18 19.

(55)

مجموع الفتاوى، ج27، ص461.

(56)

موالد مصر المحروسة، ص73.

(57)

الصوفية والسياسة، ص50.

(58)

انظر: موالد مصر المحروسة، ص72، 75.

(59)

انظر: مجلة المشرق، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص902 904.

(60)

اعترافات كنت قبورياً، ص30.

(61)

الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص159.

(62)

البريلوية، ص138.

(63)

الانحرافات العقدية، ص285.

(64)

نفسه، ص293.

(65)

انظر: السابق، ص300.

(66)

رسالة في تحريم اتخاذ الضرائح، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ص21.

(67)

عن: السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعة والدينية، لمحمد أحمد درنيقة، ص222.

(68)

انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص 315.

(69)

انظر: مقال (مسلمو أوزبكستان) ، د عبد الرحمن محمد عسيري، مجلة: دراسات إسلامية، ع/1، ص218.

(70)

حسين أحمد أمين، مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص136.

ص: 72

ملفات

(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)

دمعة على الإسلام

مصطفى لطفي المنفلوطي [1]

كتب إليّ أحدُ علماء الهند كتاباً يقولُ فيه إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة

(التاميل) ، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس، موضوعه:

تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكرُ مناقبه وكراماته، فرأى فيه من

الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبد القادر ولقّبه بها صفات وألقاباً

هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلاً عن مقام الولاية كقوله: (سيد

السموات والأرض) و (النفّاع الضرّار) و (المتصرّف في الأكوان) و (المطلع على

أسرار الخليقة) و (محيي الموتى) و (مبرئ الأعمى والأبرص والأكمه) و (أمره من

أمر الله) و (ماحي الذنوب) و (دافع البلاء) و (الرافع الواضع) و (صاحب الشريعة)

و (صاحب الوجود التام) إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب [2] ! ويقول

الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن

يتكيّف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: (أول ما يجب على

الزائر أن يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجّه

إلى تلك الكعبة المشرفة، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول:

(يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدّني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي. أغثني

يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر،

أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجة عبد القادر) .

(يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك

مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة) .

ويقول الكاتب أيضاً: إن في بلدة (ناقور) في الهند قبراً يسمى (شاه الحميد)

وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون وأن الهنود يسجدون بين يدي ذلك

القبر سجودَهم بين يدي الله، وأن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزاراً يمثل

مزار السيد عبد القادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد،

والملجأ الذي يلجأون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته

وسدانته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض لصاروا أغنياء.

هذا ما كتبه إليّ ذلك الكاتب؛ ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى

دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصرُ مما حولي شيئاً

حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام نكروه بعدما عرفوه، ووضعوه

بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها!

أيّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرةً واحدةً من الدمع، فلا تريقُها

أمام هذا المنظر المؤثر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركّع سجّدٌ على

أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خيرٌ من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك

بعد مماته!

أي قلبٍ يستطيعُ أن يستقرّ بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعاً

حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله؛

وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة، وكثرة المعبودات!

لِمَ ينقُمُ المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك

الموجدة وذلك الضغن؟ وعلامَ يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك

بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟

يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن

العقل، فيتأولون فيه، ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فيدينون

بآلاف من الآلهة، أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث

لا يشعرون!

كثيراً ما يضمر الإنسان في نفسه أمراً، وهو لا يشعر به، وكثيراً ما تشتمل

نفسُه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها. ولا أرى مثلاً لذلك أقرب من

المسلمين الذين يلتجئون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور ويتضرعون إليهم

تضرعهم للإله المعبود، فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم،

وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وأن أكبر مظهر

لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده

ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم

الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رِقّ العبودية، فلا يذل

صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان

إلا بالحق والعدل. وقد ترك الإسلامُ بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في

نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغَيْرة،

يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده: قف مكانك،

ولا تغلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا

إله إلا الله.

هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخلَ

عقيدتَهم ما داخلَها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى، فقد ذلت رقابهم وخفقت

رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا

إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا

عليهم نفوسهم، وأموالهم، ومواطنهم، وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.

واللهِ، لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم

من سعادة الحياة وهناءتها، إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه، أقرب من رجوع

الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين

يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: (أنت المتصرف في الكائنات، وأنت

سيد الأرضين والسموات) .

إن الله أغيرُ على نفسه من أن يسعدَ أقواماً يزدرونه، ويحتقرونه، ويتخذونه

وراءهم ظهرياً؛ فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن

يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.

بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة الفادحة؟ أأدعو

علماء مصر وهم الذين يتهافتون على (يوم الكنسة)[3] تهافُتَ الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني [4] فيلسوف الإسلام

ليحيوا أبا الهدى الصيّادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم وهم الذين

يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام؟ أم علماء الهند وبينهم أمثال

مؤلف هذا الكتاب؟

يا قادة الأمة ورؤساءها! عَذَرْنا العامة في إشراكها، وفساد عقائدها، وقلنا:

إن العامي أقصر نظراً، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة

في النصب، والتماثيل، والأضرحة والقبور؛ فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرأون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: [قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلَاّ اللَّهُ] [النمل: 65] . وقوله مخاطباً نبيه: [قُل لَاّ

أََمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَراً] [الأعراف: 188] . وقوله: [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ

قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إنَّ اللَّهَ

سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ] [الأنفال: 17] ؟

إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: (كل خير في اتباع من

سلف، وكل شر في ابتداع من خلف) فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا

يجصصون قبراً، أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر

النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هم؟

وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم

وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟

وهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور

والتماثيل، نهى عنها عبثاً ولعباً، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟

وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجر إلى

الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟

واللهِ، ما جهلتم شيئاً من هذا ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم

الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون

أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.

(1) كاتب وأديب مصري مبدع، وهو في هذا المقال يعلق على موضوع القبور والأضرحة بوجهة نظر الفرد المسلم الذي يحز في نفسه ما آل إليه حال بعض المسلمين وهو من كتاب (النظرات) تحقيق مجيد طراد.

(2)

للتعرف على شخصية الجيلاني يراجع كتاب: (الشيخ عبد القادر الجيلاني: آراؤه الاعتقادية والصوفية) للدكتور سعيد بن مسفر بن مفرح وهو رسالته للدكتوراه وتعتبر بحثاً قيماً في بابه.

(3)

يوم يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي للتبرك بكنس ترابه.

(4)

جمال الدين الأفغاني بالرغم مما له من جهود في خدمه الإسلام إلا أن عليه مآخذ وأخطاء عظيمة انظر: (جمال الدين الأفغاني) للدكتور علي عبد الحليم محمود ولمعرفة من هو (أبو الهدى الصيادي) انظر: موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية.

ص: 84

المسلمون والعالم

طالبان.. وقدر أفغانستان

(2/3)

طالبان.. ما يُراد لها.. وما يُراد منها

عبد العزيز كامل

بانتهاء الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب في أوائل التسعينيات،

خفت حدة التدخلات المباشرة لتوسيع مناطق النفوذ في العالم الثالث؛ حيث لم تعد

هناك حاجة لتلك المنافسة بعد تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالجلوس على كرسي

القطبية الواحدة. وترتب على هذا تعاظم دور القوى الإقليمية، وحلت تلك القوى

محل القطبين الدوليين أو أحدهما في التنافس والصراع، وعلى هذا فإن هناك

قضايا عديدة بردت دولياَ بانتهاء الحرب الباردة، وانحلت تلقائياً بزوال المنافسة بين

القطبين كما حدث في كمبوديا ونيكاراجوا وموزمبيق وأنجولا وجنوب إفريقياً بينما

حلت السخونة إقليمياً في أماكن أخرى للسبب نفسه وهو انتهاء الحرب الباردة؛

حيث تفجر بانهيار المعسكر الشرقي الشيوعي الصراع بين روسيا الاتحادية وريثة

الاتحاد السوفييتي وبين أقاليم عديدة مثلما حدث في الشيشان وتتارستان وغيرهما،

وتفجر صراع آخر بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي، فاشتعلت بسبب ذلك منطقة

البلقان بالأزمات والأحداث في البوسنة وألبانيا وكوسوفا والجبل الأسود.

ويدخل ضمن التنافس على الزعامة الإقليمية بعد غياب المنافسة القطبية ذلك

التسارع المحموم للأحداث في جنوب آسيا، وخاصة بين الهند وباكستان، وكذلك

بين دول جنوب شرق آسيا والصين من جهة، وبين كل من الهند وإيران وباكستان

من جهة أخرى على مناطق آسيا الوسطى؛ حيث الجمهوريات الإسلامية التي ولدت

مرة أخرى بموت الاتحاد السوفييتي، تلك الجمهوريات التي تتطلع الأطماع إلى

حقولها الغنية بالبترول والغاز وإلى أسواقها القابلة للزيادة والنمو.

أما عن موقع أفغانستان من كل هذا، فهي أحد المعابر التي تمر من فوقها تلك

المطامع، ولا يمكن لأي طرف من المتنافسين أن يتجاهل أهمية أفغانستان في

الوصول لما يريد.

وعلى الرغم من أن الصراع يبدو إقليمياً بحتاً بين باكستان من جهة والهند

وإيران من جهة أخرى فوق أرض أفغانستان إلا أن أطرافاً دولية تقف أيضاً خلف

هذا التنافس.

فللولايات المتحدة تطلعاتها وأطماعها في آسيا الوسطى، وروسيا تحاول الحد

من تفرد الولايات المتحدة بتركة الاتحاد السوفييتي السابق.. وجاء موقع أفغانستان

في وسط حلبة المصارعة الدولية الجديدة، ليجدد مرة أخرى نزاعاً سياسياً

واقتصادياً بين أطراف خارجية على أرضها، وهو نزاع قد تراه الأعين للوهلة

الأولى نزاعاً داخلياً فقط.

لعل ما تقدم ذكره يفسر بعض الخلفيات التي تدفع الأطراف الدولية والإقليمية

للتدخل في الشأن الأفغاني، ولعل الأمر يتضح أكثر عندما نستعرض مواقف تلك

الأطراف من أحداث السنوات الأخيرة، وبالذات منذ برزت حركة طالبان وتمكنت

من إتمام السيطرة شبه الكاملة على ربوع أفغانستان.

أولاً: باكستان:

بدا دور باكستان غامضاً في إنشاء ودعم حركة (الطالبان) ولا يزال هذا

الموقف يكتنفه بعض الغموض، ولكن هناك حقائق يمكن أن تجلّي الكثير من

غموض الموقف الباكستاني في علاقته بأفغانستان بوجه عام وحركة الطلاب بوجه

خاص، ومن تلك الحقائق ما يلي:

1-

لإسلام أباد مطلب ملحّ في إحلال سلام واستقرار في أفغانستان، تعلم أنه

سينعكس إيجاباً على الاستقرار في باكستان؛ فأفغانستان بلد مجاور لها، وكل دولة

تتطلع إلى الاستقرار على حدودها، والسياسيون في إسلام أباد لا يخفون أنهم

يحملون همّاً كبيراً لما دار ويدور في أفغانستان بعد انتهاء الحرب مع الشيوعية،

تلك الحرب التي حولتها إلى ترسانة ضخمة للأسلحة من كل نوع، بدءاً من

المسدسات وانتهاء بالطائرات والصواريخ؛ وهي أسلحة ظلت منتشرة في أنحاء

أفغانستان في أيدي أطراف مختلفة، بدأت تتصارع فيما بينها كما هو معروف، ولم

يكن بمقدور أحد تلك الأطراف السيطرة على الآخرين، ومن ثم السيطرة على

السلاح المنتشر في طول البلاد وعرضها، ومعلوم ما يمكن أن يثيره هذا الوضع

من توترات وتقلبات ومشاكل أمنية وسياسية وعسكرية لباكستان المجاورة وقد عبر

وزير الداخلية الباكستاني السابق عن هذه الهموم الباكستانية بقوله: (تعرفون أننا

نتعامل مع آثار الحرب الأفغانية الطويلة، إن في أفغانستان أسلحة بقيمة 30 مليار

دولار، بينها عشرة مليارات دفعها الغرب، والآن يجب تنظيف البلد من كل هذا)

(الوطن الكويتية 9/3/1995م)

إذن فباكستان تحمل هماً له ما يسوّغه، وبقدر عِظم هذا الهم، كانت همة

باكستان متوافرة على الوقوف مع أي جهة يمكن أن تضع حداً للفوضى في

أفغانستان، وكان بروز حركة طالبان أملاً ولو كان بعيداً للوصول إلى حل لتلك

المشكلة، ولكن هذا الأمل ظل يتعاظم مع الإيقاع المتسارع للانتصارات التي ظلت

(طالبان) تحرزها بلا توقف على أطراف النزاع الداخلي، وزاد من التفاؤل

الباكستاني، نجاح طالبان الكبير في نزع السلاح من القبائل والعصابات

والميليشيات المسلحة في كل منطقة تقع تحت أيديها دون مشاكل كبيرة.

2-

يحدو باكستان الأمل في أنه إذا ما ساد السلام في أفغانستان، فسوف

يمكنها ذلك من الاستفادة من مد خطوط أنابيب الغاز من الحقول الضخمة فيما بين

تركمانستان والمحيط الهندي، وهذه الخطوط لا بد أن تمر عبر أفغانستان. وتحلم

باكستان أيضاً بفتح طريق للتجارة يصل بين باكستان وأسواق آسيا الوسطى، وهذا

الطريق لا بد أن يمر أيضاً بأفغانستان، ولا شك أن استمرار الحرب الأهلية في

كابول وما حولها، سيحبط تلك الآمال ويعرقل الجهود المبذولة لتحقيقها.

ومع اقتناع باكستان بالأهمية القصوى لمثل تلك المشاريع بالنسبة لها

ولأفغانستان أيضاً، إلا أنها وجدت من يتحدى آمالها ويتوعدها بالإخفاق، وعلى

رأس هؤلاء أحمد شاه مسعود الذي أقسم في تصريح علني بأن مشروع خط الأنابيب

الذي تتطلع إليه باكستان لن يرى النور!

3-

من المعروف أن باكستان دولة تحكمها دائماً المؤسسة العسكرية، وأن

جهاز الاستخبارات الباكستاني هو الجهاز المتحكم في تحديد وتوجيه السياسة

الخارجية للدولة، وما مناصب الوزراء ورؤساء الوزارات إلا أدوات تنفيذية فقط.

ويتردد أنه كان هناك التقاء في المصالح بين هذا الجهاز الذي بلغ قوته في عهد

ضياء الحق، وبين جماعة (علماء الإسلام) ويُلحظ أن هذه الجماعة كان لها إشراف

مباشر على تعليم الطلاب الأفغان في معاهدها العلمية الباكستانية وهي التي دفعت

بالكثير منهم منذ أيام الجهاد لتلقي التدريب العسكري، وقد كانت السياسة الباكستانية

عبر العهود تتوافق بشكل تقليدي وتتلاقى مع الأغلبية (البشتونية) في أفغانستان،

وحركة طالبان هي في أغلبيتها بشتونية، ولهذا فإن الحكومة الباكستانية التي كانت

تدعم الحزب الإسلامي (البشتوني) بزعامة حكمتيار، لم تعد ترى فيه ما يحقق

سياستها، فسحبت تأييدها له، وأعطته لحركة الطالبان، ولكن ليس معنى ذلك أن

يقال: إن طالبان صنيعة باكستانية؛ فالتحالفات لا تعني التبعية في كل حال، وإلا

لكانت الأحزاب الأفغانية السابقة كلها بل باكستان نفسها صنيعة أمريكية غربية؛

لأنها تلقت دعماً غير محدود من الأمريكان والغرب طوال سنوات الجهاد ضد

الشيوعيين! ومن العجيب أن البعض يحلو له أن يردد أن حركة طالبان أنشأتها

(بنازير بوتو) ! ! وأنها أرادت بذلك أن تضرب الأحزاب المجاهدة، وهؤلاء

يتجاهلون الموقف الباكستاني الداعم دائماً للبشتون قبل أن تجيء بوتو للحكم؛ هذا

من جهة؛ ومن جهة أخرى يتجاهلون موقف بنازير المعلن في ازدرائها لحركة

طالبان! فكيف لبنازير ذات الأصول الشيعية ثم التوجهات العلمانية، أن تدعم

تمكين حركة سنية للوصول إلى الحكم في بلد مجاور؟ لقد كانت تلك المرأة تُظهر

دائماً وعلناً كراهيتها لحركة طلاب الشريعة، وقد سئلت وهي لا تزال في السلطة

عما يشاع عن دعم حكومتها لحركة طالبان فقالت: (طالبان تبقي النساء وراء أربعة

أبواب مقفلة؛ فكيف يمكن لزعيمة مثلي أن تساعدهم في الاستيلاء على السلطة؟)

(المشاهد السياسي 8/4/1995م) وقد قال متحدث باسمها للصحفيين: (لنتحدث

بصراحة: إن أسوأ نتيجة لنا هنا في باكستان هي أن تحقق حركة طالبان انتصاراً

في كابول وأضاف: ليس هناك باكستاني عصري يمكن أن يرحب بحكومة في

كابول تسجن النساء وتمنع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة، وتنفذ عمليات إعدام

عامة ينقلها التليفزيون) ولعل هذا كان من بين أسباب تفاقم الخلاف بين بنازير وبين

مؤسسة الرئاسة، حتى انتهى الأمر إلى إقصائها.

فالحاصل هنا، أن باكستان يمكن أن تكون قد قدمت دعماً قوياً لطالبان، لكننا

على قناعة بأنها لم تصنعها؛ فلطالبان تحالفاتها، ولكن أيضاً لها خصوصيتها.

ثانياً: الولايات المتحدة الأمريكية:

التقت مصلحة الولايات الأمريكية مع مصلحة باكستان في ضرورة وجود

سلطة موحدة في أفغانستان تنشد الاستقرار، ولو كانت هذه السلطة هي حركة

طالبان؛ فالحكومة الموحدة يمكن التعامل معها ورسم السياسات بناء على مواقفها،

بخلاف المواقف المتعارضة لأحزاب متصارعة.

والولايات المتحدة أصبح لها مصالح في أفغانستان لا يمكن الوصول إليها إلا

بعد استقرار الأوضاع فيها. فمن المعلوم أن لأمريكا سياسة معلنه تجاه إيران،

تقضي بعزلها عن الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ولهذا أقلقها أن يكون لإيران نفوذ

في أفغانستان؛ لأن هذا النفوذ سوف يكون مدخلاً لنفوذ أعمق في جمهوريات آسيا

الوسطى. وازداد قلق الولايات المتحدة من التقارب الإيراني الروسي الذي أصبح

يهدد كل خططها في آسيا الوسطى؛ وقد تحول هذا القلق إلى خطر حقيقي عندما

اختارت الحكومة السابقة لبرهان الدين رباني الميل لجهة التعاون مع كل من إيران

وروسيا ضد باكستان؛ ولكل هذا قررت أمريكا أن تعود إلى أفغانستان لقطع

الخطوط على روسيا وإيران، ولم يكن أمامها لتحقيق هذا الهدف إلا باكستان، ولم

يكن أمام باكستان إلا طالبان، وهكذا تتلاقى المصالح وتتوافق الأهداف، وتتم سنة

دفع الناس بعضهم ببعض.

ولكن كلاً من باكستان وأمريكا، وجدتا في طالبان شريكاً مشاكساً، لا يُسلس

قياده بسهولة، فقلة التجربة التي يأخذها الكثيرون على قيادات طالبان تجعلهم يقفون

بصلابة مع قناعات ومبادئ ربما تسبب إحراجاً لمن يريد التحالف معهم. فطالبان

على ما يبدو تجاري الدولتين، وتريد أن تستفيد منهما دون أن تعطيهما كل ما أرادتا، وخاصة مع الولايات المتحدة، ومما يدل على إخفاق واشنطن في احتواء (طالبان)

أنها بذلت مساعي مبكرة ومطولة لإقناع قادتها بقبول عودة الملك السابق (ظاهر شاه)

إلا أن هؤلاء القادة رفضوا ذلك في النهاية بصراحة وشدة.

وقد أظهرت أحداث الغارتين الأمريكيتين على أفغانستان والسودان، أن النظام

الجديد في أفغانستان لم يكن تحت السيطرة الأمريكية، ولكن الأمريكيين الذين

يتخذون من (المصالح) دينآً وديدناً، يغلّبون في النهاية حكم المصلحة على حكم

المبادئ أياً كانت، ولن تقف دعاوى دعم الإرهاب أو انتهاك حقوق الإنسان حائلاً

دون توصل الأمريكيين إلى ما يريدون من المصالح.

لقد صارت أفغانستان حلقة بالغة الأهمية في الاستراتيجية الأمريكية للتغلغل

في آسيا الوسطى التي يعتبرها الأمريكان أرضاً بكراً غنية بالثروات، وخاصة

النفط والغاز، ولا يخفى أن الولايات المتحدة تسعى لإيجاد بدائل أو على الأقل

مصادر إضافية للطاقة المستمدة من الخليج، وقد شرعت أمريكا بالفعل في اتخاذ

خطوات عملية للسبق إلى هناك، وأبرمت شركة (أنوكال) الأمريكية اتفاقاً مع

حكومة تركمانستان (رابع منتج للغاز الطبيعي في العالم) لبناء خط أنابيب لنقل الغاز

من تركمانستان إلى الساحل الباكستاني على المحيط الهندي، باستثمارات تزيد على

3 مليارات دولار، وتنافس شركة (برايوس) الأرجنتينية شركة (أنوكال) الأمريكية

على هذا المشروع، ويقول القائمون على الشركة الأرجنتينية: إن إقامة خط

الأنابيب يمكن أن يعود على أفغانستان بما يقرب من 300 مليون دولار. وقال

مسؤول في الحكومة الأمريكية: (أوضحنا للأفغان بأن خط الأنابيب يمكن أن يدر

على الشعب الأفغاني دخلاً يعينه على إعادة إعمار بلاده) (الرأي العام 16/12/ 1997م) .

ويمر الخط المزمع إنشاؤه عبر مناطق خاضعة تماماً لسيطرة طالبان في غرب

أفغانستان؛ وجنوبها، ويفترض أن يكون ذلك الخط هو الأول في سلسلة من

خطوط أنابيب نقل الغاز والبترول من حقول آسيا الوسطى عبر طرق بعيدة عن

روسيا؛ وهو توجه يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيقه بكل السبل، لفك أي

ارتباط لدول آسيا الوسطى بروسيا ورابطة الكومنولث عموماً، وكذلك حرمان إيران

من مجرد التفكير في إمكانية نقل بترول وغاز آسيا الوسطى عبرها إلى الأسواق

العالمية، وهذا يمكن أن يفسر لنا الموقف الأمريكي الحازم من إيران عندما حشدت

قواتها على حدود أفغانستان، فقد حذرتها تحذيراً شديد اللهجة من أي نوايا عسكرية

لغزو أفغانستان، هذا بالرغم من أن الغارة الأمريكية على أفغانستان لم يكن بينها

وبين ذلك التحذير الأمريكي إلا نحو أسبوعين فقط، مما يدل على أن الولايات

المتحدة تريد أن تفرض وصاية من نوعٍ ما على أفغانستان.

على أي حال، فإنه إضافة إلى المصالح الاقتصادية لأمريكا في أفغانستان،

فيمكن رصد أهداف ثلاثة أخرى تقف وراء التمرير الأمريكي لتمكين حركة طالبان

في أفغانستان، وهذه الأهداف هي:

1-

الإمساك بورقة ضغط دائمة ومستقبلية ضد روسيا، وإيجاد مصدر إزعاج

لها على حدودها الجنوبية؛ فروسيا التي أركعها يلتسين لأمريكا والغرب، لا تزال

تمثل هاجساً للغربيين، فلا أحد يضمن استمرارها في حالة الخضوع والخنوع هذه،

خاصة وأن هناك تيارات سياسية قوية تدعو إلى العودة إلى الشيوعية.

2-

استخدام الحكومة الأفغانية الجديدة لإثارة إزعاج آخر لإيران، استغلالاً

للتناقضات والاختلافات المذهبية والمصلحية والعرقية بين أفغانستان وإيران،

وإبقاءً على قنابل موقوتة على الحدود قابلة للانفجار في أي لحظة يريدها المستعمر

العالمي الجديد المتربع على قمة النظام الدولي الجديد.

3-

استغلال (طالبان) في إبراز النموذج الإسلامي السياسي إعلامياً على وجه

مشوّه، وتقديمه على أنه الوجه الآخر للمشروع التغييري الإسلامي الذي يمثل السّنّة، في مقابل المشروع الإيراني الذي يمثل الشيعة.

ولهذا فإن أمريكا تريد أن تستغل طالبان دون أن تمكنها من أي نجاح، ولو

كان هذا النجاح هو الاعتراف بها كحكومة نجحت في توحيد البلاد حسبما تريد

أمريكا. قال (كارل أندرفورت) مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب

آسيا في حديث لصحيفة الحياة (17/1/1998م) : (إن واشنطن لن تعترف بحكومة

طالبان، حتى لو بسطت سيطرتها على كامل أفغانستان) ! ! ولا ندري.. ما هي

الصيغة التي تريد أن تتعامل بها أمريكا مع الحكم الجديد في أفغانستان وهي محتاجة

إليه

هل تريد أن تتعامل معه على أنه مجرد (عصابة) تتفاوض معها وتتقاسم

معها الصفقات.. هل تريد أن تستنفد منها أغراضها ثم تقلب لها الطاولة على

طريقة الكاوبُوي الأمريكي؟ !

الظاهر أن الأمريكيين قد بلغوا في بغضهم للإسلام حداً جعلهم يحارون في

الاختيار بين الفعل ونقيضه؛ فهم يؤيدون الطالبان لمصالحهم، ولكنهم لا يطيقون

أفغانستان تُحكم بالإسلام، لقد بدت تلك البغضاء من أفواههم على لسان (مادلين

أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريح أدلت به في منتصف نوفمبر

1997م فقالت: (حركة طالبان موضع للازدراء، بسبب ممارساتها في مجال

حقوق الإنسان ومعاملة المرأة) !

ثالثاً: روسيا:

القلق الروسي من سيطرة طالبان على أفغانستان ليس له حدود، ويرجع هذا

القلق إلى تخوّف روسيا من محاولة الحكومة الأفغانية الجديدة مدّ نفوذها إلى

طاجيكستان التي يحكمها نظام موال لموسكو، والتي يقوم الجنود الروس بدوريات

مستمرة لحماية حدودها مع أفغانستان، وكان مستشار الأمن القومي الروسي السابق

الجنرال (ألكسندر ليبيد) قد أعلن أن بلاده ستظل تساند حكومة رباني المخلوعة،

وبعد استيلاء طالبان على كابول دعا الرئيس الروسي (يلتسن) إلى عقد قمة طارئة

لرؤساء جمهوريات آسيا الوسطى، وبالفعل عقدت القمة في (ألما آتا) عاصمة

قزخستان السابقة، وطرح رئيسها (نور سلطان باييف) مبادرة لإعادة الاستقرار إلى

أفغانستان عن طريق دعم الفئات المتنازعة المعارضة لطالبان! لكن تظل روسيا

من أكثر البلاد قلقاً من انتصارات طالبان في أفغانستان؛ فهي تعتبر تلك

الانتصارات مداً (أصولياً) على حدودها الجنوبية، خاصة وأن هناك في

الجمهوريات المحيطة بروسيا حالات من الحماس الديني المشابه لحماس (طالبان)

وتخشى أن يتحول يوماً إلى جهاد، بل إن يلتسن عبر عن مخاوفه من أن يكون ما

يحدث في أفغانستان دافعاً لتحركات (أصولية) داخل الحدود الروسية نفسها، وذكر

أن الجبهة الطاجيكية تمثل الحدود الوطنية لروسيا بسبب استمرار التهديدات من قبل

المقاتلين الإسلاميين.

(التايمز 8/10/1996م)

وتصل التوجسات الروسية من التغيرات في أفغانستان إلى حد الندم على ترك

النظام الشيوعي السابق وحده ليواجه مصيره المحتوم، وقد عبر عن ذلك (أرتيوم

بورفيك) الذي كان من أشهر المراسلين الروس في حرب أفغانستان بقوله: (لقد

ارتكبنا خطأ كبيراً لانسحابنا من أفغانستان، وها نحن الآن نواجه بعدد من الدول

ذات النهج الأصولي على مقربة من حدودنا، وأصبحت تشكل خطورة على روسيا

نفسها.

(التايمز: 8/10/1996م)

رابعاً: إيران:

لم يحدث في تاريخ ثورة الروافض أن فضحت نواياهم الباطنية الحاقدة بمثل

ما حدث في الآونة الأخيرة، عندما صعّدت إيران وتيرة العداء لحكومة أفغانستان

الجديدة؛ فإيران تحب أن تكون الحكومة في أفغانستان على الدوام حكومة ضعيفة

يمكن السيطرة عليها، أو النفاذ من خلالها إلى خدمة مآربها ومخططاتها. لقد

استنفدت إيران جهودها لفرض الوصاية على الجهاد الأفغاني أيام الحرب مع

الشيوعيين، ولما لم تفلح في هذا أرادت أن تضمن لعملائها وجوداً بارزاً في

حكومات ما بعد الحرب، فلما لم تفلح أرادت أن تبقي لها مراكز قوية تعمل لحسابها

داخل أفغانستان، فلما رأت من حركة طالبان صداً لتسللها ورداً لأطماعها..

جاهرت بالعداء، وأمدت أعداء الحركة الناشئة بكل الأسباب المعينة على مواجهتها

وإسقاطها، وقد ضاعف من ثوران أحقاد إيران أن حركة طالبان أفسدت عليها كل

مخططاتها التآمرية في أفغانستان؛ سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو مذهبية، مما

دعاها إلى تبني كل جهد معارض لهذا العدو الجديد (طالبان) . لقد لعبت إيران الدور

الأخطر في إقامة التحالف المناهض لحكومة طالبان، وهي التي شجعت كلاً من

دوستم وأحمد شاه مسعود على توحيد صفوفهما لتشكيل مجموعة (الدفاع) عن

أفغانستان (ضد من؟) ولم تكتف حكومة (الثورة الإسلامية) في طهران بذلك، بل

نسقت جهودها مع الهند وروسيا وأوزبكستان لإجهاض المشروع الهادف إلى توحيد

أفغانستان، زاعمة أن قيام حكومة طالبان في أفغانستان ستمثل نموذجاً يشوه صورة

الإسلام في العالم! ! وكأن الناس في هذا العالم قد تلقوا بالقبول نموذجها

(الحضاري) القائم على بث الفتن هنا وهناك. ولكن إيران المتواطئة مع الهندوس

والروس ضد جيران مسلمين، لم يشف غليلها كل هذا، فاستغلت أحداث (مزار

الشريف) لتتخذ منها ذريعة للكشف عن أنياب البغي والعدوان، فإيران التي ظلت

تندد بالتدخل الباكستاني في أفغانستان، كان لها في مزار الشريف وجود ظاهر

مفضوح، طالما ظلت تخفيه وتنكره، وجاء فتح مزار الشريف ضربة عنيفة لإيران، حيث كانت تدفع بالمساعدات لمعارضي طالبان عن طريق مطار مزار شريف،

ثم جاءت الضربة الأعنف بفتح (باميان) معقل حزب الوحدة الشيعي في أفغانستان،

لقد استغلت طهران واقعة قتل تسعة إيرانيين في مزار الشريف [1] فقامت بأكبر

تظاهرة عسكرية على حدودها الشرقية منذ قيام الثورة عام 1979م بل قبل قيام تلك

الثورة، فبعد مناورة استعراضية للإرهاب، حشدت إيران نحو مئتي ألف من

جنودها على الحدود الأفغانية، وهو إجراء لا يتناسب مطلقاً مع مشكلة لها ألف حل

وحل بالطرق الدبلوماسية، التي يمكن أن تكون إيران استفادتها من قضية احتجاز

الرهائن الدبلوماسيين الأمريكيين لمدة 444 يوماً إبان قيام ثورتها.

إن كل هذا الثوران والفوران الإيراني، لم نره، ولم نر عشر معشاره، أيام

كانت أفغانستان خاضعة لحكومة إلحادية تحارب الإسلام علناً؛ فإيران (الثورة) لم

تثر على الوجود الشيوعي، ولم تنظر إلى الاتحاد السوفييتي أو الاتحاد الروسي من

بعده على أنه شيطان أكبر ولا أصغر، ولكن ثورة (المستضعفين) تستأسد اليوم على

(إمارة) ناشئة لا يزال العالم يضن عليها بوصف (حكومة) بل لا زالت تسمى حركة!

إن إيران قد تُدفع تحت وطأة غشم القوة وغبش الرؤية إلى التورط في

أفغانستان إما بالتدخل المباشر وإما بالقصف الجوي على الطريقة الأمريكية، ولكن

هذا إن حدث، فسوف يكون نوعاً من الانتحار؛ وقد تدق الثورة (الشيعية) في

نعشها مسماراً كذاك الذي دقته الثورة (الشيوعية) ليضم رفاتهما معاً في إحدى

جبانات التاريخ. ومن يدري؟ ألم يكن سقوط الدولة (الصفوية) الشيعية عام 1148هـ /1735م على أيدي الأفغان؟ وربما تخدم إيران حركة الطالبان من حيث تريد

الإضرار بها، فإن شدة التحديات غالباً ما تقوي عود الحركات، وتجمع حولها

الشعوب، حتى لو لم يكن لها ذلك القبول الشعبي الواسع. والثورة الإيرانية نفسها

هي مثال بارز على ذلك، فقد عركتها وقوّتها تحديات ومغامرات صدام حسين

عندما بادرها بالحرب بعد قيامها.

إن المرء وهو يطالع التحديات الجسيمة التي تواجه تلك الحركة الإسلامية

الجديدة في أفغانستان، يضع يده على قلبه خوفاً من توريطها في مواجهات أكبر من

حجمها، فيتكرر بذلك إخفاق آخر لا قدر الله في مسيرة التطلع إلى الخلاص، ولا

يسع المراقب المسلم وهو يرى شجاعة يخالطها صدق ودين لدى شباب (طالبان) إلا

أن يدعو الله تعالى أن يقيلهم عثرات الطريق، ويقيهم وعثاءه وعناءه؛ فإن ما

قطعته طالبان من شوط لتوحيد أراضي أفغانستان، لا يزال وراءه أشواط وأشواط

لتوحيد صفوف الأفغان بمختلف أعراقهم ومذاهبهم تحت راية التوحيد الخالص،

وعليهم أن يستفيدوا من أخطاء الأحزاب السابقة التي لم تعط لسلامة العقيدة وبنائها

وتصحيحها حظاً وافياً من جهودها في الداخل وتحالفاتها في الخارج، وعلى طالبان

أيضاً أن تحذر من تجذر الصراع على أسس قبلية، مما يطيل أمد النزاع دون طائل، خاصة في ظل التدخلات الخارجية، ويُطلب من طالبان ألا تستدرج إلى صِدام

مدمر مع إيران؛ فالضرورة تحتم عليها أن تتعامل مع الوجود الشيعي في أفغانستان

بحكمة، حرصاً على حقن الدماء في غير ما قضية، فمن حق الشعب الأفغاني الذي

جاهد طويلاً أن يذوق طعم الاستقرار، وينعم بثمرة الانتصار.. ولن يكون هذا إلا

بإقامة الدين الذي جاهد الشعب الأفغاني من أجله، بعيداً عن الأهواء القبلية،

والمذاهب البدعية: [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ

وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] .

وإلى بقية في لقاء قادم إن شاء الله،،،

(1) سبق لعملاء إيران أن قتلوا 900 طالباني أثناء لمحاولة الأولى لفتح مزار الشريف.

ص: 88