الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن 1
948- 1998م
مدخل للتقييم
(1/2)
د. محسن محمد صالح
شهد عام 1948م إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ حيث تمكن
من الاستيلاء على 78% من هذه الأرض المباركة، وتشريد معظم أبنائها، وقد
أخذ هذا الكيان يرسخ أقدامه في المنطقة، ويستقدم اليهود من شتى أنحاء العالم،
كما استطاع أن يشكل خطراً كبيراً على المنطقة العربية والإسلامية وأمنها
واستقرارها، وأن يسهم في إضعافها وتمزيقها، مستفيداً من دعم الدول الكبرى غير
المحدود وخصوصاً الولايات المتحدة. ولم تنجح الجيوش العربية سنة 1948م في
مواجهة هذا الخطر، كما هزمت مرة ثانية سنة 1967م وضاع ما تبقى من فلسطين
فضلاً عن أراض عربية أخرى. غير أن المقاومة الفلسطينية للكيان الصهيوني
استمرت بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة طوال الفترة الماضية.
وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على تجربة المقاومة الفلسطينية ضد
الكيان الصهيوني خلال الخمسين سنة الماضية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين:
الأول: نستعرض فيه مراحل المقاومة التي خاضها الفلسطينيون خلال تلك
الفترة.
والثاني: نحاول فيه تقديم تقييم أولي لهذه التجربة.
أولاً: مراحل المقاومة:
المرحلة الأولى: 1948 1967م:
منذ البداية وجد ثلثا شعب فلسطين أنفسهم مشردين لاجئين (أكثر من 800
ألف) [1] بعد أن وضع الكيان الصهيوني يده على أربعة أخماس فلسطين، وتم
تغييب دور القيادة الفلسطينية الوطنية الممثلة يومذاك بالحاج أمين الحسيني ورفاقه
الذين شكلوا حكومة عموم فلسطين التي حُرِمت ممن ممارسة صلاحياتها على
الأرض، وضَمّت الأردنّ الضفةَ الغربيةَ فيما وضعت مصر قطاعَ غزة تحت
إدارتها.
وفي هذه المرحلة علّق الفلسطينيون آمالهم على (قومية المعركة) وعلى
الأنظمة العربية وخصوصاً مصر بزعامة عبد الناصر، وكان شعار: (الوحدة
طريق التحرير) هو الشعار البراق لتلك المرحلة. غير أن الأنظمة العربية اتخذت
صبغات علمانية ذات مضامين اشتراكية أو غربية أو محافظة، وشهدت فترة
الخمسينيات والستينيات مداً قومياً ويسارياً جارفاً، وانحساراً مؤلماً للتيار الإسلامي، ورغم حالة العداء والحروب مع الكيان الصهيوني، إلا أن الخط البياني للأنظمة
العربية كان يسير باتجاه (التسوية) وليس باتجاه (التحرير) وتم تبني المقاومة
الفلسطينية لأسباب تكتيكية مرحلية وليس لأسباب استراتيجية شاملة. وسارت
سياسات دول المواجهة مع المقاومة الفلسطينية ضمن خطين:
الأول: ضمان أمن النظام وبقائه، وعدم تعريضه لمخاطر الانتقام الصهيوني، ومن ثم ضبط العمل الفدائي، ووضعه تحت السيطرة ما أمكن، ومنعه من
استخدام الحدود للقيام بعمليات مسلحة.
والخط الثاني: السماح المرحلي التكتيكي بوجود المقاومة وعملها، تحقيقاً
لمكاسب سياسية وشعبية أو تجنباً لاضطرابات داخلية، وتنفيساً عن غضب
الجماهير، ولذلك بقيت حدود دول المواجهة مع العدو مغلقة محرمة على العمل
الفدائي الفلسطيني طوال الخمسين عاماً الماضية، مع استثناءات لفترات محدودة
فرضتها ظروف معينة، وكان أهم هذه الاستثناءات جنوب لبنان، الذي تشكلت فيه
قاعدة مقاومة قوية بعد 1967م، ليس بسبب رغبة النظم الحاكمة هناك، وإنما
بسبب ضعفه وقوة الثورة وقاعدة تأييدها الواسعة.
وفي هذه المرحلة، اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالاً بسيطة محدودة التأثير،
بانتظار دور عربي حاسم، فكثرت عمليات اختراق الحدود الفردية لاسترجاع
ممتلكات للعائلات أو للانتقام من الغاصبين. ونشط الإخوان المسلمون في قطاع
غزة في تشجيع وتجنيد الشباب للقيام بالعمليات الفدائية، وساعدهم في ذلك ضباط
إسلاميون مصريون من أمثال عبد المنعم عبد الرؤوف، وقام الإخوان في النصف
الأول من الخمسينيات بزرع الألغام، ونسف المنشآت، وتخريب خطوط المياه
والكهرباء مما أدى إلى ردود فعل صهيونية متغطرسة، وإثر مذبحة غزة التي قامت
بها القوات الصهيونية في 28 شباط / فبراير 1955م، وإثر انتفاضة غزة في
الأول من آذار/ مارس 1955م وافقت القيادة المصرية على العمل الفدائي
الفلسطيني، ووضعته تحت إشراف الضابط المصري مصطفى حافظ الذي قام
بواجبه خير قيام. وتدفق الآلاف للتطوع؛ غير أنه تم انتقاء العناصر ذات الخبرات
القتالية وذات المعرفة بالأرض، وزاد عدد الفدائيين العاملين عن الألف، وكثير
منهم من أبناء الحركة الإسلامية ومؤيديها، وقاموا بعمليات يومية خاطفة، وأحياناً
بعمليات كبيرة واسعة شارك في إحداها 300 فدائي في نيسان / إبريل 1956م
توغلوا لمسافات كبيرة ونجحوا في مهامهم [2] .
وحتى بعد حظر نشاط الإخوان المسلمين في القطاع، وتعرضهم للمطاردة فقد
استمروا في عملهم الجهادي السري، وشكلوا مجموعات جهادية مسلحة مثل (شباب
الثأر) و (كتيبة الحق) وكان لهم دورهم المشهود في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي
للقطاع تشرين الثاني/ نوفمبر 56 آذار/ مارس 1957م إثر العدوان الثلاثي على
مصر. وبرز من الإخوان خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان أحد أنشط عناصرهم
العسكرية. غير أن ظروف محاربة النظام الحاكم في مصر للإخوان، وإفساح
المجال للتيارات القومية واليسارية، فضلاً عن هجرة العديد من الكفاءات ورموز
الإخوان إلى الخارج وخصوصاً دول الخليج، كل ذلك أضعف من قوة حركة
الإخوان في القطاع وهمّش دورها منذ أواخر الخمسينيات وحتى عام 1967م [3] .
ومنذ تلك الفترة استمر سلوك الحركة الإسلامية العام بالمحافظة على النفس
والتركيز على الجوانب الإيمانية والتربوية؛ غير أن هذا لم يمنع من ظهور
تساؤلات وسط الصف الشبابي (الإخواني) عن وسائل العمل الممكنة لقضية فلسطين، فأخذ يظهر توجه للقيام بعمل منظم مسلح لا يتخذ أشكالاً إسلامية ظاهرة، وإنما
يتبنى أطراً وطنية عامة تمكن من تجنيد قطاع واسع من الشباب، ولا تصطدم
بعداء وملاحقة الأنظمة، وقدم خليل الوزير مشروعاً بذلك إلى قيادة الإخوان في
غزة، لكنه لم يحصل على ما يرجوه. وفي المقابل شكلت تجربة الثورة الجزائرية
المظفرة بارقة أمل، ودفعة معنوية كبيرة للقيام بعمل وطني. وقد كانت هذه هي
البذور الأولى لنشأة حركة فتح التي خرجت أساساً من أحضان الإخوان المسلمين،
وبالذات أبناء قطاع غزة ورغم عدم استجابة المسؤولين من الإخوان إلا أن عدداً من
ذوي المكانة والاحترام بين القواعد ممن اقتنعوا بهذا التصور قاموا بدعوة إخوانهم
الآخرين للانضمام لهذه الحركة، وكان منهم سعيد المزين (أبو هشام) وغالب الوزير، وانضم إليهم عدد من الإخوان المرموقين في ذلك الوقت مثل: سليم الزعنون (أبو
…
الأديب) وصلاح خلف (أبو إياد) وأسعد الصفطاوي، ومحمد يوسف النجار، وكمال
عدوان، ورفيق النتشة، وتمكنت فتح من تجنيد أفراد كثيرين ممتازين من الإخوان، وكان الإخوان يعتبرون هذه الحركة منهم أو رصيداً لهم، وقد نشأت فتح في
الكويت في أواخر 1957م؛ وتشير إحدى المصادر الإخوانية أن قيادتها الأولى
كانت من خمسة أعضاء أربعةٌ منهم من الإخوان أو ذوو جذور إخوانية هم: أبو
جهاد، ويوسف عميرة، وعبد الفتاح حمود، وسليمان حمد، والخامس (أبو عمار)
ياسر عرفات الذي كان قريباً من الإخوان. لكن على ما يبدو فإن قيادة الإخوان في
غزة أصرت إما على الإشراف الكامل على الحركة بوجود ثلاثة أعضاء تعينهم
بنفسها أو بالانفصال عن الحركة، ولما لم تستجب فتح لذلك فقد أمر الإخوان
قواعدهم بالانفصال وخيّروهم بين إحدى الجهتين وذلك في عام 1963م، وهكذا
خسر الطرفان بعضهما بعضاً وتوسعت فتح في تجنيد العناصر من تيارات
مختلفة [4] .
استطاعت حركة فتح تشكيل جناح عسكري (العاصفة) وقامت بأول عملياتها
العسكرية في مطلع 1965م وتمكنت من شن حوالي 200 عملية منذ ذلك الوقت
وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967م وقد اتهمتها الأنظمة العربية بالرجعية والعمالة، ومحاولة جرها للحرب مع العدو قبل الأوان، وقامت بملاحقة أفرادها وسجنهم،
ومنعهم من التحرك والعمل، لكن هزيمة الأنظمة في 1967م فتحت أمامها آفاقاً
جديدة [5] .
ومن جهة أخرى دعمت الأنظمة العربية منظمة التحرير الفلسطينية في
حزيران/ يوليو 1964م بزعامة أحمد الشقيري، ورغم أن هدف بعض هذه الأنظمة
كان وضع المقاومة الفلسطينية تحت الإشراف والسيطرة بعد شعورهم بما كانت
تموج به الساحة من حركات سرية وأنشطة بعيدة عن التحكم الرسمي، ورغم ذلك
فإن (م. ت. ف.) لقيت تأييداً شعبياً باعتبارها ممثلاً للكيان الفلسطيني والهوية
الوطنية التي جرى تغييبها، هذا مع تحفظ عدد من الجهات ومنها فتح على خلفيات
إنشائها، وعدم قدرة (م. ت. ف.) على القيام بواجباتها، وقد تم تشكيل المجلس
الوطني الفلسطيني الذي أقر إنشاء (م. ت. ف.) وميثاقها، كما تقرر تشكيل
جيش التحرير الفلسطيني ليتبع (م. ت. ف.) وتم القيام بعدد من الجهود التعبوية
والإعلامية [6] .
المرحلة الثانية، 1967م 1987م:
كشفت حرب حزيران/ يونيو عام 1967م مدى الضعف الذي كانت تعاني منه
الأنظمة العربية، ووضعت حداً للآمال التي كانت معلقة عليها، وشعر الفلسطينيون
أكثر من أي وقت مضى بضرورة أخذ زمام المبادرة بأيديهم، واضطرت الأنظمة
تفادياً لموجات الغضب الشعبي أن تفسح المجال للعمل الفدائي، الذي استطاع أن
يبني قواعد قوية وواسعة في الأردن ولبنان، واستطاعت التنظيمات الفدائية بزعامة
فتح أن تصل إلى قيادة (م. ت. ف.) التي أصبحت برئاسة (أبو عمار) منذ
شباط / فبراير 1969م، وبرز خط الكفاح الشعبي المسلح وحرب العصابات،
واكتسبت الشخصية الوطنية الفلسطينية زخماً كبيراً، وتمكنت (م. ت. ف) في
مؤتمر الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر 1974م من الحصول من الأنظمة العربية
على الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وفي الشهر التالي
حققت انتصاراً سياسياً عندما ألقى أبو عمار خطابه في الأمم المتحدة (دون أن
يتنازل عن أي من حقوق الفلسطينيين، وتم قبول (م. ت. ف) عضواً مراقباً،
وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف السبعينيات قرارات تؤيد حق
شعب فلسطين في تقرير مصيره، بل وفي الكفاح المسلح لنيل حقوقه.
كانت الفترة بين 1967م 1970م هي الفترة الذهبية للعمل الفدائي الفلسطيني، وكانت معركة الكرامة في 21 آذار / مارس 1968م إنجازاً معنوياً ومادياً كبيراً
لحركة فتح، بعد أن تم تكبيد العدو الصهيوني خسائر كبيرة، فاندفع الآلاف للتطوع
وتسجيل أنفسهم، وخلال 48 ساعة كان حوالي خمسة آلاف قد طلبوا الانضمام لفتح
فقبلت منهم 900 فقط حسب إمكاناتها ومعاييرها. وتطورت العمليات الفدائية من
12 عملية شهرياً 1967م إلى 52 شهرياً سنة 1968م ثم إلى 199 عملية شهرياً
سنة 1969م وإلى 279 عملية شهرياً في الأشهر الأولى من سنة 1970م [7] .
ومن جهة أخرى فإن الكيان الصهيوني ظل يقوم بحملات متواصلة ضد قواعد
الفدائيين في لبنان، بل وضد المدنيين وقراهم ومحاصيلهم ليمنع أي دعم محتمل من
السكان لإخوانهم، فكان من ذلك هجماتهم على العرقوب بين 1970 1972م،
واغتيال ثلاثة من قيادة المنظمة في بيروت في نيسان/إبريل 1973م (محمد يوسف
النجار، كمال عدوان، كمال ناصر) وقاموا بحملة اجتياح واسعة للجنوب اللبناني
في مارس 1978م، نجحوا على إثرها في إنشاء حزام أمني بقيادة سعد حداد، وفي
معركة الشقيف في 19 آب / أغسطس 1980م حققت المقاومة الفلسطينية نجاحاً
كبيراً ضد الهجوم الصهيوني. وكان اجتياح الجيش الصهيوني للبنان في صيف
1982م هو الأضخم والأعنف، وقد تمكنت من اجتياح الجنوب بسهولة وسرعة
نسبية، غير أنه توقف عند أسوار بيروت حوالي ثمانين يوماً، وُوجِه خلالها
بمقاومة عنيفة. لكن الهجوم نجح على أي حال في تدمير معظم البنية التحتية للعمل
الفدائي في لبنان، وفي إخراج آلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى معسكرات بعيدة في
اليمن وتونس والجزائر والسودان، وهكذا ضُيّق الخناق على أي مقاومة فلسطينية
محتملة من خارج فلسطين.
وبالتأكيد فإن معدل العمليات الفدائية ضد الكيان الصهيوني قد انخفض في
السبعينيات، وتراجع إلى حدود متواضعة جداً في الثمانينيات، غير أن هناك عدداً
من العمليات النوعية التي تجدر الإشارة إليها مثل عملية سافوي التي قامت بها فتح
في تل أبيب في 6 آذار / مارس 1975م وأدت إلى مقتل وجرح خمسين جندياً
وخمسين مدنياً [8] ، وعملية كمال عدوان بقيادة دلال المغربي في آذار / مارس
1978م مما أدى على الأقل لمقتل 37 وجرح 82 من الصهاينة [9] .
وقامت منظمات فدائية أخرى بعمليات مثل اختطاف الطائرات، والتي برزت
فيها الجبهة الشعبية خصوصاً في 1970م، والهجوم على مطار اللد في
30/5/ 1972م مما أدى إلى مقتل 31 وجرح 80 آخرين [10] ، وعملية الخالصة) التي نفذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة في 11 نيسان / إبريل 1974م [11] ، وعملية الطائرة الشراعية التي نفذتها الجبهة نفسها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987م، وغيرها.
وهكذا، فمنذ عام 1982م أدى الإنهاك العسكري إلى استضعاف سياسي،
وكسب أنصار تيار (الواقعية) في (م. ت. ف.) دفعات جديدة باتجاه تبني حلول
سلمية. والحقيقة أن (م. ت. ف.) بدأت تغيّر خطابها السياسي منذ فترة مبكرة،
خصوصاً منذ تبنيها برنامج النقاط العشر سنة 1974م، وكثرة الحديث عن الحلول
المرحلية إلخ.. وكانت موافقة (م. ت. ف.) على مشروع فاس 1983م علامة
فارقة لما يتضمنه من اعتراف بحق دول المنطقة في العيش بسلام (بما فيها الكيان
الصهيوني) [12] .
وواجهت قيادة (م. ت. ف.) سنوات عجافاً خلال 1983م 1987م
انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وانتكاسات على المستوى
السياسي.
أما من جهة التيار الإسلامي فإن مرحلة 1967م 1987م كانت مرحلة تصاعد
تدريجي في الشعبية، ومع نهاية السبعينيات بدأ الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يحقق
نجاحات واسعة في الداخل والخارج، فعلى الصعيد الطلابي أخذ يسيطر على عدد
من الاتحادات الطلابية، وتوسعت دائرة نفوذه في النقابات المهنية، وأخذ الرصيد
الشعبي العام في الاتساع على حساب الاتجاهات الأخرى، ولكن هذا التوسع كان
في الميدان الشعبي والاجتماعي والخيري والتربوي، بينما بقي العمل الجهادي
والسياسي منعدماً أو منحسراً حتى أواخر السبعينيات، ويبدو أن قيادات التيار
الإسلامي عملت على بناء قاعدة صلبة لعمل طويل المدى، وعدم الاستعجال في
حرق المراحل، وخشيت من تكرار تجارب غير ناضجة لتنظيمات مسلحة ما لبثت
أن تحولت إلى (دكاكين) ومكاتب إعلام تخدم أطرافاً عربية معينة لها مصالحها
وحساباتها الخاصة، ورأت أن مثل ذلك يلطخ الصورة التي يريدون تقديمها ويورث
الإحباط.
وعلى أي حال، فقد كانت هناك مشاركة محدودة للإخوان المسلمين في
(معسكرات الشيوخ) في الأردن 1968م 1970م حيث تم تدريب حوالي (300)
رجل توزعوا على سبع قواعد فدائية، وعملوا تحت مظلة فتح؛ وعلى محدودية
إمكاناتهم، فقد قدموا نماذج مشرفة، فخاضوا عمليات قوية ناجحة مثل الحزام
الأخضر 31 آب / أغسطس 1969م ودير ياسين 14 أيلول / سبتمبر 1969م
وسيد قطب 28 آب / أغسطس 1970 واستشهد منهم حوالي 13 رجلاً [13] .
وفي أواخر السبعينيات، كانت الظاهرة الإسلامية قد قويت في الأرض التي
احتُلت سنة 1948م، وكُشف في 1980م تنظيم (أسرة الجهاد) بقيادة فريد أبو مخ
وعبد الله نمر درويش، واعتُقل حوالي ستين عضواً، وكان قد قام بعشرات
العمليات في الأرض المحتلة [14] . وفي قطاع غزة، برز دور المجمع الإسلامي
بقيادة الشيخ أحمد ياسين، وفي سنة 1983م قبض على الشيخ أحمد ياسين وعدد
من رفاقه، بعد اكتشاف مخزن أسلحة في أحد المساجد، بتهمة إنشاء تنظيم معاد
للكيان الصهيوني [15] . أما حركة الجهاد الإسلامي فكان أبناؤها المؤسسون
أعضاء في (الإخوان) حيث تكونت نواتهم الأساسية من الطلبة الفلسطينيين
الدارسين في مصر في أواخر السبعينيات برئاسة د. فتحي الشقاقي، وبدأوا
تشكيلاتهم في فلسطين منذ 1980م، ودعوا إلى (الإسلام منطلقاً، والجهاد وسيلةً،
وفلسطين هدفاً للتحرير) وكان من أبرز عملياتهم عملية باب المغاربة التي أدت إلى
إيقاع حوالي ثمانين إصابة في جنود العدو الصهيوني في 16 تشرين الأول/ أكتوبر
1986م [16] .
المرحلة الثالثة: 1987م- 1998 (الآن) :
بقدر ما تجلت قدرات شعب فلسطين في هذه المرحلة على التضحية والعطاء
من خلال الانتفاضة المباركة، بقدر ما كانت الحصيلة مخيبة للآمال لقد كانت
الانتفاضة التي اندلعت في 9 كانون الأول ديسمبر 1987م من أروع وأنبل ما شهده
تاريخ فلسطين المعاصر عندما واجه الشعب الأعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه الجيش
الصهيوني المدجج بالسلاح، و (تحدّت العين المخرز) وواجه الحجر الرصاصة
والدبابة. في هذه الانتفاضة شارك الشعب تحت الاحتلال في الضفة والقطاع بكل
فئاته واتجاهاته وقطاعاته، وتميزت هذه الانتفاضة بأمرين جديدين: الأول: أن
(الداخل) المحتل أخذ زمام المبادرة النضالية، بعد أن كانت بيد العمل من (الخارج) . والثاني: (أن التيار الإسلامي شارك بقوة وعنف وفاعلية، وبرز لأول مرة على
ساحة المواجهة بحجم منظم مؤثر. لقد أكدت هذه الانتفاضة رفض أبناء فلسطين
للاحتلال وإصرارهم على المقاومة، وراقب العالم في ذهول أطفال فلسطين وهم
يفضحون آلة القمع الصهيونية، ويكشفون وجهها القبيح، وبدأ العالم يستذكر أن
هناك شعباً مقهوراً مستعمَراً اغتُصبت أرضه.
وتميزت المرحلة الأولى من الانتفاضة المباركة بالمواجهة الشعبية الواسعة،
والإضرابات، والمظاهرات، ومقاطعة الإدارة المدنية الصهيونية، وتنظيف
المجتمع من العملاء ومروجي الفساد والمخدرات، أما المرحلة الثانية: فقد شهدت
تنامي العمليات المسلحة ضد الصهانية مع تراجع الأنشطة الجماهيرية خصوصاً منذ
أوائل 1992م وحسب مصادر (م. ت. ف.) فإنه خلال الفترة من كانون الأول / ديسمبر 1987م إلى كانون الأول / ديسمبر 1993م، كان قد استشهد 1540
فلسطيني وجرح 130 ألفاً واعتقل 116ألفاً [17] .
وقد تلازم إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع بداية الانتفاضة،
واعتبرت من أكثر الأطراف فاعلية، إن لم تكن أبرزها جميعاً. وقد عرّفت حماس
نفسها بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم، وذكرت في ميثاقها أنها (تعتبر
الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه
تسترشد خطاها) . وهدفت إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة الإسلام على أرضها،
ودعت إلى تربية متكاملة للأجيال لتحقيق الغايات المرجوة [18] . وقد استطاعت
حماس أن تحقق شعبية واسعة فكان مؤيدوها يحصلون على ثلث الأصوات وأحياناً
نصفها عادة في انتخابات الطلاب والنقابات المهنية. وفي مقابلة صحفية للدكتور
هشام شرابي المعروف بميوله العلمانية قال: إن حماس هي الشكل الجديد للمقاومة
وأنها (نجحت حتى الآن فيما عجزت عنه (م. ت. ف.) وفصائلها خلال أكثر
من ربع قرن في استنباط أشكال جديدة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من
الصراع العسكري الفعال باستقلال عن كل عون خارجي) [19] ، وقد تطور عمل
وأنشطة حماس من المظاهرات والمواجهات الشعبية إلى قذف القنابل الحارقة
والطعن بالسكاكين وتصفية العملاء، إلى العمليات الجهادية المسلحة ونصب الكمائن، إلى العمليات الاستشهادية، غير أن أطراف (م. ت. ف.) سعت لاستثمار
سياسي سريع للانتفاضة بدخول مؤتمر مدريد 1991م، ثم توقيع اتفاقية أوسلو
1993م وبدء مشروع الحكم الذاتي 1994م، وقد زاد هذا من صعوبة عمليات
حماس، وأصبحت تتعرض لضغط فلسطيني وصهيوني مشترك؛ ورغم ذلك فقد
شهدت الفترة من 1994م 1997م عدداً من العمليات النوعية القوية ومن ذلك ردها
على مذبحة المسجد الإبراهيمي بخمسة عمليات عنيفة، وردها على مقتل المجاهد
يحيى عياش (الذي كان مهندساً لعمليات أدت لقتل حوالي سبعين إسرائيلياً وجرح
340 آخرين) بعدة عمليات في شباط / فبراير، وآذار / مارس 1996م هزت
الكيان الصهيوني واستدعت عقد مؤتمر (شرم الشيخ) الدولي بحضور الدول الكبرى
لمكافحة (الإرهاب)[20] .
وحسب إبراهيم غوشة الناطق الرسمي باسم حماس فإن الحركة قدمت منذ
الانتفاضة حوالي سبعمائة شهيد [21] ، ولا تزال حماس تتعرض للملاحقة
والمطاردة والاجتثاث، من قِبَل سلطات الحكم الذاتي ومن قِبَل الكيان الصهيوني.
ومن جهة أخرى فقد قامت حركة الجهاد الإسلامي بعدد من العمليات النوعية
والاستشهادية مثل عملية نتساريم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994م وعملية (بيت
ليد) في 22 كانون الثاني/ يناير 1995م وعملية (تل أبيب) في 4 آذار/ مارس
1996م كما قتل قائد الحركة د. فتحي الشقاقي ونحسبه من الشهداء في عملية
اغتيال نفذها الموساد الصهيوني في 26تشرين الأول/ أكتوبر 1995م [22] .
وبلا شك فإن الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يعمل الآن في ظروف غير مواتية،
ولكنها ظروف تمكنه من التمايز، ومعرفة العدو من الصديق.
ومن جهة أخرى فقد عدّت قيادة (م. ت. ف.) الانتفاضة رافعة سياسية لها، فحاولت استثمارها بشكل مبكر؛ وقامت بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة
لتتولى توجيه فعالياتها، وشاركت الفصائل الفلسطينية وخصوصاً فتح بفعالية في
المرحلة الأولى من الانتفاضة، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1998م طرحت
(م. ت. ف.) مبادرتها السلمية واعترفت لأول مرة بقرار الأمم المتحدة رقم 242 وهو ما كانت ترفضته طوال 21عاماً، وأسهم سقوط الاتحاد السوفييتي وانحلاله، والهجرة اليهودية الواسعة إلى فلسطين المحتلة منه ومن أوروبا الشرقية (حوالي 700 ألف) وكذلك الاحتلال العراقي للكويت، وما رافقه من نتائج سلبية أضعفت البلاد العربية والإسلامية، كل ذلك أعطى فرصة ذهبية للضغط على الفلسطينيين للذهاب إلى مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م وفق شروط مجحفة، ثم التوصل إلى اتفاقية أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993م ضمن شروط أكثر إجحافاً.
ونتج عن ذلك قيام حكم ذاتي فلسطيني محدود على أجزاء من الضفة والقطاع
(لم تتعد إلى الآن 30% من قطاع غزة و6% من الضفة الغربية) وذلك دون أن
تحل قضايا الاستيطان الصهيوني وقضية القدس وعودة اللاجئين ودون أن يعطى
الفلسطينيون حق تقرير مصيرهم. وقد أمل الكثير من الفلسطينيين أن يكون اتفاق
أوسلو أساساً تبنى عليه مطالب جديدة، ولكنه كما يبدو الآن فإن الآمال تسعى إلى
الوصول إلى سقف أوسلو، بعدما أبدى الصهاينة من مماطلات وشروط تعجيزية
إلخ [23] .
والآن فإن مناضلي الأمس الذين قاتلوا لتحرير أرض 1948م قبل سقوط
الضفة، والقطاع، يجدون أنفسهم في مواجهة مجاهدي اليوم، وها هم يتهمون
مجاهدي اليوم بما اتّهموا هم به عندما بدأوا نضالهم قبل أكثر من 30 عاماً من قِبَل
معارضيهم! فلمن تكون العاقبة؟ لا شك في أن (العاقبة للمتقين) .
(1) انظر الموسوعة الفلسطينية، إعداد إبراهيم المرعشلي وآخرين، ط 1 (دمشق، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984م) ، ج 4، ص 579.
(2)
انظر: المرجع نفسه، ج 3، ص 393 396، وعبد الله أبو عزة، مع الحركة الإسلامية في الدول العربية (الكويت، دار القلم 1986م) ص 26 53.
(3)
أنظر عبد الله أبو عزة، مرجع سابق، ص 26 53.
(4)
المرجع السابق، ص 71، 96.
(5)
سليمان حمد، رسالة الكويت، 17 يوليو 1994م.
(5)
انظر صلاح خلف (أبو إياد) فلسطيني بلا هوية، ط 2 (عمان: دار الجليل للنشر 1996) ،
ص 75- 83.
(6)
حول (م ت ف) ونشأتها انظر: أسعد عبد الرحمن، منظمة التحرير الفلسطينية، والموسوعة الفلسطينية، ج 4، ص 313- 325.
(7)
صلاح خلف، مرجع سابق، ص 96 98.
(8)
الموسوعة الفلسطينية، ج 2 ص 567.
(9)
المرجع السابق، ج 3، ص 661 662.
(10)
المرجع السابق، ج 4، ص 42.
(11)
المرجع السابق، ج 2، 313 314.
(12)
انظر: منير الهور وطارق العيسى، مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947م 1985م،
ط 2، (عمان: دار الجليل، 1986م) ص 220 221.
(13)
حول معسكرات؛ الشيوخ انظر: محسن صالح، الطريق إلى القدس، ط 2 (لندن: فلسطين المسلمة 1998م) ، ص 996.
(14)
انظر: زياد محمود غنيمة، عداء اليهود للحركة الإسلامية (عمان: دار الفرقان: 1982م)
ص 100- 102.
(15)
ربعي المدهون (الحركة الإسلامية في فلسطين 19281987) مجلة شؤون فلسطينية،
عدد 187، أكتوبر 1988م، 20 23.
(16)
انظر: مقابلة للدكتور فتحي الشقاقي مع مجلة الوسط، لندن 6 نوفمبر 1995م.
(17)
جريدة صوت الشعب (الأردن) 8 ديسمبر 1993م.
(18)
انظر ميثاق الحركة الإسلامية حماس (نشر في 19 أغسطس 1988) .
(19)
جريدة الحياة، لندن، 5 مارس 1995م.
(20)
انظر حول تفصيلات عمليات حماس: غسان دوعر، مرعد مع الشاباك (لندن: فلسطين المسلمة، 1995م) وغسان دوعر، المهندس (لندن: فلسطين المسلمة، 1997م) .
(21)
جريدة الأردن، عمان (الأردن، 17 أغسطس 1996م) .
(22)
انظر: مجلة فلسطين المسلمة، ديسمبر 1994، وجريدة الرأي، عمان (الأردن، 23- 25 يناير 1995م وجريدة الحياة 30 اكتوبر 1995م.
(23)
حول التسوية السلمية وانعكاساتها انظر مثلاً: جواد الحمد، عملية السلام في الشرق الأوسط وتطبيقاتها على المسارين الفلسطيني والأردني (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1996م) ، وعماد يوسف وآخرون، الانعكاسات السياسية لاتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني (غزة أريحا أولاً) (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1994م) .
المسلمون والعالم
طالبان.. وقدر أفغانستان
(3/3)
طالبان.. في الميزان!
عبد العزيز كامل
هناك قاعدة ذهبية، أشار إليها الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله مستخلصاً إياها
من مجمل نصوص الشريعة، وقد نص عليها في مواضع عديدة من مؤلفاته، يقول
رحمه الله: (إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة
ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير،
واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر) [1] . وما قاله رحمه الله عن
الفرد، يصدق على الجماعات وعلى المجتمعات.
ونحن في حاجة دائمة إلى استصحاب تلك القاعدة في تقويمنا للأشخاص
والأفكار والمناهج النظرية، وأنواع السلوك العملية لكل الطوائف الإسلامية، ومنها
طالبان أو غيرها؛ فكل من يتصدى للعمل لدين الله، نزنه بميزان هذا الدين الذي
لا يعرف التطفيف أو البخس أو الميل، [وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا
المِيزَانَ] [الرحمن: 9] .
لسنا إذن أمام مواقف مطلقة، ولا مواقف مسبقة، فما أكثر ما جنت تلك
المواقف المرتجلة على روح الحقيقة، وما أكثر ما تسببت أيضاً في اضطراب كفتي
الولاء والبراء.
وفيما يتعلق بتقويم (التجربة) الطالبانية، هناك أمور ينبغي التنبيه إليها قبل
إجراء هذا التقويم:
أولاً: أن هذه التجربة صغيرة جداً في عمرها (لا تتجاوز أربع سنوات) وهذه
مدة لا تكفي أبداً لظهور نتائج مواقفها سلباً أو إيجاباً بشكل متكامل.
ثانياً: أن هالة الاتهام المحيطة بطالبان كان لا بد أن تخضع للمنطق العادل
وهو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس المتهم مداناً حتى تثبت براءته!
ثالثاً: أن الحركة عملت ولا تزال تعمل في ظروف استثنائية غير طبيعية
(حرب، فقر، معارضة داخلية، حصار، دمار) فلا بد من مراعاة ذلك عند التقويم.
رابعاً: أن الصورة المرسومة لها في الأذهان، خطّت معالمها اليد الإعلامية
الغربية بخبث مقصود، وحاكتها في ذلك بعض أجهزة الإعلام العربي بتحامل مبيت؛ فمهمة استخلاص الحقيقة من بين براثن ذلك التشويش ليست يسيرة.
خامساً: أن حركة (الطالبان) ظهرت في ظرف ضرورة، بمعنى أن أكثر ما
قامت به للآن كان القيام به ضرورياً فلا يسع عاقل منصف فضلاً عن ناصح
مخلص أن ينكر هذا الفضل لهم.
وهذه النقطة الأخيرة بالذات لنا معها بعض الوقفات.
* لقد كان استنقاذ ثمرة الجهاد الأفغاني الباهظة التكاليف ضرورة
…
وقد
استنقذوها بإجهاض مخططات الأمم المتحدة ومن وراءها لفرض العلمنة على
أفغانستان.
* وكان إنهاء الحرب الأهلية (الكارثية) بين الفصائل ضرورة
…
وقد نجحوا
في إنهائها بكف الأيدي التي تسببت فيها.
* وكان لمّ شمل أقاليم أفغانستان المبعثرة تحت سلطة واحدة ضرورة
…
وقد
قاموا بذلك فوحدوا معظمها تحت حكومة رضيتها القاعدة الشعبية.
* وكان الإجهاز على بقايا الشيوعيين وكسر صلبهم ضرورة
…
وقد نفذوا
ذلك بشكل تام بإخراج دوستم وأتباعه من مزار الشريف.
* وكان تحجيم الوجود الشيعي المدعوم والمتنامي ضرورة
…
وقد تم هذا
التحجيم بفتح معقلهم الرئيسي القوي في مدينة (باميان) .
* وكان نزع سلاح المدنيين لإنهاء فرص العودة إلى الحرب الأهلية ضرورة.. وقد تم لهم ذلك في كل الولايات التي سيطروا عليها.
* وكان القضاء على ظاهرة الفساد المتفشي والجريمة المنظمة ضرورة، وقد
خطوا في سبيل ذلك خطوات واسعة، بالشروع في تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود.
ولا شك أن هناك ضرورات وتحديات أخرى كثيرة تنتظر الحكومة الناشئة
داخلياً وخارجياً، وقد أشرت إلى جانب منها في المقال السابق.
وإذا سألنا أي مهتم بأمر المسلمين: هل هذه المصالح كانت مطالب أم لا؟
لأجاب على الفور: لا شك أنها كانت مطالب تبحث عن منفذ لها؛ لأنها
تصب في مصلحة الإسلام في هذه البلاد، سواء قامت بها طالبان أو غيرها.
وأنا لا أشك في أن ما قامت به (الطالبان) لو كان قام به رباني عندما كان
رئيساً للجمهورية، أو حكمتيار عندما كان رئيساً للوزراء، أو مسعود عندما كان
وزيراً للدفاع، لصفق لهم المسلمون في العالم..! ! ولكن طالبان جاءت بعد أن
رفع الناس أيديهم وانفضت الوليمة
…
ولعل في ذلك حكمة إلهية عليمة.
لا أظن الدعوة إلى الإنصاف ستكون غريبة في أوساط الإسلاميين؛ صحيح
أنه ليس أندر في الدنيا من الإنصاف كما قال الإمام الشافعي ولكني أظن أن هذه
الندرة محلها هؤلاء المسلمون الصادقون وحدهم.
إن الإنصاف لا يعني بداهة التعامي عن الأخطاء أو تزيين العيوب، بل يعني
اقتسام الحق نصفين: حق يُعطى، وحق يؤخذ.
فإذا أعطينا مسلماً حق الولاء والنصيحة، فعليه أن يعطينا حق الوفاء
بموجبات هذا الولاء وقبول النصيحة، وجرياً على قواعد هذا التناصف؛ نناقش
بعضاً من أبرز القضايا المتعلقة بسياسات طالبان الداخلية بعد أن استعرضنا في
مقال سابق ملابسات أوضاعها الخارجية.
أولاً: طالبان والمنهج:
لعل أول ما يعني المسلم الحريص تجاه أي طائفة إسلامية، هو النظر في
منهجها الإصلاحي، وخاصة فيما يتعلق بالاعتقاد، فإصلاح عقائد الناس هو أكبر
عمل إصلاحي يمكن أن تقوم به فئة ولاّها الله أمر العباد، والأمر المشهور: أن
الشعب الأفغاني كغيره من غالبية الشعوب الإسلامية وقعت طوائف منه فريسة
للدعوات الخرافية، وقد نشأ بسبب ذلك تنوع في الانتماء العقدي، يشتمل بلا شك
على انحرافات خطيرة في الاعتقاد، وهذا أمر متوقع خصوصاً في ظل غياب
حركات علمية إصلاحية قوية.
والآن وقد سيطرت على أفغانستان حركة تنسب نفسها للعلم ولطلب العلم،
فأول ما يتوقع منها وما يظن بها هو أن تنشر في البلاد أنوار العلم لتقضي به على
ظلمات الخرافة والجهل والانحراف، والطرح الاعتقادي لحركة طلاب العلم أو
(طالبان) والمجهود المبذول في نشره، قد لا يكون على المستوى المطلوب الآن،
ولا شك بأنّ هذا تقصير، فالدعوة إلى تصحيح التوحيد، ونبذ الشرك والخرافة،
من أولى الأولويات، وعلى رأس الواجبات. ولكن المصادر الشحيحة المتوافرة عن
انتمائهم العقدي تستبعد كثيراً من الاتهامات الفجة الموجهة إليهم كدعوى انتسابهم
للقبوريين أو غلاة الصوفية، وباطلاعي على عدد من النشرة الرسمية لطالبان
والمعنونة بـ (مجلة الطالب) وجدت فيها دعوة صريحة لنبذ القبورية، ونبذ التوسل
بغير الله عز وجل [2] .
وذلك لا يعني بالضرورة أن هذا اتجاه عام داخل الحركة، ولكنه تيار موجود
على كل حال ويحتاج إلى التشجيع.
كما وجدت سلسلة في المجلة المذكورة بعنوان (عقيدة أهل السنة والجماعة) ،
وكاتبها هو (مولوي بير محمد) المتخرج من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تكلم
صاحبها عن معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، بما لا يُشم منه أي
رائحة للخروج عن المعتقد الصحيح فيها [3] .
لا شك أن هذه الكتابات غير كافية في بيان معالم المنهج لدى طالبان، ومع
هذا أقول: إن العلم بالتعلم، والفهم بالتفهم، وليت الحركة تستفيد من الإنتاج العلمي
الغزير من الأبحاث المتعلقة بالعقيدة لعلماء موثوقين في أنحاء العالم الإسلامي،
وتستغل فرصة ثقة الشعب الأفغاني وحبه للعلماء ولطلاب العلم، لعل الله يحقق
على أيديهم هذا الأمل الكبير، وهو تربية شعب كامل على المنهاج الصحيح لأهل
السنة، وهذا ليس بالأمر المستحيل؛ فكم من أمم عبر التاريخ تغيرت مذاهبها من
باطل إلى حق، أو من حق إلى باطل.
إن أمام طالبان معركة جديدة ضد الخرافة والبدعة، تتطلب نفساً طويلاً،
وحكمة بالغة، تجيّش فيها كافة إمكاناتها العلمية والدعوية لنشر السنة ومنهج السلف
الصالح، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على تحمل هذه المسؤولية العظيمة.
ثانياً: برنامج الحركة الإصلاحي:
لن نطالب الحركة بإبراز هذا البرنامج فقد أبرزوه ولكنا نحاكمهم إليه؛ لأنه
حجة لهم أو عليهم، وقد مكنهم الله من الأخذ بناصية البلاد، فلا عذر لهم في
التقاعس بعد ذلك عن التنفيذ، وقد ذكرت حركة طالبان على لسان أحد أنصارها
وهو الدكتور (شير علي شاه) أستاذ علوم الحديث والتفسير بجامعة (منبع العلوم)
هذه الأهداف العملية فيما يلي:
1-
إعلان دستور للبلاد ينطلق من الشريعة الإسلامية وحدها.
2-
إشاعة العدل والأمن.
3-
المساواة في الحقوق في جميع الولايات.
4-
التمكين للوحدة الإسلامية ومحاربة القومية والعصبية العنصرية.
5-
التعاون مع الدول الإسلامية وتعميق الروابط الإسلامية.
6-
إقامة الحياة السياسية والاقتصادية وفق الشريعة الإسلامية.
7-
تطبيق نظام الحسبة، وتشكيل هيئة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
8-
الاهتمام بالجيش وتحديث القوات المسلحة، وتقديم الكفاءة على الولاء في
تولية المناصب.
9-
الاهتمام بمجالات الزراعة والصحة والتعليم، مع الاهتمام بترويج العلوم
الإسلامية في كافة المراحل [4] .
وهذا البرنامج يحتاج إلى صدق في التزامه، وقوة في تنفيذه، وهذان معياران
سيحددان مع الأيام مدى صدقية القائمين عليه.
ثالثاً: الاختلافات العرقية والقبلية:
طالبان حركة ينتمي معظم أفرادها إلى قبائل البشتون التي تمثل معظم الشعب
الأفغاني، ولهذه القبائل تقاليدها الخاصة المحافظة التي ميزت الأفغان على مر
العصور، وهي تقاليد اختلطت بالهوية الدينية والظروف البيئية لهذا الشعب، وهي
تميل إلى البساطة والتلقائية والغيرة واحترام الملكية الشخصية، ولكن هل يمكن أن
يكون لهذا الانتماء تأثير على طريقة طالبان في إدارة البلاد؟ يخطئ من يظن أن
هذا الانتماء لن يكون له تأثيره بالمرة، ولكن السؤال المهم هو: هل سيكون هذا
الانتماء معياراً للولاء والبراء كما كان الشأن مع كثير من الأحزاب السابقة في
تقديمها هذا الانتماء العرقي على الولاء الديني؟ هذا في الحقيقة مكمن خطورة،
ومحك اختبار؛ خاصة في بلاد مثل بلاد الأفغان التي يمكن أن تستثار فيها العصبية
بسهولة، والأيام وحدها هي التي ستجيب عن هذا التساؤل، وهي التي ستبين على
مدى صدق الطالبان في تحرير معتقد الولاء والبراء من أدران رانت عليه عبر
قرون. إن موقفهم المعلن ينفي أن تكون لهذه القبلية آثار على طريقتهم في التعامل
مع الآخرين، ولكن الأمل في العمل. وقد ذكر الدكتور محمد المستيري المبعوث
السابق للأمم المتحدة في أفغانستان أنه أثار هذا الموضوع مع بعض قياديي طالبان
فقال له ذلك القيادي: (كيف نتحدث عن البشتونية ونحن لا نعترف بالأفغانية؟ بل
ننادي ببلد إسلامي واحد، ومن ثَمّ فلا فرق بيننا وبينك أنت الرجل القادم من بلد
مسلم وبعيد عنا آلاف الأميال) [5] .
رابعاً: الموقف من المرأة:
انتماء معظم الطالبان إلى العرقية البشتونية، يبدو أنه كان له تأثيره على
قضية المرأة في أفغانستان، ونذكر هنا أن المجتمع الأفغاني البشتوني في معظمه
مجتمع أشبه بمجتمعات القرى والأرياف؛ فالأمية بين الرجال تصل إلى 90%،
والمتعلمون منهم يركزون على العلم الديني، هذا بين الرجال، فما بالنا بنسبة ذلك
التعليم بين النساء؟ إن هذا التعليم بحكم واقع الشعب لا فلسفة طالبان لا يغطي إلا
شريحة نادرة جداً من الإناث في الشعب الأفغاني؛ هذه واحدة، وتنبني عليها أخرى
وهي: أن عمل المرأة الأفغانية بسبب ذلك لا يمثل إلا شريحة أندر وأندر؛ لأن
تقاليد ذلك المجتمع أن الرجل وحده هو المسؤول عن أعمال التكسب والإعاشة،
والمرأة تتفرغ لعملها الأصلي في خدمة بقية الأسرة، ومن هنا؛ نستغرب
ونستعجب من تلك الضجة الكبرى التي أثارها ولا يزال يثيرها الإعلام الغربي
وصداه العربي عن موقف الطالبان من تعليم المرأة وعمل المرأة، وكأن ما حدث
في أفغانستان كان تسريحاً لطبقة تشمل الملايين من العاملات، وإغلاقاً لمدارس
تضم الملايين من الطالبات!
إن الأمر وباختصار هو أن المرأة الأفغانية في الأصل لا تعمل خارج البيت،
كما هو الشأن في كثير من المجتمعات المحافظة، ولكن ظروف الحرب اضطرت
كثيراً من النساء للخروج والعمل بعد فقد الرجال أو أسرهم أو انشغالهم. فخروج
المرأة للعمل كان ضرورياً لتوفير مبلغ بسيط من المال، تستطيع به أن تنفق على
أسرة غاب عائلها، ولا توجد حكومة تهتم بأمرها، فلما جاءت طالبان، أذنت
للمرأة العاملة المترملة أن تعود إلى بيتها على أن تدفع لها راتباً وهي في بيتها،
وإذا اختارت العمل على المكث في البيت، فلها ذلك على ألا تعمل إلا في عمل
يناسب المرأة كعمل الطبيبات والمعلمات والممرضات.. فهل في هذا العمل جريمة
تستحق كل تلك الضجة الإعلامية العالمية؟ ! لقد ثار (أنصار المرأة) في العالم لهذا
الإجراء، وتباكوا على بضع مئات أو حتى بضعة آلاف من النساء أقعدتهن حكومة
في حالة حرب، بين شعب في حالة فقر، ولم تتحرك سواكن هؤلاء للبطالة التي
يعاني منها ملايين الشباب والرجال في ظل حكومات تتوالى استمراراً وتدعي
استقراراً! هذا عن عمل المرأة، فماذا عن تعليمها؟
نسأل أولاً: ما هو التعليم الذي منعت منه الفتاة الأفغانية المسلمة؟
إنه التعليم الذي وضع مناهجه فلاسفة حفيظ الله، ونجيب الله، وبابراك
كارمل، إنها مناهج شيوعية صرفة، لم يتمكن رباني ولا حكمتيار ولا غيرهما من
تغييرها لانشغالهم على مدى سنوات يما يرونه أهم! !
فمن يقول: إن منع أو بالأحرى إيقاف هذا التعليم مؤقتاً جريمة لا تغتفر وعار
لا يزول؟ ! إن الجريمة الكبرى والعار المخزي هو استمرار التضحية بالأجيال في
ظل تلك المناهج الكفرية الإلحادية؛ فتلك الفتاة التي ستتعلم في ظل دولة إسلامية
فلسفة ماركس، أو تعاليم لينين، هل ستُخرج للأمة بعد ذلك إلا أجيالاً من أمثال
دوستم وبهلوان؟ !
إن الأمر فقط يحتاج من أرباب الإعلام المزوّر إلى شيء من الحياء!
طُرح سؤال على الملا محمد حسن وزير الخارجية في حكومة طالبان هذا
نصه: (لا زالت قضية تعليم وعمل المرأة، وبعض إجراءات (طالبان) الشغل
الشاغل للصحافة العالمية ولجان حقوق الإنسان، وحتى بعضُ علماء المسلمين
ومؤسساتهم لا يقرون حرمانها من التعليم والعمل ضمن ضوابط الشرع الحكيم، فما
هي رؤيتكم؟) .
فأجاب: (جاهد الشعب الأفغاني أربع عشرة سنة، كي يقيم الإسلام ويعطي
الحقوق بموجبه، ورغم أن بعض المفسدين قد ضيعوا ثمرته، وباعوا بثمن بخس
دماء الشهداء والأيتام والأرامل حباً في السلطة؛ فهؤلاء الآن ومن والاهم بتباكون
على حقوق المرأة في عهد طالبان، نحن لم ننكر ولن ننكر حقوق المرأة وخاصة
حقها في التعلم والتعليم والعمل، ولم نقل إننا لن نعطيها حقها، ونؤكد أننا سنعطيها
حقها الذي أعطاه الله لها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولن نخترع لها حقوقاً
كي نرضي الآخرين، وهؤلاء الذين يتباكون على المرأة وحقوقها يريدوننا أن نحتكم
إلى قوانين البشر في هذه المسألة، ونعمل على إفساد المرأة وتحررها بمعناه السلبي، ولكننا على قناعة أن قوانين الله عز وجل فوق قوانين البشر والمرجع إليه) [6] .
خامساً: شعيرة الحسبة وإنكار المنكرات:
هناك قضية أخرى، لم تكن أقل إثارة للقيل والقال من قضية المرأة وعملها
وتعليمها، وهي القضية المتعلقة بمسلك طالبان في إنكار المنكرات، لقد كانت بداية
الحركة أنها نشطت في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ولاية (قندهار) ، فلما دانت لها البلاد، فرّغت فرقاً لممارسة شعيرة الحسبة. والحسبة كما هو
معلوم من الشرع ومن التطبيق العملي لها في البلاد التي تقيمها، لا تكتفي بالوعظ
النظري والتوجيه الكلامي فقط، بل تصل إلى حد الإلزام. والحسبة التي تقوم بها
طالبان من هذا النوع، وهي متعددة في مناحيها، ولكن الإعلام الغربي المغرض
ركز على نواحٍ محددة فيها، صادفت استهجانه، بل أثارت غليانه؛ باعتبار أن
الموازين عندهم مختلفة، أو قل مختلة، وكذلك أثارت المتباكين على حريات
الانفلات من المفكرين والصحفيين العلمانيين العرب وغيرهم من تجار الكلام.
فإلزام الناس بصلاة الجمعة وإغلاق المحلات وقتها.. أو أمرهم بصلاة
الجماعة
…
هذا أمر غريب! وإلزام الناس رجالاً ونساءً باحترام الهدي الظاهر
للإسلام ومنع المرأة من السفور والتبرج.. هذا شأن عجيب ومريب! وأما إنكار
القمار والميسر ومنع الوسائل التي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. فهذا عند هؤلاء
أمر لا يحتمل ولا يتصور!
وقد خلط الإعلام الغربي والعربي الخيال بالحقيقة، والشك باليقين، والكذب
بالصدق في كل هذا عبر سنوات أربع لكي يصنع من الحكم الإسلامي أضحوكة
وأمثولة يسخر منها كل رويبضة من التوافه الذين يتحدثون في أمر العامة.. ووجد
المغرضون ضالتهم في التصريح بمهاجمة شعائر الإسلام بدعوى نقد طالبان.
ومع هذا نقول: لا دفاعَ عن الانحراف في تطبيق الإسلام؛ فالانحراف في
التطبيق أمر وارد، وقد يحدث من طالبان أو غيرها، فقد تستبد الحماسة بأهلها في
بعض الأحوال، فيختل ميزان الأولويات.. هذا جائز الوقوع، ونموذج طالبان في
ذلك ليس معصوماً، فنقده أو حتى نقضه أمر وارد ومقبول ممن ينقد بعلم وعدل،
أما ما لا يقبل ولا يعقل فهو أن يتولى هذا النقد أرباب الفساد والإفساد المنهجي
المبرمج من أدعياء الفكر (الحر) المتسنمين قمم الأهرامات الإعلامية في كل مكان؛
فهؤلاء لن يرضيهم أي برنامج للإصلاح ما دام مستمداً من الإسلام، وسواء كان من
طالبان أو غيرها.
إن هناك ألسنة تطاولت بالهمز واللمز في سُنّة إعفاء اللحية وتحريم حلقها،
بجرأة وفجور، لكنا لم نجد لها تلك الجراءة في نقد الأنظمة العسكرية التي يعتبر
فيها (تلميع) اللحية يومياً هو أول الواجبات وأهم الطقوس العسكرية الوطنية، حتى
إن القائد ليمر بـ (كارت) معه على ذقون الجنود في طابور الصباح، ليعاقب من
طالت شعيراته فزادت على جزء من الجزء من السنتيمتر! ! فأين الحرية
الشخصية يا دعاة الليبرالية؟ !
سادساً: إقامة الحدود:
لما اتجه الرئيس السوداني الأسبق (جعفر النميري) إلى اجتزاء قدر من إقامة
الدين بإقامة الحدود، قامت ضده حملة إعلامية واسعة، ولم تخفّ تلك الحملة إلا
بعد أن نكص النميري عن ذلك وعاد إلى ما كان عليه، واليوم تعاد تلك الضجة،
كلما سمع الغرب حديثاً عن إقامة الحدود الإسلامية في أي بلد من بلاد الإسلام،
وأفغانستان اليوم، لن تكون استثناء من هذا؛ فإقامة الحدود فضلاً عن إقامة الدين
كله أمر سيغضب أعداء هذا الدين في كل مكان.
ولكن حتى لا تكون إقامة الحدود (ديكوراً) يزين واجهة الدولة الجديدة فقط،
وحتى لا يقع النكوص بسبب الضعوط الدولية، فعلى طالبان أن تعمل على إقامة
الدين كله وجمع الأمة عليه، وألا تخشى في ذلك لومة لائم، وسوف يكون هذا إن
وقع أوضح برهان على صدق النوايا. [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ] [الشورى: 13] وأول ما يُطلب إقامته من الدين في حياة
الناس إقامة الصلاة، فهذا شرط بقاء شرعية الولاية؛ وإن في الناس فطرة تستجيب
لهذه الدعوة لو صدقت في إقامتها النوايا، وبذلت من أجلها الجهود، كما قال سبحانه: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ] [الروم: 30، 31] .
سابعاً: قضية المخدرات:
من إقامة الدين، أن يُعرض على الناس في صورة نقية بهية، تدعو الناس
إلى قبوله واعتناقه. والسلوك العملي للأفراد والجماعات وكذلك الدول، هو أحد
الأسباب الأساسية في نجاح الدعوة إلى الله، أو انتكاس تلك الدعوة إلى صد عن
سبيل الله.. ونحن أمة دعوة، وإنما جعل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لخدمة الدعوة.. لهذا فإن صورة الداعين للإسلام سواء كانوا أفراداً أو
جماعات أو دولاً، لا بد أن تعلو عن مستوى الشبهات، فضلاً عن الاتهامات
والإدانات.
وقضية المخدرات في أفغانستان تأتي في صميم هذا الموضوع، صحيح أن
زراعة المخدرات والاتجار فيها موجودة في أفغانستان منذ أزمنة بعيدة، حتى شبت
وشابت عليها أجيال وأجيال، إلا أن هذا لا يعني أن القضاء على هذه الظاهرة أمر
مستحيل، فتطهير أفغانستان من حقول الأفيون ليس أكثر صعوبة من عملية نزع
السلاح فيما أظن. والكلام المعلن لمسؤولي طالبان عن مقاومة المخدرات ليس كافياً، واعتذارهم عن استمرار وجود هذه الظاهرة ليس مقنعاً، وفي رأيي: أن هذه
القضية، يمكن أن تصيب الطالبان في المقاتل، وأن تسقطهم من الأعين، وأن
تجلب عليهم سخط الله وسخط الناس، إن تهاونوا فيها أو ساوموا بها، فكيف يمكن
أن يقال عن (الإمارة الإسلامية) إنها أولى دول العالم انتاجاً للأفيون؟ ! هذا عار
نربأ بهم وبالمسلمين عنه، ونناشدهم الله والدين أن يمسحوا عن جبين أفغانستان
المجاهدة، بل عن المسلمين جميعاً هذا العار، والأمر لا يحتاج إلى تلكؤ وتعلل؛
فالفقر مع النزاهة غنى، والغنى بالحرام ضياع.
ولكن الله تعالى لن يضيّع من آمن به، واتقى محارمه كما قال: [وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]
[الأعراف: 96] هم يقولون: نحن نحرّم في فتاوينا الشرعية الرسمية زراعة المخدرات وتعاطيها والاتجار فيها، ولكن ظروف الفقر واتساع البلاد تعيقنا عن إتمام القضاء عليها.
نقول: هذا كلام يضيق عن الطموحات العريضة التي ترفعها طالبان،
وتضيق به قلوب المتطلعين إلى عزة الإسلام. فلتُقِمْ حركة طالبان حركة جهاد
أخرى ضد هذا اللون من الفساد الذي لا يقل إضراراً بالبلاد عن الحروب الأهلية
والاختلافات العرقية والمذهبية، بل إن ضرره يتعدى إلى المسلمين في العالم الذين
يعانون من هجمة عالمية جائرة، تريد أن تلصق بهم كل مذمة وتنسبهم إلى كل
نقيصة؛ ولا يصلح هنا أن يقال: لا نهتم بكلام الناس ما دمنا ننوي العمل، هذا لا
يصلح؛ لأن نظرة الناس معتبرة في الشرع، وقد كف النبي -صلى الله عليه
وسلم- عن قتل من يستحق القتل حتى لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه،
فامتنع عن أمر جائز، لمنع كلام الناس، فما بالنا إذا كان الأمر مقطوعاً بتحريمه؟
نحن في انتظار معركة سقوط مراتع المخدرات على أيدي الطالبان، كما
سقطت قبل ذلك على أيديهم مواقع المليشيات المتهمة بالإفساد.
ولئن كسب الشعب الأفغاني رضى الله، وعاد إلى الحياة في ظل شرع الله،
وعادت إليه ولاءات المسلمين، فهذا خير له من حيازة البلايين بما لا يجوز في
الدين.
وليستبشر بالنصر والغلبة بكسب ولاية الله وولاية أوليائه [وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] [المائدة: 56] .
(1) مجموع الفتاوى (28/209) ، وانظر (28/229) ، (11/13 - 18) ، (4/17 - 20) .
(2)
مجلة الطالب، العدد 10، 11 ص.
(3)
المصدر نفسه ص 12.
(4)
جريدة المسلمون (29 / 5 / 1417هـ) .
(5)
جريدة الاتحاد، (24 / 5 / 1417هـ) .
(6)
مجلة الإصلاح، (1 / 5 / 1997م) .